كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وقيل : المراد ب « الَّذِين كَفَرُوا » المتبُوعُون ، لا التابعون ، المعنى : « مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائِهِمْ اتباعَهُمْ ، وكوْنِ أتباعِهِمْ لا يَحْصُل لهم منهم إلاَّ الخَيْبَة ، كمثل النَّاعق بالغَنَم ، فعلى هذه الأقوال كلِّها : يكون » مَثَل « مبتدأً و » كَمَثَلِ « خبره ، وليس في الكلام حذفٌ إلاَّ جهة التَّشبيه .
وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدِّمة : فقيل : معناه : » وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ إلى الله تعالى ، وعَدَمِ سماعِهِمْ إِيَّاه ، كَمَثَلِ بَهَائم الَّذِي يَنْعِقُ « فهو على حذفِ قَيْدٍ في الأوَّل ، وحَذْف مضافٍ في الثاني .
وقيل : التقدير : » ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في عَدَم فَهْمهم عَنِ اللَّهِ ورسُولِهِ ، كَمَثَلِ المنْعُوق بِهِ منَ البَهَائم الَّتي لا تَفْقَهُ من الأَمْر والنَّهْي غَيْر الصَّوْت « فيرادُ بالذي يَنْعِقُ : الذي يُنْعَقُ بِهِ ، ويكون هذا من القَلْبِ ، وقال قائلٌ : » هذا كما تقولون : « دَخَلَ الخَاتَمُ في يَدِي ، والخُفُّ في رِجْلِي » وتقولون : « فُلاَنٌ يَخَافُكَ؛ كَخَوْفِ الأَسَدِ » ، أي : كَخَوْفِهِ الأَسَدَ ، وقال تعالى : { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة } [ القصص : 76 ] وإنَّما العصبة تنوء بالمفاتح « . وإلى هذا ذهب الفرَّاء ، وأبو عُبَيْدَة ، وجماعةٌ إلاَّ أنَّ القلب لا يقع على الصَّحيح إلاَّ في ضرورة أو ندورٍ .
وأمَّا على القول الثَّالث ، وهو قولُ الأخفش ، والزَّجَّاج ، وابْنِ قُتَيْبَة ، فتقديره : » ومَثَلُ داعي الَّذين كَمَثَلِ النَّاعق بغَنَمه؛ في كَوْن الكافِرِ لا يَفْهَمُ ممَّا يُخَاطِبُ به داعيَهُ إلاَّ دَوِيَّ الصَّوْت ، دون إلقاءِ فكرٍ وذهنٍ؛ كما أنَّ البيهمةَ كذلك ، فالكلامُ على حذف مضافٍ من الأوَّل .
فصل في المراد ب « مَا لاَ يَسْمَعُ »
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : ويجوزُ أن يرادَ ب « مَا لاَ يَسْمَعُ » الأصمُّ الأصْلَج الذي لا يَسْمَعُ من كلام الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلاَمِهِ إلاَّ النِّداءَ والصَّوتَ ، لا غير؛ من غير فهم للحرف ، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق « ما » على العقلاء ، أو لما تنزَّل هذا امنزلة من لا يسمع من البهائم ، أوقع عليه « مَا » .
وأما على القول الرابع - وهو اختيار سيبويه في هذه الآية - : فتقديره عنده : « مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ ، ومَثَلُ الذين كَفَرُوا ، كَمَثَل النَّاعق والمنْعُوقِ به » ، واختلف النَّاس في فهم كلام سيبويه ، فقائل : هو تفسير معنى ، وقيل : تفسير إعرابٍ ، فيكون في الكلام حذفان : حذف من الأوَّل ، وهو حذف « دَاعِيهم » ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذفٌ من الثَّاني ، وهو حذف المنعوق ، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبَّه داعِيَ الكُفَّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبَّه الكفَّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه ، إلاَّ أصواتاً لا يعرفون ما وراءها ، وفي هذا الوجه حذف كثير؛ إذ فيه حذف معطوفين؛ إذ التقدير الصناعيُّ : « وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ودَاعِيهِمْ كمثل الذي يَنْعِقُ بالمَنْعُوقِ به » .
وقد ذهب إليه جماعةٌ ، منهم : أبو بكر بن طاهر ، وابن خروفٍ ، والشَّلوبين؛ قالوا : العرب تستحسن هذا ، وهو من بديع كلامها؛ ومثله قوله : [ { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ النمل : 12 ] ] تقديره : « وأَدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ ، تدْخُلْ ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ » ؛ فحذف « تَدْخُل » ؛لدلالة « تَخْرُج » وحَذَف « وأَخْرجْهَا » ؛ لدلالة « وأَدْخِلْ » ، قالوا : ومثله قوله :
895 - وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يرد أن يشبِّه فترته بانتفاض العصفور حين بلَّله القطر؛ لأنَّمها ضدَّان؛ إذ هما حركةٌ وسكونٌ ، ولكنَّ تقديره : أنِّي إذا ذكرته ، عراني انتفاضٌ ، ثمَّ أفتر؛ كما أن العصفور إذا بلَّله القطر ، عراه فترةٌ ، ثم ينتفض ، غير أنَّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه .
وهذه الأقوال كلُّهَا ، إنَّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السَّابق بجزء من الكلام المشبَّه به .
أمَّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملةٍ بجملةٍ ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر إلى المعنى ، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب؛ قال الرَّاغب : « فلمَّا شبَّه قصَّة الكافرين في إعراضهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ ، بقصَّة النَّاعق قدَّم ذكر النَّاعق؛ لينبني عليه ما يكون منه ، ومن المنعوق به » .
والكاف ليست بزائدةٍح خلافاً لبعضهم؛ فإنَّ الصِّفة ليست عين الصِّفة الأخرى ، فلا بُدَّ من الكاف؛ حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف ، اعتقدنا وجودها تقديراً تصحيحاً للمعنى .
وقد تلخَّص ممَّا تقدَّم : أنَّ « مَثَلُ الَّذِينَ » مبتأٌ ، و « كَمَثَلِ الَّذِي » خبره : إمَّا من غير اعتقاد حذف ، أو على حذف مضافٍ من الأوَّل ، أي : « مثلُ : » داعي الَّذين « ، أو من الثَّاني ، أي : » كَمَثَلِ بَهَائِم الَّذِي « ، أو على حذفين : حذف من الأوَّل ما أثبت نظيره في الثَّاني ، ومن الثَّاني ما أثبتَ نظيره في الأوَّل؛ كما تقدَّم تحريره .
والنعيق دعاء الرَّاعي ، وتصويته بالغنم؛ قال الأخطل في ذلك : [ الكامل ]
896 - فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلالاَ
قال القتيبيُّ : لم يكن جرير راعي ضأنٍ ، وإنَّما أراد أنَّ بني كُلَيبٍ يُعَيَّرُونَ برعْيِ الضأن ، وجرير منهم؛ فهو من جَهَلتهم ، والعرب تضرب المثل في الجهل براعي الضَّأن ، ويقولون : أجْهَلُ من رَاعِي ضَأْنٍ .
يقال : نَعَقَ ، بفتح العَيْنِ ، يَنْعِقُ ، بكَسْرها ، والمصدرُ النَّعيقُ والنُّعَاقُ ، والنَّعْقُ ، وأما « نَعَقَ الغُرَابُ » ، فبالمعجمة ، وقيل : بالمهملة أيضاً في الغُرَاب ، وهو غريبٌ .
قال بعضهم : إنَّ الياء والنُّون من قوله : « يَنْعِقُ » من نصف هذه السُّورة الأوَّل ، والعَيْنَ والقَافَ من النصف الثَّاني .
« إلاَّ دعاء » : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ؛ لأن قبله « يَسْمَعُ » ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن « إلاَّ » زائدةٌ ، فليس من الاستثناء في شيء ، وهذا قولٌ مردودٌ ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادة « إلاَّ » في قوله : [ الطويل ]
897 - حَرَجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلاَّ مُنَاخةً ... عَلَى الخَسْفِ أو نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْراً
فقد ردَّ النَّاسُ عليه ، ولم يقْبَلُوا قوله ، وفي البيت كلامٌ تقدَّم .
وأورد بعضهم هنا سؤالاً معنويّاً ، وهو أن قوله { لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } [ البقرة : 171 ] ليس المسموع إلا الدعاء والنداء ، فكيف ذمَّهم بأنَّهم لا يسمعون إلا الدعاء؛ وكأنَّه قيل : لا يسمعون إلاَّ المسموع ، وهذا لا يجوز؟
فالجواب : أن في الكلام إيجازاً ، وإنَّما المعنى : لا تفهم معاني ما يقال لهم؛ كما لا تميِّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوَّت بها ، وإنَّما تفهم شيئاً يسيراً ، قد أدركته بطول الممارسة ، وكثرة المعاودة؛ فكأنه قيل لهم : إلاَّ سماع النِّداء دون إدراك المعاني ، والأغراض .
قال شِهَابُ الدِّين : وهذا السُّؤال من أصله ليس بشيءٍ ، ولولا أنَّ الشَّيخ ذكره ، لم أذكره .
وهنا سؤالٌ ذكره عليُّ بن عيسى ، وهو هل هذا من باب التَّكرار لمَّا اختلف اللَّفظ ، فإنَّ الدعاء والنِّداء واحدٌ؟ والجواب : أنه ليس كذلك؛ فإن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصَّوت .
وقال القرطبيُّ - رحمه الله - : النداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداءٌ؛ لأنه للأباعد ، وفي هذا نظر؛ لأنَّ النبيَّ - عليه السلام - قال : « الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ ، والحُكْمُ في الأَنْصَارِ ، والدَّعْوَةُ في الحَبَشَةِ »
قال ابنُ الأثِير في « النَّهَايَة » : أراد بالدَّعوة الأذان ، وجعله في الحبشة؛ تفضيلاً لمؤذِّنه بِلالٍ ، وقال شاعر الجاهليَّة : [ الوافر ]
898 - فَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانُ عُمْرِي ... وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كالعِيرِ يَدْعُوا ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ
أراد أذان الصُّبح ، وقد تضمُّ النون في النِّداء ، والأصل الكسر .
قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 171 ] لمَّا شبَّههم بالبهائم ، زاد في تبكيتهم ، فقال : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } ؛ لأنَّهم صارُوا بمنزلة الأصَمِّ؛ في أنَّ الذي سَمِعُوه ، كأنَّهم لم يسمعوه ، وبمنزلة البُكْم؛ في ألاَّ يستجيبوا لما دعوا إليه ، ومن حيث العمي؛ من حيث إعراضهم عن الدَّلائل؛ فصاروا كأنَّهم لم يشاهدوها ، قال النُّحاة : « صُمٌّ » ، أي : هم صمٌّ ، وهو رَفْع على الذَّمِّ .
وقوله : « فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون » فالمراد : العقْلُ المكتَسَبُ هو الاستعانة بهذه القُوَى الثَّلاثة ، فلمَّا أعرضوا عنهان فقد فقدوا العقل الكسبيَّ ، ولهذا قيل : من فقد حسّاً ، فَقَدْ فَقَدَ علماً ، والله تعالى أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
قال بعض المفسِّرين : إنَّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوَّل السُّورة إلى هنا دلائل للتَّوحيد والنُّبُوَّة ، واستقصى في الرَّدِّ على اليهود والنصارى ، ومن هنا : شرع في بيان الأحكام ، فقال : « كُلُوا » واعلم : أنَّ الأكل قد يكون واجباً ، وذلك عند دفع الضرر عن النَّفس ، وقد يكون مندوباً ، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل ، غذا انفرد ، وللبساطة في الأكل ، غذا سوعد ، فهذا الأكل مندوبٌ ، وقد يكون مباحاً ، إذا خلا عن هذه العوارض ، فلا جرم كان مسمَّى الأكل مباحاً ، وإذا كان كذلك ، كان قوله في هذا الموضع « كُلُوا » لا يفيد الإيجاب ، والنَّدب ، [ بل الإباحة ، ومفعول « كُلُوا » محذوفٌ ، أي : « كُلُوا رِزْقَكُمْ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضَ طيِّباتِ ما رَزَقْنَاكُمْ » ويجوزُ في رأي الأخفش : أن تكون « مِنْ » زائدةً في المفعول به ، أي : « كُلُوا طيِّبات ما رزَقْنَاكم » .
فصل في بيان حقيقة الرِّزق
استدلُّوا على أنَّ الرزق قيد يكون حراماً؛ بقوله تعالى : « مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ » ؛ فإِنَّ الطَّيِّب هو الحلال ، فلو كان كلُّ رزقٍ حلالاً؛ لكان قوله : « كُلُوا مِن ] طَيِّبَاتَ مَا رَزَقْنَاكُمْ » معناه : من محلَّلات ما أحللنا لكم ، فيكون تكراراً ، وهو خلاف الأصل ، وأجابوا عنه؛ بأن الطَّيِّب في أصل اللُّغة : عبارةٌ عن المستلذِّ المستطاب ، فلعلَّ أقواماً ظنُّوا أنَّ التوسُّع في المطاعم ، والاستكثار من طيِّباتها ممنوعٌ منه ، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك؛ لقوله تعالى : « كُلُوا » من لذائذ ما أحللناه لكم ، فكان تخصيصه بالذِّكر لهذا المعنى .
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة « الطَّيِّب » في القرآن قالوا : « والطَّيِّبُ » ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ :
أحدها : الطَّيِّبات بمعنى الحلال؛ قال الله تعالى : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] ، أي : لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال .
الثاني : الطيِّب بمعنى الطَّاهر؛ قال تبارك وتعالى : { فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] ، وقال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] .
الثالث : الطَّيِّب : معناه الحسن ، أي : الكلام الحسن للمؤمنين .
وقوله : { واشكروا للَّهِ } أَمْرٌ ، وليس بإباحةٍ ، بمعنى أنه يجب اعتقاد مستحقّاً إلى التعظيم ، وإظهار الشُّكْر باللِّسان ، أو بالأفعال ، إن وجدت هنا له تهمةٌ .
[ الرابع : ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف ، قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] .
قوله : « إِنْ كُنْتُمْ » شرطٌ ، وجوابه محذوف ، أي : فاشكروا له ، وقول من قال من الكوفيِّين : إنَّها بمعنى « إذ » ضعيفٌ ، و « إيَّاه » : مفعولٌ مقدَّم؛ ليفيد الاختصاص ، أو لكون عامله رأس آية ، وانفصاله واجبٌ ، ولأنه متى تأخَّر ، وجب اتصاله إلاَّ في ضرورة؛ كقوله : [ الرجز ]
899 - إلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إِيَّاكَ ... وفي قوله : { واشكروا للَّهَ } التفاتٌ من ضمير المتكلِّم إلى الغيبة إذْ لو جرى على الأسلوب الأوَّل ، لقال : « واشْكُرُونَا » .
فصل في المراد من الآية
في معنى الآية وجوه :
أحدها : « واشْكُرُوا الله ، إنْ كُنْتُمْ عارفِينَ بالله ونِعَمِهِ » فعبَّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر .
وثانيها : معناه : « إنْ كنتُمْ تريدون أن تَعْبُدوا الله ، فاشكُرُوه فإنَّ الشُّكر رأسُ العبادات » .
وثالثهما : « واشْكُرُوا الله الَّذي رَزَقَكُمْ هذه النِّعْمَة ، إن كُنْتُمْ إيَّاه تعبُدُونَ » ، أي : إن صحَّ أنَّكم تخصُّونَهُ بالعبادة ، وتقرُّون أنَّه هو إلهُكُمْ لا غيره ، قال - عليه الصلاة والسلام عن الله - : « إنِّي والجنُّ والإنْسُ في نَبَأ عَظِيمٍ ، أخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْري ، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْري؟! »
فصل في أن الشيء المعلق ب « إن » لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء
احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ « إنْ » لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشَّيء؛ بهذه الآية ، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة « إنْ » على فعل العبادة ، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً .
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال ، فصَّل في هذه الآية [ أنواع ] الحرام .
قوله : « إنَّمَا حَرَّمَ » : الجمهور قرءوا « حَرَّمَ » مشدَّداً مبنيّاً للفاعل « المَيْتَة » نصباً على أنَّ « مَا » كافَّةٌ مهيِّئة ل « إنَّ » في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة ، وفاعل « حَرَّمَ » ضمير الله تعالى ، و « المَيْتَةَ » : مفعولٌ به ، وابن أبي عَبْلَة برفع « المَيْتَةُ » ، وما بعدها ، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون « مَا » موصولةً ، و « حَرَّمَ » صلتها ، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط ، تقديره : « حَرَّمَهُ » ، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم « إنَّ » ، و « الميتة » : خبرها .
وقرأ ابو جعفر ، وحمزة مبنيّاً للمفعول ، فتحتمل « ما » في هذه القراءة وجهين :
أحدهما : أن تكون « ما » مهيةً ، و « المَيْتَةُ » مفعول ما لم يسمَّ فاعل .
والثاني : أن تكون موصولةً ، فمفعول « حُرِّمَ » القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على « ما » الموصولة ، و « لميتة » خبر « إنَّ » .
وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ ، « حَرُمَ » ، بضمِّ الراء مخفَّفة ، و « المَيْتَةُ » رفعاً و « مَّا تحتمل الوجهين أيضاً ، فتكون مهيِّئة ، و » المَيْتَةُ « ؛ فاعلٌ ب » حَرُمَ « ، أو موصولةً ، والفاعل ضميرٌ يعود على » مَا « وهي اسمُ » إنَّ « ، و » المَيْتَة « : خبرها ، والجمهور على تخفيف » المَيْتَة « في جميع القرآن ، وأبو جعفر بالتَّشديد ، وهو الأصل ، وهذا كما تقدَّم في أنَّ » الميْت « مخفَّفٌ من » المَيِّت « ، وأن أصله » مَيْوتٌ « ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ آل عمران : 27 ] .
ونقل عن قدماء النحاة ، أنَّ » المَيْتَ « بالتَّخفيف : من فارقت روحه جسده ، وبالتشديد : من عاين أسباب الموت ، ولم يمت ، [ وحكى ابن عطيَّة - رحمه الله - عن أبي حاتم : أنَّ ما قد مات فيقال ان فيه ، وما لم يَمُتْ ] بعد ، لا يقال فيه بالتخفيف ، ثم قال : ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] ، وأما قوله : [ الوافر ]
900 - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ ... فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ
فقد حمل على من شارف الموت ، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء .
وأصل » مَيْتَةٍ « مَيْوِتَةٌ ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء ، وإدغام الياء فيها ، وقال الكوفيُّون : أصله » مَوِيتٌ « ، ووزنه » فَعِيلٌ « .
قال الواحديُّ : « المَيْتَة » : ما فارقته الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يُذْبَح .
فصل في بيان أن الآية عامَّة مخصَّة بالسُّنَّة
هذه الآية الكريمة عامَّة دخلها التخصيص؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : « أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ : السَّمَكُ والجَرَادُ ، ودَمَانِ : الكَبِدُ والطِّحَالُ » وكذلك حديث جابر في العنبر ، وقوله - عليه الصلاة والسلام - « هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الحِلُّ مَيْتَتَهُ » وهذا يدلُّ على تخصيص الكتاب بالسُّنّة .
وقال عبد الله بن أبي أوفى : « غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتِ ، نأْكُلُ الجَرَاد » وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [ بعلاجٍ ، أو حَتْفَ أنفِهِ ] ، والله أعلم .
فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر
إذا وقع طائرٌ ونحوه في قدرٍ ، فمات ، فقال مالكٌ : لا يُؤكل كل ما في القدر .
وقال ابن القاسم : يغسل اللَّحم ويؤكل ، ويراق المرق ، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما .
فصل في بيان حكم الدَّم
وأما الدَّم : فكانت العرب تجعل الدم في النَّار ، وتشويها ، ثم تأكلها ، فحرَّم الله تعالى الدَّم ، واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ ، لا يؤكل ، ولا ينتفع به .
قال بعضهم : يحرمن إذا لم تعم به البلوى ، ويعفى عنه ، إذا عمَّت به البلوى ، كالذي في اللَّحم والعروق ، ولايسير في الثَّوب والبدن يصلَّى فيهن وأطلق الدَّم هنا ، وقيَّده بالمسفوح في « الأنعام » ، فيحمل المطلق على المقيَّد ، وأمَّا لحم الخنزير ، فاللَّحم معروف ، وأراد الخنزير بجميع أجزائه ، لكنه خصَّ اللحم؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل ، واللَّحم جمعه لحوم ولحمان ، يقال : لحم الرَّجل ، بالضم ، لحامةً ، فهو لحيمٌ ، أي : غلظ ، ولحم ، بالكسر يلحم ، بالفتح ، فهو لحمٌ : اشتاق إلى اللَّحم ، ولحم النَّاسَ ، فهو لاحمٌ ، أي : أطعمهم اللحم ، وألحم : كثر عنده اللَّحم [ والخنزير : حيوانٌ معروفٌ ، وفي نونِهِ قولان :
أصحهما : أنَّها أصليَّة ، ووزنه : « فِعْلِيلٌ » ؛ كغربيبٍ .
والثاني : أنها زائدةٌ ، اشتقوه من خزر العين ، أي : ضيقها؛ لأنه كذلك يَنْظُر ، وقيل : الخَزَرُ : النَّظَرُ بمؤخِّر العين؛ يقالك هو أخزر ، بيِّن الخزر ] .
فصل في بيان تحريم الخنزير
أجمعت الأُمَّة على تحريم لحم الخنزير ، قال مالك : إن حلف لا يأكل الشَّحم ، فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم ، ولا يدخل اللحم في اسم الشَّحم؛ لأنَّ اللحم مع الشَّحم يسمَّى لحماً ، فقد دخل الشَّحم في اسم اللَّحم ، واختلفوا في إباحة خنزير الماء؛ قال القُرْطُبِيُّ : لا خلاف في أنَّ جملة الخنزير محرَّمةٌ ، إلاَّ الشَّعر ، فإنَّه يجوز الخرازة به .
قوله : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ ] : « مَا » موصولةٌ بمعنى « الَّذِي » ، ومحلُّها : إمَّا النصبُ ، وإمَّا الرفع؛ عطفاً على « المَيْتة » والرَّفع : إما خبر « إنّ » ، وإما على الفاعلية؛ على حسب ما تقدم من القراءات؛ و « أُهِلَّ » مبنيٌّ للمفعول ، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في « بِهِ » والضمير يعود على « ما » والباء بمعنى « في » ولا بد من حذف مضافٍ ، أي : « في ذبحه » ؛ لأن المعنى : « وما صِيحَ في ذَبْحِهِ لغير الله » ، والإهلال : مصدر « أَهَلَّ » ، أي : صَرَخَ .
قال الأصْمعِيُّ : أصله رفع لاصَّوت ، وكلُّ رافعٍ صوته ، فهو مهلٌّ . ومنه الهلالُ؛ لأنَّه يصرخ عند رؤيته ، واستهلَّ الصبُّح قال ابن أحمر : [ السريع ]
901 - يُهِلُّ بِالغَرْقَدِ غَوَّاصُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ
وقال النَّابِغَةُ : [ الكامل ]
902 - أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
وقال القائل : [ المديد ]
903 - تَضْحَكُ الضَّبعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ
وقيل للمحرم : مُهِلٌّ؛ لرفع الصوت باتَّلبية ، و « الذَّبح » مهلٌّ؛ لأنَّ العرب كانوا يسمُّون الأوثان عند الذَّبح ، ويرفعون أصواتهم بذكرها ، فمعنى قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } ، يعني : ما ذبح للأصنام ، والطَّواغيت ، قاله مجاهد ، والضَّحَّاك وقتادة ، وقال الرَّبيع ابن أنسٍ ، وابن زيد : يعني : ما ذكر عليه غير اسم الله .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : وهذاالقول أولى؛ لأنَّه أشدُّ مطابقةً للَّفظ .
قال العلماء : لو ذبح مسلم ذبيحةً ، وقصد بذبحها التقرُّب إلى [ غير ] الله تعالى ، صار مرتدّاً ، وذبيحته ذبيحة مرتدٍّ ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب .
أمَّا ذبائح أهل الكتاب ، فتحلُّ لنا ، لقوله تبارك وتعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] .
فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال
اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان ، [ هل يقتضي الإجمال؟
فقال الكَرْخيُّ : إنَّه يقتضي الإجمال ، لأنَّ الأعيان ] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها ، وهو غير محرَّم ، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً .
وأمَّا أكثر العلماء ، فقالوا : إنَّها ليست بمجلةٍ ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف؛ قياساً على هذه الأجسام؛ كما أنَّ الذوات لا تملك ، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها ، فإذا قيل : « فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً » ، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك التصرُّف فيها؛ فكذا هاهنا .
فإن قيل : لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة ، ولأنَّه ورد عقيب قوله : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] ، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - في خبر شاة ميمونة : « إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا »
فالجواب عن الأوَّل : لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل .
وعن الثَّاني : بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم ، بل يجب إجراؤها على ظاهرها .
وعن الثَّالث : أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد ، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد ، فإن جوَّزناه ، يمكن أن يجاب عنه؛ بأن المسلمين ، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل ، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع ، والله تعالى أعلم .
فإن قيل : كلمة « إنَّما » تفيد الحصر ، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة ، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات ، وزاد فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردِّية ، والنَّطيحة ، وما أكل السَّبع ، فما معنى هذا الحصر؟
فالجواب : أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها ، وإن قلنا : إنَّ كلمة « إنَّما لا تفيد الحصر ، فالإشكال زائلٌ .
فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ
للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ :
فأولها : قول الزُّهريِّ : يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ ، ويليه داود ، قال : تطهر كلُّها بالدِّباغ ، ويليه مالكٌ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها ، ويليه أبو حنيفة - رضي الله عنه - قال : يطهر كلها بالدِّباغ غلا جلد الخنزير ، ويليه قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال : تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير ، ويليه الأوزاعي ، وأبو ثور ، قالا : يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط ، ويليه أحمد بن حنبل ، قال : لا يطهر منها شيء بالدباغ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة ، والخبر؛ أما الآية : فقوله تبارك وتعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] فأطلق التحريم ، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ ، وأمَّا الخبر : فقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث عبد الله بن عُكَيم ، لأنه قال : » أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ ، أو شَهْرَيْنِ : أنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا ، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابِ ، وَلاَ عَصَبٍ « .
واختلفوا في أنَّه ، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ ، والبهيمة؟ فمنهم : من منع منه؛ وقال : لأنَّه انتفاعٌ بالميتة ، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة ، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة ، فهل يجب عليه منعه ، أم لا؟ فيه احتمالٌ :
فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة
حرَّم جمهور العلماء الدَّم ، سواءٌ كان مسفوحاً ، أو غير مسفوحٍ ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : [ دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم .
حجَّة الجمهور : ظاهر هذه الآية الكريمة ، وتمسَّك أبو حنيفة - رضي الله عنه - ] بقوله تعالى : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً ، إلاّ ما ذكر ، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً ، وجب ألاَّ يكون محرَّماً؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة ، وتلك عامَّةٌ ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ .
وأُجيب بأنَّ قوله « لا أجِدُ » ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية ، بل على أنَّه تعالى ما بيَّن له إلاَّ تحريم هذه الأشياء ، وهذا لا ينافي أن يبيِّن له بعد ذلك تحريم شيءٍ آخر ، فلعلَّ قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] نزلت بعد ذلك ، فكان ذلك بياناً لتحريم الدَّم مسفوحاً ، أو غير مسفوح .
وإذا ثبت هذا ، وجب الحكم بحرمة جميع الدِّماء ، ونجاستها ، فيجب إزالة الدَّم عن اللَّحم ما أمكن ، وكذا في السَّمك ، وأيُّ دمٍ وقع في الماء ، أو الثَّوب ، فإنه ينجس ذلك المورد .
واختلفوا في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ » ، هل تسمية الكبد والطِّحال دماً حقيقةٌ ، أم تشببيه .
فصل في شراء الخنزير ، وأكل خنزير الماء
أجمعت الأُمَّة على أنَّ الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنَّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه؛ لأن معظم الانتفاع متعلِّق به ، واختلفوا في أنَّه هل يجوز أن يشترى؟
فقال أبو حنيفة ، ومحمد : يجوز ، وقال الشافعيُّ : لا يجوز ، وكره أبو يوسف - رحمه الله تعالى - الخزز به ، وروي عنه الإباجة .
واختلفوا في خنزير الماء ، فقال ابن أبي ليلى ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعيُّ : لا بأس بأكل شيءٍ يكون في البحر . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل .
حجَّة الشافعيِّ قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] وحجَّة أبي حنيفة : أنَّ هذا خنزير ، فيدخل في آية التَّحريم .
قال الشَّافِعيُّ - رضي الله عنه - : إذا أطلق الخنزير ، لم يتبادر إلى الفهم لحم السَّمك ، بل غير السَّمك بالأتِّفاق ، ولأنَّ خنزير الماء لا يسمَّى خنزيراً على الإطلاق ، بل يسمَّى خنزير الماء .
فصل
من الناس : من زعم أنَّ المراد ب { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } ذبائحُ عَبَدَةِ الأوثان على النصب ، قال ابن عطيَّة - رضي الله عنه - : رأيتُ في أخبار الحسن بن أبي الحسن : أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرساً ، فذبحت جزوراً ، فقال الحسن - رضي الله عنه - : لا يحلُّ أكلها ، فإنها نحرت لصنم ، وأجازوا ذبيحة النَّصارى ، إذا سمَّوا عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ، ومحكول ، والحسن ، والشَّعبيِّ ، وسعيد بن المسيِّب . وقال مالكٌ ، الشافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك ، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم .
قال عليُّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - : إذا سمعتم اليهود والنصارى يلهُّون لغير الله ، فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهمن فكلوا ، فإنَّ الله تبارك وتعالى ، قد أحلَّ ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون؛ واحتحَّ المخالف بقوله تبارك وتعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] وهذا عامٌّ ، وبقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ المراد بقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } هو المراد ب { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } ، ولأن النَّصارى ، إذا سمَّوا الله تعالى ، فإنَّما يريدون به المسيح ، فإذا كانت إرادتهم لذلك ، لم تمنع حلَّ ذبيحتهم ، مع أنَّه يهلُّ به لغير الله تعالى ، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه ، إذا ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح .
والجواب عن الأوَّل : أن قوله تعالى : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } [ المائدة : 5 ] عامٌ ، وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ .
وعن الثاني أن قوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } لا يقتضي تخصيص قوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } ؛ لأنهما آيتان متباينتان .
وعن الثالث : إنَّما كُلِّفنا بالظَّاهر ، لا بالباطن ، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى ، وجب أن يحلَّ ، ولا سبيل لنا إلى الباطن .
قوله : « فَمَنِ اضْطُرَّ » في « مَنْ » وجدهان :
أحدهما : أن تكون شرطيةً .
والثاني : أن تكون موصُولةً بمعنى « الذي » .
فعلى الأوَّل : يكون « اضطُرَّ » في محلِّ جزم بها ، وقوله : { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } جواب الشرط ، والفاء فيه لازمةٌ .
وعلى الثاني : لا محلَّ لقوله « اضْطُرَّ » من الإعراب ، لوقوعه صلةً ، ودخلت الفاء في الخبر؛ تشبيهاً للموصول بالشَّرط ، ومحلُّ { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } الجزم على الأوَّل ، والرفع على الثاني . والجمهور على « اضْطُرَّ » بضمِّ الطاء ، وهي أصلها ، وقرأ أبو جعفر بكسرها؛ لأنَّ الأصل « اضْطُرِرَ » بكسر الراء الأولى ، فلمَّا أدغمت الراء في الرَّاء ، نقلت حركتها إلى الطَّاء بعد سلبها حركتها ، وقرأ ابن مُحَيْصِن : « اطُّرَّ » بإدغام الضَّاد في الطَّاء ، وقد تقدَّم الكلام في المسألة هذه عند قوله : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ } [ البقرة : 126 ] .
وقرأ أبو عَمْرٍو ، وعاصمٌ ، وحمزة بكسر نون « مَنِ » على أصل التقاء الساكنين ، وضمَّها الباقون؛ إتباعاً لضمِّ الثالث .
وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة ، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين؛ وضُمَّ الثالث ضمَّاً لازماً نحو : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ } [ الأنعام : 10 ] { قُلِ ادعوا } [ الإسراء : 110 ] ، { وَقَالَتِ اخرج } [ يوسف : 31 ] ، جرى الخلاف المذكور ، إلاَّ أنَّ أبا عمرو خرج عن أصله في { أَو } [ المزمل : 3 ] و { قُلِ ادعوا } [ الإسراء : 110 ] فضمَّهما ، وابن ذكوان خرج عن أصله ، فكسر التنوين خاصَّة؛ نحو { مَحْظُوراً انظر } [ الإسراء : 20 - 21 ] واختلف عنه في { بِرَحْمَةٍ ادخلوا } [ الأعراف : 49 ] { خَبِيثَةٍ اجتثت } [ إبراهيم : 26 ] فمن كسر ، فعلى أصل التقاء الساكنين ، ومن ضمَّ ، فلإتباع ، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك . عند0 ذكره ، إن شاء الله - تعالى - والله أعلم .
قوله : « غَيْرَ باغٍ » : « غَيْرَ » : نصب على الحال ، واختلف في صاحبها :
فالظاهر : أنه الضمير المستتر [ في « اضْطُرَّ » ] ، وجعله القاضي ، وأبو بكر الرازيُّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله « اضْطُرَّ » ؛ قالا : تقديره : « فَمَنَ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ » ؛ كأنهما قصَدَا بذلك أن يجعلاه قيداً في الأكل لا في الاضطرار .
قال أبو حيَّان : ولا يتعيَّن ما قالاه؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } بل هو الظاهر والأولى؛ لأنَّ في تقديره قبل « غَيْرَ بَاغٍ » فضْلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله : « غَيْرَ بِاغٍ » .
و « عَادٍ » : اسم فاعل من : عَدَا يَعْدُو ، إذا تجاوز حدَّه ، والأصل : « عَادِوٌ » فقلب الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها؛ كغاز من الغزو ، وهذا هو الصحيح؛ وقيل : إنَّه مقلوب من ، عاد يعود ، فهو عائدٌ ، فقدِّمت اللام على العين ، فصار اللَّفظ « عَادِوٌ » فأعلَّ بما تقدَّم ، ووزنه « فَالِعٌ » ؛ كقولهم : « شَاكٍ » في « شَائِكٍ » من الشَّوكة ، و « هارٍ » ، والأصل « هَائِر » ، لأنَّه من : هَارَ يَهُورُ .
قال أبُو البَقَاءِ - رحمه الله تعالى - : « ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً ، عطفاً على موضع » غَيْرَ « جاز » ، يعني : فكان يقال : « وَلاَ عَادِياً » .
قوله : « اضْطُرَّ » أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ ، فهو : « افْتُعِلَ » من الضَّرورة ، وأصله : من الضَّرر ، وهو الضِّيق ، وهذه الضَّرورة لها سببان :
أحدهما : الجوع الشَّديد ، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق ، فيكون عند ذلك مضطراً .
والثاني : إذا أكره على تناوله .
واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف؛ حتى يقال : إنَّه لا إثم عليه ، فلا بدَّ من إضمارٍ ، والتقدير : « فَمَن اضْطُرَّ ، فأكَلَ ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه » ونظيره : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] ، فحذف « فأَفْطَرَ » ، وقوله تعالى { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ } [ البقرة : 196 ] وإنما جاز الحذف؛ لعلم المخاطب به ، ودلالة الخطاب عليه .
والبغي : أصله في اللغة الفساد .
قال الأصمعيُّ : يقال : بغى الجرح بغياً : إذا بدأ في الفساد ، وبغت السماء ، إذا كثر مطرها ، والبغي : الظلم ، والخروج عن الإنصاف؛ ومنه قوله تبارك وتعالى { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ } [ الشورى : 39 ] وأصل العدوان : الظُّلم ، ومجاوزة الحد .
فصل
اختلفوا في معنى قوله « غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } فقال بعضهم : » غَيْرَ بَاغٍ « أي غير خارج على السُّلطان ، و » لاَ عَادٍ « متعدٍّ بسفره ، أعني : عاص بأن خرج لقطع الطَّريق ، والفساد في الأرض ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهدٍ ، وسعيد بن جبير .
وقالوا : لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة ، إذا اضطر إليها ، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص؛ حتى يتوب ، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل ، واختلفوا في معناه .
فقال الحسن ، وقتادة ، والرَّبيع ، ومجاهد ، وابن زيد : أي : يأكل من غير ضرورة أي : بغي في أكله » ولاَ عَادٍ « ن أي : ولا يعدو لشبعه .
وقيل : « غَيْرَ بِاغٍ » أي : غير طالبها ، وهو يجد غيرها ، « وَلاَ عَادٍ » ، أي : غير متعدٍّ ما حد له ، فيأكل حتَّى يشبع ، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه .
وقال مقاتل : « غَيْرَ بَاغٍ » أي : مستحلٌّ لها ، « وَلاَ عَادٍ » أي : يتزوَّد منها ، وقيل : « غَيْرَ بَاغٍ » ، أي : مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له ، « وَلاَ عَادٍ » أي : لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه .
قال مسروقٌ : من اضطُرَّ إلى الميتة ، والدم ، ولحم الخنزيرن فلم يأكل ، ولم يقرب ، حتى مات ، دخل النَّار .
