كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك ، وأنكر ذلك أصحابه .
وروي عن عبدالله بن الحسن؛ أنه لقي سالم بن عبدالله ، فقال له : يا أبا عمر؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبدالله؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ ، قال : كذب العبدُ وأخْطَأَ ، إنما قال عبدالله : يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ : ما روى خُزيمة بن ثابتٍ؛ أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « حَلاَلٌ » فلما ولَّى الرَّجل دعاه ، فقال : « كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين ، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا؟ فَنَعَمْ ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا ، فَلاَ ، فإنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ » .
وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة : عروة المزادة . شبِّه بالثّقب بها ، والخرزة هي : الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا » وقال - تعالى - في آيةِ المحيض : { قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } [ البقرة : 222 ] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلاَّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم ، وهذه العلَّة هنا أظهر؛ فوجب القول بتحريمه .
وروي عن أبي هريرة ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ قال : « مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ » .
وروى أبو داود الطَّيالسي ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا » .
وعن طاوس؛ قال : إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها . واحتج من جوَّزَهُ بوجوه :
الأول : التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن ، فلمَّا قال بعده : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } كان المراد : فأتوا نساءكم أنى شئتم ، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه .
وثانيهما : كلمة « أَنَّى » معناها : أين؛ قال - تعالى - { أنى لَكِ هذا } [ أل عمران : 37 ] ، معناه : من أين لك هذا ، فصار تقدير الآية : فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم ، وكلمة « أَيْنَ » تدلُّ على تعدُّد الأمكنة؛ تقول : اجلِس أيْن شِئْتَ ، فيكون تخييراً بين الأمكنة .
وإذا ثبت هذا ، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها ، أو من دبرها في قُبُلِها؛ لأنه على هذا التَّقدير ، يكون المكان واحداً ، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان ، فاللاَّئق به أن نقول : اذهبوا إليه كيف شئتم ، فلمَّا لم يذكر كيف ، بل ذكر لفظة « أَنَّى » وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا ، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا .
الحجة الثانية : تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى - : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] ، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع ، فيبقى فيما عداه على العموم .
الحجة الثالثة : لو قال للمرأة : دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ ، ونوى الطَّلاق ، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له .
والجواب عن الأوَّل : أن « الحَرْثَ » اسمٌ لموضع الحراثة ، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم ، فلما أطلق لفظ « الحَرْثِ » على ذات المرأَة ، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه ، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله : « فَأْتُوا حَرْثَكُمْ » فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث ، وقد قدَّمنا أن « الحَرْثَ » إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد ، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى .
وعن الثَّاني : أنه لما ثبت أن المراد ب « الحَرْثِ » ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل « أَنَّى شِئْتُمْ » على التَّخْيير في الأمكنة .
وأما قوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] فإنه عامٌّ ، ودلائلنا خاصَّةٌ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام .
وقولهم : دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق ، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة ، وهو جزؤها ، فصار ذلك كقوله : يدك طالقٌ .
هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة : فقد بينَّا أنَّ قوله : « قُلْ هُوَ أَذًى » يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له ، فلو جوَّزنا ذلك ، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم ، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ ، والأصل أنَّه لا يجوز ، وأيضاً فالرِّوايات المشهورة في كون سبب النُّزول ، هو اختلافهم في أنَّهُ : هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية ، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب .
ويمكن الجواب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب ، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً ، وهو كثير .
قوله : { وَقَدِّمُواْ } مفعوله محذوفٌ ، أي : نيَّةَ الولدِ ، أو نيةَ الإعفاف ، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ } [ البقرة : 110 ] .
وقال عطاء عن ابن عبَّاس : هي التَّسمية عند الجماع .
قال ابن الخطيب : وهذا في غاية البُعدِ : والَّذِي عندي فيه : أن قوله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل : هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم ، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن ، ثم قال بعده : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع ، والمنْع من غير ذلك المَوضع ، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين ، والمنع من الموضع الآخِر ، لا جرم قال : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي : لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله : { واتقوا الله } ، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله : { واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } ، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية ، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى ، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ ، ما ذهب إليه الجمهور .
قوله : « لأَنْفُسِكُمْ » مُتعلِّقٌ ب « قَدِّمُوا » ، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ ، والهاءُ في « مُلاَقُوهُ » يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى ، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ ، أي : ملاقو جزائِهِ ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ « قَدِّمُوا » المحذوف . وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى ، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] .
والضميرُ في « وَبَشِّرِ » للرَّسُول عليه الصلاة والسلام لتقدُّم ذِكرِه في قوله : « يَسْأَلُونَكَ » قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما : تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما ، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة .
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
اللامُ في قوله { لأَيْمَانِكُمْ } تحتملُ وجهين :
أحدهما : أن تكونَ مقويةً لتعديةِ « عُرْضَةً » ، تقديره : ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ .
والثاني : أن تكونَ للتعيلِ ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ ، أي : لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ .
قوله : { أَن تَبَرُّواْ } فيه ستةُ أوجهٍ :
أحدها : - وهو قول الزجاج ، والتُبريزي ، وغيرهما - : أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديرُه : أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم ، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها ، والظاهرُ تعلُّقُها به .
الثاني : أنَّها في محلِّ نصب على أنها مفعولٌ من أجله ، وهذا قولُ الجمهورِ ، ثم اختلفوا في تقديرِه : فقيل : إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ : كراهةَ أن تَبَرُّوا ، قاله المهدويُّ ، وقيل : لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا ، قاله المبرِّدُ ، وقيل : لئَلاَّ تَبَرُّوا ، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا : [ الطويل ]
1083- . . . فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً .. .
أي : لا تَهْبِطُ ، فحذف « لاَ » ومثلُه : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، أي : لئلا تضِلُّوا ، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه ، « إِنْ حَلَفْتَ بالله ، بَرَرْتَ » لم يصحَّ ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول : إِنْ حَلَفْتَ ، لم تَبَرَّ ، وإنْ لم تَحْلِفْ ، بَرَرْتَ .
الثالث : أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ ، أي : في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ : يَجِيء فيها القولان : قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ ، وقولُ الخليل والكسائيَ ، فتكونُ في محلِّ جرٍّ ، وقال الزمخشري : ويتعلَّقُ « أَنْ تَبَرُّوا » بالفعل أو بالعُرْضَةِ ، أي : « ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا » . قال أبو حيان : وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ ، وذلك أنَّ « لأَيْمَانِكُمْ » عنده متعلقٌ ب « تَجْعَلُوا » ، فوقع فاصلاً بين « عُرْضَةً » التي هي العاملُ وبين « أَنْ تَبَرُّوا » الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما ، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ : « امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً » ، وهو غيرُ جائزٍ ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ : « جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ » أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ .
الرابع : أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ ل « أَيْمَانِكُمْ » ، أي : للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث . قال أبو حيان : « وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه » ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها ، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ ، وهذا بخلافِ الحديثِ ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -
« إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا » فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة .
الخامسُ : أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من « لأَيْمَانِكُمْ » ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام .
السادس - وهو الظاهرُ - : أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر ، لا على ذلك الوجه المتقدِّم ، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ ، والتقديرُ : « لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا » ف « عَلَى » متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ ، والمعنى : وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!!
والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أنها « فُعْلَة » بمعنى « مَفْعُول » ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة ، ومعنى الآية على هذا : لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم : فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا ، أي : مُعَرَّضٌ ، قال كعبٌ : [ البسيط ]
1084- مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ
وقال حبيبٌ : [ الطويل ]
1085- مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ ... وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي
وقال حسَّانُ : [ الوافر ]
1086- . . ... هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
وقال أوسٌ : [ الطويل ]
1087- وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ
فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا .
والثاني : أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ ، فيكونُ من : عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ ، فيعترضُ دونَه ، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً ، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ ، ويقُولُون : لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا .
والثالث : أنَّها من العُرْضَة ، وهي القوة ، يقال : « جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ » ، أي : قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير : [ الطويل ]
1088- فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ ... لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا
أي قوةٌ وعُدَّةٌ . ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له ، حتى قالوا للمرأَةِ : هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا : لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ .
والأَيْمَانُ : جمعُ يَمِينٍ : وأصلُها العُضْوُ ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم ، واشتقاقُها من اليُمْن ، واليمينُ أيضاً : اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو ، فينتصبُ على الظرف ، وكذلك اليسارُ ، تقول : زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ ، وبَكرٌ يَسَارهُ ، وتُجْمَعُ اليمينُ على « أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ » وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه ، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان ، الأولُ أَوْلَى .
وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه .
فصل
ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة ، وأجودها وجهان :
أحدهما : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أنَّ قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني ، فقد جعلهُ عُرْضَة له ، فيقُول الرَّجُل : قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر : [ الطويل ]
1089- ... وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ
وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] ، وقال تعالى : { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف؛ كما قال كثير : [ الطويل ]
1090- قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك ، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين ، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله - تعالى - ، كان أكمل في العُبُوديَّة ، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه ، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة .
فإن قيل : كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى ، والإصْلاَح بين النَّاسِ؟
فالجواب : أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا ، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ .
فصل في سبب النزول
نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء ، فحلف عبدالله ألاّ يَدْخُلَ عليه ، ولا يُكَلِّمَهُ ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ ، وإذا قيل لهُ فيه ، قال : قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل ، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية .
وقال ابن جريج : نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق ، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك ، ومعنى الآية : لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى ، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ ، فيقول : حلفتُ بالله ألاّ أفعله ، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع ، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم ، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه ، وهو الحَلْفُ .
قوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } .
واللَّغْوُ : مصدرُ لَغَا يَلْغُو ، يقال : لَغَا يَلْغُو لَغْواً ، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً ، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام ، أو بما لا خير فيه ، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام -
« إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ » .
ومن الثاني قوله تعالى : { والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] .
قال الفرَّاء : اللَّغا مصدر للغَيت .
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ « اللَّغو » في القرآن على ثلاثة أوجه :
الأول : بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الشَّتيمة؛ قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] ، أي : لم يجيبوهم؛ ومثله : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] .
الثالث : بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر؛ قال تعالى : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } [ الطور : 23 ] ، أي : لا يحلف بعضهم على بعض .
فصل
والباء في « بِاللَّغْوِ » متعلِّق ب « يؤاخذكم » والباء معناها السَّببيّة ، كقوله : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } [ النحل : 61 ] .
واختلف في اللَّغْوِ : فقيل : ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ ، قاله الفرَّاء ، ومنه قول الفرزدق : [ الطويل ]
1091- وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ
ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ ، فنهض الفرزدق ، وقال : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ ، وأَنْشَد البيت : [ الطويل ]
وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ . . ..
وقوله : [ الطويل ]
1092- وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ
فقال الحسن : « ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك » ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ « لَغْوٌ » .
قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان : 72 ] ، { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ مريم : 62 ] ؛ وقال العجاج : [ الرجز ]
1093- وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ
وقيل : ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه ، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة « لَغْوٌ » ؛ قال جريرٌ : [ الوافر ]
1094- وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا
وقيل : « اللَّغو » السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره ، فأَمَّا وروده في الكلام؛ فكقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } [ الواقعة : 25 ] ، وقوله : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ فصلت : 26 ، { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } [ الغاشية : 11 ] وقال عليه الصّلاة والسّلام : « إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ : أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ »
وأما قوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ } [ الفرقان : 72 ] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً ، وأن يكون المُرادُ : وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً ، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام ، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل .
وقيل : هو ما لا يُفهم ، من قولهم : « لَغَا الطَّائِرُ » ، أي : صوَّتَ ، واللَّغو ، ما لَهجَ به الإنسانُ ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا .
وقال الراغب : ولَغِيَ بكذا : أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ « لُغَة » ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا ، أي : أُولِعَ به ، قوال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ - : « ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ » ، وقد غَلَّطوه في ذلك .
قوله : { في أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق بالفعلِ قبله .
الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك : « لَغَا فِي يمينه » .
الثالث : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ ، ووصفْتَ به اللغو ، لصحَّ المعنى ، أي : اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ . وسُمِّي الحَلفُ يَميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر .
وقيل : لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء .
فصل في تفسير اللغو
ذكر المفسِّرون في « اللَّغو » وجوهاً :
أحدها : قال الشَّافعيُّ وغيره : هو قول الرَّجل في عرض حديثه : « لاَ واللهِ » و « بَلَى واللهِ » من غير قصدٍ إليهما ، وهو قول عائشة ، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة ، لِمَا رَوَت عائشة؛ قالت : سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية : قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه : ( لاَ واللهِ ) و ( بَلَى واللهِ ) أخرجه البُخاري ، ويروى عن عائشة : أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة ، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ .
وقال آخرون : هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك ، وهو قول ابن عبَّاس والحسن ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، والزُّهري ، والسُّدِّيّ ، وإبراهيم النَّخعي ، وقتادة : ومكحول ، وبه قال أبو حنيفة .
وفائدة الخلاف : أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل : « لاَ واللهِ » و « بَلَى واللهِ » ، ويوجبها ، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان ، ثم بان أَنَّه لم يكن ، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك .
وقال سعيد بن جبير : هو اليمين في المعصية ، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها ، بل يحنث ويُكَفِّر .
وقال مسروق : ليس عليه كفَّارة ، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان؟ وقال الشَّعبيُّ : الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها ، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها ، فليس فيها كفَّارة ، ولو أَمرته بالكفَّارة ، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله .
هذا هو اللَّغو؛ لأن اللَّغو هو المعصية؛ قال تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } [ القصص : 55 ] .
وقال عليٌّ : هو اليمين في الغضب ، وبه قال طاوس .
وقال الضَّحَّاك : اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة ، سُمِّيت لغواً ، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم؛ كأنه قيل : لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم ، إِذْ كَفَّرْتُم .
وقال زيد بن أسلم : هو دُعاء الرَّجُل على نفسه؛ كقوله : « أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا ، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً » أو يقول : هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا ، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به ، ولو آخَذَ اللهُ به ، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة؛ قال تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } [ الإسراء : 11 ] ، { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } [ يونس : 11 ] .
وقال القاضي : هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ؛ لقوله تعالى بعد ذلك : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : يؤاخذكم إذا تعمَّدتم ، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو ، حُجَّة الشَّافعي - رضي الله عنه - ما روت عائشة - رضي الله عنها -؛ أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
« لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ : كَلاَّ واللهِ ، بَلَى واللهِ ، لاَ وَاللهِ » .
وروي أنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم ينتضلون ، ومعه رجلٌ من أصحابه ، فرمى رجلٌ من القوم ، فقال : أصبت واللهِ ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عليه الصلاة والسلام : حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ ، فقال النَّبيُّ - عليه الصلاة والسلام - : « كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَلاَ عُقُوبَةَ » .
وأيضاً فقوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ ، ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك ، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له ، ويكُون معناه : ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه : لا والله ، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة .
وأيضاً : فَإِنَّه قال قبل هذه الآية : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } وتقدَّم أنَّ معناه : النَّهي عن كثرة الحلفِ ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله ، وبلى والله ، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين ، فلمَّا ذكرهم اللهُ - عقيب قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة ، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين .
واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه :
الأول : قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ » ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً ، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل .
الثاني : أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق ، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ ، وبَلَى والله ، إذا حصل الحَنثُ .
ويؤيِّد ما قلناه : أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة؛ قال الشَّاعر : [ الوافر ]
1095- إِذَا مَا رَيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أي : بالقوَّة ، والمقصود من اليمين : تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين ، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية ، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية ألبتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل ، فإنه قابلٌ للتَّقوية .
قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم } وقعت هنا « َلَكِنْ » بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو : إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ : بل جرتْ على اللسانِ ، وهي اللَّغْوُ ، وإمَّا أن يقصِدَها ، وهي المنعقدةُ .
قوله تعالى : { بِمَا كَسَبَتْ } متعلِّقٌ بالفعلِ قبله ، والباءُ للسببية كما تقدَّم ، و « مَا » يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه :
أظهرها : أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر ، وهو اللَّغو ، أي : لا يؤاخذكم باللغوِ ، ولكن بالكسب .
والثاني : أنها بمعنى « الذي » ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، أي : كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى « الَّذِي » أكثرُ منها مصدريةً .
والثالثُ : أن تكونَ نكرةً موصوفةً ، والعائدُ أيضاً محذوفٌ ، وهو ضعيفٌ ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ ، تقديره : ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه .
فصل
قوله : { يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي : عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين ، وكَسبُ القَلْب : العقدُ والنِّيَّة .
وقال زيد بن أسلم في قوله : « وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ » هو في الرَّجل يقول : هو مشركٌ إن فعل أي : هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه .
واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ ، أو صفةٍ من صفاته ، فاليمين باللهِ أَنْ يقول : والَّذي أعبده ، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده ، ونحو ذلك .
واليمين بأسمائه؛ كقوله : واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه .
واليمين بصفاته؛ كقوله : وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ ، ونحوها .
فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث ، وجبت عليه الكفَّارة ، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان ، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين ، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر ، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ ، عالماً كان أو جاهلاً .
وقال أصحاب الرَّأي : إِنْ كان عالِماً ، فهو كبيرةٌ ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر ، وإِنْ كان جاهلاً ، فهو يمين اللَّغو عندهم .
واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال : « لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب ، وقال في آيةِ المائدة : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ ، فلما ذكر ههنا قوله : { بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب ، وأيضاً ذكر المُؤاخذة ، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ } [ المائدة : 89 ] ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة ، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر ، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به ، فالكفَّارة واجبةٌ فيها ، ويمين الغموس كذلك ، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها .
فصل في كراهية الحلف بغير الله
ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال : والكعبة ، وبيت اللهِ ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك ، فلا يكون يميناً ، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث ، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ : وأخشى أن تكون معصية .
روى مالكٌ عن نافعٍ ، عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطَّاب ، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه؛ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم ، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ » .
قوله تعالى : { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } قد تقدَّم أن « الغَفُور » مبالغةٌ في ستر الذُّنوب ، وفي إسقاط عقوبتها .
وأمَّا « الحليم » فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة ، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة ، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي : على أشدِّها قوَّةً في السَّير ، ومنه الحِلْم ، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون ، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة ، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح ، فسد وتثقَّب؛ وقال [ الوافر ]
1096- فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ
وأمَّا « حَلَمَ » ، أي : رأى في نومِه ، فبالفتح ، ومصدرُ الأولِ « الحِلْم » بالكسر؛ قال الجعديُّ : [ الطويل ]
1097- وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا
ومصدرُ الثاني « الحَلِّمُ » بفتح اللام ومصدرُ الثالث : « الحُلُم » و « الحُلْم » بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها .
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ } : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد ، و « مِن نِّسَآئِهِمْ » في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ :
أحدها : أنْ يتعَلَّقَ ب « يُؤْلُونَ » .
قال الزمخشريُّ : « فإنْ قلتَ : كيف عُدِّي ب » مِنْ « وهو مُعَدى ب » عَلَى « ؟ قلتُ : قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد ، فكأنه قيل : يُبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ ، أو مُقْسِمِين » .
الثاني : أنَّ « آلَى » يتَعَدَّى ب « عَلَى » و ب « مِنْ » ؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال : آلَى من امرأته ، وعلى امرأته .
الثالث : أنَّ « مِنْ » قائمةٌ مقامَ « عَلَى » على رأي الكوفيِّين .
والرابع : أنها قائمةٌ مقامَ « فِي » ، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ ، أي : على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم ، أو في ترك وطء نسائهم .
والخامس : أنَّ « مِنْ » زائدةٌ ، والتقدير : يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم .
والسادس : أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف ، والتقديرُ : والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به « لَهُم » المحذوفُ ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال : ويجوزُ أن يُرَادَ : لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك : « لِي مِنْكَ كَذَا » فقوله « لَهُمْ » لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً ، وهو لفظُ « لَهُمْ » ، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق « مِنْ » بالاستقرار الذي تعلَّق به « لِلَّذِينَ » ، غايةُ ما فيه : أنه أتى بضمير « الَّذِينَ » تبييناً للمعنى ، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال : وقيل : الأصلُ « عَلَى » ، ولا يَجُوزُ أن تقومَ « مِنْ » مقامَ « عَلَى » فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ « مِنْ » بمعنى الاستقرار ، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله « لِلَّذِينَ » ، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة « لَهُمْ » مقدرةٌ ، وهي مُرادةٌ ، فحينئذٍ : إنما تكونُ بدلاً من « لِلَّذِينَ » بإِعادةِ العاملِ ، وإلاَّ يبقى قوله « لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ » مُفْلَتاً ، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ ، وأمَّا تقديرُ الشيخ : « والذين يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ » ، فليس كذلك؛ لأنَّ « الَّذِينَ » لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام ، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه ، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام ، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه ، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام ، ثم قال أبو حيَّان : وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه القرآن عنه ، وإنما يتعلَّق ب « يُؤْلُونَ » على أحد وجهين : إمَّا أنْ تكونَ « مِنْ » للسَّبَبِ ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم ، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع ، فيتعدَّى ب « مِنْ » فكأنه قيل « لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلاَءِ » فهذان وَجْهان مع السنة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانةٌ ، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةٌ .
والإِيلاءُ : الحَلفُ . مصدرُ آلَى يُؤْلي ، نحو : أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً ، والأصل : « إئْلاءٌ » فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو : « إِيمَان » .
ويقال : تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ ، والأصلُ : ائْتَلَى ، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم .
والحَلْفَةُ : يقال لها : الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على « أَلايَا » ؛ كعَشيَّة وعَشَايَا ، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على « أَلاَيَا » ؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة : [ الطويل ]
1098- قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ ... إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ
وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلاَيَا عند قوله : { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ } [ البقرة : 58 ] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع : هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله : لا أُجامعك ، أولا أُباضعك ، أو لا أُقاربك .
ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره : للَّذين يؤلون من نسائهم ألاَّ يطئوهم ، إلاَّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه .
قال ابن ا لخطيب : هذا إذا حملنا لفظ « الإِيلاَءِ » على المفهوم اللُّغَوِيّ ، أَمَّا إذا حملناه على المفهوم الشَّرعي ، لم يحتج إلى هذا الإضمار .
وقرأ أُبيٌّ وابن عباس : « للَّذِينَ يُقْسِمُونَ » ، نقله القرطبي .
وقرأ عبدالله : « آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم » .
والتَّربصُ : الانتظارُ ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال : [ الطويل ]
1099- تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا
وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان :
أحدهما : أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به ، فأُضيفَ إليه ، والحالةُ هذه كقوله : « بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ » أي : مَسِيرة في يَوْم .
والثاني : أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع ، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى « فِي » وهو مذهبٌ كوفيٌّ ، والفاعلُ محذوفٌ ، تقديره : تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ .
فصل
قال قتادة : كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب : كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة ، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته ، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره ، فيحلف ألاَّ يقربها أبداً ، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك ، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل ، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة ، فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة ، فارقها .
وقال القُرطبيّ : وقد آلَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وطَلَّق ، وسببُ إيلائه : سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في « صَحِيح مُسْلِم » ، وقيل : لأن زينب ردَّت عليه هديَّتهُ ، فغضب - صلى الله عليه وسلم - فآلَى منهُنَّ ، ذكره ابن ماجه .
فصل
فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً ، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً ، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهرن وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة ، والفَيْئَة : هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه ، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل ، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق ، طَلَّق عليه الحاكم واحدة .
وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ : عمرن وعثمان ، وعليٌّ ، وأبو الدرداء ، وابن عمر .
قال سُليمان بن يسار : أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي ، وإليه ذهب سعيد بن جُبير ، وسُلَيْمان بن يسار ، ومجاهد ، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق .
وقال بعض أهل العلم : إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر ، يقع عليها طَلْقَةً بائنة ، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود ، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي .
وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري : تقع طلقة رجعيَّةً ، ولو حلف ألاَّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر ، لا يكون مُؤْلياً ، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة ، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح ، ولو حلف ألاَّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة ، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف ، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق ، وقد مضتِ المُدَّة ، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلاَق بمُضِيِّ المُدَّة .
وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً .
وقال الحسن البصريِّ وإسحاق : أي مُدَّة حَلَف عَلَيها ، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً .
فصل
قال القرطبيُّ : إذا حلف أَلاَّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه ، ولم ترفعهُ إلى الحاكم ، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة .
وقال بعض أصحابنا : يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة ، وقال بعضهم : طلقة بائِنَة .
والصَّحِيح : ما ذهب إليه مالِكٌ ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه .
فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟!
قال ابن عبَّاس : لا يكون إيلاءً إلاَّ في حالِ الغَضَبِ ، وهو المشهور عن عليٍّ - رضي الله عنه - وهو قول اللَّيث ، والشَّعبي ، والحسن ، وعطاء قالوا : لا يكون الإيلاءُ إلاَّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة .
وقال ابن سيرين : يكون في غضبٍ ، وغير غضبٍ ، وهو قول ابن مسعود ، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد .
فصل
والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها .
قال القرطبي : والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ .
فصل
ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع ، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج ، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع .
وعند مالكٍ وأبي حنيفة : ينتصف بالرِّقِّ ، إلاَّ عند أبي حنيفة : ينتصف بِرِقِّ المرأة ، وعند مالكٍ : برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلاَق .
ولنا : ظاهر قوله تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } فتناول الكُلَّ من غير تخصيصٍ ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر ، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص .
قال القرطبيُّ : وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف ، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم .
فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح
كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوَقَاع ، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع ، صَحَّ منه الإيلاءُ .
وقال مالكٌ : لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلاَّ في حال الغضب ، وقال غيره : يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب ، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال : نسائي طوالِقٌ ، وقع عليها الطَّلاَقُ .
وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ ، لأنه يُجَامع كالفحلِ ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به ، صَحَّ إِيلاؤه ، وإن لم يَبْقَ ، فيه خلافٌ .
قال أبو حنيفة : لا يَصِحُّ إيلاؤه .
وقال غيره : يَصِحُّ لعموم الآية ، ولا يصحُّ الإيلاء [ من أَجْنَبيَّة ] ، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها ، لم يكن مُؤْلِياً .
فصل
فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها ، أُمر بوطئها ، فإن امتنع إضراراً بها ، فرَّق الحاكم بينه وبينها ، من غير ضرب مُدَّة .
وقيل : يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها ، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع ، لم يكُن لها مُطَالبته .
فصل
المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله - تعالى - أو بغيره ، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً ، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ ، خَرَجَ عن الإيلاءِ ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلاَن :
أصحّهما : أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله : « والله لا أَقْرَبُكِ » ثم يَقْرَبُهَا ، وبين قَوله : « والله لا أُكَلِّمُكِ » ثم يُكَلِّمُهَا .
والقول الثاني : لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى : { فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها ، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها ، ولا يجوزُ تأخِير البيان عن وقتِ الحاجة ، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ .
وللأَوَّلِين أن يجيبوا : بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه - تعالى - بيَّنها على لسان رسوله - عليه الصَّلاة والسلام - في سَائِر المواضع ، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله : « غَفُورٌ رَّحِيمٌ » يدل على عدم العقاب ، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل ، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه ، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ .
وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال : إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ ، أَوْ أَنْت طالِقٌ ، أو ضرتك طَالِق ، أو التزم أمراً في الذِّمَّة ، فقال : إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة ، أو صدقة ، أو صَوْم ، أو حَجّ ، أو صلاة ، فقال الشَّافعي في « القدِيمِ » ، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه : لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلاَء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله - عليه الصلاة والسلام - :
« مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ » .
وقال الشَّافعيّ في « الجَدِيدِ » - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة ، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً ، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق ، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة ، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج ، إِمَّا كَفَّارة يمين ، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى .
وفائدة هذين القولين : أنا إن قلنا : يكون مُؤْلياً ، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه ، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق ، وَإِنْ قلنا : لا يكون مُؤْلياً ، لا يضيقُ عليه الأَمر .
قال القرطبي : فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة ، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال : هو يَهُوديٌّ ، أو نصرانيٌّ ، أو زانٍ إن وطِئَها ، فليس بِمُؤْلٍ ، قال : وإن حلف ألا يَطَأَها ، واستثنى فقال : إن شاء الله ، فإنَّه يكون مُؤلياً ، فإن وَطِئَهَا ، فلا كَفَّارة عليه .
وقال ابن الماجشون في « المَبْسُوطِ » : ليس بِمؤلٍ ، وهو الصَّحيحُ .
قوله : { فَإِنْ فَآءُوا } ألفُ « فَاءَ » منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم : فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً : رَجَعَ والفَيْءُ : الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال ، وقال عَلْقَمَةُ : [ الطويل ]
1100- فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي ... ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ
وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل : فقالوا : الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس ، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] ؛ وأنشد : [ الطويل ]
1101- فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقيل : فُلاَن سريعُ الفيئة ، أي : سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة ، حكاه الفَرَّاء عن العرب .
وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين : فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم ، فقوله : « فَاءُوا » معناه : رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع ، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ .
فصل في وجوب الكفَّارة
قال القُرطبيّ : جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته .
وقال الحسن : لا كَفَّارة عليه .
قال القرطبي : إِذَا كَفَّر عن يمينه ، سقط عنه الإيلاءَ .
قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } في نصب « الطَلاَقَ » وجهان :
أحدهما : أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ « عَزَمَ » يتعدَّى ب « عَلَى » ، قال : [ الوافر ]
1102- عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
والثاني : أن تُضَمَّن « عَزَمَ » معنى « نَوَى » ؛ فينتصب مفعولاً به .
والعَزْمُ : عَقْدُ القلبِ وتصميمُه : عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة ، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر ، ويستعمل بمعنى القَسَم : عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ : توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب ، والأَمر المَقْصُود . والطلاقُ : انحلالُ العقدِ ، وأصلُه الانطلاق .
وقال القرطبي : والطَّلاق : التَّخليةُ ، يقال : نعجةٌ طالِقٌ ، وناقةٌ طالِق أي : مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى ، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق : بضم الطَّاء واللام ، والجمع أَطلاقٌ ويقال : طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقٌ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
1103- أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ .. .
وحكى ثعلب : « طَلُقَتْ » بالضم ، وأنكره الأخفش . والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً ، أو اسمَ مصدرٍ ، وهو التطليقُ .
قوله : { فَإِنَّ الله } ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ ، وقال أبو حيان : ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ ، أي : فَلْيُوقِعُوهُ ، وقرأ عبداللهِ : « فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ » وقرأ أُبيُّ « فِيهَا » والضميرُ للأَشْهُرِ .
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة : وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه : « فإِنْ قلتَ : كيف موقعُ الفاءِ ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت : موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله : » فَإِنْ فَاءَوُا . وَإِنْ عَزَمُوا « تفصيلٌ لقوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ ، كما تقول : أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره ، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ » ، قال أبو حيان : « وليس بصحيحٍ؛ لأ ، َّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله ، وهو قوله : » أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر « ، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء ، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم ، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ ، والمعنى : تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم ، ثم قال : » فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا « فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا ، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها ، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول : » للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، فإنْ أقامَ ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ ، فله أن يَرْحَلَ « ، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ » .
قلوه : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال أبو حنيفة : سَمِيعٌ لإِيلائِه ، عليم بعزمِه .
قال القرطبي : دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ .
فصل
قال أبو حنيفة والثَّوري : إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد .
وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك : لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر .
وفائدة الخلاف : أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أهشرٍ أجل أربعة أشهرن وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج ، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما ، طلَّقها الحاكمُ عليه ، وعند أبي حنيفة : إذا مضت أربعةُ أشهر ، يقعُ الطَّلاق . حجة الشَّافعي وجوهٌ .
الأول : أنَّ « الفاء » في قوله { فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر .
قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد : وهذا ضعيفٌ ، لأن قوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } إشارةٌ إلى حُكمين :
أحدهما : صدور الإيلاء عنهم .
والثاني : وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء .
والفاء في قوله : « فَإِن فَآءُوا » ورد عقيب ذكرهما معاً ، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين : عقيب الإيلاءِ ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة ، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ ، وهو قوله : « أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ » ؛ لأن هناك « الفاء » صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ ، وهو النُّزول ، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء ، وذكر التَّربُّص ، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت « الفَاءُ » عليه واقعاً بين هذين الأمرين .
الحجة الثَّانية : قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق ، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج .
وعند أبي حنيفة : يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة ، لا بإيقاع الزَّوج .
فإن قيل : الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } الإيلاء المتقدِّم .
فالجواب : هذا بعيد؛ لأن قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } لا بُدَّ وأن يكون معناه : « وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق » فجعل المُؤلي عازماً ، وهذا يقتضي أن يكون الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا ، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم ، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن لعزم؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة ، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه ، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ .
الحجة الثَّالثة : قوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره : « وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم ، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم » .
فإن قيل : لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِبعٌ لِذَلِك الإيلاءِ .
فالجواب : أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء ، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء ، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء ، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله : { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تهديداً عليه .
الحجة الرَّابعة : قوله : « فَإِنْ فَاءُوا » ، « وَإِنْ عَزَمُوا » ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً ، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك .
الحجة الخامسة : أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة ، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذكل لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة ، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً ، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً ، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة ، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل ، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق ، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة ، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة ، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره .
حجة أبي حنيفة - رضي الله عنه - : قراءة عبدالله بن مسعود : « فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ » .
والجواب : أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبُتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر؛ فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر ، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء ، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق .
قوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر ، أي : لِيتَرَبَّصْنَ ، أو عَلَى بابها؟ قولان ، وقال الكوفيون : إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ ، ومَنْ جعلها على بابها ، قدَّر : وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ ، فحذف « حُكْمُ » مِن الأول ، و « أن » المصدرية من الثاني ، وهو بعيدٌ جدّاً .
و « تَرَبَّصَ » يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين :
أحدهما : أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً ، وهو الظاهرُ ، تقديرُه : يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ ، ويكونُ « ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ » على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ .
والثاني : أن يكون المفعولُ هو نفسَ « ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ » أي : ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ .
وأمَّا قوله : { بِأَنْفُسِهِنَّ } [ فيحتمل وجهين ، أحدهما ، وهو الظاهرُ : أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل ، لو قيل في نظيرِه : « الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ » لم يجُز؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك .
والثاني : أن يكونَ « بَأَنْفُسِهِنَّ » تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ ، وهو النونُ ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ : « جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ » ؛ وعلى هذا : فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها ، لا يقالُ : لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال : زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ « ؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ ، فخرج بذكل عن حكم التوابع ، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره ، ويُؤيِّد ذلك قولهم : » أَحْسِنْ بِزَيْدٍ ، وَأَجْمِلْ « ، أي : به ، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين ، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ ، أو خَرَجَ عن أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه ، وعن الأَخْفَش ذَكَر في » المَسَائِلِ « أنهم قالوا : » قَامُوا أَنْفُسُهُمْ « من غير تأكيدٍ ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ .
فإن قيل : القُرُوءُ : جمع كثرةٍ ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك ، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً ، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ ، وهو » أَقْرَاء « ، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟ .
فيه أربعةُ أوجهٍ :
أوّلها : أنه لّمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء ، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار .
والثاني : أنه من باب الاتساعِ ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر .
والثالث : أنَّ « قروءاً » جمعُ « قَرْءٍ » بفتح القافِ ، فلو جاء على « أَقْرَاء » لجاء على غير القياس؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء .
والرابع - وهو مذهب المُبَرِّد - : أنَّ التقدير « ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ » ، فحذف « مِنْ » ، وأجاز : ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلاَبٍ ، أي : مِنْ حِمِيرٍ ، ومِنْ كِلاَبٍ ، وقال أبو البقاء : وقيل : التقديرُ « ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ » وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه ، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه .
فصل
اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق ، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً .
فإن كان أجنبيةً ، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة ، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع ، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع .
وأما المَنْكُوحة : فإن لم يكن مدخولاً بها ، لم تجب عليها العِدَّة؛ لقوله تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] ، وإن كانت مدخولاً بها : فإن كانت حاملاً ، فعدَّتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ، وإن كانت حائلاً؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ ، فعِدَّتها بالأشهرِ؛ لقوله تعالى : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] .
وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها؛ فإذا كانت رقيقة ، فَعِدَّتها قَرْءان ، وإن كان حُرَّة ، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ .
فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه ، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ : إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل ، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً ، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر ، وهذه الآية ليست كذلك ، فإنه خرج من عمومها خمسة أقسامٍ ، فأطلق لفظ « المُطَلَّقَات » على قسم واحدٍ .
والجواب : أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها : إنَّها مطلَّقة ، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم ، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلاَّ عند سبق الشُّغل ، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء ، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه .
وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر ، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ .
فإن قيل : « يَتَرَبَّصْنَ » خبر والمراد منه الأمر ، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر ، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود ، إلاَّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار ، وعلى هذا التَّقدير : فلو مات الزَّوج ، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ ، وجب ألاَّ يكون ذلك كافياً في المقصود؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف ، فلما ذكره بلفظ الخبر ، زال ذلك الوهم ، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم ، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب .
الثاني : قال الزَّمخشري : التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر ، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلٌَّ بالمُسارعة إلى امتثاله ، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص ، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة ، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها .
فإن قيل : لو قال : « يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات » لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ ، فما الحكمة من ترك ذلك ، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة ، وجعل المُطلَّقات مبتدأ ، ثم قوله : « يتربّصن » إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات ، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ .
قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب « دَلاَئِل الإِعْجَازِ » : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم ، فقلت : زيدٌ فعل ، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك : « فَعَلَ زَيْدٌ » ؛ وذلك لأنَّ قولك : « زَيْدٌ فَعَل » قد يُستعمل في أمرين :
أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل؛ كقولك : أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد .
والثاني : ألاَّ يكون المقصود الحصر ، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له؛ كقولهم : « هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ » ولا يريد الحصر ، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه؛ وذلك مثل قوله تعالى : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النحل : 20 ] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم ، وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } [ المائدة : 61 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الطويل ]
1104- هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ ... شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلاَهُمَا
والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ : أنَّكَ إذا قلت : « عَبْدُ اللهِ » فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه ، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك ، فإذا ذكرت ذلك الخبر ، قبله العقل بتشوُّق ، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق ، ونفي الشُّبهة .
فإن قيل : هلا قيل : يَتَرَبَّصْن ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ؟
فالجواب : إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه؛ لأن فيه ما يستنكفن منه ، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن ، وذلك لأنذَ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال ، فأراد أن يقعن على أنفسهن ، ويغلبنها على الطُّموح ، ويحرِّضنها على التَّربُّص .
فإن قيل : لم لم يقل : ثلاث قروء؛ كما يقال : ثَلاَث حِيَضٍ؟
والجواب : أنه أتبع تذكير اللَّفظ ، ولفظ « قَرْء » مذكَّر .
والقرء في اللغة : أصله الوقت المعتاد تردده ، ومنه : قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله ، يقال : « أَقْرَأَ النَّجْمُ » ، أي : طلع أو أفل ، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّ ] ح : قرؤها وقارئها؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
1105- شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ
أي : لوقتها ، وقيل : أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ ، أو عكسه ، وقيل : هو من قولهم : قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ؛ أي : جمعته ، ومنه : قرأ القرآن . وقولهم : ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ ، أي لم تجمع فيه جنيناً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم : [ الوافر ]
1106- ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جِنِينَا
فعلى هذا : إذا أريد به الحيض ، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم ، وإن أريد به الطهر ، فلاجتماع الدَّم في البدن ، وهذا قول الأصمعي ، والفرَّاء ، والكسائيّ .
قال شهاب الدِّين : وهو غلطٌ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء ، والقرء مهموزٌ .
وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر : هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ ، فيكون من المتواطئ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك : إمَّا الاجتماع ، وإمَّا الوقت ، وإمَّا الخروج ، ونحو ذلك . وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها ، ويقال فيهما : أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ ، أي : حاضت أو طهرت ، وقال الأخفش : أَقْرَأَتْ أي : صارت ذات حيضٍ ، وقرأت بغير ألفٍ أي : حاضت ، وقيل : القرء ، الحيض ، مع الطهر ، وقيل : ما بين الحيضتين . والقائل بالاشتراك اللفظيِّ وجعلههما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة .
ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى : [ الطويل ]
@ 1170- أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةٍ @ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا@ مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً @ لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا@ ... أراد : أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه ، فيضيع أقراءهنّ ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض . ومن مجيئه للحيض قوله : [ الرجز ]
@1108- يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ @ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ@ ... أي : طعنته فسال دمه كدم الحائض ، ويقال « قُرْء » بالضمِّ نقله الأصمعيُّ ، و « قَرْء » بالفتح نقله أبو زيدٍ ، وهما بمعنى واحد . وقرأ الحسن : « ثَلاَثَةَ قَرْوٍ » بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ؛ ووجهها : أنه أضاف العدد لاسم الجنس ، والقرو لغةٌ في القرء ، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع - : « قُرُوِّ » بتشديد الواو ، وهي كقراءة الجمهور ، إلا أنه خفَّف ، فأبدل الهمزة واواً ، وأدغم فيها الواو قبلها . فصل مذهب الشَّافعيِّ - رضي الله عنه - : أنها الأظهار؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السَّبعة ، ومالك وربيعة ، وأحمد في رواية .
وقال عليٌّ ، وعمر ، وابن مسعود : هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأحمد في رواية - رضي الله عنهم - . وفائدة الخلاف : أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر ، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر ، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً ، وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة ، انقضت عدَّتها ، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة ، انقضت عدَّتها . وعند أبي حنيفة : ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة ، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض ، لا يحكم بانقضاء عدَّتها ، ثم قال : إذا طهرت لأكثر الحيض ، تنقضي عدَّتها قبل الغسل ، وإن طهرت لأقلِّ الحيض ، لم تنقض عدَّتها . وحجَّة الشَّافعي من وجوه : أولها : قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي : في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة } [ الأنبياء : 47 ] ، أي : في يوم القيامة ، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض .
أجاب صاحب « الكَشَّاف » بأن معنى الآية : مستقبلات لعدَّتهن كما يقال : لثلاث بقين من الشَّهر ، يريد : مستقبلاً لثلاث .
قال ابن الخطيب : وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رضي الله عنه - لأن قوله : « لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ » معناه : لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه ، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر ، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة ، وهو المطلوب .
وثانيها : روي عن عائشة - رضي الله عنها -؛ أنها قالت : « هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ » .
قال الشَّافعي : والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء .
وثالثها : وهو ما تقدَّم من أن « القرْءَ » عبارةٌ عن الجمع ، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن .
فإن قيل : بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم .
قلنا : لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم ، بل ينفصل قطرةً قطرةً ، وأمَّا وقت الطُّهر ، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره ، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة .
ورابعها : أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات ، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه ، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض ، وإذا كان كذلك ، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية ، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع .
حجة أبي حنيفة وجوه :
أحدها : أنَّ الأقراء في اللُّغة ، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض؛ لما روي أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك » والمراد أيَّام الحَيْضِ .
وثانيها : ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض .
وثالثها : أنا إذا قلنا : بأن الأقراء هي الحيض ، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة ، ومن قال : إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً ، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة .
أجاب الشَّافعي بأنق ال : قال الله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] والأشهر جمع ، وأقلُّه ثلاثة ، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث ، وذلك شوَّال ، وذو القعدة ، وبعض ذي الحجَّة ، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث .
أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين .
الأول : أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل ، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ .
والثاني : أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً ، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة ، ولا كذلك أشهر الحجِّ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ ، فكأنَّه قيل : هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق ، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص ، ولا كذلك قوله : « أَشْهُر » ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع ، ولا يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس .
وأجيب الجبَّائي بوجهين :
الأول : كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر ، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة .
واعتذروا عنه : بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة ، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض ، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر ، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة .
ونحن نقول : لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار ، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية : يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران ، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق ، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً ، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه .
الوجه الثاني في الجواب : أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر ، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً ، وعلى هذا التَّقدير؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء .
ورابعها : أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض؛ قال : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ } [ الطلاق : 4 ] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار .
وأيضاً : لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء ، والبدل يعتبر بتمامها؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها ، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل ، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض ، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ .
وخامسها : قوله - عليه الصَّلاة والسلام - : « طَلاَق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ » وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة ، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض .
وسادسها : أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض ، فكذا العدَّة؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم ، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم ، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر؛ فوجب أن يكون هو المعتبر .
وسابعها : إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ ، وتغليبٌ لجانب الحرمة؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطَّهر ، وطعنت في الحيضة الثَّالثة ، فإن جعلنا القرء هو الحيض ، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها ، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر ، فحينئذٍ يجوز تزويجها ، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « ما اجْتَمَعَ الحَلاَلُ والحَرَامُ إلاَّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ » ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة ، وهذا أقرب إلى الاحتياط ، فكان أولى؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لاَ يرِيبُكَ » .
قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ } الجارُّ متعلَّقٌ ب « يَحِلُّ » واللام للتبليغ ، كهي في « قُلْتث لَكَ » .
قوله : { مَا خَلَقَ الله } في « مَا » وجهان :
أظهرهما : أنَّها موصولة بمعنى « الَّذِي » .
والثاني : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، وعلى كلا التقديرين ، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط ، والتقدير : ما خلقه ، و « مَا » يجوز أن يراد بها الجنين ، وهو في حكم غير العاقل ، فلذلك أوقعت عليه « مَا » وأن يراد بها دم الحيض .
قوله : { في أَرْحَامِهِنَّ } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب « خَلَقَ » .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من عائد « مَا » المحذوف ، التقدير : ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ ، قالوا : وهي حالٌ مقدَّرةٌ؛ قال أبو البقاء : « لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ » ، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ : « في أَرْحَامِهُنَّ » و « بِرَدِّهُنَّ » بضمِّ هاء الكناية ، وقد تقدَّم أنه الأصل ، وأنه لغة الحجاز ، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة .
قوله : { إِن كُنَّ } هذا شرطٌ ، وفي جوابه المذهبان المشهوران : إمَّا محذوفٌ ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم؛ لتقوى الدلالة عليه ، أي : إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر ، فلا يحلُّ أن يكتمن ، وإمَّا أنه متقدِّمٌ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ ، وقيل : « إنْ » بمعنى « إِذْ » ، وهو ضعيفٌ .
فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها
اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء ، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال ، جعلت المرأة أمينة على العدَّة ، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة ، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة ، وهو أقلُّ الحيض ، ثم طهرت خَمْسَةنَ عَشَر يوماً ، وهو أقَلُّ الطُّهْر ، ثم حاضَت يوماً وليلةً ، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً ، ثم رَأَتِ الدَّمَ ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه ، قبل قولها ، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها؛ لأنها أمينة عليه .
فصل في المراد بالكتمان
قال القرطبي : ومعنى النَّهي عن الكتمان : النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه ، فإذا قالت المطلَّقة : حضتُ وهي لم تحِض ، ذهبت بحقِّه في الارتجاع ، وإذا قالت : لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه ، فأضرَّت به ، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألاَّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه ، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع .
قال قتادة : كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد؛ ففي ذلك نزلت الآية .
فصل
اختلف المفسِّرون في قوله : { مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } :
فقيل : هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً ، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها؛ أمّا الحبل؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل ، فإذا كتمت الحمل ، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج ، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر ، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحمل ، وأما كتمان الحيض ، فقد يكون غرضها إذا كانت من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج ، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلاَّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات ، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين .
وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة : هو الحيض فقط؛ لقوله تعالى : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام } [ آل عمران : 6 ] ، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه ، وحمل قوله - تعالى - : { مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } على الولد الذي هو شريف ، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ .
وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها ، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح ، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ ، وقيل : هو الحيض؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر « الأَقْرَاءِ » ، ولم يتقدَّم ذكر الحمل .
وأجيب : بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه ، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم ، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم .
وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } ليس المراد : أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة ، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم : « إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي » ، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] ، وقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } [ البقرة : 283 ] .
قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ } الجمهور على رفع تاء « بُعُولَتُهُنَّ » وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ ، وذلك لتوالي الحركات ، فخُفِّف ، ونظيره قراءة : { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] بسكون اللام حكاها أبو زيد ، وحكى أبو عمرو : أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من « يُعَلِّمُهُمُ » ونحوه ، وقيل : أجرى ذلك مجرى « عَضُدٍ ، وعَجُزٍ » ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل ، وقد تقدَّم ذلك .
و { أَحَقُّ } خبرٌ عن « بُعُولَتُهُنَّ » وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة ، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك ، حتى لو أبت هي الرَّجعة ، لم يعتدَّ بذلك .
وقال بعضهم : هي على بابها؛ لأنه تعالى قال : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } فكان تقدير الآية : فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر ، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها .
وأيضاً : فإنَّها إذا كانت معتدَّة ، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح ، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج ، جاز أن يقول : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ } حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة .
و « البُعُولة » فيها قولان :
أحدهما : إنه جمع « بَعْل » كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة ، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس ، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كُعُوبة ، ولا في كَلْب : كلابة .
والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا : وسُمِّي بذلك على المستعلي ، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه . ويقال : بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ . ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة : بعلة؛ كما يقال لها : زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم ، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان ، وأصل البعل : السَّيِّد المالِك فيما نقل ، يقال : من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل : اسم صنم ، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى - : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } [ الصافات : 125 ] ، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد .
الثاني : أنّ البعولة مصدر ، يقال : بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً ، إذا صَارَ بَعْلاً ، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ : إذا جَامَعَهَا؛ ومنه الحديث : أن النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال في أيَّام التَّشريق : « إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ » ، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها ، ومنه الحديث : « إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن » .
قوله : { بِرَدِّهِنَّ } متعلِّقٌ ب « أَحَقّ » . وقوله « فِي ذَلِكَ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّقٌ أيضاً ب « أَحَقّ » ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة ، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة ، وليس المعنى : أنه أحقُ أن يردَّها في العدَّة ، وإنما يردُّها في النكاح ، أو إلى النكاح .
والثاني : أن يتعلَّق بالردِّ ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح ، قاله أبو البقاء .
والضمير في « بُعُولَتِهِنَّ » عائدٌ على بعض المطلَّقات ، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً ، وقال أبو حيَّان : « والاولَى عندي : أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم ، أي : وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ » .
ومعنى الردّ هنا : الرُّجوع؛ قال - تعالى - : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي } [ الكهف : 36 ] ، وقال في موضع آخر : { وَلَئِن رُّجِّعْتُ } [ فصلت : 50 ] .
فإن قيل : ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة ، ما دامت في العِدَّة؟
فالجواب : أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة ، فإنَّها ما دامت في العدَّة ، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج ، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً ، لا سيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة ، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان :
أحدهما : ردّها من التَّربُّص إلى خلافه .
والثاني : ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ .
قوله : { إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } فالمعنى : أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة ، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة؛ ونظيره قوله - تعالى - : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 231 ] .
والسَّبب في ذلك : أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته ، فإذا قرب انقضاء عدَّتها ، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها ، فإذا قرب انقضاء عدَّتها ، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها ، فنهوا عن ذلك ، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة .
فإن قيل : الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة؟
فالجواب : أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها ، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة ، فإن راجعها لقصد المضارَّة ، استحقَّ الإثم .
فصل
نقل القرطبي عن مالك ، قال : إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها ، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد ، فهي رجعةٌ ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - :
« إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى » فإن وطئَ في العدَّة ، لا ينوي به الرَّجعة؛ فقال مالكٌ : يراحع في العدَّة ، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد .
قال سعيد بن المسيَّب ، والحسن البصري ، وابن سيرين ، والزُّهري ، وعطاء ، والثَّوري : إذا جامعها فقد راجعها .
فصل
من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة ، كان آثماً وليس بمراجعٍ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن وطئها ، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ ، فهي رجعة ، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ .
فصل
قال أحمد : ولها التَّزيُّن لزوجها ، والتَّشرُّف ، وله الخلوة والسَّفر بها .
وقال مالك : لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلاَّ بالإذن ، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها ، ولا ينظر إلى شعرها .
وقال ابن القاسم : رجع مالك عن ذلك .
قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ } خبرٌ مقدَّمٌ ، فهو متعلِّق بمحذوف ، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل ، وهذا من بديع الكلام ، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره ، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول ، وأصل التركيب : « وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ » ، فحذف « عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ » لإثباتِ نظيره ، وهو « عَلَيْهِنَّ » ، وحذفت « لأَزْوَاجِهِنَّ » لإثبات نظيره ، وهو « لَهُنَّ » .
قوله : { بالمعروف } فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بما تعلَّق به « لَهُنَّ » من الاستقرار ، أي : استقرَّ لهُنَّ بالمعروف .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل « مِثْل » ؛ لأنَّ « مِثْل » لا يتعرَّفُ بالإضافة؛ فعلى الأوَّل : هو في محلِّ نصبٍ؛ وعلى الثاني : هو في محلِّ رفعٍ .
قوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنَّ « لِلرِّجَالِ » خبرٌ مقدَّمٌ ، و « دَرَجَةٌ » مبتدأٌ مؤخرٌ ، و « عَلَيهِنَّ » فيه وجهان على هذا التقدير : مَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به « لِلرِّجَالِ » ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من « دَرَجَةٌ » مقدَّماً عليها؛ لأنه كان صفةً في الأصل ، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً .
والثاني : أن يكون « عَلَيْهِنَّ » هو الخبر ، و « للرجال » حال من « دَرَجَةٌ » ؛ لأنه يجوز أن يكون صفةٌ لها في الأصل ، ولكنَّ هذا ضعيفٌ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ؛ لأ ، َّ « عَلَيْهِنَّ » حينئذٍ هو العالم فيها؛ لوقوعه خبراً . على أنَّ بعضهم قال : متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً ، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ ، وهذا من ذاك ، هذا معنى قول أبي البقاء . وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة ، فهي نظير : « قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ » ، قال : وهذا ممنوعٌ ، لا ضَعِيفٌ؛ كما زعم بعضهم ، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة ، بل تتوسَّط؛ نحو : « زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ » ، قال : « فأبو الحسن يُجيزُهَا ، وغيره يمنعها » .
و « الرَّجُلُ » مأخوذ من الرُّجلة ، أي : القوَّة ، وهو أرجل الرَّجلين ، أي : أقواهما وفرس رَجِيلٌ : قويٌّ على المَشي ، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي ، وارتجل الكلام ، أي : قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة ، وترجَّل النَّهار : قوي ضياؤه .
و « الدَّرَجَة » هي المنزلة ، وأصلها : من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً ، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته ، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن ، أي : فنوا ، ومعناه : أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً ، والمدْرَجة : قَارِعَةُ الطَّريق؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل ، والدَّرجة : المنزلة من منازل الجنَّة ، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها ، والدَّرجُ : ما يرتقي عليها ، والدَّرك ما يهوى فيها .
فصل
لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضَّرر إليها ، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر .
روي عن ابن عبَّاس ، قال : إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي؛ لقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } .
وقال بعضهم : يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها ، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له .
وقيل : لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة ، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لصدر الآية .
وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين :
الأول : أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور : في كمال العقل ، وفي الدِّية ، وفي الميراث ، وفي القيمة ، وفي صلاحية الإمامة ، والقضاء ، والشَّهادة ، وللزَّوج أن يتزوَّج عليها ويتسرَّى ، وليس لها ذلك مع الزَّوج ، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت ، وليس لها ذلك .
الوجه الثاني : أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها من مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة؛ كما قال - تعالى - : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ الله ، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا » وإذا كان كذلك ، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ ، ولهذا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ » ، وفي خبرٍ آخر : « اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن : اليتيمِ والمَرْأَةِ » .
ثم قال : { والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ } أي : غالبٌ لا يمنع ، مصيبٌ في أحكامه .
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، و « الطلاق » يجوز أن يكون مصدر « طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقاً » ، وأن يكون اسم مصدر ، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم ، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر ، والتقدير : عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان .
والتثنية في « مَرَّتَانِ » حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد ، وقال الزمخشريُّ : « إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير » وجعلَهَا مثْلَ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ . وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً ، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر ، أمَّا المناقضة ، فإنه قال : الطَّلاق مَرَّتَان ، أي : الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً ، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة ، وأمَّا المخالفة ، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر ، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك : { فَإِمْسَاكٌ } ، أي : بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية ، { أَوْ تَسْرِيحٌ } أي : بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده « فَإِنْ طَلَّقَهَا » . انتهى ما ردَّ به عليه ، قال شهاب الدين : والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره ، فينظر كلامه في « الكَشَّاف » ؛ فإنه صحيحٌ .
والألف واللام في « الطَّلاَق » قيل : هي للعهد المدلول عليه بقوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة : 228 ] وقيل : هي للاستغراق ، وهذا على قولنا : إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها ، ولا تعلُّق لها بها .
قوله : { فَإِمْسَاكٌ } في الفاء وجهان :
أحدهما : أنها للتعقيب ، أي : بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان ، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين .
والثاني : أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ ، تقديره : فإن أوقع الطَّلقتين ، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ .
وارتفاعُ « إِمْسَاكٌ » على أحد ثلاثة أوجهٍ : إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً ، تقديره عند بعضهم : فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً ، تقديره : فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ .
والثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : فالواجب إمساكٌ .
والثالث : أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ ، أي : فليكن إمساك بمعروفٍ
قوله : « بِمَعْرُوفٍ » و « بِإِحْسَانٍ » في هذه الباء قولان :
أحدهما : أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه ، ويكون معناها الإلصاق .
والثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها ، فتكون في محلِّ رفعٍ ، أي : فإسماك كائنٌ بمعروفٍ ، أو تسريح كائنٌ بإحسان .
قالوا : ويجوز في العربيَّة نصب « فَإِمْسَاكٌ » ، و « تَسْرِيحٌ » على المصدر ، أي : فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف ، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان ، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ .
والتَّسريح : الإرسال والإطلاق ، ومنه قيل للماشية : سَرْحٌ ، وناقَةٌ سُرُحٌ ، أي : سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه .
وتسريح الشَّعر : تخليص بعضه من بعض ، والإمساك خلاف الإطلاق ، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال : إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً .
قال الفرَّاء : يقال : إنه ليس بمساك غلمانه ، وفيه مساكة من جبر ، أي : قُوَّة .
قال القرطبي : وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها : وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق ، وهو قول الشَّافعي .
فصل
روى عُروة بن الزُّبير ، قال : كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته ، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها ، راجعها ثم طلَّقها كذلك ، ثم راجعها يقصد مضارَّتها ، فنزلت هذه الآية : { الطلاق مَرَّتَانِ } .
ورُوِي : أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها ، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة ، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة - رضي الله عنها - ، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها ، يُضارّها بذلك ، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } يعني : الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان ، فإذا طَلَّق ثَلاَثاً ، فلا تحلُّ له إلاَّ بعد نكاح زوجٍ آخر .
فصل
اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية :
فقال بعضهم : هذا حُكم مُبتدأ ، ومعناه : أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب ن يكون تطليقةً بعد أُخرى ، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة ، وهذا قول من قال : الجمع بين الثَّلاث حرامٌ .
قال أبو زيد الدَّبوسيّ : هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس ، وعبدالله بن عمر ، وعمران بن حصين ، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء ، وحذيفة .
وقال آخرون : ليس بابتداء كلام ، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى : أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان ، ولا رجعة بعد الثَّلاث ، وهو وقل من جوَّز الجمع بين الثَّلاث ، وهو مذهب الشَّافعي .
حُجَّة القول الأَوَّل : أن الأَلف واللام في « الطَّلاَقِ » إذا لم يكونا للمعهود ، أفادا الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة ، ولو قال هكذا ، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق؛ لأن المرَّات لا تكُون إلاَّ بعد تفريق الاجتماع .
فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون .
فالجواب : ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة ، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق ، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلاَّ أن معناهُ الأمر ، أي : طَلِّقُوا مَرَّتَين ، يعني : دَفْعتين ، وإنما عدل عن لفظ الخبر؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر ، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه . واختلف القائِلُون بهذا على قولين :
الأول - وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت - : أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً ، لا يقع إلاَّ واحدة .
قال ابن الخطيب : وهذا القولُ هو الأَقيس ، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعيٌ في غدخال تلك المفسدة في الوجود ، وهو غير جائزٍ ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع .
والثاني : قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - : إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ .
حجَّة القول الثَّاني : هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج ، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً ، أو إلى غاية مُعيَّنة ، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن ، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص ، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة ، هو أن يُوجد طلقتانِ ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين ، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في « الطَّلاقِ » المعهُود السَّابق ، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية ، فيكُون أولى لوجوهٍ :
الأول : أن قوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } [ البقرة : 228 ] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص ، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة ، فافتقر إلى البيان ، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها ، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص ، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً - ، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر .
الثاني : أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ ، كان قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية ، وهي قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فصار تقدير الآية : الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول : إن قوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } متعلِّق بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } لا بقوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق ، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة ، لكان قوله : « فَإِنْ طَلَّقَهَا » طلقة رابعة ، وهو غير جائِزٍ .
الثالث : ما روينا في سبب النُّزول : من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة ، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى ، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها .
فصل
اعلم أن معنى الآية : أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان ، ثم الواجب بعد ذلك : إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة ، بل على قصدِ الإصلاح ، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة ، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، قيل له - عليه الصلاة والسلام - : فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام - : « هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ » .
الثاني : أن التَّسريح بالإحسان : أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة ، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ .
قال ابن الخطيب : وهو أَقْرَبُ لوجوه :
أحدها : أن « الفَاء » في قوله : « فَإِنْ طَلَّقَها » تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح ، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة ، لكان قوله : فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ .
وثانيها : أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة ، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أو لا يُراجعها ، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين ، وهو المرادُ بقوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله « فَإِنْ طَلَّقَها » ، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام ، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة ، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ ، وهو غيرُ جَائِزٍ .
وثالثها : أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق .
ورابعها : أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } والمُراد به الخُلع ، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة ، فهذه الوجوه ظاهرة ، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه ، فإن صحَّ ذلك الخبر ، فلا مزيد عليه .
فصل في الحكمة في الرَّجعة
والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة : أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه ، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر ، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع ، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين ، وعند ذلك تحصل التَّجربة ، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ ، وإن كان الأَصلح التَّسريح ، سرَّحها بإِحسان .
فصل
واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً :
فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلاَّ طَلْقَتَيْن .
قال عبدالله بن مسعود : الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ ، يعني : يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة ، وهو قول عُثمان ، وزيد بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب ، وإليه ذهب مالِكٌ ، والشَّافِعِي ، وأَحمد ، وإسحاق .
وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق ، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين ، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي .
فصل
إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع .
وقال عليّ بن أبي طالبٍ ، وابن مسعود : يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ .
وقال ابن عبَّاس : وقوله : ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله : في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى ، فيقول : طلَّقت ثلاثاً ، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل : قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ ، كان صادِقاً ، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً ، كان كاذِباً ، وكذا لو قال : أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ ، ولو قال : أَحْلِف بالله ثلاَثاً ، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله .
وقاله الزُّبير بن العوَّام ، وعبد الرَّحمن بن عوف ، قاله القرطبي . قوله : « أَنْ تَأْخُذُوا » : « أَنْ » وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل « يَحِلُّ » ، أي : ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ . و « مِمَّا » فيه وجهان « . أحدهما : أن يتعلَّقَ بنفسِ » تَأْخُذُوا « ، و » مِنْ « على هذا لابتداءِ الغاية . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من » شَيْئاً « قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً ، و » مِنْ « على هذا للتبعيض ، و » مَا « موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديره : مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] وهذا مثلُه ، فَلْيُلْتَفَتْ إليه . و » آتَى « يتعدَّى لاثنين ، أولهُما » هُنَّ « والثاني هو العائدُ المحذوفُ ، و » شَيْئاً « مفعولٌ به ناصبُه » تَأْخُذُوا « . ويجوزُ أن يكونَ مصدراً ، أي : شيئاً مِنَ الأَخْذِ . والوجهانِ منقولانِ في قوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ يس : 54 ] . قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ } هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ ، وفي » أَنْ يَخَافَا « وجهان : أحدهما : أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ ، والتقديرُ : وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب ، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله ، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب ، لا سيما مع » أَنْ « ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه : أهيَ في موضع نصبٍ ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط ، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به ، لنُصِبَ ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون ، أعنِي كونَ » أَنْ « وما بعدها في محلِّ نصبٍ ، بلا خلافٍ ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له . والثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً ، تقديره : ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ ، قال أبو البقاء : والتقديرُ : إلاَّ خائفينَ ، وفيه حَذْفُ مضافٍ ، تقديره : وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال ، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ ، والوجهُ الأولُ أحسنُ ، وذلك أَنَّ » أَنْ « وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال ، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً ، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ » أَنِ « المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ .
والألفُ في قوله « يَخَافَا » و « يُقِيمَا » عائدةٌ على صنفَي الزوجين ، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام ، لقيل : « إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا » بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله ، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة ، وهو التفاتٌ أيضاً . والقراءةُ في « يَخَافَا » بفتحِ الياءِ واضحةٌ ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول ، وقَد استشكلها جماعةٌ ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب ، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً ، أحسنُها أَنْ يكونَ « أَنْ يُقِيمَا » بدلاً من الضمير في « يَخَافَا » ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه ، تقديره : إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ ، وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك : « الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا » ، وكان الأصلُ : « إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ » ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو « الوُلاَةُ » ؛ للدلالة عليه ، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وبقيتْ « أَنْ » وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً؛ كما تقدَّم تقديرُه . وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ « خَافَ » يتعدَّى إلى مفعولين ك « اسْتَغْفَرَ » ، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه ، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ ، و « أَنْ » وما في حَيِّزها هي الثاني ، وجَعَل « أَنْ » في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ « خَافَ » لا يتعدَّى لاثنين ، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك : « خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ » ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به ، فليس هو كالثاني في « اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً » ، وبأن نسبة كَوْنِ « أَنْ » في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ ، وتبعه الفراء ، ومذهبُ الخليل : أنها في محلِّ جَرٍّ ، وتبعه الكسائيُّ ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ . وقال غيره كقوله؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ « عَلَى » ، والتقدير : إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا ، فَبُنِيَ للمفعولِ ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ « أَنْ » فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل . وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب « اسْتَغْفَرَ » . وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ ، لا عِلمَ لهم بذلك ، فقال النحَّاسُ : لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ ، ولا اللفظُ ، ولا المعنى . أمَّا الإِعرابُ : فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ « إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا » ، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه ، كان ينبغي أَنْ يُقال : « إِلاَّ أَنْ يُخَافَ » .
وأمَّا اللفظُ : فإِنْ كان على لفظِ « يُخَافَا » ، وَجَبَ أن يقال : فَإِن خِيفَ ، وإن كان على لفظ « خِفْتُمْ » ، وَجَب أن يقال : إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا . وأمَّا المعنى : فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ : « وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ » ، ولم يَقُلْ تعالى : « ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً » ، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان ، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ . وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس : أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ : فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبدالله . وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً ، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ : « فَإِنْ خَافَا » ، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ . وأمَّا من حيثُ المعنى : فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء . و وجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله « إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا » . وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال : « لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على » أَنْ « ، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ » . وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله : إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا ، أي : الأولياءُ ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا ، فالخوفُ واقعٌ على « أَنْ » وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ : إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره ، وإمَّا على حذف حرف الجرّ ، وهو « على » . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ ، فتكونُ « أَنْ » في قراءةِ « غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ : مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا ، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل : إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ .
والثاني : أنه بمعنى العِلْم ، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة . وأنشد [ الطويل ]
1109- فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ
ومنه أيضاً : [ الطويل ]
1110- وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد » أَنْ « ، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ ، لظهورِ النَّصْب ، وأما البيتُ ، فالمشهورُ في روايتِهِ » فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ « .
والثالث : الظَّنّ ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ : » إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا « ؛ وأنشد : [ الطويل ]
1111- أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي
وعلى هذين الوجهين ، فتكونُ « أَنْ » وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ « خَافَ » مِنْ أفعالِ التوقُّع ، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين ، ولذلك قال الراغب : « الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال : خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ ، أو نَسْفِ الجبالِ » .
وأصلُ « يُقيمَا » : يُقْوِمَا ، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها ، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله : { الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 5 ] .
وزعم بعضهم أنَّ قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } معترضٌ بين قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، وبين قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ } [ البقرة : 230 ] ، وفيه بَعْدٌ .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } « لاَ » واسمُها وخبرُها ، وقوله : { فِيمَا افتدت بِهِ } متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ ، وهو « عَلَيْهِمَا » ، ولا جائزٌ أن يكونَ « عَلَيْهِمَا » متعلِّقاً ب « جُنَاحَ » و « فِيمَا افتدت » الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً ، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ .
والضميرُ في « عَلَيْهِمَا » عائدٌ على الزوجَيْن ، أي : لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ ، وقال الفراء : إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط ، وإنما أعادَهُ مُثَنى ، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] ؛ وقوله : [ الطويل ]
1112- فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا
وإنما يخرجُ من المِلْحِ ، والنَّاسي « يُوشَعُ » وحدَهُ ، والمنادَى واحدٌ في قوله : « يَا بْنَ عَفَّانَ » . و « مَا » بمعنى « الذي » ، أو نكرةٌ موصوفة ، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ « بِهِ » عليها ، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما .
فصل
اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً ، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } [ النساء : 19 ] وقوله هنا : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } هو كقوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ النساء : 19 ] وقال أيضاً : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } [ النساء : 20-21 ] .
فإن قيل : قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } هذا الخِطاب كان للأَزواج ، فكيف يطابقه قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً؟
قلنا : الأمران جائزان :
فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن .
ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون ، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة : « يُخَافَا » بضم الياءِ ، أي : يعلم ذلك منهما ، يعني : يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين ، ويطابقه قوله : « فَإِنْ خِفْتُمْ » فجعل الخوف لغير الزَّوجين ، ولم يقل : « فإن خافا » . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق ، استثنى هذه الصُّورة ، وهي مسألة الخُلع ، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟
وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ .
وقال الزُّهري والنَّخعي وداود : لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله ، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ ، الخُلْعُ فاسِدٌ ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها ، واستثني هذه الصُّورة .
وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت ، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى ، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] ، أي : لكن إن كان خطأً { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } [ النساء : 92 ] .
فصل
ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة ، فنقول : الأقسام الممكنة فيه أربعة :
إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط ، أو من قبل الزوج فقط ، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما ، أو يكون الخوف من قبلهما معاً ، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية : أن جميلة بنت عبدالله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس ، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض ، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ ، فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقالت : فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه ، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً ، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام . فقال ثابت : يا رسُول الله ، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها : « مَا تَقُولِين؟ » قالت : نعم وأزيده فقال عليه الصلاة والسلام : « لا ، حديقته فقط » ثم قال لثابتٍ : « خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا » ففعل ، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام . وفي « سُنَنِ أَبِي دَاوُد » : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري .
فإن قيل : قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً ، فكيف قُلْتُم : إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط .
فالجواب : أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج ، فإنها إذا كانت مبغض للزَّوج إذا لم تعطه ، فربَّما ضربها وشتمها ، وربَّمَا زاد على قدر الواجب ، فحصل الخَوْف لهما جميعاً؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ ، وأمَّا من جهته ، فقد يزيد على قدرِ الواجب .
فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية ، فهذا المال حرامٌ؛ للآية المتقدِّمة .
وأما القِسْم الثالث : ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما ، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع ، والمالُ المأخوذ حلالٌ ، وقال قوم إنه حرامٌ .
وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما ، فالمال حرامٌ أيضاً؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج ، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى؛ وهي قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } [ النساء : 35 ] ، ولم يذكر فيه أخذ المال ، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر ، فهو جائزٌ .
فصل في قدر ما يجوز الخلع به
اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به :
فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس : لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - لامرأة ثاتبٍ حين قالت له : نعم ، وأزيده ، قال : « لا ، حديقَتَهُ فَقَط » ، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
قال سعيد بن المُسيَّب : بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل .
وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالغة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي .
فصل
قال قومٌ : الخُلع تطليقةٌ ، وهو قول علي ، وعثمان ، وابن مسعود ، والحسن والشَّعبي ، والنَّخعي ، وعطاء ، وابن السَّائب ، وشُريح ، ومجاهد ، ومكحول ، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد .
والقول الثاني للشَّافعي ، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور .
حجَّة القول الأَوَّل : أنه لو كان فسخاً ، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع ، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر ، وجب أن يجب عليها المهر؛ كالإقالةِ في البيع ، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه . ولما لم يكن كذلك ، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ ، وإذا بطل ذلك ، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ .
حجة القول الثَّاني : قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً ، لكان الطَّلاَق أربعاً ، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في « مَعَالم السُّنَن » عن ابن عبَّاسٍ ، وأيضاً أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته ، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه ، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه ، يجب أن يستكشف عنه ، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً ، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ .
وأيضاً روى أبو داود في « سُنَنِ » عن عكرمة ، عن ابن عبَّاسٍ : أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت ، جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - عِدَّتها حيضَة .
قال الخطَّابي : وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ؛ لأن الله - تعالى - قال : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] فلو كانت هذه طلقة ، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ .
قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } مبتدأٌ وخبرٌ ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } [ البقرة : 221 ] إلى هنا .
وقوله : { فَلاَ تَعْتَدُوهَا } أصلُه : تَعْتَدِيُوهَا ، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت ، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً ، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها .
قال أبو العبَّاس المُقْرِي : ورد لفظ : « الاعْتِدَاء » في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ :
الأول : الاعتِداء : تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال - تعالى - : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] .
والثاني : « الاعتِدَاء » القتل؛ قال تعالى : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ البقرة : 178 ] أي : من قتل بعد قبُول التَّوْبة .
الثالث : « الاعْتِداء » الجزاء؛ قال - تعالى - : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] أي : جاوزهُ .
فصل
قال القرطبي : إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز ، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان :
أحدهما : يجوزُ؛ قاله سحنون .
والثاني : لا يجوزُ؛ رواه ابن القاسم عن مالك .
ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها ، وهي لا شيء لها ، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه ، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها .
قال مالك : ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه .
قوله : { وَمَن يَتَعَدَّ } « مَنْ » شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم .
وقوله : { فأولئك } جوابها ، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها ، و « هُمُ » من قوله : { فأولئك هُمُ } يحتمل ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون فصلاً .
والثاني : أن يكون بدلاً .
و { الظالمون } على هذين خبر « أُولَئِكَ » والإخبار بمفردٍ .
والثالث : أن يكون مبتدأً ثانياً ، و « الظالمون » خبره ، والجملة خبر « أُولَئِكَ » ، والإخبار على هذا بجملةٍ .
ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد ، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في « الظالمون » أي : المبالغون في الظلم . وحمل أولاً على لفظ « مَنْ » ، فأفرد في قوله « يَتَعَدَّ » ، وعلى معناها ثانياً ، فجمع في قوله : { فأولئك هُمُ الظالمون } .
فصل
و { حُدُودُ الله } : أوامره ونواهيه ، وهي : ما منع الشرع من المجاوزة عنه ، وفي المراد من « الظُّلْمِ » هنا ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : اللَّعن لقوله تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] .
وثانيها : أنَّ إطلاق الظلم ] هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه؛ حيث أقدم على المعصية ، وظلم المرأة : بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل ، أو كتمت شيئاً ، ممَّا خلق الله في رحمها ، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف ، والتَّسريح بالإحسان ، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ .
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
أي : من بعد الطلاق الثالث ، فلمَّا قطعت « بعدُ » عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ؛ لما تقدَّم تقريره . و « له » و « مِنْ بعد » ، و « حتى » ثلاثتها متعلقةٌ ب « يَحِلُّ » . ومعنى « مِنْ » : ابتداء الغاية ، واللام للتَّبليغ ، وحتَّى للتعليل ، كذا قال أبو حيَّان ، قال شهاب الدِّين : والظَّاهر أنها للغاية؛ لأنَّ المعنى على ذلك ، أي : يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره ، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً ، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام .
و « غيرَه » صفةٌ ل « زوجاً » ، وإن كان نكرةً ، لأنَّ « غَيْرَ » وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل .
و « زَوْجاً » هل هو للتقييد أو للتوطئة؟ وينبني على ذلك فائدةٌ ، وهي أنه إن كان للتقييد : فلو كانت المرأة أمةً ، وطلَّقها زوجها ، ووطئها سيِّدها ، لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوجٍ ، وإن كانت للتوطئة حلَّت؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى ، كأنه قيل : حتى تنكح غيره ، وإنَّما أتى بلفظ « زَوْج » ؛ لأنه الغالبُ .
فإن قيل : ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً } ؟
فالجواب : فيه فائدتان :
إحداهما : ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء ، لا مجرَّد العقد؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح ، بخلاف الرجل؛ فإنه يطلِّق عند العقد .
الثانية : لأنَّه أفصح ، لكونه أوجز .
فإن قيل : فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ » وإنما أراد العقد .
فالجواب : أن هذا يدلُّ لنا؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة ، والمراد به العقد ، يكون باطلاً ، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح .
قال أهل اللُّغة : النكاح في اللغة : هو الضَّمُّ والجمع ، يقال : تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ .
فصل
الذين قالوا : بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة ، قالوا : إنَّ قوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } تفسيرٌ للتسريح بالإحسان .
واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ :
إمَّا أن يراجعها ، وهو المراد بقوله : « فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ » .
أو يتركها؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين ، وهو المراد بقوله : « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ » .
والثالث : أنه إذا راجعها ، وطلَّقها ثالثةً؛ وهو المراد بقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } .
فهذه الأقسام الثلاثة؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه ، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان ، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة ، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ؛ على سبيل التِّكرار ، وأهملنا القسم الثالث ، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى ، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين ، كالأجنبي ، ونظم الآية : « الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره » .
فإن قيل : إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا ، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟
فالجواب : أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة ، وأمَّا بعدها ، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك ، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة ، ثم أتبعه بذكر الخلع ، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة .
فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها
مذهب الجمهور : أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي :
أن تعتدَّ منه ، وتتزوَّج بغيره ، ويطأها ثم يطلِّقها ، وتعتدَّ من الآخر .
وقال سعيد بن جبيرٍ ، وسعيد بن المسيِّب : تحلُّ بمجرد العقد .
واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب ، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ : الأمران معلومان بالكتاب .
قال ابن جنّي : سألت أبا عليٍّ عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرَّقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح امرأته ، أو زوجته ، أراد المجامعة ، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح ، الذي هو الوطء ، وإذا كان كذلك فقوله : { تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } ، أي : تتزوَّج بزوجٍ ، وينكحها ، أي : يجامعها .
وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة ، وقيل : عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها ، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ ، فطلقها ثلاثاً ، قالت عائشة : جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب ، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ » والمراد ب « العُسَيْلَة » : الجماع ، فروي أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن زَوْجِي قد مَسَّنِي ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : « كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ » ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكرٍ ، فقالت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته ، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكرٍ ، أتت عمر ، وقالت له مثل ذلك ، فقال : « لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ » .
ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج ، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء ، فأما مجرد العقد ، فليس فيه نفرةٌ ، فلا يصلح جعله زاجراً .
فصل
قال بعض العلماء : إذا طلق زوجته ، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر ، فأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد ، عادت على ما بقي من طلاقها .
وقال أبو حنيفة : بل يملك عليها ثلاثاً ، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث .
فصل هل يلحق المختلعة الطلاق
قال القرطبيُّ : استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية ، على أنَّ المختلعة يحلقها الطلاق؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة ، لأن « الفَاءَ » حرف تعقيبٍ ، فيبعد أن يرجع إلى قوله : « الطَّلاقُ مرَّتَانِ » ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه ، كالاستثناء .
فصل
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ .
قال القرطبيُّ : ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل ، أو نواه ، فمتى كان ذلك فسد نكاحه .
فصل
قال القرطبيُّ : وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها ، لا يحلّها؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد .
فصل
قال القرطبيُّ : سئل سعيد بن المسيَّب ، وسليمان بن يسار ، عن رجل زوَّج عبداً له ، جاريةً له ، فطلَّقها العبد البتَّة ، ثم وهبها سيِّدها له ، هل تحل له بملك اليمين؟
فقالا : لا تَحِلُّ له ، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره .
فصل
سئل ابن شهاب ، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها ، وقد كان طلقها واحدةً؛ فقال : تحل له بملك يمينه ، ما لم يبت طلاقها ، فإن بتَّ طلاقها ، فقال : لا تحلُّ له ، حتى تنكح زوجاً غيره .
فإن قيل : إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً؛ فتزوجت بعده ذمياً ، ودخل بها ، حلت للأول؛ لأن الذِّمي زوجٌ .
قوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } الضمير المرفوع عائدٌ على « زوجاً » النكرة ، أي : فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني ، وأتى بلفظ « إِنْ » الشرطية دون « إذا » ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره ، من غير أن يشترط عليه ذلك؛ لأنَّ « إذا » للمحقق وقوعه و « إِنْ » للمبهم وقوعه ، أو المتحقِّق وقوعه المبهم زمان وقوعه؛ نحو قوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ } الضمير في « عليهما » يجوز أن يعود على المرأة ، والزوج الأول المطلَّق ثلاثاً ، أي : فإن طلَّقها الثاني ، وانقضت عدَّتها منه ، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً ، ولا عليها؛ أن يتراجعا .
وهذا يؤيد قول من قال : إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين ، فتزوجت غيره ، وأصابها ، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً ، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم ، وإذا ثبت هذا الاسم ، كان رجعةً ، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها . ويجوز أن يعود عليها ، وعلى الزوج الثاني ، أي : فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني ، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة ، وهي « وانْقَضَتْ عِدَّتُها » ، وتكون الآية قد أفادت حكمين ، أحدهما : أنها لا تحلُّ للأول؛ إلاَّ بعد أن تتزوج بغيره ، والثاني : أنه يجوز أن يراجعها الثاني ، ما دامت عدَّتها منه باقيةً ، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط ، ولم يكن للثاني عيها رجعةٌ .
وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد؛ لأن الوطء لو كان معتبراً ، لكانت العدة واجبةً ، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة؛ لأن « الفَاءَ » في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني ، إلاَّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] .
قوله : { أَن يَتَرَاجَعَآ } ، أي : « في أَنْ » ، ففي محلِّها القولان المشهوران : قال الفراء : موضعهما نصبٌ بنزع الخافض ، وقال الكسائي ، والخليل : موضعهما خفضٌ بإضمار ، و « عليهما » خبر « لا » ، و « في أن » متعلِّقٌ بالاستقرار ، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون « عليهما » متعلقاً ب « جُناح » ، والجارُّ الخبر ، لما يلزم من تنوين اسم « لا » ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً .
قوله : { إِن ظَنَّآ } شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه لدلالة ما قبله عليه ، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد . والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين ، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ . وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين ، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين ، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ « أَنْ » الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها ، لا تقول : علمت أنَّ يقوم زيدٌ ، إنما تقول : علمت أنْ يقوم زيدٌ . والثاني من جهة المعنى : فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً .
قال أبو حيان : أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال : « علمت أنَّ يقومَ زيد » فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره ، إلاَّ أن سيبويه أجاز : « ما علْتُ إلا أن يقومَ زيدٌ » فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي . قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ « عَلِمَ » قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ، وقوله : [ الوافر ]
1113- وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنِّ ... وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ
فقوله : « علمَ حق » يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق ، وكذا قوله « غيرِ ظَنٍّ » يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن . وممَّا يدلُّ على أنَّ « عَلِمَ » التي بمعنى « ظَنَّ » تعمل في « أَنْ » الناصبة ، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري .
وأمَّا قوله : « لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ » فليسَ كما ذكر ، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها « قال شهاب الدين : وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً ، كيف يقال في الآية : إنَّ الظن بمعنى اليقين ، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في » أَنْ « الناصبة . وقوله : » لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد « مُسَلَّمٌ ، لكن ليس هذا منها .
وقوله : { أَن يُقِيمَا } إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين ، أو الأول والثاني محذوفٌ ، على حسب المذهبين المتقدمين .
فصل
كلمة » إن « في اللغة للشرط ، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فظاهر الآية يقتضي : أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ ، أو لم يحصل ، إلاَّ أنا نقول : ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى ، وقصد الإقامة لحدود الله .
قال طاوسٌ : إن ظنَّ كلٌّ واحدٍ منهما ، أنه يحسن عشرة صاحبه .
وقيل : حدود الله : فرائضه ، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني .
فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته ، أو صداقها ، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها؛ حتى يبيِّن لها . وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع ، كان عليها أن تبين .
وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه ، ولا مال له ، ولا صناعة يذكرها ، وهو كاذبٌ ، وكذلك لو كان بها علةٌ ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ ، أو جذامٍ ، أو بَرَصٍ ، أو داءٍ في الفرج؛ لم يجز لها أن تغرَّه ، وعليها أن تبيِّن له ما بها ، كما يجب على بائع السِّلعة . وكان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - تزوج امرأة ، فوجد بكشحها برصاً؛ فردَّها ، وقال : » دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ « .
فصل هل على الزوجة خدمة الزوج؟
نقل القرطبيُّ عن ابن خويزمنداد قال : اختلف أصحابنا : هل على الزوجة خدمة الزوج؟
فقال بعضهم : ليس عليها خدمته؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع ، لا الخدمة؛ قال تعالى : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } [ النساء : 34 ] .
وقال بعضهم : عليها خدمة مثلها؛ فإن كانت شريفة المحلِّ ، فعليها التدبير للمنزل ، وإن كانت متوسطة الحال ، فعليها أن تفرش الفراش ، ونحو ذلك ، وإن كانت دون ذلك ، فعليها أن تَقُمَّ البيت ، وتطبخ ، وتغسل ، وإن كانت من نساء الكرد ، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك؛ قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } [ البقرة : 228 ] .
قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } » تلكَ « إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف .
« يُبَيِّنُهَا » في هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنها في محلِّ رفعٍ ، خبراً بعد خبرٍ ، عند من يرى ذلك .
والثاني : أنها في محلِّ نصب على الحال ، وصاحبها « حدود الله » والعامل فيها اسم الإشارة .
وقرئ : « نبيِّنها » بالنون ، ويروى عن عاصمٍ ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم؛ للتعظيم .
فإن قيل : « تلك » إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف؛ وقوله : « نُبَيِّنُهَا » إشارة إلى الاستقبال ، والجمع بينهما متناقضَ!
فالجواب : أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة ، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة ، فكأنه قال : إن هذه الأحكام التي تقدمت ، هي حدود الله ، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان ، على لسان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو كقوله تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] .
وقيل : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } يعني : ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب ، وبعث الرسل؛ ليعلموا بأوامره ، وينتهوا عن نواهيه .
و « لقوم » متعلِّقٌ ب « يُبَيِّنُهَا » ، و « يعلمون » في محل خَفْض صفةً ل « قوم » ، وخص العلماء بالذكر؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم ، وقيل : خصَّهم بالذّكر لقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال } [ البقرة : 98 ] وقيل : عنى به العرب؛ لعلمهم باللسان .
وقيل : أراد من له علمٌ ، وعقلٌ؛ كقوله : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] والمقصود أنه لا يكلف إلاَّ عاقلاً ، عالماً بما يكلِّف .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
قوله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ } : شرطٌ ، جوابه { فَأَمْسِكُوهُنَّ } ، وقوله : { فَبَلَغْنَ } عطفٌ على فعل الشرط ، والبلوغ : الوصول إلى الشيء : بلغه يبلغه بلوغاً؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1115- وَمَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ ... دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ
ومنه : البلغة ، والبلاغ : اسم لما يتبلَّغ به .
قوله تعالى : « بمعروفٍ » في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبها : إمَّا الفاعل أي : مصاحبين للمعروف ، أو المفعول ، أي : مصاحباتٍ للمعروف .
قوله : { ضِرَاراً } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله ، أي : لأجل الضِّرار .
والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، أي : حال كونكم مضارِّين لهنَّ .
قوله : { لِّتَعْتَدُواْ } هذه لام العلّة ، أي : لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن ، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى ، وتكونوا معتدين؛ لقصدكم تلك المعصية .
وأجاز أبو البقاء : أن تكون لام العاقبة ، أي : الصيرورة ، كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وفي متعلقها وجهان :
أحدهما : أنه { لاَ تُمْسِكُوهُنَّ } .
والثاني : أنه المصدرُ ، إنْ قلنا : إنه حالٌ ، وإنْ قُلْنَا : إنه مفعولٌ من أجله ، تعلَّقت به فقط؛ وتكون علةً للعلة؛ كما تقول : « ضربتُ ابني؛ تأديباً؛ لينتفع » ، فالتأديب علةٌ للضرب ، والانتفاع علةٌ للتأديب ، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب « لا تُمْسِكُوهُنَّ » .
و « تَعْتَدُوا » منصوبٌ بإضمار « أنْ » وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام ، كما تقدَّم تقريره ، وأصل « تَعْتَدُوا » : تَعْتَدِيُوا ، فأُعِلَّ كنظائره .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ } أدغم أبو الحارث ، عن الكسائي ، اللام في الذال ، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية ، وهي في سبعة مواضع في القرآن : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 331 ] في موضعين ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } [ آل عمران : 28 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً } [ النساء : 30 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله } [ النساء : 114 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] ، { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ المنافقون : 9 ] . وجاز لتقارب مخرجيهما ، واشتراكهما في : الانفتاح ، والاستفال ، والجهر .
وتحرَّز من غير المجزوم نحو : يفعل ذلك . وقد طعن قومٌ على هذه الرواية ، فقالوا : لا تصحُّ عن الكسائي؛ لأنها تخالف أصوله ، وهذا غير صواب .
فصل في سبب النزول
هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى : ثابت بن يسارٍ ، طلّق امرأته ، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها ، راجعها ، ثمَّ طلَّقها؛ يقصد مضارَّتها .
فإن قيل : ذكر هذه الآية بعد قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ ، في موضوعٍ واحدٍ ، من غير زيادة فائدةٍ ، وهو لا يجوز؟!
فالجواب : أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة ، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ ، وإنَّما المشروع هو التفريق ، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق ، وهذه في بيان كيفية المراجعة .
وأمَّا على قول أصحاب الشافعي ، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة ، فلهم أن يقولوا : إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ، ما ليس في غيرها ، وها هنا كذلك؛ لأن قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } [ البقرة : 229 ] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين ، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة ، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء ، أن يطلقها ، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة ، حسن إعادة حكم هذه الصورة ، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة ، وأولى بأن يحترز المكلف عنها .
فصل في معنى الإمساك بالمعروف
قال القرطبيُّ : الإمساك بالمعروف ، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء : إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة ، أن يطلقها ، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف ، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها ، ضرراً ، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وأبو ثور ، وعبدالرحمن بن مهدي ، وهو قول عمر ، وعلي ، وأبي هريرة .
وقال سعيد بن المسيَّب : إنَّ ذلك سنةٌ ، ورواه أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقالت طائفةٌ : لا يفرٌَّ بينهما ، ويلزمها الصبر عليه ، وتتعلّق النفقة بذمَّته ، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
وحجّة الأوَّلين الآية ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي » رواه البخاري في « صحيحه » .
فصل
قوله : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } إشارةٌ إلى المراجعة ، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ : لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ .
وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد : تصحُّ بالوطء .
حجة الشافعي : أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته ، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : « مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا » فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال . والوطء في زمن الحيض لا يجوز . وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء ، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ ، وفي صورة بالقول .
وحجَّة أبي حنيفة ، قوله تعالى : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أمرٌ بمجرد الإمساك ، والوطء إمساكٌ ، فوجب أن يكون كافياً .
فإن قيل : إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل ، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة ، لا يثبت حقَّ المراجعة .
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد : « قد بلغنا » ، وقول الرجل لصاحبه : « إذا بلغتَ مكَّةَ ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى » يريد مشارفة البلوغ ، لا نفس البلوغ ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر .
الثاني : الأَجَل اسمٌ للزمان ، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه ، بحيث إذا مات ، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا ، فلا حاجة إلى المجاز
فإن قيل : لا فرق بين قوله : « أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ » ، وبين قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه ، فما فائدة التكرار؟
فالجواب : الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول كلَّ الأوقات ، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال ، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل ، فلما قال : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً } انْدَفَعَتْ الشبهات ، وزالت الاحتمالات .
فصل في بيان معنى الضرار
و « الضرار » : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً } [ التوبة : 107 ] ، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة ، وإزالة الألفة ، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً :
أحدها : ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ ، فأكثر .
ثانيها : « الضرارُ » سوء العشرة .
وثالثها : تضييق النفقة ، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها .
قوله تعالى : { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فيه وجوه :
أحدها : ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب .
وثانيها : ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين :
أمَّا منافع الدنيا : فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه ، ولا معاملته .
وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل ، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى .
قوله : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } فيه وجوه :
أحدها : أنَّ من أمر بشيء ، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين ، يقال : إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة ، والرَّجعة ، والخلع ، وترك المضارَّة ، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها ، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة ، وغيرهم .
وثانيها : ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى ، ولا تتهاونوا بها .
وثالثها : قال أبو الدَّرداء : كان الرجل يطلِّق في الجاهلية ، ويقول : « طَلَّقْتُ ، وَأَنَا لاَعِبٌ » ويعتق ، وينكح ، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : « مَنْ طَلَّقَ ، أَوْ حَرَّرَ ، أَوْ نَكَحَ ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ » .
وروى أبو هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ؛ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ » .
ورابعها : قال عطاءٌ : معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه ، أو على غيره ، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى .
وقال مالكٌ في « الموطأ » : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ : إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ ، فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ : طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ؛ وسَبْعٌ وتسعون اخذت آياتِ الله هُزُواً .
والأَقربُ هو الأَوَّلُ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ ، فيكون تهدِيداً عليها ، لا على غيرها . ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد ، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين ، فقال : « واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم » أي : بالإسلام ، وبيان الأَحكام . ويجوز في « عليكم » وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بنفسِ « المنعة » ، إن أريدَ بها الإِنعامُ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله : [ الطويل ]
1116- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
فأعملَ « رهبةٌ » في « عِقَابَكَ » ، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لاَ يُبنَى عليها ، نحو : ضربٌ وضَرْبَةٌ ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله : [ الطويل ]
1117- يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ
بأنَّ المَلاَ ، وهو السرابُ ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ .
والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من « نِعْمَة » إنْ أريد بها المُنْعَمُ به ، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً؛ إذ هي فاعلةٌ به ، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً .
قوله : { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ } يجوزُ في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكونَ في محلِّ نصب؛ عطفاً على « نعمة » ، أي : اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم ، فعلى هذا يكون في قوله : « يَعِظُكُم » حالاً ، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه الفاعلُ : في « أنزل » وهو اسمُ الله تعالى ، أي : أنزله واعظاً به لكم .
والثاني : أنه « ما » الموصولةُ ، والعاملُ في الحالِ : اذكروا .
والثالث : أنه العائد على « ما » المحذوفُ ، أي : وما أنزلهُ موعوظاً به ، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ « أَنْزَلَ » .
والثاني : من وَجْهي « ما » : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء ، ويكونَ « يَعِظُكُم » على هذا في محل رفعٍ؛ خبراً لهذا المبتدإِ ، أي : والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به . وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلِّقٌ ب « أَنْزَلَ » و « من الكتابِ » متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ ، وفي صاحبِهِ وجهان :
أحدهما : أنه « ما » الموصولةُ .
والثاني : أنه عائدُها المحذوفُ ، إذ التقديرُ : أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ .
و « مِنْ » يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةٌ ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك .
والضمير في « به » يعودُ على « ما » الموصولةِ « .
والمرادُ من » الكِتابِ « : القرآنُ ، ومن » الحِكْمَةِ « : » السُّنَّةُ « . يَعظُكُمْ بِهِ أي : يخوفكم به ، ثم قال : { واتقوا الله } أي : في أَوَامرِه ، ولا تُخالِفُوه في نواهيه ، { واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها ، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في : « طَلَّقتم » للأزواجِ ، وفي : « فَلاَ تعضُلُوهُنَّ » للأولياء؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان :
الأول : أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبدالله بن عاصمٍ ، وقيل : كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها ، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها ، ثم ندم؛ فجاء يخطبُها ، فقال : زوجتُك ، وفرشتُك ، وأكرمتُك؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها؟! لا والله ، لا تعود إليك أبداً ، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه ، فقال لها معقل : إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ ، إنْ راجعته؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ ، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - معقل بن يسار ، وتلا عليه الآيةَ ، فقال : رغم أنْفِي لأَمْرِ رِبِّي ، اللَّهُمّ رضيتُ ، وسلّمْتُ لأَمْرك ، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها .
الثاني : روَى مجاهد ، والسدي : أَنَّ جابر بن عبدالله ، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها ، وأراد رجعتها بعد العِدّة؛ فأَبَى جابر؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ ، وكان جابرٌ يقولَ : فِيَّ نزلت هذه الآيةُ .
وقيل : الخطابُ فيهما للأزواج ، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون ، يُطَلِّقُونَ ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم؛ ظلماً وقهراً .
قوله : { أَزْوَاجَهُنَّ } مجازٌ؛ لأنه إذا أُريد به المطلَّقون ، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه ، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه . قال ابن الخطيب : وهذا هو المختارُ؛ لأن قوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } شرطٌ ، والجزاءُ قوله : « فلا تَعْضُلُوهُنَّ » والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لصار تقديرُ الآيةِ : إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج ، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً ، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ ، وتنزيه كلام اللهِ - عز وجل - عن مثل هذا ، واجبٌ . ثم يتأكدُ بوجهين آخرين :
الأول : أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع ، خطابٌ مع الأزواجِ ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ أَلْبَتَّة ، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ .
الثاني : أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ ، أولى؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ .
واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ .
ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين :
الأول : أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى - ، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ .
الثاني : أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ : فِيّ نزلت هذه الآية ، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت ، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله - تعالى - سليماً عن المعارِضِ ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ ، ولا تعارُضَ بين الخبرين؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ .
واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج ، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ ، أو بعد انقضائِها .
والأولُ باطل؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى ، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى ، كان تكراراً من غير فائدةٍن وأيضاً فقد قال تعالى : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف } فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي ، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح ، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة ، وقال تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } [ البقرة : 235 ] .