وقال سهل بن عبد الله : « غَيْرَ بَاغٍ » : مفارقٍ للجماعة ، « ولاَ عَادٍ » ، أي : ولا مبتدعٍ مخالف السنة ، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة .
فإن قيل : الأكل في تلك الحالة واجبٌ ، وقوله : { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } أيضاً يفيد الإباحة .
وأيضاً : فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل ، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه .
فالجواب : أنَّا قد بينَّا عند قوله { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] : أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، وأيضاً : قوله تبارك وتعالى : { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } : معناه : رفع الحرج والضِّيق .
واعلم : أنَّ هذا الجائع ، إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة ، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق ، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع ، إذا أمكنه ذلك ، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة ، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة ، يخرج عن أن يكون ملجأً ، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار .
فإن قيل : قوله تبارك وتعالى : { فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ } يناسب أن يقال بعده : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فإنَّ الغفران ، إنَّما يذكر عند حصول الإثم .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض ، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة ، عبَّر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم ، يعني : لأجل الرحمة عليكم ، أبحت لكم ذلك .
وثانيها : لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة .
وثالثها : ان الله تعالى ، لمَّا بيَّن هذه الأحكام ، عقَّبها بقوله تعالى : « غَفُورٌ » للعصاة ، إذا تابوا ، « رَحِيمٌ » بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة
فصل في معنى المضطر
قال الشافعيُّ - رضي الله عنه - : قوله تعالى { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } معناه : أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان ألبتَّة ، فأكل؛ فلا إثم عليه .
احتجَّ الشافعي - رضي الله عنه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ ، ولا عادٍ ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة؛ لأنَّ قولنا : طفلانٌ ليس بمتعدً « نقيضٌ لقولنا : » فلانٌ متعدٍّ « ، وقولنا : » فُلاَنٌ متعدٍّ « يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور ، سواء كان في سفرٍ ، أو أكلٍ ، أو غيرهما ، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا » غَيْرَ بِاغٍ ، وَلاَ عَادٍ « لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه ، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره ، فلا يصدق عليه كونه » غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ « ، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم .
فإن قيلك يشكل بالمعاصي في سفره؛ فإنَّه يترخَّص مع أنَّه موصوف بالعدوان .
والجواب : أنَّه عامٌّ دخله التخصيص في هذه الصُّورة ، ثم الفرق بينهما : أنَّ الرخصة إعانة على السَّفر ، فإذا كان السَّفر معصيةً ، كانت الرخصة إعانةً على المعصية ، وإذا لم يكن السَّفر معصيةً في نفسه ، لم تكن الإعانة عليه إعانةتً على المعصية ، فافترقا .
فإن قيل : قوله تعالى « غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ » شرطٌ ، والشرط بمنزلة الاستثناء؛ في أنه لا يستقلُّ بنفسه ، فلا بدَّ من تعلُّقه بمذكورٍ ، ولا مذكور إلاَّ الأكل؛ لأنَّ بيَّنَّا أنَّ قوله تعالى : « غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ » لا يصدق عليه إلاَّ إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسَّفر ضمناً ، ولا نقول : اللفظ يدلُّ على التعيين .
وأمَّا تخصيصه بالأكل : فهو تخصيصٌ من غير ضرورةٍ ، ثمَّ الذي يدلُّ على أنَّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوهٌ :
أحدها : أنَّ قول « غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ » حالٌ من الاضطرار؛ فلا بدَّ وأن يكون وصف الاضطرار باقياً ، مع بقاء كون : « غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ » حالاً من الاضطرار ، فلو كان المرادُ بقوله : « غَيْرَ بَاغٍ ، وَلاَ عَادٍ » كونه كذلك في الأكل - لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه؛ لأنَّه حال الأكل ، لا يبقى معه حال الاضطرار .
ثانيها : ان الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي ، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة .
والثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية .
وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات ، فتخصيصه بالأكل غير جائز .
وثالثها : قوله تبارك وتعالى : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 3 ] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص ، إذا لم يكن متجانفاً لإثم ، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور .
احتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - ، بوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] .
وهذا مضطرٌّ؛ فوجب أن يترخَّص .
وثانيها : قوله تبارك وتعالى : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء : 29 ] { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] ، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس ، وإلقاء بها إلى التهلكة؛ فوجب أن يحرَّم .
وثالثها : أنه - عليه الصلاة والسلام - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً ، وللمسافر ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ ، ولم يفرق بين العاصي وغيره .
رابعها : أنَّ العاصي بسفره ، إذا كان نائماً ، فأشرف على غرقٍ ، أو حرقٍ ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه ، فلأن يجب عليه في هذه الصورة : أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى .
وخامسها : أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه ، والحيَّة ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا .
سادسها : أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ ، إذا اضطُرَّ ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله ، فله أَخذُهُ ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس .
[ سابعها : أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس ] ، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ ، وإن كان عاصياً .
وثامنها : أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ ، بل على سَبيل القَهْر ، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ ، فكذا ههنا .
وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمْ المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه الرخص بالتَّوبة ، فإذا لم يتُبْ ، فهو الجانِي على نَفْسه ، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ : بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر ، فإذا كان السَّفر معصيةً ، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية ، والمعصية ممنوعٌ منها ، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ .
فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات
اختلفُوا في المضطرِّ ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات .
فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ ، ومنهم من قال : يتناوَلُ الميتة ، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
قال ابن عبَّاس : نزلَت في رؤوس اليهود : كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ ، ومالك بنِ الصيف ، وحُييِّ بن أخطَبَ ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا ، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم ، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأنْ غيَّروا صِفَتَه ، ثم أخرَجُوها إليهم ، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر ، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صلى الله عليه وسلم ، لا يتبعونَه ، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية .
قال القرطبيُّ : ومعنى « أَنْزَلَ » : أظْهَرَ؛ كما قال تعالى : { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } [ الأنعام : 93 ] أي : سأُظْهِر وقيل : هو على بابِهِ من النُّزول ، أي : ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله .
قوله : « مِنَ الْكِتَابِ » : في محلِّ نصْبٍ ، على الحال ، وفي صاحبها وجهان :
أحدهما : أَنَّهُ العائِدُ على الموصول ، تقديره : « أَنْزَلَهُ اللَّهُ » حال كونه « مِنَ الكِتَابِ » فالعاملُ فيه « أَنْزَلَ » .
والثاني : أنه المُوصول نَفسُه ، فالعامل في الحال « يَكْتُمونَ » .
قوله : « وَيَشْترونَ بِهِ » : الضميرُ في « بِهِ » يُحْتَمَل أن يعود على « ما » الموصولة ، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله : « يَكْتُمُونَ » ، وأَنْ يعودَ على الكتابِ ، والأَوَّلُ أَظهَرُ ، ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ ، أي : « يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ » .
قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رضي الله عنهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عيله الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ .
وقال الحسَنُ : كَتَمُوا الأَحْكَام ، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى : { إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } [ التوبة : 34 ] .
فصل في حقيقة الكتمان
اختلفوا في كيفيَّة الكتمان .
فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ ، والإنجيلِ .
قال المتكلِّمون : وهذا ممتنعٌ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما ، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ ، لأنَّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً ، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة ، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان ، فيصير المعنى : الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب .
{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } كقوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية ، ذكر الوعيدَ عليهم؛ فقال : { أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } .
قال بعضُهُم : ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ؛ كقوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقال بعضهُم : بل فيه فائدةٌ؛ وقولُه « فِي بطُونِهِمْ » ، يقالُ : أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ .
فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة
قال الحسن ، والرَّبيع ، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال ، فعاقبتُه النَّار؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار؛ فكأنه أكْلُ النَّار؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة : « إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ »
وقوله تبارَكَ وتَعَالى : { إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] أي : عِنباً؛ فهذا كلُّ من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه . وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ .
قوله : { إِلاَّ النَّارَ } استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه ، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ ، جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً؛ كقولهم : « أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ » ، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ؛ قال القائل في ذلك : [ الطويل ]
904 - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً ... لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما
وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ ... رَضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا
وقال القائلُ : [ الطويل ]
905 - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
وقال : [ الرجز ]
906 - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا ... يريد : ثَمَنَ إكافٍ .
وقوله : « في بُطُونِهِم » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أَن يتعلَّق بقوله « يَأْكُلُونَ » فهو ظرْفٌ له ، قال أبو البقاء : وفيه حذفُ مضافٍ ، أي « طَرِيقِ بُطُونِهِمْ » ولا حاجة غلى ما قاله من التَّقْدِير .
والثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار .
قال أبُو البقاء : والأجودُ : أن تكونُ الحال هُنّا مقدَّرة؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ . وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك ، والتقديرُ : ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم .
قال : ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء .
وهو ضعيفٌ ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و « فِي بُطُونِهِمْ » حالاً منه ، أَو صفةً له ، أي : في بطونِهِم شيئاً ، يعني فيكون : « إلاَّ النَّارُ » منصوباً على الاستثناء التَّامِّ؛ لأنَّهُ مستثنىً من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك : وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز للإعْرَابِ حكْمُ اللفظ .
والثالث : أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول « كُلُوا » محذوفاً؛ كما تقدم تقديرُه .
قوله : في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم ، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى « إلاَّ النَّار » ، أي : أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه ، فسمّى ما أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار ، قاله أكثر المفسِّرين .
وقيل : إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ؛ كما قال تعالى
{ إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً } [ النساء : 10 ] ، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك ، ومنْه قَوْلُ القائل : [ الوافر ]
907 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ .. . . .
وقال القائِل [ المتقارب ]
908 - . ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
وقال آخر : [ البسيط ]
909 - ... وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا
يةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل .
قوله : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله } ظَاهِرهُ : أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً ، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد ، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُوا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ :
الأوَّل : قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم؛ وذلك قولُهُ { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] .
وقوله { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } [ الأعراف : 6 ] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين ، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم ، فقالوا : وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] .
الثاني : أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً ، وأَمَّا قوله تعالى : فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى ، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ التَّهْديد؛ لأَنَّ [ يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ ، فيظهر ] عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه ، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك ، من أهلِ النار . فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد .
الثالث : أن قوله : « وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ » استعارةٌ عن الغَضَب؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه ، ولا يكلِّموه؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث .
وقوله « وَلاَ يُزكِّيهِم » فيه وجوه :
الأوَّل : لا يسنبهم إلى التَّزكية ، ولا يُثْنِي عليهم .
الثاني : لا يقْبَل أعمالَهُمْ؛ كام يقبل أَعْمَال الأولياء .
الثالث : لا ينزلُهم منازل الأولياء .
وقيل : لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة ، فيطهرهم .
قولُهُ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، اعْلَمْ : أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول؛ كالجريح والقتيل ، بمعنى المجروح والمَقْتُول ، وقد يكُونُ بمعنى « المُفعل » ؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم .
واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ ، لا بخُصُوص السَّبَب ، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود ، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين .
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا ، ورضُوا بالضَّلال والجهل ، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا ، وَأَمَّا في الآخرة ، فأحسن الأشياء المَغْفِرة ، وأخْسَرُها العذَابُ ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة ، ورضُوا بالعَذَاب ، فلا جَرَم : أنهم في نهاية الخَسَارة ، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة .
قولُهُ { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } في « ما » هذه خمسةُ أقْوالٍ :
أحدها : وهو قول سيبويه ، والجُمهُور : أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة ، ولا موصوفةٍ ، وَأَنَّ معناها التعجُّب ، فإذَا قُلْتَ : « مَا أَحْسَنَ زَيْداً » ، فمعناهُ : شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً .
الثاني : قولُ الفراء - رحمه الله تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو « كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ » .
قال عطَاءٌ ، والسُّدِّيُّ : هو « ما » الاستفهام ، معناه : ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكثوا الحَقَّ ، واتبعوا البَاطِلَ .
قال الحَسَن ، وقَتادة : « والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر ، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار » وهي لغة يَمَنية معروفةٌ .
قال الفراء : أخبرني الكسائيُّ قال : أخبرني قاضي « اليَمَنِ » أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا ، فحلَفَ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُك ما أصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أي : ما أجرأك عليه .
وحكي الزَّجَّاجُّ : ما أبقاهُمْ على النَّار ، من قولِهِم : « مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس » ، أي : ما أبقاهُ فيه .
والثالث : ويُعْزَى له أيضاً : أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن : الجملةُ الفعليَّة بعدَها ، وعلى قوْلي الأخْفَش ] : يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً ، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها ، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن ، أم فعل؟ وهو الصحيحُ ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده ، هَلْ هو مفعولٌ به ، أو مشبَّهة بالمعفول به ، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها .
ولمراد بالتعجُّب هنا ، وفي سائر القُرْآن : الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها ، إلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى ، ومعنى عَلَى النَّارِ ، أي : على عمل أهْل النار ، قاله الكِسَائيُّ ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ .
الخامس : أنَّها نافيةٌ ، أَي : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } . نقله أَبُوا البقاء
قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله } : اختلفُوا في مَحَلِّ : « ذَلِكَ » من الإعراب فقيل : رفعٌ ، وقيل : نَسْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال .
أحدها : أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف ، أي : وجب لَهُمْ ذلك .
الثاني : أن « ذَلِكَ » مبتدأٌ ، و « بِأَنَّ اللَّهَ » خبره ، أي : ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ .
والثالث : أنَّهُ خَبَرٌ ، والمبتدأ محذوفٌ ، أَي : الأمرُ ذلك ، والإشارة إلى العَذَابِ ، ومَنْ قال بأنَّه نصب ، قدَّره : « فعلنا ذلك » [ والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف ، ومَعْنَاها السببية .
فصل في اختلافهم في الإشارة ب « ذلك »
اختلفوا في الإشارة بقوله « ذلك » ] إلى ماذا؟ على قولين :
الأوَّل : أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان ، أي : إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه ، ويوقِعُون التُّهمة فيه ، فلا جَرَم ، استحقُّو ذلك الوعيد الشديد ، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ :
أقربُها : أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة .
ثانيها : اشْتَرُوا الضَّلالة بالهُدى .
ثالثها : أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً .
رابعها : أَنَّ الله لا يزكِّيهم .
خامسها : أَنَّ الله لا يكلِّمهم .
فقوله : « ذَلِكَ » يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [ كلِّ واحدٍ منها ، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع .
والقول الثاني : أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى ] ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله ، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَا من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون ، ولا يَنْقَادُونَ ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ؛ كقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } [ البقرة : 6 - 7 ] وقوله : « بالحَقِّ » ، أَي : بالصِّدق ، وقيل : ببيان الحقِّ ، والمرادُ من « الكتاب » : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة ، والإنجيل ، ويحتمل أن يكُون القرآن ، فإن كَانَ الأَوَّلَ ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله ، وتحريفه ، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني ، كان المعنى : وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ .
فصل في المراد باختلافهم
والمراد باختلافهم :
إِنْ قلنا المراد ب « الكَتِابِ » هو القُرْآن ، كان اختلافُهُم فيه : أَنَّ بعضَهُ قال : هو كَهَانَةٌ ، وقال آخرون هو سِحْرٌ ، وآخرونَ قالُوا : هو رجْزٌ ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال : إِنَّه كلامٌ مختلف . وإنْ قلنا : المراد ب « الكتَابِ » هو التوراةُ والإِنْجيلُ ، فالمراد باختلافهم يحتلم وجُوهاً .
أحدها : اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح ، فاليهود قالوا : إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى؛ والنصارَى قالوا : إِنَّها دالَّة على نبوَّته .
وثانيها : اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً .
وثالثها : قال أبو مُسْلِم : قوله : « اخْتَلَفُوا » من باب « افْتَعَلَ » الذي كون مكان « فَعَلَ » ، كما يقال كَسَبَ واكْتَّسَبَ ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ ، ويكون معنى قوله : { إِنَّ الذين اختلفوا } أي : توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه؛ كقوله تبارك وتعالى
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ الأعراف : 169 ] وقوله { إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار } [ يونس : 6 ] أي : كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر ، [ وقوله { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] . أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر ] ، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ .
أحدها : أن يكونَ المراد ب « الكِتَابِ » جنْسَ ما أنزل الله ، والمراد ب { الذين اختلفوا فِي الكتاب } الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب ، فقلبوا بعضَ كُتُب الله ، وهي التوراة والإنجيلُ؛ لأجل عداوتك ، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ ، ومنازعة شديدةٍ ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ .
وثانيها : كأنه تعالى يقُولُ : هؤلاءِ ، وإن اختلفُوا فيما بينهم ، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك ، وغاية المشاقَّة لك ، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ .
صاحبه ، ويشاقُّه ، وينازعه ، وإذا كان كذلك ، فقد عرفت كذبَهُمْ ، بقولهم ، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
قرأ الجُمْهُور برفع « البِرُّ » وحمزة ، وحفصٌ عن عاصم بنصبه ، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ « لَيْسَ » و « أَنْ تُولُّوا » خبرها في تأويل مصدّرٍ ، أي : ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه ، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ ف « البرُّ » الخبرٌ مقدَّمٌ ، و « أَنْ تُوَلُّوا » اسمُها في تأويل مصدرٍ ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير ، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ؛ ولا يوصف به ، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرِ؛ وتقديمُ خَبَر « لَيْسَ » على اسمها قليلٌ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [ منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ ، قال : لأنَّها تشبه « مَا » المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ ، لكنه ] محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبقول الشاعر [ الطويل ]
910 - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ... فَلَيْسَ سَوَاءَ عَاِمٌ وَجَهُولُ
وقال آخر : [ الطويل ]
911 - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمُ مُلِمَّةٌ ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحف أُبَيٍّ ، وعبْد الله « بِأَنْ تُوَلُّوا » بزيادةِ الباء ، وهي واضحة؛ فإن الباء تزادُ في خبر « لَيْسَ » كثيراً .
فصل في الاختلاف في أصل ليس
الجمهُور على أن « لَيْسَ » فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ :
اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال؛ كقَولك ، « لَسْتُ ، ولَسْنَا ، ولَسْتُمْ » ، و « القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ » ، وهذا منقوضٌ بقوله : « إِنَّنِي ، ولَيْتَنِي ، ولَعَلَّني » .
وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور :
الأوَّل : أنَّها لو كانت فعلاً ، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفيِ الحالِ ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا : إنه فعْلٌ ماضٍ .
وثانيها : أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ ، فنقول : « لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ » ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً .
وقولُ مَنْ قال : « إن لَيْسَ » داخلٌ على ضمير القصَّة ، والشأن ، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك ، جاز مثلُه في « مَا » .
وثالثها : أَنَّ الحرف « مَا » يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة ، فإنك لَو قُلْتَ : « لَيْسَ زَيْدُ » لم يتمَّ الكلام ، لا بُدَّ أن تقول : « لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً » .
ورابعُها : أن « لَيْسَ » لو كان فعْلاً ، لكان « ما » فعلاً ، وهذا باطلٌ ، فذاك باطلٌ ، بيان الملازمةِ : ان « لَيْسَ » لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ ، وهو الحالُ ، وهذا المعْنَى قائمٌ في « مَا » فيجبُ أن تكونَ « مَا » فعْلاً ، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً ، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى : « لَيْسَ » كلمةٌ جامدةٌ ، وضعت لنَفْي الحالِ ، فأشبهت « مَا » في نفْي الفعليَّة بذلك .
وخامسُها : أنَّك تَصِلُ « مَا » بالأفْعَال الماضيةِ ، فتقولُ : « مَا أَحْسَنَ زَيْداً » ، ولا يجوزُ أنْ تصلَ « مَا » ب « لَيْسَ » فلا تَقُولُ : « مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ » .
وسادسها : أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل .
وأجابَ القَاضِي ، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ « لَيْسَ » قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه؛ كقولهم : « جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْداً » .
وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولم : « أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا » .
وعن الثَّالث : أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة .
وعن الرَّابع : أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه .
وعن الخَامِس : أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ : « مَا » للحال و « لَيْسَ » للماضي ، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما .
وعن السَّادس : أن تغير البناءِ وإن كان على خلافِ الأَصل ، لكنَّه يجبُ المصيرُ إِلَيْه؛ لدلالةِ العَمَل بما ذكر ، وذكَرُوا وجوهاً أُخَرَ مخالفةً للنَّحْوِ .
قوله : « قِبَلَ » منصوبٌ على الظَّرْف المكانيِّ بقوله : « تُوَلُّوا » ، وحقيقةُ قولِكَ : « زَيْدٌ قِبَلَكَ » أي في المكان الَّذي يقابلُكَ فيه وقد يُتَّسَعُ فيه ، فيكون بمعنى « عِنْدَ » ؛ نحو قولك : « قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ » ، أي « عِنْدَهُ ديْنٌ » .
فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه .
اختلفوا : هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ ، أو خاصٌّ؟ فقال قتادةُ ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان : لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس ، قال تعالى : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } هذه الطريقة ، { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله } .
وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك - رضِيَ الله عنهم - : المرادُ مخاطبةُ المؤمنين ، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام .
وقال بعضُهُم : هو خطابٌ للكلّ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة ، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين ، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات ، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً ، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتَ ، وكَيْتَ ، وكَيْتَ ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال : ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة ، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها .
فصل في المشار إليه بالضمير
قال القفَّال : والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين ، وقالُوا : ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب ، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق ، فقال الله تعالى : إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُر .
منها : الإيمانُ بالله ، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك ، فَأَمَّا اليهود ، فلقولهم بالتَّجْسِيم ، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللَّهِ ، وأَمَّا النصارَىح فلقولهم : المَسِيحُ ابْنُ الله ، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل .
وثانيها : الإيمانُ باليَوْم الآخِر ، واليهود أخلُّوا بذلك ، وقالوا : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر .
وثالثها : الإيمانُ بالمَلاَئكة ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ .
ورابعها : الإيمانُ بكُتُب الله تعالى ، واليهودُ أخلُّوا بذلك ، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه؛ قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } [ البقرة : 85 ] .
وخامسها : الإيمانُ بِالنَّبيِّين ، واليَهُود أخلُّوا بذلك؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ؛ على ما قال تعالى : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } [ البقرة : 61 ] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - .
وسادسها : بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى ، واليهود أخلُّوا بذلك؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات؛ لِطَلَب المَال القَليلِح قال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } .
وسابعها : إقَامة الصَّلاة ، وإيتاءُ الزَّكاة ، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها .
وثامنها : الوفَاءُ بالعَهْد ، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد؛ قال تبارك وتعالى : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] .
وتاسعها : قوله : { فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف ، والجبْنِ؛ قال تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } [ الحشر : 14 ] .
فإن قيل : نفى تبارك وتعالى أنْ يكُون التوجُّه إلى القْلَلةِ بِرّاً ، ثم حَكَم بأنَّ البِرَّ بمجموع أمُر : أحدُها : الصَّلواتُ ، ولا بُدَّ فيها من الاستقبال ، فيلزَمُ التناقضُ .
فالجوابُ : أنَّ المفسِّرين اختلفُوا على أقْوَال :
منها : أنَّ قوله تعالى : « لَيْسَ البِرّ » نَفْيٌ لكمالِ البِرِّ ولَيْسَ نَفْياً لأصْله؛ كأنه قال : « لَيْسَ البِرُّ كلُّه هو هذا » ؛ فإنَّ البِرَّ اسمٌ من أسماء الخصالِ الحَمِيدة ، واستقبال القبلة واحِدٌ منها ، فلا يكونُ ذلك تمامَ البِرِّ .
الثاني : أنْ يكُونَ هذا نفياً لأصْلِ كَوْنه بِرّاً؛ لأن استقبالَهُم للمشْرِق والمَغْرِب كان خَطَأً في وقُتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَحِينَمَا نَسَخ الله تباركَ وتعالى ذلك؛ بل كان ذلِكَ ممَّا لا يجُوز؛ لأَنَّهُ عمل بمَنْسُوخ قد نهى الله عَنءه ، وَمَا كَانَ كذلك ، فهو لا يُعَدُّ من البِرِّ .
الثالث : أنَّ استقبالَ القِبْلة لا يكُون بِرّاً ، إذ البِرُّ يتقدَّمه معرفةُ الله تعَالى ، وإنَّما يكون بِرّاً ، إذا أتَى بها مع الإيمانِ بِالله ورسُوله ، فالإتيانُ بها دُونَ هذا الشَّرْط ، لا يكونُ مِنْ أَفْعَال البِرِّ ، إلاَّ إذا أتِيَ بها مع شَرْطه ، كما أنَّ السَّجْدة لا تكُونُ مِنْ أفْعال البِرِّ ، إلاَّ إذا أَتَى بها مع الإيمَانِ بالله ورسُوله .
ورُوِيَ أنَّه لَمَّا حُوِّلَت القبْلة ، كَثُرَ الخَوْضُ في نَسْخِهَا ، كأنه لا يُرَاعَى بطاعة الله تعالى إلاَّ الاستقبالُ؛ فأنْزَلَ الله تعالَى هذه الآيَةَ؛ كأنه تبارك وتعالى قال : « ما هذا الخَوضُ الشَّديدُ في أَمْر القِبْلَةِ مع الإعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّين » .
قوله { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله } في هذه الآية خَمْسَة أوجه :
أحدها : أن « البِرَّ » اسم فاعل من : بَرَّ يَبَرُّ ، فهو « برُّ » والأصل : « بَرِرٌ » بكسر الراء الأولى بزنة « فطِنٍ » فلمَّا أريد الإدغام ، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها؛ فعلى هذه القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان؛ كأنه قيل : « وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن » .
الثاني : انَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل ، تقديره : « ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن » ؛ كقوله تعالى : { والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] أي : لذي التقوى؛ وقوله { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله } [ آل عمران : 163 ] أي : ذوو درجاتٍ ، قاله الزَّجَّاج .
الثالث : أن يكون الحذف من الثاني : أي : « وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ » وهذا تخريجُ سيبويه ، واختياره ، وإنَّما اختاره؛ لأنَّ السابق ، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدركُ ، إنَّما هو من جنس ما ينفى؛ ونظير ذلك : « لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً ، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ » ولا يناسبُ : « ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ » وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام ، كقوله : { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل } [ البقرة : 93 ] ، أي : حُبَّ العجل ، ويقولون : الجود حاتم ، والشعير زهير ، والشجاعة عنترة ، [ وقال الشاعر : [ الطويل ]
912 - .. فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي : ذات إقبالٍ ، وذات إدبار .
وقال النَّابغة : [ المتقارب ]
913 - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
أي : كخلالة أبي مرحب ] ، وهذا اختيار الفرَّاء ، والزَّجَّاج ، وقطرب .
وقال أبو عليٍّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } [ التوبة : 19 ] ، ثم قال : { كَمَنْ آمَنَ بالله } [ التوبة : 19 ] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين ، أو بين فاعلين؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ ، وفاعلٍ .
الرابع : أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً؛ نحو : رجل عدل .
ويحكى عن المبرِّد : « لو كنت ممَّن يقرأ القرآن ، لقرأت » وَلَكِنَّ البَرَّ « بفتح الباء » وإنَّما قال ذلك؛ لأن « البَرَّ » اسم فاعل ، نقول بَرَّ يَبَرُّ ، فهو بَارٌّ ، فتارة تأتي به على فاعل ، وتارة على فعل .
الخامس : أن امصدر وقع موقع اسم الفاعل ، نحو : رجل عدلٌ ، أي : عادل ، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه ، نحو : أقائماً ، وقد قعد الناس؛ في قولٍ ، هذا رأي الكوفيين ، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ ، وأن أصله : بارٌّ ، فجعل « برّاً » ، وأصله ك « سِرٍّ » ، و « رَبٌّ » أصله « رابٌّ » ، وقد تقدم .
وجعل الفراء « مَنْ آمَنَ » واقعاً موقع الإيمان ، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه؛ كأنه قال : « وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ » قال : والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد في ذلك : [ الطويل ]
914 - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان ، والمعنى : لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى .
وقرأ نافعٌ ، وابن عامر : « وَلَكِن البِرُّ » هنا وفيما بعد بتخفيف « لَكِنْ » وبرفع « البِرُّ » ، والباقون بالتَّشديد ، والنَّصب ، وهما واضحتان ممَّا في قوله : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ } [ البقرة : 102 ] .
وقرئ : « وَلِكنَّ البَارَّ » بالألف ، وهي تقوِّي أنَّ « البِرَّ » بالكسر المراد به اسم الفاعل ، لا المصدر .
قال أبو عُبَيْدَةَ : « البِرُ » هاهنا بمعنى البَارِّ ، كقوله : { والعاقبة للتقوى } [ طه : 132 ] أي : للمتَّقين ، ومنه قوله تعالى : { إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } [ الملك : 30 ] أي : غائراً ، وقالت الخنساء : [ البسيط ]
915 - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ ... أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر ، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة ، قال تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } [ الإنسان : 13 ] .
ووحَّد الكتاب لفظاً ، والمراد به الجمع؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل ، أو أراد به الجنس ، أو أراد به القرآن ، فإنَّ من آمن به ، فقد آمن بكل الكتب ، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة .
فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ
اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً :
أحدها : الإيمانُ بخمسة أشياء :
أولهاك الإيمان بالله ، ولا يحصل ذلك إلاَّ باعلم بذاته المخصوصة ، وبما يجب ، ويجوز ، ويستحيل عليه ، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها ، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم ، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالمن ويدخل فيه العالم .
بوجوده ، وقدرته ، وبقائه ، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات .
وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، وهذا متفرِّع على الأوَّل؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات ، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر .
وثالثها : الإيمان بالملائكة .
ورابعها : الإيمان بالكتب .
وخامسها : الإيمان بالرسل .
فإن قيل : لا طريق لنا غلى العلم بوجود الملائكة ، ولا إلى العلم بصدق الكتب ، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب ، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل؟
فالجواب : أنَّ الأمر ، إن كان كذلك في عقولنا ، إلاَّ انَّ الترتيب على العطس؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً ، ثم صحل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل ، فالمراعى في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجيِّ ، لا الترتيب الذهنيُّ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته ، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب ، والثَّواب ، والمعاد ، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتَّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء؛ ليؤدُّوها إلينا إلى غير ذلك ممَّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت الإيمان بالنَّبِيِّين الإيمان بنبوِّتهم ، وصحَّة شريعتهم ، فلم يبق شيءٌ مما يجب الإيمان به ، إلاَّ دخل تحت هذه الآية .
وتقرير آخر : وهو أنَّ للمكلَّف مبتدأً ووسطاً ، ونهايةً ، ومعرفة المبدأ والنهاية؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى ، واليوم الآخر .
وأمَّا معرفة الوسط ، فلا يتمُّ إلاَّ بالرِّسالة ، وهي لا تتمُّ إلا بثلاثة أمور :
الملك الآتي بالوحي ، ونفس الوحي ، وهو الكتاب ، والموحى إليه ، وهو الرسول - عليه الصلاة والسلام - .
وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح؛ من إيتاء المال ، والصلاة ، والزَّكاة - تنبيهٌ على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح .
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرِّ قوله : { وَآتَى المال على حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، فالجار والمجرور في محلِّ نصب على الحال اعامل في « آتي » أي : آتي المال حال محبَّته له ، واختياره إيَّاه ، والحُبُّ : مصدر « حَبَبْتُ » ، لغةً في « أَحْبَبْتُ » ؛ كما تقدَّم ، ويجوز أن يكون مصدر الرُّباعيِّ على حذف الزوائد ، ويجوز أن يكون اسم مصدر ، وهو الإحباب؛ كقوله : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال :
أظهرها : أنه يعود على المال؛ لأنَّه أبلغ من غيره .
قال ابن عبَّاس ، وابن مسعود : « هو أن تُؤْتيَهُ ، وأنت صحيحٌ شحيحٌ ، تَأْمُلُ الغِنَى ، وتخشَى الفَقْر ، وَلاَ تُهْمِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ ، قُلْتَ : لِفُلاَنِ كَذَا ، ولِفُلاَنِ كذا » وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى .
أمَّا من حيث اللفظ : رواية أبي هريرة ، قال : جاء رجل إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال : يَا رَسُولَ الله ، أيُّ الصَّدَقةِ أعْظَمُ أجراً؟ قال : « أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ » وذكره .
الثاني : أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى : « آتى » ، أي : على حبِّ الإيتاء؛ كأنه قيل : يعطي ، ويحبُّ الإعطاء؛ رغبةً في ثواب الله .
قال شهاب الدِّين : وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى .
أما من حيث اللفظ : فإنَّ عود الضمير على غير مذكور ، بل مدلولٍ عليه بشيء - خلاف الأصل .
وأمَّا من حيث المعنى : فإنَّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان ، لأنَّ هواه يساعده على ذلك .
قال زهير : [ الطويل ]
916 - تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
الثالث : ان يعود على الله تعالى ، يعني : « يُعْطُون المَال على حُبِّ الله » ؛ وعلى هذه الأقوال الثَّلاثة يكون المصدر مضافاً للمفعول ، وعلى هذا ، فالظاهر أنَّ فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي ، وقيل : هو ضمير المؤتون ، أي : « حبِّهم له » ، واحتياجهم إليه ، وليس بذلك ، و « ذَوِي القُرْبَى » على هذه الأقوال الثلاثة : منصوبٌ ب « أتى » فقط ، لا بالمصدر؛ لأنَّه قد استوفى مفعوله .
الرابع : أن يعود على « مَنْ آمَنَ » ، وهو المؤتي للمال ، فيكون المصدر على هذا مضافاً للفاعل ، وعلى هذا : فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفاً ، أي : « حُبِّه المَالَ » ، وأن يكون ذَوِي القُرْبَى ، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله .
قال ابْنُ عَطِيَّة : ويجيء قوله « عَلَى حُبِّهِ » اعتراضاً بليغاً في أثناء القول .
قال أبو حيَّان - رحمه الله - : فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه ، فليس بجيِّد ، فإنَّ ذلك من خصوصيَّات الجملة الَّتي لا محلَّ لها ، وهذا مفردٌ ، وله محلٌّ ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين ، وهما « المال » ، و « ذَوِي » ، فيصحُّ ، إلا انه فيه إلباسٌ .
فصل في معنى الإيتاء
اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء ، فقال قومٌ : إنَّها الزكاة ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه عطف الزكاة عليه ، بقوله : { وَأَقَامَ الصلاة } [ البقرة : 177 ] ومن حق المعطوف ، والمعطوف عليه المغايرة ، ثم لا يخلو : إمَّا أن يكون تطوُّعاً : أو واجباً ، ولا جائز أن يكون تطوُّعاً؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة : { وأولئك هُمُ المتقون } [ البقرة : 177 ] ، وقف التقوى عليه ، ولو كانه تطوُّعاً ، لما وقف التقوى عليه ، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ ، وأنه غير الزكاة ، ففيه أقوال :
أحدها : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة؛ مثل : إطعام المضطرِّ؛ ويدل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام - : « لاَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً ، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ »
ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس : « إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة » ثم تلت « وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ » .
وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال ، فأدى زكاته ، فهل عليه سواه؟ فقال : نعم ، يصل القرابة ، ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية الكريمة .
وأيضاً : فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة ، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة .
فإن قيل : الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة .
فالجواب : أنَّه - عليه السَّلام - قال : « في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ » ؛ وقول الرسول أولى ، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة ، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة ، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً ، فغير منسوخ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب ، والمماليك .
فإن قيل : إذا صحَّ هذا التأويل ، فما الحكمة في هذا التَّرتيب؟!
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره ، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة ، والصَّدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه ف صرف المال إليه ، ولذلك يستحقُّ بها الإرث ، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة ، حتى لا يتمكَّن من الوصية ، إلا في الثُّلث ، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات؛ لقوله تعالى :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف } [ البقرة : 180 ] .
وإن كانت نسخت عند بعضهم؛ فلهذه الوجوه ، قدَّم ذوي القربى ، ثم أتبعه باليتامى؛ لأنَّ الصغير الفقير الذي لا والد له ، ولا كاسب ، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم بالمساكين؛ لأنَّ الحاجة قد تشتدُّ بهم ، ثم ذكر السَّائلين ، وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدَّم .
وثانيها : أن علم المرء بشدَّة حاجة قريبه أقوى ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ثم على هذا الَّسق .
وثالثها : أن ذا القربى مسكينٌ ، وله صفةٌ زائدةٌ تخصُّه؛ لأن شدَّة حاجته تغمُّ صاحب المال ، وتؤذيث قلبه ، ودفع الضَّرر عن النَّفس مقدَّم على دفع الضرر عن الغير؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى ، ثم باليتامى؛ لأن الغمَّ الحاصل بسبب عجز الصِّغار عن الطَّعام والشَّراب أشدُّ من الغمٍّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما ، ثم المساكين؛ لأنَّ الغمَّ الحاصل بسببهم أخفُّ من الغم الحاصل بسبب الصَّغار .
وأمَّا ابن السَّبيل ، فقد يكون غنيّاً ، وقد تشتدُّ حاجته في الوقت ، والسَّائل قد يكون غنيّاً ، ويظهر شدَّة الحاجة ، وأخَّر المكاتب؛ لأنَّ إزالة الرق ليست في محلِّ الحاجة الشَّديد’ .
القول الثاني : أنَّ المراد بإيتاء المال : ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - عند ذكره الإبل ، قال : « إنَّ فِيهَا حَقّاً؛ وهو إطراق فحلها ، وإعارة دَلْوها » ، وهذا بعيدٌ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصُّ به ابن السَّبيل ، والسائل والمكاتب .
القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً ، ثم نسخ بالزَّكاة ، وهذا أيضاً ضعيفٌ ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء ، وبين الزكاة .
وقال بعضهم : المراد صدقة التطوُّع .
فصل في الوجوه الإعرابية لقوله « ذَوِي »
قوله « ذَوَي » فيه وجهان :
أحدهما - وهو الظاهر - أنه مفعول ب « آتى » وهل هو الأول ، و « المَالَ » هو الثاني؛ كما هو قول الجمهور ، وقدِّم للاهتمام ، أو هو الثاني : فلا تقديم ، ولا تأخير؛ كما هو قول السُّهَيلِيِّ؟
والثاني : أنه منصوب ب « حُبِّهِ » ؛ على أن الضمير يعود على « مَنْ آمَنَ » ؛ كما تقدَّم .
فصل في المراد ب « ذَوِي القُرْبَى »
من النَّاس من حمل ذَوِي القُرْبَى على المذكور في آية النفل والغنيمة ، وأكثر المفسِّرين على ذَوِي القُرْبَى للمعطين ، وهو الصحيح؛ لأنَّهم به أخصُّ ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأوبين ، أو بولادة الجدَّين ، أو أبي الجدَّين ، ولا يقتصر على ذوي الرَّحم المحرم كما حكي عن قوم؛ لأنَّ امحرميَّة حكم شرعيٌّ ، والقرابة لفظةٌ لغويةٌ موضوعةٌ للقرابة في النَّسب ، وأن تفاوتوا في القرب والبعد .
قوله « واليَتَامى » : ظاهره أنه مصوب ، عطفاً على ذوي .
وقال بعضهم : هو عطف على « القرْبَى » أي : « آتى ذَوي اليَتَامى » ، أي : أولياءهم؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحُّ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميِّز ، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئاً ، ولا حاجة إلى هذا ، فإنَّ الإيتاء يصدق ، وإن لم لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء ، يقال : « آتيْتُ السُّلْطَانَ الخَرَاجَ » ، وإنَّما أعطيت أعوانه .
وأيضاً : إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظَّه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ، ويلبس ، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به ، جاز دفعها إليه ، هذا على قول من قال : إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصِّغر .
وقال بعضهم : أن هذا الاسم قد يقع على الصَّغير ، وعلى البالغ؛ لقوله تعالى : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } [ النساء : 2 ] وهم لا يؤتون إلاَّ إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمَّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه؛ فعلى هذا : إن كان اليتيم بالغاً ، دفع إليه ، وإلاَّ دفع إلى وليه ، والمساكين أهل الحاجة ، وهم ضربان : من يكفُّ عن السؤال ، وهو المراد هاهنا ، ومنهم من يسأل وينبسط ، وهم السائلون ، وإنما فرق يبنهما؛ من حيث يظهر على السماكين المسكنة ممَّا يظهر من حاله ، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله .
وابن السبيل اسم جنسٍ أو واحد أريد به الجمع ، وسمِّي « ابن السَّبيل » ، أي : الطريق ، لملازمته إيَّاه في السَّفر ، أو لأنَّ الطريق تبرزه ، فكأنها ولدته .
فصل .
من جعل الآية الكريمة في غير الزَّكاة ، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : « للسَّائِل حَقٌّ ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ » ، وقال تعالى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } [ الذاريات : 19 ] .
الأمر الثالث في تحقيق مسمَّى البِرِّن قوله : { وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة } وقد تقدَّم : قوله { وَفِي الرقاب } متعلِّق ب « آتى » وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون ضمن « آتى » معنى فعل يتعدى لواحد؛ كأنه قال : وضع المال في الرِّقَاب .
والثاني : أن يكون مفعول « آتى » الثاني محذوفاً ، أي : آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها ، أو تخليصها؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون ، أو الأسارى ، أو الأرقَّاء يشترون ، فيعتقون ، وكلٌّ قد قيل به .
والرِّقَابُ : جمع « رَقَبَةٍ » ، وهي من مؤخَّر أصل العنق ، واشتقاقها من « المراقبة » ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم؛ وبهذا المعنى : يقال : « أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ » ، ولا يقال : « أَعْتَقَ اللَّهُ عُنُقَهُ » ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً؛ كأنها تراقب العذاب ، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها « رَقُوبٌ » ؛ لأجل مراقبة موت ولدها .
قوله : { وَأَقَامَ الصلاة } عطف على صلة « مَنْ » ، وهي : « آمَن ، وآتى » وإنما قدم الإيمان ، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة ، وثنَّى بإيتاء المال؛ لأنه أجلُّ شيء عند العرب ، وبه يمتدحون ، ويفتخرون بفكِّ العاني : وقِرَى الضِّيفان ، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم .
قوله { والموفون بِعَهْدِهِمْ . . . } في رفعة ثلاثة أوجه :
أحدها : ذكره الزمخشري : أنه عطف على « مَنْ آمَنَ » أي : ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون .
والثاني : أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الموفون ، وعلى هذين الوجهين : فنصب الصابرين على المدح؛ بإضمار فعل ، وهو في المعنى عطف على « مَنْ آمَنَ » ، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات ، خولف بين وجوه الإعراب .
قال الفارِسيُّ : وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير مشتملاً على جملٍ متعددةٍ ، بخلاف اتّفاق الإعراب؛ فإنه يكون جملةً واحدةً ، وليس فيها من المبالغة ما الجمل المتعدِّدة .
وقال أبو عبيدة : ومن شأن العرب ، إذا طال الكلام : أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق؛ كقوله تعالى في سورة النساء : { والمقيمين الصلاة } [ النساء : 162 ] وفي المائدة : { والصابئون } [ المائدة : 69 ] وقال الفرَّاء : إنما رفع « المُوفُونَ » ، ونصب « الصَّابِرِينَ » ؛ لطول الكلام بالمدح ، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد ، وقالوا فيمن قرأ { حَمَّالَةَ الحطب } [ المسد : 3 ] بنصب « حَمَّالَةَ » : إنه نصب على الذَّمِّ .
فإن قيل : لم لا يجوز على هذين الوجهين : أن يكون معطوفاً على ذوي القربى ، أي : وآتى المال الصابرين : قيل : لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ ، وهو « المُوفُونَ » فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة؛ كقوله : { وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] ثم قال « أُوْلَئِكَ » ففصل بين المبتدأ والخبر .
قلنا : لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة .
التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل ، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك؛ وعلى هذا الوجه : يجوز في « الصَّابِرِينَ » وجهان :
أحدهما : النَّصيب؛ بإضمار فعْلٍ؛ لما تقدَّم ، قال الخليل : المدح والذمُّ ينصبان على معنى « أَعْني الظريف » وأنكر الفراء ذلك لوجهين .
أحدهما : أنَّ « أَعْنِي » إنما يقع تفسيراً للمجهول ، والمدح يأتي بعد المعروف « أعني أخاك » ، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً .
والثاني : العطف على ذَوِي القُرْبَى ، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ ، لأن « المُفُونَ » على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة ، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها .
قوله « إذَا عَاهَدُوا » إذا منصوبٌ ب « المُوفُونَ » ، أي : الموفون وقت العهد ، من غير تأخير الوفاء عن وقته ، وقرأ الجحدريُّ : « بِعُهُودِهِمْ » .
فصل في معنى قوله « بِعَهْدِهِمْ »
في هذا العهد قولان :
أحدهما : هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان ، والقيام بحدوده ، والعمل بطاعته؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب : أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق ، فجحدوا أنبياءه ، وقتلوهم ، وكذَّبوا بكتابه . واعترض القاضي على هذا القول ، وقال : إنَّ قوله تبارك وتعالى : « المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ » صريحٌ في إضافة العهد إليهم ، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله : « إذَا عَاهَدُوا » ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى .
وأجيب : بأنه تعالى ، وإن ألزمهم هذه الأشياءن لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام ، والتزموه ، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه .
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه .
واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر ، وما أشبهه ، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة ، والمظاهرة ، وموالاة من والاه ، ومعاداة من عاداه ، او بينه وبين النَّاس ، وقد يكون ذلك واجباً ، مثل : ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم ، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم ، والرَّهن وغيره ، وقد يكون مندوباً؛ مثل : الوفاء بالعهد في بذل الماء ، والإخلاص في المناصرة .
فقوله { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها ، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون ، فقالوا : هم الذين إذا وعدوا ، أنجزوا ، وإذا حلفوا ونذروا ، وفَّوا ، وإذا قالوا ، صدقوا ، وإذا ائتمنوا ، أدَّوا .
فصل في بلاغة قوله « والمُوفُونَ » دون « وأَوْفَى »
قال ارَّاغب : وإنَّما لم يقل « وأوْفَى » ؛ كما قال « وأَقَامَ » ؛ لأمرين :
أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصِّلة ، متى طالت ، كان الأحسن أن يعطف على الموصول ، دون الصلة؛ لئلاَّ يطول ويقبح .
والثاني : أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة ، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر وفاء العهد ، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة ، صارعطفه على الأوَّل أحسن ، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه : جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد؛ وهذا كلام حسن .
وحكى الزَّمخشريُّ قراءة « والمُوفِينَ » ، « والصَّابِرِينَ » وقرأ الحسن ، والأعمش ، ويعقوب : « وَالمُوفُونَ » ، « والصَّابِرُونَ » .
فصل في الأحكام المستافدة من الآية
قال القرطبيُّ : تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام :
الإيمان بالله وبأسمائه ، وصفاته ، والحشر ، والنشر ، والصراط ، والحوض ، والشَّفاعة ، والجنة ، والنار ، والملائكة ، والرُّسل ، والكتب المنزلة ، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم ، والنَّبيين ، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب ، والمندوب ، وإيصال القرابة ، وترك قطعهم ، وتفقُّد اليتيم ، وعدم إهماله المساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل ، وهو : المسافر المنقطع به ، وقيلك الضعيف ، والسُّؤَّال ، وفكّ الرقاب ، والمحافظة على الصَّلوات ، وإيتاء الزَّكاة ، والوفاء بالعهود ، والصَّبر في الشَّدائد ، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب .
وقوله { فِي البأسآء والضراء } : قال ابن عبَّاس : يريد الفقر بقوله : « البَأْسَاءِ » ، والمرَضَ بقوله : « وَالضَّرَّاءِ » ، وفيها قولان :
أحدهما : وهو المشهور أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ وألفهما للتأنيث ، فهما اسمان على « فَعْلاَء » ولا « أفْعَل » لهما؛ لأنَّهما ليسا بنعتين .
والثاني : أنهما وصفن قائمان مقام موصوف ، والبؤس ، والبأْساء : الفقر؛ يقال بئس يبأس ، إذا افتقر؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
917 - وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً ... يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ
قوله : « وَحِينَ البَأْس » منصوب بالصَّابِرِينَ ، [ أي ] : الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة ، والبأْسُ : شدَّة القتال خاصَّة ، بؤس الرَّجل ، أي : شجع . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يريد القتال في سبيل الله ، وأصل البأس في اللغة : الشِّدَّة؛ يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي : لا شدَّة و { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] أي : شديد ، ثم يسمَّى الحرب بأساً ، لما فيه من الشِّدَّة ، والعذاب يسمَّى بأساً؛ لشدَّته ، قال تبارك وتعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ] { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } [ غافر : 29 ] .
قوله : { أولئك الذين صَدَقُوآ } مبتدأ وخبر ، وأتى بخبر « أُولَئِكَ » الأولى موصولاً بصلةٍ ، وهي فعلٌ ماضٍ؛ لتحقُّ اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم ، واستقرَّ ، وأتى بخبر الثانية بموصولٍ صلته اسم فاعلٍ ، ليدَّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدِّداً ، بل صار كالسَّجيَّة لهم ، وأيضاً : فلو أتى به فعلاً ماضياً ، لما حسن وقوه فاصلةً .
قال الواحدي - رحمه الله - : إن الواوات في الأَوْصَاف في هذه الآية للجمع ، فمن شرائطِ البِرِّ ، وتمام شَرْط البَارِّ : أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحدٍ منها ، لم يستحقَّ الوصف بالبِرِّ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبِرِّ ، وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائماً بالبِرِّ إلاَّ عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم : هذه الصفة خاصَّة للأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلُّها .
وقال آخرون : هي عامَّة في جميع المؤمنين ، والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
قوله « في القَتْلَى » ، أي : بسبب القَتْلَى و « في تكون للسَّببية؛ كقوله - عليه السَّلام - » إنَّ امْرَأَةً َخَلَتِ النَّار في هِرَّةٍ « ، أي : بسببها ، و » فَعَلَى « يطَّردُ أن يكون جمعاً لفعيل ، بمعنى مفعول ، وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قوله { وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى } [ البقرة : 85 ] .
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول وجوه :
أحدها : إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة ، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، والعرب تارةً كاناو يوجبون القتل ، وتارة يوجبون الدِّية ، ولكنَّهم كاناو يظهرون التعدِّي ، فأما القتل؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين : أحدهما أشرف من الأخرى ، فكان الأشراف يقولون : » لنَقْتُلَنَّ بالعَبْدِ مِنَّا الحُرَّ مِنْهُمْ ، وبالمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ « وربما زادوا على ذلك ، وينكحون نساءهم بغير مهورٍ؛ قاله سعيد بن جُبَيْرٍ .
يروى أن واحداً من الأشراف قتل له ولد ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، فقالوا له : ما تُرِيدُ؟ فقال : إحدى ثلاثٍ ، فقالوا : ما هي؟ قال : إما تُحْيُونَ لِي وَلَدِي ، أو تَمْلَئُونَ دَارِي من نُجُومِ السَّمَاءِ ، أو تَدْفَعُونَ إليَّ جُملَةَ قَوْمِكُمْ؛ حَتَّى أقْتُلَهُمْ ، ثم لا أَرَى أَنِّي أخذت عوضاً .
وأمَّا أمر الدِّية ، فربمَّا جعلوا دية الشَّريف أضعاف دية الخسيس ، فلما بعث الله تعالى محمَّداً صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل ، وسوَّى بين عباده في حكم القصاص ، وأنزل الله هذه الآية .
الوجه الثاني : قال السُّدِّيّ : إن قريظة والنَّضير كانوا مع تديُّنهم بالكتاب ، سلكوا طريقة العرب ، فنزلت الآية .
الوجه الثالث : نزلت في واقعة قتل حمزة - رضي الله عنه - .
الوجه الرابع : روى محمَّد بن جرير الطبريُّ ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، وعن الحسن البصريِّ : أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحُرَّين والعبدين والأُنثيين في القصاص ، فأما إذا كان القاتل للعبد حرّاً ، أو للحرِّ عبداً ، فإنه يجب مع القصاص التراجع ، وأما قتل عبداً ، فهو قوده ، فإن شاء أولياء العبد أن يقتلوا الحرَّ ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقيَّة ديته ، وإن قتل عبد حراً ، فهو به قودٌ ، فإن شاء أولياء الحرِّ ، قتلوا العبد ، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحُرِّ ، وأدَّوا بعد ذلك إلى أولياء الحُرِّ بقيَّة ديته ، وإن شاءوا أخذوا كلَّ الدية ، وتركوا كل العبد ، وغن قتل رجلٌ امرأة ، فهو بها قودٌ ، فإن شاء أولياء المرأة ، قتلوه ، وأدَّوا نصف الدية ، وإن شاءوا ، أعطوا كلَّ الدية ، وتركوها ، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرَّين ، [ والعبدين والأنثيين ، والذكرين ، فأما عند اختلاف الجنس ، فالاكتفاء غير مشروع فيه ] .
فصل في اشتقاق كلمة « القصاص »
و « القِصَاصُ » : مصدر قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ قِصَاصاَ ، ومقَاصَّةً؛ نحو : قاتَلْتُهُ قِتَالاً ، ومُقَاتَلَةً ، وأصله من : قصصت الشيءن اتَّبعت أثره؛ لأنَّه اتباع دم المقتول .
قال تعالى : { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } [ الكهف : 64 ] { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : اتبعي أثره ، وسمِّيت القصَّة قصَّةً؛ لتتبُّع الخبر المحكيِّ ، والقصص تتبُّع أخبار النَّاس ، وسمِّي المقصُّ مقصّاً ، لتعادل جانبيه ، هذا أصل المادَّة .
فمعنى القصاص : تتبُّع الدم بالقود ، ومنه التقصيص ، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه ، والقصُّ أيضاً : الجصُّ ، ومنه « نهيه - عليه السلام - عن تقصيص القبور » أي : تجصيصها .
فصل
روى البخاريُّ ، والنَّسائيُّ ، والدَّار قطنيُّ ، عن ابن عبَّاس ، قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدِّية ، فقال الله لهذه الأمَّة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف } [ البقرة : 178 ] .
والعفو : أن يقبل الدية في العبد : « فَاتبَاعٌ بِالمَعْرُوفٍ وأَداءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ » تتبع بالمعروف ، وتؤدي بإِحْسَانٍ ، « ذَلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ » مما كتب على من كان قبلكم ، { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فمن قتل بعد قبول الدِّية ، هذا لفظ البخاريِّ .
وقال الشَّعبيُّ في قوله تعالى : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } قال : نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقْتَتَلا قتال عمية ، فقالوا : نقتلُ بِعَبْدِنَا فُلاَنَ ، ابنَ فُلاَنٍ ، وَبِأَمَتِنَا فُلانَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ ، ونحوه عن قتادة .
فصل في المراد بقوله « كتب عليكم »
قوله : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ » : معناه : « فُرِضُ عَلَيْكُمْ » ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين :
أحدهما : أن قوله كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب . قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] وقال : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية } [ البقرة : 180 ] وقد كانت الوصية واجبة ، ومنه الصوات المكتوبات أي : المفروضات قال عليه السلام : « ثَلاَثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ »
والثاني : لفظة « عَلَيْكُمْ » مشعرة بالوجوب؛ لقوله { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } [ آل عمران : 97 ] .
والقصاص : أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ، فهو عبارة عن التَّسوية ، والمماثلة في الجراحاتن والدِّيات .
وقيل « كُتِبَ » هنا أخبار عمَّا كتب في اللَّوح المحفوظ ، وقوله { فِي القتلى } ، أي : بسبب القتلى ، كما تقدَّم؛ فدلَّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمني بسبب قتل جميع القتلى ، إلاَّ إنَّهم أجعوا على أنَّ غير القاتل خارجٌ عن هذا الفارق ، أمَّا القاتل ، فقد دخله التخصيص أيضاً في صورٍ كثيرةٍ؛ وهي ما إذا قتل اوالد ولده ، والسَّيَّد عبده ، وفيما إذا قتل مسلم مسلماً خطأً ، إلاَّ أنَّ العامَّ إذا دخله التخصيص ، يبقى حجَّةً فيما عداه .
فإن قيل : قولكم : هذا الآية تقتضي وجوب القصاص ، فيه إشكالان :
الإشكال الأول : لو وجب القصاص ، لوجب إمَّا على القاتل ، أو على وليِّ الدَّم ، أو على ثالثٍ ، والأقسام الثلاثة باطلةٌ؛ لأنَّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وأمَّا وليُّ الدم ، فلا يجب عليه؛ لأنَّ وليَّ الدم يخيَّر في الفعل ، والتَّرك ، بل هو مندوبٌ إلى التَّرك؛ كقوله
{ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] وأمَّا الثالث : فإنه أجنبيٌّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلُّق له به .
الثاني : أنَّا بيَّنا أن القصاص عبارة عن التَّسوية ، وكان مفهوم الآية إيجاب التَّسوية؛ وعلى هذا التقدير : لا تكون الآية دالَّة على إيجاب القتل ألبتَّة ، بل تدلُّ على وجوب رعاية التَّسوية في القتل الذي كون مشروعاً بسبب القتل .
والجواب عن الأول من وجهين :
أحدهما : أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام ، ومن يجري مجراه؛ لأنَّ متى حصلت شرائط وجوب القود ، فإنَّه لا يحلُّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمَّة ، كتب عليكم استيفاء القصاص ، إن أراد وليُّ الدّمِ استفاءَه .
والثاني : أنه خطاب مع القاتل ، التقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الويِّ بالقصاص؛ وذلك لأنَّ القاتل ليس له أن يمتنع؛ خلاف الزَّاني والسارق ، فإنَّ لهما الهرب من الحدود ، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله ، لا يعرفان ، والفرق بينهما : أن ذلك حقٌّ لآدميٍّ .
والجواب عن الثاني : أن ظاهر الآية يقتضي التَّسوية في القتل ، والتَّسوية في القتل صفة القتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيحاب الذَّات ، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه .
قوله « الحُرُّ بالحُرِّ » مبتدأٌ وخبرٌ ، والتقدير : الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ ، أو مقتول بالحُرِّ ، فتقدِّر كوناً خاصّاً ، حُذِف؛ لدلالة الكالم عليه؛ فإنَّ الباء فيه للسَّبب ، ولا يجوز ان تقدِّر كوناً مطلقاً؛ إذ لا فائدة فيه ، لو قلت : « الحُرُّ كائنٌ بالحُرِّ » إلاَّ أن تقدِّر مضافاً ، أي : قتل الحرِّ كائن بالحُرِّ ، وأجاز أبو حيان : أن يكون الحُرُّ مرفوعاً بفعل محذوف ، تقديره : « يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ » ؛ يدلُّ عليه قوله تعالى : { القصاص فِي القتلى } ؛ فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدَّر ، وفيه بعدٌ ، والحر وصفٌ ، و « فُعْلٌ » الوصف ، جمعه على « أفْعَالٍ » لا يقاس ، قالوا : حُرٌّ وأَحْرَارٌ ، ومُرٌّ وأمرار ، والمؤنَّثة حُرَّة ، وجمعها على « حَرَائِر » محفوظٌ أيضاً ، يقال : « حَرَّ الغُلاَمُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً » .
فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر
قوله { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى } فيه قولان :
الأولى : أنَّها تقتضي ألاَّ يكون القصاص مشروعاً إلاَّ بين الحُرَّين ، وبين العبدين ، وبين الأُنثيين .
واحتجَّ عليه بوجوه :
الأول : ان الألف واللام في « الحُرِّ » تفيد العموم؛ فقوله : { الحر بِالْحُرِّ } يفيد أن يقتل كلُّ حرِّ بالحر ، فلو كان قتل حرٍّ بعبد مشروعاً ، لكان ذلك الحُرُّ مقتولاً بغير حُرٍّ ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلُّ حرٍّ مقتولاً بالحُرِّ .
الثاني : أن « الباء » من حروف الجَرِّ ، فتتعلَّق بفعلٍ ، فيكون التقدير : يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر ، بل إمَّا مساوياً له ، أو أخص منه ، وعلى هذا التقدير فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حُرٍّ مقتولاً بالحُرِّ ، وذلك ينافي كلَّ حُرٍّ مقتولاً بالعبد .
الثالث : أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة ، وهو قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . } ، فلما ذكر عقيبة قوله : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد } دلَّ على أن رعاية التَّسوية في الحُرِّيَّة والعبوديَّة معتبرةٌ؛ لأن قوله : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد } خرج مخرج التَّفسير لقوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . } ، فإيجاب القصاص على الحُرِّ بقتل العبد إهمال لرعاية التَّسوية؛ فوجب ألاَّ يكون مشروعاً؛ ويؤيِّد ما ذكرنا قوله صلى الله عليه وسلم « لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَلاَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ » ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] ، فالجواب من وجهين :
أحدهما : هذه الآية شَرْعُ مَنْ قبلنا وليسَ شَرْعاً لَنا ، والآيةُ التي نَحْنُ فيها شرْعُنا ، فهذا أقوَى في الدَّلالة .
والثاني : أن هذه الآية الكريمة مشتملةٌ على أحْكَام النُّفُوس على التفصِيل والتَّخْصيص ، وتلك عامَّةٌ ، والخاصُّ متقدِّم على العامِّ ، ثم قال أَصْحَابُ هذا القَوْل إِنَّ ظاهِر الآية يقتضِي ألاَّ يُقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثَى بالذَّكَر ، إِلاَّ إِذَا خالَفْنا هذا الظاهر؛ للإجمَاع وللمعنى المستنبطِ من نَسقِ هذه الآية الكريمة ، وذلك المعنَى غير موجُود في الحُرِّ بالعَبْد؛ فوجب أَنْ يبقَى هاهنا على ظاهر اللَّفظ ، أَمَّا الإجمْمَاعُ فظاهرةٌ ، وَأَمَّا المعنَى المستنبَطُ ، فهو أنه لَمَّا قتل العبدُ بالعبدِ ، فَلأَنَّ يقتَلَ بالحرِّ الذي هو فوقه أولى ، بخلاف الحر ، فإنَّ لمَّا قتل بالحرِّ ، لا يلزم : أنْ يُقْتَل بالعبد الَّذي هو دونَهُ ، وكذا القَوْل في قتل الأنثَى بالذَّكَر ، وأَمَّا قتل الذَّكَر بالأُنْثَى ، فليس فيه إِلاَّ الإجماعُ .
القول الثاني : أَنَّ قوله تعالى : { الحر بِالْحُرِّ } لا يفيدُ الحَصْر ، بل يفيد شَرْع القِصَاص بيْن الذُّكُور من غير أن يكُون فيه دَلالَةٌ على سائر الأقسامِ؛ واحتجُّوا عليه بوجهين :
الأول : أنَّ قوله : { والأنثى بالأنثى } يقتضي قِصَاص المرأة الحُرَّة بالمرأة الرقيقَةِ ، فلو كان قوله { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد . . } مانعاً من ذلك ، لوقع التناقض .
الثاني : أنَّ قولَهُ تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى . . } جملةٌ تامّضة مستقلَّةٌ بنَفْسها .
وقوله : { الحر بِالْحُرِّ } تخصيصٌ لبعض الجزئيَّاتِ بالذِّكْرن وتخصيص بعض الجزئيَّات بالذِّكِر لا يمنع مِنْ ثُبُوت الحُكْم؛ كسَائِر الجزئيَّات ، وذلك التخصيصُ يمكنُ أنْ يكُون لفائدةٍ سوى نَفْي الحُكْم عن سائِرِ الصُّور ، ثم اختلَفُوا في تلك الفَائدة ، فذكَرُوا فيها وجهين :
الأول : وعَليْه الأكْثَرُونَ : أَنَّ فائدته إِبطالُ ما كان علَيْه الجاهليَّةُ من أنهم كانوا يقتُلُون بِالَعَبْدِ منهم الحُرَّ من قبيل القَاتِل ، ففائدةُ التخصيص زجْرُهُم عن ذلك ، وللقائلين بالقَوْلِ الأَوَّل : أَنْ يقولُوا : قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحرِّ بالعبد ، لأَنَّ القِصَاص عبارةٌ عن المُساواة ، وقتل الحُرِّ بالعبد لم يحصُلْ فيه رعايةُ المُسَاواة ، لأَنَّهُ زائدةٌ علَيْه في الشَّرف ، وفي أهليَّة القضاء ، والإِمامة ، والشهادَة؛ فوجب ألاَّ يُشْرعَ ، أقْصَى ما في البَاب أنه ترك العَمَل بهذا النَّصِّ في قتْل العَالِمِ بالجاهِل ، والشَّريف بالخَسِيس بالإجْماع إِلاَّ أَنَّهُ يبقَى في غير محلِّ الإجماع على الأَصلِ ، ثم إِنْ سلَّمنا أنَّ قوله { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } يوجِبُ قتْل الحر بالعَبْد ، إِلاَّ أنَّا بَينَّا أنَّ قوله : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد } يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحُرّ بالعبد؛ لأَنَّ هذا خاصٌّ ، وما قبله عامٌّ ، والخاصُ مقدَّم على العامِّ ، ولا سيَّما إِذَا كان الخاصُّ متَّصلاً بالعامٌ في اللَّفْظِ ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناءِ ، ولا شَكَّ في وُجُوب تقديمة على العامِّ .
الوجه الثاني : من بيان فائدَة التَّخصيص : نَقَلهُ محمَّد بنُ جَرِيرٍ ، عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسَن البصرِّ : أنَّ هذه الصُّور هي التي يكْتَفي فيها بالقصاصِ ، بل لا بُدَّ من التراجع ، إلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ المحقِّقين زعم أنَّ هذا النَّقل لم يصحَّ عن عليٍّ - رضي الله عنه - وهو أيضاً ضعيفٌ عند النَّظَر لأَنَّه قد ثبت أَنَّ الجماعَةَ تُقْتَل بالواحِدِ ، ولا تراجع ، فكذلك يُقْتَل الذَّكَر بالأُنْثَى ، ولا تَرَاجُع .
قوله « فَمَنْ عُفِيَ » يجوز في « مَنْ » وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطيَّةً .
والثاني : أن تكون موصولةً ، وعلى كلا التقديرين ، فموضعها رفعٌ بالابتداء؛ وعلى الأَوَّل : يكون « عُفِيَ » في محلِّ جزم بالشَّرط؛ وعلى الثَّاني : لا محلَّ له ، وتكون الفاء واجبةً في قوله : « فَاتِّبَاعٌ » على الأوَّل ، ومحلُّها وما بعدها الجَزم وجائزةٌ في الثَّاني ، ومحلُّها وما بعدها الرفع على الخبر ، والظاهر أَنَّ « مَنْ » هو القاتِلُ ، والضمير في « لَهُ وأخيه » عائدٌ على « مَنْ » و « شيء » هو القائِمُ مقام الفاعل ، والمرادُ به المصدر ، وبني « عُفِيَ » للمفعول ، وإِنْ كان قاصراً؛ لأن القاصر يتعدَّى للمصدر؛ كقوله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] ، والأخ هو المقتولُ ، أو وليُّ الدم ، وسمَّاه أخاً للقاتِل؛ استعطافاً علَيْه ، وهذا المصدر القائمُ مقام الفاعل المرادُ به الدَّمُ المعفُوُّ عنه ، و « عُفِيَ » يتعدّى إلى الجاني ، وإلى الجناية ب « عَنْ » ؛ تقول : « عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ ، وعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ » فإذا عدي إليهما معاً ، تعدَّى إلى الجاني ب « اللام » ، وإلى الجناية ب « عَنْ » ؛ تقول « عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ » ، والآية من هذا الباب ، أي : « فمَنْ عُفِيَ له عَنْ جنايتِهِ » وقيل : « مَنْ » هو وليُّ أي مَنْ جُعِلَ له من دم أخيهِ بدلُ الدمِ ، وهو القِصَاص ، أو الدِّيَةُ ، والمرادُ ب « شَيْءٌ » حينئذٍ : ذلك المستَحَقُّ ، والمرادُ ب « الأخ » المقتولُ ، ويحتمل أنْ يرادَ علَى هذا القول أيضاً : القاتِلُ ، ويراد بالشيءِ الديةُ ، و « عُفِيَ » بمعنى : [ « يُسِّرَ » على هذين القولَيْن ، وقيل : بمعنى « تُرِكَ » .
وشَنَّعَ الزَّمْخَشرِيُّ على مَنْ فَسَّر « عُفِيَ » ] بمعنى « تُرِكَ » قال : فإنْ قُلْتَ : هَلاَّ فسَّرْتَ « عُفِيَ » بمعنى « تُرِكَ » ؛ حتى يكون شَيْءٌ في معنى المفعُول به .
قلْتُ : لأنَّ : « عَفَا الشَّيْء » بمعنى تركَهُ ، ليْس يثبُتُ ، ولكنْ « أَعْفَاهُ » ، ومنه : « وَأَعْفُوا اللِّحَى » ، فإنْ قُلتَ : قد ثَبَتَ قولُهُمْ : « عَفَا أَثَرَه » إِذَا مَحَاهُ وأَزَالَهُ ، فهلاَّ جَعْلتَ معْنَاه : « فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء » قلْتُ : عبارةٌ قلقلةٌ في مكَانها ، والعفُو في بابِ الجناياتِ عبارةٌ متداولَةٌ مشهُورة في الكتَاب والسُّنةِ ، واستعمال النَّاس ، فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرَى قلقةٍ نابيةٍ عنْ مكانها ، وَتَرَى كثيراً ممن يتعاطَى هذا العلْمَ يجترىءُ إِذَا أعْضلَ علَيْه تخريجُ وجْهٍ للمشْكِلِ من كلام الله تعالى على اختراعٍ لُغةٍ ، وإدِّعاءٍ عل العرب ما لَمْ تعرْفهُ ، وهذا جُزأةٌ يستعاذ بالله منها .
قال أَبُو حَيَّان : إذا ثَبَتَ أنَّ « عَفَا » بمعنى « مَحَا » فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية علَيْه ، ويكون إسناد « عَفَا » لمرفوعِهِ [ إسناداً حقيقياً؛ لأنَّهُ إِذْ ذاكَ مفعولٌ به صريح ، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسناده لمرفوعِهِ ] مجازاً؛ لأنَّه مَصْدَرٌ مشبَّهٌ بالمفعول به ، فقد يتعادَلُ الوجْهَان؛ أَعْنِي : كوْنَ « عَفَا » اللاَّزم لشهرته في الجنايات ، و « عَفَا » المتعدِّي بمعنى « مَحَا » لتعلُّقه بمرفوعِهِ تعلُّقاً حقيقياً .
فإن قيل : تضَمّن « عَفَا » معنى تَرَكَ .
فالجوابُ : أنَّ التَّمين لا يَنْقَاسُ ، وقد أَجَازَ ابن عطيَّة - رحمه الله - أن يكون « عَفَا » بمعنى « تَرَكَ » .
وقيل إِنَّ « عُفِيَ » بمعنى فُضِلَ ، والمعنَى : فَمَنْ فضل له من الطائفَتَيْن على الأُخْرَى شيءٌ من تِلْك الدِّيات؛ مِنْ قَوْلِهِمْ : عَفَاء الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ ، وَأَظْهَرُ هَذه الأقْوَالِ أوَّلُهَا .
فصل اعلم أَنَّ الذَّين قالُوا : يوجب العَهْد أحدا أمرَين : إِمَّا القِصَاص ، وَإِمَّا الدِّيَة : تمسكوا بهذه الآية ، فقالوا : الآيةُ تدُلُّ على أَنَّ فيها عافياً ومَعفوّاً عَنْه ، وليسَ هاهنا إلاَّ وَلِيُّ الدمِ ، والقاتلُ ، فيكون العافِي أحدَهُما ، ولا يجوزُ أن يكونَ القاتلَ لأَنَّ ظاهر العْفو هو إسقاطُ الحقِّ ، وذلك إنَّما يتأتَّى من الوليِّ الذي له الحقُّ على القاتل ، فصار تقديرُ الآية : فإذا عَفَى وَلِيُّ الدَّم عن شيءٍ يتعلَّق بالقاتِلِ ، فليتبع القاتلُ ذلك العفو بمَعْروف .
وقوله « شيء » مبهمٌ ، فلا بدَّ من حمله على المذكُور السَّابق ، وهو وجوب القِصَاصِ؛ إزالةً للإبهام ، فصار تقدير الآية : إِذَا حصَلَ العْفُو للقاتلِ عن شيءِ فلْيُتْبع القاتِلُ العَافِيَ بالمَعْروف ، والأداء إِلَيْه بالإِحْسَان . وبالإجْماع لا يجبُ أداءُ غيْر الدِّية؛ فوجب أن يكُون ذلك الواجبُ ، هو الدِّيةَ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ موجِبَ العمد هو القَوَد ، أو المال؛ إِذْ لو لم يكُنْ كذلك ، لما كان واجباً عنْد العفو عن القَودِ ، والله تعالى أعلَمُ .
ومما يؤكِّد هذا قولُه تعالى : { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } ، أي أثبَتَ الخيارَ لَكُمْ في أخْذ الدية ، والقِصَاص؛ رحمةً عَلَيْكُم ، لأَنَّ الحُكم في اليَهُود حتْمُ القِصَاصِ ، والحُكمَ في النَّصَارَى حتمُ العفوِ؛ فخفّف عن هذه الأمَّة ، وشَرَع لهم التخييرَ بين القِصَاص ، والعَفْوِ ، وذلك تخفيفٌ من الله ورحمةٌ في حقِّ هذه الأمَّة؛ لأنَّ وليَّ الدم قد تكون الديةُ عنْده آثَرَ مِن القَوَدِ ، إذا كان محتاجاً ، وقد يكون القَوَدُ عنده آثَرَ ، إذا كان راغباً في التشفِّي ، ودفْع شر القاتلِ عنْ نَفْسهِ ، فجعل الخِيَرةَ فيما أحبَّهُ؛ رحمةً من الله في حقِّه .
فَإِنْ قيل : لا نسلِّم أَنَّ العافِيَ هو وليُّ الدمِ ، والعفو إسقاطُ الحقِّ ، بل المراد من قوله : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } أي فمَنْ سَهُلَ له مِنْ أخيه شيءٌ ، يقال : أتَانِي هذا المالُ عَفْواً صَفْواً ، أي : سهلاً ، ويقال : خُذْ ما عُفِيَ ، أي : ما سَهُلَ؛ قال تبارك وتعالى : { خُذِ العفو } [ الأعراف : 199 ] ، فتقديرُ الآيةِ : فمَنْ كان من أولياءِ الدَّم ، وسَهُلَ له مِنْ أخيه الَّذي هو القاتِلُ شيءٌ من المالِ ، أو سَهُلَ له من جهة أخِيه المَقْتُولِ ، أي : بسب أخِيهِ المَقْتُولِ ، فإِمَّا أن يكون أخَاه حقيقةً ، وإِمَّا أن تكون قرابَتُهُ غيْر الأخوَّة ، فسمَّاه أخاً مجازاً؛ كما سمَّى المقتول أخاً للقاتل ، والمراد : فمن كان من أولياء الدم وسَهَّلَ ، فليتبعْ وليُّ الدم ذلك القاتِلَ في مطالَبَةِ ذلك المالِ ، وليؤدِّ القاتلُ إلى وَلِيِّ الدَّم ذلك المال بالإحْسَان؛ منْ غَيْر مطل ، ولا مدافعة ، فيكون معنَى الآيَةِ؛ على هذا التقدير : « إنَّ الله تعالى حَثَّ الأَوْلِيَاءَ ، إِذَا دُعُوا إلى الصُّلْحِ من الدَّمِ على ديتهِ كُلِّها ، أو بَعْضها : أَنْ يرضَوْا بِهِ؛ ويعْفُوا عن القَوَد .
سلَّمنا أن العَافِيَ هو وَلِيُّ الدم ، لكن لا يجوز أن يقال : المرادُ هو أن يكون القِصَاصَ مشتركاً بين شريكَيْن؛ فيعفُو أحدهما فحينئذٍ ينقلب نصيبُ الآخَر إلى الدِّية ، والله تعالى أَمَرَ الشريكَ السَّاكت باتِّباعَ القاتلِ بالمَعْروف ، وأمر القاتل بالأداء إِلَيْه بإِحْسَان .
سلَّمنا أن العافِيَ هو وليُّ الدم ، سواءٌ كان له شريكٌ ، أوْ لمَ لكُنْ لِمَ لا يَجُوز أن يُقَالَ إن هذا مَشْروطٌ بِرضا القاتِلِ إِلاَ أَنَّه تبارك وتعالى لم يذكُر رضا القاتِل؛ لأنه ثابتٌ معروفٌ لا محالة ، لأَنَّ الظاهر مِنْ كلِّ عاقلٍ أنَّه يبذلُ كلَّ الدنيا لَغَرَضِ دَفْع القَتْل عن نَفْسه؛ لأَنَّهُ إِذَا قتل لا يبقَى له نفْسٌ ولا مالٌ ، وبذلك المال فيه إحياءُ النَّفْسِ ، فَلَمَّا كان هذا الرضا حاصلاً في الأَعَمِّ الأغلَبِ ، لا جَرَمَ ترك ذكْره ، وإن كان معتبراً في نَفْس الأَمْر .
فالجواب أَنَّ حمل لفظ « العفوِ » هنا على إسقاط القِصَاص أولىَ منْ حَمله على دَفع القاتل المالَ إلى وليِّ الدمِ؛ مِنْ وجهين :
الأوَّل : أنَّ حقيقة العفوِ إِسْقاط الحِّ؛ فوجب ألاَّ يكونَ حقيقةً في غيره؛ دفعاً للاشتراك ، وحَمْلُ اللفظ هنا على إِسْقاط الحقِّ أَولى من حمْله على ما ذكَرتمِ؛ لأَنَّه لَمَّا قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } ، كان حمل قولِهِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ } على إسقاط حقِّ القصاص أَوْلَى؛ لأنَّ قوله « شَيْءٌ » لفظ مبهمٌ ، وحمل هذا المبْهَم علَى ذلك المعيَّن المذكور السَّابقِ أَوْلَى .
الثاني : لو كان المرادُ ب « العَفْو » ما ذكَرتم ، لكان قوله { فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } عبثاً؛ لأنَّ بَعْد وُصُول المالِ إِلَيْه في السُّهولة واللِّين ، لا حاجة به إلَيْه ، ولا حاجَةَ بذلك المُعْكَى أنْ يؤمر بأداء ذلك المَالِ بالإِحْسَان .
والجواب عن الثاني مِنْ وجهين :
الأَول : أنَّ ذلك الكلام : إِنَّمَا يتمشَّى بفَرض صُورةٍ مخْصُوصة ، وهي ما إذا كان حَقُّ القِصَاصِ مشتركاً بين اثنين ، فعفا أحدهما وسكت الآخرُ ، والآيَةُ دالَّة على شرعيَّة هذا الحُكْمِ على الإِطْلاقَ ، فَحَمْلُ اللَّفْظ المطْلَقِ علَى صُورة خاصَّة مقيَّدة خلافُ الظاَّهر .
الثاني : أن الهاء في قوله { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } ضميرٌ عائدٌ إلى مذكور سابقٍ ، وهو العافِي ، فوجَبَ أداء هذا المال إلى العَافِي ، وعلى قولكم : يكون أداؤه إلى غيْر العافي فيكون باطلاً .
والجوابُ عن الثَّالث : أنَّ توقيفَ ثُبُوتِ أَخْذِ الدِّية وقبول ذلك لوليِّ الدم ، على اعتبار رضا القاتلِ يُخَالِفُ الظَّاهر ، وهو غَيْرُ جائزٍ .
فصل
قد تَقَدَّمَ أن تقدِيرَ الآية الكريمة يَقْتَضِي شَيْئاً من العَفو ، وهذا يُشْكِلُ إِذَا كان الحقّ ليسَ إلا القَوَد فَقَط ، فإنَّهُ يقال : القَوَدُ لا يتبعَّض ، فما إذا كان مجموعُ حقِّه ، إِمَّا القَودَ وَإِمَّا المَالَ؛ كان مجموعُ حقِّه متبعِّضاً؛ لأنَّ له أنْ يعفو عن القَود دون لمال وله أن يعفُو عن الكُلِّ . ؟
وتنكير الشَّيء يفيد فائدةً عظيمةً؛ لأَنَّهُ كان يجوز أن يتوهم أنَّ العفو لا يؤثِّر في سَقُوط القَوَدِ ، وعفو بعض الأولياءَ عَنْ حقِّه؛ كعَفْو جميعهم عَنْ حقِّهم ، فلو عرَّف الحقَّ ، كان لا يفهم منْه ذلك ، فَلَمَّا نكَّره ، صار هذا المعْنَى مفهوماً منه .
فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمناً
نقل أ ابن عبَّاس تمسَّك بهذه الآية كَوْ الفاسِق مؤمناً مِنْ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه تعالى سمَّاه مؤمناً ، حال ما وجَبَ القِصَاص علَيْه : وإِنَّما وجب القِصَاصُ عليه إذا صدر القتل العمدُ العدوان ، وهو بالإِجْماع من الكبائرِ؛ فدلَّ على أن صاحِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ .
وثانيها : أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل ، وبيْن وليِّ الدم ، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ ، قال تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين .
وثالثها : أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ ، والندب إلى العَفْو ، إِنَّما يليقُ بالمؤمن .
أجابت المعتزلة عن الأَوَّل : فقالوا : إِنْ قلْنا : المخاطبُ بقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } هم الأَئمَّةُ ، فالسُّؤالُ زائلٌ : وإِنْ قلْنا : هُمُ القاتِلُون ، فجوابُهُ مِنْ وجهين :
أحدهما : أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل ، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمنا بهذا التأويل .
الثاني : أن القاتل قد يَتُوب ، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً ، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً .
وأجابُوا عن الثَّاني بوجوه :
الأوَّل : أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً ، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل .
والثاني : الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ ، أو نَقُولك المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل؛ كما تقدَّم .
الثالث : يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب؛ كقوله : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } [ الأعراف : 65 ] .
الرابع : أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلّقُ واختصاصٍ ، وهذا القَدْرُ يكْفي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة ، كما نقول للرجُل : قلْ لصاحبك كذا ، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق .
الخامس : ذكر لفْظ الأخُوَّة؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة .
وعن الثَّالث : أنَّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد .
والجوابُ : أنَّ هذه الوجوه كُلَّها تقتضِي تقْييدَ الأخُوَّة بزمانٍ دون زمانٍ ، وبصفَةٍ دون صفةٍ ، والله تعالى أَثْبَتَ الأخوَّةَ على الإطْلاق ، وهذا الجوابُ لا يردُّ ما ذكَرُوه في الوَجْه الثاني مِنْ قولهم : المرادُ بالأخُوَّة الَّتي بيْن وليِّ الدم والمقتولِ؛ كأنه قيل : « فَمَنْ عُفِيَ لَهُ بسبب أخِيه المَقتُول شَيْء والمراد : الدِّيَةُ : فَلْيَتَّبعْ وليُّ الدَّم القاتلَ بالمعروف ، وَلأْيُؤَدِ القاتلُ الديةَ إلى وَلِيِّ الدَّمِ بإحسان؛ وحينئذ يحتاجُ هذا إلى جوابٍ .
قوله : { فاتباع بالمعروف } في رفْع » اتِّبَاعٌ « ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطيَّة - رحمه الله تعالى - والواجبُ الاتباعُ وقدَّره الزمخشريُّ : » فالأَمْر اتِّباعٌ « . ؟
قال ابن عطيَّة : وهذا سبيلُ الواجباتِ ، وأَمَّا المندوبات ، فتجيء منصوبةً؛ كقوله { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] قال أبو حيَّان : ولا أدري ما الفَرٌْ بين النَّصْب والرفع ، إلاَّ ما ذكروه من أَنَّ الجملة الاسمية أثبَتُ وآكد؛ فيمكن أن يكُونَ مستند ابن عطيَّة هذا ، كما قالوا في قوله : { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [ هود : 69 ] .
الثاني : أن يرتفع بإضمار فعل ، وقدره الزمخشري : » فليكن اتباعٌ « قال أبو حيَّان : هو ضعيفٌ؛ إِذْ » كَانَ « لا تضمَرُ غالباً إلاَّ بعد » إِن « الشَّرطيَّة و » لَوْ « ؛ لدليلٍ يَدُلُّ عليه .
الثالث : أن يكُونَ مبتدأً محذوفَ الخبر ، فمنهم : مَنْ قَدَّرَهُ متقدِّماً عليه ، أي : « فعلَيْهِ اتباعٌ » ومنهم : مَنْ قدَّره متأخِّراً عنه ، أي : « فَاتِّباعٌ بالمَعْرُوفِ علَيْه » .
قولُهُ « بِالمَعْرُوفِ » فيه ثلاةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يتعلَّق ب « اتِّبَاعٌ » فيكون منصوبَ المحلِّ .
الثاني : أن يكونَ وصْفاً لقوله « اتِّبَاعٌ » فيتعلَّق بمحذوف ويكون محلُّه الرفْعَ .
الثاللث : أَنْ يكون في محلِّ نصب على الحال مِنَ الهاء المحذُوفة ، تقديرُهُ : « فعلَيْهِ اتِّباعُهُ عادلاً » والعاملُ في الحالِ معْنَى الاسْتِقْرار .
قولُهُ « وَأدَاء إِلَيْهِ بإحْسَانٍ » في رفعه أربعةُ أوجُه ، الثلاثة المقولةُ في قوله : فاتِّبَاعٌ؛ لأنَّه معطوف علَيْه .
[ والرابع : أنْ يكونَ مبتدأً خبره الجارُّ والمجرورُ بَعْده ، وهو « بإِحْسَانٍ » ، وهو بعيدٌ ، و « إِلَيْهِ » في محلِّ نصْبٍ؛ لتعلُّقِهِ ب « أداءٌ » ، ويجوز أن يكونَ في محلِّ رفْع؛ صفةً ل « أداءٌ » فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : و « أَدَاءٌ كَائِنٌ إلَيْهِ » .
و « بِإِحْسَانٍ » فيه أربعةُ أوجهٍ : الثلاثة المقولة في « بِالمَعْرُوفِ » ] .
والرابع : أَنْ يكون خبر الأداء ، كما تقدَّم في الوجه الرابع من رفع « أَدَاءٌ » . والهاء في « إِلَيْهِ » ، تعود إلى العافي ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكٌْ ، لأَنَّ « عَفَا » يستلزمُ عافياً ، فهو من باب تَفْسِير الضمير بمصاحب بوجْهٍ ما ، ومنه { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] أي : الشمس؛ لأن في ذكر « العَشِيِّ » دلالةً عليها؛ ومثله : [ الطويل ]
918 - فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا ... دَعَاكَ وَأَيْدينَا إِلَيْهِ شَوَارعُ
لَكَّالرَّجُلِ الْحَادِي وَقَدْ تَلَعَ الضُّحَى ... وَطَيْرُ المَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ
فالضميرُ في « فَوْقَهُنَّ » للإِبِلِ؛ لدلالة لَفْظ « الحَادِي » عليها؛ لإِنَّهَا تصاحبُهُ بوجه مَّا .
فصل
قال ابنُ عبَّاس ، والحَسَنُ وقتادةُ ، ومجاهد : على العَافِي الاتباعُ بالمَعْروف ، وعلى المَعْفُوِّ الأَدَاء إِلَيْه بإحسان .
وقيل هما على المَعْفُوِّ عنه ، فإنَّه يُتْبع عفو العافِي بمعروفٍ ، فهو أَداءٌ المعروفِ إليه بإحسان ، والاتباعُ بالمعروف : ألاَّ يشتدَّ في المطالبة ، بَلْ يجري فيها على العادَةِ المألُوفَة فإنْ كان مُعْسِراً ، أنْظَرَه ، وإن كان واجداً لغَيْر المالِن فلا يطالبه بزيادة على قدر الحَقِّ ، وإن كان واحداً لغير المال الواجبِ ، فيمهله إلى أن يبيع ، وأن يستبدل وألاَّ يمنعه تقديم الأهمِّ من الواجبات ، فأَمَّا الداء إلَيه بإحسان فالمراد به : ألاَّ يَدَّعِيَ الإِعدامَ في حال الإِمكانِ ، ولا يؤخِّره مع الوجُود ، ولا يقدِّم ما ليس بواجِبٍ عليه ، وأن يؤدي المالَ ببشْرٍ ، وطلاقةٍ ، وقولٍ جميلٍ .
ومذْهبُ أكثر العُلَمَاءِ ، والصحابةِ ، والتابعين : أّنَّ وليَّ الدم ، إِذَا عَفَا عن القصاصِ على الدِّية ، فله أَخْذُ الدية ، وإِنْ لم يرْضَ القَاتِلُ .
وقال الحَسَنُ ، والنَّخَعِيُّ ، وأصحاب الرأي : لا دِيَةَ له ، إلاَّ برضى القاتل .
حجَّة القول الأَوَّل : قوله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قُتِلَ له قَتِيل ، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يفدِي » .
قولُهُ : « ذَلِكَ تَخْفِيف » الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العَفْو ، والدية؛ لأنَّ العَفْو ، وأَخذَ الدِّيَةِ محرَّمان عَلى أهْل التَّوْراة ، وفي شَرْع النَّصَارَى العفْو فقَطْ ، ولم يكُنْ لهم القصاص ، فخير الله تعالى هذه الأمَّة بيْن القصاص ، وبيْن العَفْو على الدِّيَة تخفيفاً منه ورحمةً .
وقيل إِنَّ قولَهُ : « ذَلِكَ » راجعٌ إلى قوله { فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } و « مِنْ رَبِّكُم » في محلِّ رفْعٍ؛ لأَنَّهُ صفةٌ لما قبله ، فيتعلَّق بمحذوف .
ورَحْمَةٌ صفتُها محذوفةٌ أيضاً ، أي : « رحْمَة مِنْ رَبِّكُمْ » .
قوله « فَمَن اعْتَدَى » يجوز في « مَنِ » الوجهانِ الجائزانِ في قولِهِ « فَمَنْ عُفِيَ لَهُ » من كونِها شرطيَّةً وموصولَةً ، وجميعُ ما ذكر ثَمَّةَ يعودُ هنا .
فصل
قال ابنُ عبَّاس : « اعْتَدَى » ، أي : داوز الحَدَّ غلى ما هو أكْثَرُ منْه ، قال ابن عبَّاس ، وقتادة ، والحسن : هو أن يَقْتُلَ بَعْد العَفْوِ ، وأخذ الدِّية ، وذلك أنَّ الجاهليَّة كانوا إذا عَفَوْأ ، وأَخَذُوا الدية ، ثم ظَفِرُوا بالقاتل ، قَتَلُوه ، فنهى الله عن ذلك في قوله { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وفيه قولان :
أشهرهُما : أنه نوعٌ من العذابِ شديدٌ الألمِ في الآخِرةِ .
والثاني : روي عَنْ قتادَة ، والحَسَن ، وسعيد بن جبير : هو أن يقتل لا محالة ، ولا يَعْفُو عَنْه ، ولا يقبل منه الدِّية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لاَ أُعَافِي أَحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ »
قال القرطبيُّ منْ قَتَلَ بَعْد أخْذ الدِّية؛ كَمَنْ قَتَلَ ابتداءً ، إنْ شاء الوليُّ قَتَلَه وإِنْ شاءَ ، عفا عنه ، وعذابه في الآخر ، وهذا قولُ مالكٍ ، والشافعيِّ وجماعةٍ .
وقال قتادةُ وعكْرمةُ ، والسُّدِّيُّ ، وغيره : عذابُه أن يقتل الْبَتَّةَ ، ولا يمكن الحاكمُ الوليَّ من العَفْو .
قال ابن الخَطِيب وهذا القَولُ ضعيفٌ؛ لأن المفهُوم من العذاب الأَليم عنْد الإطلاق هو عذابُ الآخرة ، وأيْضاً : فإِنَّ القَوَدَ تارةً يكُونُ عذاباً؛ كما هو في حقِّ غير التائب ، وتارةً يكُون امتحاناً؛ كما في حقِّ التائب ، فلا يصحُّ إِطْلاٌقُ العذابِ علَيْه إلاَّ في وجه دُونَ وجْهٍ .
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً وجوه :
أحدها : أَنَّهُ ليس المرادُ أَنَّ نَفْس القصاص حياةً؛ لأَنَّ القصاصَ إِزالةٌ للحياةِ ، وإزالةُ الشيءِ يمتنع أَنَّ تكُون نفْسَ ذلك الشَّيءِ ، بل المراد أَنَّ شَرْع القِصَاص يُفْضِي إلى الحياة .
أَمَّا في حقِّ منَ يريدٌ القَتَلَ فإنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّه إذا قَتِلَ تَرَكَ القَتْل؛ فلا يقتل ، فيَبْقَى حَيّاً ، وأمَّا في حقِّ المقتول : فإنَّ مَنْ أراد قتلَه ، إذا خاف مِنَ القِصَاصِ؛ تَرَكَ قَتلهُ فيبقَى غير مقتول ، وأمَّا في حِّ غيرهما : فَلأَنَّ في شرع القِصَاص بقاءَ من هَمَّ بالقَتْل ومن يهمّ به ، وفي بقائهما بَقَاءُ مَنْ يتعصَّبُ لهما؛ لأَنَّ الفِتْنَة تعظُمُ بسبَب القَتْل فتؤدِّي إلى المُحاربة الَّتي تنتهي إلى قتل عالَمٍ من النَّاس ، وفي شَرْعِ القِصَاص زوالٌ لِكُلِّ ذلك ، فيصير حياةً للكُلِّ .
وثانيها : أَنَّ نفسَ القصاص سببُ الحياة؛ لأنَّ سَافِك الدَّم ، إِذَا أُقِيدَ منْه ، ارتدع مَنْ كان يهُمَّ بالقتل ، فلم يقتل ، فكان القصاص نفسُه سبباً للحياة مِنْ هذا الوجه .
وثالثها : معنى الحياة سلامتُهُ مِنْ قِصَاصِ الآخِرة ، فإِنَّهُ إذا اقتصَّ منه في الدُّنْيا ، حيي في الآخرة ، وإذا لم يقتصّ منه في الدُّنيا اقْتُصَّ منه في الخرة وها الحُكْم غير مختصٍّ بالقِصَاصِ في النَّفْسِ ، بل يدخل فيه القِصاص في الجِراح والشِّجَاج .
ورابعها : قال السُّدَّيُّ : ت المرادُ من القِصَاصِ إيجابُ التَّوبَة .
وقرأ أبو الجوزاء في القَصَصِ والمراد به القُرآن .
قال ابنُ عطيَّة ويحتمل أن يكون مَصْدراً كالقِصاصِ ، أي أَنَّهُ إذا قُصَّ أثَرُ القاتلِ قَصَصاً ، قُتِل .
ويحتمل أن يكون قوله : { فِي القصاص حَيَاةٌ } أي فيما أَقُصُّ عليكُمْ مِنْ حُكْم القَتْل والقِصَاصِ .
فصل في الردِّ على احتجاج المعتزلة بالآية
قالت المعتزلة : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القِصَاصِ سببٌ للحياة؛ لقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب } ، فدَلَّ ذلك على أَنَّهُ لو لم يُشْرع القِصَاصُ ، لكان ذلك سبباً للموت قبل حلول وَقْتِهِ ، وكذلك كلُّ ما نتج من الحيوان ، فإنَّ هلاكه قَبْلَ أجلِهِ؛ بدليل أنَّهُ يجب على القاتِلِ الضَّمانُ والدِّية .
وأجيب بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [ آل عمران : 145 ] وقوله : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } وح : 4 ] { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] فمتى قتل العبد علمنا أَنَّ ذلك أجلُهُ ، ولا يصحُّ أن يقال : إِنَّه لو لم يُقْتَلُ ، لعاش؛ لما ذكرنا من الآيات .
أمَّا وجوب الضمان والدِّية ، فللإقدام على القَتْل وللزجر عن الفِعْل .
فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة
اتفق علماءُ البَيَانِ على أَنَّ هذه الآية في الإيجازِ مع جميع المعاني باللّغةٌ بالغةٌ أعلى الدَّرجَات؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى « القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ » ، ويروى « أَنْفَى لِلْقَتْل » ، ويروَى « أَكَفُّ لِلْقَتْلِ » ، ويروى « قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع » ، ويروى : « أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ » فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة ، وُجدت في الآية الكريمة دونه :
منْها : أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ .
ومنها : أَنَّهُ لا بدَّ مِنْ تقدير حَذْفٍ؛ لأنَّ « أَنْفَى » و « أَوقَى » و « أَكَفُّ » أفعل تفضيل فلا بدَّ من تقدير المفضَّل عليه ، أي : أنفى لِلْقتلِ مِنْ تركِ القتل .
ومنها : أنَّ القِصَاص أَعَمُّ؛ إِذ يوجد في النَّفْس وفي الطَّرف ، والقتلُ لا يكون إلاَّ في النَّفسِ .
ومنها : أَنَّ ظاهر قولهم كونُ وجود الشيء سَبَباً في انتفاءِ نفسه .
ومنها : أَنَّ في الآية نَوعاً من البديع يُسمَّى الطبَاقَ ، وهو مقابلةُ الشيءِ بضدِّه ، فهو يُشبه قوله تعالى : { أَضْحَكَ وأبكى } { النجم : 43 ] .
قوله : { ياأولي الألباب } منادًى مضافٌ وعلامة نصبه الياءُ ، واعلم أنَّ « أُولِي » اسمُ جَمع؛ لأَنَّ واحده ، وهو « ذُو » من غَير لفظه ، ويجري مَجرى جمع المذكَّر السَّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرِّه بالياء المكسور ما قبلها ، وحُكمه في لُزُوم الإضافة إلى اسم جنس حكمُ مفردِهِ ، وقد تقَدَّمَ في قوله تعالى : { ذَوِي القربى } [ البقرة : 177 ] ويقابلُهُ في المؤنث « أُولاَت » وكتباً في المُصْحف بواوٍ بعد الهمزة؛ قالوا : ليفرِّقوا بين « أُولِي كَذَا » في النَّصْب والجَرِّ ، وبن « إِلَى » الَّتي هي حرفُ جرٍّ ، ثم حمل باقي البَابِ علَيْه ، وهذا كما تقدَّمَ في الفَرق بين « أُولَئِكَ » اسْمَ إشارةٍ ، و « إِلَيْكَ » جاراً ومجروراً وقد تقدَّم ، وإذا سَمَّيْتَ ب « أولى » ، من « أُولِي كَذَا » قلت : « جَاءَ أُلُونَ ، وَرَأَيْتَ أُلِينَ » بردِّ النُّون؛ لأَنَّها كالمقدَّرة حالة الإضافة ، فهو نظيرُ « ضَارِبُوا زَيْجٍ وَضَارِبي زَيْدٍ » .
والأَلبَابُ : جمع لُبٍّ ، وهو العقلُ الخالي من الهوَى؛ سمِّي بذلك لأحَدِ وَجهين :
إما لبنائِهِ مِنْ لَبَّ بالمَكَانٍ : أَقَامَ به وإِمَّا من اللُّبَابِ ، وهو الخَالِص؛ يقال : لَبُيْتَّ بالمكان ، ولَببْتُ بضمِّ العين ، وكسرها ، ومجيء المضاعف على « فَعْلٍ » بضم العَين شاذٌّ ، استغنَوْا عنه ب « فَعَلَ » مفتوح العين؛ وذلك في أَلفاظ محصورةٍ؛ نحو عَزُزْتُ ، وسَرُرْتُ ، ولَبُبْبُ ، ودَمُمْتُ ، ومَلُلْتُ فهذه بالضمِّ وبالفَتْح ، إلاَّ « لَبُبُبُ » فبالضمِّ والكَسْر؛ كما تقدَّم .
قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } : قال الحسن والأصمُّ : لعلَّكمْ تَتَّقُونَ نفْس القَتْل؛ بخَوف القِصَاصِ .
وقيل : المرادُ هوالتقْوَى من كُلِّ الوُجُوه .
قال الجُبَّائِيُّ : هذا يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى أراد التَّقْوى مِنَ الكُلِّ ، سواءٌ كان في المعْلُوم أنهم يَتَّقُونَ أَوْ لاَ يَتَّقُون بخلاف قول المُجْبِرَةِ ، وقد سَبَق جوابُه .
فإِن قيل « لَعلَّ » للتَّرَجِّي ، وهو في حقِّ اللَّهِ تعالى محالٌ ، فجوابهُ مَا سَبَقَ في قوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] .
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
قال القُرطبيُّ في الكلام تقدير واو العطف ، أي : { وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ } ، فلما طال الكلامُ ، سقطَت الواو ، ومثله في بعض الأَقوال : { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى } [ الليل : 15 ، 16 ] ، أي : والذي تَوَلَّى فحذف .
قووله : « كُتِبَ » مبنيٌّ للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تعالى وللاختصار .
وفي القائم مقام الفاعل ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أن يكون الوصيَّة ، أي : « كتِبَ عَلَيْكُمْ الوصِيَّة » وجاز تذكير الفعل لوجهين :
أحدها : كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثاً مجازياً .
والثاني : الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه .
والثاني : أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله : { الوصية لِلْوَالِدَيْنِ } أي : كُتِبَ هو أي : الإيصاءُ ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [ البقرة : 181 ] وأيضاً : أنَّه ذكر الفِعلْل ، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة؛ لأَنَّ الكلام ، لمَّا طال ، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل ، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث ، والعَرَبُ تَقُولُ : حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة .
والثَّالِثُ : أنه الجارُّ والمجرُور ، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش ، والكوفيين ، و « عَلَيْكُم » في محلِّ رفع على هذا القول ، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين .
قوله تعالى : « إذَا حَضَر » العامل في « إِذَا » كُتِبَ « على أَنَّها ظَرف مَحْض وليس متضمِّناً للشَّرط ، كَأَنَّهُ قيل : » كُتِبَ عَلَيْكُمْ الوَصِيَّةُ وَقْتَ حُضُورِ المَوْتِ « ولا يجوز أنْ يكُون العامل فيه لفظ » الوَصيَّة « ؛ لأنَّها مصدرٌ ، ومعمولُ المصدر لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ ، إلاَّ على مَذِهب منَ يَرَى التَّوسُّع في الظَّرف وعديله ، وهو أبو الحسن؛ فإنَّه لا يَمْنعُ ذلك ، فيكُون التَّقْديِرُ : » كُتِبَ عَلَيْكمْ أنْ توصوا وقت حضور الموت « .
وقال ابنُ عطيَّة ويتَّجِه في إعراب هذه الآية الكريمة : أن يكون » كُتِبَ « هو العامِلَ في » إِذَا « ، والمعنى : » تَوَجَّه علَيْكم إيجابُ اللَّهِ ، ومقتضى كتابِهِ ، إذا حَضَر « فعبّر عن توجُّه الإيجاب ب » كُتِبَ « لينتظم إلى هذا المعنى : أَنَّهُ مكتوبٌ في الأَزَلِ ، و » الوَصِيَّة « مفعولٌ لم يسمَّ فاعلُه ب » كُتِبَ « وجواب الشَّرطين » إِنْ « و » إِذْا « مقدَّر يدلُّ عليه ما تَقَدَّم مِنْ قوله » كُتِبَ « .
قال أبو حيان وفي هذا تناقصٌح لأنَّهُ جعل العَامِل في » إِذَا « كُتِبَ » ، وذلك يستلزمُ أن يكُون إذا ظرفاً محضاً غيرَ متضمِّن للشَّرطِ ، وهذا يناقضُ قوله : « وجواب » إذا و « إن » محذوف؛ لأنَّ إذا الشَّرشطية لا يعملُ فيها إلاّ جوابُها ، أو فعلُها الشرطيُّ ، و « كُتِبَ » : ليْسَ أحدهُما ، فإن قيل : قومٌ يُجِيزُون تقدِيم جوابِ الشَّرط ، فيكُونُ « كُتِبَ » هو الجوابَ ، ولكنَّهُ تَقَدَّم ، وهو عاملٌ في « إِذَا » ن فيكون ابنُ عطيَّة يقُول بهذا القَوْل .
فالجواب : أَنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه صرَّح بأَنَّ جوابها محذوفٌ مدلولٌ عليه ب « كُتِبَ » ، ولم يجعل « كُتِبَ » هو الجوابَ ، ويجوزُ أن يكُونَ العَامِلُ في « إِذَا » الإيصاءَ المفهوم مِنْ لفظ « الوَصِيَّة » ، وهو القائمُ مقام الفاعِل في « كُتِب » ؛ كما تقدَّم .
قال ابن عطيَّة في هذا الوجه : ويكُونُ هذا الإيصاءُ المُقدَّر الذي يَدُلُّ عليه ذكرُ الوصيَّة بعد هو العَاملَ في « إِذَا » ، وترتفع « الوَصِيَّةُ » بالابتداء ، وفيه جوابُ الشَّرطيْن؛ على نحو ما أنشَدَه سيبويه : [ البسيط ]
919 - مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفَظُهُ .. . . .
ويكونُ رفْعُها بالابتداءِ ، أي : فعليه الوصيَّة؛ بتقدير الفَاءِ فقط؛ كأنَّهُ قال : « فالوصِيَّةُ للوالدَيْنِ » ، وناقشه أَبو حيَّان مِنْ وجوه :
أحدها : أَنَّهُ متناقض من حيثُ إنَّهُ إذا جعل « إِذَا » معمولةً للإيصاء المُقدر ، تمحَّضت للظَّرْفية ، فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ؛ كما تقدَّم تحريره .
والثاني : أنَّ هذا الإيصاءَ إما أن تقدِّر لفظه محذوفاً ، أو تضمره ، وعلى كلا التَّقديرين ، فلا يعمل؛ لأَنَّ المصدر شرطُ إعماله ألاَّ يُحذَف ، ولا يضمر عند البصريِّين ، وأيضاً : فهو قائمٌ مقام الفاعل؛ فلا يحذف .
الثَّالث : قوله « جَوَابُ الشَّرْطيْنِ » والشيء الواحد لا يكُون جواباً لاثَنَين ، بل جواب كلِّ واحدٍ مستقلٌّ بقدره .
الرابع : جعلهُ حذفَ الفاءِ جائزاً في القُرآن ، وهذا نصُّ سيبويه على أَنَّهُ لا يجوزُ إلا ضرورةً ، وأنشد : [ البسيط ]
920 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ سِيّانِ
وإنشاده : « من يفعل الصالحات الله يحفظه » يجوز أَنْ يكون روايةً إلاَّ أنَّ سيبَويْه لم يُنْشِدْه كذا ، بل كما تقدَّم ، والمُبرِّد روى عنه : أنَّه لا يجيز حذف الفاء مطلقاً ، لا في ضرورةٍ ، ولا غيرها ، ويرويه : « مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ ، فالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ » وردَّ النَّاس عليه بأنَّ هذه ليست حجّةً على رواية سيبَويْهِ .
ويجوز أنَّ تكون « إِذَا » شرطيَّةً؛ فيكون جوابُها وجوابُ « إِنْ » محذوفَيْن ، وتحقيقُه أَنَّ جوابَ « إِنْ » مقدرٌ ، تقديرُه : « كُتِبَ الوصيَّةُ على أحدِكُمْ إذا حضره الموتُ ، إنْ ترك خَيْراً ، فَلْيُوصِ » ، فقوله : « فَلْيُوصِ » جواب ل « إِنْ » ؛ حُذِفَ لدلالة الكلام عليه ، ويكون هذا الجوابُ المقدَّر دالاًّ على جواب « إِذَا » فيكون المحذُوف دالاًّ على محذوف مثله .
وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْل من يَقُولُ : إنَّ الشَّرط الثَّاني جواب الأَوَّل ، وحُذِفَ جواب الثَّاني ، وأولى أيضاً مِنْ تقدير مَنْ يقدِّره في معنى « كُتِبَ » ماضي المعنى ، إلاَّ أن يؤوِّله بمعنَى : « يتوجَّه علَيْكُمْ الكَتْبُ ، إن تَرَكَ خَيْراً » .
قوله « الوَصِيّة » فيه ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يكُونَ مبتدأً ، وخبره « لِلْوَالِدَيْنِ » .
والثاني : أنَّهُ مفعول « كُتِبَ » ، وقد تقدَّم .
والثالث : أنَّهُ مبتدأٌ ، خبره محذوف ، أي : « فعلَيْهِ الوصيَّةُ » ، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ ، وهو الأخفشُ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ .
فصل في المراد من حضور الموت .
قوله { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء ، ثم ذكر في ذلك وجهَين :
أحداهم : وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت؛ كالمَرَض المَخُوف؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد : « وَصَلَ » ؛ قال عنترة : [ الوافر ]
921 - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما ... وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي
وقال جَرِيرُ ، يهْجُو الفَرَزدَق [ الوافر ]
922 - أَنَّا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ
والثاني : قال الأصمُّ : إِنَّ المُرَادَ : فَرَضْنَا عَليْكُم الوصِيَّة في حَالِ الصَّحَّة بأن تقُولُوا : « إِذا حَضَرَنا المَوْتُ ، فافْعَلُوا كذا » .
فصل في المراد بالخير في الآية
المرادُ بالخَير هنا المالُ؛ كقوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 272 ] { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] { مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ : وقد وَرَدَ لفظ « الخَيْر » في القرآن بإزاء ثمانية معان :
الأَوَّل : الخَيْرُ : المالُ؛ كهذه الآية .
الثاني : الإيمانُ ، قال تعالى : { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } [ الأنفال : 23 ] أي : إيماناً ، وقوله { } [ الأنفال : 70 ] ، يعني : إيماناً .
الثالث : الخير الفضل؛ ومنه قوله : { خَيْرُ الرازقين } [ المائدة : 14 ] [ الحج : 58 ] [ المؤمنون : 72 ] [ سبأ : 39 ] [ الجمعة : 11 ] { خَيْرُ الراحمين } [ المؤمنون : 109 ، 118 ] { خَيْرُ الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] [ يونس : 109 ] [ يوسف : 80 ] .
الرابع : الخير : العافية؛ قال تعالى : { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } [ يونس : 107 ] ، أي : بعافية .
الخامس : الثَّواب قال تعالى : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } [ الحج : 36 ] ، أي : ثواب وأجر .
السادس : الخير : الطَّعام؛ قال : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
السابع : الخير : الظَّفر والغنيمة؛ قال تعالى : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] .
الثامن : الخير : الخيل؛ قال تعالى : { أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي } [ ص : 32 ] ، يعني : الخيل .
ثم اختلفوا هان على قولين :
فقال الزهريُّ : لا فرق بين القليل ، والكثير ، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ ، لأن المال القليل خير؛ لقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ] { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] والخير : ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك ، وأيضاً : قوله تعالى في المواريث : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } [ النساء : 7 ] فتكون الوصية كذلك .
الثاني : أن الخير هو المال الكثير؛ لأن من ترك درهماً لا يقال ترك خيراً ، ولا يقال : فلانٌ ذو مالٍ ، إلاَّ أن يكون ماله مجاوزاً حدَّ الحاجة ، ولو كان الوصيَّة واجبةً في كلِّ ما يترك ، سواء كان قليلاً أو كثيراً ، لما كان التقييد بقوله : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً } كلاماً مفيداً؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا بُدَّ وأن يترك شيئاً ، وأمَّا من يموت عرياناً ، ولا يبقى منه كسرة خبزٍ فذلك في غاية النُّدرة ، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير ، فهل هو مقدَّر ، أم لا؟ فيه قولان :
الأول : أنه مقدَّر ، واختلفوا في مقداره؛ فروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - : أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أَوَلاً أوصي؟ فقال : لا؛ إنَّما قال الله : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً } والخير : هو المال الكثير ، وليس لك مالٌ .
وعن عائشة : أنَّ رجلاً قال لها : إنِّي أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلافٍ ، قالت : كم عيالك؟ قال أربعٌ ، قالت : قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } وإن هذا يسير ، فاتركه لعائلتك ، فهو أفضل .
وعن ابن عبَّاس : « إذا ترك سبعمائة درهم ، فلا يوصي ، فإن بلغ ثمانمائة درهمٍ ، أوصى » وعن قتادة : ألف ردهمكٍ ، وعن النَّعيِّ : من ألفٍ وخمسمائة درهم .
وقال قوم : إنه غير مقدَّر بمقدار معيَّن بل يختلف باختلاف حال الرجال .
فصل في تحرير معنى « الوصيَّة » .
قال القُرْطُبيُّ : و « الوصيَّة » عبارةٌ عن كلِّ شيءٍ يؤمر بفعله ، ويعهد به في الحياة ، وبعد الموت ، وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله ، وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا ، كالقضايا جمع قضيَّة ، والوصيُّ يكون الموصي ، والموصى إليه؛ وأصله من وصى مخفَّفاً وتواصى النَّبت تواصياً ، إذا اتصل ، وأرض واصية : متَّصلة النّبات ، وأوصيت له بشيءٍ ، وأوصيت إليه ، إذا جعلته وصيَّك ، والاسم الوِصاة ، وتواصى القومُ أوصى بعضهم بعضاً ، وفي الحديث « استوصوا بالنِّساء خيراً؛ فإنهنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ » ووصَّيتُ الشيء بكذا ، إذا وصَّلته به .
فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين
اعلم : أن الله تعالى بيَّن أن الصوية الواجبة للوالدين والأقربين . قال الأصم : وذلك أنَّهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشَّرف ، ويتركون الأقارب في الفقر ، والمسكنة؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيَّة لهؤلاء .
وقال ابن عبَّاس ، وطاوسٌ ، وقتادة ، والحسن : إنَّ هذه الوصيَّة كانت واجبةٌ قبل آية المواريث للوالدين والأقربين من يرث منهم ، ومن لا يرث ، فلما نزلت آية المواريث ، نسخت وجوبها في حِّ الوارث ، وبقي وجوبها في حقِّ من لم يرث ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ »
وقال طاوس : من أوصى لقومٍ ، وترك ذوي قرابة محتاجين ، انتزعت منهم ، وردت في ذوي قرابته .
وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخاً في حقِّ الكافَّة ، وهي مستحبَّة في حقِّ الذين لا يرثون .
روى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
« ما حَقُّ امرِىءِ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يريد أن يُوصِيَ فيه ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ »
وقال بعضهم : إن الوصيَّة لم تكن واجبةً ، وإنما كانت مندوبةً ، وهي على حالها لم تنسخ ، وسيأتي الكلام عليه قريبا - إن شاء الله تعالى - .
قوله : « بالمعروف » : يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة ، أي : حال كونها ملتبسة بالمعروف ، لا بالجور .
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ، فيسوَّى بينهم في العطيَّة ، ويحتمل ان يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض ، ويحرم البعض؛ كما إذا حرم الفقير ، وأوصى للغنيِّ ، لم يكن ذلك معروفاً ، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما ، وبين بني العمِّ ، لم يكن معروفاً ، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش ، ونقل عن ابن مسعود : أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقربا .
وقال الحسن البصريُّ : هم والأغنياء سواء .
وروي عن الحسن أيضاً ، وجابر بن زيدٍ ، وعبد الملك بن يعلى : أنهم قالوا فيمن يوصى لغير قرابته ، وله قرابةٌ لا ترثه ، قالوا : نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته ، وثلث الثُّلث للموصى له ، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ ، وتعطى لذوي القرابة .
وقال بعضهم : قوله : « بالمعروف » : هو ألاَّ يزيد على الثُّلث ، روي عن سعد بن مالك ، قال : جاءني النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مالٍ ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي ، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي روايةٍ : « أُوصِي بِمَالِي كُلِّه » قال : « لا » ، قُلْتُ : بالشَّطْر؛ قال : « لا » ، قلت فالثُّلُث ، قال : « الثُّلُثُ ، والثُّلُثُ كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس »
وقال [ عليٌّ : لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلثن فلم أوصي بالثُّلث ، فلم يترك « ] .
وقال الحسن : نوصي بالسُّدس ، أو الخمس ، أو الرُّبع .
وقال الفارسيُّ : إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع .
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث ، إلاَّ أصحاب الرأي ، فإنهم قالوا : إن لم يترك الوصيُّ ورثةً ، جاز له أن يوصي بماله كله .
وقالوا : إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء .
قوله » حَقّاً « في نصبه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، ذلك المصدر المحذوف : إما مصدر » كُتِبَ « ، أو مصدر » أَوْصَى « ، أي : » كَتْباً حَقّاً « أو » إيصاءً حَقّاً « .
الثاني : أنه حالٌ من المصدر المعرَّف المحذوف ، إما مصدر » كُتِبَ « ، أو » أوصى « ؛ كما تقدَّم .
الثالث : ان ينتصب على أنَّه مؤكِّدٌ لمضمون الجملة؛ فيكون عاملة محذوفاً ، أي : حُقَّ ذلك حَقّاً ، قاله الزمَّخشرِيُّ ، وابن عطيَّة ، وأبو البَقَاء .
قال أبو حَيَّان : وهذا تَأْبَاهُ القَوَاعِدُ النَّحْوِيَّة؛ لأن ظاهر قوله « على المُتَّقِينَ » أن يتعلَّق ب « حَقّاً ، أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين لا يجوز .
أما الأول؛ فلأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل ، وأما الثاني؛ فلأنَّ الوصف يخرجه عن التَّأكيد .
قال شهاب الدِّين : وهذا لا يلزمهم؛ فإنهم ، والحالة هذه ، لا يقولون : إنَّ » عَلَى المُتَّقِينَ « متعلِّق به ، وقد نصَّ على ذلك أو بالبَقَاءِ - رحمه الله -؛ فإنه قال : وقيل : هو متعلِّق بنفس المصدر ، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل ، وإنَّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف ، إذا ناب عنه؛ كقولك » ضَرباً زيداً « ، أي : » اضْرِبْ « إلاَّ أنه جعله صفة ل » حقّ « فهذا يرد عليه ، وقال بعض المعربين : إنه مؤكد لما تضمَّنه معنى المتقين : كأنَّه قيل » عَلَى المُتَّقِينَ حَقّاً؛ كقوله : { أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] وهذا ضعيف؛ لتقدمه على عاملة الموصول ، ولأنه لا يتبادر إلى الذِّهن .
قال أبو حيَّان : والأولى عندي : أن يكون مصدراً من معنى « كُتِبَ » ؛ لأن معنى « كُتِبَ الوَصِيَّةُ » ، أي : حقَّت ووجبت ، فهو مصدر على غير الصدر ، نحو : « قَعَدت جُلُوساً » .
فإن قيل : ظاهر هذا لتَّكليف يقتضي تخصيص هذا التَّكليف بالمتَّقين ، دون غيرهم؟
فالجواب أن المراد بقوله تعالى : { حَقّاً عَلَى المتقين } أنَّه لاَزِمٌ لمن آثر التقوى ، وتحرَّاه ، وجعله طريقةٌ له ومذهباً ، فيدخل الكل فيه .
وأيضاً : فإن الآية الكريمة وإن دلَّت على وجوب هذا المعنى على المتقين ، فالإجماع دلَّ على أنَّ الواجبات والتَّكاليف عامَّةٌ في حقِّ المتَّقين وغيرهم ، فبهذا الطَّريق يدخل الكلُّ تحت هذا التَّكليف .
فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته
قال القُرْطُبيُّ : أجمعوا على أن للإنسان أن يغيِّر وصيَّته ، ويرجع فيما شاء منها إلاَّ أنهم اختلفوا في المدبر .
فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا : أن الموصي ، إذا أوصى في صحَّته ، أو مرضه بوصيَّةٍ ، فيها عتق رقيق ، فإنه يغيِّر من ذلك ما بدا له ، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت ، وإن أحبَّ أن يطرح تلك الوصيَّة ، ويسقطها فَعَل ، إلاَّ أن يدبِّر ، فإن دبَّر مملوكاً ، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر .
قال أبو الفرج المالكيُّ : المدبِّر في القياس كالمعتق إلى شهر؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة ، وأجمعوا على أنَّه لا يرجع في اليمين بالعتق ، والعتق إلى أجلٍ؛ فكذلك المدبِّر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الإمام الشافعيُّ وإسحاق وأحمد : هو وصيَّةٌ .
فصل
اختلفوا في الرَّجل ، يقول لعبده : « أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ موْتِي » ، وأراد الوصيَّة ، فله الرُّجوع عند مالك ، وإن قال : « فُلاَنٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي » لم يكن له الرُّجُوع فيه ، فإن أراد التدبير لقوله الأول ، لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشَّافِعيُّ ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، فهذا كلُّه عندهم وصيَّةٌ؛ لأنَّه في الثُّلث ، وكلُّ ما كان في الثُّلث ، فهو وصيَّة ، إلا أن الشافعيَّ قال : لا يكون له ارُّجوع في المدبَّر إلاّض بأن يخرجه عن ملكه ببيعٍ أو هبةٍ ، وليس قوله : « فَقَدْ رَجَعْتُ » رجوعاً .
فصل
اختلفوا في رجوع المجيزين للوصيَّة للوارث في حياة الموصي ، وبعد وفاته .
فقالت طائفة : ذلك جائز عليهم ، وليس لهم الرجوع ، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ ، وطاوسٍ ، والحسن ، وابن سيرين ، وابن أبي لييلى ، والزهريِّ ، وربيعة ، والأوزاعي ، وقيل : لهم الرجوع ، إن أحبُّوا ، وهو قول ابن مسعود ، وشريحٍ ، ولاحكم ، والثوريِّ ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وأبي ثورٍ وابن المنذر .
وقال مالك : إن أذنوا في صحته ، فلهم الرجوع ، وإن أذنوا في مرضه ، فذلك جائز عليهم ، وهو قول إسحاق .
فصل في الحجر على المريض في ماله
وذهب الجمهور إلى أنَّه يحجر على المريض في ماله .
وقال أهل الظاهر : لا يحجر عليه ، وهو كالصَّحيح .
فصل في توقُّف الوصيَّة على إجازة الورثة
إذا أوصى لبعض ورثته بمالٍ ، وقال في وصيَّته : إن أجازها الورثة ، فهي لك ، وإن لم يجيزوها ، فهو في سبيل الله ، فلم يجزها الورثة ، فقال مالك : مرجع ذلك إليهم .
وقال أبو حنيفة ، ومعمر ، والشافعي في أحد قوليه : يمضي في سبيل الله ، والله أعلم .
فصل
من النَّاس من قال : إن الوصيَّة كانت واجبةً؛ واستدلَّ بقوله كتب وبقوله « عَلَيْكُمْ » وأكد الإيجاب بقوله : { عَلَى المتقين } ، وهؤلاء اختلفوا : فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة .
وقال أبو مسلم : إنها لم تنسخ من وجوه .
أحدها : أن هذه الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث ، ومعناه : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ ما وَصَّى به اللَّه؛ من تواريث الوَالِدَيْن والأقْرَبِينَ ، ومِنْ قوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين؛ بتوفير ما وصَّى به الله عليهم ، وألاَّ ينقص من أنصبائهم » .
وثانيها : أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين .
وثالثها : لو قدرنا حصول المنافاة ، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الواريث ، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث ، ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدِّين أو الرِّقِّ ، أو القتل ، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة : من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم : من يسقط في حال ، ويثبت في حال ، ومنهم : من يسقط في كل حالٍ .
فمن كان من هؤلاء وارثاً ، لم يتجز الوصيَّة له ، ومن كان منهم غير وارث ، صحَّت الوصيَّة له ، وقد أكَّد الله تعالى ذلك بقوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] ، وبقوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى } [ النحل : 90 ] ، والقائلون بالنسخ : اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة ، فقال بعضهم : بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقٍّ حقَّه .
قال ابن الخطيب وهذا بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوبُ قدر آخر بالوصيَّة ، وأكثر ما يوجبه ذلك التَّخصيص ، والنَّسخ .
فإن قيل : لا بدَّ وأن تكون منسوخة في حقِّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلُّ المال حقّاً لهم؛ بسبب الإرث ، فلا يبقى للوصيَّة شيءٌ؟!
فالجواب : أن هذا تخصيص ، لا نسخ .
وقال بعضهم أيضاً : إنها نسخت بقوله - عليه السَّلام - ، « لا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ » ، وفيه إشكالٌ؛ من حيث إنَّه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به ، فإن قيل : بأنه ، وإن كان خبر واحد ، إلاَّ أن الأمَّة تلقَّته بالقبول ، فالتحق بالمتواتر .
فالجواب : سلَّمنا أن الأمَّة تلقَّته بالقبول ، لكن على وجه الظَّنِّ ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظَّنِّ ، فمسلَّم إلاَّ أن ذلك يكون إجماعاً منهم على انه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به ، وإن كان على وجه القطع فممنوع؛ لأنهم لو قطعوا بصحَّته ، مع أنه من باب الآحاد ، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ، وإنه غير جائزٍ .
وقال آخرون : إنها نسخت بالإجماع ، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن؛ لأن الإجماع يدلُّ على أن الدَّليل النَّاسخ كان موجوداً إلاَّ أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدَّليل ، ولقائل أن يقول : لمَّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ؛ فحينئذٍ : لم يثبت الإجماع .
وقال قوم : نسخت بدليلٍ قياسٍّ ، وهو أن نقول : هذه الوصية ، لو كانت واجبةً ، لكانت ، إذا لم توجد هذه الوصيَّة ، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين ، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } [ النساء : 12 ] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ ، فالمال أجمع للوارث .
ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ .
قال القرطبيُّ : قوله تعالى « حَقًّا » أي : ثابتاً ثبوت نظرٍ ، وتحصين ، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ؛ بدليل قوله : « عَلَى المتقين » وهذا يدل على كونه مندوباً؛ لأنه لوكان فرضاً ، لكان على جميع المسلمين ، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي ، وهو من يخاف التَّقصير ، دلَّ على أنه غير لازم لغيره .
فصل « في حقِّ من نسخت الآية »
قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث .
وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء : إنَّها نسخت في حقِّ من يرث ، وثابتة في حقِّ من لا يرث ، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن ، ومسروق ، وطاوسٍ ، والضَّحَّاك ، ومسلم بن يسارٍ ، والعلاء بن زياد .
؟
قال طاوس : إن من أوصى للأجانب ، وترك الأقارب ، نزع منهم ، وردَّ إلى الأقارب؛ لوجوب الوصيَّة عند هؤلاء ، والباقي للقريب الذي ليس بوارث .
واستدلُّوا بأنَّ هذه الآية دالَّة على وجوب الوصيَّة للقريب ، سواء كان وارثاً ، أو غير وارث ، ترك العمل به في حقِّ القري الوارث ، إما بآية الماوريث ، أو بقوله - عليه الصلاة والسلام - : « لاَ وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ » ، وهاهنا الإجماع غير موجود ، لأن الخالف فيه قديم وحديث؛ فوجب أن تبقى الآية دالَّةً على وجوب الوصيَّة للقريب الذي ليس بوارث .
واستدلوا أيضاً بقوله - عليه السلام - : « مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِم لَهُ مُلْكٌ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ » وقد أجمعنا على أن الوصيَّة غير واجبةً لغير الأقارب؛ فوجب أن تكون هذه الوصيَّة واجبةً للأقراب ، فأمَّا الجمهور ، فأجود ما استدلُّوا به على أنها منسوخة في حقِّ الكلِّ قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } [ النساء : 12 ] وقد ذكرنا تقريره .
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
يجوز في « مَنْ » أن تكون شرطيَّةً وموصولةً ، والفاء : إمَّا واجبةٌ ، إن كانت شرطاً ، وإمَّا جائزةٌ ، إن كانت موصولةً ، والهاء في « بَدَّلَهُ » يجوز أن تعود على الوصيَّة ، وإن كان بلفظ المؤنَّث؛ لأنَّها في معنى المذكَّر ، وهو الإيصاء؛ كقوله تعالى : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةً } [ البقرة : 275 ] أي وعظٌ ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيَّة ، إلاَّ أنَّ اعتبار المذكَّر في المؤنَّث قليلُ ، وإن كان مجازيّاً؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك : « هْنْدٌ خَرَجَتْ ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ » ، ولا يجوز : « الشّمْسُ طَلَعَ » كما لا يجوز : « هِنْدٌ خَرَجَ » إلا في ضرورة .
وقيل : تعود على الأمر ، اولفرض الذي أمر الله به وفرضه .
وقيل : تعود إلى معنى الوصيَّة ، وهو قولٌ ، أو فعلٌ ، وكذلك الضَّمير في « سَمِعَهُ » والضَّمير في « إثْمُهُ » يعود على الإيصاء المبدَّل ، أو التَّبديل المفهوم من قوله : « بَدَّلَهُ » ، وقد راعى المعنى في قوله : { عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ } ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول ، لقال { ُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ } ، وقيل : الضَّمير في « بَدَّلَهُ » يعود على الكتب ، أو الحَقِّ ، أو المعروفِ ، فهذه ستَّة أقوال ، و « مَا » في قوله : « بَعْدَمَا سَمِعَهُ » يجوز أن تكون مصدريَّةً ، أي : بعد سماعه ، وأن تكون موصولةً بمعنى « الذي » ، فالهاء في « سَمِعَهُ » على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في « بَدَّلَهُ » ؛ وعلى الثاني : تعود على الموصول ، أي « بَعْدَ الَّذي سَمِعَهُ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ » .
فصل في بيان المبدِّل
في المبدِّل قولان :
أحدهما : انه الوصيُّ ، أو الشاهد ، أو سائر النَّاس
أما الوصيُّ : فبأن يغيِّر الموصى به : إمَّا في الكتابة ، أو في قسمة الحقوق ، وأمَّا الشاهد : فبأن يغيِّر شهادته ، أو يكتمها ، وأما غير الوصي والشاهد؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقِّه ، فهؤلاء كلُّهم داخلون تحت قوله : « فَمَنْ بَدَّلَهُ » .
الثاني : أن المبدِّل هو الموصي ، نهي عن تغيير الوصيَّة عن موضعها التي بيَّن الله تعالى الوصية إليها؛ وذلك أنا بيَّنَّا أنهم كانوا في الجاهليَّة يوصون للأجانب ، ويتركون الأقارب في الجوع والضَّر ، فأمرهم الله تعالى بالوصيَّة إلى الأقربين ، ثم زجر بقوله : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } أي : من أعرض عن هذا التَّكليف ، وقوله : { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، أي سَمِيعٌ لما أوصى به النموصي ، عليمٌ بنيَّتهن لا تخفى عليه خافيةٌ من التَّغيير الواقع فيها .
فصل في تبديل الوصيَّة بما لا يجوز
قال القرطبيُّ : لا خلاف أنه إذا أوصبى بما لا يجوز؛ مثل : أن يوصي بخمرٍ ، أو خنزير ، أو شيءٍ من المعاصي ، فإنه لا يجوز إمضاؤه ، ويجوز تبديله .
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
يجوز في « مَنْ » الوجهان الجائزان في « مَنْ » قبلها ، والفاء في « فَلاَ إِثْمَ » هي جوابُ شرطٍ ، أو الدَّاخلة في الخبر .
و « مِنْ مُوصٍ » يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون متعلِّقة ب « خَافَ » على أنها لابتداء الغاية .
الثاني : أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حال من « جَنَفاً » ، قدمت عليه؛ لأنها كانت في الأصل صفةً له ، فلما تقدَّمت ، نُصِبَتْ حالاً ، ونظيره : « أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ مَالاً » ، إنْ شئت ، علَّقت « مِنْ زَيْدٍ » ب « أَخَذْتُ » ، وإن شئت ، جعلته حالاً من « مالاً » ؛ لأنه صفته في الأصل .
الثالث : أن تكون لبيان جنس الجانفين ، وتتعلَّق أيضاً ب « خَافَ » فعلى القولين الأولين : لا يكون الجانف من الموصين ، بل غيرهم ، وعلى الثالث : يكون من الموصين ، وقرأ أبو بكر ، وحمزة والكسائي ، ويعقوب « مُوصٍّ » بتشديد الصَّاد؛ كقوله : { مَا وصى بِهِ نُوحاً } [ الشورى : 13 ] و { وَوَصَّيْنَا الإنسان } [ لقمان : 14 ] والباقون يتخفيفها ، وهما لغتان؛ من « أَوْصَى » ، و « وَصَّى » ؛ كما قدَّمنا ، إلا أن حمزة ، والكسائيَّ ، وأبا بكر من جملة من قرأ { ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ } [ البقرة : 132 ] ونافعاً ، وابن عامرٍ يقرءان « أَوْصَى » بالهمزة ، فلو لم تكن القراءة سُنَّةً متبعة لا تجوز بالرَّأي ، لكان قياس قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وحفص هناك : « وَوَصَّى » بالتضعيف - أن يقرءوا هنا « مُوَصٍّ » بالتَّعيف أيضاً ، وأمَّا نافع ، وابن عامر ، فإنهما قراءا هنا : « مُوصٍ » مخفَّفاً؛ على قياس قِراءتهما هنا : ، و « أَوْصَى » على « أَفْعَلَ » وكذلك حمزة ، والكسائيُّ ، وأبو بكر قراءوا : « وَوَصَّى » - هناك بالتضعيف؛ على القياس .
و « الخَوْفُ » هنا بمعنى الخشية ، وهو الأصل .
فإن قيل : الخوف إنما يصحُّ في أمر سيصير ، والوصيَّة وقعت ، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟!
والجواب من وجوهٍ :
أحدها : أن المراد منه أن المصلح ، إذا شاهد الموصي ، يوصي ، وظهر منه أمارة الحيف ، عن طريق الحقِّ مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل ، أو شاهد من التَّعمُّد في الميل ، فعند ظهور الأمارة تحقيق الوصيَّة ، يأخذ في الإصلاح؛ لأنَّ إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده ، وقبل تقرير فساده يكون أسهل؛ فلذلك علَّقه - تعالى - بالخوف دون العلم .
الثاني : الموصي له الرجوع عن الوصيَّة ، وفسخها ، وتغييرها بالزِّيادة والنُّقصان ، ما لم يمت ، وإذا كان كذلك ، لم يصر الجنف والإثم معلومين؛ فلذلك علَّقه بالخوف .
الثالث : يجوز أن يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف ، وإذا كان ذلك منتظراً ، لم يكن الجنف ، والإثم مستقرّاً؛ فصحَّ تعليقه بالخوف .
وقيل : [ الخَوْفُ ] بمعنى العلم ، وهو مجازٌ ، والعلاقة بينهما هو أنَّ الإنسان لا يخاف شيئاً؛ حتى يعلم أنه ممَّا يُخاف منه ، فهو من باب التعبير عن السَّبب بالمسبِّب؛ ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] ، وقول أبي محجن الثقفيَّ : [ الطويل ]
923 - إذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي في المَمَاتِ عُرُوقَهُا
وَلاَ تَدْفِنَنِّي في الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مُتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا
فعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أن الميِّت إذا أخطأ في وصيَّته ، أو جنف فيها متعمِّداً ، فلا حرج على من علم ذلك ان غيِّره ، بعد موته ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والرَّبيع ، وأصل « خَافَ » « خَوَفَ » تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفاً ، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف .
و « الجَنَفُ » فيه قولان :
أحدهما : الميل؛ قال الأعشى : [ الطويل ]
924 - تَجَانَفُ عَنْ حُجْرِ اليمَامَةِ نَاقِتِي ... وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسوَائِكَا
وقال آخر : [ الوافر ]
925 - هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِننْ لِقَائِهِمْ لَزُورُ
قال أبو عبيدة : المولى هاهنا في موضع الموالي ، أي : ابن العمِّ؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ غافر : 67 ] ، وقيل : هو الجسور .
قال القائل : [ الكامل ]
926 - إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةَ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
يقال : جَنِفَ بِكَسْر النُّون ، يَجْنَفُ ، بفتحها ، فهو جَنِفٌ ، وجَانِفٌ ، وأَجْنَفَ : جاء بالجَنَفِ ، ك « أَلأَمَ » أي : أتى بما يلام عليه .
والفرق بين الجنف والإثم : أن الجنف هو الميل مع الخطأ ، والثم : هو العمد .
فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيَّة
روي عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنَّ الرَّجُلَ ، أو المَرْأَةَ ، لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سَبْعِينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحضُرُهُمَا المَوْتَ ، فَيُضَّارَّانِ في الوَصِيَّةِ؛ فتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ » ، ثم قرأ أبو هريرة : « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّة » إلى قوله : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة } [ النساء : 12 ] .
فصل
والضمير في « بَيْنَهُمْ » عائدٌ على الموصي ، والورثة ، أو على الموصى لهم ، أو على الورثة والموصى لهم ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدلُّ على ذلك لفظ « الموصي » ، وهو نظير « وأَدَاءٌ إلَيْهِ » في أنَّ الضَّمير يعود للعافي؛ لاستلزام « عُفِيَ » له؛ ومثله ما أنشد الفراء : [ الوافر ]
927 - وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فالضمير في « أيُّهما » يعود على الخير والشَّرِّ ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ ، لدلالة ضده عليه ، والضمير في « عَلَيْهِ » وفي « خَافَ » وفي « أَصْلَحَ » يعود على « مَنْ » .
فصل في بيان المراد من المصلح
هذا المصلح [ من هو؟ ] الظاهر أنه الوصي ، وقد يدل تحته الشاهد ، وقد يكون المراد منه من يتولَّى ذلك بعد موته؛ من والٍ ، أو وليٍّ ، أو من يأمر بمعروف ، فلا وجه للتخصيص ، بل الوصيُّ أو الشهد أولى بالدُّخول؛ لأن تعلقهم أشدُّ ، وكيفيَّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف ، ويردَّ كلَّ حَقٍّ إلى مستحقه .
قال القُرْطُبِيُّ : الخطاب في قوله : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ } لجميع المسلمين ، أي : إن خفتم من موص جنفاً ، أي : ميلاً في الوصيَّة ، وعدولاً عن الحقِّ ، ووقوعاً في إثم ، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته ، أو لولد ابنته؛ لينصرف المال إلى ابنته [ أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ ، أو أوصى لبعيدٍ ] ، وترك القريب؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصُّلح ، سقط الإثم عن المصلح ، والإصلاح فرض على الكفاية ، إذا قام أحدهم به ، سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا ، أثم الكل .
فإن قيل : هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ ، ويستحقُّ الثَّواب عليه ، فكيف عبَّر عنه بقوله : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أنه تعالى ، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل ، بيَّن مخالفته للأوَّل ، وأنه لا إثم عيه؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل .
وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا ، فذلك يصعب على الموصى لهم ، ويوهم أن فيه إثماً ، فأزال ذلك الوهم ، فقال : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ } .
وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيَّته ، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ؛ بقوله : { فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ } .
ورابعها : أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول ، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس ، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً .
فإن قيل : قوله تعالى : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز ، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات ، فكيف يليق به هذا الكلام؟
فالجواب من وجوه :
أحدهما : ان هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه قال : انا الذي أغفر للذُّنوب ، ثم أرحم المذنب؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك ، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى .
وثانيها : يحتمل أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم ، متى أصلحت وصيَّته؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له ، ويرحمه بفضله .
وثالثها : أن المصلح ، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال ، كان الأولى تركها ، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح ، فإنه لا يؤاخذه بها؛لأنه غفور رحيم .
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة
قال القرطبيُّ رحمه الله تعالى : والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - وقد سئل : أيُّ الصدقة أفضل؟ فقال : « أن تَصَّدَّقَ ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ »
، وقال - عليه الصلاة والسلام - : « لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ » وقال - عليه السلام - : « مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ »
وقال - عليه الصلاة والسلام - : « الإِضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ » وقال - عليه الصلاة والسلام - : « إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أو المَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا المَوْتُ ، فيُضارَّان في الوَصِيَّةِ ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ » وروى عمران بن حصين ، أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك ، وقال : لقد هممت ألاَّ أصلي عليه [ ثم دعى مملوكيه ] ، فجَزَّأهم ثلاثاً ، وأقرع بينهم ، وأعتق اثنين ، وأرقَّ أربعة .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
« الصِّيَام » : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله ، وقدَّم عليه هذه الفضلة ، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي ، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً ، والأصل : « صِوَاماً » ، فأبدلت الواو ياء ، والصَّوم مصدر أيضاً ، وهذان البناءان - أعني : فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام ، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا : « غَارَ غُوُوراً » ، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين ، ولذلك همزه بعضهم ، فقال : « الغُئُور » .
قال أبو العباس المقرئ : وقد ورد في القرآن « كَتَبَ » بإزاء أربعة معانٍ :
الأول : بمعنى فرض؛ قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } ، أي : فُرِضَ .
الثاني : بمعنى قضى؛ قال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] ، ومثله : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } [ التوبة : 51 ] .
الثالثُ : بمعنى جَعَل؛ قال تعالى : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [ المائدة : 21 ] ، أي : جعَلَ لكم ، ومثله : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } [ المجادلة : 22 ] أي : جعل .
الرابع : بمعنى أمر؛ قال تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] ، أي : أمرناهم .
والصيام لغةً : الإمساك عن الشيء مطلقاً ، ومنه صامت الرَِّيح : أمسكت عن الهبوب ، والفرس : أمسكت عن العدو؛ قال : [ البسيط ]
928 - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وقال تعالى : { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن } [ مريم : 26 ] ، أي : سكوتاً؛ لقوله : { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } [ مريم : 26 ] وصام النهار ، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
929 - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وقال : [ الرجز ]
930 - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ ... وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير ، ومصام النُّجوم : إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
931 - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا ... بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمَّ جَنْدَلِ
قال الراجز : [ الرجز ]
932 - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ ... وفي الشَّريعة : هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائماً ، [ مع اقترانه بالنِّيَّة ] .
قوله : « كَمَا كُتِبَ » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف ، أي : كتب كتباً؛ مثل ما كتب .
الثاني : أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة ، أي : كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب ، و « ما » على هذين الوجهين مصدريةٌ .
الثالث : أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام ، أي : صوماً مثل ما كتب ، ف « ما » على هذا الوجه بمعنى « الذي » ، أي : صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم ، و « صوماً » هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى : « أنْ تَصُوموا صَوْماً » قال أبو البقاء - رحمه الله - ، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف ، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى :
{ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 180 ] قال أبو حيَّان - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية - : وهذا فيه بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ ، [ هذا إن كانت « ما » مصدريَّةً ، وأمَّا إن كانت موصولةً ، ففيه أيضاً بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ ] ، لا على تأويلٍ بعيدٍ .
الرابع : أن يكون في محل نصب على الحال من « الصِّيام » وتكون « ما » موصولةً ، أي : مشبهاً الذي كتب ، والعامل فيها « كُتِبَ » ؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها .
الخامس : أن يكون في محلِّ رفع؛ لأنه صفة للصيام ، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات ، والصِّيام معرفةٌ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك؛ بأن الصَّيام غير معين؛ كأنَّه يعني أن « ألْ » فيه للجنس ، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً ، ومعناه أخرى؛ قالوا « أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ » ، ومنه :
933 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لاَ يَعْنِينِي
{ وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] كيف وصل الموصول بهذا؛ والجواب عنه في قوله : { خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ]
فصل في المراد بالتشبيه في الآية
في هذا التشبيه قولان :
أحدهما : أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم ، يعني : هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عليه الصلاة والسلام - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم .
وفائدة هذا الكلام : أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ ، سهل عمله .
القول الثاني : أنه عائد إلى وقت الصَّوم ، وإلى قدره ، وذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : قال سعيد بن جبير « كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ » .
ثانيها : أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى ، أما اليهود فإنها تركته وصامت يوماً في السَّنة ، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون ، وكذبوا ي ذلك أيضاً؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأما النصارى ، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً ، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد ، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم ، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف ، فجعلوه في الرَّبيع ، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر ، ثم قالوا عند التَّحويل : زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا؛ فصار أربعين يوماً ، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى ، فجعل الله عليه ، إن برىء من وجعه : أن يزيد في صومهم أسبوعاً ، فبرىء ، وهذا معنى قوله :
{ اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] . قاله الحسن .
وثالثها : قال مجاهدٌ : أصابهم موتان ، فقالوا : زيدوا في صيامكم ، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد .
ورابعها : قال الشعبي : إنهم أخذوا بالوثيقة ، وصاموا قبل الثلاثين يوماً ، وبعدها يوماً ، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرآن الذي قبله ، حتى صاروا إلى خمسين يوماً ، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ .
قال الشعبي : لو صمت السَّنة كلَّها ، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه ، فيقال : من شعبان ، ويقال : من رمضان .
وخامسها : أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم؛ لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] . فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم ، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه ، وهو قوله : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } ؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى .
قال أصحاب القول الأول : إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه ، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصّاً برمضان ، وأن يكون صومهم قدَّراً بثلاثين يوماً ، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية منا ينفِّر من قبول الإسلام ، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك .
وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يعني : بالصَّوم؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى؛ لما فيه من قهر النَّفسِ ، وكسر الشَّهوات ، وقيل : لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل ، والشُّرب ، والجماع ، وقيل : « لعلَّكم تتَّقون » إهمالها ، وترك المحافظة عليها ، بسبب عظم درجتها ، وقيل : لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين ، لأن الصوم شعارهم .
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
في نصب أيَّاماً أربعة أوجه :
أظهرها : أنَّهُ مَنصُوب بعاملٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه سياقُ الكلام ، تقديره صُومُوا أيَّاماً الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ « ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ الفصل بيْن المصدر ومعمُوله بأجنبيٍّ ، وهو قوله » كَمَا كُتبَ « ؛ لأَنَّه ليس معمولاً للمصدر على أيِّ تقديره قدَّرته .
فإن قيل : يُجعلَ » كَمَا كُتِبَ « صفةً للصّيام ، وذلك على رأي من يجيزُ وصف المعرَّف » بأَل « الجنسيَّة بما يجرى مجرَى النَّكرة ، فلا يكُونُ أجنبيّاً .
قيل : يلزمُ مِنْ ذلك وصفُ المصدر قَبل ذكر معموله ، وهو ممتنعٌ .
الثالث : أنه منصوبٌ بالصِّيامِ على أنْ تقدَّر الكافُ نعتاً لمصدر من الصِّيام؛ كما قد قال به بعضُهُمْ ، وإن كان ضعيفاً؛ فيكون التَّقدير : » الصِّيَامُ صَوْمَاً؛ كَمَا كُتِبَ « ؛ فجاز أن يعمل في » أَيَّاماً « » الصِّيَامُ « ؛ لأنه إذْ ذاك عاملٌ في » صوماً « الذي هو موصوفٌ ب » كمَ كُتِبَ « ، فلا يقع الفصلُ بينهما بأجنبيٍّ ، بل بمعمول المصدر .
الرابع : أن ينتصب ب » كُتِبَ « إِمَّا على الظَّرف ، وإمَّا على المَفعُول به تَوَسُّعاً ، وإليه نحا الفرَّاء ، وتبعه على ذلك أبو البَقَاء .
قال أبو حيَّان : وكلا القَولين خطأٌ : أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة ، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام ، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام ، وأَمَّا [ النَّصب على المفعول اتساعاً ، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفاً ل » كُتِبَ « ، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ ، وقيل : نصبٌ على ] التَّفسير .
و » مَعْدُدَاتٍ « صفةٌ ، وجمعُ صفةِ ما لا يعقل بالألف والتَّاء مطَّردٌ؛ نحو هذا ، وقوله : { جِبَالٌ راسِيَاتٌ } ، و { أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } [ الحج : 28 ] .
فصل في اختلافهم في المراد بالأيَّام
اختلفوا في هذه الأيام على قولين :
أحدهما : أنها غير رمضان ، قاله معاذ ، وقتادة ، وعطاء ، ورواه عن ابن عبَّاس ، ثم اختلفَ هؤلاءِ : فقيل ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر ، وصوم يوم عاشُوراء ، قاله قتادة ، ثُمَّ اختلفوا أيضاً : هل كان تَطوعاً أو مَرضاً ، واتفقُوا على أنَّه منسوخٌ برمضان .
واحتجُّ القائلُونَ بأنَّ المراد بهذه الأيَّام غيرُ رمضانَ بوجوه :
أحدها : قوله - صلى الله عليه وسلم - : » إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ « فدلّ هذا على أنَّ قبل رمضان كاصوماً آخر واجباً .
وثانيها : أنَّه تعالى ذكر حُكم المريض والمُسافر في هذه الآية ، ثم ذكر حكمها أيضاً في الآيَة الَّتي بعدها الدالَّة على صوم رمضان ، فلو كان هذا الصَّوم هو صومَ رمضان ، لكان ذلك تكريراً محضاً مِنْ غير فائدة ، وهو لا يجوز .
وثالثها : قوله تعالى هنا { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } [ البقرة : 184 ] تدلُّ على أنَّ هذا واجبٌ على التخيير ، إن شاء صام ، وَإِنْ شاء أعطى الفدية ، وأَما صوم رمضان ، فواجبٌ على العيين؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان .
القول الثاني وهو اختيارُ المحقِّقين ، وبه قال ابنُ عبَّاس ، والحسن ، وأبو مُسلم أن المراد بهذه الأيَّام المعدُواتِ هو صومُ رمضان ، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } وهذا محتملٌ ليوم ويومين ، وأيَّام ، ثم بينه بقوله : { أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } فزال بعضً الاحتمال ، ثم بَيَّنه بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتٍ بعينها صومَ رمضان ، وإذا أمكن ذلك ، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ ، وأَمَّا تمسُّكهم بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - « صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ » ، فليس فيه أَنَّه نَسَخَ عنه ، وعن أُمَّته كلَّ صوْمٍ ، بل يجوز أَنَّه نَسَخَ كلَّ صوم وجَبَ في الشّرائع المتقدِّمة؛ فكما يصحُّ أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض ، فيجوز أن يكون شَرْعهُ ناسخاً لشَرع غيره .
سلَّمنا أَنَّ صومَ رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه ، فلِمَ لا يجوز أن يكونَ نسخ صوماً وجب غَيْرَ هذه الأيام .
وأمَّا تمسُّكُهم بحكم المريضِ والمُسَافر وتكَرُّرِه فجوابُه : أَنَّ صوم رمضان كان في ابتداءِ الإسلام غير واجِبٍ ، وكان التَّخيير فيه ثابتاً بين الصِّيام والفدية ، لَّما رُخصَ للمسَافر الفطرُ ، كان من الجائز أَنْ يصير الواجبُ عليه افدية ، ويجوز أَنْ لا فديَة علَيْه ، ولا قضاء؛ للمشقَّة . وإذا ان ذلك جائزاً ، بيَّن تعالى أَنَّ إفطار المُسافِر والمريض في الحُكْم خلافُ [ التخيير في المقيم؛ فإِنَّهُ يجبُ عليهما القَضَاء من عدَّةِ أيَّام أُخر ، فلما نَسَخَ اللَّهُ تعالى ذلك التَّخييرَ عن ] المقيم الصَّحيحِ ، وأَلْزَمَهُ الصَّومَ حتماً ، كان من الجائزِ أَنْ يظن أنَّ حكم الصَّوم ، كمَّا انتقلَ عن التخيير إلى التَّضييق في حَقِّ المقيم الصَّحيح أن يتغيَّر حكمُ المريضِ والمسافر عن حكم الصَّحيح ، كما كان قبل النَّسْخِ ، فبيَّن تعالى في الآية الثَّانية : أنَّ حال المريض والمُسافر كحالها الأُولى لم يتغيَّر بالنَّسخ في حق المقيم الصَّحيح ، فهذه هي الفائدةُ في الإعادة ، وإنَّمَا تمسُّكُهم بأنَّ صَوْمَ هذه الأيَّام على التَّخير وصومَ رمضانَ واجِبٌ على التَّعيين ، فتقدَّم جوابهُ من أَنَّ رمضان كان واجِباً مخيَّراً ، ثم صَارَ مُعَّيناً ، وعلى كِلا القَوْلَين ، فلا بُدَّ من تَطَرُّق النسخ إلى الأيَّام أمَّا على القول الأوَّل فظاهر ، وأما على الثاني : فلأَنَّ هذه الآية تقتضي أن يكون صَوم رمضان واجباً مخيَّراً ، والآية الكريمة التي بعدها تدُلُّ على التَّضييق؛ فكانت ناسخة للأولى .
فإن قيل : كَيْفَ يصحُّ أنْ يكونَ قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحُّ .
والجواب : أنَّ الاتِّصال في التَّلاوة لا يوجب الاتِّصال في النُّزول؛ وهذا كما قيل في عدَّة المتوفَّى عنها زوجها؛ أنّ الْمقدَّم في التلاوة هو النَّاسخُ والمَنْسُخ متأَخِّر ، وهذا عكسُ ما يجبُ أن يكُونَ عليه حالُ النَّاسخ والمَنْسوخ ، فقالُوا : إنَّ ذلك في التِّلاوة ، أمَّا في الإنزال ، فكان الاعتِدادُ بالحَولِ هو المتقدِّمَ ، والآية الدَّالَّةُ على أربعة أشْهرٍ وعَشْرٍ هي المُتأخِّرَة ، وكذلك في القُرآن آيات كثيرةٌ مكِّيِّةٌ متأخِّرة في التَّلاوة عن الآياتِ المدنيَّة ، والله أعْلَمْ .
فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - أوَّلُ ما نُسخ بعد الهجرة أَمْرُ القِبلة والصَّوْم ، ويقالُ نزل صَوْمُ شهر رمضان قَبْل بَدرٍ بشهرٍ وأيام ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان يَوْمُ عاشُورَاء تصومُهُ قُرَيش في الجاهلِيَّة ، وكان رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ في الجَاهِليَّة فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدِينَةَ ، صَامَهُ ، وَأَمَرَ بِصِيامِهِ ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانَ كَانَ هُوَ الفريضة ، وتُرِكَ يَوْمُ عاشُوراء ، فَمنْ شَاءَ صاَمَهُ ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ .
فصل في المراد بقوله « مَعْدُودات »
في قوله تعالى : « مَعْدودَاتٍ » وجهانِ :
أحدهما : أنها مُقّدَّراتٌ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ .
والثاني : قَلائِل؛ كقوله تعالى : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } [ يوسف : 20 ] .
وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
فالمرادُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوم في الأَيَّامِ المعْدُودَاتِ ، إنما يَلْزَمُ الأصِحَّاءَ المُقيمينَ ، فأَمَّا مَنْ كَان مُسَافراً ، أو مريضاً ، فله تأخير الصَّومِ عنْ هذه الأيَّام إلى أيَّامٍ أُخَرَ .
قال القفَّالُ رحمه الله : انْظُرُوا إلى عجيب ما نبَّهَ اللَّهُ تعالى مِنْ سعة فضلِهِ وَرَحمتِهِ في هذا التَّكليف ، وأَنَّهُ تعالى بَيَّنَ فِي أوَّلِ الآيَةِ أن لهذه الأُمَّةِ في هذا التكليف أَسْوَةً بالأُمَمِ المُتقدِّمةِ ، والغَرضُ منهُ ما ذكرناهُ مِنْ أَنَّ الأمر الشَّاقَّ ، إذ عَمَّ خفَّ ، ثم بَيَّن ثانياً وجه الحكمة في إيجابِ الصَّوم ، وهو أَنَّهُ سببٌ لحُصُول التَّقوَى ، ثُمَّ بَيَّنَ ثالثاً : أنَّهُ مُخْتصُّ بأيَّامٍ معدوداتٍ ، فلو جعلهُ أبداً ، أو في أكثر الأوقات ، لَحَصَلتِ المشَقَّةُ العظيمة ، ثُمَّ بيَّن رابعاً : أنه خَصَّهُ من الأوقات بالشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن؛ لكونه أَشرَف الشُّهُور؛ بسبب هذه الفَضيلةِ؛ ثم بيَّ خامِساً : إزالة المشقَّة في إلزَامه ، فَأَباح تأخيره لِمَنْ به مَرَضٌ ، أو سَفَرٌ غلى أن يصيرَ إلى الرَّفاهية والسُّكُون ، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا الصَّوم هذه الوجوه من الرحمة ، فله الحمدُ على نعمه .
قوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً } : فيه معنَى الشَّرْط والجَزاءِ ، أي : مَنْ يَكُنْ مرِيضاً ، أو مُسَافراً ، فَأَفْطَر ، فَلْيَقْضِ ، إذا قَدَّرْتَ فيه الشَّرط ، كَانَ المرادُ بقوله : كَانَ الاسْتِقبَالُ لاَ الماضي؛ كما تقولُ : مَنْ أَتَانِي ، أَتَيْتُهُ .
قوله : { أَوْ على سَفَرٍ } في مَحَلِّ نَصبٍ؛ عطفاً على خبر كان ، و « أوْ » هُنَا للتَّنويع ، وعَدَل عن اسمِ الفاعِل ، فَلَمْ يَقْل : أَوْ مُسَافِراً ، إشعارً بالاسْتِعلاء على السَّفر ، لِما فيه مِنَ الاختيار للسفر؛ بخلافِ المرض ، فإنه قَهْرِيٌّ ،
فصل في المرض المبيح للفطر
اختلفُوا في المَرَضِ المُبيح للفطر؛ فقال الحَسَنُ ، وابنُ سيرين : أيُّ مَرَضٍ كان ، وأيُّ سَفَرٍ كان؛ تنزيلاً لِلَّفظ المطلق على أقلِّ الأحوال ، وروي أنَّهم دخَلُوا على ابن سيرين في رمَضَان ، وهو يأْكُلُ فاعتلَّ بِوَجَعِ أُصْبعِهِ ، وقال الأصمُّ - رحمه الله- : هذه الرخصةُ مختصَّةٌ بالمرضِ الَّذي لو صَامَ فيه ، لَوقَع في مشقَّة ، ونزَّل اللَّفظ المُطلق على أكْملِ أحوالِه .
وقال أكثَرُ الفقهاءِ : المرضُ المبيحُ للفطر الَّذي يؤدِّي إلى ضررٍ في النفسِ ، أو زيادةِ في العلَّة .
قالوا : وكيفَ يمكنُ أنْ يقالَ : كُلُّ مرضٍ مرخِّصٌ ، مع علمنا أنَّ في الأَمْرَاض ما ينقصه الصَّوم .
فصل في أصل السَّفر واشتقاقه
أصلُ السَّفر من الكَشف ، وذلك أنه يَكشفُ عن أحوال الرِّجال وأخلاقهم ، والمِسفرة : المِكْنَسَة؛ لأنَّها تكشِفُ التُّراب عن الأَرْض ، والسَّفير : الدَّاخل بين اثْنَيْن للصلح؛ لأنَّه يكشِفُ الَّذي اتَّصل بهما ، والمُسْفِر المُضِيء؛ لأنه قد انْكَشَف وظَهَر ، ومنه : أَسْفَر الصُّبح ، والسِّفر : الكتَابُ؛ لأنه يكشِف عن المعاني ببيانهِ . وسَفَرتِ المرأَةُ عن وجهها ، إذا كشَفَت النقابِ .
قال الأزهري : وسُمِّي المسافرُ مُسِافراً؛ لكشف قناع الكنِّ عن وجهه ، وبُرُوزه إلى الأرضِ الفَضَاءِ ، وسُمِّي السَّفَر سَفَراً أيضاً؛ لأنَّه يسفر عن وجُوه المُسَافرين ، وأخْلاَقهم ، ويظهر ما كان خافياً منهُم ، والله أعْلَم .
فصل في السفر المبيح للقصر والفطر
اختلفُوا في السَّفر المُبيح للقَصر والفِطْر بعد إِجماعهم على سَفَر الطَّاعة؛ كالحَجِّ والجهاد ، ويتصلُ بهذين سفرُ صلةِ الرَّحِمِ ، وطَلَبِ المعاشِ الضروريِّ ، وأمَّا سَفَر التجاراتِ والمُبَاحات ، فمختلَفٌ فيه ، والأرجح الجوازُ ، وأمَّا سَفَر المعاصِي؛ فمختلفٌ فيه ، والمنع فيه أرجحُ .
فصل
قال القرطبيُّ : اتَّفق العلماء على أنَّ المُسَافر في رَمَضان لا يجوزُ له أنْ يُبَيِّتَ الفِطْر؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يكُونُ مُسَافراً بالنِّيَةِ؛ بخلاف المقيم ، وإِنما يكونُ مسافراً العَمَل ، والنُّهُوض ، والمقيمُ لا يفتقر إِلى عَمَل؛ لأنه إذا نوى الإقامة ، كان مقيماً في الحين؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عَمَلٍ ، فافترقا .
فصل في قدر السَّفر المبيح للرُّخص
اختلفُوا في قَدر السَّفر المُبيح للرُّخص ، فقال داود : كُلُّ سفر ، ولو كان فَرْسَخاً ، وتخصيص عمومِ القرآن بخَبَر الواحِدِ غيرُ جائزٌ .
وقال الأوزاعيُّ : السَّفر المبيحُ للفِطر هو مسافةٌ القصر ، ومذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ ، وأحمد ، وإسحاق؛ أنه مقدَّرٌ بستة عَشَرَ فرسخاً ، وهي أربعةُ بُرُدٍ كلُّ فرسخٍ ثلاثة أَمْيالٍ بأَمْيَال هاشم جَدِّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو الَّذي قدَّر أميال البادية كُلُّ ميلٍ اثْنَا عَشَر ألفَ قَدَمٍ ، وهي أربعة آلافٍ خطوةٍ ، كلُّ خَطوَةٍ ثلاثةُ أقدَام .
وقال أبُو حَنِيفة - رضي الله عنه - والثوريُّ : مَسَافَةُ القَصْرِ ثلاثة أيامٍ .
قوله { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
الجمهور على رفع « عدَّةٌ » ، وفيه وجوهٌ :
أحدها : أنَّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ ، إما قبله ، تقديره : « فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ » أو بعده ، أي فعدَّةٌ أَمْثَالُ به .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، اي : فالواجبُ عدَّةٌ .
الثالث : ان يرتفع بفعل محذوفٍن أي : « تُجْزِئُهُ عِدَّةٌ » .
وقرىء « فَعِدَّةٌ » ؛ نصباً محذوفاٍ ، تقديره : « فَلْيَصُمْ عِدَّةً » ، وكأنَّ أبا البقاء - رحمه الله - لم يَطَّلِعْ على هذه القراءةِ؛ فإنَّه قال : لو قرىء بالنَّصب ، لكان مُسْتقيماً ، ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ ، تقديره : « فَصَوْمَ عِدَّة » وَمِنْ حذف جملة بعد الفعلية؛ ليصحَّ الكلامُ ، تقديره : « فَأَفْطَرَ ، فَعِدَّةً » ؛ ونظيرهُ { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] وقوله { اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] ، أي : « فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ » .
و « عِدَّة » « فِعْلَةٌ » من العدد ، بمعنى : مَعْدُودَة ، كالطِّحْنِ والذِّبْح ، ومنه يقال للجماعة المعدودة مِنَ النَّاس عِدَّة ، وعِدَّة المرأة مِنْ هذا ، ونَكَّر « عِدَّة » ، ولم يقل : « فعدّتها » ؛ اتّكالاً على المعنى؛ فإنَّا بيَّنَّا أنَّ العدَّة بمعنى المعدُودة ، فأمر بأن يصوم أيَّاماً معدودةً والظَّاهر : أنَّه لا يأتي إلاَّ بمثل ذلك العَدَ ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة .
و « مِنْ أَيَّام » : في مَحلِّ رفع ، أو نصبٍ على حَسَب القراءتين صفة ل « عِدَّة » .
قوله « أُخَر » صفةٌ ل « أيَّام » ؛ فيكون في محلِّ خفضٍ ، و « أُخَرَ » على ضربَيْن .
أحدهما : جمع « أُخْرَى » تأنيث « أخَرَ » الَّذي هو أفعَلُ تَفضيل .
والثاني : جمع « أُخْرَى » بمعنى « آخِرَةِ » تأنيث « آخِرٍ » المقابل لأوَّل؛ ومنه قوله تبارك وتعالى : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 39 ] فالضربُ الأَوَّل لا ينصرفُ للوَصف والعَدْل ، واختلفُوا في كيفيَّة العَدْل : فقال الجمهورُ : إنه عَدلٌ عن الألف واللاَّم؛ وذلك أنَّ « أُخَرَ » جمعُ « أُخْرَى » ، و « أُخْرَى » تأنيث « آخَرَ » و « آخَرُ » أفعلُ تفضيلٍ لا يخْلُو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالاتٍ .
إما مع « ألْ » وإمَّا مع « مَنْ » ، وإما مع « الإضَافَةِ » ، لكن مِنْ ممتنعةٌ؛ لأن معها يلزمُ الإفرادُ والتذكير والإضافة في اللفظِ؛ فقدَّرنا عدلَهُ عن الأَلِفِ واللاَّم ، وهذا كما قالُوا في « سَحَرَ » إنَّه عدلٌ عن الألِفِ واللام ، إِلاَّ أنَّ هذا مع العلميَّة ، ومذهَبُ سيبويه : أنه عدل من صيغة إلى صيغةٍ؛ لأنه كان حقُّ الكلام في قولك : « مَرَرْتُ بِنِسْوَةِ أَخَرَ » على وزن « فُعَلَ » أنْ يكون « بنِسْوَةٍ آخَرَ » على وزن « أَفْعَلَ » ؛ لأن المعنى على تقدي « مِنْ » فعُدِل عن المفرد إلى الجمع .
وأمَّا الضربُ الثَّاني : فهو منصرفٌ؛ لِفُقْدَانِ العلَّة المذكورة ، والفرقُ بين « أُخْرَى » التي للتفضيلِ ، و « أُخْرَى » التي بمعنى متأخِّرة - أنَّ معنى الَّتي للتفضيل معنى « غَيْرَ » ، ومعنى تِيكَ معنى « متأخِّرة » ؛ ولكونِ الأُولى بمعنى « غَيْر » لا يجوز أن يكونَ ما اتَّصلَ بها إلاَّ [ منْ جنس ما قبلها؛ نحو : « مررتُ بِكَ ، وبرَجُلٍ آخر » ولا يجوز « اشْتَرَيْتُ هَذَا الجَمَلَ وَفَرَساً آخَرَ » ؛ لأنه من ] غير الجنْسِ ، فأما قوله في ذلك البيت : [ البسط ]
934 - صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمنُ وَابْنَتِهَا ... لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِها الأُخَرِ
فإنَّه جعل ابنتها جارة لها ، ولولا ذلك ، لَمْ يَجُزْ ، ومعنَى التفضيل في « آخر » و « أَوَّل » ، وما تصرَّف منها قلِقٌ مذكورٌ في كُتُب النَّحْو ، وإنَّما وصفت الأيّام ب « أُخَرَ » مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة ، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ ، فمن الأول { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وفي الثاني هذه الآية اكريمة ، ونظائرها ، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع؛ لأنه لو جيء به مُفْرَداً ، فقيل : { عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى } لأهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود .
فصل
ذهب بعضُ العلماء - رضي الله عنهم - إلى أنَّه يجبُ على المريض والمُسَافر : أن يُفْطِرا أوْ يصُوما عدَّة أَيامٍ أَخَرَ وهو قولُ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - وابن عمر ، ونقل الخَطَّابيُّ في « أَعْلاَم التَّنزيل » عن ابنِ عمر ، أنَّه قال : « إنْ صَامَ في السَّفِرِ ، قَضَى في الحَضَرِ » وهذا اختيار داود بنِ عليٍّ الأصفهانيِّ ، وأكثر الفقهاءِ على أنَّ هذا الإفطار رخصةٌ ، فإنْ شاء أفْطَر ، وإن شاء صام .
حُجَّةُ الأوَّلين ما تقدَّم من القراءتين أنَّا إن قرأنا « عِدَّةً » ، فالتقديرُ : « فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ » والأمر للوجوب ، وأنا إن قرأنا بالرَّفع ، فالتقديرُ : « فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ » وكلمة « عَلَى » للوجوب ، وإذا كان ظاهرُ القُرآن الكريم يقتضي إيجابَ صَوْم أيامٍ أُخَرَ ، فوجب أَنْ يكُونَ فطرُ هذه الأيامِ واجباً؛ ضرورةَ أنَّ لا قائل بالجمع .
وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام « لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ » ولا يقالُ : هذا الخَبَر ورد على سَبَبٍ خاصٍّ ، وهو أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ ، جَلسَ تحت مِظلَّةٍ ، فَسَأَلَ عَنهُ ، فقالُوا : هذا صائِمٌ أجْهَدَهُ العطَشُ ، فَقال : « لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ » ، فإنا نقولُ : العِبرة بعُمُوم اللَّفظ لا بخُصُوص السَّبَبِ ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « الصَّائِمُ في السَّفر كالمُفطِرِ في الحَضَرِ »
وحجَّة الجمهور : أنَّ في هذه الآية إضماراً؛ لأنَّ التَّقدير : « فأَفْطَرَ فعدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ » والإضمارُ في كلام الله تعالى جائزٌ؛ كما في قول الله تعالى : { اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت } [ البقرة : 60 ] ، أي : « فَضَرَبَ ، فَانْفَجَرَتْ » ، وقوله
{ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] ، أي : « فَضَرَبَ فَانْفَلَقَتَ » ، وقوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ } [ البقرة : 196 ] إلى قوله : { أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ } [ البقرة : 196 ] ، أي : « فَحَلَقَ » .
قال القفَّال - رحمه الله - : قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 185 ] يدلُّ على وجُوُب الصَّوم .
قال ابن الخطيب : ولقِائِلٍ أنْ يقَولَ : هذا ضعيفٌ من وجهين :
الأول : أنَّا إنْ أجرينا ظاهر قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] على العُمُوم ، لزمنا الإضمارُ في قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، وإن أجرينا هذه الآيَةَ على ظاهرهان لَزمنا تخصيصُ عُمُوم قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وقد ثبت في أصُولِ الفقه أنَّه متى وقع التعارُضُ بيْن التخصيص ، وبيْن الإضمار ، كان الحملُ على التَّخصيص أَولى .
الثَّاني : أنَّ ظاهر قَوله تعالى : « فَلْيَصُمْهُ » يقتضي الوُجوب عَيْناً ، وهذا الوُجُوب منتفٍ في حقِّ المريضِ والمُسافر ، فالآيةُ مخصوصةٌ في حقِّهما على كلِّ تقدير ، سواءٌ أجرَينا قولَهُ تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } على ظاهره أَوْ لاَ ، وإذا كان كذلك ، وجب إجراء هذه الآية على ظاهِرِهَا مِنْ غير إضمارٍ .
الوجه الثاني : ذكره الواحدي في « البَسِيطِ » قال : وقَال القاضي : إنَّما يجبُ القَضَاء بالإفْطَار ، لا بالمَرَض والسَّفر ، فلمَا أوجب اللَّهُ القَضَاءَ ، والقَضَاءُ مسَبوقٌ بالفطْر ، دَلَّ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ الإفطار .
قال ابنُ الخطيب وهذا ساقط؛ لأنه لم يَقُل : فعلَيَهِ قضاءُ ما مَضَى ، بل قال : « فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ » ، وإيجابُ الصَّوم عليه في أيَّامٍ أُخَرَ لا يستَدعي أن يكون مَسبُوقاً بالإفطار .
الوجه الثالث : رَوَى أبو داود عن هشام بن عُروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن حمزة الأسلميَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال : يا رَسُولَ اللَّهِ ، هَل أَصُوم في السَّفر؟ قال « إِنْ شِئْتَ صُمْ ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ »
ولقائل أنْ يقول : هذا يقتضي نَسْخَ القُرآن بخبر الواحد؛ لأن ظاهر القُرآن يقتضي وجُوبَ الصَّوم ، فرفعُ هذا الحُكم بهذا الخَبر غيرُ جائِز ، وإذا ضُعِّفَتْ هذه الوجوه ، فالاعتماد على قوله تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى .
فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره
اختلفُوا هَل الصَّوم للمُسافرِ أفْضَلُ أمِ الفِطر؟
فقال أنسُ بنُ مالك ، وعثمان بنُ أبي أوفى : الصَّوم أفضلُ ، وبه قال الشافعيُّ ، وأبو حنيفة ، ومالكٌ ، والثوريُّ ، وأبو يوسُفَ ، ومحمَّد .
وقال سعيدُ بنُ المُسيَّب ، والشَّعبيُّ ، والاوزاعيُّ ، وأحمدُ ، وإسحاقُ ، الفطرُ أفضلُ .
وقالت طائفةٌ : أفضل الأمرين أيسرهما على المرء . حجَّة الأوَّلين : قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وقوله { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } .
حجَّة الفرقة الثانية : قوله - صلى الله عليه وسلم - « إنَّ الله يحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ؛ كما تُؤْتَى عَزَائِمُهُ » وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - « لَيْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ »
، وأيضاً : فالقَصر أفضلُ؛ فيجب أنْ يكُون الفطرُ أفضل .
وفرَّق بعضهم بين القَصر والفِطْر مِنْ وجهين :
الأوَّل : أنَّ الصَّلاة المقصُورة تبرأ الذمَّة بها ، والفِطر تبقى الذِّمَّة فيه مشغُولةٌ .
الثاني : أنّ فضيلة الوقت تَفُوتُ بالفِطْرِ ، ولا تَفُوت بالقَصر .
حجَّةُ الفرقة الثالثة : قوله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] .
فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي؟
مذهب عليٍّ ، وابن عُمر ، والشَّعبيِّ : أنَّه يقضيه متتابعاً؛ لوجهين :
الأوَّل : قراءة أُبي « فعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ مُتتابعاتٍ » فكذا القضاءُ .
وقال بعضهم : التَّتابع مستحبٌّ ، وإن فرق ، جاز؛ فيكون أمراً بصَوم أيامٍ على عدد تِلْكَ الأيَّام مطلقاً ، فالتقديرُ بالتتابع مخالفٌ لهذا التَّعميم ، ويُروى عن أبي عُبيدة بن الجرَّاح أنه قال : « إِنَّ الله لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ في فِطرهِ ، وهو يريد أنْ يشُقَّ عليكم في قَضَائِهِ؛ إنْ شئْتَ فَواتِرْ ، وإنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ » ، ورُوِي أنَّ رجلاً قال للنبيَّ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ ، أَفَيُجْزيني أَنْ أقضيها مُتفرقاً فقال لهُ : « لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ ، فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْن ، أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ؟ » فقال : نَعَمَ ، قَالَ « فَاللَّهُ أحقُّ أَنْ يَعفُو ويصفح »
قوله « يُطِيقُونَهُ » الجمهور على « يُطِيقُونَهُ » من أطَاقَ يُطِيقُ ، مثلُ أقَامَ يٌقِيمُ ، وقرأ حُمَيدٌ « يُطْوِقُونَهُ » من « أَطْوَقَ » كقولِهم أَطْوَال في أطالَ ، وأغْوَال في أغال ، وهذا تصحيحٌ شاذٌ ، ومثله في الشُّذُوذ من ضوات الواو أجودَ بمعنى أجادَ ، ومن ضوات الياء أَغْيَمَتِ السَّماءُ ، وأَجبَلَتْ ، وأَغْيَلَت المَرْأَةُ وأَطْيَبَتْ ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ ، وهو القياس ، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ المَرْأَةُ وَأَطْيَبَتْ ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ ، وهو القياس ، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ وَأَطوَلَ إِلا أبو زَيدٍ . وقرأ ابن عبَّاسٍ وابن مَسعُودٍ ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ ، ومجاهد ، وعكرمةُ ، وأيُّوب السَّختياني ، وعطاءٌ « يُطوَّقونَهُ » مبنيّاً للمعفول من « طوَّقَ » مُضعَّفاً ، على وزن « قَطَّعَ » ، وقرأ عائشةُ ، وابن دينارٍ : « يَطَّوَّقُونَهُ » بتشديد الطاء والواو من « أَطْوَقَ » ، وأصله « تَطَوَّقَ » ، فلما أُرِيدَ إدغامُ التَّاء في الطاء ، قُلِبت طاء واجتلبت همزةُ الوَصل؛ ليمكن الابتداءُ بالسَّاكن ، وقد تقدَّم تقرير ذلك في قوله تعالى : { أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } [ البقرة : 158 ] وقرأ عكرمةُ وطائفة « يَطَّيَّقُونه » بفتح الياء ، وتشديد الطَّاء ، والياء ، وتُروى عن مجاهد أيضاً ، وقرىء أيضاً هكذا لكن ببناء الفعل للمفعُول .
وقد ردَّ بعضهم هذه القراءة ، وقال ابنُ عطيَّة تشديدُ الياءِ في هذه اللَّفظة ضعفٌ وإنَّما قالُوا ببُطْلان هذه؛ لأنَّها عندَهُم من ذوات الواو ، وهو الطَّوق ، فمِنْ أين تجيء الياء ، وهذه القراءةُ لَيْسَت باطلةً ، ولا ضعيفةً ، ولها تخريجٌ حسنٌ ، وهو أن هذه القراءة لَيستْ من « تَفَعَّلَ » ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال ، وإنما هي من « تَفَيْعَل » ، والأصلُ « تَطَيْوَقَ » مِنَ « الطَّوْقِ » ك « تَدَيَّرَ » و « تَحَيَّرَ » من « الدَّوَرَانِ » و « الحَوْر » ، والأصل « تَدَيْوَرَ » ، و « تَحَيْورَ » فاجتمعت الواوُ والياءُ ، وسبَقَتْ إحداهما بالسُّكُون ، فقلبت الواو ياءً ، وأُدغمت الياء في الياء ، فكان الأصلُ « يَتَطَيْوَقُونَهُ » ، ثم أُدغم بعد القلبِ ، فمن قرأ « تَطَّيَّقُونَهُ » بفتح الياء بناه للفاعل ، ومن ضمَّها بناه للمفعول ، ويحتمل قراءة التشديد في الواو ، أو الياء أن تكون للتكلُّف ، أي : يَتَكَلَّفُونَ إطاقَتَهُ وذلك مجازٌ من الطَّوقِ الذي هو القلادةُ في أعْناقهم ، وأبعد من زعم أنَّ « لاَ » محذوفةٌ قبل « ويطيقُونَهُ » ، وأنَّ التقديرَ ، لاَ يُطِيقُونَهُ ، ونَظَّرَهُ بقوله : [ الطويل ]
935 - فَخَالِفْ فَلاَ واللَّهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... من الأَرْضِ إِلاَّ أَنْتَ لِلذُلِّ عَارفُ
وقوله : [ الكامل ]
936 - آلَيْتُ أَمْدَحُ مُغْرماً أَبَداً ... يَبْقَى الْمَدِيحُ ويَذْهَبُ الرِّفْدُ
وقوله : [ الطويل ]
937 - فَقُلْتُ : يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي
المعنى : لاَ تَهْبِطُ ، ولاَ أَمْدَحُ ، وَلاَ أَبْرَحُ ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ حذفها مُلتبسٌ ، وأما الأبياتُ المذكورة؛ فلدلالة القسم على النَّفي .
والهاء في « يَطِيقُونَهُ » للصَّومِ ، وقيل : للفداء؛ قاله الفراء .
و « فِدْيَة » مبتدأٌ خبره في الجَارِّ والمجرور قَبْله ، والجُمْهُورُ على تَنْوين « فِدْيَةٌ » ورفع « طَعَام » وتوحيد « مسكين » وهشام كذلك إلاَّ أنه قرأ « مَسَاكينَ » جمعاً ، ونافعٌ وابنُ ذكوان بإضافة « فِدْيَة » إلى « مَسَاكِين » جمعاً ، فالقراءة الأولى يكون « طَعَاماً » بَدَلاً من « فِدْيَةٌ » بَيَّنَ بهذا البَدَل المراد بالفدْية ، وأجاز أبو البقاء - رحمه الله تعالى - أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ ، أي : « هي طعامٌ » ، وأما إضافة القدية للطَّعام ، فمِن باب إضافة الشيء إلى جنْسِه ، والمقصُود به البيانُ؛ كقولك : « خَاتَمُ حَدِيدٍ ، وثَوبُ خَزٍّ ، وبابُ ساجٍ » لأنَّ الفدية تكونُ طعاماً وغيره ، وقال بعضهم : يجوز أنْ تكُون هذه الإضافة من باب إضافة الموصُوف إلى الصِّفة ، قال : لأنَّ افِدْية لها ذاتٌ وصفَتُها أنَّها طعام ، وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه إمَّا أن يريد ب « طَعَام » المصدرَ بمعنى لاإطعام؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أو يُريدَ به المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين ، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين ، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين ، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ به وليست مُرادةً هنا ، والذي بمعنى المفعولِ ليس جَارياً على فِعْلٍ ، ولا ينقاسُ ، لا تقُول : ضِرَاب بمعنى مَضْرُوبِ ، ولا قِتَال بمعنى مَقْتُولٍ ، ولكونها غير جاريةٍ على فِعْلِ ، لم تَعَمْلْ عَمَله ، ولا تَقُولُ : « مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٍ خُبْزُهُ » وإذا كانَ غيرَ صفةٍ ، فكيفَ يقال : أُضِيفَ المَوْصُوفُ لصفَتِهِ؟
وإنِّما أُفْرِدَت « فِدْيَةٌ » ؛ لوجهين :
أحدهما : أنَّها مصدرٌّ ، والمصدرُ يُفْرَدُ ، والتاء فيها ليست للمَرَّة ، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث .
والثاني : انه لَمَّا أضافَها إلى مضافٍ إلى الجمع ، أفَهْمَتِ الجَمْعَ ، وهذا في قراءةِ « مَسَاكين » بالجمع ، ومَنْ جمع « مَسَاكِين » ، فلمقابلةِ الجمع بالجمع ، ومَنْ أَفْرَدَ ، فعلى مراعاة إفراد العُمُوم ، أي : وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيقُ الصَّوْم؛ لكُلِّ يوم يُفْطِرُهُ إطعامُ مسكين؛ ونظيرهُ : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] .
وتَبَيَّن مِنْ إفراد « المِسْكِين » أنَّ الحُكم لِكلِّ يومٍ يُفْطر فيه مِسْكِينٌ ، لوا يُفْهَمُ ذلك من الجَمع ، والطَّعَام : المرادُ به الإِطْعَامُ ، فهو مصدرٌ ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ ، قال أبو البقاء : « لأنَّه أضافه إلى المِسْكِين ، وليْسَ الطعامُ للمسْكِين قَبْل تمليكِه إياه ، فلو حُمِلَ على ذلك ، لكان مجازاً؛ لأنه يصير تقديرُه : فعلَيهِ إخراجُ طعام يَصِيرُ للمَسَاكِين ، فهو من باب تسمية الشيءِ بما يؤول إليه ، وهو وإنْ كان جائزاً ، إلا أنِّه مجازٌ ، والحقيقة أَوْلى منه » .
قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قد تقدَّم نظيرهُ عنْد قوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] فَلْيُلْتَفتْ إليه ، والضميرُ في قوله : « فَهُوَ » ضميرُ المصدرِ المدْلُول عليه بقوله : « فَمَنْ تَطَوَّعَ » ، فالتَّطُّوعُ خيرٌ له ، و « لَهُ » في مَحَلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةً ل « خَيْرٌ » ؛ فيتعلٌَُّ بمحذوف ، أيْ : خَيْرٌ كَائِنٌ لَهُ .
فصل في نسخ الآية .
ذهب أكثَر العُلماء إلى أنَّ الآية منسُوخةٌ ، وهو قَوْل ابن عُمَر ، وسلمة بن الأكوع ، وغيرهما؛ وذلك أنَّهم كانُوا في ابتداءِ الإٍلام مُخيَّرين بين أن يَصُوموا ، وبين أن يُفْطِروا ، ويفتدوا ، خَيَّرهم الله تعالى؛ لئلاَّ يشقّ عليهم؛ لأنَّهم كانُوا لم يتعودُّوا لاصَّوم ، ثم نُسِخ التَّخيير ، ونزلت العزيمةُ بقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وقال قتادة هي خاصَّة بالشَّيخ الكبير الَّذي يُطيقُ الصَّوم ، ولكن يشقُّ عليه ، رُخِّص له أن يُفطِر ويفيد [ ثُمَّ نسخ .
وقال الحسن : هذا في المريض الَّذي به ما يقع عليه اسم المرضِ ، وهو يَسْتطيع ، خُيِّر بين أنْ يَصُوم وبيْن أن يُفطْر ويفدي ] ثم نُسخ بقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتثبت الرُّخصة للَّذين لا يُطِيقونه ، وذهب جماعةٌ إلى أنَّ الآية الكريمة محكمةٌ غير مَنسوخةٍ ، معناه : وعلى الَّذين كانوا يُطيقُونه في حال الشَّباب ، فَعَجِزُوا عنه بعد الكِبَرِ ، فعليهم الفدية بَدَل الصَّوم ، وقراءة ابن عباس « يَطَوَّقُونَهُ » بضم الياء ، وفتح الطَّاء مخففةً ، وتشديد الواو ، أي : يُكَلَّفُون الصوم ، فتأوَّله على الشَّيخ الكبير ، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصَّوم ، والمريض الذي لا يرجى برؤه ، فهم يكلَّفُون الصَّوم ، ولا يُطيقونه ، فلم أن يُفطروا ، ويُطعموا مكان كُلِّ يومٍ مِسكيناً ، وهو قول سعيد بن جبير ، وجعل الآية محكمةً .
فصل في المراد بالفدية ومقدارها
« الفِدْيةُ » في معنى الجزاء ، وهو عبارةٌ عن البَدَل القائم عن الشيءِ وهي عن دأبي حنيفة نصفُ صاعٍ من بُرٍّ ، أو صاعاً من غيره وهو مُدَّانِ ، وعن الشَّافعي « مُدٌ » بمُدِّ النبي -
صلى الله عليه وسلم - وهو رَطْلٌ وثُلُثٌ من غالب أقوات البَلَد ، وهو قول فقهاء الحجاز .
وقال بعضُ فقهاء العراق : نصف صاعٍ لكُلِّ يومٍ يُفطِر .
وقال بعض الفقهاء : ما كان المُفْطِرُ يتقوَّته يَومَه الَّذي أفْطَره .
وقال ابنُ عباسٍ : يُعطِي كلَّ مسكين عشاءَهُ وسَحُوره .
فصل في احتجاج الجبائي بالآية
احتجَّ الجُبَّائيُّ بقوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } على أن الاستطاعة قبل الفعل؛ فقال : الضميرُ في قوله : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } عائدٌ إلى الصَّوم ، فأثبت القُدرة على الصَّوم حال عدم الصَّومِ؛ لأنَّه أوجب عليه الفِدية ، وإنَّما تجب عليه الفديةُ إذا لم يَصُمْ؛ فَدَلَّ هذا على أن القدرةَ على الصَّوم حاصلةٌ قبل حُصُول الصَّوم .
فإنْ قيل : لمَ لا يجُوز أنْ يكُون الضميرُ عائداً إلى الفِدية؟
قُلنا : لا يَصحُّ لوجهين :
أحدهما : أن الفدْيَةَ متأخِّرةٌ ، فلا يَعُود الضَّمير إليها .
والثاني : أنَّ الضَّمير مُذَكَّر ، والفدية مؤنَّثة .
فإنْ قيل : هذه الآية مسنوخةٌ ، فكَيْفَ يجوز الاستدلالُ بها؟!
قلنا : إنَّما كانت قبل أن صارتْ منسُوخةً دالَّة على أنَّ القُدرة حاصلةً قبل الفعل ، والحقائقُ لا تتغيَّر .
قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } فيه ثلاثة أوجُهٍ :
أحدها : قال مجاهد وعطاء ، وطاوس : أي : زاد على مسكين واحدٍ؛ فأطعم مكان كل يومٍ مسكينين ، فأكثر .
الثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب .
الثالث : قاله الزُّهريُّ : من صام مع الفدية ، فهو خير له .
قوله : « وَأَنْ تَصُومُوا » في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء ، تقديره : « صَوْمُكُمْ » ، و « خَيْرٌ » خَبَرُهُ ، ونظيره : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] .
وقوله : « إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ » شرطٌ حذف جوابه ، تقديره : فالصَّوم خيرٌ لكم ، وحذف مفعول العلم؛ إما اقتصاراً ، أي : إن كنتم من ذوي العلم والتمييز ، أو اختصاراً ، أي : تعلمون ما شرعيته وتبيينه ، أو فضل ما علمتم .
من ذهب إلى النَّسخ ، قال : معناه : الصَّوم خيرٌ له من الفدية ، وقيل : هذا في الشَّيخ الكبير ، لو تكلَّف الصَّوم ، وإن شقَّ عليه ، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي .
وقيل : هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره ، أعني : المريض ، والمسافر ، والذين يطيقونه .
قال ابن الخطيب : وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } أن يكون حكمه مختصّاً بهم ، لأنَّ اللفظ عامٌّ ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ ، فوجب الحكم بذلك ، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلَّف في إفطار شهر رمضان ، إلاَّ لثلاثةٍ :
أحدهم - يجب عليه القضاء والكفَّارة : هو الحامل والمرضع ، إذا خافتا على ولديهما يفطران ، ويقضيان ، وعليهما مع القضاء الفدية ، وهو قول ابن عمر ، وابن عبَّاس ، وبه قال مجاهد ، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد .
وقال قومٌ : لا فدية عليهما ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، والنَّخعيُّ ، والزُّهريُّ ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ وأصحاب الرَّأي .
الثاني - عليه القضاء دون الكفَّارة : وهو المريض والمسافر .
الثالث - عليه الكفَّارة دون القضاء : الشَّيخ الكبير ، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه .
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
قوله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ } : فيه قراءتان :
المشهور الرفع ، وفيه أوجه :
أحدها : أنه مبتدأ ، وفي خبره حينئذ قولان :
الأول : أنه قوله { الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته ، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه .
قال أبو عليٍّ : والأشبه أن يكون « الَّذِي » وصفاً؛ ليكون لفظ القرآن نصّاً في الأمر بصوم شهر رمضان؛ لأنَّك إن جعلته خبراً ، لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ ، وإنما يكون مكبراً عنه بإنزال القرآن الكريم فيه ، وإذا جعلنا « الَّذِي » وصفاً ، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر؛ كقولك : « شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ » .
والقول الثاني : أنه قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش ، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط ، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] وليس كذلك؛ لأن قوله : { الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ؛ بخلاف شهر رمضان ، فإن قيل : أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل : تكرار المبتدأ بلفظه؛ كقوله : [ الخفيف ]
938 - لاَ أَرَى المضوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْء .. . .
وهذا الإعراب - أعني كون « شَهْرُ رَمَضَانَ » مبتدأً - على قولنا : إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان ، أمَّا إذا قلنا : إنها نفس رمضان ، ففيه وجهان :
أحدهما : أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ .
فقدَّره الفرَّاء : ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ ، وقدَّره الخفش : المكتوب شهر رمضان .
والثاني : أن يكون بدلاً من قوله « الصِّيَامُ » ، أي : كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ ، وهذا الوجه ، وإن كان ذهب إليه الكسائيٌّ بعيدٌ جدّاً؛ لوجهين :
أحدهما : كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه .
والثاني : أنَّه لا يكون إذا ذاك إلاَّ من بدل الإشمال ، وهو عكس بدل الاشتمال ، لأنَّ بدل الاشتمال غالباً بالمصادر؛ كقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ } [ البقرة : 217 ] ، وقول الأعشى : [ الطويل ]
لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ
وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ ، تقديره : صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وحينئذٍ : يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ ، وهما لعين واحدة ، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله « أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ » في قراءة من رَفَعَ « أيَّامً » ، وهي قراءة عبد الله ، وفيه بُعْدٌ .
والقراءة الثانية : النصْبُ ، وفيه أوجهٌ :
أجودها : النصبُ بإضمار فعلٍ ، أي : صُوموا شَهْر رَمَضَانَ .
الثاني - وذكره الأخفشُ والرُّمَّانِيُّ - : أن يكون بدلاً من قوله « أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ » ، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان ، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ .
الثالث : نَصْبُه على الإغراء؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ .
الرابع : أن ينتصبَ بقوله : « وأنْ تَصُومُوا » ؛ حكاه ابن عطية ، وجوَّزه الزمخشريُّ ، واعترض عليه؛ بأن قال : فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم : « ْ تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ »
فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير ، وهو غَيْرُ جائزٍ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ ، وإيقاع الفضْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ . وغلَّطَهُما أبو حيان : بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ ، لأنَّ الخبر ، وهو « خَيْرٌ » أَجْنَبِيٌّ من الموصول ، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول ، إلاَّ بعد تمام صلتِهِ ، و « شَهْر رَمَضَانَ » على رأيهم من تمام صلة « أَنْ » ، فامتنع ما قالوه ، وليس لقائل أن يقول : يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف ، وحرف الجَرِّ ، فإنه يُغْتضفَرُ فيه ذلك عند بعضهم؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ « .
الخامس : أنه منصوبٌ ب » تَعْلَمُونَ « ؛ على حذف مضافٍ ، تقديره : تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب .
وأدغم ابو عمرو رَاءَ » شَهْر « في راء » رَمَضَان « ، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما ، وقول ابن عطيَّة : » وذلك لا تقتضيه الأصول « غير مقبولٍ منه؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل ، لا يُعارضُ بالقِياس .
والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان :
أشهرهما : أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافياً إلى أن يَسْتَسْرَّ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات ، والصوم ، والحجِّ ، وقضاء الدُّيُون ، وغيرها .
والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة ، يُقَالُ : شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْراً : إذا أظهره ، ويسمَّى الشَّهْرُ : شَهْراً ، لشُهْرَة أمره ، والشُّهْرَة : ظهورُ الشيءِ ، وسمي الهلال شهراً؛ لشُهْرته .
والثاني - قاله الزَّجَّاج - : أنه اسمٌ للهلال نفسه؛ قال : [ الكامل ]
940 - .. وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
ذلك؛ لبيانه؛ قال ذو الرُّمَّةِ : [ الطويل ]
941 - . . ... يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ
يقولون : رأيتُ الشهْرَ ، أي هِلاَلَهُ ، ثم أُطلِقَ على الزمان؛ لطلوعه فيه ، ويقال : أشْهَرْنَا ، أي : أتى علينا شَهْرٌ ، قال الفَرَّاءُ : » لَمْ أَسْمَعْ فَعْلاً إلاَّ هذا « .
فصل
قال الثَّعلبي : » يُقَالُ : شَهَرَ الهِلاَلُ ، إذَا طَلَعَ « ، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ ، وفي الكثرة على شُهُورٍ ، وهما مقيسان .
ورَمَضَانُ : عَلَمٌ لهذا الشَّهر المْصُوص ، وهو علم جنسٍ ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ :
أحدها : أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم : إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع ، أو مقاساة شدَّته؛ كما سمَّوه تابعاً؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم ، أي : يزعجهم لشدَّته عليهم ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - :
« صَلاَةُ الأَوَّابِينَ ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ » أخرجه مسلم ، ورَمَضَ الفِصَالُ ، ذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها ، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ .
يقال : إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها ، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ ، [ فسُمِّيَ به؛ كَرَبِيع؛ لموافقته الربيعَ ، وجُمَادى؛ لموافقته جُمُودَ الماء ، وقيل : لأنه يُرْمِضُ الذنوب ، أي : يَحْرِقُها ، بمعنى يَمْحُها ] .
روي عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ »
وقيل : لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة ، وقيل : من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين ، ليرقَّ يقال : نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ .
وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ؛ ليقضوا منها أوطارهم؛ قاله الأزهريُّ .
قال الجوهريُّ : وَرَمَضَانُ : يُجمع على « رَمَضَانَات » و « أَرْمِضَاء » وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقاً ، أنشد المُفَضَّل : [ الطويل ]
942أ - وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى ... وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا
وقال الزمخشي : « الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ » قال أبو حيَّان : « وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ ، فإن فَعَلاَناً ليس مصدر فَعِلَ اللازم ، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذاً » ، وقيل : هو مشتقٌّ من الرَّمِض - بكسر الميم - وهو مَطَرٌ يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار ، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها .
وقال مجاهدٌ : إنه اسم الله تعالى ، ومعنى قول لقائل : « شَهْرُ رَمَضَانَ » ، أي : شَهْرُ اللَّهِ ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « لا تَقُولُوا : جَاءَ رَمَضَانُ ، وذَهَبَ رَمَضَانُ ، ولَكِنْ قُولُوا : جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى »
قال القُرْطُبِيُّ : « قال أهْلُ التَّاريخِ : إنَّ أوَّلَ مَنْ صَامَ رمَضَانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلام - لمَّا خَرَجَ من السَّفينة » ، وقد تقدَّم قوم مجاهدٍ : « كَتَبَ اللَّه رمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمَّة » ومعلومٌ أنَّه كان قبل نوحٍ - عليه السَّلام - أُمَمٌ؛ فالله أعلم .
والقرآن في الأًل مصدر « قَرَأْتُ » ، ثم صار علماً لما بين الدَّفَّتَيْنِ؛ ويُدلُّ على كونه مصدراً في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان - رضي الله عنهما - : [ البسيط ]
942ب - ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا
وقيل : القرآن من المصادر ، مثل : الرُّجْحَان ، والنُّقْصَان ، والخُسْرَان ، والغُفْرَان ، وهو من قرأ بالهمزة ، أي : جمع؛ لأنه يجمع السُّور ، والآيات ، والحكم ، والمواعظ ، والجمهورُ على همزه ، وقرأ ابن كثيرٍ من غير همزٍ ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين :
أظهرهما : أنه من باب النَّقل؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها ، ثم يحذفها في نحو : { قَدْ أَفْلَحَ } [ المؤمنون : 1 ] ، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ ، وجمعاً بين اللُّغَتَيْنِ .
والثاني : أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين ، فكون وزنه على هذا « فُعَالاً »
وعلى الأول « فُعْلاَناً » وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر ، والآياتِ ، والحِكَمِ ، والمواعِظِ .
وقال الفَرَّاء : أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن ، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضاً على ما قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] .
وأما قول من قال : إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض ، أي : جمعته ، فغلطٌ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان .
وروى الواحدُّ في « البسيط » عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم ، أنَّ الشافعيَّ - رضي الله عنه - كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ ، ولَيْسَ بمهموزٍ ، ولم يُؤْخَض من « قَرَأْتُ » ، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله؛ مثل التوراة والإنجيل ، قال : ويهمز قراءة ، ولا يهمزة القرآن ، كما يقول : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } [ الإسرء : 45 ] قال الواحدُّ - رحمه الله - : وقول الشافعيِّ - رضى الله عنه - أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى ، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء ، وهو الجمع ، أي : جمعته ، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة ، قالا : إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع .
قال عَمْرُ بْنُ كُلْثُومٍ :
943أ - . . ... هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا
أي : لم تجمع في رحمها ولداً ، ومن هذا الأصل : قُرْءُ المرأة ، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها ، فسُمِّي القرآن قُرْآناً ، لأنه يجمع السُّور وينظمها .
وقال قُطْرُب : سُمِّيَ قرآناً؛ لأنَّ القارئ يكتبه ، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب : ما قرأ النَّاقة سلى قطُّ ، أي : ما رَمَتْ بِوَلَدٍ ، وما أسْقَطَتْ ولداً قَطُّ ، وما طَرَحَتْ ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءاً بهذا التَّأويل ، فالقرآن [ يلفظه القارئ ] من فيه ، ويلقيه ، فسُمِّيَ قُرْآناً .
و « القُرآنُ » مفعول لم يُسَمَّ فاعله؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآناً؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ ، وللمكْتُوب كِتَابٌ . واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف؛ حتَّى جعلوه اسماً لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ - رض الله عنه .
ومعنى { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } ، أي : ظَرْفٌ لإنزاله .
قيل : « نَزَلَتْ صُحُف غبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ ، والإنجيل لثلاث عشرة ، والقرآن لأربع وعشرين .
فإن قيل : إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صلى الله عليه وسلم في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً ، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا ، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً .
روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } وقوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، وقوله { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وقد نزل في سائر الشُّهُور ، وقال عزَّ وجلَّ : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] فقال : أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا ، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً في ثلاث وعشرين سنة ، فذلك قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] وقال داود بن أبي هندٍ : قلت للشَّعبيِّ : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال : بلى ، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، وينسيه ما يشاء .
وروي عن أبي ذرٍّ ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : « أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ » ويُروى : « في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ » وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثِ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صلى الله عليه وسلم لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا ، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة « الفُرْقَان » عند قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] .
والجواب الثاني : أن المراد منه : أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ ، وهو قول محمّضد بن إسحاق؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات ، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ .
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة ، وفي الثاني : لا بُدَ من حمله على المجاز؛ لأنًّث حمل للقرآن على بعض أجزائه .
روي أن [ عبد الله بن ] عمر بن الخطَّاب - رضي الله عنه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة ، وبقوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان ، وذلك لأنَّ ليلة القدر ، إذا كانت في رمضان ، وكان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان ، وهذا كمن يقول : « لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ » ، فيقال له : في أيِّ يوم منه؟ فيقول : في يوم كذا ، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ : « أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ » ، معناه : أُنْزِلَ ، في فضله القرآن ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل؛ قال : وهذا كما يقال : « أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً » يُرِيدُونَ في فضله .
قال ابن الأنباريِّ : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر ، يريدون في تحريمها .
فصل
قد تقدَّم في قوله تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } [ البقرة : 23 ] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريح ، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل } [ آل عمران : 3 ] ذا ثبت هذا ، فنقول : لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله « شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ » إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ « الإنزال » دون « التَّنزيل » ، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راححٌ على سائر الأقوال .
قوله « هُدًى » في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن ، والعامل فيه « أُنزِلَ » وهُدىً مصدرٌ ، فإمَّا أن يكون على حذفٍ مضافٍ ، أي : ذا هدىص ، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ ، أي : هادِياً ، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً .
قوله : « لِلنَّاسِ » يحوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « هُدىً » على قولنا بأنه وقى موقع « هَادٍ » ، أي : هادياً للناس .
والثاني : أن يتلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله ، ويكون محلُّه النصَّب على والثاني : أن يتعلَّ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للنكرة قبله ، ويكون محلُّ النَّصب على الصفة ، ولا يجوز أن يكون « هُدَى » خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : « هُوَ هَدىً » ؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ ، وهو : « بَيَّنَاتٍ » ؛ و « بَيِّنَاتٍ » عطفٌ على الحال ، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة ، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة .
فإن قيل : ما معنى قوله { وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } بعد قوله : « هُدىً » .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدىً ، ثمَّ الهُدَى على قسمين :
تارةً : يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً .
وتارةً : لا يكون كذلك .
والقسم الأول : لا شكَّ أنَّه أفضل؛ فكأنه قيل : هو هدىً؛ لأنه هو البيِّن من الهدى ، والفارق بين الحقِّ والباطل ، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ ، ويعطف نوعه عليه؛ لكونه أشرف أنواعه ، والتقدير : كأنه قيل : هذا هُدىً ، وهذا بَيِّنٌ من الهدى ، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى ، وهذا غاية المبالغة .
الثاني : أن يقالك القرآن هدىً في فنسه ، ومع كونه كذلك ، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان ، والمراد : ب « الهُدَى والفُرْقَانِ » التوراة والإنجيل؛ قال تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان }
[ آل عمران 3 - 4 ] وقال { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } [ الأنبياء : 48 ] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه ، ففيه أيضاً هدىً من الكتب المتقدِّمة التي هي هدىً وفرقانٌ .
الثالث : أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين ، والهُدى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار .
قوله : { مِّنَ الهدى والفرقان } هذا الجارُّ والمجرورُ صفة لقوله : « هُدىً وبَيِّناتٍ » فمحلُّه النصب ، ويتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان ، ولم يأت « مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ » فيطالب قالعجزُ الصَّدْرَح لأنّ فيه مزيد معنىً لازم للبيان ، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل ، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً ، حصل به الفرقُ ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان ، وقال بعضهم : « المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها » . وقال ابن عطية : « اللامُ في الهُدَى للعهد ، والمرادُ الأوَّلُ ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً ب » أَلْ « ، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله : { إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 15 - 16 ] ، ومن هنا قال ابن عبَّاس : » لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ « وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل : فعصاه ، لكان كلاماً صحيحاً » ؟
قال أبو حيان : « وما قاله ابن عطية لا يتأتّضى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن » هُدىً « منصوبٌ على الحال ، والحال وصفٌ في ذي الحال ، وعطف عليه » وبيّنات « ، فلا يخلو قول » مِنَ الهُدَى « - المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله » هُدَى « أو لقوله » وَبَيِّنَاتِ « أو لهما ، أو متعلِّقاً بلفظ » بَيِّنَاتِ « ، لا جايزٌ أن يكون صفةً ل » هُدىً « ؛ لأنه من حيث هو وصفٌ ، لزم أن يكون بعضاً ، ومن حيث هو الأول ، لزم أن يكون إياه ، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته ، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ » وَبَيِّنَاتٍ « معطوفٌ على » هُدىً « و » هُدىً « حال ، والمعطوف على الحال حالٌ ، والحالان وصفٌ في ذي الحال ، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان ، ومن حيث وصفت » بَيِّنَات « بقوله : » مِنَ الهُدَى « خصصناها به ، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله : » هُدىً وبَيِّنَاتٍ « معاً ، ومن حيث جعلت » مِنَ الهُدَى « صفةً ل » بَيِّنَاتٍ « ، وتوقَّف تخصيص » بَيِّنَاتٍ « على هُدَى ، فلزم ن ذلك تخصيص الشيء بنفسه ، وهو محالٌ ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط ، أو بينات فقط .
ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ « بَيِّنَاتٍ » ؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتقلَّق به؛ فهو كالوصفِ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف ، وأيضاً : فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً ، فقلت : منه - أي : من ذلك الهُدَى - لم يصحَّ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين ، حتى يكون هُدى وبينات بعضهاً منهما « .
قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } إلى قوله : { تَشْكُرُونَ } نقل الواحدِيُّ في » البسيط « عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا : الفاء في قوله { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ } زائدةٌ قالا : وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف ، أو للجزاء ، أو تكون زائدةً ، وليس لكونها للعطف ، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] .
قال : وأقول : يمكن أن تكون » الفاء « هاهنا للجزاء؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصّاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سار الشُّهور فيها ، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة ، ولولا ذلك ، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه ، كأنه قيل : لما علم الختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة ، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة ، وأما قوله تعالى : { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] الفاء فيه غير زائدة أيضاً ، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ؛ كأنه قيل : لمَّا فرُّوا من الموت ، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر . و » مَنْ « فيها الوجهان : أعني كونها موصولةً ، أو شرطيةً ، وهو الأظهر ، و » مِنْكُم « في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في » شَهِدَ « فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : كائِناً منكم ، وقال أبو البقاء : » مِنْكُم « حالٌ من الفاعل ، وهي متعلقةٌ ب » شَهِدَ « ، قال أبو حيان : » فَنَاقَضَ؛ لأنَّ جَعْلَها حالاً يوجب أن يكون عاملها محذوفاً ، وجعلها متعلِّقة ب « شَهِدَ » يوجب ألاَّ تكون حالاً « ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّ المعنويُّ ، فإنَّ » كائناً « الذي هو عامل في قوله » مِنْكُم « هو متلِّقٌ ب » شَهِدَ « وهو الحالُ حقيقةً . ؟
وفي نَصْبِ » الشَّهْرِ « قولان :
أحدهما : أنه منصوبٌ على الظرف ، والمراد بشَهِدَ : حَضَر ، ويكون مفعولُ » شَهِدَ « محذوفاً ، تقديره : فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ .
والثاني : أنه منصوب على المفعول به ، وهو على حذف مضافٍ ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف : فالصحيح أنَّ تقديره : » دُخُولَ الشَّهْرِ « ، وقال بعضهم : » هِلاَلَ الشَّهْرِ « قال شهاب الدين : وهذا ضعيفٌ؛ لوجهين :
أحدهما : أنك لا تقول : شَهِدْتُ الهِلاَلَ ، إنما تقول : شاهَدْتُ الهِلاَلَ .
ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود : الحضُور .
والثاني : أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ ، وليس كذلك ، قال : ويجاب بأن يقال : نعم ، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين ، فإن خرج بعضهم بدليل ، فيبقى الباقي على العموم .
قال الزمخشريُّ : « الشَّهْرَ » منصوبٌ على الظرف ، وكذلك الهاء في « فَلْيَصُمْهُ » ولا يكون مفعولاً به؛ كقولك : شَهِدْتُ الجُمُعَةَ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ « وفي قوله : » الهاء منصوبةٌ على الظرف « نظرٌ لا يخفى؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ ب » فِي « ، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه ، فينصب نصب المفعول به ، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضاً على الظرف .
والفاء في قوله : » فَلْيَصَمْهُ « : إمَّا جواب الشَّرط ، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في » مَنْ « .
واللام لام الأمر ، وقرأ الجمهور بسكونها ، وإن كان أصلها الكسر ، وإنما سكَّنوها؛ تشبيهاً لها مع الواو والفاء ب » كَتِف « ؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل . وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل ، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن . وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء ، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء ، فقال : » مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام؛ لفتحةِ الياء بعدها « ، قال : » فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ : نحو : لِيُنْذِرْ ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالداً « .
والألف واللام في قوله : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ } للعهد ، إذ لو أتى بدله بضميرٍ ، فقال : » فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ « لصَحَّ غلا أنَّه أبرزه ظاهراً؛ تنويهاً به .
فصل بي بناء القولين على مخالفة الظاهر
قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني : كون مفعول » شَهِدَ « محذوفاً أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر .
أما الأوَّل : فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ ، وأمَّا الثاني : فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر ، مع أنَّ لم يجل على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في » أُصُول الفِقْه « أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار ، فالتخصيص أولى ، وأيضاً ، فلأنَّا على القول الأول ، لما التزمنا الإضمار لا بُدَّ أيضاً من التزام التَّخْصيص؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم .
فالقول الأول : لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص .
والقول الثاني : يتمشى بمجرَّد التخصيص؛ فكان القول الثاني أولى ، هذا ما عندي فيه ، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل .
فصل
قال ابن الخطيب قوله تعالى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } جملة مركِّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ ، فالشَّرط هو { مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ } ، والجوءا هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه ، لم يترتَّب عليه الجزاء ، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره ، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر ، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر ، وهذا محالٌ ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي؛ وهو ممتنعٌ ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل ، وطيرقه : أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر؛ فيصير تقديره : من شَهِدَ جزءاً من أجزاء الشَّهر ، فليصم كلَّ الشهر ، فعلى هذا : من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان ، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر ، وعلى هذا التقدير ، يستقيم معنى الآية ، وليس فيه إلاَّ حَمُْ لفظ الكل على الجزء ، وهو مجازٌ مشهور .
ولقائلٍ أن يقولك إنَّ الزجَّاج قال : إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه؛ كما تقدَّم عنه ، وإذا كان كذلك ، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره .
قال القرطبيُّ : وأعيد ذكر الشَّهر؛ تعظيماً له؛ كقوله { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1 - 2 ] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر : [ الكامل ]
943ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ ... وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ
حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ ... في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر
فصل
روي عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّ من دخل عليه الشهر ، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم ، ولا يجوز له الفطر؛ لأنه شهد الشهر .
وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم ، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان ، جاز له الفطر ، ويقولون : قوله { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر ، إلاَّ أن قوله بعد ذلك : { فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً ، أوْ عَلَى سَفَرٍ ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ } خاصٌّ ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ .
ذهب أبو حنيفة - رضي الله عنه - إلى أنَّ المجنون ، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى .
قال : لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان ، لزمه صوم رمضان؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً؛ فيجب قضاؤه
فصل في كيفية شهود الشَّهْر
شهود الشَّهر : إما بالرُّؤية أو بالسَّماع .
أما الرؤية : فنقول : إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده ، فإما أن يرد الإما شهادته أولا؛ فإن ردَّت شهادته ، وجب عليه الصَّوم؛ لأنَّه شهد الشَّهر ، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية ، فلا شك في وجوب الصَّوم .
وأما السماع : فنقول : إذا شهد عدلا ، على رسة الهلا ، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً ، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ عللٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال ، لا يحكم به ، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصَّوم ، والفرق بينه وبين هلال شوَّال : أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة ، وهلال شوالٍ للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان .
قال ابن الخطيب وعندي : أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان؛ لكي يصوموا ، ولا يفطروا؛ احتياطاً؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً .
فصل في حدِّ الصوم
الصَّوم : هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة .
فقولنا : « إمساك » هو الاحتراز عن شيئين :
أحدهما : لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه ، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه ، لا يبطل صومه؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ ، وقد قال الله تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .
والثاني : لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً ، أو حال النوم - لا يبطل صومه ، والإكراه لا ينافي الإمساك .
وقولنا « عَنِ المُفطرَاتِ » وهي ثلاثة : دخول داخلٍ ، أو خروج خارجٍ ، والجماعُ .
وحدُّ الدخول : كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن ، إما إلى الدماغُ ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة ، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط ، وأما البطن ، فيحصل الفطر بالحقنة؛ وأما الخروج ، فالقيء [ بالاختيار ] ، والاستمناء [ يُبْطلانَ الصوم ] ، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع .
وقولنا « مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً » فلو أكل أو شرب ناسياً ، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة ، والشَّافعيِّ ، وأحمد ، وعند مالك يبطُلُ .
وقولنا : « مِنْ أَوَّولِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ » ؛ لقوله تعالى : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } [ البقرة : 187 ] وكلمة « حَتَّى » ؛ لانتهاء الغاية .
وكان الأعمش يقول : أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيحُ الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ ويحتج بأنَّ انتهاء الصَّوم [ من وقت ] غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها ، وهذا باطلٌ بالنضِّ الذي ذكرناه .
وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده ، فقال له الأعمش : إنَّك لثقيلٌ على قلبي ، وأنت في بيتك ، فيكيف إذا زرتني ، فسكت عنه أبو حنيفة ، فلمَّا خرج من عنده ، قيل له : لم سكتَّ عنه؟ قال : فماذا أقول في رجلٍ ما صام ولا صَلَّى عمره ، وذلك لأنه كان يأكل بعد الجر الثَّاني قبل طلوع الشمس ، فلا صوم له ، وكان لا يغتسل من الإنزال ، فلا صلاة له .
وقولنا : « إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ » ؛ قوله عليه السلام :
« إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَا هُنَا وَأَدَبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ » ومن الناس من يقول : وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس ، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس ، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها ، وهو مغيب الشمس .
وقولنا « مَعَ النِّيِّةِ » ؛ لأنَّ الصوم عملٌ؛ لقوله عليه السَّلام : « الصَّوْمُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ ، والعلم لا بُدَّ فيه من النيَّة » ، لقوله - عليه السَّلام - : « إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ » ، ومن الناس من قال : لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة؛ لأن الله تعالى امر بالصَّوم بقوله : « فَلْيَصُمْهُ » والصَّوم هو الإمساك ، وقد وجد ، فيخرج عن العهدة ، وهذا مردودٌ بقوله - عليه السلام - « إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ » والصوم عملٌ .
وقوله { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قد تقدَّم الكلامُ عليها ، وبيانُ السبب في تكريرها .
قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى : { مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا } [ البقرة : 26 ] . و « أَرَادَ » يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه ، وقد ينعكس الأمر؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
944 - أَرَادَتْ عَرَاراً بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدُ ... عَرَاراً لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ
والباء في « بِكُمْ » قال أبو البقاء : لِلإلْصَاقِ ، أي : يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ ، وهو من مجاز الكلام ، أي : يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ ، وفي قوله : { وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } تأكيدٌ؛ لأنَّ قبله { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } وهو كافٍ عنه . وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز : « اليُسُر ، والعُسُر » بضمّ السين ، والضمُّ للإتباع؟ والظهر الأول؛ لأنه المعهود في كلامهم .
و « اليُسْرُ » في اللغة السُّهُولة ، ومنه يقال للغنى والسَّعة : اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى ، قيل : تلي الفعال باليسر ، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى .
فصل في دحق شبهة للمعتزلة
استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر ، ولا يريد بهم العسر ، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه .
وأُجيبوا : بأنَّ اللفظ المفرد ، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم ، ولو سلَّمناذلكح لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع .
فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة
قالت المعتزلة : هذه الآية تدلُّ على أنَّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى؛ وذلك لأنَّ المريض لو تحمَّل الصَّوم حتى أجهده ، لكان يجب أن يكون قد فعل مالا يريده الله تعالى منه ، إذْ كان لا يريد غيره .
وأُجيبوا بحمل اللَّفظ على أنَّه تعالى لا يريدُ أنْ يأمر بما فيه عسر ، وإن كان قد يريدُ منه العُسر؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة .
قالت المعتزلة : هذه الآيةُ دالَّة على أنه تعالى لا يريدُ بهم الكُفر فيصيرون إلى النَّار ، فلو خلق فيهم ذلك الكُفر ، لم يكن لائقاً به أنْ يقول { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وجوابه : أنه معارضٌ بمسألة العلم .
قوله : { وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ } في هذه اللام ثلاثةُ أقوال :
أحدها : أنها زائدةُ في المفعول به؛ كالتي في قولك : ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ ، و « أَنْ » مُقَدَّرةً بعدها ، تقديرهُ : { وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ } ، أي : تكميل ، فهو معطوفٌ على اليُسْر؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ : [ الطويل ]
945 - أُرِيدَ لاأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ
وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ - وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً ، أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله ، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه ، فَعُدِّيَ بزيادة اللام؛ قياساً لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم .
الثاني : إنَّها لامُ التعليل ، وليست بزائدةٍ ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه :
أحدها : أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل ، تقدير : « وَلِتُكْمِلُوا العِدّضةَ فَعَلَ هَذَا » ، وهو قولُ الفراء . الثاني - وقاله الزَّجَّاج - أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضاً تقديره : فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ؛ ليسهّل عليكم ، ولِتُكْمِلُوا .
الثالث : أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقَّراً بعد هذه العلةِ تقديرُه : « ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْْ فِي ذَلِكَ » ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين .
الرابع : أنَّ الواو زائدةٌ ، تقديرُه : يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا ، وهذا ضَعِيفٌ جِداً .
الخامس : أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد قوله : « وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ » ، تقديرُه : شَرَعَ ذلك ، قاله الزمخشري ، وهذا نصُّ كلامه قال : « شَرَعَ ذَلِكَ ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر ، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه ، ومن الترخيص في إباحة الفطرِن فقولهُ : » وَلِتُكْمِلُوا « علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّةن و » لِتُكَبِّرُوا « علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةٍ الفِطْر و » لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ « علةُ الترخيص ولاتيسير ، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ » .
السادس : أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ ، التقديرُ : لتعملوا ما تعملو ، ، ولِتُكْمِلُوا ، قاله الزمخشريُّ؛ وعلى هذا ، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير
واختصارُ هذه الأوجه : أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ : إمَّا قبلها ، وإمَّا بعدها ، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها ، وهو « يُرِيدُ » . القول الثالث : أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ؛ وعلى ما قبلَهك يكونُ من عطف المفردات؛ كما تقدَّم تقريرُه ، وهذا قولُ ابن عطيَّة ، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين :
أحدهما : أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ ، نحو : لِتَقُمْ يَا زَيْدُ ، وقد قرئ شَاذَاً :
{ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] بتاء الخطاب .
والثاني : أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام ، ولو كانت للأمر ، لجاز فيها الوجهان : الكسرُ والإسكانُ كأخواتها .
وقرأ الجمهورُ « وَلِتُكْمِلُوا » مخفَّفاً من « أكْمَلَ » ، والهمزةُ فيه للتعدية ، وقرأ أبو بكرٍ بتشديدِ الميم ، والتضعيفُ للتعدية أيضاً؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالباً ، والألفُ واللاَمُ في « العِدَّةِ » تَحْتَملُ وجهين :
أحدهما أنها للعهدِ ، فيكونُ ذلك راجعاً على قوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وهذا هو الظاهرُ .
والثاني : أنْ تكونَ للجنس ، ويكونُ ذلك راجعاً على شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ ، ولامعنى : أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته ، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين .
قال ابن الخطيب : إنما قال : « وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ » ولم يقل : « ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ » ؛ لأنه لما قال : « وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة » دخل تحته عدة أيَّام الشهر ، وأيام القضاء ، لتقدُّم ذكرهما جميعاً؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المضي ، ولو قال : « وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ » لدل على حكم الأداء فقط ، ولم يدخل حكم القضاء .
واللامُ في « وَلِتُكَبِّرُوا » كهي في « وَلِتُكْمِلُوا » فالكلامُ فيها كالكلام فيها ، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا .
قوله : « عَلَى مَا هَدَاكُمْ » هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب « تُكَبِّرُوا » وفي « عَلَى » قولان :
أحدهما : أنها على بابها من الاستعلاءِ ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ . قال الزَّمخشري : « كأنَّه قيل : ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ » قال أبو حيان - رحمه الله - : « وهذا منه تفسيرُ معنىً ، لا إعراب؛ إذ لو كان كذلك ، لكان تعلُّقُ » عَلَى : « ب » حَامِدِينَ « التي قَدَّرها ، لا ب » تُكَبِّرُوا « ، وتقديرُ الإعراب في هذا هو : » وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم « ؛ كما قدَّره الناسُ في قوله : [ الراجز ]
946 - قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَاداً عَنِّي ... أي : صَرَفَه باقتلِ عني ، وفي قوله : [ الطويل ]
947 - وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ ... بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ
أي : متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى » .
والثاني : أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ .
و « ما » في قوله : « عَلَى مَا هَدَاكُمْ » فيها وجهان :
أظهرهُما : أنها مصدرية ، أي : على هدايته إيَّاكم .
والثاني : أنَّها بمعنى « الذي » قال أبو حيان « وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن :
أحدهما : حذفُ العائد ، تقديرُه ، هَدَاكُمُوهُ ، وقدَّره منصوباً ، لا مجروراً باللام ، ولا ب » إِلَى « لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ .
والثاني : حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ « . :
وخُتِمَت هذه الآية الكريمة بترجِّي الشُّكر ، لأنَّ قبلها تيسيراً وترخيصاً ، فناسب خَتمَها بذلك ، وخُتمت الآيتان قبلها بترجِّي التقوى ، وهو قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 178 ] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليف ، فناسب خَتْمَها بذلك ، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّبَ بترجِّي الشكر غالباً ، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصٍ عَقَّب بترجِّي التقوى وشبهها ، وهذا من محاسن عِلْم البيان والله أعلم .
فصل في المراد بالتكبير في الآية
في المراد بهذا التكبير قولان :
أحدهما : المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر .
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - حقٌّ على المسلمين ، إذا رأوا هلالَ شَوَّالِ أنْ يكبِّروا .
قال مالكٌ والشَّافعي - رحمه الله - وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد : سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين .
وقال أبو حنيفة : يكرَهُ في غداة الفِطر .
واحتجَّ الأوَّلُون بقوله تعالى : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } [ قالوا : معناه ] ولتكملوا عدَّة صوم رمضان ، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة .
واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير؟ فقال الشَّافعيُّ في » القديم « : ليلة النَّحرِ أوكد؛ لإجماع السَّلف عليها ، وقال في » الجديد « ليلةُ الفطر أوكَدُ؛ لورود النصِّ فيها ، وقال مالكٌ : لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ ، ولكنه يكَبَّر في يومه ، وهو مرويٌّ عن أحمد .
وقال إسحاق : إذا غدا على المُصَلَّى .
واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية ، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت ، واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ ، فقيل : يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة .
وقيل : إلى خروج الإمام .
وقيل : إلى انصراف الإمام ، وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير .
القول الثاني في المراد بهذا التَّكبير : هو العظيم للَّه تعالى؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة .
قال القرطبي : » عَلَى مَا هَدَاكُمْ « قيل : لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم .
وقيل : بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء ، والتَّظاهر بالأحساب ، وتعديد المناقب .
وقيل : لتعظّموه على ما أرشدكُم إليه من الشَّرَائع .
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
في اتصال هذه الآية بما قبلَها وجوه :
أحدها : أنَّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 185 ] فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر وبالشكر ، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره ، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه .
الثاني : أنه أمره بالتَّكبير أولاً ، ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل؛ ألا ترى أن الخليل - عليه السَّلام - لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء؛ فقال : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] إلى قوله : { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } [ الشعراء : 82 ] فلما فرغ من هذا الثناء ، شرع في الدُّعاء ، فقال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } [ الشعراء : 83 ] فكذا هاهنا .
الثالث : أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام ، كما فُرض على الذين من قبلهم؛ وكانوا إذا ناموا ، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم ، فشَقَّ ذلك على بعضهم؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف ، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن توبتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم ، وبنسخ ذلك التَّشديد؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم .
فصل في بيان سبب النزول
ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ :
أحدها : ما قدّمناه .
الثاني : قال ابن عبَّاس : إنَّ يهُود المدينة قالوا : يا محمَّد ، كيف يسمع ربُّك دعاءنا ، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلت الآية الكريمة
الثالث : قال الضَّحَّاك : إنَّ أعربيّاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أرقيبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله تعالى الآية .
الرابع : أنه - عليه الصلاة والسلام - كان في غزاة خيبر ، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء ، فقال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم اربعون على أنفسكم فإنَّما لا تدعون أصمّ ولا غائباً ، إِنَّما تدعون سمعياً قريباً وهُو معكُم .
الخامس : قال قتادةُ وغيره : إنَّ الصحابة قالوا : كيف ندعُو ربنا ، يا رَسُول الله ، فنزلت الآية .
السادس : قال عطاءٌ وغيره : إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعوا ربنا فأنزل الله الآية .
السابع : قال الحسن : سأل أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أين رَبُّنا؟ فأنزل الله الآية .
فصل
واعلم أنَّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة؛ لأنَّه تبارك وتعالى ، لو كان في مكانٍ ، لما كان قريباً من الكُلِّ ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش ، وبعيداً غيرهم ، ولكان إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق ، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب ، فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة ، فثبت أن المراد منه أنهقريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم .
والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ؛ على ما قال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقال { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] وقال تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ونظيره : وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم .
قال ابن الخطيب : وإذا عرف هذا فنقُول : لا يبعدُ أن يقال : إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه ، فقد كان من مشركي العرب ، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه - عليه الصلاة والسلام - أين ربُّنا؟ صحَّ أن يكون الجوابُ : فإنِّي قريبٌ ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلَّم يسمعُ كلامَهُ ، وإن سألوه كيف يدعُون؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله : « فإِنِّي قَرِيبٌ » ، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء؟ صحَّ هذا الجوابُ ، وإن سألوه : إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا ، فهل يقبلُ الله توبتَنَا؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله « فَإِنِّي قَرِيبٌ » أي : فأنا القريبُ بالنظر إليهم ، والتجاوز عنهم ، وقبُول التَّوبة منهم؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير .
قوله تعالى : « أُجِيبُ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل « قَريبٌ » .
والثاني : أنها خبرٌ ثانٍ ل « إنِّي » ؛ لأنَّ « قَرِيبٌ » خبرٌ أوَّلُ .
ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء ، تقديرُه : فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب ، وجاء قوله « أُجِيبُ » ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر ، ولم يُراعَ الخبرُ ، فيقالُ : « يُجِيبُ » بالغَيْبَة؛ مراعاةً لقوله : « قَرِيبٌ » ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ؛ كقوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] وفي أخرى { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقول الشاعر : [ الطويل ]
948 - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ
ولو راعى الخبر ، لقال : « مَا يَرَوْنَ القَتْلَ » .
وفي قوله : « عَنِّي » و « إِنِّي » التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّ قبله : « وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ » والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ ، والكافُ في « سَأَلَكَ » للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنْ لم يجر له ذكرٌ ، إلاَّ أنَّ قوله : { أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] يَدُلُّ عليه؛ لأنَّ تقديره : « أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - » وفي قوله : فَإِنِّي قَريبٌ « مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه ، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ ، لتعاليه عن المَكَان .
قال أبو حَيَّان : والعامِل في » إِذَا « قوله : » أُجِيبُ « يعني » إِذَا « الثانية ، فيكون التقديرُ : أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه ، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وحذف جوابها؛ لدلالةِ » أُجِيبُ « عليه؛ وحينئذٍ لا يكونُ » أُجِيبُ « هذا الملفوظ به هو العامل فيها ، بل ذلك المحذوفَ ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط ، وأمَّا » إِذَا « الأولى ، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ ، والهاء في » دَعْوَة « ليست الدالَّة على المَرَّة ، نحو : ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ ، نحو : رحمة ونجدة؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة .
والياءان من قوله : « الدَّاع - دَعَان » من الزوائد عند القُرَّاءِ ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابة لم تُثْبِت لها صورةً في المُصحَف ، فمن القُرَّاءِ مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسل وَقْفاً ووَصْلاً . ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَين ، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها وَصْلاً ويحذِفُها وَقْفاً ، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستُّون ياءً ، فأثبَتَ أبو عمرو وقَالُونُ هاتَينِ الياءَيْنِ وَصْلاً وحَذَفَاهَا وَقْفاً .
فصل في بيان حقيقة الدُّعاء
قال أبو سليمان الخطَّابيُّ : والدُّعاء مصدر من قولك : دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً ، ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم؛ تقول : سمعتُ الدعاء؛ كما تقولُ : سمعتُ الصَّوتَ ، وقد يوضعُ المصدر موضع الاسم؛ كقولك : رَجُلٌ عدلُ ، وحقيقةُ الدعاء : استدعاءُ العبدِ ربَّهُ جلَّ جلالهُ العناية ، واستمدادُهُ إيَّاه المعونَةَ .
والإجابةُ في اللُّغة : الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ ، فالإجابةُ من الله العطاءُ ، ومن العبدِ الطاعةُ .
وقال ابنُ الأنبياريِّ « أُجِيبَ » ههنا بمعنى « أَسْمَعُ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ .
فصل في الجواب على من ادَّعى أن لا فائدة في الدُّعاء
قال بعضهم : الدعاء لا فائدة فيه لوجوهٍ :
أحدها : أنَّ المطلوب بالدُّعاء ، إنْ كان معلوم الوقُوع عند الله تعالى ، كان وقوعهُ واجباً؛ فلا حاجة إلى الدُّعاء ، وإن كان معلوم الانتفاءِ واجبَ العَدَمِ ، فلا حاجة إلى الدُّعاء .
وثانيها : أنَّ وقوع الحَوَادِث في هذا العالم إنْ كان لا بُدَّ لها منْ مُؤَثِّر قديم اقتضى وجودَها اقتضاءً قديماً ، كانت واجبةً الوُقُوع ، وكلُّ ما لم يقتض المؤثِّرُ القديمُّ وجودَهُ اقتضاءً أزليّاً ، كان ممتنعَ الوقُوع ، وإذا كانت هذه المقدِّمة ثابتةً في الأَزَلِ ، لم يكُن للدعاءِ ألبتَّة أثر ، وربَّما عبَّروا عن هذا الكلام بأنْ قالوا : الأقدَارُ سابقةٌ ، والأقضيةُ متقدِّمةٌ ، فالإِلحاح في الدُّعاء لا يزيد فيها وتركُه لاَ ينقُصُ منها شيئاً ، فأيُّ فائدةٍ في الدعاء ، وقال عليه الصلاة والسلام : » أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ منها : الخَلْقُ والخُلُقُ وَالرِّزْقُ وَالأَجَلُ «
وثالثها : أنَّه سبحانه وتعالى قال : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] وإذا كان يعلمُ ما في الضمير ، فأيُّ حاجةٍ إلى الدُّعاء .
ورابعها : أنَّ المطلوب بالدعاء ، إنْ كان من مصالح العَبْد ، فالجواد المطلق لا يهملُهُ ، وإن لم يكُنْ من مصالحه ، لم يَجُزْ طلبه .
وخامسها : أنَّه ثبت أنَّ أجلَّ مقامات الصِّدِّيقين وأعلاها الرِّضا بقضاء الله تعالى والدعاءُ ينافي ذلك؛ لأنه اشتغالٌ بالاتماس ، وترجيحٌ لمراد النَّفسِ على مُرَاد الله .
وسادسها : أنَّ الدعاء يُشبهُ الأمر والنَّهي ، وذلك من العبد في حقِّ المولى الكريم سُوءُ أَدَب .
وسابعها : قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الله تعالى : « مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي »
وقال الجمهور : الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة ، واحتجُّوا بأدلَّة :
الأول : هذه الآية الكريمة .
الثاني : قوله تعالى : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] الثالث : قوله { فلولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 43 ] بين أنه تعالى ، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب ، وقال - عليه السَّلام - « لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ ، اغْفِرْ لي إِنْ شِئْتَ ، وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي » وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ » وقرأ « وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » ، فقوله « الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ » معناه أنه مُعْظَم العبادة ، وأفضل العبادة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : « الحَجُّ عَرَفة » ، أي : الوقوف بِعَرَفَةَ هو الرُّكْن الأَعْظَم .
الرابع : قوله : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] وقال : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } [ الفرقان : 77 ] والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ ، فمن أبطل الدعاء ، فقد أنكَرَ القرآن ، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ .
والجوابُ عن شبهتهم الأولى بالمناقضة؛ فنقُول : إقدامُ الإنسان على الدعاء ، إن كان معلوم الوقوع ، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء ، وإن كان معلوم العدم ، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة .
والجوابُ عن الثَّانية : علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية ، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعرتاف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رضي الله عنهم - رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ؟ فقال : « بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ » فقالوا : فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ : « اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ » فانظُر إلى لطائف هذا الحديث ، فإنه - عليه الصلاة والسلام - علَّقهم بين أمرين ، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه ، ثم ألزمهم العمل لاذي هو مدرجةُ التعبُّد ، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأبخر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ ، فقال : « كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ » يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ ، ولا ينقصه التَّرك .
والجوابُ عن الثالث : أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب ، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة .
والجواب عن الرابعة : أنه يجوزُ أنْ يصير ما ليسَ بمصلحَةٍ بحسب سَبق الدعاء .
والجواب عن الخامس : إذا كان مقصُوده من الدُّعاء إظهار الذلَّة والمسكنة ، ثم بعده الرضا بما قدَّره الله تعالى وقاضه ، فذلك من أعظم المقامات ، وهذا الجوابُ أيضاً بقيَّة الشُّبَهِ .
فإن قيل : إنَّه تعالى قال { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال هنا { أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } ، وقال { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ } [ النمل : 62 ] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع ، فلا يجاب .
فالجوابُ من وجوه :
أحدها : أن هذه الآيات ، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة ، وهو قوله تعالى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ } [ الأنعام : 41 ] والمطلق يحمل على المقيَّد .
وثانيها : قوله - عليه الصلاة والسلام- : « دَعْوَةُ المُسْلم لاَ تُرَدُّ إلاَّ لإحْدى ثَلاث : مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمِ ، أَوْ قِطيعَة رَحِمٍ ، أَوْ يَسْتَعْجلْ » ، قَالُوا : وَمَا الاسْتِعْجَالُ ، يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ : يَقُولُ : قَدْ دَعوْتُكَ يَا رَبِّن قَد دَعَوتُكَ يَا رَبِّ ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّن فَلاَ أَرَاكَ تستجيبُ لي ، فيستَحْسِرُ عند ذلك فيدع الدُّعاء
وثالثها : أنَّ قوله { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه ، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره ، وعلمه وحكمته ، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا ، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ ، بل لا بدَّ وأن يقول : أفعل هذا الفعل ، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط ، فزال السؤال .
ورابها : أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة :
فقيل : الدعاء عبارةٌ عن : التوحيد والثَّناء على الله تعالى؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ ، فدعَوتَهن ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّ دعاءً بهذا التأويل ، فسمي قبوله إجابةً للتجانس ، ولهذا قال ابن الأنباريِّ : « أُجِيبُ » ههنا بمعنى « أًسْمَعُ » ؛ لأن بيهن السماع والإجابة نوع ملازمةٍ ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر ، فقولنا : « سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ » ، أي : أجاب الله ، فكذا هاهنا قوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع } ، أي : أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة ، فإذا حَمَلنا قوله تعالى { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } على هذا الوجه ، زال الإشكال .
وقيل : المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته ، فيقْبَلُ توبته ، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء ، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال .
وقيل : المرادُ من الدُّعاء العبادةُ ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام : الدعاءُ هو العبَادةُ ويدلُّ عليه قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة .
وإذا ثَبَتَ ذلك ، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع؛ كما قال
{ وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } [ الشورى : 26 ] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ : « أعطيت أُمَّتي ثلاثاً ، لم تُعطَ إِلاَّ للأنبياء : كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ ، قَالَ : » ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ « ، وقال لهذه الأُمَّة : » ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ « وكان الله إذا بعث النَّبيَّ ، قال له : » مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في الدِّين مِنْ حَرَجٍ وقال لهذه الأُمَّة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النَّبيِّ جعلهُ شهِيداً على قومه ، وجعل هذه الأمَّة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس «
وخامسها : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع } إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً .
وسادسها : روى عُبادةُ بن الصَّامت؛ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال : » مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ «
وسابعها : إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت ، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده ، ليدعوه فيسمع صوته ، ويعجِّل إعطاء من لا يُحِبُّه؛ لأنه يبغض صوته .
فصل
قال سفيان بن عيينة : لا يمنعنَّ أحداً من الدُّعاء ما يعلمه من نفسه ، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس ، لَعَنَةُ اللَّهُ؛ قال : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } [ الأعراف : 14 - 15 ] .
وللدُّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، كالسَّحرِ ، ووقت الفطِر ، وما بين الأذانِ والإقامة ، وما بين الظُّهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الإضرار وحالة السَّفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصَّفّ في سبيل الله تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ .
وروى شهرُ بن حوشب؛ أنَّ أُمَّ الدرداءِ قالت لهُ : يا شهرُ ، ألا تجدُ القشعريرة؟ قلت : نعم قالت فادعُ الله فإنَّ الدُّعاء يُستجابُ عند ذلك .
قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } في الاستفعالِ هنا قولان :
أحدهما : أنَّه للطلب على بابه ، والمعنى : فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي ، قاله ثعلبٌ .
الطَّاعة والعَمَل ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } [ الأنفال : 24 ] .
والثاني : أنه بمعنى الإفعال ، فيكون استفعل وأفعل بمعنى ، وقد جاءَت منه ألفاظ ، نحو : أقرَّ واستقرَّ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ ، ومنه اسْتَجَابَةُ وَأَدَابَهُ ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ ، فقد جاء متعدّياً بنفسه ، وبحرف الجَرِّ ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدّىً بحرف الجرِّ نحو : { فاستجبنا لَهُ } [ الأنبياء : 84 ] { فاستجاب لَهُمْ } [ آل عمران : 195 ] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي : [ الطويل ]
949 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
ولقائل أنْ يقُول : يحتملُ هذا البيت : إنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ .
واللامُ لامُ الأمر ، وفرٌَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ : بأنَّ « اسْتَجَابَ » لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه؛ نحو : { فاستجبنا لَهُ } { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُم } ، وأمَّا « أَجَابَ » فأعمُّ ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة ، فجعل بينهما عموماً وخصوصاً .
والجمهورُ على « يَرشُدُونَ » بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ ، وماضيه : رَشَدَ بالفتح ، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين ، وقُرئ بفتحها ، وماضيه رشِد بالكسر ، وقرئ : « يُرْشَدُونَ » مبنيّاً للمفعول ، وقرئ : « يُرْشِدُونَ » بضم الياء وكسر الشين من « أَرْشَدَ » ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ ، تقديرُه : يُرْشِدُونَ غيرهم « والرُّشْدُ » هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا؛ قال تبارك وتعالى : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } [ النساء : 6 ] وقال { أولئك هُمُ الراشدون فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً } [ الحجرات : 7 - 8 ] .
قال القرطبي : و « الرُّشْدُ » خلاف الغيِّ ، وقد رشد يرشُدُ رُشداً ورشِدَ - بالكَسْر - يَرْشَدُ رَشَداً لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد : مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة ، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ .
وقال الهرويُّ : الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ : الهدى والاستقامة؛ ومنه قوله تعالى : « يَرْشُدُونَ » .
فإنْ قيل : إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان ، فذاك هو الإيمانُ ، وعلى هذا ، فيكونُ قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } تكراراً محضاً ، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّماً على الطاعات ، وكان حقُ النَّظم أن يقول : « فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي » فلم جاء على العكس .
فالجواب : أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب ، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان ، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قوله تعالى : { لَيْلَةَ الصيام } منصوبٌ على الظرف ، وفي الناصب له ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها - وهو المشهورُ عند المُعْربين - : « أُحِلَّ » ، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ الإحلال ثابتٌ قبل ذلك الوقت .
الثاني : أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ « الرَّفَث » ، تقديرُه : أُحِلَّ لكُمْ أن ترفُثُوا ليلة الصِّيام؛ كما خرَّجوا قول الشاعر : [ الهزج ]
950 - وَبَعْضُ الحِلْم عِنْدَ الْجَه ... لِ لِللذِّلَّةِ إِذْعَانُ
أي : إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور .
الثالث : أنه متلِّق بالرَّفثِ ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ ، وقد تقدَّم تحقيقه .
وأضيفت اللِّيلةُ للصيام؛ اتِّساعاً ، لأنَّ شرط صحته ، وهو النيةُ ، موجودةً فيها ، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف ، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول : الليلة : عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها ، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر ، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك .
والجمهورُ على « أُحِلَّ » مبنيّاً للمفعول للعلمِ به ، وهو اللَّهُ تعالى ، وقرئ مبنياً للفاعل ، وفيه حينئذٍ احتمالان :
أحدهما : أن يكونّ من باب الإضمار؛ لفَهْمِ المعنى ، أي أَحَلَّ اللَّهُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم .
والثاني : أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي } وهو المتكلِّم ، ويكونُ ذلك التفاتاً ، وكذلك في قوله : « لَكُمْ » التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في : « فَلْيَسْتَجِيبُوا ، وَلْيُؤْمِنُوا » ، وعُدِّي « الرَّفث » ب « إِلَى » ، وإنما يتعدَّى بالباء؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] كأنه قيل : أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ . قال الواحديّ : أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام ، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ : [ الوافر ]
951 - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
قال ابن الخطيب : وأقولُ : فيه وجهٌ آخرُ ، وهو أنَّه ليس المراد من « لَيْلَةَ الصِّيَامِ » ليلةً واحدةً ، بل المراد الإشارةُ إلى اللِّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة .
وقرأ عبد الله « الرَّفُوثُ » قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش ، والرَّفثُ لغةً مصدرُ : رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها ، إذا تكلم بالفُحشِ ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ؛ قال العجاج : [ الرجز ]
952 - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّم
وقال الزَّجَّاج : - ويُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما - « إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ » ، وقيل : الرَّفث : الجِمَاعُ نفسُهُ ، وأنشد : [ الكامل ]
953 - وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً ... وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
وقول الآخر : [ المتقارب ]
954 - فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ ... وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ
ولا دليل؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة ، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ ، وهو مُحْرِمٌ : [ الرجز ]
955 - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَاهَمِيسَا ... إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا
فقيل له : رَفَثْتَن فقال : إنَّما الرَّفَثُ عند النساء .
فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش ، ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء ، ثم جعل كنايةً عن الجماع ، وعن توابعه .
فإن قيل : لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ « الرَّفَث » الدَّالِّ على معنى القبح بخلاف قوله { وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] وقوله تعالى : { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } [ الأعراف : 189 ] ، وقوله عزَّ وجلَّ : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } [ النساء : 43 ] وقوله عز وجل : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } [ النساء : 23 ] ، وقوله عزَّ وجلَّ : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ } [ البقرة : 237 ] وقوله تعالى : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ } [ النساء : 24 ] { وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ } [ البقرة : 222 ] .
فالجواب : أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم؛ قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - إنَّ الله سبحانه وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ يُكَنِّي ، كُلُّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدُّخول والرَّفث ، فإنما عنى به الجماع .
فصل في بيان سبب النزول
ذكروا في سبب نزول هذه الآية : أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيامن ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة ، فإن فعل أحدهما : حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية ، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً ، وقد أجهده الصَّوم ، واختلفوا في اسمه؛ فقال معاذٌ : اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة ، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمة ، وقيل صرمة بن أنس .
فسأله النبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف وكرَّم وبجَّل وعظَّم عن سبب ضَعْفِهِ ، فقال : يا رسول الله ، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ : حتَّى أَمْسَيْتُ ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً ، فَأَبْطَأتْ ، فنمت فَأَيْقَظُونِي ، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رضي الله عنه - فقال : يا رسول الله أنِّيأعتذر إلى الله وإليك من نفس هذه الخاطية؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلِّيت العشاء ، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفس ، فجامعت أهلي ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وشرَّف ، وكرَّم ومجَّد وبجَّل ، وعظَّم : ما كنت جديراً بذلك يا عمر ، فقام رجالٌ ، فاعترفوا بمثله ، فنزل قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } .
فصل ذهب جمهور المفسِّرين أنَّه كان في أوَّل شرعنا ، إذا أفطر الصَّائم ، حلَّ له الأكل والشُّرب والجماع ، ما لم ينم أو يُصَلِّ العشاء الآخرة ، فإذا فعل أحدهما ، حرم عليه هذه الأشياء ، ثم إنَّ الله تعالى ، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة .
وقال أبو مسلم : هذه الحرمة ما كانت ثابتةً في شرعنا ألبتَّة ، بل كانت ثابتةً في شرع النصارى ، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم .
واحتجَّ الجمهور بوجوه :
أحدها : قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 183 ] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتةً في صومهم؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتاً في صومنا ، لقصد أن يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة .
الثانيك قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } ولو كان هذا الحلُّ ثابتاً لهذه الأُمَّة من أول الأمر ، لم يكن لقوله : « أُحِلَ لَكُمْ » فائدةٌ .
الثالث : قوله سبحانه : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } ولو كان ذلك حلالاً لهم ، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم .
الرابع : قوله تعالى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } [ وَلَوْلاَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا على المعصِيَةِ؛ بِسَبَبِ الإقْدام على ذلك الفعل ، لما صحَّ قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ] .
الخامس : قوله تعالى : « فالآنَ بَاشِرُهُنَّ » ولو كان الحلُّ ثابتاً قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى : « فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ » فائدةٌ .
السادس : ما رويناه في سبب النُّزُول .
وأجاب أبو مُسْلمٍ عن الأوَّل : بأنَّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب .
وعن الثَّاني : بأنَّا لا نسلِّم أنَّ هذه الحرمة كانت ثابتةً في شرع من قبلنا ، فقوله : « أُحِلَّ لَكُمْ » معناه : أُحِلَّ لَكُمْ ما كان مُحَرَّماً على غيركم .
وعن الثالث : بأنَّ تلك الحرمة كانت ثابتةً في شرع عيسى - عليه السلام - ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا ، ولم ينقل زوال تلك الحرمة ، فكان يخطر ببالهم أنَّ تلك الحرمة باقيةُ علينا ، لأنَّه لم يوجد في شرعنا ما دلَّ على زوالها ، وممَّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } وكان مما كتب على لاذين من قبلنا هذه الحرمة؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا ، فشدَّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور ، فقال تبارك وتعالى : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أُبَيِّنْ لكم إحلال الأكل والشُّرب والمباشرة طوال اللِّيل ، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذَّاتها ومصلحتهاح بالإمساك عن ذلك بعد النَّوم؛ كسُنَّة النصارى ، وأصل الخيانة : النَّقصُ .
وعن الرابع : أن التوبة من العبد : الرُّجُوع إلى الله تعالى بالعبادة ، ومن الله سبحانه : الرُّجُوع إلى العبد بالرحمة والإحسان ، وأما العفو فهو التجاوز ، فبيَّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلاً على من قبلنا ، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ » وقال عليه الصَّلاة والسَّلام : « فِي أَوَّلِ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ »
والمراد منه التخفيف بتأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت؛ ويقال أتاني هذا المال عفواً ، أي : سهلاً .
وعن الخامس : بأنَّهم كانوا بسبب تلك الشُّبهة ممتنعين عن المباشرة ، فبيَّن الله تعالى ذلك ، وأزال الشُّبهة بقوله : « : فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ » .
وعن السادس : بأنَّ في الآية الكريمة ما يدلُّ على ضعف هذه الرِّواية؛ لأن الرواية أنَّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك خلاف قوله تعالى : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } ؛ لأنَّ ظاهره المباشرة ، لأنَّه افتعالٌ من الخيانة .
وقوله : « كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ » في محلِّ رفعٍ خبرٌ ل « أَنَّ » . و « تَخْتَانُونَ » في محلِّ نصبٍ خبرٌ ل « كَانَ » .
قال أبو البقاء : و « كُنْتُمْ » هنا لفظها لفظ الماضي ، ومعناها أيضاً ، والمعنى : أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم ، فتاب عليهم منه ، وقيل : إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال ، وذكر « كَانَ » ليحكي بها الحال؛ كما تقول : إن فعلت ، كنت ظالماً « وفي هذا نظرٌ لا يخفى .
و » تَخْتَانُونَ « تَفْتَعِلُونَ من الخيانة ، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم : خَانَ يَخُونُ ، وفي الجمع : خَوَنَة ، يقال : خَانَ يَخُونُ خَوْناً ، وخِيَانَةَ ، وهي ضدُّ الأمانة ، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت : [ الوافر ]
956 - بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا ... قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ ، وخَانَهُ الدَّهْرُ ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ ، إذا لم يف ، ومنه قوله تعالى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } [ الأنفال : 58 ] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى : { لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } [ الأنفال : 27 ] وقال تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } [ الأنفال : 71 ] فسُمِّيت المعصية بالخيانة .
وقال الزمخشريُّ : » والخْتِيَانُ : من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ ، فيه زيادةٌ وشِدَّة « ؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى ، كما قدَمَهُ في قوله تعالى : { الرحمن الرَّحِيمِ } وقيل هنا : تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ ، أي : تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء ، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل ، يقال : تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ ، بمعنى تَعَهَّدَهُ ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أِهر .
و » عَلِمَ « إن كانت المتعدية لواحدٍ ، تَكُونُ بمعنى عَرَفَ ، فتكونُ » أَنَّ « وما في حيِّزها سادَّةً مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ ، وإن كطانت المتعدية لاثنين ، كانت سادةً مَسَدَّ المفعولين على رأي سيبويه - رحمه الله - ومَسَدَّ أحدهما ، والآخر محذوفٌ على مذهب الأخفش .
وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } لا محلَّ له من الإعراب؛ لأنه بيانٌ للإحلال ، فهو استئنافٌ وتفسيرٌ .
يعني إذا حصلت بينكم وبينهنَّ مثل هذه المخالطة والملابسة ، قلَّ صبركم عنهنَّ ، وضعف عليكم اجتنابهنَّح فلذلك رخَّص لكم في مباشرتهنَّ .
وقدَّم قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ } على { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } ؛ تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هوالبادىءُ بطلب ذلك ، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة؛ كقوله - هو النابغة الجَعْدِيُّ - : [ المتقارب ]
957 - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاساَ
وفيها أيضاً : [ المتقارب ]
958 - لَبِسْتُ أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا
قال القرطبيُّ : وشُدِّدتُ النُّون من « هُنَّ » لأنها بمنزلة الميم والواو ف المذكَّر .
وورد لفظ « اللِّبَاسِ » على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى السَّكَن؛ كهذه الآية .
الثاني : الخلط؛ قال تبارك وتعالى : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } [ الأنعام : 82 ] ، أي : لم يخلطوا .
الثالثك العمل الصالح؛ قال تعالى : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى } [ الأعراف : 26 ] ، أي : عمل التقوى .
الرابع : اللِّباس بعينه؛ قال تعالى : { يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً } [ الأعراف : 26 ] .
فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللِّباس
في تشبه الزَّوجين باللِّباس وجوه :
أحدها : أنه لمَّا انضمَّ جسد كلِّ واحدٍ منهما إلى الآخر؛ كالثَّوب الذي لبس ، سُمِّي كلُّ واحدٍ منهما لباساً .
قال الرَّبيعُ : هُنَّ فراشٌ لكم ، وأَنْتُمْ لِحَافٌ لهُنَّ .
وقال ابن زَيْدٍ : إنَّ كلَّ واحِدٍ منها يَسْتُرُ صاحبَهُ عند الجماع عن أبْصَارِ النَّاسِ .
وقال أبو عُبَيْدَةَ وغيره : يقال للمَرْأةِ : هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ ، وقيل : اللِّبَاسُ اسمٌ لما يُواري الشَّيء ، فيجوز أن يَكُونَ كُلُّ واحد منهما سِتْراً لصاحبه عمَّا لا يَحِلُّ؛ كما ورد في الحديث : « مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ سَتَرَ ثُلُثَيْ دِينِهِ » .
الثاني : أن كلَّ واحدٍ منهما يخصُّ نفسه بالآخر؛ كما يخصُّ لباسه بنصيبه .
قال الوَاحِديُّ - رحمه الله - : إنما وحَّد « اللِّباس » بعد قوله تعالى : « هُنَّ » ؛ لأنه يجري مجرى المصدر ، و « فِعَالٌ » من مصادر « فَاعَلَ » ، وتأويله : وهُنَّ ملابساتٌ لكم .
فصل في معنى « تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ »
قال القرطبيُّ : معنى { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } أي : يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعه المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم؛ كقوله تعالى : { تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] أي : يقتل بعضكم بعضاً ، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائناً لنفسه من حث كان ضرره عائداً عليه؛ كما تقدَّم .
فصل
قال ابن الخطيب : إنَّه تعالى ذكر هاهنا أنَّهم كانوا يختانون أنفسهم ، ولم يبيِّن تلك الخيانة فيماذا ، فلا بُدَّ من حملها على شيءٍ له تعلُّق بما تقدَّم وما تأخَّر ، والذي تقدَّم هو ذكر الجماع ، والذي تأخَّر هو قوله تعالى : « فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ » فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان :
الأول : عَلَمَ اللَّه أنَّكم كنتم تستَتِرُون بالمَعْصيَة بالجَماع بَعْد العتمة ، والأكْل بَعْد النَّوم ، وترتكبون المحرَّم من ذلك وكلُّ من عصى الله ، فقد خانَ نفسه؛ وعلى هذا القول : يجب أن يقطع بأنَّ ذلك وقع من بعضهم؛ فدلَّ على تحريم سابقٍ ، لأنَّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار ، وإذا صحَّ وقوعه من بعضهم ، دلَّ على تحريم سابقٍ ، ولأبي مسلم أن يقول : قد بيَّنَّا أنَّ الخيانة عبارةٌ عن عدم الوفاء بما يجب عليهم ، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقُّ بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقٌّ للنفس ، وهذا أولى؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ : علمك [ الله ] أنَّكم كنْتُمْ تختانونَهُ [ أنفُسكم ] ، وإنما قال : تَخْتَانثونَ أنْفُسَكُمْ ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا ، إن لم يكن أولى ، فلا أقلَّ من التساوي ، وبهذا التقدير : لا يثبت النَّسخ .
القول الثاني : أنَّ المراد { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } لو دامت تلك الحرمة ، فمعناه : أنَّ الله يعلم أنَّه لو دام ذلك التكليف الشَّاقُّ ، لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التقدير : ما وقعت الخيانة ، فيمكن أن يقال : التفسير الأوَّل أولى؛ لأنَّ لا حاجة فيه إلى اضمار الشَّرط ، وأن يقالك بل الثاني أولى؛ لأنَّه على الأوَّل يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف ، وعلى الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف ، لحصلت الخيانة ، فنسخ التكليف رحمةً من الله على عباده ، حتى لا يقعوا في الخيانة .
وأمَّا قوله تعالى « فَتَابَ عَلَيْكُمْ » فمعناه على قول أبي مُسلم : فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتَّوسعة عليكم ، وعلى قول مثبتي النَّسخ لا بُدَّ فيه من إضمار ، تقديره : تبتم ، فتاب عليكم ، وقوله « وَعَفَا عَنْكُمْ » على قول أبي مسلم : أَوْسَعَ عَلَيْكُمْ بإباحة الأكل والشُّرب والمباشرة في طول اللَّيل ، ولفظ « العَفْ » يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ كما قدَّمناه ، وعلى قول مثبتي النَّسخ ، لا بد وأن يكون تقديره : عَفَا عَنْ ذُنُوبكُمْ ، وهذا مما يقَوِّي قول أبي مسلم؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمارٍ ، وتفسيرُ مثبتي النَّسخ يحتاج إلى إضمارٍ وتفسيرٍ .
قوله : « فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ » قد تقدَّم الكلام على « الآنَ » وفي وقوعه ظرفاً للأمر تأويلٌ ، وذلك أنه للزمن الحاضر ، والأمر مستقبلٌ أبداً ، وتأويله ما قاله أبو البقاء؛ قال : « وَالآنَ : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر ، وهو المراد هنا ، لأنَّ قوله : » فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ « ، أي : فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ » ، وقيل : هذا كلامٌ محمولٌ على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر ، فالآن على حَقِيقَتِهِ . وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً ، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه :
قال ابن العَرَبِيِّ : وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر ، لا جوع قيس ، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍن لقال : « فَالآن كُلُوا » ابتداءً به؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله .
وقرأ ابن عباس - رضي الله عنهما- : « وَاتَّبِعُوا » من « الاتّباع » وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريِّ ، وفسَّروا { مَا كَتَبَ الله } بليلةِ القدر ، أي اتَّبِعوا ثوابها ، قال الزمخشريُّ : « وهو قريبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ » .
وقرأ الأعمش « وَابْغُوا » .
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة ، ومن قال بأنَّ مطلق الأمر للوجوب ، قالوا : إنما تركنا الظَّاهر هنا للإجماع ، وفي المباشرة قولان :
أحدهما - وهو قول الجمهور : أنَّها الجماع ، سمِّي بهذا الاسم؛ لتلاصق البَشَرَتَيْنِ .
والثاني - قول الأصمِّ : أنه محمولٌ على المباشرات ، ولم يقصره على الجماع ، وهذا هو الأقرب إلى لفظ المباشرة ، لأنها مشتقَّةٌ من تلاصق البَشَرَتَيْن ، إلاَّ أنَّهم اتفقوا على أنَّ المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع؛ لأنَّ السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، وأمَّا اختلافهم في قوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد } فحمله بعضهم على كلِّ المباشرات؛ لأنَّ المعتكف ، لمَّا مُنِعَ من الجماع ، فلا بُدَّ وأن يمنع مما دونه .
فصل
في قوله تعالى : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } وجوهٌ :
أحدها : الولد ، أي : لا تباشِرُوا لقضاءِ الشَّهوة وحدها؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النِّكاح من التَّناسل .
قال - عليه الصَّلاة والسَّلام- : « تَنَاكَحُوا تَنَاسَلثوا؛ تَكْثُرُوا »
والثاني : أنَّه نهيٌّ عن العزل .
الثالث : ابتغوا المحلَّ الذي كتبه الله لكم وحلَّله؛ ونظيره { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } [ البقرة : 222 ] .
الرابع : أنه للتأكيد ، تقديره : الآن بَاشرُوهُنَّ وابْتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد أن كانت محرَّمةً عليكم .
الخامس : قال أبو مُسْلَمٍ : فالآنَ باشرُوهُنَّ ، وابتغوا هذه المباشرة التي ان كان الله كتبها لكم ، وإن كنتم تظنونها محرَّمة عليكم .
السادس : أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات؛ بسبب الحيض والنِّفاس والعِدَّة والرِّدَّة؛ فقوله : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله } يعني : لا تباشِرُوهنَّ إلاَّ في الأوقاتِ المأذونِ لكم فيها .
السابع : « فَالآنَّ بَاشِرُوهُنَّ » إذن في المباشرة ، وقوله : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله } [ يعني : لا تبتغوا هذه المباشرة إلاَّ من الزَّوجة والمملوكة ] بقوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] .
الثامن : قال معاذ بن جبلٍ ، وابن عبَّاسٍ في رواية أبي الجوزاء : يعني اطلبوا ليلةَ القدر ، وما كتب الله لكم من الثَّواب فيها إن وجدتُمُوها .
وقال ابن عبَّاس : ما كتب الله لنا هو القرآن .
قال الزَّجَّاج : أي : ابتغوا القرآ بما أبيح لكم فيه ، وأمرتم به . وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة .
قال قتادة : وقيل : ابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزَّوجات .
فصل في معاني « كَتَبَ »
في « كَتَبَ » وجوه :
أحدها : أنَّها هنا بمعنى جَعَل؛ كقوله