والثاني - أيضاً - باطلٌ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة ، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه؟!
ويمكنُ أن يُجابَ : بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة ، بعد انقضاءِ عدَّتها ، وتلحقُه الغيرة ، إذا رأى مَنْ يخطبُها ، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها ، إِمَّا بأن يجحد الطلاق ، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة ، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها : بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها ، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى ، وأطهر ، من دنسِ الآثام .
واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } قالوا : معناه : ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك ، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ .
ويمكن الجوابُ : بأنَّ معنى قوله : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه ، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه .
[ وقيل : الخِطَابُ فيهما للأَولياء ، وفيهِ بُعْدٌ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقٌ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً ] والفاءُ في { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } جوابث « إذا » .
والعَضْلُ : قيل : المَنْعُ ، ومنه : « عَضَلَ أَمَتَهُ » ، مَنَعَها من التزوُّجِ ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها؛ قال ابن هرمزٍ : [ الوافر ]
1118- وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ
وقال : [ الطويل ]
1119- وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا ... وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ
ومنه : « دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ » ، أي : احتبسَ بَيْضُها ، وقيل : أَصلهُ الضِّيقُ؛ قال أوس : [ الطويل ]
1120- تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةٌ ... مُعَضَّلَةٌ مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ
أي : ضَيِّقة بِهم ، وعَضَلَتِ المَرْأَة ، أي : نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا ، وكذلك عضلت الشَّاةُ ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء : إِذَا أَعياهُمْ ، ويُقَالُ : دَاءٌ عُضَالٌ ، أي : ضَيِّقُ العِلاج؛ وقالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
1121- شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا
والمُعْضِلاتُ : المُشْكِلاَتُ؛ لضِيق فَهْمِها؛ قال الشافعيُّ : [ المتقارب ]
1122- إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ
قوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في « تَعْضُلُوهُنَّ » بدلُ اشْتِمالٍ ، فيكون في محلِّ نصب ، أي : فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ .
والثاني : أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ ، وهو إمَّا « مِنْ » ، أو « عَنْ » فيكونُ في محلِّ « أَنْ » الوجهان المشهُورانِ : أعني مذهب سيبويه ، ومذهب الخليل . و « يَنْكِحْنَ » مضارعُ « نَكَحَ » الثّلاثيّ ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ .
قوله : { إِذَا تَرَاضَوْاْ } في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان :
أحدهما : « ينكِحْنَ » أي : أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي .
والثاني : أَنْ يكونَ « تَعْضُلُوهنَّ » أي : لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي ، والأولُ أظهرُ . و « إذا » هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ . والضميرُ في « تراضَوا » يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج ، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ .
قوله : { بَيْنَهُمْ } ظرفُ مكانِ مجازيّ ، وناصبُه « تراضَوا » .
قوله : { بالمعروف } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلقٌ بتراضَوا ، أي : تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ .
والثاني : أن يتعلَّق ب « يَنْكِحْنَ » فيكون « ينكِحْنَ » ناصباً للظرفِ ، وهو « إِذا » ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً .
والثالث : أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا .
والرابع : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، دلَّ عليه الفعلُ ، أي : تراضياً كائناً بالمعروف .
فصل
تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء ، قال : لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها ، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها ، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح ، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث ، وإِنْ سلم ، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء ، في بَابِ النكاحِ ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن ، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم ، وتدبيرهم ، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن ، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه ، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ ، في تفسير هذه الآيةِ . وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ .
وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى : { أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ ، قال : لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله ، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه ، قال : ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى : { حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } [ البقرة : 230 ] ، وبقوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } [ البقرة : 234 ] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ ، فعلٌ بالمعروفِ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ .
وقوله تعالى : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 50 ] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ .
وأجاب الأولون : بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر ، قد يُضافُ إلى المتسبّب ، يقال : بنى الأمِيرُ داراً ، وضرب ديناراً ، وإنْ كان مجازاً ، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح .
فصل في اختلاف البلوغين
قال الشَّافعيُّ - رحمه اللهُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين ، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى : { فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } [ البقرة : 231 ] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت ، لما قال : { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةٌ ، فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية ، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج ، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه ، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة ، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي « دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين » .
فصل في معنى التراضي بالمعروف
في التَّراضي بالمعرُوف ، وجهان :
أحدهما : ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ ، ومهرٍ جائِزٍ ، وشُهُودٍ عُدُول .
الثاني : هو ما يُضادُّ قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] فيكون معناه : أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ ، وتدوم الأُلفَةُ .
قال بعضهم : التراضِي بالمعرُوف ، هو مهرُ المِثْلِ ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً ، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها ، نقصاناً فاحشاً ، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة ، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ .
وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك .
قوله : { ذلك } مبتدأٌ و { يُوعَظُ } وما بعده خبرهُ . والمُخَاطبُ قيل : إمَّا الرسُولُ - عليه الصلاة والسلام - أو كلُّ سامع ، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد ، وقيل : للجماعةِ ، وهو الظَّاهِرُ ، فيكونُ « ذلك » بمعنى : « ذلكم » ، ولذلك قال بعده : { مِنكُمْ } وهو جائِزٌ في اللُّغة ، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ ، قال تعالى : { ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي } [ يوسف : 37 ] وقال : { فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } [ يوسف : 32 ] وقال : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ } [ الطلاق : 2 ] وقال : { أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة } [ الأعراف : 22 ] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع « لَكُمْ » ثم كثر حتَّى توهَّموا أن « الكَافَ » مِنْ نفسِ الحرفِ ، وليست بكافِ خِطابٍ؛ فقالوا ذلك ، فإِذَا قالوا هذا ، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين ، والجمع ، والمؤَنَّثِ ، و « مَنْ كان » في محلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفاعل . وفي « كان » اسمُها ، يعودُ على « مَنْ » و « يؤمِنُ » في محلِّ نصبٍ ، خبراً ل « كان » و « مِنْكُمْ » : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ . فإن قيل : لِمَ أتى باسمِ الإشارة البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل؟
والجواب : أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه .
وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم؛ كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وهو هدى لِلْكُلِّ ، كما قال : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] ، وقال : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } [ يس : 11 ] ، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ؛ كما قال : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة
احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام؛ لأن تَخْصِيصهُ المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها ، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر .
وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً؛ قال تعالى { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين ، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تدكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ ، والتحذير .
قوله تعالى : { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } [ البقرة : 232 ] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو ، وقوله : « أزكى » إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ ، وقوله : { وَأَطْهَرُ } إشارة إلى إزالة الذنُوبِ .
قال المفَسِّرون : أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ . و « لكم » متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل « أزكى » فهو في محلِّ رفع وقوله : « وَأَطْهَرُ » أي : لَكُمْ ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ؛ لِلْعِلْم به ، أي : مِنَ العَضْل .
قوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } معناه : أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى ، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ .
قال بعض المفسِّرين : معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين ، قَدْ يكونُ في نفسه من الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما ، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك ، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلّش واحدٍ منهما لصاحبه ، ما لا تعلمون أَنْتم .
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
قوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ } كقوله { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] فليُلْتفتْ إليه .
قال القرطبي : لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ ، قاله السُّدِّيُّ ، وغيره .
قال : { والوالدات } ولم يقل والزَّوجاتُ ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما .
وقوله : { حَوْلَيْنِ } منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز ، إِذْ قَد يُطْلَقُ « الحَوْلاَنِ » على الناقصين شهراً وشهرين ، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر ، ومثله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [ البقرة : 203 ] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ ، وبعض اليوم الثَّاني ، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب ، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني . وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها ، والحَوْلُ أيضاً : الحَيْلُ ، ويُقالُ : لا حول ولا قوةَ ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ .
فصل في تفسير « الوالدات »
في « الوَالِدَات » ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ .
الثاني : المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ ، ومناسبتهُ من وجهين :
الأول : أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ ، فيحصلُ التباغض ، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين : إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ .
الثاني : قال السُّدِّيُّ : ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ ، قوله بعد ذلك : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } . ولو كانت زوجةً ، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ .
ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل : أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه ، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها ، وعن قول السديّ : أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراص مِنَ المالِ ، لمكانِ الزوجيَّة ، وقَدْراً آخر للإرضاع ، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ .
القول الثالث : قال الواحديُّ في « البَسيط » الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة .
فإِنْ قيل : إذا كانت الزوجيةُ باقيةً ، فهي مستحقةٌ للنفقة ، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد ، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟
قلنا : النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين ، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج ، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ .
فصل
هذا الكلامُ ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره : يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِن وهو أَمرُ استحباب ، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة ، وقد قال :
{ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] وقال : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } [ الطلاق : 6 ] وإذا ثبت الاستحبابُ ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان ، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها .
فصل
قال القُرطبي : اختلف الناسُ في الرضاع : هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظُ محتملٌ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال : وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ؛ كما قال : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط ، إلاَّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ ، فعُرفها ألاَّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها ، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً؛ لاختصاصها به ، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ ، فذهب مالكٌ في « المُدَوَّنَةِ » غلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ ، وفي كتاب « ابن الجلاب » : رضاعه في بيتِ المالِ ، فأَمَّا المطلَّقةِ طلاقاً بائِناً ، فلا رضاع عليها ، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلاَّ أَنْ تشاء الأُمُّ ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل ، إذا كان الزوجُ مُوسِراً ، فإِن كان معدماً ، لم يلزمها الرضاعُ إلاَّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه ، عاد الإِرضاع على الأَبِ ، وعن مالكٍ : أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً ، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ؛ ولها مالٌ ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها . وقال الشَّافعيُّ : لا يلزم الرضاعُ إلاَّ والداً أو جَدّاً وإن عَلاَ .
فصل في تحديد الحولين
اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم : هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين .
روى عكرمة عن ابن عبَّاس : أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين ، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر ، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً ، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر ، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً؛ لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] .
وقال آخرون : هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين ، إلاَّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ ، ليس له ذلك إلاَّ أَنْ يجتمعا عليه؛ لقوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا } وهذا قولُ ابن جريجٍ ، والثوري ، ورواية الوالبي ، عن ابن عباس .
وقيل : المرادُ من الآية : بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ ، أن يكون في الحولينِ ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين .
قال قتادة : فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف؛ فقال { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } ، أي : هذا منتهى الرضاع ، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي ، وما يعيشُ به ، وهذا قولُ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباسٍ ، وابن عمر ، وعلقَمة ، والشَّعبيِّ ، والزهريّ - رضي الله عنهم - .
وقال أبو حنيفة : مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً ، واحتج الأَولون بقوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ لقمان : 14 ] وقال - عليه السلام والصلاة - « لا رضاع بعد فصال »
وروى ابن عباس قال : قال - عليه الصلاة والسلام - « لاَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ » .
فصل
رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي - رضي الله عنه - فقال : تزوجتُ جاريةً بكراً ، وما رأيتُ بها ريبةٌ ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ ، فقال عليٌّ - رضي الله عنه - قال الله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وقال تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ؛ الولدُ ولدكَ .
وعن عُمَر - رضي الله عنه - أنه جِيء بامرأةٍ ، وضعت لستةِ أشهر ، فشاور في رجمِها ، فقال ابنُ عباسٍ : إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ ، قال : فكأنما أَيْقَظَهُمْ .
قوله : { لِمَنْ أَرَادَ } في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ ، وتكونُ اللامُ للتعليل ، و « مَنْ » وَاقِعَةٌ على الآباء ، أي : الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ ، وهذا نظيرُ قولك : « أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه » .
والثانيك أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] ، وفي قولهم : « سُقْياً لك » . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به ، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين ، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ و « مَنْ » تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط ، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً ، كلُّ ذلك محتملٌ .
والثالث : أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ، والتقديرُ : ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ . و « مَنْ » على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً .
قوله : { أَن يُتِمَّ الرضاعة } « أَنْ » وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولاً بأراد ، أي : لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها . والجمهورُ على « يُتمَّ الرَّضَاعَةَ » بالياء المضمومة من « أَتَمَّ » وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة ، ونصبِ « الرَّضَاعةَ » مفعولاً به ، وفتح رائها .
وقرأ مجاهدٌ ، والحسنُ ، وابنُ محيصن ، وأَبُو رجاء : « تَتِمَّ » بفتح التاءِ من تَمَّ ، و « الرضَاعَةُ » بالرفعِ فاعلاً ، وقرأ أبو حيوة ، وابنُ أَبِي عبلة كذلك ، إلا أنهما كَسَرا راءَ « الرَّضَاعَة » ، وهي لغةٌ كالحَضارةِ ، والحِضارة ، والبَصْرِيُّونَ يقولون : فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث ، وكسرُها مع عدمِ الهاء ، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ . وقرأ مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ - : « أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » برفعِ « يُتِمُّ » وفيها قولان :
أحدهما : قولُ البصريِّين : أنها « أَنْ » الناصبةُ ، أُهْمِلت؛ حَمْلاً عَلَى « مَا » أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية ، وأَنشدوا على ذلك قوله : [ مجزوء الكامل ]
1123- إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ
وقول الآخر : [ البسيط ]
1124- يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا
فَأَهْمَلَها ، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع ، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين :
أحدهما : أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها .
والثاني : أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ .
القول الثاني : وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة ، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة ، كما شذَّ وقوع « أنْ » الناصبة موقعها في قوله : [ البسيط ]
1125- قَدْ عَلِمُوا ... أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ
وقرأ مجاهدٌ : « الرَّضْعَة » بوزن القصعة .
وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة .
فصل
قال القرطبيُّ : قوله تعالى : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع ، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة ، لأكثر من حولين ، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة ، ولم ترض الأمُّ ، لم يكن له ذلك .
والرَّضْعُ : مصُّ الثدي ، ويقال للَّئيم : راضعٌ ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة؛ فيسمع منه الحلب؛ فيطلب منه اللبن ، فيرتضع ثدي الشاة بفمه .
قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ ، والمبتدأ قوله : « رِزْقُهُنَّ » ، و « أَلْ » في المولود موصولةٌ ، و « لَهُ » قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود ، وهو عائد الموصول ، تقديره : وعلى الذي ولد له رزقهنَّ ، فحذف الفاعل ، وهو الوالدات ، والمفعول ، وهو الأولاد ، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل .
وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل ، إلاَّ السُّهيليَّ ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل ، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً ، والكوفيُّون قالوا : إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو : ما ضربَ من أحدٍ ، وإن كان غير زائدٍ ، لم يجز ، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم . ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل .
فذهب الفرَّاء : إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ ، كما أنَّ « يَقُومُ » من « زَيْدٌ يَقُومُ » في موضع رفع .
وذهب الكسائيُّ ، وهشام : إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه ، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ ، وزمانٍ ، ومكانٍ ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها .
وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر ، فإذا قلت : « سِيرَ بزيدٍ » فالتقدير : سِير هو ، أي : السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ ، ووافقهم في هذا بعض البصريين .
قوله : { بالمعروف } يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله : « رزقُهنَّ » و « كِسْوَتُهنَّ » على أنَّ المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأُضمر في الثاني ، فكان يقال : وكسوتهنَّ به بالمعروف . هذا إن أُريد بالرزق والكسوة ، المصدران ، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً ، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله : { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً } [ النحل : 73 ] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل ، إن شاء الله تعالى . وإن أُريد بهما اسم المرزوق ، والمكسوِّ كالطِّحن ، والرِّعي ، فلا بدَّ من حذف مضافٍ ، تقديره : اتِّصال ، أو دفع ، أو ما أشبه ذلك ، ممَّا يصحُّ به المعنى ، ويكون « بالمعروف » متعلِّقاً بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ منهما . وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه « على » .
والجمهور على « كِسْوَتهنَّ » بكسر الكاف ، وقرأ طلحة بضمِّها ، وهما لغتان في المصدر ، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين ، وهما كمفعولي « أَعْطَى » في جواز حذفهما ، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً ، قيل : وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا : [ المتقارب ]
1126- وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ
ضمَّنه معنى غطَّى ، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه ، أي : كَسَا وجهها غبار أو نحوه .
فصل
و { المولود لَهُ } هو الوالد ، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه :
أحدها : قال الزَّمخشريُّ : والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون : [ البسيط ]
1127- وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ
وثانيها : أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولوداً على فراشه ، على ما قاله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ » فكأنّه قال : إذا ولدت المرأة الولد لأجل الرَّجل وعلى فراشه ، وجب عليه رعاية مصالحه ، [ فنبه على أنَّ سبب النَّسب ، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر .
وثالثها : ذكر الوالد بلفظ « المَوْلُودِ [ لَهُ ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه ، فيلزمه رعاية مصالحه ] كما قيل : كلُّه لك ، وكلُّه عليك .
فإن قيل : فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه : { قَالَ ياابنأم } [ طه : 94 ] ولم يذكر أباه .
فالجواب : أنّه أراد بذكر الأم [ أنْ ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب .
فصل
اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل ، في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } - وصَّى برعاية جانب الأمِّ ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل ، فأمره برزقها ، وكسوتها بالمعروف ، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها ، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود ، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً ، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة ، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته ، وحضانته بالنفقة ، والكسوة ، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب ، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ } الجمهور على « تُكَلَّفُ » مبنياً للمفعول ، « نفسٌ » قائم مقام الفاعل ، وهو الله تعالى ، { وُسْعَهَا } مفعول ثانٍ ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ « كَلَّفَ » يتعدَّى لاثنين . قال أبو البقاء : « ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا ، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ » .
وقرأ أبو جراء : « لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ » بفتح التَّاء ، والأصل : « تَتَكَلَّفُ » فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفاً : إمَّا الأولى ، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم ، فتكون « نَفْسٌ » فاعلاً ، و « وُسْعَها » مفعولٌ به ، استثناء مفرَّغاً أيضاً . وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً : « لا يُكَلِّفُ نَفْساً » بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى ، فتكون « نَفْساً » و « وُسْعَها » مفعولين .
والتكليفُ : الإلزام ، وأصله من الكلف ، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال : [ البسيط ]
1128- يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ ... مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ
فمعنى « تَكَلَّفَ الأَمْرَ » ، أي : اجتهد في إظهار أثره .
وفلانٌ كَلِفٌ بكذا : أي مُغْرًى به .
و « الوُسْعُ » هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض ، ولو ضاق لعجز عنه ، فالسَّعة بمنزلة القدرة ، ولهذا قيل : الوسع فوق الطَّاقة ، والمراد منه : أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه ، وعلى أُمِّه ، إلاَّ ما تتسع له قدرته ، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة ، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } [ الطلاق : 7 ] .
فصل في احتجاج المعتزلة بالآية
تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله - تعالى - لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه .
وقوله : { لاَ تُضَآرَّ } ابن كثير ، وأبو عمرو : « لا تُضَارُّ » برفع الراء مشددةً ، وتوجيهها واضح ، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع ، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها ، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى ، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي .
قال الكسائيُّ والفراء : هو نسقٌ على قوله : « لاَ يُكَلِّفُ » .
قال عليبن عيسى : هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق ب « لا » إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو : « ضربتُ زيداً لا عمراً » فأمّا أن يقال : يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو ، فهو غير جائزٍ على النِّسق ، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال : لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً .
وقرأ باقي السَّبعة : بفتح الراء مشدّدةً ، وتوجيهها أنَّ « لا » ناهيةٌ ، فهي جازمةٌ ، فسكنت الراء الأخيرة للجزم ، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها ، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى ، وإن كان الأصل الإدغام ، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة ، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب « إِسْحَارّ » وهو اسم نباتٍ ، قالوا : « إِسحارَ » بفتح الراء خفيفةً ، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة ، بقيت الراء الأولى ساكنةً ، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان ، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء ، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة ، ولم يكسروا وإن كان الأصل ، لما ذكرنا من مراعاة الألف .
وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً ، على أصل التقاء السَّاكنين ، ولم يراع الألف .
وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً ، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ، فسكَّن ، وروي عنه وعن ابن هرمز : بسكونها مخففة ، وتحتمل هذه وجهين :
أحدهما : أن يكون من « ضارَ » « يَضِيرُ » ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف .
والثاني : أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء ، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما ، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف ، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة ، لكونها حرف مدٍّ .
وزعم الزمخشريُّ « أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة ، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ ، وليس كذلك » انتهى . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] ونحوه .
ثم قراءة تسكين الرَّاء : تحتمل أن تكون من رفعٍ ، فتكون كقراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويحتمل أن تكون من فتح ، فتكون كقراءة الباقين ، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها .
وقرأ ابن عبَّاس : بكسر الراء الأولى ، والفكِّ ، وروي عن عمر بن الخطاب : « لا تُضَارَرْ » بفتح الرَّاء الأولى ، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز ، أعني : [ فكَّ ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف ، نحو : لم نمرر ، وامرُرْ ، وبنو تميم يدغمون ، والتنزيل جاء باللغتين نحو : { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } [ المائدة : 54 ] في المائدة ، قرئ في السَّبع بالوجهين ، وسيأتي بيانه واضحاً .
ثمَّ قراءة من شدَّد الراء : مضمومةً أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، أو مسكَّنةً ، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة ، فيكون الفعل مبنياً للمفعول ، وتكون « وَالِدَة » مفعولاً لم يسمَّ فاعله ، وحذف الفاعل؛ للعلم به ، ويؤيده قراءة عمر رضي الله عنه .
ويكون معنى الآية { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أي : لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك .
وقيل : معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه ، إذا كرهت إرضاعه ، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها ، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها ، إذا لم يرتضع الولد من غيرها .
وأن تكون مكسورةٌ ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل ، وتكون « والدة » حينئذٍ فاعلاً به ، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ .
وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه :
أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره : لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها ، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك ، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ ، فالباء للسببية .
والثاني : - قاله الزمخشريُّ - أن يكون « تُضارَّ » بمعنى تضرُّ ، وأن تكون الباء من صلته أي : لا تضرُّ والدةٌ بولدها ، فلا تسيءُ غداءه ، وتعهُّده ، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى . ويعني بقوله « الباءُ مِنْ صِلتِه » ، أي : تكون متعلقةً به ، ومعدِّيةً له إلى المفعول ، كهي في « ذَهَبْتُ بزيدٍ » ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ ، فاعل بمعنى أفعل ، ومثله : ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته ، وباعدته وأبعدته ، فعلى هذا ، نفس المجرور بهذه الباء ، هو المفعول به في المعنى ، والباء على هذا للتَّعدية ، كما نظَّرنا بِ « ذَهَبْتُ بزيدٍ » ، فإنه بمعنى أذهبته .
والثالث : أنَّ الباء مزيدةٌ ، وأنَّ « ضَارَّ » بمعنى ضرَّ ، فيكون « فَاعَلَ » بمعنى « فَعَل » المجرّد ، والتقدير : لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده ، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها ، ونحو ذلك . وقد جاء « فاعل » بمعنى فعل المجرَّد نحو : واعدته ، ووعدته ، وجاوزته وجزته ، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه ، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير ، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير ، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ ، وما بعده ، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده .
فإن قيل : لم قال « تُضَارّ » والفعل واحد؟
قلنا : معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم ، أو يمنعها الأب وينزعه منها ، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة .
فصل في أحكام الحضانة
قال القرطبي : في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم ، وهي في الغلام إلى البلوغ ، وفي الجارية إلى النِّكاح ، وذلك حقٌّ لها .
وقال الشَّافعيُّ : إذ بلغ الولد ثماني سنين ، وهو سنُّ التَّمييز ، خيَّر بين أبويه ، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن ، والأدب ، والعبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية .
وروى أبو هريرة : « أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالت له : إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني ، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني ، فقال النَّبيُّ لله صلى الله عليه وسلم : » اسْتَهِما عليه « فقال زوجها : من يحاقُّني في ولدي؟ فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : » هذا أبُوكَ ، وهذه أُمُّكَ ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ « فأخذ بيد أُمه فانطلقت به » .
ودليلنا ما روى أبو داود ، عن عبدالله بن عمرو : أَنَّ امرأةً قَالَتْ : يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء ، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء ، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء ، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني ، وأراد أن ينزعه مني ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي » .
فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟
قال ابن المنذر : أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألاَّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت .
وقال مالك ، والشَّافعيُّ ، والنُّعمان ، وأبو ثور : إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد ، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ ، فقال مالكٌ : أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ . وقال الشَّافعيُّ : أمُّ الأب أحقُّ من الخالة .
فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد
ولا حضانة لفاجرةٍ ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد .
وروي عن مالك : أنَّ الحضانة للأُمّ ، ثم الجدَة للأمّ ، ثم الخالة ، ثمّ الجدة للأب ، ثم أخت الصَّبيِّ ، ثم عمَّته .
فصل
قال القرطبيُّ : إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا .
وقال ابن المنذر : إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها ، ثمَّ رجعت إليه ، فهي أحقُّ بولدها : في قول الشَّافعيِّ ، وأبي ثور ، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت ، أو توفِّي عنها زوجها ، رجعت إلى حقّها في الولد ، فإن تركت حقَّها من الحضانة ، ولم ترد أخذه ، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ ، بزوجٍ ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك .
وقال القرطبيُّ : إن كان تركها له من عذر ، كان لها ذلك ، وإن تركته رفضاً له ، ومقتاً ، لم يكن لها بعد ذلك أخذه .
فصل
فإن طلَّقها الزَّوج ، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ ، فلا حضانة لها .
وقال أبو ثورٍ ، وأصحاب الرَّأي ، وابن القاسم : لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة . وكذلك اختلفوا في الزَّوجين؛ يفترقان أحدهما [ حرٌّ ] والآخر مملوكٌ .
قوله : « له » في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل .
قوله : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون ، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ ، معطوفاً أحدهما على الآخر ، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيدٌ وهندٌ ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ ، وقامت هندٌ وزيدٌ ، فتُلحق العلامة ، والآية الكريمة من هذا القبيل ، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ أن يكون المؤنث مجازيّاً ، فيحسن ألاَّ يراعى المؤنَّث ، وإن تقدَّم؛ كقوله تعالى :
{ وَجُمِعَ الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] .
وفي هذه الجمل من علم البيان : الفصل ، والوصل .
أما الفصل : وهو عدم العطف بين قوله : « لا تُكَلَّفُ نفسٌ » على ما قبلها؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله « بالمعروف » .
وأمَّا الوصل : وهو العطف بين قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ } ، وبين قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى . ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً ، وجعل الخبر فعلاً؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً . وأُضيفت الوالداتُ للأولاد؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع .
وجيء بالوالدات بلفظ العموم ، وإن كان جمع قلَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل ، عمَّ ، وكذلك « أَوْلاَدَهُنَّ » عامٌّ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ .
وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً ، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف « على » الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب ، وقدِّم الخبر؛ اعتناءً به . وقدِّم الرزقُ على الكسوة؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة ، ولتكرره كل يومٍ .
وأبرزت الثالثة فعلاً ، ومرفوعه ، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي؛ ليعمَّ ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع ، والمولود له في الرزق ، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة .
وأبرزت الرابعة كذلك؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها؛ والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك . ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد ، أتى بهاتين الجملتين فعليتين ، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو « لا » ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً .
وأمَّا في قراءة من جزم ، فإنَّها ناهيةٌ ، للاستقبال فقط ، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف ، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين ، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد .
قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر ، قدَّم الخبر؛ اهتماماً ، ولا يخفى ما فيها ، وهي معطوفة على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ } وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله : « بِالْمَعْرُوفِ » كما تقدَّم التنبيه عليه .
والألف واللاَّم في « الوَارِثِ » بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك ، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له ، وهو الأب ، فكأنه قيل : وعلى وارثه ، أي : وارث المولود له ، أو يعود على الولد نفسه ، أي : وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث .
وقرأ يحيى بن يعمر : « الوَرَثَةِ » بلفظ الجمع ، والمشار إليه بقوله : « مثلُ ذلك » إلى الواجب من الرزق والكسوة ، وهذا أحسن من قول من يقول : أشير به إلى الرزق والكسوة . وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ ، وقيل : المشار إليه هو عدم المضارَّة ، قاله الشعبيُّ ، والزهري ، والضحاك ، وقيل : منهما وهو قول الجمهور .
وقيل : أجرة المثل .
فصل في المراد ب « الوارث »
في المراد ب « الوارث » أربعة أقوالٍ :
أحدها : قال ابن عباس : المراد وارث الأب؛ لأنَّ قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } معطوفٌ على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف ، والمعنى أنَّ المولود له إن مات ، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه ، أي : يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار .
قال أبو مسلم الأصبهانيُّ : وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه ، وهذا غير جائزٍ .
قال ابن الخطيب : ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً ، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف ، ويدفع الضَّرر عنه ، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب .
القول الثاني : أنَّ المراد وارث الصبيِّ ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب ، هذا قول الحسن ، وقتادة ، وأبي مسلم ، والقاضي ، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو؟ فقيل : العصبات من الرِّجال ، وهو قول عمر بن الخطَّاب ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وسفيان ، وإبراهيم .
وقيل : هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ، ومذهب أحمد وإسحاق .
وقيل : المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم؛ كابن العمِّ والمولى ، وهو قول أبي حنيفة .
وظاهر الآية يقتضي أَلاَّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها ، لصحَّ دخولها تحت الكلام؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها .
القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين ، كا جاء في الدعاء : « واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا » أي : الباقي ، وهو قول سفيان وجماعة .
القول الرابع : المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى ، فإن كان له مالٌ ، وجب أجرة رضاعه في ماله ، وإن لم يكن له مال ، فعلى الأمِّ ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلاَّ الوالدان ، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ .
قوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } .
في الفصال قولان :
أحدهما : أنَّه الفطام؛ لقوله تعالى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وإنَّما سمي الفطام بالفصال؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات .
والثاني : قال أبو مسلم : ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد .
قال المبرِّد : والفصال ، يقال : فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً ، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه ، فقد انفصلت منه ، فبينهما فصالٌ ، نحو القتال والضِّراب ، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال : فصل من البلد ، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى : { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود } [ البقرة : 249 ] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين .
اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } وجب حمل هذه الآية على غير ذلك ، حتى لا يلزم التَّكرار ، واختلفوا في ذلك : فمنهم من قال : إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما ، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس .
قوله تعالى : { عَن تَرَاضٍ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل « فِصَالاً » فهو في محلِّ نصبٍ ، أي : فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ ، وقدَّره الزمخشريُّ : صادراً عن تَرَاضٍ ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً .
والثاني : أنه متعلقٌ ب « أَرَادَا » ، قاله أبو البقاء ، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف . والفصال ، والفصل : الفطام ، وأصله التفريق ، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي ، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه .
و « عَنْ » للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى ، لا عينٌ .
و « تَرَاضٍ » مصدر تفاعل ، فعينه مضمومةٌ ، وأصله : تفاعلٌ تراضوٌ ، ففعل فيه ما فعل ب « أدْلٍ » جمع دلوٍ ، من قلب الوالو ياءً ، والضمة قلبها كسرةً ، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً .
قوله تعالى : { مِّنْهُمَا } في محلِّ جرٍّ صفةً ل « تَرَاضٍ » ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما ، و « مِنْ » لابتداء الغاية .
وقوله : { وَتَشَاوُرٍ } [ حذفت « مِنْهُمَا » لدلالة ما قبلها عليها ، والتقدير : وتشاور منهما ] ، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما ، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما ، ومن غيرهما على المصلحة .
قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } الفاء جواب الشَّرط ، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة ، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك ، تقديره : ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه ، فلا جناح عليهما في الفصال ، أو في الفصل .
فصل في التشاور
التشاور في اللُّغة : استخراج الرَّأْي ، وكذلك المشورة كالمعونة ، وشرت العسل ، إذا استخرجته .
وقال أبو زيدٍ : شُرت الدَّابَّةَ ، وشَوَّرْتُهَا ، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ ، يقال له : الشّوار ، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر ، ويقال : شوَّرته فتشوَّر ، أي : خجلته ، والشَّارة : هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها ، والإشارة : إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره .
فصل في مدة الفطام
دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين ، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب ، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع ، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك ، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس ، ثم بتقدير توافقهما : اعتبر المشاورة مع غيرهما ، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد ، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام .
فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير ، كم شرط في جواز فطامه من الشروط؛ دفعاً للمضارِّ عنه ، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن ، بل قال : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } .
قوله : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ } .
« أن » وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ ، مفعولاً ب « أَرَاد » وفي « اسْتَرْضَعَ » قولان للنَّحويين :
أحدهما : أنه يتعدَّى لاثنين ، ثانيهما بحرف الجرِّ ، والتقدير : أن تسترضعوا المراضع لأولادكم ، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني ، فهو نظير « أَمَرْتُ الخَيْرَ » ، ذكرت المأمور به ، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل ، وكلُّ مفعولين كانا كذلك ، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما ، وذكر الأوَّل ، دون الثاني والعكس .
قال الواحديُّ : « أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ » ، أي : لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام ، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد ، ولا يجوز : « دَعَوْتُ زَيْداً » وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع ، ونظير حذف « اللاَّم » قوله تعالى : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 3 ] أي : كالو لهم ، أو وزنوا لهم .
والثاني : أنه متعدٍّ إليهما بنفسه ، ولكنه حذف المفعول الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك : « أَنَجَحَ الحَاجَةَ » « وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ » وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل « رَضِعَ الوَلَدُ » ، ثم تقول : « أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ » ، ثم تقول : « اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ » ؛ هكذا قال أبو حيَّان .
قال شهاب الدين : وفيه نظر؛ لأنَّ قوله « رضِعَ الوَلَدُ » يشعر أنَّ هذا لازمٌ ، ثم عدَّيته بهمزة النقل ، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال ، وليس كذلك ، لأنَّ « رَضِعَ الوَلَدُ » متعدٍّ ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ ، وتقديره : رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به؛ كضرب ، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه ، والسين للطلب على بابها؛ نحو : اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً ، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان ، لا على إسقاط الخافض كذلك « أَوْلاَدَكُمْ » ، وقد جاء [ استفعل ] للطَّلب ، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ ، وإن كان « أَفْعَلَ » الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين ، نحو : « أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ » واستفهمته عنها ، ويجوز حذف « عَنْ » ، فلم يجيء مجيءَ « اسْتَسْقَيْتُ » و « اسْتَطْعَمْتُ » من كون ثانيهما منصوباً ، لا على إسقاط الخافض .
وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ ، أمَّا الالتفات : فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله : « فَإِنْ أَرَادُوا » إلى الخطاب في قوله : « وَإِنْ أَرَدتُّمْ » ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات ، وأمَّا التلوين في الضمائر ، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ ، وهذا ضمير جمعٍ ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له ، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ ، وهو المولودُ له ، وإنْ كان مفرداً لفظاً ، و « فَلاَ جُنَاحَ » جوابُ الشرطِ .
قوله : { إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم } « إِذَا » شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه ، قال أبو البقاء : وذلك المعنى هو العاملُ في « إذا » وهو متعلِّق بما تعلَّق به « عَلَيْكُم » ، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه ، فقوله ثانياً « وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم » تناقضٌ ، اللهم إلا أن يقال : قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ ، وكان الأصل « أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ » فيصحُّ ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك ، تمحَّضت « إِذَا » للظرفية ، ولم تكن للشرط ، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه .
وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة ، وإنَّما هو ندب إلى الأولى ، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ ، حتى تطيب نفسها ، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل ، والاحتياط في مصالحه .
وقرأ الجمهور : « آتَيْتُمْ » بالمدِّ هنا وفي الرُّوم : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } [ الروم : 39 ] وقصرهما ابن كثير . وروى شيبان عن عاصم « أُوتِيتُمْ » مبنيّاً للمفعول ، أي : ما أقدركم الله عليه ، فأمَّا قراءة الجمهور ، فواضحةٌ؛ لأنَّ « آتَى » بمعنى « أَعْطَى » ، فهي تتعدَّى لاثنين ، أحدهما ضمير يعود على « مَا » الموصولة ، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع ، والتقدير : ما آتيتموهنَّ إيَّاه ، ف « هُنَّ » هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى ، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى ، والكلام على حذف هذا الضمير ، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال ، والجواب عند قوله : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
وأمَّا قراءة القصر ، فمعناها جئتم وفعلتم يقال : أَتَيْتُ جميلاً ، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ : [ الطويل ]
1129- وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
أي : فعلوه ، والمعنى : إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم .
فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة ، والانقياد ، لا بمعنى تسليم الأجرة ، يعني : إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه .
وقال أبو عليٍّ : ما أتيتم نقده أو إعطاءه ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهو عائد الموصول ، فصار : آتيتموه ، أي : جئتموه .
وأما قراءة عاصم ، فمعناها : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وهو في معنى قوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] .
ثم حذف عائد الموصول ، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير : ما جئتم به ، فحذف ، يعني : حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ ، فحذف .
و « ما » فيها وجهان :
أظهرهما : أنها بمعنى « الَّذِي » وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً ، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً ، والتقدير : إذا سلَّمتم الإتيان ، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف ، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر ، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول ، تقديره : إذا سلَّمتم الإعطاء ، أي : المعطى .
والظاهر في « مَا » أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع ، والخطاب على هذا في قوله : « سَلَّمْتُمْ » و « آتَيْتُمْ » لآباء خاصَّة ، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد ، قاله قتادة والزهري ، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في « سَلَّمْتُمْ » للآباء والأمَّهات .
قوله تعالى : { بالمعروف } فيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق ب « سَلَّمْتُمْ » أي : بالقول الجميل .
والثاني : أن يتعلَّق ب « آتَيْتُمْ » .
والثالث : أن يكون حالاً من فاعل « سَلَّمْتُمْ » ، أو « آتَيتُمْ » ، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ ، أي : مُلْتَبِسِينَ بالمعروف .
فصل
قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع ، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك ، جاز العدول عنها إلى غيرها ، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر ، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع .
ومنها : إذا طلَّقها الزوج الأوَّل ، فقد تكره الرَّضاع؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر .
ومنها : أن تأبى المرأة إرضاع الولد؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له .
ومنها : أن تمرض ، أو ينقطع لبنها .
فعند أحد هذه الوجوه ، إذا وجدنا مرضعةً أخرى ، وقبل الطفل لبنها ، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها .
فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها ، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها ، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ .
ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير ، فقال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
في « الَّذِينَ » أوجهٌ :
أحدها : أنَّها مبتدأٌ لا خبر له ، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد ، فجاء الخبر عن المقصود ، إذ المعنى : من مات عنها زوجها ، تربَّصت ، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء؛ وأنشد الفراء : [ الطويل ]
1130- لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ... عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا
فقال : لَعَلِّيَ « ثم قال : » أَنْ يَتَنَدَّمَ « فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير : لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً . وقال آخر : [ الطويل ]
1131- بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ ... بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ
فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ .
وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء : أنه إذا ذكر اسمٌ ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول ، وأخبر عن الثاني؛ نحو : » إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ « ، المعنى : إن أخت زيدٍ منطلقةٌ ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت ا لأول ليسا من هذا الضَّرب ، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب . قوله : [ الوافر ]
1132- فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي ... وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ
وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا : لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال ، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله .
الثاني : أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه :
أحدها : أنه » يَتَرَبَّصْنَ « ، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط ، والتقدير : وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله : { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه . والتقدير : يتربَّصن بعدهم ، أو بعد موتهم ، قاله الأخفش .
وثالثها : أنَّ » يَتَرَبَّصْنَ « خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، التقدير : أزواجهم يتربَّصْنَ ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل ، قاله المبرِّد .
ورابعها : أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ ، تقديره : فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون ، ويكون قوله » يَتَرَبَّصْنَ « جملةً مبيِّنَةً للحكم ، ومفسِّرة له ، فلا موضع لها من الإعراب ، ويعزى هذا لسيبويه .
قال ابن عطيَّة : وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى : » وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ « ، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ ، نحو قوله تعالى : { والسارق والسارقة فاقطعوا } [ المائدة : 38 ] { الزانية والزاني فاجلدوا } [ النور : 2 ] وهذه الآية فيها معنى الأمر ، لا لفظه ، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر .
وخامسها : أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ ، والتقدير : » وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ « فحذف » أَزْوَاجُهُمْ « بجملته ، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ .
وقال القرطبيُّ : المعنى : والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ « » وَيَذَرُونَ « - أي : يتركون - » أَزْوَاجاً « - أي : ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات » يَتَرَبَّصْنَ « قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس ، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار } [ الحج : 72 ] أي هو النَّار .
وقرأ الجمهور » يُتَوَفَّوْنَ « مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله ، ومعناه : يموتون ويقبضون؛ قال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً ، فمن مات ، فقد وجد عمره وافياً كاملاً .
وقرأ علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه : يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ ، قاله الزمخشريُّ .
ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ ، فقال له رجلٌ : من المتوفِّي؟ بكسر الفاء ، فقال : الله ، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو .
وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } [ البقرة : 228 ] وهل » بِأَنْفُسِهِنَّ « تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ » قُرُوء « على الظرف ، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا .
قوله : { مِنكُمْ } في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع » يتَوَفَّوْنَ « والعامل فيه محذوفٌ ، تقديره : حال كونهم منكم ، و » مِنْ « تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا .
فصل في معنى » التربص «
و » التَّرَبُّصُ « : التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح ، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً ، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله : { أَسْكِنُوهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] ، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد وإنما قال : » يَتَرَبَّصْنَ « فبينت السُّنَّة جميع ذلك .
قوله : { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } إنما قال » عَشْراً « من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام؛ لوجوه :
الأول : أنَّ المراد » عَشْرَ لَيَالٍ « مع أيامها ، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها؛ قال الزمخشريُّ : » وقيل « عَشْراً » ذهاباً إلى الليالي ، والأيام داخلةٌ فيها ، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام ، تقولك « صُمْتُ عَشْراً » ، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم ، ومن البيِّن قوله تعالى : { إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] ، { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] .
الثاني : قال المبرِّد : إنَّ حذف التاء؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ ، تقول العرب : « سِرْنَا خَمْساً » أي : بين يوم وليلة؛ قال : [ الطويل ]
1133- فَطَافَتْ ثَلاَثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا
والثالث : أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام ، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر ، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا « صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام » ، وإذا حذف لفظاً ، جاز في العدد الوجهان : ذكر التاء وعدمها ، حكى الكسائيُّ : « صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً » ، ومنه الحديث :
« وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ » ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
1134- وَإِلاَّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ ... تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ
نصَّ النحويون على ذلك .
قال أبو حيَّان : « فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا » ، قال : « وإذا تقرر هذا ، فجاء قوله : » وَعَشْراً « على أحد الجازئين ، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام ، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } [ طه : 103 ] كونه فاصلةً ، فقوله : » ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ « ليس كما ذكر ، بل هو الأفصح ، وفائدة ذكره » إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً « بعد قوله » إِلاَّ عَشْراً « أنه على زعمه أراد الليالي ، والأيام داخلةٌ معها ، فقوله : » إِلاَّ يَوْماً « دليلٌ على إرادةِ الأيَّام » . قال أبو حيان : « وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث ، فقال بعضهم : » عَشْراً « وقال بعضهم : » يَوْماً « فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم : عَشْرُ لَيَالٍ ، فيقول البعضُ : يَوْمٌ » .
الرابع : أنَّ هذه الأيَّام [ أيَّام حزن ومكروه ، ومثل هذه الأيَّام ] تسمَّى بالليالي على سبيل الاستعارة؛ كقولهم : « خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج » .
الخامس : أنَّ المراد بها الليالي ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ ، وبعض الفقهاء قالوا : إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ ، حلَّت للأزواج .
فصل
لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق ، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع ، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً؛ لئلاَّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق .
فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة
هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها ، إلاَّ في صورتين :
الأولى : أن تكون أمَةً ، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة .
وقال أبو بكر الأصمُّ : عدتها عدَّة الحرَّة؛ لظاهر هذه الآية ، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة؛ فوجب أن يشتركا فيه .
وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ ، وفي وضع الحمل غير ممكن ، فظهر الفرق .
الصُّورة الثانية : أن تكون حاملاً ، فعدَّتها بوضع الحمل ، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - : أن تتربّصن بأبعد الأجلين .
واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] .
فإن قيل : هذه الآية إنما وردت عقيب ذر المطلَّقات؛ [ فيكون للمطلَّقات ] لا للمتوفَّى عنها زوجها .
فالجواب : أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ .
وأيضاً : قال عبدالله بن مسعود : « أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى » أراد بالقصرى « سُورَة الطَّلاَقِ » ، وبالطُّولى « سُورَة البَقَرَةِ » ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } نزلت بعد قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } فحمله على الفسخ ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة ، وهو ما روي في « الصَّحِيحَينِ » : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع ، وهي حاملٌ ، فولدت بعد وفات زوجها بنصف شهرٍ ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب ، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك ، رجلٌ من بني عبد الدَّار ، فقال لها : ما لي أراك متجمِّلةً ، لعلَّك تريدين النِّكاح ، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ ، قالت سبيعة : فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قالت : فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتَّزويج ، إن بدا لي .
ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة ، وقال ابن عبَّاس : لا عدَّة عليها قبل الدُّخول .
فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها
اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد ، إذا توفِّي عنها سيِّدها ، فقال سعيد بن المسيَّب ، والزُّهريُّ ، والحسن البصريُّ ، وجماعةٌ : عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ ، وبه قال الأوزاعيُّ ، وإسحاق .
وروي عن عليٍّ ، وابن مسعود : أن عدَّتها ثلاث حيضٍ ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي .
قال مالكٌ : لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة ، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة ، فهاهنا يكفيها الشُّهور ، وهذا خلاف ظاهر الآية ، فإن ارتابت ، استبرأت نفسها من الرِّيبة؛ كما أنَّ ذات الأقراء ، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط .
فصل
إذا مات الزوج ، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلَّة ، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً ، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً ، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ .
وإن مات ، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة ، وكمل العشرين من الشَّهر السادس .
فصل في كون الآية ناسخة
أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول ، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني ، فإنّه أبى نسخها ، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى . والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول .
فصل في ابتداء هذه المدَّة ، فقال بعضهم : ابتداؤها من حين العلم بالوفاة؛ لقوله تعالى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص ، والقصد لا يكون إلا مع العلم .
وقال الأكثرون : ابتداؤها من حيث الموت؛ لأنَّه سببها ، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها ، ثم بلغها خبر الوفاة ، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة .
فصل في وجوب نفقة الحامل
قال القرطبيُّ : أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة؛ لقوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها ، فقال ابن عبّاس ، وسعيد بن المسيَّب ، وعطاء ، والحسن ، وعكرمة ، ويحيى الأنصاريُّ ، وربيعة ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : ليس لها نفقةٌ ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي .
وروي عن عليّ ، وعبدالله : أنَّ لها النفقة من جميع المال ، وبه قال ابن عمر ، وشريحٌ ، وابن سيرين ، والشَّعبيُّ ، وأبو العالية ، والنَّخعيُّ ، وحماد بن أبي سلمان ، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ ، وأبو عبيدٍ .
فصل
روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة ، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ .
فصل
احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام؛ بقوله تعالى : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } قالوا : هذا خطابٌ مع المؤمنين ، فاختصَّ بهم ، وجوابه أنَّ المؤمنين ، لمَّا كانوا هم العالمين بذلك ، خصَّهم بالذِّكر؛ كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ؛ لقوله تعالى : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] .
قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : مِن اختيار الأَزواج دون العقد ، فإن العقد إلى الوَلِيِّ .
وقيل : فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع .
فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ
يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة ، وهو الامتناع من الزِّينة والطّ ] ب ، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان ، سواء كان فيه طِيبٌ أو [ لم يكن ] ، [ ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيبٌ ، فلا يجوز ] ، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ ، كالكُحْل الأسود ، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه ، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله ، وسليمان بنُ يسارٍ ، وعطاءٌ والنخعيُّ ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الراي .
وقال الشَّافعيُّ : تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً .
قالت أمُّ سلمة : دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تُوُفِّي أبو سلمة ، وقد جعلت عليَّ صبراً ، فقال : إنَّه يَشُبُّ الوجه ، فلا تجعليه إلاَّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار .
ولا يجوز لها الخضابُ ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب ، ولُبْسُ الصوف والوبر ، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ؛ كالأَحمر ، والأصفر ، والأَخضر النَّاضر ، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ .
وقال سفيان : لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ .
فصل في العدة في بيت الزوج
قال القرطبيُّ : إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن ، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه ، وعليه أكثرُ الفقهاءِ ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة ، فلها السكنى في مدَّة العدَّة؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن - : « أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ » .
وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء ، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء ، فالذي في « المُدَوَّنَة » أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت ، وإن كان مُوسِراً؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يمكله مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً ، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً ، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده ، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلاَّ بالميراثِ ، دون السُّكْنَى؛ لأنَّ ذلك مالٌ ، وليس بسكْنَى . ورُوي عن مالكٍ : أن الكِراء لازمٌ للميِّت في ماله .
فصل
ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة ، ولا تبينُ إِلاَّ في منزلها ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر » يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها ، وبه قال أبو حنيفة ، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد؛ كالمسلمة ، وبه قال الشافعيُّ .
فصل
والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار ، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة ، ولا على صغيرة ، وقال الحسن : الإحْدَادُ ليس بواحبٍ .
قوله : { بالمعروف } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ حالاً من فاعل « فَعَلْنَ » ، أي : فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له .
والثاني : أنه مفعولٌ به ، أي : تكونُ الباءُ باءَ التعدية .
الثالث : أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ ، أي : فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف ، أي : كائناً ، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه : أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ ، أي : فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف ، وهو الوجهُ الرابعُ .
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ } متعلق ب « خَبِيرٌ » ، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ ، و « مَا » يجوزُ أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكونَ بمعنى « الذي » أو نكرةً موصوفة ، وهو ضعيفٌ ، وعلى هذين القولين ، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه ، إلا على رأي ضعيفٍ .
فصل
تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } قالوا : وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ .
والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء ، أو الحُكَّام؛ كما تقدَّم ، وتقدير الآية : لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم ، ثم قال : { فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } أي : ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن ، وذلك هو الحلالُ من التزويج إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة ، والله أعلم .
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
قال القرطبيُّ : لا جناح ، أي : لا إِثْمَ والجناحُ : الإثمُ ، وهو أصح في الشَّرع .
وقيل : بل هو الأَمر الشاقُّ ، وهو أصحُّ في اللغة؛ قال الشَّمَّاخ : [ الوافر ]
1135- إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً ... تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ
و « التَّعْريضُ » في اللغة : ضدُّ التصريح ، ومعناه : أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده ، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده ، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ .
وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء ، وهو جانبُهُ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ؛ ولا يظهر ، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه : جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك ، ولأنْظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قال : [ الطويل ]
1136- . . ... وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا
والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه ، والفرقُ بين الكناية والتعريض : أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ ، كثيرُ الرماد؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً ، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً ، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف ، وغيرهم ، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره ، إلاَّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود .
وقال الفراء : الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب ، وهي مثل قولك : إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد : القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ ، والخَطْب : الحاجة ، ثم خُصَّت بالتماس النكاح؛ لأنه بعضُ الحاجات ، يقال : ما خَطْبُكَ؟ أي : ما حاجتُك . وفي اشتقاقه وجهان :
الأول : الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ؟ أي : ما شأنُكَ؟ فقولهم : خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً ، أي : سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها .
والثاني : أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ ، يقال : خَطَبَ المرأة ، أي : خاطبها في أمر النِّكاح ، والخطب : الأمر العظيم؛ لأ ، َّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ . والخطبة بالضَّم ، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول : نِكْحٌ .
قوله تعالى : { مِنْ خِطْبَةِ النسآء } في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : الهاءُ المجرورةُ في « بِهِ » .
والثاني : « مَا » المجرورة ب « فِي » ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ ، وقال أبو البقاء : حالٌ من الهاءِ المجرورةِ ، فيكونُ العاملُ فيه « عَرَّضْتُمْ » ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من « مَا » فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ . قال شهاب الدين : وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ؛ على ما تقرَّر ، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ ، فقد يجوزُ له ذلك .
والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب - : من كلام وقصدٍ ، واستلطافٍ ، بفعل أَو قولٍ . يقال : خطبها يخطبها خطباً ، أو خطبةً ، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ ، والخطيبُ : الخاطِبُ ، والخِطِّيبَى : الخِطْبة ، والخطبة فعلهُ : كجلسةٍ ، وقعدةٍ ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح ، وغيره .
قال النحاس : « والخُطبة » ما كان لها أَوَّل وآخر ، وكذلك ما كان على فعله ، نحو الأَكلة ، والضَّغطَة .
فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة
التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة ، وهو أَنْ يقول : رُبَّ راغبٍ فيك ، ومَنْ يجدُ مثلك ، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ ، إنّك عليّ كريمةٌ ، إنِّي فيك لراغِبٌ ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج ، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني ، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك ، ونو ذلك من الكلامِ ، من غير أَنْ يقول : أَنْحكيني .
والمرأةُ تجيبه بمثله ، إِنْ رغبتْ فيه .
وقال إبراهيم : لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة ، إذا كانت غير شابةٍ .
روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة؛ بانت من زوجها ، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها ، وقال : يا ابنة حنظلة ، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحقَّ جَدِّي عليِّ ، وقدَمي في الإسلام ، فقالت له سُكينة : أَتخطبني وأنا في العدَّة ، وأَنْتَ يؤخذُ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أُمِّ سلمة ، وهي في عِدَّةٍ من زوجها ، أبي سلمة ، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله - عز وجلَّ - وهو متحامِلٌ على يده؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده .
فصل
والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ :
الأول : التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً ، وتصريحاً ، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلاَّ أَنْ يكونَ خطبها غيره؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ » ، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ :
الحالة الأولى : أَنْ يخطب الرجلُ ، فيجاب صريحاً؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها .
الحالة الثانية : أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً؛ فها هنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها .
الحالة الثالثة : ألاَّ يوجد صريحُ الإجابة ، ولا صريحُ الرَّدِّ؛ فهاهنا فيه خلافٌ .
فقال بعضهم تجوزُ خطبتها؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ .
وقال مالكٌ : لا يجوزث ، وهو القديمُ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا ، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة ، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة .
القسم الثاني : التي لا تجوز خِطْبتُها؛ لا تصريحاً ، ولا تعريضاً ، وهي زوجة الغير؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها ، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب ، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج ، والتسبب إلى هذا حرامٌ ، والرجعية كذلك؛ لأنها في حكم الزوجة؛ لصحة طلاقها ، وظهارها ، ولعانها ، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان .
القسم الثالث : أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض ، والتَّصريح ، وهي المعتدة غير الرجعيَّة ، وهي ثلاثة أقسامٍ :
الأول : المعتدة عِدَّة الوفاةِ ، يجوز خطبتها تعريضاً؛ لقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء } فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية ، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح ، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافشهِ ، والمعنى يُؤكِّدُه؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فربما حملها الحِرص على النكاح ، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ ، فإنَّه يحتمل غير ذلك ، فلا يدعوها إلى الكذب .
الثاني : المعتدةُ عن الطلاق الثلاث ، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ .
فقيل : يجوز التعريض بخطبتها ، لأنّها ليست في نكاحٍ ، فأشبهت المتوفى عنها .
وقيل : لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها؛ لرغبتها في الخُطَّاب .
الثالث : البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة ، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ ، أَو إعسار نفقةٍ ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ ، والتعريضُ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج ، فلا يحلُّ له التصريحُ ، وفي التعريض خلافٌ ، والصحيحُ : أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها ، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية .
وقيل : هي كالمتوفَّى عنها زوجها ، والمطلقة ثلاثاً .
قوله تعالى : { وْ أَكْنَنتُمْ } « أَوْ » هنا للإباحةِ ، أو التخيير ، أو التفصيلِ ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ ، « وأَكَنَّ » في نفسِهِ شيئاً ، أي : أَخْفَاهُ ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه : أي سَتَرَهُ به ، فالهمزةُ في « أَكَنَّ » للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك « أَشْرَقَتْ ، وشَرَقَتْ » .
وقال الفراءُ : للعرب في « أَكْنَنْتُ الشَيْءَ » أي : سترتهُ ، لغتان : كنَنْتُه ، وأَكْنَنْتُه في الكِنِّ ، وفي النَّفْس؛ بمعنى ، ومنه { مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [ القصص : 69 ] ، و { بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] وفرَّق قومٌ بينهما ، فقالوا : كننتُ الشيء ، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ ، وإن لم يكن مستُوراً يقال : دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج؛ وأمَّا « أَكْنَنْتُ » فمعناه : أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ ، ويستره عن غيره ، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت ، ومفعول « أكنَّ » محذوفٌ يعودُ على « ما » الموصولة في قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } أي : أو أكْنَنْتُمُوهُ ، ف { في أَنْفُسِكُمْ } متعلِّقٌ ب { أَكْنَنتُمْ } ، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ .
فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض
استدلَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [ لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح ، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف ] لا يوجب الحد .
وأُجيب بأنّ الله - تعالى - لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة ، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف والأعراضِ يجب صيانتها ، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح .
فصل في المقصود من الآية
والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة ، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها .
فإن قيل : إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها ، ولا يذكر باللِّسان شيئاً ، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة ، كان قوله بعد ذلك { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } جارٍ مجرى إيضاح الواضحات .
فالجواب : ليس المرادُ ما ذكرتم ، بل المرادُ أنّه أباح التعريض ، وحرّم التصريح في الحالِ ، ثم قال : { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } والمرادُ : أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ ، وحرَّم التصريح في الحالِ ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة ، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك ، فقال : « عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ » لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح ، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم ، والتَّمَنِّي ، فلمّا كان دفع هذا الخَاطر ، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج ، وأباحَ له ذلك ، ثُمَّ قال : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله ، وهي قوله : { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ ، ووجوهٍ متعددةٍ ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص ، ولو لم يُسْتَدْرَكْ ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ ، وهو نظيرٌ : « زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً ، ولَكِنْ [ لاَ ] يواجهُهُ بِشَرٍّ » ، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً ، من جملتها مواجته بالشَّرِّ ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها .
والثاني : - قاله أبو البقاء - : أنه مستدرَكٌ من قوله : { فِيمَا عَرَّضْتُمْ } وليس بواضحٍ .
والثالث : - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل « لَكِنْ » تقديرُهُ : « فَاذْكُرُوهُنَّ ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً » وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه ، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ « لَكِنْ » وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى ، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ .
قوله : { سِرّاً } فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكونَ مفعولاً ثانياً .
والثاني : أنه حالٌ من فاعلِ « تُوَاعِدُوهُنَّ » ، أي : لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك .
والثالث : أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ ، أي : مواعدةً سِرّاً .
والرابع : أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف ، أي : المواعدةَ مستخفيةً .
والخامس : أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً ، أي : في سِرٍّ .
وعلى الأقوالِ الأربعةِ : فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ ، تقديرهُ : لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً .
والسِّرُّ : ضدُّ الجهرِ : وقيل : يُطْلَقُ على الوَطْءِ ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة : [ الوافر ]
1137- وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ
وقول الآخر - هو الأعشى - : [ الطويل ]
1138- وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا
وقال الفرزدق : [ الطويل ]
1139- مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلاَّ مِنَ أهْلِهَا ... وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ
أي : الذي شَغفه بهن ، يعني : أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلاَّ من أَزواجِهِنَّ؛ وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1140- أَلاَ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني ... كَبِرتُ وَأَلاَّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي
فصل في بيان السر في الآية
اختلفوا في السِّرِّ هنا ، فقال قومٌ : هو الزِّنا ، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح ، ويقول لها : دعيني أُجامِعْكِ ، فإذا وَفَيْتِ عشدَّتك ، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن ، وقتادة ، وإبراهيم ، وعطاءٌ ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس .
وقال زيد بن أسلم : أي : لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت ، أظهرت ذلك .
وقال مجاهدٌ : هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك ، فإنِّي ناكِحُك . وقال الشعبيُّ ، والسدِّيُّ : لا يؤخَذُ ميثاقها ، ألاَّ ينكح غيرها . وقال عكرمة : لا يخطبها في العِدَّة .
وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس : أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ الجماع ، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسة ، وأشباه ذلك ، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ .
فصل في كراهة المواعدة في العدّة
حكى القرطبيُّ ، عن ابن عطيَّة ، قال : أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأَبِ في ابنته البِكْر ، والسيّد في أمتِه . قال ابن المواز : وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر ، فأكرهُهُ .
وقال مالكٌ - رحمه اللهُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة ، ثم يتزوج بعدها : فراقها أَحَبُّ إليّ ، دخل بها ، أو لم يدخل ، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ ، وروى أشهب عن مالكٍ ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً ، وقاله ابنُ القاسِمِ ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون ، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة ، وصرَّحت له بالإجابة ، ولم ينعقد النكاح [ حتى ] تنقضي العِدَّة ، فالنكاح ثابت [ والتصريح لهما مكروهٌ ]
قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ } في هذا الاستثناءِ قولان :
أحدهما : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنه لا يندرج تحت « سِرّ » على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به ، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً .
والثاني : أنه متصلٌ ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال : فَإِنْ قلتَ : بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء؟ [ قلتُ ] : ب { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ ، أو لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا ، أي : لا تواعِدُوهُنَّ إلاَّ بالتعريضِ ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من « سِرّاً » ؛ لأدائِهِ إلى قولك : « لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلاَّ التعرِيضَ » انتهى ، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين :
الأول : أنه مستثنىً من المصدرِ؛ ولذلك قدَّره : لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلاَّ مواعدةً معروفةً .
والثاني : أنه من مجرور محذوفٍ؛ ولذلك قَدَّره ب « إِلاَّ بَأَنْ تَقُولُوا » ؛ [ لأنَّ التقدير عنده : لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ ، إلا بَأَنْ تقولُوا ، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا ] بالتعريض ، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من « أَنْ » ، وهي باءُ السببيةِ بقي في « أَن » الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ؟ وقوله : « لأدائِهِ إلى قولك . . . إلى آخره » يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه ، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ ، وأنت لو قلْتَ : « لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إِلاَّ التَّعْرِيض ليس مواعداً .
وردَّ عليه أبو حيان : بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه ، بل هو على قسمين : قسم يَصِحُّ فيه ذلك ، وفيه لغتان : لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً ، نحو : » مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَاراً « ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل ، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه . وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك ، نحو : » مَا زَادَ إِلاَّ مَا نَقَصَ « ، و » مَا نَفَعَ إِلاَّ مَا ضَرَّ « ، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً ، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب » لَكِنْ « عند البصريين ، إلاَّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك : » مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَار « لو قلت : » مَا جَاءَ إِلاَّ حِمَارٌ « ، صَحَّ؛ بخلافِ القسمِ الثاني؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً .
فصل في القول المعروف ما هو؟
قال بعضُ المفسرين : هو التعريض بالخطبة .
وقال آخرون : لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض ، ثم نهي عن المسارَّة معها؛ دفعاً للريبةِ ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفُّل بمصالحها؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة ، مُؤكَّداً لذلك التعريض .
قوله : { وَلاَ تعزموا } في لفظ » العَزْمِ « وجوه :
الأول : أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ ، قال تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } [ آل عمران : 159 ] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ » عَلَى « فيقال : فلان عزم على كذا ، فيكونُ تقدير الآيةِ : » ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابث أَجَلَهُ « والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة ، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه ، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى .
الثاني : أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب ، يقال : عزمتُ عليكم ، أي : أَوجبتُ ، ويقال هذا من باب العزائم ، لا من باب الرُّخَصِ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام - » عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا « وقال : » إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ «
، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى ، وبالوجه الأول لا يجوز .
وإذا ثبتَ هذا فنقولُ : الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً ، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ ، وعلى هذا فقوله : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } ، أي : لا تحقِّقُوا ، ولا تُنْشئَوا ، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين .
الثالث : قال القفَّال : إنما لم يقُلْ : ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ : ولا تعقدوا عُقْدة .
قال القرطبيُّ : عزم الشيء عليه قال تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } [ البقرة : 227 ] وقال هنا : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } . وحكى سيبويه : ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي : « عَلَى » .
قال سيبويه : والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه .
وقال النحاسُ : ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى « تَعْزِمُوا » و « تَعْقِدُوا » واحدٌ .
ويقال : تعزُمُوا ، بضم الزاي .
فصل
اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ .
الأولى : أن يسنح له ذلك الفعل ، ومعنى « يَسْنَحْ له » : أن يَجْنح إلى فعله ، ويعرضُ له فعله .
وثانيها : أَنْ يفكِّر في فعله ، بمعنى أن يفعله ، أم لا . وثالثها : أن يخطِرَ بباله فعله ، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه . ورابعها : أن يريدُ فِعْلَهُ .
وخامسها : أَنْ يَهمّ بفعله ، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ .
وسادسها : أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله .
فصل في أصل العقد
وأَصل العقد : الشدُّ ، والمعهود ، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق .
قوله : « عُقْدَةَ » في نصبه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن « عَزَمَ » معنى ما يتعدَّى بنفسه ، وهو : تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا ، ونحو ذلك .
والثاني : أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر ، وهو « عَلَى » ؛ فإنَّ « عَزَمَ » يتعدَّى بها ، قال : [ الوافر ]
1141- عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ
وحذفها جائز ، كقول عنترة ، [ الكامل ]
1142- وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ
أي : وَأَظَلُّ عليه .
والثالث : أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى : ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو : قعدت جلوساً ، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول ، والفاعل محذوفٌ ، أى : عُقْدتكم النِّكاح .
قوله تعالى : { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } فى « الكتاب » وجهان :
أحدهما : أن المراد به المكتوب ، والمعنى : حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها .
الثانى : أن يكون المراد « الكتابَ » نفسه ، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] فيكون المعنى : حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته ، وقال تعالى : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] أى : مفروضة .
قال القرطبى : وقيل : فى الكلام حذف ، أى : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن .
ثم قال تعالى : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ } وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ ، والعلانية ، فالهاء فى « فاحذروه » تعود على الله تعالى ، ولا بدَّ من حذف مضاف ، أى : فاحذروا عقابه . ويحتمل أن تعود على « مَا » فى قوله « مَا فِى أَنْفُسِكُمْ » بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز ، قاله الزمخشريُّ .
ثم قال : { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : لا يعجِّل بالعقوبة .
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
قوله : « مَا لَمْ » فى « مَا » ثلاثة أقوالٍ :
أظهرها : أن تكون مصدريةً ظرفيةً ، تقديره : مدَّة عدم المسيس ، كقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 107 ] وقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] .
وقول الآخر : [ الكامل ]
1143- إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي ... وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي
مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي
والثاني : أن تكون شرطيةً ، بمعنى « إِنْ » نقله أبو البقاء . وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط ، فيكون الثانى قيداً فى الأول؛ نحو : « إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ » أي : إن أتيت محسناً ، وكذا فى الآية الكريمة : إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ ، بل الظاهر : أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ « مَا » الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة ، ولذلك تقتضي التعميم .
والثالث : أن تكون موصولة بمعنى « الَّذِي » ، وتكون للنساء؛ كأنه قيل : إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئى لم تمسُّوهنَّ ، وهو ضعيفٌ ، لأنَّ « مَا » الموصولة لا يوصف بها ، وإن كان يوصف ب « الَّذِي » ، و « الَّتي » ، وفروعهما .
وقرأ الجمهور : « تَمَسُّوهُنَّ » ثلاثيّاً وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] . وقرأ حمزة والكسائيُّ فى الأحزاب « تُمَاسُّوهُنَّ » من المفاعلة ، فيحتمل أن يكون « فَاعَلَ » بمعنى « فَعَلَ » ك « سَافَرَ » ، فتوافق الأولى ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] ، وأيضاً : فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة ، ولذلك قيل لها زانيةٌ ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو : نَكَحَ ، فَرَعَ ، سَفَدَ ، وضَرَبَ الفَحْلُ .
قال تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } [ الرحمن : 74 ] ، وقال : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } [ النساء : 25 ] ، وأمّا قوله فى الظّهار : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } [ المجادلة : 3 ] فالمراد به المماسَّة التى هي غير الجماع ، وهي حرام فى الظهار .
قوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ } فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أنه مجزوم عطفاً على « تَمَسُّوهُنَّ » ، و « أَوْ » على بابها من كونها لأحد الشيئين ، قاله ابن عطيَّة .
والثاني : أنه منصوب بإضمار « أَنْ » عطفاً على مصدر متوهِّم ، و « أَوْ » بمعنى « إِلاَّ » ، التقدير : ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم : « لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي » قاله الزمخشريُّ .
والثالث : أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ ، تقديره : « فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا » ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله ، وهو ضعيفٌ جدًّا ، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ « لَمْ » موجوداً قبل ذلك .
والرابع : أن تكون « أَوْ » بمعنى الواو .
قال تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] أي : وهم قائلون { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] أي : ويزيدون ، وقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى } [ النساء : 43 ] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط ، وأنتم مرضى أو مسافرون .
قال ابن الخطيب : فإذا تأمَّلت هذا القول ، علمت أنّه متكلفٌ ، بل خطأٌ قطعاً ، والفرض في اللغة : التقدير ، أي : تقدِّروا لهن شيئاً .
قوله : « فَرِيضَةً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعولٌ به ، وهو بمعنى مفعولة ، أي : إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً .
والثاني : أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً ، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال : « وأَنْ يكونَ مفعولاً به ، وهو الجَيِّدُ » والموصوف محذوفٌ ، تقديره : متعةً مفروضةً .
فصل في سبب النزول
هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً ، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها؛ فنزلت هذه الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك » .
قوله : « وَمَتِّعُوهُنَّ » : قال أبو البقاء : « وَمَتِّعُوهِنَّ » معطوف على فعل محذوفٍ ، تقديره : « فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ » ، وهذا لا حاجة إليه؛ فإنَّ الضمير المنصوب في « مَتِّعُوهُنَّ » عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس ، وقبل الفرض ، المذكورين في قوله : { إِن طَلَّقْتُمُ النسآء . . . } إلى آخرها .
فإن قيل : ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس ، وليس كذلك ، فإنّه لا جناح عليه - أيضاً - بعد المسيس .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض ، وغيره؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً .
الثاني : ما قدمناه من أنَّ « مَا » بمعنى « الذي » ، والتقدير : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ؛ إلاَّ أنَّ « ما » اسمٌ جامدٌ لا ينصرف ، ولا يبين فيه الإعراب ، وعلى هذا فلا تكون « مَا » شرطاً فزال السؤال .
الثالث : قال القفال : إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر ، وتقديره : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة ، يعني : لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين ، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر .
قال ابن الخطيب : وهذا ظاهر ، وبيان أنّه قوله : « لاَ جُنَاحَ » معناه : لاَ مَهْرَ؛ لأنَّ إطلاق لفظ « الجنَاحِ » على المهر محتملٌ؛ لأن أصل الجناح في اللغة : الثقل ، يقال : جَنَحتِ السفينة ، إذا مالت بثقلها ، والذنب يسمَّى جناحاً؛ لما فيه من الثِّقل ، قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل ، ولزوم أداء المال ثقل ، فكان جُنَاحاً ، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان :
الأول : أنه تعالى قال : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } نفى الجناح محدوداً إلى غاية ، وهي إمَّا المسيس ، أو الفرض والتقدير ، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين ، هو لزوم المهر .
الوجه الثاني : أنَّ تطليق النساء قبل المسيس ، وبعد تقدير المهر ، وهو المذكور في الآية التي بعدها ، هو تقدير المهر ، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له ، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك ، هو المثبت ها هنا ، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها ، هو لزوم المهر ، وجب أن يقال : الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر .
قوله : { لَى الموسع قَدَرُهُ } جملةٌ من مبتدأ وخبر ، وفيها قولان :
أحدهما : أنها لا محلَّ لها من الإعراب ، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره .
والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، وذو الحال فاعل « مَتِّعُوهُنَّ » .
قال أبو البقاء : « تقديره : بقَدر الوُسْعِ » ، وهذا تفسير معنًى ، وعلى جعلها حاليةً : فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها ، وهو محذوفٌ ، تقديره : على المُوسِع مِنْكُمْ ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم : أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه ، تقديره : « عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ » .
وقرأ الجمهور : « المُوسِعِ » بسكون الواو وكسر السين ، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين ، اسم مفعولٍ من « وَسَّعَ » . وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً : « قَدَرهُ » بفتح الدال في الموضعين ، والباقون بسكونها .
واختلفوا : هل هما بمعنًى واحدٍ ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش ، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ ، حكى أبو زيدٍ : « خُذْ قَدَرَ [ كَذَا ] وقَدْرَ كَذَا » ، بمعنًى واحدٍ ، قال : « ويُقْرَأُ في كتاب الله : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [ الرعد : 17 ] ، و » قَدْرِهَا « ، وقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] ولو حركت الدال ، لكان جائزاً . وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان ، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد ، والمدِّ والمدد ، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع ، يقال : » هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ « أي وسعه ، وقيل : بالتَّسكين الطاقة ، وبالتحريك المقدار ، قال أبو جعفر : » وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ ، إذا كان مساوياً للشيء ، يقال : هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا « .
وقرأ بعضهم بفتح الراء ، وفي نصبه وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً على المعنى .
قال أبو البقاء : وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى » مَتِّعُوهُنَّ « [ لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ » وشرح ما قاله : أن يكون من باب التضمين ، ضمَّن « مَتِّعُوهُنَّ » ] معنى « أَدُّوا » .
والثاني : أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ ، تقديره : فأوجبوا على الموسع قدره ، وجعله أبو البقاء أجود من الأول ، وفي السَّجاونديِّ : « وقال ابن أبي عبلة : قَدَرَهُ ، أي : قَدَرَهُ اللهُ » انتهى .
وظاهر هذا : أنه قرأ بفتح الدال والراء ، فيكون « قَدَرَهُ » فعلاً ماضياً ، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى ، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من « مَتِّعُوهُنَّ » ، والمعنى : أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر .
قوله : « مَتَاعاً » في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدر ، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع ، فهو من باب : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . وقال أبو حيَّان : قالوا : انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ : أن المتاع هو ما يمتع به ، فهو اسمٌ له ، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز ، والعامل فيه : « وَمَتِّعُوهُنَّ » قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر ، فلا يجوز ، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم : « تِرْباً وَجَنْدَلاً » و « أَقَائِماً ، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ » ، والصحيح أن « تِرْباً » ونحوه مفعولٌ به ، و « قائماً نصبٌ على الحال .
[ والثاني من وجهي » مَتَاعاً « أن ينتصب على الحال ] ، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل ، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل ، والتقدير : قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً .
قوله : » بالمعروف « فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق ب » مَتِّعُوهُنَّ « ، فتكون الباء للتعدية .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل » مَتَاعاً « ؛ فيكون في محلِّ نصبٍ ، والباء للمصاحبة ، أي : متاعاً ملتبساً بالمعروف .
قوله : » حَقّاً « في نصبه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك : » هَذَا ابْنِي حَقّاً « وهذا المصدر يجب إضمار عامله ، تقديره : حَقَّ ذلك حقّاً ، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله .
والثاني : أن يكون صفةً ل » مَتَاعاً « ، أي : متاعاً واجباً على المحسنين .
والثالث : أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه » مَتَاعاً « وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال .
والرابع : أن يكون حالاً من » المَعْرُوفِ « ، أي : بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين ، و » عَلَى المُحْسِنِينَ « يجوز أن يتعلَّق ب » حَقًّا « ؛ الواجب ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له .
فصل
اعلم أن المطلقات أربعة أقسام :
القسم الأول : وهو ألاَّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً ، وأخبر أن لهن كمال المهر ، وعليهن العدَّة .
القسم الثاني : المطلقة قبل الدُّخول ، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها ، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على غير المدخول بها؛ فقال :
{ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] .
القسم الرابع : المطلقة بعد الدُّخول ، ولم يكن فرض لها ، وحكم هذا القسم ، مذكورٌ في قوله تعالى : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 24 ] .
والقياس أيضاً يدلّ عليه ، فإنّ الأمَّة مجمعةً على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل ، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ ، أولى بهذا الحكم .
فصل
تمسك بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ ، قالوا : لأن قوله : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء } يتناول جيميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها ، فيقال : لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح ، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً .
قال ابن الخطيب : وهذا الاستدلال ضعيفا؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود ، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً ، ولهذا قلنا : إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، كما إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار ، فأنت طالقٌ ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط ، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع ، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر ، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين ، مع أنَّه يصحُّ أن يقال : صلِّ إلاَّ في الوقت الفلانيّ .
فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر
قال بعض العلماء : دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ .
وقال القاضي : لا تدلُّ على الجواز ، لكنها تدلُّ على الصِّحة ، فإنّه لو لم يكن صحيحاً ، لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تلزم المتعة ، ولا يلزم من الصِّحة الجواز ، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ .
فصل
بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض ، لها المتعة ، وقد تقدّم تفسير « المُتْعَةِ » في قوله : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة } [ البقرة : 196 ] .
واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول ، إن كان قد فرض لها ، فلا متعة لها في قول الأكثرين؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر ، ولم يذكر المتعة ، ولو كانت واجبةً ، لذكرها . وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة؛ لهذه الآية .
قال القرطبي : من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ ، فليدفع ذلك إليها ، وإن تزوَّجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ، رواه ابن المواز ، عن ابن القاسم .
وقال أصبغ : لا شيء عليه ، إن ماتت؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق ، وقد فات ذلك .
ووجه الأول : أنه حقٌّ ثبت عليه ، فينتقل إلى ورثتها ، كسائر الحقوق .
واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول ، فذهب جماعةٌ : إلى أنه لا متعة لها؛ لأنها تستحق المهر ، وهو قول أصحاب الرأي .
وذهب جماعةٌ : إلى أنَّ لها المتعة؛ لقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف } [ البقرة : 241 ] ، وهو قول عبدالله بن عمر ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، والقاسم بن محمد ، وإليه ذهب الشافعيُّ قال : لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع ، ولها المتعة على وحشة الفراق .
وقال الزُّهريُّ : متعتان يقضي بإحداهما السلطان ، وهي المطلقة قبل الفرض ، والمسيس ، وهي قوله : { حَقّاً عَلَى المحسنين } ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله : « حَقّاً عَلَى المتَّقين » .
وذهب الحسن ، وسعيد بن جبير : إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ ، سواء كان قبل الفرض ، والمسيس ، أو بعده؛ كقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف } [ البقرة : 241 ] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب : { فَمَتِّعُوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] وقال الآخر : المتعة غير واجبةٍ ، والأمر بها أو ندبٍ ، واستحباب .
روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته ، وقد دخل بها؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة؛ فقال شريحٌ : لا تأب أن تكون من المحسنين ، ولا تأب أن تكون من المتَّقين ، ولم يجبره على ذلك .
فصل في بيان مقدار المتعة
اختلفوا في قدر المتعة ، فروي عن ابن عباس : أعلاها خادمٌ ، وأوسطها ثلاثة أثواب : درع ، وخمار ، وإزار ، ودون ذلك وقاية ، أو شيء من الورق .
وبه قال الشَّعبيُّ ، والزُّهريُّ ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد . قال الشافعي : أعلاها على الموسع : خادم ، وأوسطها : ثوبٌ ، وأقلُّها : أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً ، « وَعَلَى المقتر » مقنعة .
وروي عن ابن عباس أنّه قال : أكثر المتعة خادمٌ ، وأقلها مقنعة ، وأيُّ قدر أدَّى ، جاز في جانبي الكثرة ، والقلة .
وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء ، أي : متَّعها .
ومتَّع الحسن بن عليٍّ امراته بعشرة آلاف درهم ، فقالت : متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق .
وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، قال : لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر ، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها ، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى ، إذا طلَّقت قبل الدُّخول ، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى .
فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر .
دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج : في الغنى ، والفقر؛ لقوله : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ } .
وقال بعض العلماء : يعتبر حالهما وهو قول القاضي .
وقال أبو بكرٍ الرَّازي : يعتبر في المتعة حال الرجل؛ للآية ، وفي مهر المثل حالها ، وكذلك في النفقة ، واحتج القاضي بقوله : « بالمعروف » فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة ، الوضيعة .
فصل
إذا مات أحدهما قبل الدُّخول ، والفرض؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر ، أم لا؟ فذهب عليٌّ ، وزيد بن ثابتٍ ، وعبد الله بن عمرن وعبدالله بن عباسٍ : إلى أنَّه لا مهر لها ، كما لو طلَّقها قبل الفرض ، والدخول .
وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر ، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى ، فكذلك في إيجاب مهر المثل ، إذا لم يكن في العقد مسمى ، وهو قول الثَّوريَّ ، وأحمد ، وأصحاب الرَّأي .
واحتجَّوا بما روى علقمة ، عن ابن مسعود : أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً ، ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يدخل بها حتى مات .
قال ابن مسعود : لها صداق نسائها؛ لا وكس ، ولا شطط؛ وعليها العدَّة ، ولها الميراث؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ ، فقال : « قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ » ، ففرح بها ابن مسعود .
وقال الشَّافعيُّ : فإن ثبت حديث بروع بنت واشق ، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صلى الله عليه وسلم . وإن لم يثبت ، فلا مهر لها؛ ولها الميراث . وكان عليٌّ - رضي الله عنه - يقول في حديث بروع : لا تقبل قول أعربيٌّ من أشجع ، على كتاب الله ، وسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فصل في اختلافهم في الخلوة
إنَّما خصَّ المحسنين؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان ، كقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 45 ] .
وقال أبو مسلم : من أراد أن يكون من المحسنين ، فهذا شأنه ، وطريقه ، والمحسن : هو المؤمن؛ فيكون المعنى : أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين ، وقيل : « حَقّاً عَلَى المحسنين » إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى .
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها .
واختلف أهل العلم في الخلوة ، فقال الشَّافعيُّ : إنها تقرر نصف المهر .
وقال أبو حنيفة : الخلوة الصَّحيحة : أن يخلو بها ، وليس هناك مانعٌ حسي ، ولا شرعيٍّ ، فالحسِّي : كالرَّتق ، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ .
والشرعي : كالحيض ، والنُّفاس ، وصوم الفرض ، وصلاة الفرض ، والإحرام المطلق؛ فرضاً كان ، أو نفلاً .
واحتجَّ الشَّافعيُّ : بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر؛ لأن قوله تعالى : { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } ليس كلاماً تاماً ، بل لا بدَّ من إضمار ، [ شيءٍ ، ليتم ] الكلام ، فإمَّا أن يضمر : « فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ » ، أو يضمر : « فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ » ، والإضمار الأوّل هو المقصود؛ لوجوه :
أحدها : أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة « إِنْ » عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً؛ فلو حملناه على الوجوب ، تركنا العلم بمقتضى التعليق ، لأنّه غير منفي قبله ، وإذا حملناه على السقوط ، عملنا بمقتضى التَّعليق؛ لأنه منفيٌّ قبله .
وثانيها : أنَّ قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه ، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر ، لزمه الكلُّ بقوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } [ المائدة : 1 ] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف ، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ ، فكان سقوط البعض ها هنا ، هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط ، أولى من حملها على بيان الوجوب .
وثالثها : أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر ، قد تقدمت في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة : 229 ] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى .
ورابعها : أن المذكور في هذه الآية ، هو الطلاق قبل المسيس ، وهو يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيءٍ ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى ، لا جرم استقصينا هذه الوجوه؛ لأن منهم من قال : معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجبٌ ، وتخصيص النصف بالوجوب ، لا يدلُّ على سقوط الآخر ، إلاّ من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة . وقد ذكرنا هذه الوجوه؛ دفعاً لهذا السؤال .
واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] إلى قوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] فنهى تعالى عن أخذ المهر ، ولم يفرّق بين الطلاق ، وعدم الطَّلاق ، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان ، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر ، وعلَّل بعلَّة الإفضاء ، وهي الخلوة ، لأنَّ الإفضاء : مشتقٌّ من الفضاء ، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر .
والجواب عن ذلك : بأن دليلهم عامٌّ ، ودليلنا خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ .
قوله تعالى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ } : هذه الجملة في موضع نصب على الحال ، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل ، وأن يكون ضمير المفعول؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما ، والتقدير : وإن طلقتموهن فارضين لهن ، أو مفروضاً لهنَّ ، و « فَرِيضَة » فيها الوجهان المتقدمان .
والفاء في « فَنِصْفُ » جواب الشرط ، فالجملة في محلِّ جزمٍ؛ جواباً للشرط ، وارتفاع « نِصْفُ » على أحد وجهين : إمَّا الابتداء ، والخبر حينئذٍ محذوفٌ ، وإن شئت قدَّرته قبله ، أي : فعليكم أو فلهنَّ نصف ، وإن شئت بعده ، أي : فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : فالواجب نصف .
وقرأت فرقةٌ : فَنِصْفَ « بالنصب على تقدير : » فَادْفَعُوا ، أَوْ أَدُّوا « ، وقال أبو البقاء : » ولو قُرِئَ بالنصبِ ، لكان وجهه فَأَدَّوا [ نِصْفَ ] « فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً .
والجمهور على كسر نون » نِصْف « ، وقرأ زيدٌ وعليٌّ ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو : » فَنُصْف « بضمِّ النون هنا ، وفي جميع القرآن ، وهما لغتان ، وفيه لغةٌ ثالثة : » نَصِيف « بزيادة ياءٍ ، ومنه الحديث : » مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ « .
والنَّصيف - أيضاً - : القناع ، قاله القرطبي ، والنِّصف : الجزء من اثنين ، يقال : نصف الماء القدح ، أي : بَلَغَ نِصْفَهُ ، ونَصَفَ الإزار السّاق ، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره ، فقد نصفه .
و » مَا « في » مَا فَرَضْتُمْ « بمعنى » الَّذِي « ، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً .
قوله تعالى : { إَلاَّ أَن يَعْفُونَ } في هذا الاستثناء وجهان :
أحدهما : أن يكونَ استثناءً منقطعاً ، قال ابن عطيَّة وغيره : لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ » .
والثاني : أنه متصلٌ ، لكنه من الأحوال؛ لأَنَّ قوله : « فنصفُ ما فَرَضْتُمْ » معناه : فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال ، إلا في حال عَفْوِهِنَّ ، فإنه لا يجب ، وإليه نَحَا أبو البقاء ، وهذا ظاهرٌ ، ونظيرُه : { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] وقال أبو حيان « إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ » أَنْ « وصلتُها حالاً ، كسيبويه؛ فإنه يمنعُ ذلك ، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً » .
وقرأ الحسن « يَعْفُونَهُ » بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان :
أحدهما : أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف ، والأصلُ : إِلاّض أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ .
والثاني : أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ ، وإنما ضَمَّها؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ ، كقول الآخر [ الطويل ]
1144- هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ .. . . .
على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً .
وقرأ ابن أبي إسحاق : « تَعْفُونَ » بتاءِ الخطابِ ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ ، وأنه مندوبٌ .
و « يَعْفُونَ » منصوبٌ ب « أَنْ » تقديراً؛ فإنَّه مبنيٌّ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ ، هذا رأيُ الجمهور ، وأمَّا ابن درستويه ، والسُّهَيْليُّ : فإنه عندهما معربٌ ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء بين قولك : « الرِّجَالُ يَعْفُونَ » و « النِّسَاءُ يَعْفُونَ » وإنْ كان [ هذا ] من الواضحاتِ بأنَّ قولك « الرِّجَالُ يَعْفُونَ » الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور ، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة ، فإن الأصل : « يَعْفُوونَ » ، فاسْتُقْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى ، فحُذِفت ، فبقيت ساكنةً ، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ ، فحُذِفت الواو الأولى؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان ، فوزنهُ « يَعْفُونَ » ، والنونُ علامة الرفع؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ - وأَنَّ قولك : « النِّسَاءُ يَعْفُونَ » ، الواوُ لامُ الفعل ، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ ، والفعل معها مبنيٌّ ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين : وقد ناقش الشيخ الزمخشريُّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك : « الرِّجَالُ يَعْفُونَ » ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث ، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله .
وقوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي } « أَوْ » هنا فيها وجهان :
أحدهما : هي للتنويع .
والثاني : أنها للتخيير ، والمشهورُ فتحُ الواو؛ عطفاً على المنصوبِ قبله ، وقرأ الحسن بسكونها واستثقل الفتحة على الواو ، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف ، وسائرُ العرب على استخفافها ، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل - [ الطويل ]
1145- فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ
ولمَّا سكَّن الواوَ ، حُذِفَت للساكن بعدها ، وهو اللامُ من « الَّذِي » ، وقال ابنُ عطية « والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم » وقال الخليل : « لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم » عَفْوَة « جمع عَفْو » ، وهو ولدُ الحِمَارِ ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ « انتهى . قال أبو حيَّان : فقوله : » لقلَّةِ مجيئها « ، يعني مفتوحةً ، مفتوحاً ما قبلَها ، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها : إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً ، أو كسرةً ، أو فتحةً ، فإنْ كانَتْ ضمَّةً : فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ ، فإنْ كان في فعلٍ ، فهو كثيرٌ ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ؛ نحو : » لَنْ يَغْزُوَ « ، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها؛ نحو » هلَ يَغْزُوَنَّ « ، وكذلك الأمر؛ نحو : » اغْزُوَنَّ « ، وكذا الماضي على » فَعُلَ « في التعجب؛ نحو : سَرُوَ الرَّجُل؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب ، فيقولون : » لَقَضُوَ الرَّجُلُ « ، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف ، وإنْ كان ذلك في اسم : فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث ، فيكثر أيضاً؛ نحو : عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة ، وإنْ كان قبلها فتحة ، فهو قليل؛ كما ذكر الخليل ، وإن كان قبلها كسرةٌ ، قُلِبت الواوُ ياءً؛ نحو : الغازي والغازية ، وشَذَّ من ذلك » أَفْرِوَة « جمع » فَرِوَة « ، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب ، و » سَوَاسِوَة « وهم : المستوون في الشَّرِّ ، و » مَقَاتِوَة « جمع مُقْتَو ، وهو السائسُ الخادِمُ ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [ في ] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ ، فليس قولُ ابن عطية » والَّذي عندي إلَى آخره « بظاهر .
والمرادُ بقوله : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } قيل : الزوجُ ، وقيلَ : الولِيُّ و « أل » في النكاح للعهدِ ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ ، أي : نكاحُه؛ كقوله : [ الطويل ]
1146- لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ الجُودِ ، وَالأَحْلاُمُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أي : أحلامُهم ، وهذا رأيُ الكوفيِّين . وقال بعضهم : في الكلامِ حذفٌ ، تقديره : بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ كما قيل ذلك في قوله : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح } [ البقرة : 235 ] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح ، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ .
فصل فيمن بيده عقدة النكاح
المراد بقوله : « يَعفُونَ » أي : المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ .
واختلفوا في { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } فقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وسعيدُ بن جُبير ، والشعبي ، وشُرَيحٌ ، ومجاهدٌ ، وقتادة : هو الزَّوج ، وبه قال أبو حنيفة .
وقال علقمةُ ، وعطاءُ ، والحسنُ ، والزهريُّ ، وربيعةُ : هو الولي ، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ .
واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ :
الأول : أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته ، صغيرةً كانت ، أو كبيرةً .
الثاني : أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ ، فإذا عقد ، فقد حصل النكاحُ ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج ، لا في يدِ الولي .
الثالث : روي عن جُبير بن مطعم : أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها ، فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحَقُّ بالعفوِ ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج .
واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ .
أحدها : أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ ، وذلك يكون هبةً ، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً .
وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم ، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها ، عند التزوج ، فإذا طلّق ، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها ، فإذا ترك المطالبة ، فقد عفا عنها .
وأيضاً ، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ ، يقال : فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً ، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] فعلى هذا عفو الرجل : أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ .
الثاني : أَنَّ ذكر الزَّوج ، قد تقدَّم في قوله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } فلو كان المرادُ ب { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } هو الزوج ، لقال : أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب ، علِمْنا الغائب ، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج .
وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد ، والمعنى : أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج ، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج ، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً .
الثالث : أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح أَلْبَةَّةَ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة ، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ ، وأمَّا بعد النكاح ، فقد حصل النكاحُ ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح ، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه ، وفي قُدرته عقد النكاح .
قوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ } : « أَنْ تَعْفُوا » في محلِّ رفع بالابتداء؛ لأنه في تأويل « عَفْوُكُمْ » ، و « أَقْرَبُ » خبره ، وقرأ الجمهور « تَعْفُوا » بالخطاب ، والمرادُ الرجالُ والنساءُ ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ ، والتأنيث ، قلتَ : « قَائِمَة » فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل ، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه ، وأمَّا المعنى : فلأَنَّ الكمال للذُّكور ، والنُّقصانَ للإِناثِ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير ، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ ، وهو قوله : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } - على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ - [ وهو المختارُ ] - إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية ، وقرأ الشَّعبيُّ وأبو نهيك « يَعْفُوا » بياء من تحت ، قال أبو حيَّان جعله غائباً ، وجُمِع على معنى : { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدق يعني أنَّ قوله : « وَأْنْ يَعْفُوا » أصله « يَعْفُوُونَ » ، فلمَّا دخل الناصبُ ، حُذِفت نونُ الرفعِ ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ ، جُمِعَ على معنى الموصُول؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً ، فهو مجموعٌ في المعنى؛ لأنه جنسٌ ، ويظهر فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح ، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن ، تقديره : وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح .
قوله : { للتقوى } متعلِّقٌ ب « أَقْرَبُ » وهي هنا للتعديةِ ، وقيلَ : بل هي للتعليل ، و « أَقْرَبُ » تتعدَّى تارةً باللام ، كهذه الآيةِ ، وتارةً ب « إِلَى » ؛ كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] ، وليست « إِلَى » بمعنى « اللام » ، وقيل : بل هي بمعناها ، وهذا مذهبُ الكوفيين ، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ ، ومعنى اللامِ و « إِلَى » في هذا الموضع يتقارَبُ .
وقال أبو البقاء : يجوزُ في غير القرآن : « أَقْرَبُ مِنَ التقوَى ، وإِلَى التقْوَى » ، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [ معنًى ] غير معنى « إِلَى » ، وغير معنى « مِنْ » ، فمعنى اللامِ : العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى ، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو ، وإذا قلتَ : أقربُ إلى التقوى ، كان المعنى : يقاربُ التقوى؛ كما تقول : « أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ » ، و « أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى » يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن ، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى ، وليس معنى الآية على هذا . انتهى . فجعل اللام للعلة ، لا للتعدية ، و « إِلَى » للتعدية .
واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب ، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً؛ نحو : « مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ » ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ : فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً ، تعدَّيا بالباءِ؛ نحو : « هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ » ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك ، تعدَّيا باللامِ ، نحو : « مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ » و « أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو » إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب « في » ، نحو : « مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو ، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ » وإلى الفاعل المعنويِّ ب « إِلَى » ، نحو « زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو » ، أي : إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً ، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ .
والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ ، تقديرُه : أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو ، وواوها بدلٌ من ياءٍ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً ، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة .
فصل
وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه ، فهو محسنٌ ، ومَنْ كان مُحْسِناً ، استحقَّ الثواب ، وإذا استحق الثواب ، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب ، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم ، وترك الظلم تقوى في الحقيقة؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه ، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره .
قوله : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ « تَنْسَوا » ؛ لأنها واوٌ ضمير ، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو « لَوْ » كما ضَمّوا الواو من « لَو » ؛ تشبيهاً بواو الضمير ، وقال أبو البقاء في واوِ « تَنْسَوا » من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا ، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما .
وقرأ علي رضي الله عنه : « وَلاَ تَنَاسَوا » قال ابن عطيَّة : « وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ ، لا نِسْيَانٍ ، إلاَّ على التشبيه » ، وقال أبو البقاء : « على باب المفاعلةِ ، وهي بمعنى المتاركةِ ، لا بمعنى السهو ، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة .
قوله تعالى : » بَيْنَكُمْ « فيه وجهان .
أحدهما : أنه منصوبٌ ب » تَنْسَوا « .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل ، أي كائناً بينَكثمْ ، والأولُ أَوْلَى؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ ، أي : إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها ، حثَّهما جميعاً على الإحسان ، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد ، فقال : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قال القرطبي : هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين ، والحِرمانُ لغير المحسنين ، أي : لا يخفى عليه عفوكم ، واستقضاؤكم .
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
قوله تعالى : { حَافِظُواْ } : في « فَاعَلَ » هنا قولان :
أحدهما : أنه بمعنى « فَعِلَ » ، كطارَقْتُ النَّعْلَ ، وعاقَبْتُ اللصَّ ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ ، عدَّاها ب « عَلَى » .
الثاني : أنَّ « فَاعَلَ » على بابها من كونها بين اثنين ، فقيلَ : بين العبدِ وربِّه ، كأنه قيل : احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ ، وقيل : بين العبدِ والصلاةِ ، أي : احفَظْها تَحْفَظْك . وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] .
الثاني : تحفظه من البَلايا ، والمِحَن؛ لقوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] ، وقال الله : { إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة } [ المائدة : 12 ] أي : معكم بالصَّبر ، والحفظ .
الثالث : تحفظُه : بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه ، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ .
وقال أبو البقاء : ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا في { وَاعَدْنَا موسى } [ البقرة : 51 ] فالوعدُ من اللهِ ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي « حَافِظُوا » معنى لا يُوجَدُ في « احْفَظُوا » وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ .
قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } ذكر الخاصَّ بعد العامِّ ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ } [ البقرة : 98 ] والوُسطى : فعلى معناها التفضيلُ ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام - : [ البسيط ]
1147- يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وهي [ من ] الوسط الذي هو الخيارُ ، وليست من الوسطِ الذي معناه : متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل ، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما ، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل .
وقرأ علي : « وَعَلَى الصَّلاَةِ » بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً ، وقرأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - « وَالصَّلاَةَ » بالنصبِ ، وفيها وجهان :
أحدهما : على الاختصاصِ ، ذكرَه الزمخشريُّ .
والثاني : على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو : مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً ، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى - .
قال القرطبي : وقرأ أبو جعفر الواسطي « والصَّلاَةَ الوُسْطَى » بالنصب على الإِغراء أي : والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني ، وقرأ قالُونُ ، عن نافع « الوُصْطَى » بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه .
فصل
لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان : النكاح ، والطلاقِ ، والعُقُودِ ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة .
وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس ، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ ، ثم قال : { والصلاة الوسطى } يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلاَّ لزم التكرارُ ، والأصلُ عدمهُ ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً ، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق ، وهذا الاستبدال إنما يتم ، إذا قُلنا : إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد ، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة .