كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
جوَّزوا في موضع « الذين » الألقاب الثلاثة : الرفع والنصب والجر ، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ :
أحدهما : أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ ، تقديره : هم الذين .
ثانيها : أنه بدل من واو « يكتمون » .
ثالثها : أنه مبتدأ ، والخبر قوله : « قل فادْرءوا » ولا بُدَّ من حذف عائدٍ ، تقديره : قُلْ لَهُمْ .
والنصبُ من ثلاثة أوجه -أيضاً- :
أحدها : النصبُ على الذَّم ، أي : أذم الذين قالوا .
ثانيها : أنه بدل من « الذين نافقوا » .
ثالثها : أنه صفة .
والجر من وجهينِ : البدل من الضمير في « بأفواهم » أو من الضمير في « قلوبهم » كقول الفرزدق : [ الطويل ]
1687- عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر « حاتم » على أنه بدل من الهاء في « جوده » - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان : وجوَّزوا في إعراب « الذين » وُجُوهاً :
الرفع ، على النعت ل « الذين نافقوا » أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب . . . فذكره إلى آخره .
قال شهابُ الدينِ : وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ « الذين نافقوا » منصوب بقوله : « وليعلم » وهم -في الحقيقة- عطف على « المؤمنين » وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً ، والشيخُ لا يخفَى عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو- وهو الظاهر من كلامه- ولم ينظر في الآية ، اتكالاً على ما رآه منقولاً ، وكثيراً ما يقع الناس فيه ، وأن يُعْتَقَدَ أنّ « الذين » فاعل بقوله : « وليعلم » أي : فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين ، وليعلم المنافقون ، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة .
قوله : « وقعدوا » يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
أحدهما : أن تكون حالية من فاعل « قالوا » و « قد » مرادة أي : وقد قعدوا ، ومجيء الماضي حالاً بالواو و « قد » أو بأحدهما ، أو بدونهما ، ثابتٌ من لسان العربِ .
الثاني : أنها معطوفة على الصلة ، فتكون معترضة بين « قالوا » ومعمولها ، وهو « لو أطاعونا » .
فصل في المراد ب « الذين »
قال المفسّرون المراد ب « الذين » عبدُ بنُ أبَيٍّ وأصحابُهُ . وقال الأصَم : هذا لا يجوزُ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهادِ يوم أحُدٍ ، وهذا القول واقع ممن تخلَّف ، لأنه قال : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا } أي في القعود « ما قتلوا » فهو كلامُ متأخرٍ عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهادِ ولمن هو قوي النية في ذلك؛ ليجعله شُبْهَةً فيما بعد ، صارفاً لهم عن الجهاد .
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله : « وقعدوا » القعود عن القتالِ ، لا عن الخروج إلى القتال؛ فإن عبد الله بن أبَيّ خَرَجَ إلى الْقِتَالِ ، ولم يُقَاتِل ، بل هَرَبَ بمن معه ، ويُطْلَق عليه أنه قَعَد عن القتال وهو القائلُ هذا الكلام .
وقوله : { لإِخْوَانِهِمْ } أي : لأجل إخوانهم -وقد تقدم : هل المرادُ- من هذه الأخوة- الأخوة في النسب ، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدَّارِ ، أو في عدداوة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في عبادة الأوثان؟
قوله : { قُلْ فَادْرَءُوا } ادفعوا { عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ذكر ذلك على سبيل الجوابِ لقولهم : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } .
فإن قيل : ما وجه هذا الاستدلالِ مع أن الفرقَ ظاهرٌ؛ فإن التحرُّز عن القتل ممكن ، وأما التحرزُ عن الموتِ فغير ممكن ألبته؟
فالجوابُ : أن هذا الدليلَ لا يتمشى إلا إذا قلنا : إنّ الكُلَّ بقضاء الله وقَدَرِه ، فحينئذٍ لا يبقى بين القتلِ وبين الموتِ فرق ، فيصح الاستدلالُ ، أما إذا قلنا : بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه ، كان الفرق بين القتل والموتِ ظاهراً .
وقوله : { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره ، والوصول إلى المطالب .
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
« الذين » مفعول أول ، و « أمواتاً » مفعول ثانٍ ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب ، أو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام -بخلاف عنه- « يحسبن » بياء الغيبة ، وفي الفاعل وجهان :
أحدهما : أنه مُضْمَر ، إما ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان- أي : حاسب .
الثاني : قاله الزمخشري : وهو أن يكون « الذين قتلوا » قال : ويجوز أن يكون « الذين قتلوا » فاعلاً والتقديرُ : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً .
فإن قلت : كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلتُ : هو -في الأصلِ- مبتدأ ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : « بل أحياء » أي : هم أحياءٌ؛ لدلالة الكلام عليهما .
وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره ، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً ، نعم رجلاً زيد ، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه ، والبدل على خلاف فيه ، وضمير الأمرِ ، قال : « وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المفَسِّرُ خبراً للضمير » وبأن حذف أحد مفعولي « ظن » اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً ، نص عليه الفارسيُّ ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة .
قال شهابُ الدينِ : « وهذا من تحملاته عليه ، أما قوله : يؤدي إلى تقديم المضمر . . . إلى آخره ، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً ، بل إيراداً للمعنى المقصود ، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ » أنفسهم « المنصوبة وهي المفعول الأول ، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة ، تأكيداً للضمير في » قتلوا « ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة ، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون ، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ ، كما ستقف عليه قريباً .
وتقدم الكلامُ على مادة » حسب « ولغاتها ، وقراءاتها ، وقُرِئَ » تحسبن « -بفتح السين- قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر » قتّلوا « -بالتشديد- وهشام وحده في » ما « ماتوا وما قتلوا » والباقون بالتخفيف ، فالتشديد للتكثير ، والتخفيفُ صالح لذلك ، وقرأ الجمهورُ « أحياءٌ » رفعاً ، على تقدير : بل هُمْ أحياءٌ ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة « أحياءً » وخرَّجها أبو البقاء على وجهين :
أحدهماك أن يكون عطفاً على « أمواتاً » قال : « أمواتاً » قال : « كما تقول : ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً » .
الثاني : -وإليه ذهب الزمخشري- أيضاً- أن يكون بإضمار فعل ، تقديره : بَلِ احسبهم أحياءً ، وهذا الوجهُ سبق إليه أبة إسحاق ، الزجاجِ ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه -في الإغفال- وقال ، لأن الأمر يقينٌ ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة ، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة ، اعتقدهم ، أو اجعلهم ، وذلك ضعيفٌ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر .
قال شهابُ الدينِ : وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله : إن الأمر يقينٌ ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن ، فكيف يقال فيه : أحسبهم -بفعل يقتضي الشك- وهذا غير لازم؛ لأن « حسب » قد تأتي لليقين .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1688- حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا
وقال آخر : [ الطويل ]
1689- شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي ... فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي
ف « حسب » -في هذين البيتين- لليقين؛ لأن المعنى على ذلك . وقوله : لذلك ضعيف ، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية ، وليس كذلك ، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ -لدلالة المعنى عليه- من غير ضَعْفٍ- وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ- وأما تقديره هو : اعتقدهم أو جعلهم ، قال الشيخ : هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت : اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيِّرهم أو سمِّهم ، أو الْقهم .
قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } فيه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً ل « أحياء » على قراءة الجمهورِ .
الثاني : أن يكون ظرفاً ل « أحياء » لأن المعنى : يحيون عند ربهم .
الثالث : أن يكون ظرفاً ل « يرزقون » أي : يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ .
الراع : أن يون صفة ل « أحياء » فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور ، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة .
الخامس : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في « أحياء » . أي : يحيون مرزوقين . والمراد بالعندية : المجاز عن قربهم بالتكرمة .
وقيل : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي : في حكمه ، كما تقول : هذه المسألةُ عند الشافعي كذا ، وعنده غيره كذا .
قال ابنُ عطية « وهو على حَذف مضاف ، أي : عند كرامة ربهم » . ولا حاجةَ إليه؛ لأن الأولَ أليق .
قوله : { يُرْزَقُونَ } فيه أربعةُ وجهٍ :
أحدها : ان يكون خبراً ثالثاً ل « أحياء » أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً .
الثاني : أنها صفة ل « أحياء : » -بالاعتبارين المتقدمين- فإن أعربنا الظرف وصفاً- أيضاً -فيكون هذا جاء على وعديله؛ لأنه أقرب إلى المفرد .
الثالث : أنه حال من الضمير في « أحياء » أي : يحيون مرزوقين .
الرابع : أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، إذا جعلته صفة . وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط ، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك -أيضاً- وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة ، ولو جعلته خبراً كان كذلك « .
فصل
هذه الآية نزلت في شهداء بدرٍ ، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً ، ثمانية من الأنصارِ ، وستة من المهاجرين .
وقيل : نزلت في شهداء أُحُدٍ ، وكانو سبعينَ رجلاً ، أربعة من المهاجرين -حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عميرٍ ، وعثمان بن شماسٍ ، وعبد الله جَحْشٍ -وباقيهم من الأنصار .
فصل
ظاهرُ هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء ، فإما أن يكون حقيقةً ، أو مجازاً ، فإن كان حقيقةً ، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء ، أو في الحال . وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال ، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ ، أو الجسمانيةَ ، فأما الاحتمال الأولُ -وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة- فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ ، منهم الكَعْبِيِّ ، قال : لأن الله -تعالى- أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ ، وقولهم : إن أصحاب مُحَمَّدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للتقل ، فَيُقْتَلون ، ويخسرون الحياة ، ولا يصلونَ إلى خيرٍ .
وهذه الاية تردُّ هذا القول؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية ، وأيضاً فإنه تعالى قال : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] والفاء للتعقيب ، والتعذيب مشروط بالحياة . وقال : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً -قبل القيامة- لأجل الثواب أولى؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب ، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك .
فإن قيل : إنه صلى الله عله وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ ، فجاز أن ييشِّره الله -تعالى- بانهم سيصيرون أحياءً ، ويصلون إلى الثواب؟
فالجوابُ : أن قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } وإنما يتناول الموتَ؛ لأنه قال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال؛ لأنه لا حسبان -هناك- في صيرورتهم أحياء يوم القيامة .
وقوله : { يُرْزَقُونَ } خبر مبتدأ ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان ، فزال السؤالُ ، وأيضاً فقوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا ، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة ، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة .
وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال -في صفة الشهداء : « أَرْوَاحُهُمْ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا ، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا : يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم ، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا » ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية .
وسُئِلَ ابنُ مسعود عن هذه الآية ، فقال : سألنا عنها ، فقيل لنا : إن الشهداء على نهر بباب الجنّة في قُبَّةٍ خضراءَ . وفي رواية : في روضةٍ خضراء .
وعن جابرٍ بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ -حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ -أحْيَاهُ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ : مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللهِ بنَ عَمرو أن أَفْعَلَ لَكَ؟ قَالَ : يَا رَبِّ ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى » .
الاحتمالُ الثاني -وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ- والقائلون بهذا القولِ ، منهم من أثبت الحياةَ للروح ، ومنهم من أثبتها للبدنِ ، فمن أثبتها للروح قال : لقوله تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي } [ الفجر : 27- 30 ] والمراد : الروح .
وروي انه صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين ، ويقول : { فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] فقيل : يا رسول الله ، إنهم أمواتٌ ، فكيف تُناديهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « إنهم أسمع منكم » وقال صلى الله عليه وسلم : « أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار » .
الاحتمالُ الثالثُ : من أثبت الحياة للأجساد ، وهؤلاء اختلفوا ، فقال بعضهم : أنه -تعالى- يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات ، وإلى قناديل تحت العرش ، ويوصل إليها الكرامات .
وقد طعنوا في هذا ، وقالوا : إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع ، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه ، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة ، متنعمة عارفة : لزم القول بالسفسطة .
الاحتمالُ الرابعُ : إن كونهم أحياء من طريق المجاز .
قال الأصمُّ البلخيُّ : إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة ، صحَّ أن يقالَ : أنه حَيّ ، وليس بميتٍ ، كما يقال -في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره- : إنه ميتٌ ، وكما يقال -للبليد- : إنه حمار ، وللمؤذي إنه سبع ، كما قال عبد الملك بن مروان -لما رأى الزُّهريَّ ، وعلم فقهه وتحقيقه- : مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ . وإذا مَاتَ الإنسانُ ، وخلف ثناء جميلاً ، وذكراً حَسَناً ، يقال -على سبيل المجاز : أنه مَا مَاتَ .
وقال آخَرونَ : مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء ، أمر أن ينادى : مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع ، قال جابرٌ : فخرجنا إليهم ، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجُلٍ مَنْهُمْ ، فانفطرت دماً .
وقيل : المراد -بكونهم أحياء- أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَل الأموات .
قال القرطبي : إذا كان الشهيدُ حيًّا -حكماً- فلا يُصَلَّى عليه ، كالحَيِّ حِسًّا .
قوله : { فَرِحِينَ } فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون حالاً من الضمير في « أحياء » .
ثانيها : أن يكون حالاً من الضمير في الظرف .
ثالثها : أن يكون حالاً من الضمير في { يُرْزَقُونَ } .
رابعها : أنه منصوبٌ على المَدْح .
خامسها : أنه صفة ل « أحياء » .
وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و « بما » يتعلق ب « فرحين » .
قوله : { مِن فَضْلِهِ } في « من » ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن معناها السببية ، أي بسببب فضله ، أي : الذي آتاهم الله متسبب عن فضله .
الثاني : أنها لابتداء الغايةِ ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب « آتاهم » .
الثالث : أنها للتبعيض ، أي : بعض فضله ، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف ، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف ، والتقدير : بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ .
قوله : « ويستبشرون » فيه أربعة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم؛ لكون الفعل في تأويله ، فيكون عطفاً على « فرحين » كأنه قيل : فرحين ومُسْتَبْشِرِين ، ونظَّروه بقوله تعالى : { فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] .
الثاني : أنه -أيضاً- يكون من باب عطف الفعل على الاسم ، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل ، قال أبو البقاء هو معطوف على « فرحين » لأن اسم الفاعل -هنا- يُشْبه الفعل المضارع يعني أن « فرحين » بمنزلة يفرحون ، وكأنه جعله من باب قوله : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله } [ الحديد : 18 ] والتقديرُ الأولُ أولى ، لأن الاسم - وهو « فرحين » لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل رفع فعل مضارع -حتى يتأول الاسم به- والفعل فَرْع فينبغي أن يُرَدَّ إليه .
وإنما فعلنا ذلك في الآية؛ لأن « أل » الموصولة بمعنى : الذي و « الذي » لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها ، وذلك الشبهُ -في الحقيقة- يتأول بجملة .
الثالث : أن يكون مُستأنفاً ، والواو للعطف ، عطفت فعلية على اسمية .
الرابع : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وهم يستبشرون ، وحينئذٍ يجوز وجهان :
أحدهما : أن تكون الجملة حاليةً من الضمير المستكن في « فرحين » أو من العائد المحذوف من « آتاهم » وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً .
الثاني من هذين الوجهين : ان تكون استئنافية ، عطف جملة اسمية على مثلها .
و « استفعل » -هنا- ليست للطلب ، بل تكون بمعنى المجرد ، نحو : استغنى الله -بمعنى : غَنِيَ ، وقد سُمِع بَشِر الرجل -بكسر العين- فيكون استبشر بمعناه ، قاله ابنُ عطية . ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ ، نحو : أكانَهُ فاستكان ، وأراحه فاستراح ، وأشلاه فاستشلى ، وأحكمَه فاستحكم -وهو كثيرٌ- وجعله أبو حيّان أظهر؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى ، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ .
قوله : { مِّنْ خَلْفِهِمْ } في هذا الجارّ وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « لم يلحقوا » على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم .
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فعل « لم يلحقوا » على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم ، وهم قد تقدموهم .
الثاني : أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل « يلحقوا بهم » ، أي : لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم -أي : في الحياة- .
فصل
معنى الكلام : ويستبشرون : ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم ، من إخوانهم الذين تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم ، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ؛ فلذلك يستبشرون .
وقال الزَّجَاج وابن فورك : الإشارة -بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم -لى جميع المؤمنين -وإن لم يقتلوا- ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دين افسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه ، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله ، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
قوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان :
أحدهما : أن « أن » وما في حيِّزِها في محل جَرّ ، بدلاً من « بالذين » بدل اشتمال ، أي : يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم ، فهو المستبشَر به في الحقيقة ، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها .
الثاني : أنها في محل نَصْبٍ؛ على أنها مفعول من أجله ، أي : لأنهم لا خوف عليهم .
و « أن » -هذه- هي المخفَّفة ، واسمها ضمير الشأن ، وجملة النفي بعدها في محل الخبر . فإن قيل : الذوات لا يُسْتبشر بها -كما تقدم- فكيف قال : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ } .
فالجوابُ أن ذلك على حَذْفِ مُضَافٍ مناسبٍ ، تقديره : ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين ، أو لحوقهم بهم في الدرجة .
وقال مكيٌّ -بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ- : ويجوز أن يكون في موضع نَصْب ، على معنى : بأن لا وهذا -هو بعينه- وجه البدل المتقدّم ، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها- وإن كانت بدلاً من « الذين » - ليست في محل جَرٍّ ، بل في محل نَصْبٍ ، لأنها سقطت منها الباء؛ فإن الأصل : بان لا ، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ على رأي سيبويه والفرَّاء- وهو بعيدٌ .
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
لما بيَّنَ -تعالى- أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم ، بيَّن -هنا- أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ .
فإن قيلَ : أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم والفرحُ عينُ الاستبشارِ- فلزم التكرارُ؟ فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ ، فلا يلزم التكرارُ .
الثاني : لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصيل لهم في الآخرةِ .
فإن قيلَ : ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ؟
فالجواب : أن النعمةَ هي الثواب ، والفَضْل : هو التفضُّل الزائد .
وقيل : النعمة : المغفرة ، والفَضْل : الثواب الزائد .
وقيل : للتأكيد .
روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ : يُغْفَرُ لَهُ ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مَنَ الْجَنَّةِ ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، ويُزَوَّج اثنينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه » ، قال : هذا حديثٌ حَسَنٌ ، صحيحٌ ، غريبٌ ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ ، وهي في العدد سبعةٌ .
فصل
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ -بصلاحِ حالِ إخوانِهِ -أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ ، لأنهُ -تعالى- مَدَحهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحا بإخوانهم ، ثم ذكر -بعده- استبشارهم بأنفسهم ، فقال : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } .
قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ } قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ « أن » على الاستئنافِ .
وقال الزمخشري : إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ .
واستشكلَ كونها اعتراضاً؛ لأنها لم تقع بين شيئن متلازمين .
ويمكن أن يُجاب عنه بأن « الذين استجابوا » يجوز أن يكون تابعاً ل « الذين لم يلحقوا » -نعتاً ، أو بدلاً ، على ما سيأتي- فعلى هذا لا يتصور الاعتراض .
ويؤيدُ كونها الاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه : والله لا يضيع ، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ؛ عَطْفاً على قوله : « بنعمة » لأنها بتأويل مصدر ، أي : يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين .
فإن قيل : لم قال : « يستبشرون » من غير عطف؟
فالجوابُ فيه أوجهٌ :
أحدها : أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم ، دون « الذين لم يلحقوا بهم » لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين .
الثاني : أنه تأكيدٌ الأولِ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري .
الثالثُ : انه بدلٌ من الفعل الأول ، ومعنى كونه بدلاً : أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال : بدل منه ، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد .
الرابعُ : أنه حال من فاعل « يحزنون » و « يحزنون » عاملٌ فيه ، أي : ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة . وهو بعيدٌ ، لوجهين :
أحدهما : أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ .
الثاني : أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة ، والحال قَيْدٌ فيه ، فيفوت هذا المعنى .
فصل
والمقصودُ -من هذا الكلام- أن أيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم ، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه ، ولا يُضيعه .
قوله : « الذين استجابوا » فيه ستة أوْجُهٍ :
أحدها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
وقال مَكيٌّ : ابتداء وخبره « من بعدما أصابهم القرح » وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة ، بل « من بعد » متعلقٌ ب « استجابوا » .
الثاني : أنه خبر مبتدأ مُضْمَر ، أي : هم الذين .
الثالث : أنه منصوب بإضمار « أعني » وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك : القطع .
الرابع : أنه بدل من « المؤمنين » .
الخامس : أنه بدلٌ من « الذين لم يلحقوا » قَالَه مَكّيٌّ .
السادسُ : أنه نعتٌ ل « المؤمنين » ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ ، وهو أن يكون نعتاً لقوله : « الذين لم يلحقوا » قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ .
و « ما » في قوله : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ } مصدرية ، و « الذين أحسنوا » خَبَرٌ مقدَّمٌ ، و « منهم » فِيهِ وَجْهَان :
أحدهما : أنه حالٌ من الضمير في « أحسنوا » وعلى هذا ف « من » تكون تبعيضية .
الثاني : أنها لبيان الجنسِ .
قال الزمخشري : « مثلها في قوله تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم » . و « أجر » مبتدأ مؤخَّر ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره ، إما مُستأنفة ، أو حالٌ -إن لم يُعْرَب « الذين استجابوا » مبتدأ -وإما خبرٌ- إنْ أعربناه مبتدأ- كما تقدم تقريره .
والمرادُ : أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات .
فصل
في بيان سبب النزول
في سبب نزول هذه الآية وجهان :
أحدهما -وهو الأصح- : أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا ، وقالوا : لا محمداً قَتَلْتُمْ ، ولا الكواعبَ أردفتم ، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ ، وقال : لا أريد أن يخرجَ الآن إلا من كان في القتالِ ، فانتدبَ عصابةً منهم -ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد- ونادى منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس ، فكلمه جابر بن عبد الله ، فقال : يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع ، وقال : يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ ، ولستُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن .
فأذن له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ مَعَهُ ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرْهِباً للعدو ، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم ، فيظنوا به قوةً ، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم ، فينصرفوا . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِينَ رَجُلاً ، منهم أبو بكرٍ وعمرُ ، وعثمانُ ، وعليٍّ ، وطلحةُ ، والزبيرُ ، وسعدٌ ، سعيدٌ ، وعبد الرحمن بنُ عوفٍ ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ ، وحديفةُ بنُ اليَمانِ ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح ، حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال -روي عن عائشةً أنَّها قالتْ- لعبدِ الله بن الزُّبَيْر : ابنَ أختي ، أما -والله- إن أباك وجَدَّك- تعني أبا بكر والزبير- لَمِنَ الذين قال الله -عز وجل- فيهم : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } .
وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً ، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى ، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم ، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً ، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صلى الله عليه وسلم مَعْبَدٌ الخُزَاعِيُّ بحمراء الأسدِ ، وكانت خزاعةُ -مسلمهم وكافرهم- عَيْبَة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة ، صَفْقَتُهُمْ معهم ولا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها ، ومعبد -يومئذ- مشرك ، فقال : يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك ، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم .
ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقي أبا سفيان ومَنْ معه -بالروحاء- قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم ، لنكرَّنَّ على بقيتهم ، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبدُ؟ قال : محمد وقد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط ، يتحرقون عليكم تحرُّقاً ، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم ، وندموا على صنيعكم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط ، قال ويلك ما تقول؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل . قال : والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم . قال : فإني أنهاك عن ذلك ، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً : [ البسيط ]
1690- كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ
وذكر أبياتاً . « ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه . ومَرَّ به رَكْبٌ من بن عبد القيسِ ، فقالوا : أين تريدون؟ قالوا : نريد المدينةَ قالوا : ولِمَ؟ قالوا : نريد المِيرَة ، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب » عكاظ « غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا : نَعَمْ ، قال فإن جئتموه فأخبروني فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيته ، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ . ومرَّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ب » حمراء الأسد « فأخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : حَسْبُنَا الله ونِعْمَ الوكيلِ ، ثم انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة . » هذا قولُ أكثرِ المفسّرين .
الثاني : « قال الأصمُّ : نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ ، لما رجع الناس إليه صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة ، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة ، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ ، فانهزموا ، وصلى عليهم صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم . وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ ، فقال صلى الله عليه وسلم للزبير : رُدَّها؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها ، فقالت : قد بلغني ما فُعِلَ به ، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى ، فقال صلى الله عليه وسلم للزُّبَيْر : فَدَعْها ، لتنظرَ إليه ، فقالت خيراً ، واستغفرت له . وجاءت امرأة -قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها -فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حَيٌّ قالت : كل مصيبةٍ بعدك هدر . »
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
في قوله : « الذين » ما تقدم في : « الذين » قبله ، إلا في رفعه بالابتداء .
وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى ، « روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ -قال : يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى ، فنقتتل بها -إن شِئْتَ- فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : قُلْ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ -إنْ شَاءَ الله- فلما كان العام المقبل ، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ ، حتى نزل » مجنة « من ناحية » مَرَّ الظهران « فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه ، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الشْجَعِيّ -وقد قَدِم معتمراً- فقال أبو سفيان : يا نعيمُ ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ ، وإن هذا عام جَدْبٍ ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ -ولم أخرُجْ- زاد بذلك جُرْأةً ، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ من أن يكون من قِبَلي ، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُم ، ولك عندي عشرةٌ من الإبل ، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها . قال : فجاء سُهَيلٌ ، فقال له نعيمٌ : يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصِ ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه؟ قال : نَعَمْ ، فخرج نُعَيْمٌ ، حتى أتى المدينة ، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان ، فقال : أين تريدون؟ فقالوا : واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها ، فقال : بئس الذي رأيتم ، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم ، فلم يفلت منكم إلا الشريد ، أفتريجون أن تخرجوا إليهم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، وقد جمعوا لكم عند الموسم .
فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم ، فلما عرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال : » والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي « . فأما الجبان فإنه رجع ، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ ، وقالوا » حسبنا الله ونعم الوكيل « . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نحو سبعين رجلاً -فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى- وهي ماء لِبَني كنانةَ ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم ، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام -ولم يَلْقَ رسولُ الله- وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق ، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً ، وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . ورجع أبو سفيان إلى مكة ، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق ، وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . » هذا سبب نزول الآية .
والمراد ب « الناس » نُعَيم بن مسعود -في قول مجاهد وعكرمة- فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ ، كقوله تعالى :
{ أَمْ يَحْسُدُونَ الناس } [ النساء : 54 ] يعني محمداً وحده ، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ « الناس » على الواحد؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله ، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن -حينئذٍ- إضافة ذلك الفعل إلى الكل ، قال تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا } [ البقرة : 72 ] وقال : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] وهم لم يفعلوا ذلك ، وإنما فعله أسلافهم ، إلا انهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ ، حَسُن إضافة ذلك إليهم .
وقال ابنُ عَبَّاس ، ومحمد بن إسحاقَ ، وجماعة : أراد بالنَّاسِ : الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ « قد جمعوا لكم » يعني أبا سفيان وأصحابه .
وقال السُّدِّيُّ : هم المنافقون ، قالوا للمسلمين -حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان- : القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم ، فقتلوا أكثركم ، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً « فاخشوهم » أي : فخافوهم .
قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } في فاعل « فزادهم » ثلاثة أوجهٍ :
الأول -وهو الأظهرُ- : أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من « قال » أي فزادهم القول بكيتَ وكيتَ إيماناً ، كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
الثاني : أنه يعود على المقول -الذي هو { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } كأنه قيل : قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً .
الثالث : أنه يعود على « الناس » إذا أريد به فَرْدٌ واحد -كما نُقِلَ في سبب النزول- وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ .
واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ ، قال : « وهما ضعيفانِ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به ، لا هو في نفسه ، ومن حيثُ إنّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع ، لا على المفرد . تقول : مفارقة شابت -باعتبار الإخبار عن الجمع- ولا يجوز : مفارقة شاب- باعتبار : مَفْرِقُهُ شَابَ » .
قال شهابُ الدّين : « وفيما قاله نَظَر؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان- وأما قولُهُ : تجري على الجمع ، لا على المفرد ، فغير مُسَلَّم ، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً ، ومعناه تارةً أخْرَى ، فأجازوا : رؤوس الكبشينِ قطعتهن ، وقطعتهما ، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى ، فليَجز في الواقع موقع المفرد . ولقائلٍ أن يفرق بينهما ، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية -المعبر عنها بلفظ الجمع- لقربها منه؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله . بخلاف المفرد ، فإنه بعيدٌ من الجمع؛ لعدم الضمِّ ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ .
فصل
قال أبو العَبَّاس المُقْرئ : لفظ » الوكيل « في القرآن على وجهين :
الأول : بمعنى المائع -كهذه الآية- ومثله قوله :
{ فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } [ النساء : 109 ] أي : مانعاً .
الثاني : بمعنى : الشاهدِ ، قال تعالى : { وكفى بالله وَكِيلاً } [ النساء : 81 ، 132 ، 171 ] أي : شهيداً ، ومثله قوله : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } [ هود : 12 ] . أي : شاهد ، ومثله : { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] أي : شهيد .
قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } [ آل عمران : 173 ] عطف « قالوا » على « فزادهم » والجملة بعد القول في محل نَصْب به .
قوله : { وَنِعْمَ الوكيل } المخصوصُ بالمدحِ ، أي : الله تعالى .
قوله : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ } في متعلق باء « بنعمة » وجهانِ :
أحدهما : أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية؟
الثاني : أنها تتعلَّق بمحذوف ، على أنَّها حال من الضمير في « انقلبوا » والباء على هذه المصاحبة ، كأنه قيل : فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها . والتقدير : وخرجوا فانقلبوا ، وحذف الخروجُ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه ، كقول : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق } [ الشعراء : 63 ] أي : فضرب فتنفلق ومعنى الآية : « فانقلبوا » بعافية ، لم يلقوا عدواً « وفضل » تجارة وربح ، وهو ما أصابوا من السوق .
قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } هذه الجملة في محل نصب على الحال -أيضاً- وفي ذي الحال وجهان :
أحدهما : أنه فاعل « انقلبوا » أي : انقلبوا سالمين من السوء .
الثاني : أنه الضمير المستكن في « بنعمة » إذا كانت حالاً ، والتقدير : فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء . والعاملُ فيها : العامل في بنعمة فهما حالان متداخلان ، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب « لم » وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } [ الأنعام : 93 ] وقول كعب : [ البسيط ]
1691- لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ ... أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ
ومن الثَّاني هذه الآية ، وقوله : { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] وقول [ قيس ] بن الأسلت :
1692- وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى ... بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي
وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا ، سواء كان في الجملة ضمير ، أو لَمْ يَكُنْ .
قوله : { واتبعوا } يجوز في هذه الجملة وجهانِ :
الأول : أنا عطف على « انقلبوا » .
الثاني : أنها حال من فاعل « انقلبوا » -أيضاً- ويكون على إضمار « قد » أي : وقد اتبعوا .
فصل
قال القرطبيُّ : « وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونُقْصانه على أقوال ، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان -الذي هو تاج- واحدٌ ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو معنى مفرد ، لا يدخل معه زيادة إذا حصل ، ولا يبقى منه شيء إذا زال ، فلم يَبْقَ إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته ، دون ذاتِهِ . ومعنى الآية : زادهم قولِ الناسِ إيماناً ونُصْرَةً ويقيناً في دينهم ، وإقامة على نُصْرَته ، وقوةً وجرأةً واستعداداً ، فزيادة الإيمان -على هذا- هي في الأعمال » .
قال ابنُ الخطيب : المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه ، بل حدث في قلوبهم عَزْم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يأمر به وينهى عنه -ثقل ذلك أو خَفَّ- لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ ، وكانوا محتاجين إلى الممداواةِ ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصره على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة ، فهذا هو المراد من قوله : { فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } .
فصل
هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر ، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء ، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف ، ثم إنه -سبحانه وتعالى- قَلَبَ القضية ها هنا ، فأودع قلوبَ الغالبين -وهم المشركونَ- الخوفَ والرعبَ ، وأودع قلوب المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى ، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقتها . ثم قال تعالى : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } والمعنى : أنهم كلما زادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه ، فقالوا : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قال ابن الأنْبَارِيّ : { حَسْبُنَا الله } أي : كافينا الله .
ومثله قوله امرئ القيس : [ الوافر ]
1693- فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً ... وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ
أي : يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ .
وأما « الوكيل » ففيه أقوالٌ :
أحدُهَا : أنه الكفيل .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1694- ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ
الثاني : قال الفرّاء : الوكيل : الكافي ، والذي يدل على صحة هذا القول أن « نِعْمَ » سبيلها أن يكن الذي بعدها موافقاً قبلها ، تقول : رازقنا الله ونعم الرازق ، وخالقنا الله ونعم الخالقُ ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول : خالقنا الله ونعم الرازقُ ، فكذا ههنا تقدير الآية : يكفينا الله ونعم الكافي .
الثالث : « الوكيل » فعيل بمعنى مفعول ، وهو الموكول إليه . والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه ، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه .
ثم قال : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } قال مجاهدٌ : النعمة -هنا- العافية ، والفَضْل : التجارة .
وقيل : النعمة : منافع الدنيا ، والفَضْل : ثواب الآخرة .
قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أي : لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ -في قول الجميع- { واتبعوا رِضْوَانَ الله } طاعة الله ، وطاعة رسوله ، { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا .
روي أنهم قالوا : هل يكن هذا غَزْواً؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ .
واختلف أهْلُ المغازي ، ذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب « حمراء السد » والثانية ب « بدر الصغرى » .
ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين بين واقعة بدرٍ الصُّغْرَى ، والأول أوْلَى؛ لأن قوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح } [ آل عمران : 172 ] يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
« إنما » حرف مكفوف ب « ما » عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب . وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ :
الأول : أن يكون « ذلكم » مبتدأ ، « والشيطان » خبره ، و « يخوف أولياءه » حال؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب ، نحو قوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] وقوله : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [ النمل : 52 ] .
الثاني : أن يكون « الشيطان » بدلاً ، أو عطف بيان ، و « يخوف » الخبر ، ذكره أبو البقاء .
الثالث : أن يكون « الشيطان » نعتاً لاسم الإشارة ، و « يخوف » على أن يرادَ ب « الشيطان » نعيم ، أو أبو سفيان -ذكره الزمخشري قال أبو حيّان : « وإنما قال : والمراد ب » الشيطان « نعيم ، أو أبو سفيان؛ لأنه لا يكون نعتاً -والمراد به إبليس- لأنه إذ ذاك- يكون علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة -كالعيُّوق- ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه » وفيه نظرٌ .
الرابع : أن يكون « ذلكم » مبتدأ ، و « الشيطان » خبر ، و « يخوف » جملةٌ مستأنفةٌ ، بيان لشيطنته ، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين .
الخامس : أن يكون « ذلكم » مبتدأ ، و « الشيطان » مبتدأ ثانٍ ، و « يخوف » خبر الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول؛ قاله ابنُ عطيةَ ، وقال : « وهذا الإعرابُ خير -في تناسق المعنى- من أن يكون » الشيطان « خبر » ذلكم « لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة » .
ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب -إن كان الضمير في « أولياءه » عائداً على « الشيطان » لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ -وليست نفس المبتدأ في المعنى ، نحو : هِجِّيرى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على « ذلكم » -ويراد ب « ذلكم » غير الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد [ يضرب غلامها ] ، والمعنى : إنما ذلكم الركب ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه ، أي : أولياء الركب ، أو أولياء أبي سفيان -والمشار إليه ب « ذلكم » هل هو عين أو معنى؟ فيه احتمالان :
أحدهما : أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين -كَنُعَيْم وأبيب سفيانَ وأشياعهما -على ما تقدم .
الثاني : إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع -وعلى هذا التقدير فلا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : فعل الشيطان ، وقدَّره الزمخشري : قول الشيطانِ ، أي : قوله السابق ، وهو : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } [ آل عمران : 173 ] وعلى كلا التقديرين- أعني كون الإشارة لأعيان أو معان -فالإخبار ب « الشيطان » عن « ذلكم » مجاز؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار -ليست نفس الشيطان ، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك .
قوله : { يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } قد تقدم ما محله من الإعراب . والتضعيفُ فيه للتعدية ، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً ، وهو من باب « أعطى » ، فيجوز حذف مفعوليه ، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً ، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً :
أحدها : أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً ، تقديره : يخوفكم أولياءه ، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك ، والمراد ب « أولياءه » -هنا- الكفارُ ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ ، أي : شر أوليائه؛ لأن الذوات لا يخاف منها .
الثاني : أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف ، و « أولياءه » هو الأول ، والتقدير : يخوف أولياءه شَرَّ الكفار ، ويكون المراد ب « أولياءه » -على هذا الوجه- المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج .
والمعنى : أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه ، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي .
الثالث : أن المفعولين محذوفان ، و « أولياءه » نعتٌ -على إسقاط حرف الجر- والتقدير : يخوفكم الشر بأوليائه . والباء للسبب ، أي : بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم .
قالوا : ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى : { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } [ القصص : 7 ] أي : فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ . ومثال حذف الجارّ قوله تعالى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } [ الكهف : 2 ] معناه لينذركم ببأسٍ ، وقوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } [ غافر : 15 ] . وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ ، قالوا : ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ : يخوفكم بأوليائه .
قال شهابُ الدّينِ : فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ « يخوف بأوليائه » فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل ، ثم حُذِفتَ الباء ، وليس كذلك ، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له .
وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة ، كقوله : [ البسيط ]
1695- .. سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَانَ بِالسُّوَرِ
فتكون كقراءة الجمهور في المعنى .
ويحتمل أن تكون للسبب ، والمفعولان محذوفان- كما تقدم .
قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ :
الأول -وهو الأظهر- : أنه يعود على « أولياءه » أي : فلا تخافوا أولياءَ الشيطان ، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش .
الثاني : أنه يعود على « الناس » من قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] إن كان المراد ب « أولياءه » المنافقين .
الثالث : أنه يعود على « الشيطان » قال أبو البقاء : « إنما جمع الضمير؛ لأن الشيطان جنس » والياء في قوله : « وخافوني » من الزوائد ، فإثبتها أبو عمرو وصلاً ، وحَذَفَها وقفاً -على قاعدته- والباقون يحذفونها مطلقاً .
فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم
ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ :
الأول : الخوفُ بعينه ، كهذه الآية .
الثاني : الخوف : القتال ، قال تعالى : { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] أي : إذا ذهب القتال .
الثالث : الخوف : العِلْم ، قال تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] وقوله : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] . أي : يعلمون وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا } [ النساء : 35 ] أي : علمتم .
وقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } جوابه محذوف ، أو متقدم -عند مَنْ يرى ذلك- وهذا من باب الإلهاب والتهييج . إلا فهم ملتبسون بالإيمان .
قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين } قرأ نافع « يُحزنك » -بضم حرف المضارعة- من « أحزن » -رباعياً- في سائر القرآن إلا التي في قوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] فإنه كالجماعة . والباقون بفتح الباء- من « حزنه » ثلاثياً- فقيل : هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأفْعَل بمعنى .
وقيل : باختلاف معنى ، فَحَزَنَه : جَعَل فيه حُزْناَ- نحو : دهنه وكحله ، أي : جعل فيه دهناً وكحلاً -وأحزنته : إذا جعلته حزيناً . ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه ، قال سيبويه : « وقال بعضُ العربِ : أحزنت له الحُزْن ، وأحزنته : عرَّضته للحُزْن . قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في » البقرة « .
قال شهابُ الدينِ : » والحق أن حزنه لغتان فاشيتان ، لثبوتهما متوازتين -وإن كان أبو البقاء قال : إن أحزن لغة قليلة ، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً -رحمه الله- يقرأ هذه المادة من « أحزن » إلا التي في الأنبياء -كما تقدم- وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من « حزنه » -ثلاثياً- إلا التي في الأنبياء ، وهذا من الجمع بين اللغتين ، والقراءة سنة مُتَّبَعَة « .
وقرأ الجماعة : » يسارعون « بالفتح والإمالة ، وقرأ النحوي » يسرعون « -من أسرع- في جميع القرآن ، قال ابن عطيةَ : » وقراءة الجماعة أبلغ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده « .
قوله : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } في نصب » شيئاً « وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه مصدر ، أي : لا يضرونه شيئاً من الضرر .
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، أي : لن يضروه بشيء . وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان .
فصل
اختلفوا في هؤلاء المسافرين فقال الضَّحَّاك : هم كفار قريش ، وقال غيره : هم المنافقون؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار » إنهم لن يضروا الله « بمُسارعتهم في الكُفْر .
وقيل : إن قوماً من الكفار أسلموا ، ثم ارتدوا؛ خوفاً من قريش ، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب فإنه صلى الله عليه وسلم ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة ، فبيَّن -تعالى- أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك .
قال القاضي : ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان .
وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك ، ثم أحبط .
وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ ، فلما قدَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الانتفاع بإيمانهم -ثم كفروا- حَزنَ صلى الله عليه وسلم عند ذلك؛ لفوات التكثير بهم ، فآمنه الله من ذلك ، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير .
وقيل : المراد رؤساء اليهود -كعب بن الأشرف وأصحابه- كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا . قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار؛ لقوله تعالى : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ } [ المائدة : 41 ] . فإن قيل : الحُزْن على كُفر الكافر ، ومعصية العاصي طاعة ، فكيف نهاه الله عن الطاعة؟
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أنه كان يفرط في احُزْن على كُفْر قومه ، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به ، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه ، كما قال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] .
الثاني : أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك ، ويعينوا عليك؛ ألا ترى إلى قوله : { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } يعني : أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر- غير أنفسهم ، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة .
ثم قال : { يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة } وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى ، وتدل الآية -أيضاً- على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية ، ثم قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا كلام مبتدأ والمعنى : أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة ، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [ مضارِّها ] .
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)
اعلم أنه لا يبعد حَمْلَ الآية الأولى على المرتدين ، وحمل هذه الآية على اليهود . ومعنى : { اشتروا الكفر بالإيمان } أنهم كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به قبل مَبْعَثِه ، فلما بُعِثَ كفروا به ، وتركوا ما كانوا عليه ، فكأنهم أعطوا الإيمان ، وأخذوا الكفر بدلاً عنه ، كما يفعلُ المشتري من إعطاء شيء وأخْذ غيره بدلاً عنه .
ولا يبعد أيضاً -حَمْلُ هذه الآيةِ على المنافقينَ؛ لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان ، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا ، وتركوا الإيمان ، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان .
فإن قيل : ما فائدة التكرار في الآيتين في قوله : { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } ؟
فالجوابُ : أن فائدةَ التكرارِ أمورٌ :
أحدهما : أن الذين اشتروا الكفرَ بالإيمانِ لا شك أنهم كانوا كافرين أولاً ، ثم آمنوا ، ثم كفروا بعد ذلك ، وهذا يدلُّ على شدَّة الاضطرابِ ، وضَعْفِ الرأي ، وقِلَّةِ الثباتِ ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه ، ولا هيبةَ له ، ولا قدرةَ له على إلحاق الضَّرَر بالغير .
ثانيها : أن أمر [ الدّينِ ] أهمّ الأمورِ وأعظمها ، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه -على الفعل ، أو على التَّركِ- إلا بعد إمعانٍ النّظَرِ ، وكَثْرة الفِكْر ، وهؤلاء يُقْدِمون على الفعل ، أو على الترك في هذا المهم بأهونِ الأسبابِ وأضعفِ الموجباتِ ، وهذا يدلُّ على قِلَّةِ عقولهم ، وشدة حماقتهم ، وأمثال هؤلاء لا يَلْتَفِتُ العاقلُ إليهم .
ثالثها : أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدّينِ لا بِنَاءً على الشُّبُهات ، بل بناءً على الحَسَدِ والمنازعة في منصب الدُّنْيَا ، ومَنْ كان عَقْلَه بهذا القَدْر -وهو بيع السعادة العظيمة الأخروية بالقليل الفاني من سعادة الدنيا- كان في غاية الحماقة ، ومِثْلهُ لا يقدر على إلحاق ضرر بالغير ، والله أعلم .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)
قرأ الجمهور « يحسبن » بالغيبة ، وحمزة بالخطاب ، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا « أنما » ونصبوا « خير » وأنكرها ابن مجاهدٍ -وسيأتي إيضاح ذلك- وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر « إنما » . وحكى عنه الزمخشري -أيضاً- أنه قرأ بكسر « أنما » الأولى وفتح الثانية مع الغيبة ، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ .
فأما قراءة الجمهور ، فتخريجها واضح ، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى « الذين » و « أن » وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين -عند سيبويه- أو مسدَّ أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش- ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب ، يراد به النبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحسبن النبي صلى الله عليه وسلم . فعلى هذا أن يكون « الذين كفروا » مفعولاً أول ، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة ، لتتحد هذه القراءة -على هذا الوجه- مع قراءة حمزة رحمه الله ، وسيأتي تخريجها .
و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية ، فيكون العائد محذوفاً ، لاستكمال الشروط ، أي : الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية -أي : إملاءنا- وهي اسم « إن » و « خير » خبرها .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن تكون كافةً ، وزائدة؛ إذ لو كان كذلك لانتصب » خير « ب » نملي « واحتاجت » أن « إلى خبر ، إذا كانت » ما « زائدة ، أو قدر الفعل يليها ، وكلاهما ممتنع » انتهى . وهي من الواضحات . وكتبوا « أنماط -في الموضعين- متصلة ، وكان من حق الأولى الفصل؛ لأنها موصولة .
وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم ، حتى أنه نُقل عن ابن أبي حاتم أنها لحن .
قال النحاس : وتابَعَهُ على ذلك [ جماعة ] وهذا لا يُلتفت إليه ، لتواترها ، وفي هنا تخريجها ستة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون فاعل » تحسبن « ضمير النبي صلى الله عليه وسلم و » الذين كفروا « مفعول أول ، و » أنما نملي لهم خير « مفعول ثان ، ولا بُدَّ -على هذا التخريج- من حَذْفِ مضافٍ ، إما من الأول ، تقديره : ولا تحسبن شأنَ الذين ، وإما من الثَّاني ، تقديره : أصحاب أن إملاءنا خير لهم .
وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل؛ لأن » أنما نملي « بتأويل مصدر ، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على » الذين كفروا « والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى .
الثاني : أن يكون » أنما نملي لهم « بدلاً من » الذين كفروا « . وإلى هذا ذهب الكسائي ، والفرّاء ، وتبعهما جماعة ، منهم الزَّجَّاج والزمخشري ، وابنُ الباذش ، قال الكسائي والفرّاء : وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد ، والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي .
قال الفرّاءُ : ومثله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ } [ الزخرف : 66 ] أي « ما ينظرون إلا أن تأتيهم . انتهى .
ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرَاءِ ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني -في هذه الأفعالِ- لا يجوز عند أحد . وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ -وقد تقدم تحقيق ذلك .
وقال ابنُ الباذش : ويكون المفعول الثاني قد حُذِف؛ لدلالة الكلامِ عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملاءنا لهم ثابتة ، أو واقعة .
قال الزمخشريُّ : فإن قلت : كيف صح مَجِيءُ البدلِ ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ؟
قلتُ : صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى ، ألا تراك تقول : جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ ، مع امتناع سكوتك على : متاعك .
وهذا البدلُ بدلُ اشتكالٍ -وهو الظاهرُ- أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ ، ويكون على حَذْف مضافٍ ، تقديره : ولا تحسبن إملاء الذين ، فحذف » إملاء « وأبدل منه : » أنما نملي « قولان مشهوران .
الثالثُ : وهو أغربها- : أن يكون » الذين كفروا « فاعلاً ب » تحسبن « على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث ، كقوله : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] أي : ولا تحسبن القوم الذين كفروا ، و » الذين « وضصْف للقوم ، كقوله تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ } [ الأعراف : 137 ] . فعلى هذا تتحدد هذه القراءة مع قراءة الغيبة ، وتخريجها كتخريجها ، ذك ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى ب » اللُّباب « . وفيه نظر؛ من حيث إن » الذين « جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم ، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله -عند البصريين- لا يجوزُ : قامت الزيدون ، ولا : تقوم الزيدون . وأما اعتذاره عن ذلك بأن » الذين « صفة للقوم -الجائز تأنيث فِعلهم- وإنما حذف ، فلا ينفعه؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر ، لا يجيز أحدٌ من البصريين : قامت المسلمون- على إرادة : القوم المسلمون- ألبتة .
وقال أبو الحسن الحوفيُّ : » أن « وما عملت فيه من موضع نصب على البدل ، و » الذين « المفعول الأول ، والثاني محذوف .
وهو معنى قول الزمخشريَّ المتقدم .
الرابع : أن يكون : » أنما نملي لهم « بدلاً من : » الذين كفروا « بدل اشتمال -أي : إملاءنا- و » خير « بالرفع- خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو خير لأنفسهم ، والجملة هي المفعول الثاني ، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم ، ثم وقال : قُلْتُ : ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ .
1696- فِينَا الأنَاةُ ، وَلبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ
كذا جاءت الرواية بفتح » أنا « بعد ذكر المفعول الأول ، فعلى هذا يجوز أن تقول : حسبت زيداً أنه قائم ، أي : حسبته ذا قيام .
فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً ، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد ، وهو المفعول الثاني ل « حسبت » انتهى .
وفيما قاله نظرٌ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر « إن » إذا وقعت مفعولاً ثانياً ، والأول اسم عين ، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك ، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر ، فيلزم منه الاخبار بالمعنى عن العين .
الخامس : ان يكون « الذين كفروا » مفعولاً به ، و { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } في موضع المفعول الثاني ، و { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ } مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي « تحسبن » ففي الكلام تقديم وتأخير ، نُقِل ذلك عن الأخفشِ .
قال أبو حاتم : وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح « أن » -يحتج به لأهل القَدَر لنه كان منهم -ويجعله على التقديم والتأخير ، [ أي ] : ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نثمْلي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم . انتهى .
وإنما جاز أن تكون « أن » المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك ، وغيره يمنع ذلك ، فإن تقدم خبرها عليها -نحو : ظني أنك منطلق ، أو « أما » التفصيلية ، نحو أما أنك منطلق فعندي ، جاز ذلك إجماعاً . وقول أبي حاتم : يذكر فتح « أن » يعني بها التي في قوله : « أنما نملي لهم خير » . ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم ، لأنه يجب -عندهم- رعاية الأصلح .
السادس : قال المهدويّ : وقال قوم : قدم « الذين كفروا » توكيداً ، ثم حالهم ، من قوله : « أنما نملي لهم » رداً عليهم ، والتقديرُ : ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم .
وأما قراءة يحيى -بكسر « إنَّما » مع الغيبة- فلا تخلو إما أن يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى « الذين » أو إلى ضميرٍ غائبٍ ، فإن كانت الأولى كانت « أنما » وما في حيِّزها معلقة ل « تحسبن » وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً ، فهي مقدرة ، فيكون « إنّما » -بالكسر- في موضع نَصْبٍ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام ، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين -بتقدير لام الابتداء- في قوله [ البسيط ] :
1697- كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ
فلولا تقدير اللاتم لوجب نصب « ملاك » و « الأدب » . وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح « إنما » .
ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف -وهو ضمير الأمرِ والشأنِ- وقد قيل بذلك في البيت ، وهو الأحسنُ فيه .
والأصلُ : لا تحسبنه -أي الأمر- و « إنما نملي لهم » في موضع المفعول الثاني ، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان « الذين » مفعولاً أول ، و « أنما نملي » في موضع المفعول الثاني .
وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ ، فقد خرَّجَها هو ، فقال : على معنى : ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم -كما يفعلون- وإنما هو ليتوبوا ، ويدخلوا في الإيمان ، وقوله : { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه ، وعرفوا إنعام الله عليهم ، بتفسيح المُدَّةِ ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة . انتهى .
فعلى هذا يكون « الذين » فاعلاً ، و « أنما » -المفتوحة- سادة مسد المفعولين ، أحدهما -على الخلاف- واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله . قال النَّحَّاسُ : قراءة يحيى بن وَثَّابٍ -بكسر « إن » فيهما جميعاً - حسنة ، كما تقول : حسبت عمراً أبوه خارجٌ .
وأما ما حكاه الزّجّاج -قراءةً- عن خلق كثير ، وهو نصب « خير » على الظاهر من كلامه ، فقد ذكر نخريجها ، على أن { أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ } بدل من « الذين كفروا » و « خيراً » مفعول ثانٍ ، ولا بد من إيراد نَصِّه ، قال -رحمه الله- : مَنْ قرأ : « ولا يحسبن » بالياء ، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر « إن » والمعنى : لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم ، ودخلت « إن » مؤكِّدةً ، فإذا فتحت صار المعنى : وزلا يبسحبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم ، قال : وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من « الذين » والمعنى : ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم ، وقد قرأ بها خلقٌ كثير ، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر : [ الطويل ]
1698- فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
جعل « هلكه » بدلاً من « قيس » والمعنى : فما كان هلك قيس هلك واحدٍ ، 1ه .
يعني : « هلك » -الأول- بدل من المرفوع ، فبقي « هلك واحد » منصوباً ، خبراً ل « ما كان » كذلك : « أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ » « أن » واسمها -وهي « ما » الموصولة- وصلتها ، والخبر- وهو « لَهُم » في محل نصب ، بدلاً من « الَّذِينَ كَفَرُوا » فبقي « خَيْراً » منصوباً على أنه مفعول ثانٍ ل « تضحْسَبَنَّ » . إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بان هذه القراءة لم يقرأ بها أحد -أعني نصب « خَيْراً » - قال أبو علي الفارسي : لا يصح البدل ، إلا بنصب « خَيْرٌ » من حيثُ كان المفعول الثاني ل « حسبت » فكما انتصب « هلكَ واحدٍ » في البيت -لما أبدل الأول من « قيس » - بأنه خبر ل « كان » كذلك ينتصب « خَيْرٌ لَهُمْ » إذا أُبْدِل الاملاء من « الَّذِينَ كَفَرُوا » بأنه مفعول ثانٍ ل « تَحْسَبَنَّ » .
قال : وسألت أحمد بن مُوسَى عنها ، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني ب « أحمد » هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور ، وقال -في الحجة- : « الَّذِينَ كَفَرُوا » في موضع نصب؛ بأنها المفعول الأول ، والمفعول الثاني هو الأول -في هذا الباب- في المعنى ، فلا يجوزُ -إذَنْ- فتح « إن » في قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ } لأن إملاءهم لا يكون إياهم . فإن قُلْتَ : لِمَ لا يجوز الفتح في « أن » وجعلها بدلاً من « الَّذِينَ كَفَرُوا » كقوله تعالى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وكما كان « أن » من قوله تعالى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } [ الأنفال : 7 ] ؟
قيل : لا يجوز ذلك؛ لأنك إذا أبدلت « أن » من « الذين كفروا » كما أبدلت « أنَّ » من « إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ » لزمك أن تنصب « خَيْراً » على تقدير : لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم ، من حيثُ كان المفعولُ ل « تَحْسَبَنَّ » .
انتهى ما رد به عليه ، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد .
قال شهاب الدين : طولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات ، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ ، ويقول : قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه ، والإثبات مقدم على النفي ، وما ذكره أبو علي -من قوله : وإذا لم يجز لا كسر « إن » الخ -هذا- أيضاً مما لم يقرأ به أحد « .
قال مَكِّي : » وجه القراءة لمن قرأ بالتاء -يعني بتاء الخطاب- أن يكسر « إنَّما » فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني ، ولم يقرأ به أحدٌ علمته « . وقد نقل أبو البقاء أن نصب » خَيْراً « قراءة شاذة قال : وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب ، على أن يكون » لأَنْفُسِهِمْ « خبر » أن « و » لَهُمْ « تبيين ، أو حال من » خَيْر « .
يعني : أنه لما جعل » لأَنْفُسِهِم « الخبر ، جعل » لَهُمط إما تبييناً ، تقديره : أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة ، لأنه كان في الأصل صفة لها . والظاهر -على هذه القراءة- ما تقدم من كون « لَهُمْ » هو الخبر ، ويكون « لأَنْفُسِهِمْ » في محل نصب؛ صفة ل « خَيْرٌ » -كما كان صفة له في قراءة الجمهور .
ونقل -أيضاً- قراءة كسر « أن » وهي قراءة يحيى ، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف ، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ ، ولا حاجة إلى ذلك ، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى؛ لأن الأصل عدم الحذفِ .
والإملاء : الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر -للمدة الطويلة- يقال : مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد .
قال الأصمعيُّ : يقال أملى عليه الزمان - أي : طال- وأملى له- أي : طوَّل له وأمهله -قال أبو عبيدة : ومه : الملا - للأرض الواسعة- والمَلَوَان : الليل والنهار ، وقولهم : مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي : مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً- .
وقيل : المَلَوَانِ : تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما ، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ : [ الطويل ]
1699- نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ
فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيف إليهما؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه . فقوله : « أنما نملي لهم » أصل الياء واوٌ ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة .
قوله : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها ، إلا أن أبا حيّان قال : إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط ، قال : وإنما الزمخشريُّ -لولوعه بنْصرة مذهبه- يروم رد كل شيء إليه .
قل شهابُ الدِّينِ : وهذا تحامُلٌ عليه؛ لأنه ثقةٌ ، لا ينقل ما لم يُرْوَ . وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان :
الأول : أنها جملة مستأنفة ، تعليلٌ للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً؟ فقيل « { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } و » إنّ « -هنا مكفوفة ب » ما « ولذلك كُتِبَتْ متصلة- على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة -اسمية ولا حرفية- لأن لام » كي « لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه .
الثاني : أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى .
قال أبو البقاء : وقيل : » إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ « تكريرٌ لَهُمْ » تكريرٌ للأول ، و « لِيَزْدَادوا » هو المفعول الثاني ل « تَحْسَبَنَّ » على قراءة التاء ، والتقدير : ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً ، بل ليزدادوا إثماً . ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك .
قال شِهَابُ الدينِ : وفي هذا نظر ، من حيث إنه جعل « لِيَزْدَادوا » هو المفعول الثاني ، وقد تقدم أن لام « كي » لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه ، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ « تَحْسَبَنَّ » -بتاء الخطاب- لا يفتحها ألبتة .
واللام في « ليزدادوا » فيها وجهان :
أحدهما : أنها لام « كي » .
والثاني : أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ .
قوله : « وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ » في هذه الواو قولان :
أحدهما : أنها للعطف؟
والثاني : أنها للحالِ ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط؛ فإنه قال : فإن قلت : ما معنى القراءة -يعني : قراءة يحيى التي نقلها هو عنه؟
قلتُ : معناه : ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب ، والواو للحال ، كأنه قيل : ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ .
قال أبو حيَّان : بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم- : « ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللهُ لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي [ لزيادة ] الخير ، كان قوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة ، وبين ظاهر آخر الآية .
فصل
أصل » ليزدادوا « : ليزتادوا -بالتاء- لأنه افتعال من الزيادة ، ولكن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد ثلاثة أحرف الزاي ، والذال ، والدال - نحو ادكروا والفعل هنا- متعدٍّ لواحدٍ ، وكان -في الأصل- متعدياً لاثنين ، - كقوله تعالى : { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } [ البقرة : 10 ] ولكنه بالافتعالِ ينقص أبداً مفعولاً ، فإن كان الفعلُ -قبل بنائه على » افتعل « للمطاوعة -مُتَعدياً لواحدٍ ، صار قاصراً بعد المطاوعةِ ، نحو مددتُ الحبلَ فامتدَّ ، وإن كان متعدياً لاثنين صار -بعد الافتعال- متعدياً لواحدٍ ، كهذه الآية .
وخُتِمَتْ كل وحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب ، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته ، فجُعِل جزاؤه { عَذَابٌ عَظِيمٌ } مقابلاً لهم ، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه . وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان ، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه ، فإذا خسر تألَّم ، فخُتِمَت هذه الآية بألم العذابِ ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته .
وأما الثالثة فتضمنت الإملاء -وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا- وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم .
فصل
قال ابنُ الخطيبِ : احتج أصحابُنا -بهذه الآية- في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة -والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى- والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم ، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ .
ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً ، فدل على أن المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّد بقوله : { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .
وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان ، والإتيان بخلاف خبر لله -مع بقاء ذلك الخبر- جمع بين النقيضين ، وهو محالٌ . وإذا لم يكونوا قادرين -مع ذلك الإملاء- على الخير والطاعة- مع أنهم مكلَّفُون بذلك- لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة .
وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ : ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً .
وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة -كقوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] -أو يكون فيه تقديم وتأخير ، تقديره : لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم . أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً -بإمهاله- أشبه حال مَنْ فعل أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض ، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّلُ بغرض الإحسانِ ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه .
وقول القائل : ما المرادُ بهذه الآية؟ لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن المستدلَّ نَفَى الاستدلال على أن اللام للتعليلِ ، فإذا بَطَلَ ذلك سقط استدلالُهُ .
وعن الثالث ، وهو مسألةُ العلمِ والخبر ، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار ، وهو باطلٌ .
والجوابُ عن الأول أنَّ المنفيَّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلةِ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يُذْكِر مُقابِلُه ، فلما يُذْكَ دلَّ على المنفيَّ هو الخيرُ مطلقاً . وتمسُّكهم بقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ } [ النساء : 64 ] جوابه : أن ما تمسَّكوا به عام ، ودليلنا خاصّ . وقولهم : اللام للعاقبة ، قلنا : خلاف الظاهر -مع أن البرهان العقليّ يُبْطله؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصولُهُ؛ لأن حصولَ معلومِهِ واجبٌ ، وعدم حصوله مُحالٌ ، وإرادة المحالِ مُحَالٌ فوجب أن يرد ما هو الواقع ، فثبت أن المقصود هو التعليلُ . وأما التقديمُ والتأخيرُ ، فجوابُهُ : أن ذلك على خلاف الأصل؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت « أَنَّمَا » الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم : لا يمكن حَمْل اللام على التعليل ، قلنا : الممتنع -عندنا- تعليل أفعاله -تعالى- بغرض يصدر عن العباد ، فأما أنه يفعل فعلاً ليحصل منه شيء آخرَ ، فغير ممتنع .
وأيضاً فالآية نصٌّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم ، والقوم لا يقولونَ به ، فهي حجةٌ عليهم ، وأما المعارضة فجوابها : أن تأثيرَ قدرة اللهِ تَعَالَى -في إيجاد المُحْدِثَات- متقدمٌ على تعلُّق علمه بعدمه ، فلم يكن أن يكون العلم مانعاً من القدرة ، وأما العبدُ فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلُّق علم الله تعالى بعدمه ، فصحَّ كَوْنَ هذا العلمِ مانعاً للعبدِ عن الفعل .
قال ابن الخطيبِ : اتفق أصحابُنا ، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمةٌ دينيةٌ ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآيةِ ، وقالوا : دلت على إطالة عُمْره ليس بخير له ، والعقل يُقَرِّه لك؛ لأن من أطعم إنساناً طعاماً مسموماً لا يعد ذلك إنعاماً ، فإذا كان القصدُ من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة ، ومما ورد من النعم في حقِّ الكافرِ محمولٌ على ما هو نعمةٌ في الظَّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة .
مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
اللام في « ليذر » تُسمَّى لامَ الجحودِ ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار « أن » ولا يجوز إظهارها . والفرق بين لام « كي » أن هذه -على المشهور- شرطها أن تكون بعد كون منفي ، ومنهم من يشترط مضي الكونِ ، ومنهم من لم يشترط الكون .
وفي خبر « كان » -هنا- وما أشبه قولان :
أحدهما : قولُ البصريينَ -أنه محذوفٌ ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه ، والتقدير : ما كان الله مُريداً لأن يَذَر ، و « أن يذر » هو مفعول « مريداً » والتقديرُ : ما كان اللهُ مُريداً ترك المؤمنين .
الثاني : قول الكوفيين- أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي ، وأن الفعل بعدها هو خبرُ كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها ، لا بإضمار « أن » والتقدير عندهم : ما كان الله ليذرَ المؤمنين .
وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً ، وإن كان النصبُ بإضمار « أن » فسَد من جهة المعنى لأن « أن » وما في حيزها بتأويل مصدر ، والخبر في باب « كان » هو الاسم في المعنى ، فيلزم أن يكون المصدر -الذي هو معنى من المعاني- صادقاً على اسمها ، وهو مُحَالٌ .
وجوابه : أما قوله : إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد ، وهي عاملة وكذلك « أن » عند الأخفشِ ، و « كان » في قول الشاعر : [ الوافر ]
1700- . ... وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام
كما تقدم تحقيقه و « يذر » فعل لا يتصرف -كَيَدَعُ- استغناء عنه بتصرُّف [ مرادفه ] - وحُذِفت الواو من « يذر » من غير موجب تصريفي ، وإنما حُمِلَت على « يدع » لأنها بمعناها ، و « يدع » حُذِفت منه الواوُ لموجب ، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في « يذر » فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ . وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } [ البقرة : 278 ] .
فصل
وجه النظم : أن هذه الآية من بقية أحُد ، فأخبر -تعالى- أن الأحوالَ التي وقعتْ في تلك الحادثةِ- من القتل والهزيمة ، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج إلى العدو مع من كان بهم من الجراحاتِ ، ثم دعاهم مرة أخْرَى إلى بدرٍ الصُّغْرَى ، لموعد أبي سفيانَ -دليلٌ على امتيازِ المؤمنين من المنافقين ، فأخبر -تعالى- بأنه لا يجوزُ- في حكمته- أن يترككم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم ، وإظهارهم أنهم منكم- بل يجب في حكمته أن يُمَيِّز الخبيث -وهو المنافق- من الطيب -وهو المؤمن- .
فصل في سبب النزول
قال الكلبيُّ : قالت قريشُ : يا محمدُ ، تزعم أن من خالفك ، فهو في النَّارِ ، واللهُ عليه غَضْبَانُ ، وأن من اتبعك ، وهو على دينك ، فهو في الجَنَّةِ ، واللهُ عَنْهُ راضٍ . فأخْبِرْنا بمن يُؤمنُ بك ، ومَن لا يُؤمنُ؛ فأنزل الله هذه الآية .
وقال السُّديُّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عُرِضَتْ عليَّ أمَّتِي فِي صُورَتِهَا في العِلِّيِّينَ ، كَمَا عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ وأعْلِمتُ مَنْ يُؤْمِنُ ومَنْ يَكْفُرُ » فبلغ ذلك المنافقين ، فقالوا : استهزاءً- : زعم محمدٌ أنه يعلم من يؤمن به ، ومَنْ يكفرُ ، ممن لم يُخْلَقْ بَعْدُ ، ونحن معه ، وما يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد اللهَ ، وأَثْنَى عليه ، ثم قال : « مَا بَالُ أقْوامٍ طَعَنُوا فِي عِلمي ، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ -فِيمَا بَيْنَكُم وبَيْنَ السَّاعَةِ- إلاَّ نَبَّأتُكمُ بِهِ » فقام عبد الله بن حذافة السهميّ ، وقال : مَنْ أبي ، يا رسول اللهِ؟ فقال : « حُذَافة » فقام عُمَرُ ، فقال : يا رسول الله ، رضينا بالله رَبَّاً ، وبالإسلامِ ديناً ، وبالقرآن إماماً ، وبك نبيًّا ، فاعفُ عنا ، عفا الله عنك . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « فَهَل أنْتُمْ مُنْتَهٌونَ » -مرتين- ثم نزل عن المِنْبَرِ « فأنزل اللهُ هذه الآية .
قوله : { حتى يَمِيزَ } حتى -هنا- قيل : هي الغائية المجرَّدة ، بمعنى » إلى « والفعل بعدها منصوب بإضمار » أن « وقد تقدم تحقيقه في » البقرة « .
فإن قيل الغاية -هنا- مشكلة -على ظاهر اللفظ- لأنه يصير المعنى : أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية -وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ- ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه .
هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية ، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً ، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ : لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو ، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو .
فالجوابُ عنه : » حَتّى « غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام ، ومعناه : أنه -تعالى- يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ .
وقرأ حمزة [ والكسائي ] -هنا وفي الأنفال - » يُمَيِّزَ « بالتشديد- والباقون بالتخفيف ، وعن ابن كثيرٍ -أيضاً- » يُميز « من » أماز « فهذه ثلاث لغاتٍ ، يقال : مَازَه وميَّزه وأمازه . والتشديد والهمزة ليسا للنقل؛ لأنّ الفِعْلَ -قبلهما- مُتَعَد ، وإنما » « فعّل » -بالتشديد- و « أفعل » بمعنى : المجرد . وهل « ماز » و « مَيَّز » بمعنًى واحدٍ ، أو بمعنيين مختلفين؟ قولان . ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا ، فقال بعضهم : لا يقال : ماز ، إلا في كثير ، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت ، ولذلك قال أبو مُعاذٍ : يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزاً ، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً .
وقال بعضُهُمْ عكس هذا -مزت بين الشيئين مَيْزاً ، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً- وهذا هو القياس ، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير ، وهو لائقٌ بالمتعددات ، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت : فَرَقْت : -بالتخفيف- ومنه : فرق الشعر ، وإن جعلته أشياء ، قلت : فرَّقْتها تَفْرِيقاً .
ورجَّح بعضُهم « مَيَّز » -بالتشديد- بأنه أكثر استعمالاً ، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه ، قالوا : التمييز ، ولم يقولوا : المَيْز- يعني لم يقولوه سماعاً ، وإلا فهو جائز قياساً .
فصل
ومعنى الآية : حتى يميز المنافق من المخلصِ ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ؛ حيث أظهروا النفاق ، وتخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين ، وإن لم يحصل الوَعْدُ .
فالجوابُ : أنه ظهر بحيث يُفيد الامتيازَ القَطْعِيّ .
قال قتادة : حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ .
قال الضَّحَّاك : « مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ » في أصلاب الرَِّجَالِ ، وأرحام النِّساءِ ، يا معشرَ المنافقينَ ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم ، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ .
وقيل : « حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ
وهو الذنب » مِنَ الطَّيِّبِ « وهو المؤمنُ ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ .
وقيل : الخبيث : هو الكُفْر : أذلَّه الله وأخْمَدَه ، وأعلى الإسلامَ وأظهره ، فهذا هو التمييزُ .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } ومعناه : أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ ، فيقول : إنَّ فلاناً منافق ، وإن فلاناً مؤمنٌ؛ فإن سنَّة اللهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه ، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ -كما ذكرنا- وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب ، فذلك من خواصِّ الأنبياء ، فلهذا قال : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن ، وهذا منافق ، نظيره قوله تعالى : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } [ الجن : 26 ، 27 ] .
ويحتمل أن يكون المعنى : وما كان اللهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول ، فتنشغلوا عن الرسول ، بل اللهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ ، ثم يُكَلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ .
قوله : » وَلكِنَّ « هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى- لما قال : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ } أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه؛ لعموم الخطابِ -فاستدرك الرُّسُلَ . والمعنى : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي } أي يصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى ، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن ، وفي الخلافين خلافٌ .
يَجْتَبِي : يصطفي ويختار ، من : جَبَوْت المال والماء ، وجبيتهما -لغتان- فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها ، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها .
ومفعول « يَشَاءُ » محذوفٌ ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى ، والتقدير : يشاءُ إطلاعه على الغيب .
قوله : « فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ » يعني أن هذه الشبهة الذي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أُحُد ، وقد أجبْنا عنها ، فلم يَبْقَ إلا أن تُؤمِنوا بالله ورُسُله . وإنما قال : « وَرُسُلِهِ » ولم يَقُلْ : ورسوله؛ لأن الطريقةَ الموصلةَ إلى الإقرار بنبوَّة الأنبياء ليس إلا المُعْجِز ، وهو حاصل في حقِّ محمَّدْ - صلى الله عليه وسلم - فوجب الإقرار بنبوة الأنبياء ، فلهذا قال : « وَرُسُلِهِ » لأن طريقة إثبات نبوة جميع الأنبياءِ واحدٌ ، فمن أقر بنبوة واحدٍ لزمه الإقرار بنبوَّة الكُلِّ ، ثم لمَّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال : « وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم » .
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
لمَّا حرَّضهم على بذل النفس في الجهاد -فيما تقدم- حرضهم على بذل المال في الجهاد ، وبيَّن الوعيد لمن يبخل .
قرأ حمزة بالخطاب في « تَحْسَبَنَّ » والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة ف « الّذِينَ » مفعول أول ، و « خَيْراً » هو المفعول الثّاني ، ولا بد من حَذْف مضَاف؛ ليصدقَ الخبرُ على « المبتدأ ، وتقديره : ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون .
قال أبو البقاء : » وهو ضَعِيفٌ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه « .
وفيه نظر؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً ، وقد تكون متأخرة ، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير .
و » هو « فيه وجهان :
الأول : أنه فَصل بين مفعولي » يَحْسَبَنَّ « .
والثاني -قاله أبو البقاء- : أنه توكيدٌ ، وهو خطأٌ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر . والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ ، ولكنه حُذِف -كما تقدم- وبعضُهم يُعَبِّر عنه ، فيقول : أُضْمِر المفعولُ الأولُ- يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة .
و » هو « -في هذه المسألة- تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً ، أو بدلاً ، أو توكيداً ، والأول مُنْتَفٍ؛ لنَصْب ما بعده- وهو خير- وكذلك الثاني؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب ، فكان ينبغي أن يقال : إياه ، لا » هُوَ « وكذلك الثالثُ- كما تقدم .
أما قراءة الجماعة ، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ -إما الرسولُ ، أو حاسب ما- ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب ، ف » الذِينَ « مفعول أولٌ ، على حذف مضافٍ ، ما تقدّم في قراءة حمزة ، أي : بُخْل الذين ، والتقدير : ولا يحسبنَّ الرسولُ -أو أحد- بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم . و » هُوَ « فَصْل -كما تقدم- فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً . وإن كان مسنداً إلى » الذِينَ « ففي المفعول الأول وجهان :
أحدهما : أنه محذوف؛ لدلالة » يَبْخَلُونَ « عليه ، كأنه قيل : ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و » هو « فَصْل .
قال ابن عطية : » ودل على هذا البخل « يَبْخَلون » كما دَلَّ « السَّفيه » على السَّفهِ في قول الشاعر :
1701- إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ
أي : جرى إلى السفه .
قال أبو حيّان : وليست الدلالةُ فيهما سواء ، لوجهين :
أحدهما : أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل ، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ؛ لدلالة الفعل عليه -في القرآن وكلام العربِ- ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر ، إنما جاء في هذا البيتِ ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ؛ إذ قدَّروا المحذوف « بخلهم » وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ .
الوجه الثاني : أن المفعول نفس « هُوَ » وهو ضمير البخل الذي دلَّ عليه « يَبْخَلُونَ » -كقوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] - قاله أبو البقاء . وهو غلطٌ أيضاً ، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب ، فيقول : « إياه » لكونه منصوباً ب « يَحْسَبَن » ولا ضرورة بنا إلى أن نَدَّعِيَ أنه من باب استعارة الرفع مكان النصب كقولهم : ما أنا كأنت ، ولا أنتَ كأنا .
وفي الآية وجهٌ غريبٌ ، خرَّجه أبو حيَّان ، قال : « وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً لِ » الذِينَ « وذلك أن » يَحْسَبْنَّ « يطلب مفعولين ، و » يَبْخَلُونَ « يطلب مفعولاً بحرف جَر فقوله » ما أتاهم « يَطْلبه » يَحْسَبَنَّ « على أن يكون المفعول الأول ، ويكون » هُوَ « فَصْلاً ، و » خَيْراً « المفعول الثاني ، ويطلبه » يَبْخَلونَ « بتوسُّط حرف الجَر ، فأعمل الثانيَ -على الفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن -وهو » يَبْخَلونَ « فعدي بحرف الجر ، وأخذ معمواه ، وحذف معمول » يَحْسَبَنَّ « الأول ، وبقي معموله الثاني؛ لأنه لم يتنازع فيه ، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأولِ ، وساغ حذفه -وحده- كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو قلت : زيد منطلقٌ؟ لأن رأيت وقلت -في هذه المسألة- تنازعا في زيدٌ منطلقٌ ، وفي الآية لم يتنازعا إلاَ في الأولِ ، وتقدير المعنى : ولا يحسبن ما آتاهم اللهُ من فَضْلِه هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فَعَلَى هذا التقدير يكون » هُوَ « فصلاً ل » ما آتاهم « المحذوف ، لا لبخلهم المقدَّر في قول الجماعة .
ونظير هذا التركيبِ » ظَنَّ الذي مَرَّ بهند هي المنطلقة ، المعنى : ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأولُ ، فأعمل الفعل الثانيَ فيه ، وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب الثاني مثبتاً ، إذ لم يقعْ فيه التنازعُ .
ومع غرابة هذا التخريج ، وتطويله بالتنظير والتقدير ، فيه نظر؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثانيَ ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه ، فإن كان يطلبه مرفوعاً أضمر فيه ، وإن كان يطلبه غيرَ رفوع حُذِف ، إلا أن يكون أحد مفعولي « ظن » فلا يحذف ، بل يُضْمَر ويُؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه -أو بالعكس- وهذا مذهبُ البصريين ، وفيه بحثٌ ، لأن لقائلٍ أن يقول : حُذِف اختصاراً ، لا اقتصاراً ، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصاراً في غير التنازع ، فليَجُزْ في التنازع؛ إذْ لا فارق ، وحينئذ يَقْوَى تَخْرِيجُ الشَّيْخِ بهذا البحثِ ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين ، فإنهم يُجِيزون الحّذْف فيما نحن فيه .
وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين ، فقال : « فأما القراءة بالتاء- وهي قراءة حمزة- فإنه جعل المخاطب هو الفاعل ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم و » الذِينَ « مفعول أول -على تقدير حَذْف مضاف ، وإقامة المضاف إليه -الذين- مُقامه- و » هو « فصل ، و » خَيْراً « مفعول ثانٍ ، تقديره : ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم ، ولا بد من هذا الإضمار ، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى ، وفيها نظرٌ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة ، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه ، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه . وفي القراءة بالياء -أيضاً- مزية على القراءة بالتاء ، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم » يَبْخَلُونَ « وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان » يَبْخَلونَ « وجعلْتَ ما في صلة » الذِينَ « تفسيرَ من قبل الصلة ، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف » .
والميراثُ : مصدر كالميعاد ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها -وهي ساكنةٌ- لأنها من الوراثة كالميقات والميزان- من الوقت والوزن- وقرأ أبو عمرو وابن كثير « يَعْمَلُونَ » بالغيبةِ ، جَرْياً على قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } -والباقون بالخطابِ ، وفيها وجهانِ :
أحدهما : انه التفات ، فالمراد : الذين يبخلون .
الثاني : أنه رَدَّ على قوله : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ } .
فصل
الآية دالَّة على ذَمِّ البُخْل بشيء من الخيراتِ سواء كان مالاً أو علماً .
فإن كان على البُخْلِ بالمال فالمعنى : لا يحسبن البخلاءُ أن بُخْلَهم هو خير لهم ، بل هو شرٌّ لهم ، لأن المالَ يزول ، ويبقى عقابُ بُخْلِهم عليهم ، كما قال : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } وهذا هو المراد من قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } قال أبُو مسعودٍ وابن عباسٍ ، وأبو وائل والشعبيُّ والسُّدَّي : يُجْعَل ما منعه من الزكاة حَيَّةً يُطَوَّقُ بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قَدَمِهِ .
وإن كان المرادُ البُخْلَ بالعلم؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم فكان ذلك الكتمانُ بُخْلاً ، ولا شك أن العلم فَضْل من الله .
والقول الأول أوْلَى؛ لقوله تعالى : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } وإذا فسَّرنا الآية بالعِلْم احتجنا إلى تحمُّل المجاز ، وإذا فسَّرنا بالمال لم نَحْتَجْ إلى المجازِ .
وأيضاً فالحَمْل على البُخْل بالمال تكون الآية ترغيباً في بَذْل المالِ في الجهادِ ، فيحْسُن نظم الآية مع ما قبلها ، وبحَمْلها على البُخْل بالعلم ينقطع النَّظْمُ إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ .
فصل في اختلافهم في البخل في الآيات
اختلفوا في هذا البخلِ ، فقال أكثرُ العلماءِ : المراد به مَنْع الواجب ، واستدلُّوا بوجوهٍ :
أحدها : أن الآية دالةٌ على الوعيدِ الشديدِ في البُخْل ، وذلك الوعيدُ لا يليق إلا بالواجبِ .
ثانيها : أن اللهَ -تعالى- ذَمَّ البُخْل وعابه ، وَنْعُ التطوُّعِ لا يجوز أن يُذَمَّ فاعِلُه وأن يُعَابَ به .
ثالثها : أنه لو كان تارك التفضُّل بخيلاً لوجب على مَنْ ملك المالَ العظيمَ أن يُخْرج الكلَّ ، وإلا لم يتخلَّص من الذم .
رابعها : أنه صلى الله عليه وسلم قال : « وَأيُّ دَاءٍ أدْوَأُ مِنَ البُخْلِ » ومعلوم أن تارك التطوُّع لا يليق به هذا الوصف .
خامسها : أنه -تعالى- لا ينفك عن ترك التفضُّل؛ لأنه لا نهايةَ لمقدوراته في التفضُّل ، وكل ما يدخل في الوجود ، فهو متناهٍ ، فيكون لا محالة -تاركاً للتفضُّل فلو كان ترك التفضُّل بُخْلاً لزم أنْ يكونَ اللهُ موصوفاً بالبُخْل ، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيراً .
فصل
اعلم أنَّ إنفاقَ الواجبِ أقسامٌ :
منها : إنفاقه على نفسه ، وعلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم .
ومنها : الزكوات ، ومنها : ما إذا احتاج المسلمونَ إلى دَفْع عَدُوٍّ يقصد قَتْلَهُم ومالهم ، فيجب عليهم إنفاق المالِ على مَنْ يدفع عنهم .
ومنها : دَفْع ما يسد رَمَقَ المضطر ، فهذه الاتفاقات واجبة .
قوله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } اختلفوا في هذا الوعيد ، فقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس : إنَّ هذه الأموالَ تصير حيّاتٍ يطوقون بها -كما تقدم- وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً ، فَلَمْ يُؤدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ ، لَهُ زَبيبتانِ ، يُطَوِّقهُ يَوْم القِيَامَةِ ثُمَّ يأخُذُ بِلهزمتيهِ- يعني : شِدقيهِ : ثُمَّ يَقُولُ : أنَا مَالُكَ ، أنَا كَنزُكَ » ثم تلا قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ } .
وقال مجاهدٌ : معنى « سَيُطَوَّقُونَ » سَيُكَلَّفون أن يأتوا بما بَخِلوا يه يومَ القيامةِ ، أي : يُؤمرون بأداء ما منعوا ، فلا يمكنهم الإتيان به ، فيكون توبيخاً .
وقيل : سيلزَمون إثمه في الآخرة ، وهذا على طريق التمثيلِ ، يقال : فلانٌ كالطَّوق في رقبة فلان ، كما يقال : قلدتك هذا الأمر ، وجعلت هذا الأمر في عنقك ، قال تعالى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الإسراء : 13 ] .
وإن حملنا البخل على البُخْل بالعلم كان معناه : أنَ اللهَ تعالى يجعل في أعناقهم طوقاً من نار ، قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ ، فَكَتَمَهُ ، ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجامٍ مِنْ نَارٍ » .
قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } فيه وجهانِ :
أحدهما : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلُهما من مالٍ وغيره ، فما لهم يبخلون عليه بملكه ، كقوله : { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] .
ثانيهما : -وهو قول الأكثرين- : أنه يُفنى أهلَ السموات والأرض ، ويُبْقى الأملاك ، ولا مالك لها إلا الله ، فجرّى هذا مَجْرَى الوراثة .
قَال ابن الأنباريّ : يقال : وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فُلان ، إذا انفرد به بعد أن كانَ مشاركاً فيه ، وقال تعالى :
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] لأنه انفردَ بذلك الأمر بعد أن كان داودُ مشاركاً له فيه .
قال القرطبيُّ : أخبر -تعالى- ببقائه ودوام مُلْكِه ، وأنه في الأبد كهو في الأزلِ ، غنيّ عن العالمين ، فيرث الأرضَ بعد فناءِ خَلْقِه ، وزوال أملاكِهِم ، فتبقى الأملاكُُ والأموالُ لا مدعى فيها ، فجرى هذا مجرى الوراثةِ في عادة الخلقِ ، وليس بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن ملكَهُ من قبل ، والله -سبحانه وتعالى- مالك السمواتِ والأرضِ وما بينهما ، وكانت السَّمواتُ وما فيها له ، وأن الأموالَ كانت عارية عند أربابها ، فإذا ماتُوا العاريةُ إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ثم قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)
في كيفية النظم وجهانِ :
الأول : أنه -تعالى- لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللهِ -فيما تقدم- وبالغ في تقريرِ ذلك ، قالت الكفارُ : إنه -تعالى- لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً ، والفقر على اللهِ مُحَالٌ ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله .
الثاني : أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللهِ تعالى بأموالهم ، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها ، فلما طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له : لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض؛ فإنه -تعالى- ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ -في إصلاح دينِهِ- إلى أموالنا ، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها ، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ .
قوله : { قالوا إِنَّ } العامل في « إنَّ هو » قاَلُوا « ف » إنَّ « وما في حيِّزها منصوب المحل ب » قَالُوا « لا بالقول ، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع ، أعني بين المصدر ، وهو » قَوْلَ « وبين الفعلِ وهو » قَالُوا « تَنَازعَا في » إنَّ « لأنه مصدر ، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول ، وهو قولٌ ضعيفٌ ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل ، والأول مصدرٌ ، وإعمال الفعل أَقْوَى » .
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع ، و'نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده ، لكنه منع من ذلك مانع آخر ، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه ، ولا يجوز حذفه ، وهو -هنا- غير مذكور ، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين ، وهو ضعيفٌ كما ذكر .
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه -تعالى- وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف .
فصل
قال الحسنُ ومجاهدٌ : لما نزل قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] . قالت اليهودُ : إنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرض منا ، ونحن أغنياء . وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ .
وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ : كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع؛ يدعوهم إلى الإسلام ، وإلى أقام الصلاة وإيتاء الزَّكَاةِ ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً ، فدخَلَ أبو بكر -ذات يومٍ- بيت مِدْراسهم ، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له : فنحاص بن عازوراء ، وكان من علمائهم ، ومعه حَبْرٌ آخَرُ ، يقال له : أشيع ، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ : اتَّقِ اللهَ وأَسْلِم؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله ، قد جاءكم بالحق من عند الله ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، فآمِنْ وصَدِّقْ ، وأَقْرِض اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ ، فقال فنحاص : يا أبا بكر ، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا ، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله -إذَنْ- فقيرٌ ونحن أغنياء ، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا ، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا- يعني في قوله :
{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] فغضب أبو بكرٍ ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله . فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمدُ ، انظر ما صنع بي صاحبُك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر ، ما حملك ما صنعتَ؟ قال يا رسولَ اللهِ ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً ، زعم أن الله فقير وهم أغنياء ، فغضبت لله ، وضربت وجهه ، فجحد ذلك فِنْحاصٌ ، فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ ، وتصديقاً لأبي بكر .
واعلم أنَّ ظاهرة الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً؛ لقوله تعالى : { الذين قالوا } وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُل ذلك ، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة ، فيجب القطع بذلك .
قوله : { سَنَكْتُبُ } قرأ حمزة بالياء ، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله ، و « ما » وصلتها قائم مقام الفاعل ، و « قَتْلُهم » -بالرفع- عَطْفاً على الموصول ، و « يَقُولُ » -بياء الغيبة- والمعنى : سيحفظ عليهم . والباقون بالنون للمتكلم العظيم ، ف « ما » منصوبة المحل ، و « قَتْلَهُمْ » بالنصب عَطْفاً عليها ، و « نَقُولُ » بالنون -والمعنى : سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ .
وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف « سَتُكْتَبُ » -بتاء التأنيث- على تأويل « مَا قَالُوا » ب « مَقَالَتُهُمْ » . وقرأ ابن مسعود -وكذلك هي في مصحفه- سنكتب ما يقولون ويقال . والحسنُ والعرج « سَيَكْتُب » -بالغيبة- مبنياً للفاعل ، أي : الله تعالى : أو الملك .
و « ما » -في جميع ذلك- يجوز أن تكون موصولة اسمية -وهو الظاهر- وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ ، تقديره : سنكتب الذي يقولونه -ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : قولهم -ويراد به -إذ ذاك- المفعول به ، أي : مقولتهم ، كقولهم : ضَرْب الأمير .
قوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : ونكتب قتلهم ، أي : رضاهم بالقتل ، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء ، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم ، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ ، فقال الشعبي : قد شركت في دمه ، فجعل الرضا بالقتل قتلاً ، قال القرطبيُّ : وهذه مسألة عظمى ، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية ، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مِنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -أو فَأنْكَرَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها » وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين .
والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت ، بل هم -منذ كانوا- مُصِرُّون على الجهالات والحماقات .
ثم قال : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } أي : النار ، وهو بمعنى المُحْرَق -كالأليم بمعنى المُؤلم- وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت ، أو عند الحشر ، إن لم يكن هناك قَوْلٌ .
فإن قيل : إنهم أوردوا سؤالاً ، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً ، فلو طلب اللهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً ، وذلك مُحالٌ ، فوجب أن يقال : إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده ، وذلك قادحٌ في كونه صلى الله عليه وسلم صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ ، فهذا هو شُبْهَتُهم ، فأين الجوابُ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا؟ .
فالجوابُ : إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا : يفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فلا يبعد أن يأمر اللهُ عبيده ببذل الأموال ، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء . وأما على قول المعتزلة- فإنه تعالى يُراعي المصالح- فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب ، وذلك من أعظم المنافع ، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ :
منها : أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ .
ومنها : أن يصير القلبُ -بذلك الإنفاقِ- فارغاً من حُبِّ ما سوى اللهِ تَعَالَى .
ومنها : أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه ، فتتألم روحه لمفارقته .
قوله : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ } مبتدأ وخبر ، تقديره : ذلك مستحق بما قدمت ، كذا قدره أبو البقاء ، وفيه نظر . و « ما » يجوز أن تكون موصولة ، وموصوفة ، و « ذلك » إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم ، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ :
أحدهما : أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفاً على « ذُوقُوا » كأنه قيل : ونقول لهم -أيضاً- ذلك بما قدمت أيديكم ، وُبِّخُوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب .
الثاني : أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولِ الآيةِ . وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها ، قال القرطبيُّ : « وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ، كقوله : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ } [ القصص : 4 ] وأصل » أيْدِيكُمْ « أيْدِيُكُم ، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها .
قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } عطف على » ما « المجرورة بالباء ، أي : ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم ، وعدم ظُلْمه لكم .
فإن قيل : إن « ظلاماً » صيغة مبالغة ، تقتضي التكثير ، فهي أخص من « ظالم » ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، فإذا قلت : زيد ليس بظلامٍ ، أي : ليس كثير الظُّلم -مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ : ليس بظالم ، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى : { لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؟ فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أن « فَعَّالاً » قد لا يُراد به [ التكثير ] ، كقول طرَفة : [ الطويل ]
1702- وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ... وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ
لا يريد -هنا- أنه قد يحل التلاع قليلاً؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة .
الثاني : أنه للكثرة ، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد -وهم كثيرون- ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ .
الثالث : أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر- كان للظلم القليل المنفعة أترك .
الرابع : أن يكون على النسب ، أي : لا يُنسَب إليه ظُلم ، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ ، كأنه قيل : ليس بذي ظلم ألبتة . ذكر هذه الأربعة أبو البقاء .
وقال القاضي أبو بكرٍ : العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم ، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً ، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً .
وقال الراغبُ : « العبيد -إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى- أعم من العباد ، ولهذا قال : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته ، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك » .
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين « عبيد » و « عباد » فقال : وجمع العَبْد -الذي هو مسترق- عبيد وقيل : عِبِدَّى وجمع العبَدْ -الذي هو العابد- عباد ، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة « ق » .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم ، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم .
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
يجوز في حل « الذِينَ » الألقاب الثلاثة ، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة « قَوْلَ » إليه -في قوله : « قول الذين قالوا » .
الثاني : أنه بدل منه .
الثالث : أنه صفة ل « الْعَبِيد » أي : ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة : « وهذا مفسد للمعنى والوصف » .
والرفعُ على القطع -بإضمار مبتدأ- أي : هم الذين ، وكذلك النصب على القطع -أيضاً- بإضمار فعلٍ لائقٍ ، أي : أذم الذين .
قوله : « أن لا نؤمن » في « أنْ » وجهان :
أحدهما : أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ ، والأصل : في أن لا نؤمنَ ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ ، أو نَصْبٍ .
الثاني : أنها مفعول بها ، على تَضْمين « عَهِدَ » معنى ألزم ، تقول : عهدت إليه كذا - أي : ألزمته إياه -فهي- على هذا- في محل نصب فقط .
و « أن » تُكْتَب متصلة ، ومنفصلة ، اعتباراً بالأصل ، أو بالإدغام . ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط ، اكتفاءً بالتشديد ، وحكى مكي -عن المبرد- أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة ، إلا فمنفصلة . ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة وإن كانت ناصبة كتبت متصلة .
والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر ، فكأنه فاصل بينهما ، بخلاف الناصبة ، وقول أهل الخط -في مثل هذا- : تكتب متصلة ، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية؛ اعتباراً بلفظ الإدغام ، لا أنهم يكتبون [ متصلة ] ، ويثبتون لها بعضَ صورتها ، فيكتبون : أنْلاَ ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في « أم من » و « أم ما » ونحوه بالاتصال ، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ ، فيكتبون أمَّن ، وأما ، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب « لا » ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال : ومنهم مَنْ يحذفها في الخط؛ اكتفاءً بالتشديد .
فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل ، ولا يقول أحَدٌ بهذا .
وتعدى « نؤمن » باللام؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف . وقد تقدم في أول « البقرة » .
وقرأ عيسى بن عمر « بقُرُبان » -بضمتين- .
قال القرطبيُّ : « كما قيل -في جمع ظُلْمة -ظلمات وفي حجرة - حجرات » .
قال ابن عطيةَ : إتباعاً لضمة القاف ، وليس بِلُغَةٍ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان -بضم الفاء والعين- .
وحكى سيبويه : السُّلُطان -بضمِّ اللمِ -وقال : إنّ ذلك على الإتباع .
قال أبو حيان : « ولم يَقل سيبويه : إن ذلك على الإتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان ، ولا شيئاً من هذا النحو ، ولكنه جاء فُعُلاَن -وهو قليل- قالوا : السلطان ، وهو اسم ، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه : صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع ، وكذا ذَكَر التصرفيونَ أنه بناء مُسْتقل ، قالوا : فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ ، وعلى فعلان -ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً ، وهو قليلٌ ، نحو سُلُطان » .
قال شهاب الدِّينِ : « أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في » سلطان « خاصةٌ ، ولكن قوله في » قُربَانٍ « صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان » .
والقُرْبان -في الأصل- مصدر ، ثم سُمِّي به المفعول ، كالرَّهْن ، فإنه في الأصل مصدر ، ولا حاجة إلى حذف مضاف ، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف -أي : تقريب قُرْبان- قال : « أي : يُشْرَع لنا ذلك » .
وقوله : { تَأْكُلُهُ النار } صفة لِ « قُرْبَانٌ » وإسناد الأكل إليها مجاز ، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل .
قوله : { مِّن قَبْلِي بالبينات } كلاهما متعلق ب « جَاءَكُم » والباءُ تحتمل المعية والتعدية ، أي : مصاحبين للآيات .
فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة
هذه شبهةٌ ثانية طعن بها الكفار في نبوته صلى الله عليه وسلم وتقريرها : أنك يا محمد -لم تفعل كذلك ، فوجب ألا تكون نبياً ، قال ابن عباسٍ : نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرفِ ، ومالك بن الصَّيف وكعب بن أسدٍ ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت ، وفنحاص بن عازوراء ، وحُيَيّ بن أخطب ، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمدُ تزعم أن اللهَ بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وقد عَهدَ اللهُ إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله ، حتى يأتِيَنَا بقُرْبان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدَّقْنَاك ، فأنزل الله هذه الآية .
والقُرْبان : كل ما يَتَقَرَّب به العبدُ إلى الله -تعالى- من نسيكة ، وصدقة ، وعَمَلٍ صالح .
قال الواحديُّ : وأصله المصدر من قولك : قرب قُرْبَاناً -كالكُفْران والرُّجحان والخُسْران- ثم سمي به نفس المتقرَّب به ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عُجْرة- : « يَا كَعْبُ ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ ، والصَّلاةُ قُرْبانٌ » .
قال القرطبيُّ : « وهو فُعْلان -من القربة- ويكون اسماً ، ومصدراً . فمثال الاسم : السُّلْطان والبُرْهان ومثال المصدر : العُدوان والخُسْران » .
فصل في بيان ادعاء اليهود
واختلفوا فيما ادَّعاه اليهود .
فقال السُّدَّيُّ : إن هذا الشرط جاء في التوراة ، ولكنه مع شَرْط ، وذلك أنه -تعالى- قال في التوراة : من جاءكم يزعم أنه رسول الله ، فلا تصدقوه ، حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار ، إلا المسيحُ ومحمد ، فإنهما إذا أتيا فآمِنوا بهما؛ فإنهما يأتيان بقُرْبانٍ لا تأكله النّار ، قال : وكان هذه العادة باقية إلى مبعث المسيحِ -عليه السَّلام- فلما بُعِثَ المسيح ارتفعت وزالت .
وقال آخرونَ : إن ادعاء هذا الشرطِ كذب على التَّوراة ، لأن القربانَ لم يكن في معجزات موسى وعيسى -عليهما السَّلامُ- وأيضاً فإنه إذا كانت هذه معجزةً ، فلا فرقَ بينها وبين باقي المعجزاتِ ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدةٌ .
واعلم أنه -تعالى- أجاب عن هذه الشُّبهة ، فقال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } والمرادُ أسلافهم ، فبيَّن -بهذا الكلام- أنهم إنما يطلبونَ ذلك على سبيل التعنُّت ، لا على وَجْه الاسترشاد ، إذ لو لم يكن كذلك لما سَعَوْا في قَتْلهم .
فإن قيل : لم قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ } ولم يَقل : جاءتكم رُسل؟
فالجوابُ : أن فعل المؤنث يُذَكَّر إذا تقدمه جمعُ تكسير .
والمراد بقوله : { وبالذي قُلْتُمْ } هو ما طلبوه منه ، وهو القُرْبان .
فإن قيل : إن القوم إنما طالبوه بالقُرْبان ، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات } ثم أضاف إلى قوله : { وبالذي قُلْتُمْ } وهو القربان؟
فالجواب : أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لو قال لهم : إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقُربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القُرْبانِ شرطٌ للنبوة ، لا موجب لها ، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزمُ من وجوده وجود المشروط ، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القَدْرِ لما كان الإلزام وارداً عليهم ، فلما قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ } كان الإلزام وارداً عليهم؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتَوا بالموجب للصدق ، ولما أتَوا بالقُرْبان فقد أتوا بالشرط ، فعند الإتيانِ بهما وجب الإقرارُ بالنبوة .
قال القرطبيُّ : في معنى الآية- : « قُلْ » يا محمد « قَد جَاءَكُمْ » يا معشرَ اليهود { رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ } من القُرْبان « فلم قتلتموهم » يعني زكريا ويحيى وشعيباً وسائر مَنْ قَتَلوا من الأنبياء -عليهم السلام- ولم يؤمنوا بهم .
أراد بذلك أسلافهم . وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيُّ ، واحتج بها على الذي حَسَّن قَتلَ عثمان -رضي الله عنه- وأن اللهَ تعالى سمي اليهودَ -لرضاهم بفِعْل أسلافهم- وإن كان بينهم نحوٌ من سبعمائة سنةٍ .
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله : { فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ } ليس جواباً ، بل الجوابُ محذوف ، أي : فقل ، ونحوه؛ لأن هذا قد مضَى وتحقَّق ، والجملة من « جَاءُوا » في محل رفع ، صفة لِ « رُسُلٌ » و « مِنْ قَبْلِكَ » متعلق ب « كُذِّبَ » والباء في « بِالبَيِّنَاتِ » تحتمل الوجهين ، كنظيرتها .
ومعنى الآية : فإن كذبوك في قولك : إنَّ الأنبياء المتقدمين أتَوْا بالقُرْبان .
ويحتمل أن يكون المعنى : فإن كذبوك في أصل النبوة -وهو أولى- والمرادُ بالبيناتِ المعجزاتِ .
وقرأ الجمهورُ : « وَالزبر والكتاب » -من غير باء الجر- وقرأ ابنُ عامر « وَبِالزُّبُرِ » -بإعادتها- وهشام وحده عنه « وَبِالكِتَابِ » -بإعادتها أيضاً- وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابنِ عامر ، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطفِ ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيداً .
والزُّبر : جمع زَبُور -بالفتح- ويقال : بالضم أيضاً- وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلام عليهما -إن شاء الله تعالى- في النساء في قوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ النساء : 163 ] . واشتقاقه من زَبَرْتُ : أي : كتبتُ وزَبَرْته : قرأتهُ ، وَزَبرْته : حسَّنت كتابتَه ، وزَبَرْته : زَجَرته . فزبور -بالفتح- فَعُول بمعنى مفعول -كالركوب بمعنى : المركوب -والحلوب- بمعنى المحلوب- والمعنى : الكُتُب المزبورة ، أي : المكتوبة ، والزُّبُر : جمع زبور ، وهو الكتاب .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1703- لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُهُ فَشَجانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِي
وقيل : اشتقاق من الزَّبْر -بمعنى : الزجر : تقول : زبرت الرجل : أي : نهرته . وزبرت البئر : أي : طويتها بالحجارة .
فإن قيل : لِمَ عطف « الْكِتَابِ المُنِيرِ » على « الزُّبُرِ » مع أن الكتاب المنير من الزُّبُر؟
فالجوابُ : لأن الكتاب المنير أشرف الكتب ، وأحسن الزبر ، فحسُن العطف ، كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] . وقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] . ووجه شرفه : كونه مشتملاً على جميع الشريعة ، أو كونه باقياً على وَجْه الدَّهْر .
وقيل : المراد ب « الزُّبُر » الصُّحُف ، والمراد ب « الْكِتَابِ الْمُنِيرِ » التوراة والإنجيل والزبور .
و « الْمُنِير » اسم فاعل من أنار ، أي : أضاء ، وهو الواضح . والمراد بهذه الآية -تسلية قلب الرسول- صلى الله عليه وسلم بما جرى على الأنبياء قبله .
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
والمرادُ بهذه الآية -زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان ، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء ، [ والمُحِقُّ من المُبْطِل ] .
قوله : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } مبتدأ وخبر ، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة .
والجمهور على « ذَائِقَةٌ المَوْتَ » بالتنوين والنَّصْب في « الْمَوْتِ » على الأصل .
وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب « الْمَوْت » وذلك على حَذْف التنوين؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ : [ المتقارب ]
1704- فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ ... وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا
-بنصب الجلالة- وقراءة مَنْ قرأ { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله } [ الإخلاص : 1 ، 2 ] - بحذف التنوين من « أحَدٌ » لالتقاء الساكنين .
[ ونقل ] أبو البقاء -فيها- قراءةً غريبةً ، وتخريجاً غريباً ، قال : « وتقرأ شاذاً -أيضاً- ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير » كل « على اللفظ ، وهو مبتدأ وخبرٌ ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون » كل « مبتدأ ، و » ذَائِقُهُ « خبر مقدَّم ، و » الْمَوْتُ « مبتدأ مؤخرٌ ، والجملة خبر » كُلّ « وأضيف » ذائق « إلى ضمير » كل « باعتبار لفظها ، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها ، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس ، قَلْباً للكلامِ؛ لفهم المعنى ، كقولهم : عَرَضْتُ الناقة على الحوض ، ومنه قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار } [ الأحقاف : 34 ] وقولك : أدخلت القلنسوة في رأسي .
وقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]
1705- مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ
الأصل : عرضت الحوض على الناقة ، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا ، وأدخلت رأسي في القلنسوة ، وبلغت سوآتهم هَجَرَ ، فقلبت . وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله -تعالى- .
وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في » ذائقة « إنما هو باعتبار معنى » كلٍّ « قال : » لأن كل نفس نفوس ، فلو ذكر على لفظ « كل » جاز ، يعني أنه لو قيل : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ } جاز ، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [ اعتبار ] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر « كل » وتحقيق هذه المسألةِ هناك .
فصل
قال ابنُ الخطيبِ : هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه . وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء ، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها .
فإن قيل : قوله تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ }
[ المائدة : 116 ] يقتضي الاندراج ، وأيضاً فالنفس والذات واحد ، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات ، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنهم نفوس .
فالجوابُ : أنّ المُرَادَ : المكلَّفون في دار التكليف ، لقوله ، عقبيها : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم .
فصل
قالت الفلاسفةُ : الموت واجب للأجسامِ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين ، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى ، فيحصل الموتُ قالوا : والآية تدل على أن النفوس لا تموت؛ لأنه جعلها ذائقة ، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى : ذائقة موت البدنِ ، وبدل ذلك -أيضاً- على أنَّ النفسَ غير البدن .
قوله : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ } « ما » كافة لِ « إن » عن العمل ، قال مكيٌّ : « ولا يحسبن أن تكون » ما « بمعنى الذي ، لأنه يلزم رفع » أجورُكم « ولم يقرأ به أحَدٌ ، ولأنه يصير التقدير : وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم ، كقولك : إنّ الذي أكرمته عمرو ، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء » .
يعني لو كانت « ما » موصولة لكانت اسم « إن » فيلزم -حينئذٍ- رفع « أجوركم » على أنه خبرها ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } [ طه : 69 ] ف « ما » -هنا- يجوز أن تكون بمعنى الذي ، أو مصدرية ، تقديره : إنَّ الذي صنعوه ، أو إن صُنْعَهم ، ولذلك رفع « كِيْدُ » ، خبرها . وقوله : وأيضاً فإنك تفرق . . . ، يعني أن « يَوْمَ الْقِيَامَة » متعلق ب « تُوَفَّوْنَ » فهو من تمام الصلة -التي هي الفعل ومعموله -ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته ، وهذا وإن كان من الواضحات ، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم .
فصل
قال المفسّرون : أجر المؤمنِ الثوابُ ، وأجرُ الكافر العقابُ ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا -أجراً وجزاء- لأنها عُرْضَةٌ للفناء .
قوله : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } أدغم أبو عمرو الحاء في العين ، قالوا : لطول الكلمة ، وتكرير الحاء ، دون قوله : { ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] وقوله : { المسيح عِيسَى } [ آل عمران : 45 ] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً ، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك ، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها ، قالوا : لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف ، وهذا عكس الإدغامِ ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين : إحداهما : هذه ، والثانية : الحاء في الهاء ، نحو : امدح حلالاً -بقلب الهاء حاء أيضاً- ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو ، ولا يُلْتَفَت إليه . . ومعنى الكلام ، { فَمَن زُحْزِحَ } أي : نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز .
قوله : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } المتاع : ما يتَمَتَّع به ، وينتفع [ به الناسُ - [ كالقِدْرِ ] والقصعة- ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين .
وقال الحَسَن : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات ، ولا حاصل له .
وقال قتادة : هي متاع متروك : يوشك أن يضمحِلَّ ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله -تعالى- ما استطاع .
وقوله : « الْغُرور » يجوز أن يكون مصدراً من قولك : غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً ، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام ، ويغر عليه حتى يشتريه ، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ ، ومنه الحديث : « نهى عن بيع الغرر » ويجوز أن يكون جَمْعاً .
وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع الغُرُور ، أي : المخدوع : وأصل الغَرَر : الخدع .
قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ : هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة ، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ .
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
وهذه الآية زيادة في تَسْلية الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه بَيَّن له أنّ الكفار بعد أن آذَوُا الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم أُحدٍ ، فسيؤذونهم - أيضاً - في المستقبل في النفسِ والمالِ .
والمرادُ منه أن يُوَطِّنوا أنفسَهم على الصْبر؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وَقْعه في قَلْبِهِ بخلاف غيرِ العالم فإنه يعظم عنده ويَشُقُّ عَلَيْهِ .
قوله : { لَتُبْلَوُنَّ } هذا جوابُ قَسَم محذوف ، تقديره : والله لَتُبْلَوُنّ ، وهذه الواو هي واو الضمير ، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ ، وذلك أن أصله : لَتُبْلَوُّنَنَّ ، فالنون الأولى للرفع ، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد ، وتحرَّكت الواوُ [ الأولى ] - التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذَفَتْ الألف؛ لئلا يلتقيا ، وضُمَّتْ الواو؛ دلالةً على المحذوف .
وإنْ شئتَ قلت : استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى ، فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ ، دلالةً على المحذوف . ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً؛ [ لأن حركتها عارضةٌ ] ولذلك لم [ تُقلَب ] ألِفاً ، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها .
ويقال للواحدِ من المذكَّر : لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين : لتبليانِّ يا رجلانِ ، ولجماعة الرجال : لتبلوُنَّ . وأصل « لَتسْمعنَّ » : لَتَسْمَعُونَنَّ ، ففعل فيه ما تقدم ، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً .
فصل في المراد بالابتلاء
معنى الابتلاء : الاختبار وطلب المعرفةِ ، ومعناه في وَصْف الله تعالى به معاملةُ العبد معاملةَ المختبر ، واختلفوا في هذا الابتلاء ، فقيل : المراد ما نالهم من الشدة والفَقْرِ والقتل والجرح من الكفار ، ومن حيثُ أُلزموا الصبر في الجهاد .
وقيل : الابتلاء في الأموال بالمصائب ، وبالإنفاق في سبيل اللهِ وسائر تكاليف الشَّرْع ، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفَقْد الأحْباب . وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها .
وقال الحسنُ : التكاليفُ الشديدَةُ المتعلقة بالدينِ والمالِ ، كالصلاة والزكاة والجهاد .
وقال القاضي : والظاهرُ يحتمل الكُلُّ .
قوله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } المرادُ منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارَى والمشركين للمسلمين ، وذلك أنهم كانوا يقولون : { عُزَيْرٌ ابن الله } [ التوبة : 30 ] و { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] و « ثالث ثلاثة » وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه ، وهجاه كعبُ بن الأشرفِ ، وكانوا يُحَرِّضون النَاس على مخالفة الرسول ، ويجمعون الناس لمحاربته ، ويُثَبّطون المسلمين عن نُصْرَتِه ، ثم قال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } .
قال المفسّرونَ : بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر إلى فنحاص اليهوديِّ ، يستمده ، فقال فنحاصٌ : قد احتاج ربكم إلى أن نمده فَهَمَّ أبو بكر أن يَضْرِبَه بالسيف ، وكان صلى الله عليه وسلم قال له - حين أرسله - : لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليَّ ، فتذكَّر أبو بكر ذلك ، وكفَّ عن الضرب ، فنزلت الآية .
فصل
في الآية تأويلان :
أحدهما : أن المرادَ منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمصابرة على الابتلاء في النفسِ والمالِ ، وتحمُّلِ الأذَى ، وتَرك المعارضة والمقابلة ، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المُخالف في الدين ، كقوله تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ } [ الجاثية : 14 ] وقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وقوله : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } [ الأحقاف : 35 ] وقوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] .
قال الواحديُّ : كان هذا قَبلَ نزولِ آية السيف .
قال القفّال : والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحُدٍ ، والمعنى : أنهم امِرُوا بالصَّبر على ما يؤذون به الرسولَ صلى الله عليه وسلم على طريقِ الأقوالِ الجارية فيما بينهم ، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوالِ ، والأمر بالقتالِ لا ينافي الأمر بالمُصابرة .
التأويل الثاني : أن يكونَ المرادُ من الصَّبرِ والتقوى : الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم . فالصبرُ عبارة عن احتمال الأذى والمكروه ، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي . وقوله : { فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } أي : من صواب التدبير والرشدِ الذي ينبغي لكل عاقلٍ أن يُقْدِمَ عليه .
وقيل : { مِنْ عَزْمِ الأمور } أي : من حق الأمورِ وخَيرها .
وقال عطاءٌ : من حقيقة الإيمان .
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
في كيفية النظمِ وجهان :
أحدهما : أنه - تعالى - لما حكى عنهم الطَعْنَ في نبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وأجاب عن ذلك ، بيَّن في هذه الآية التعجُّب من حالهم .
والمعنى : كيف يليق بكم الطعن في نبوَّته صلى الله عليه وسلم وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذِكْرُ الدلائل الدالة على صِدقه ونبوته؟
ثانيهما : أنه لما أوجب عليه احتمال الأذَى من أهل الكتاب - وكان من جُمْلَة أذاهم كتمانُ ما في التوراة والإنجيل من الدلائلِ الدالةِ على نبوَّتِه ، وتحريفها - بيَّن أن هذا من تلك الجملةِ التي يجبُ فيها الصبر .
قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثيرٍ ، وأبو بكر بالياء ، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده - : « فَنَبَذُوهُ » والباقون بالتاء؛ خطاباً على الحكاية ، تقديره : وقلنا لهم ، وهذا كقوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 83 ] بالتاء والياء كما تقدم تحريره .
قوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } يحتمل وجهين :
أحدهما : واو الحال ، والجملة بعدها نصب على الحال ، أي : لتبينُنَّه غيرَ كاتمين . الثاني : أنها للعَطْف ، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤَكِّدْ بالنون؛ لأنه منفيّ ، كما تقول : واللهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء : « ولم يأتِ بها في » تَكْتُمُونَ « اكتفاءً بالتوكيد في الأول؛ » تَكْتُمُونَهُ « توكيد » .
وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده ، وليس كذبك؛ لما تقدم . وقوله : لأنه توكيدٌ ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله : { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } فجاء قوله : { وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } توكيداً في المعنى .
واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني : جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال : « وهذا الوجه - عندي - أعْربَ وأفصح؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل » لا « لا تدخل عليه واوُ الحال » .
وغيره يقول : إنه يمتنع إذا كانَ مضارعاً مُثْبَتاً ، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه .
وقرأ عبد الله : لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة : « وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه » .
والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً ، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعةَ الكلامَ .
وأنشدوا : [ الطويل ]
1706- وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّني ... لِمَا شِئْتِ مُسْتْلٍ ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ
وقال الآخرُ : [ المتقارب ]
1707- يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ ... يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ
فأتى باللام وحدها . وقد تقدم تحقيقُ هذا .
وقرأ ابنُ عباس : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فالضمير في قوله : { فَنَبَذُوهُ } يعود على { الناس } المبيَّن لهم؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين ، وكان قد تقدم في قوله تعالى :
{ وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [ آل عمران : 81 ] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف ، أي : أولاد النبيين ، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني : قراءة ابن عباس- . والهاء في { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } قال سعيدُ بنُ جُبَيْر والسُّدِّيُّ تعود إلى محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا يكونُ الضميرُ عائداً إلى معلوم غير مذكور .
وقال الحسنُ وقتادةَ : تعود على « الكِتَابِ » أي : يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : البيانُ يضادُّ الكتمان ، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياًَ عن الكتمان فما الفائدة في ذِكْرِ النَّهي عن الكتمان؟
فالجوابُ : أن المرادَ من البيان ذِكْرُ الآياتِ الدالةِ على نبوةِ محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة ، والشبهات المعطلة .
قال قتادةُ : هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهلِ العِلْمِ ، فمَنْ عَلِمَ شيئاً فلْيُعَلِّمْه ، وإياكم وكتمانَ العِلْمِ ، فإنه هَلَكَه . قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ » .
قوله : { فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } طرحوه ، وضيَّعوه ، ولم يُراعوه ، ولم يلتفتوا إليه . والنبذ وراء الظهر مثَل للطَّرْح ، ونقيضه : جعله نُصْبَ عينيه .
وقوله : { واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } معناه : أنهم أخفوا الحقَّ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا ، ثم قال : { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى ، ولا شك أن الإنسانَ يتأذّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ ، فأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمصابرة عليها .
قوله : و { لاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمر « يَحْسَبَنَّ » و « فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ » -بالياء فيهما ، ورفع ياء « تَحْسَبَنَّهُم » وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ ، وفتح الباء فيهما معاً ، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول ، وتاء الخطاب في الثاني ، وفتح الباء فيهما معاً ، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً ، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما ، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ أوجهٍ ، وذلك : لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، أو إلى الموصولِ ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره- ففي المسألة وجهان : ِ
أحدهما : أنَّ « الَّذِينَ » مفعول أوّل ، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه ، وهو « بِمَفَازَةٍ » والتقدير : لا يحسبن الرسول -أو حاسب- الذين يفرحون بمفازة ، فأسند الفعل الثاني لضميرِ « الَّذِينَ » ومفعولاه الضمير المنصوب ، و « بِمَفاَزَةٍ » .
الثاني : أن « الَّذِينَ » مفعول أول -أيضاً- ومفعوله الثاني هو « بِمَفَازَةٍ » الملفوظ به بعد الفعل الثاني ، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه ، والتقدير : لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك ، والعمل كما تقدم ، وهذا بعيد جِداً ، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ ، والفاء -على هذين الوجهين- عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة .
وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ :
أولها : أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه ، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما ، تقديره : ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين .
كقول الآخر : [ الطويل ]
1708- بأيِّ كِتَابٍ ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ
أي : وتحسب حبهم عاراً ، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما ، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ .
ثانيها : أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا .
قال أبو علي « تَحْسَبَنَّ » لم يقع على شيء و « الَّذيِنَ » رفع به ، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً ، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة ، نحو قوله : [ الطويل ]
1709- وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ... عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا
المذاكي : الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، الواحد : مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل : جريُ المذكيات غِلاب .
والمُسْنفات : اسم مفعول ، يقال : سنفت البعير أسنفه ، سنفاً ، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه ، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ ، وتجنب الخيل ، تقول : الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ : العربُ تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ .
يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة ، لا مفعول لها .
ثالثها : أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً ، والثاني هو نفس « بِمَفَازَةٍ » ويكون « فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ » توكيداً للفعل الأول ، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة- : « على أن الفعل لِ { الذين يَفْرَحُونَ } والمفعول الأول محذوف ، على معنى : لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى : لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين ، و » فلا يحسبنهم « تأكيد » .
قال أبو حيّان : « وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره : لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي } [ آل عمران : 178 ] وأن هذا التقدير لا يصح » .
قال شهابُ الدِّينِ : قد تقدَّم ذلك والجواب عنه ، لكن ليس هو في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] بل في قوله : { ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله } من قراءة من قرأ بياء الغيبة ، فهناك ردَّ عليه بما قال ، وقد أجيب عنه والحمد لله ، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد .
ويجوز أن يقالَ : في تقرير هذا الوجه الثالث- : أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن « بِمَفَازَةٍ » مفعول ثانٍ للفعل الأول ، حذفت من الفعل الثاني ، و « هُمْ » في « فلا يحسبنهم » مفعول أول للفعل الثاني ، وهو محذوفٌ من الأولِ .
وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني -على هذه الأوجه الثلاثة- تأكيدٌ للأول .
وقال مكِّيٌّ : إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ .
وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى ، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر ، فهو يرجع إلى معنى التأكيد . وكذلك قال بعضهم : والثاني مُعَاد على طريق البدل ، مشوباً بمعنى التأكيدِ .
وعلى هذين القولين -أعني كونه تأكيداً ، أو بدلاً- فالفاء زائدة ، ليست عاطفة ولا جواباً .
قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ } أصله : تحسبونَنَّهم ، بنونين- الأولى نون الرفع ، والثانية للتوكيد- وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة . وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل ، وهو خاص بباب الظن ، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال . لو قلت : « أكرمتُني » ، أي : « أكرمت أنا نفسي » لم يجز .
وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من يصلح للخطاب- والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ ، أو بدلٌ منه ، والفاء زائدة ، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير ، على قولنا : إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد ، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر : [ الكامل ]
1710- لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ ... فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي
وقول الآخر : [ الكامل ]
1711- لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ
وقول الآخر : [ الكامل ]
1712- حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ... فَيَقُلْنَ : لا تَبْعَدْ ، وَقُلْتُ لَهُ : ابْعَدِ
إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ ، إنما قال به الأخفش .
وأما قراءة نافع وابن عامرٍ -بالغيبة في الأولِ ، والخطاب في الثاني- فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين ، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم ، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير ، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به ، إلا أنه ممتنع -هنا- أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول ، أو بدلاً منه؛ لاختلاف فاعليهما ، فتكون الفاء -هنا- عاطفةً ليس إلا ، وقال أبو علي في الحُجة- : إن الفاءَ زائدة ، والثاني بدلٌ من الأولِ ، قال : « وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم ، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ » .
وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما .
وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين ، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ .
وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ ، أي : لا يحسبن الرسولُ ، أو حاسبٌ .
والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ ، كالكلام في القراءة التي قبلها ، والثاني من الفعلين تأكيدٌ ، أو بدلٌ ، والفاءُ زائدةٌ -على هاتينِ القرائتينِ- لاتحادِ الفاعلِ .
وقرأ النَّخعِيُّ ، ومروان بن الحكمِ « بما آتوا » ممدوداً ، أي : أعْطُوا ، وقرأ علي بن أبي طالبٍ « أوتوا » مبنياً للمفعول .
فصل
قال ابنُ عبّاسٍ : قوله : { يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ } هم اليهودُ ، حرَّفوا التوراةَ ، وفرحوا بذلك ، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ .
وقيل : سأل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم اليهودَ عن شيء من التوراة ، فأخبروه بخلافه ، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك .
وقيل : فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيم .
وقيل : هُم المنافقونَ ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الإيمانِ .
وقيل : هم بعض المنافقينَ ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغَزْو ، وفرحوا بقعودهم ، واعتذروا ، وطمعوا أن يُثَنَى عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفَرِحوا بذلك الكتمان ، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ .
فصل
قال الفرّاءُ : « يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا » أي : بما فعلوا ، كقوله : { لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } [ مريم : 27 ] أي : فَعَلْتِ ، وقوله : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ } [ النساء : 16 ] . قال الزمخشريُّ : « أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا » .
قوله : { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } قد تقدم معناه في كيفية النظم { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ } أي : بمنجاة من العذاب ، من قولهم : فاز فلان -إذا نجا- أي : ليسوا بفائزين .
وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوَّز الرجل -إذا مات- .
وقال الفرّاءُ : أي : ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه ، ثم حقَّق ذلك بقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
قوله : { مِّنَ العذاب } فيه وجهانِ :
أحدهما : أنه متعلق بمحذوف ، على أنه صفة لِ « مَفَازَةٍ » أي : بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا « مَفَازَةٍ » مكاناً ، أي بموضع فَوْز .
قال أبو البقاء : « لأن المفازةَ مكان ، والمكانُ لا يعملُ » .
يعني فلا يكون متعلقاً بها ، بل محذوف ، على أنه صفة لها ، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها { مِّنَ العذاب } اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره : بمفازة منجيةٍ من العذابِ ، وفيه الإشكالُ المعروفُ ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف -في مثله- إلا كَوْناً مطلقاً .
الثاني : أن يتعلق بنفس « مفازة » على أنها مصدر بمعنى الفَوْز ، تقول : فزت منه أي : نَجَوْت ، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها ، وليست الدالة على التوحيد .
كقوله : [ الطويل ]
1713- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ
فأعمل « رهبة » في « عقابك » وهو مفعول صريح ، فهذا أولى .
قال أبو البقاء : « ويكون التقدير : فلا تحسبنهم فائزين ، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ » .
فإن أراد تفسير المعنى فذاك ، وإن أراد أنه بهذا التقدير -يصح التعلُّق ، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قال القرطبيُّ : « هذا احتجاجٌ على الذين قالوا : إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء ، وتكذيب لهم » .
وقيل : المعنى : لا تظنَّنَّ الفرحين ينجون من العذاب ، فإنّ للهِ كُلّ شيء ، وهم في قبضة القدير ، فيكون معطوفاً على الكلام الأولِ ، أي : إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء .
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : لهم عذابٌ أليمٌ ممن له ملك السموات والأرض ، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر؟
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)
اعلم أنه -تعالى- لما قرَّر الأحكام ، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين ، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية .
قال ابنُ عبيد قلت لعائشة -رضي الله عنها- : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكَتْ وأطالت ، ثم قالت : « كُلُّ أمره عَجَبٍ ، أتاني في ليلتي ، فدخل في لحافي ، حتى ألصق جِلدَه بجلدي ، ثم قال لي : يَا عَائِشَة ، هَلْ لَكِ أن تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي؟ فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ ، فَقَد أذِنْتُ لَكَ ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ ، فَتَوَضَّأ ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي ، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ ، وجَعَلَ يَبْكِي ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةَ ، فَرَآهُ يَبْكِي ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ؟ فَقَالَ : يَا بِلاَلُ ، أفَلا أكثونُ عَبْداً شَكُوراً ، ثُمَّ قَالَ : مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } الآيات ، ثُمَّ قَالَ : وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا » . وروي : « ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا . »
« وروي عن عَلِيٌّ -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ ، ثم ينظر إلى السماء ويقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } » .
واعلم أنه -تعالى- ذكر هذه الآية في سورة البقرة ، وختمها بقوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] وختمها هنا -بقوله : { لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } وذكر في سورة البقرة -مع هذه الدلائل الثلاثة- خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل ، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ -وهي السموات والأرض والليل والنهار- فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ ، وله لُبٌّ ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً ، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا ، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ ، وأسقط الخمسةَ ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر ، والعجائب فيها أكثر .
قوله : { الذين يَذْكُرُونَ الله } فيه خمسة أوجهٍ :
أحدهما : أنه نعت لِ { لأُوْلِي الألباب } فهو مجرور .
ثانيها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين .
ثالثها : أنه منصوب بإضمار أعني . وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم .
رابعها : أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : يقولون : ربنا . قاله أبو البقاء .
خامسها : أنه بدل من { لأُوْلِي الألباب } ذكره مكِّيٌّ ، والأول أحسنها .
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } حالانِ من فاعلٍ { يَذْكُرُونَ } و { وعلى جُنُوبِهِمْ } حال -أيضاً- فيتعلق بمحذوف ، والمعنى : يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين ، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة ، عكس الآية الأخْرَى -وهي قوله تعالى :
{ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } [ يونس : 12 ] - حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة .
و { قِيَاماً وَقُعُوداً } جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن ، وحينئذ يتأوَّلان على معنى : ذوي قيام وقعود ، ولا حاجة إلى هذا .
فصل
قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وابنُ عباس ، والنَّخعيّ ، وقتادة : هذا في الصلاة ، يُصلي قائماً ، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ .
وقال سائر المفسّرين : أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال ، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات .
قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنها عطف على الصلة ، فلا محلَّ لها .
والثاني : أنها في محل نصبٍ على الحالِ ، عطفاً على { قِيَاماً } أي : يذكرونه متفكِّرين .
فإن قيل : هذا مضارع مثبت ، فكيف دخلت عليه الواو؟ .
فالجوابُ : أن هذه واو العطف ، والممنوع إنما هو واو الحال .
و « خَلْق » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على أصْله ، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة ، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله .
الثاني : أنه بمعنى المفعول ، أي : في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف ، أي : يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها .
وقال أبو البقاء : « وأن يكون بمعنى المخلوق ، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى » .
قال شِهَابُ الدّينِ : « وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه ، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل » .
فصل
{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } وما أبدع فيهما؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع ، [ ويعرفوا ] أن لهلا مُدَبِّراً حَكِيماً .
وقال بعض العلماءِ : الفكرة تُذْهِب الغفلة ، وتُحْدِث للقلب خشية ، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات ، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفِكْرة .
واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين :
دلائل الآفاق ، ودلائل الأنفس ، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض؛ لأن دلالتها أعجب ، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها ، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين ، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة ، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى ، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر ، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً ، وأسراراً عجيبةً ، وان الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض ، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء -بتقدير العزيز العليم- ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة ، وكيفية التدبير في إيجادها ، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه ، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة ، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات -مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم- وإلى الأرض- مع ما فيها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان -عرف أن تلك الورقة- بالنسبة إلى هذه الأشياء- كالعدم ، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير ، عرف أنه لا سبيل لَهُ -ألبتة- إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ -مع هذا- إلا الاعترافُ بأنَّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين ، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة -وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها- فعند ذلك يقول : { سُبْحَانَكَ } والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد ، ويشتغل بالدعاء ، فيقول : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } .
قوله : { رَبَّنَآ } هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف ، تقديره : يقولون ، والجملة القولية فيها وجهان :
أظهرهما : أنها حال من فاعل « يَتَفَكَّرُونَ » أي : يتفكرون قائلين قائلين ربنا ، وإذا أعربنا « يَتَفَكَّرُونَ » حالاً -كما تقدم- فيكون الحالان متداخلين .
والوجه الثاني : « هَذَا » إشارة إلى الخلق ، إن أريد به المخلوق ، وأجاز أبو البقاء -حال الإشارة إليه ب « هذا » - أن يكون مصدراً على حاله ، لا بمعنى المخلوق ، وفيه نظرٌ .
أو إلى السّموات والأرض -وإن كانا شيئين ، كل منهما جمع -لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب ، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ .
قوله : « بَاطِلاً » في نصبه خمسةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : خَلْقاً باطلاً ، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر .
الثاني : أنه حالٌ من المفعولِ به ، وهو « هَذَا » .
الثالث : أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ -وهو الباء- والمعنى : ما خلقتهما بباطلٍ ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ .
الرابع : أنه مفعول من أجله ، و « فاعل » قد يجيء مصدراً ، كالعاقبة ، والعافية .
الخامس : أنه مفعولٌ ثانٍ ل « خلق » قالوا : و « خلق » إذا كانت بمعنى « جَعَلَ » التي تتعدى لاثنين ، تعدّت لاثنين . وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ ، بل المعروف أن « جعل » إذا كانت بمعنى « خلق » تعدت لواحدٍ فقط .
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ « هَذَا » وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ ، وهي كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } [ الدخان : 38 ] .
قوله : { سُبْحَانَكَ } تقدم إعرابه ، وهو معترض بين قوله : { رَبَّنَآ } وبين قوله : { فَقِنَا } .
وقال أبو البقاء : « دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ ، والتقدير : إذا نَزهناك ، أو وحَّدْناك فقنا » .
وهذا لا حاجةَ إليه ، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ } طلبهم وقاية النار .
وقيل : هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه { سُبْحَانَكَ } من معنى الفعل ، أي : سبحانك فقنا . وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء .
فصل
قالتِ المعتزلةُ : دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى ، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد ، ولأجل الحكمة ، والمراد منها رعاية مصالح العباد ، قالوا : لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان خلقهما باطلاً ، وذلك ضد هذه الآية ، قالوا : وقوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً .
وأجابَ الواحدي : بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ ، مُتْقَنٌ ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] ؟ وقوله : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } [ النبأ : 12 ] . فكان المرادُ من قوله : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } هذا المعنى ، لا ما ذكره المعتزلة .
فإن قيل : هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ :
الأول : لو كان المرادُ بالباطلِ : الرخو ، المتلاشي؛ لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق ، وذلك باطلٌ .
الثاني : أنه إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه؛ لأن التقدير : ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ . فعلى قولنا يحسن النظم ، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ .
الثالثُ : أنه -تعالى- ذكر هذا في آيةٍ أخْرى ، فقال : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] وقال في آية أخرى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق } [ الدخان : 38- 39 ] وقال : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق } [ المؤمنون : 115 و 116 ] . أي : فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً ، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى .
فالجواب : أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته ، وإما ممكن لذاته ، وشاهدة بانّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته ، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللهِ ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ -تعالى- بالمصالح وأما قوله : لو كان كذلك لكان قوله : { سُبْحَانَكَ } تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة ، وذلك باطلٌ ، فجوابُهُ : لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ : ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب ، بل خلقته صلباً محكماً؟ وقوله : { سُبْحَانَكَ } معناه : أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً ، شديدةً ، باقيةً ، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به .
وأما قولهم : إنما يحسن وصل قوله : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } به إذا فسَّرناه بقولنا ، فالجوابُ : لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله : { سُبْحَانَكَ } اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه ، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة ، فقال : { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } وهذا الوجه أحسن في النظم .
وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث ، واللعب ، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه ، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ .
وقوله : { سُبْحَانَكَ } إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللهِ في خلق السمواتِ والأرضِ . يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر .
والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه ، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ ، ثم يذكر بعده الدعاء ، كهذه الآيةِ .
قوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار } « من » شرطية ، مفعول مقدم ، واجب التقديم ، لأن له صدرَ الكلام ، و « تُدْخِل » مجزوم بها ، و { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } جوابٌ لها .
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين :
الأول : أن تكون « من » منصوبة بفعل مقدَّر ، يُفَسِّره قوله : { فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } . وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب ، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط .
الثاني : أن تكون « مَنْ » مبتدأ ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ . وهذان الوجهان غلط ، والله أعلم . وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبراً لِ « إنَّ » . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً -والأكثر الرباعي ، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح- وخزايةً- إذا استحيا -فالفعلُ واحدٌ ، وإنما يتميز بالمصدرِ .
قال الواحديُّ : الإخزاء -في اللغو- يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض .
قال الزَّجَّاجُ : أخْزَى الله العدُوَّ : أي : أبعده .
وقال غيره : أخزاه اللهُ : أي : أهانه .
وقال شمر : أخزاه اللهُ : أي : فضحه ، وفي القرآن : { وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } [ هود : 78 ] .
وقال المفضَّلُ : أخزاه الله : أي : أهلكه .
وقال ابنُ الأنباري : الخِزْي -في اللغة- الهلاك بتلف أو انقطاع حجة ، أو وقوع في بلاء ، وكل هذه الوجوه متقاربة .
وقال الزمخشريُّ : « فَقَدْ أخْزَيْتَهُ » أي : أبلغت في إخزائه .
فصل
قالت المعتزلةُ : هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ -من أهل الصَّلاةِ- ليس بمؤمن؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللهُ؛ لدلالة هذه الآية ، والمؤمن لا يخزى؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] فوجب من [ مجموع هاتين ] الآيتين ألا يكن صاحب الكبيرةِ مؤمناً .
والجواب أن قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً ، وإنما يقتضي ألا يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ .
وأجاب الواحديُّ في « البسيط » بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ .
أحدها : أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ ، والثوري ، وقتادة ، أن قوله : « فَقَدْ أخْزَيْتَهُ » مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ . وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ ، فإنَّما يدخلها للخلودِ فيها .
وثانيها : أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله ، وإن كان عاقبته أن يخرج منها . وهذا -أيضاً- ضعيفٌ؛ لأنَّ نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق ، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين -بين كونه مؤمناً ، وبين كونه كافراً -من يدخل النار- منافاةٌ .
وثالثها : أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن « :
أحدهما : الإهانة والإهلاك . وثانيهما : التخجيل ، يقال : خَزِيَ خِزَايةً : إذا استحيا ، وأخزاهُ غيرُه : إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه .
قال ابنُ الخطيبِ : » واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ : أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على معنييه جميعاً ، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] غير المثبت في قوله : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } وعلى هذا يسقط الاستدلالُ ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين ، أما إذا كان لفظاً متواطئاً ، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ ، سقط هذا الجوابُ؛ لأن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] لنفي الجنس ، وقوله : « فقد أخزيته » لإثبات النوع ، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما « .
قال القرطبيُّ : » وقال أهل المعاني : الخِزي أن يكون بمعنى الحياء ، يقال : خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا ، فهو خَزْيان .
قال ذو الرمة : [ البسيط ]
1714- خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ ... مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ
فخِزْي المؤمنينَ -يومئذٍ- استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا ، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ ، والمؤمنون يموتون ، فافترقوا ، كذا ثبت في صحيح السنة ، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ ، أخرجه مسلمٌ « .
فصل
احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى ، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى ، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ ، وإنما قُلْنا : صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، والمؤمنُ لا يُخْزَى ، وإنما قلنا : إنه مؤمنٌ؛ لقوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] سمي الباغي -حال كونِهِ باغياً- مؤمناً ، والبغي من الكبائر بالإجماع ، وأيضاً قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] سمى القاتلَ -بالعَمْد العدوان- مؤمناً ، فثبت أنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ ، وإنما قلنا : إن المؤمن لا يُخْزَى؛ لقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] ولقوله :
{ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 194 ] ، ثم قال : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] وهذه الاستجابة تدل على أنه -تعالى- لا يخزي المؤمنين ، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى؛ لقوله تعالى : { إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } فثبت -بهاتين المقدمتين- أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار .
والجوابُ : ما تقدم من أن قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } [ التحريم : 8 ] إنما يدل على نَفْي الإخزاء مع النَّبِيّ ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ .
عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع ، منها قوله تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [ مريم : 71 ] ثم قال : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } [ مريم : 72 ] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الحِزْي .
ومنها : أنَّ الملائكةَ -الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونون في النَّارِ ، وهُمْ -أيضاً- مصونونَ عَنِ الخزي ، قال تعالى : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .
قوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } « مِنْ » زائدة ، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ ، وفي مجرورها وجهانِ :
أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره في الجارّ قبله ، وتقديمه -هنا- جائزٌ لا واجبٌ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً .
الثاني : أنه فاعل بالجارِّ قبله ، لاعتماده على النفي ، وهذا جائزٌ عند الجميعِ .
فصل
تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق؛ وذلك لأن الشفاعة ، نوع نُصْرَةٍ ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ ، والجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ -بالإطلاقِ- هم الكفَّارُ ، قال تعالى : { والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] ويؤكّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100- 101 ] .
ثانيها : أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللهِ تَعَالَى ، قال تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن ، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللهِ تَعَالَى ، فقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله ، كما قال : { أَلاَ لَهُ الحكم } [ الأنعام : 62 ] وقال : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] .
فإن قيل : فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ -بهذا الحكمِ- فائدةٌ .
فالجوابُ : بل فيه فائدةٌ ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ ، والنجاةِ من العقابِ ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك ، فصَحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ .
ثالثها : أن هذه الآيةَ عامةٌ ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ .
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
« سمع » إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ -نحو : سمعتُ كلامكَ وقراءتك -تَعَدَّتْ لواحدٍ ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ -بأن كان ذاتاً- فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه ، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع ، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، وللنحويين -في هذه المسألة- قولانِ :
أحدهما : أنها تتعدى فيه -أيضاً- إلى مفعولٍِ واحدٍ ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالاً ، إن كان معرفة .
والثاني : -قول الفارسيُّ وجماعة- : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلِّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهورِ يكون « يُنَادِي » في محل نَصْبٍ ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ .
وقال الزمخشريُّ : « تقول : سمعت رجلاً يقولُ كذا ، وسمعت زيداً يتكلمُ ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً منه ، فأغناك عن ذِكْره ، ولولا الوصف أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ ، وأن تقول : سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ » .
وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره .
إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال « وقوله : ولولا الوصفُ أو الحالُ . . . إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ ، ويدخل » سَمِعَ « على ذات على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع -وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً- ومنه قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكر طرف الدعاء عن ذكر المسموع » .
وأجاز أبو البقاء في « يُنَادِي » أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في « مُنَادِياً » . فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين « مُنَادِياً » و « يُنَادِي » ؟
فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ، ثم مقيَّداً بالإيمانِ ، تفخيماً لشأن المُنَادِي؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروبِ ، أو لكفاية بعض النوازلِ ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق ، ويهدي لسدادِ الرأي ، وغير ذلك فإذا قُلْتَ : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته .
وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ :
أحدها : التوكيد ، نحو : قُم قَائِماً .
الثاني : أنه وصل به ما حسَّن التكرير ، وهو الإيمان .
الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون « سَمِعَ » مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ ، فلمَّا قال : « يُنَادي » محذوفٌ ، أي : ينادي في الناس ، وبجوز ألا يُرادَ مفعول ، نحو : أمات وأحيا .
ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ ، وب « إلى » أخرى ، وكذلك نَدَبَ .
قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى « إلى » ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة -أي : لأجل الإيمان- كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى -إذا وفَّقه الله لذلك- صار كأن يدعو إلى الهُدَى ، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ ، كما قيل -في جهنم- : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى } [ المعارج : 17 ] إذْ كان مصيرهم إليها .
فصل
اختلفوا في المراد بالمنادِي : فقال ابنُ مسعود ، وابنُ عباسٍ ، وأكثرُ المفسّرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقال القرطبيُّ : يعني القرآن؛ إذ ليس كلهم سَمِعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللهُ -تعالى- عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ } [ الجن : 1- 2 ] . قوله : « أَنْ آمَنُوا » في « أن » قولان :
أحدهما : أنها تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ .
ثانيهما : أنها مصدرية ، وصلت بفعل الأمرِ ، وفي وَصْلِها به نظرٌ ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم . كتبت إليه بأن قُمْ فهي -هنا- مصدرية [ ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية ] فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ -الجرُّ والنصبُ .
قوله : « فآمَنَّا » عطف على ما « سَمِعْنَا » والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة ، والمعنى : فآمنا بربنا .
قوله : { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ :
أحدهَا : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية .
ثانيها : التكفير ، وهو التغطية -أيضاً- يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح -أي : مُغَطَّى -ومنه الكُفْر- أيضاً-
قال الشاعرُ : [ الكامل ]
1715- ... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا
فالمغفرة والتكفير -بحسب اللغة- معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ .
وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنفُ .
وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ .
وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل .
ثالثها : قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم ، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ ، وقيل : تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، فيتعلق بمحذوف .
وأجازَ مَكِّيٍّ ، وأبو البقاءِ : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبراراً مع الأبرارِ ، كقوله : [ الوافر ]
1716- كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
أي : كأنك جمل من جمال .
قال أبو البقاء : « [ تقديره ] أبراراً مع الأبرار ، وأبراراً -على هذا- حالٌ » . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ -كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ ، بزنة : كَتِف وأكتاف ، ورَبّ وأرْبَاب .
قال القفّالُ : في تفسير هذه المعية وجهانِ :
أحدهما : أن وفاتهم معهم : هي أن يموتوا على مثل أعمالهم ، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ ، كما تقول : أنّا مع الشافعي في هذه المسألة ، أي : مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ .
ثانيهما : أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار ، كقوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين } [ النساء : 69 ] .
فصل
احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين :
الأول : أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً ، ثم أجابهم الله تعالى بقوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] وهذا صريحٌ في أنه -تعالى- قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ .
الثاني : أنه -تعالى- حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم ، ثم قالوا : { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } [ آل عمران : 195 ] فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ ، إما ابتداء -بأن يعفوَ عنه ، ولا يُدخلَهم النار -بأن يُعَذِّبهم مدةً ، ثم يعفوَ عنهم ، ويُخْرِجَهم من النار .
قوله تعالى : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنه متعلق ب « وعدتنا » .
قال الزمخشريُّ : « على -هذه- صلة للوعد ، كما في قولك : وعد الله الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ ، والمعنى : ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } [ النور : 54 ] .
وردَّ عليه أبو حيّان : بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد ، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن ، أو وَصْفَيْن ، أو خَبَرَيْن ، أو صِلَتَيْن تعلُّقاً بكون مطلق ، والجار -هنا- وقع حالاً ، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً ، وهو منزَّل ، أو محمول؟
ثالثها : -ذكره أبو البقاء- أن يتعلق » على « ب » آتِنَا « وقدر مضافاً ، فقال : على ألْسِنة رسُلك وهو حسن . وقرأ الأعمشُ : على رُسُلِكَ -بسكون السّينِ .
فإن قيل : إن الخُلْف في وَعْد اللهِ -تعالى- محالٌ ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة؟
فالجوابُ من وجوهٍ :
الأول : أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية ، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة كقوله : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } [ الأنبياء : 111 ] وقوله :
{ فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] .
الثاني : أنَّ وعدَ اللهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم ، بل بحسب أوصافهم ، فإنه -تعالى- وعد المتقين بالثوابِ ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب ، فقوله : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } معناه : وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك ، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي .
الثالث : أن اللهَ -تَعَالَى- وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم ، فهُم طلبوا تعجيل ذلك .
فصل
دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق؛ لقولهم : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } ثم قالوا : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ .
فإن قيلَ : متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم : { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } بل لو طلب ترك العقاب -أولاً- ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ؟
فالجوابُ من وجهينِ :
الأول : أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مرونة بالتعظيم والسرور ، فقوله : { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } المراد منه المنافعُ وقوله : { وَلاَ تُخْزِنَا } المرادُ منه التعظيمُ .
الثاني : ما تقدم من أنَّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة ، والعصمة عن المعصية ، كأنه قيل : وفقنا للطاعات ، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها ، ويوقعنا في الخزي . وعلى هذا يحسن النظم . و « الميعاد » مصدر بمعنى الوَعْد .
قوله : { يَوْمَ القيامة } فيه وجهان :
الأول : أنه منصوب ب { وَلاَ تُخْزِنَ } .
والثَّاني : أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب { وَلاَ تُخْزِنَ } وب { وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا } إذا كان الموعود به الجنة .
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
{ فاستجاب } لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب ( * ) { } بمعنى : أجَابَ ويتعدى بنفسه وباللام ، وتقدم تحقيقه في قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } .
ونقل تاج القراء أن « أجَابَ » عام ، و « اسْتَجَابَ » خاص في حصول المطلوب .
قال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم . وقال جعفر الصادق : من حزبه أمرٌ فقال خمس مرات « ربَنا » نجّاه مما يخاف ، وأعطاه ما أراد ، قيل : وكيف ذلك؟ قال اقرءوا : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً } [ آل عمران : 191 ] إلى قوله : { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 194 ] .
قوله تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ } الجمهور على فتح « أن » والأصل : بأني ، فيجيء فيها المذهبان ، وقل أن يأتي على هذا الأصل ، وقرأ عيسى بن عمر بالكسر ، وفيها وجهان :
أحدهما : على إضمار القول أي : فقال : إني .
والثاني : أنه على الحكاية ب « استجاب » ؛ لأن فيه معنى القول ، وهو رأي الكوفيين .
قوله : « لا أضيع » الجمهور على « أضيع » من أضاع ، وقرئ بالتشديد والتضعيف ، والهمزة فيه للنقل كقوله : [ الطويل ]
1717- كمُرْضِعَةٍ أوْلاَدَ أخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنِ الْقَصْدِ
قوله : « منكم » في موضع جر صفة ل : « عامل » ، أي : كائناً منكم .
قوله : « من ذكر وأنثى » فيه خمسة أوجهٍ :
أحدها : أن « مِنْ » لبيان الجنسِ ، بيِّن جنس العامل ، والتقدير : الذي هو ذكرٌ أو أنثى ، وإن كان بعضهم قد اشترطَ في البيانيةِ أن تدخلَ على معرَّفٍ بلامِ الجنسِ .
ثانيها : أنَّهَا زائدةٌ ، لتقدم النفي في الكلام ، وعلى هذا فيكون { مِّن ذَكَرٍ } بدلاً من نفس « عَامِلٍ » ، كأنه قيل : عامل ذكر أو أنثى ، ولكنْ فيه نظرٌ؛ من حيثُ إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه « من » .
ثالثها : أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكن في « مِنْكُمْ » ؛ لأنه لما وقع صفة تحمَّل ضميراً ، والعامل في الحال العامل في « مِنْكُمْ » أي : عامل كائن منكم كائناً من ذكر .
رابعها : أن يكون « مِنْ ذكرٍ » بدلاً من « مِنْكُمْ » ؛ قال أبو البقاء : « وهو بدلُ الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة » .
يعني فيكون بدلاً تفصيليًّا بإعادة العامل ، كقوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] وقوله : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] وفيه إشكالٌ من وجهينِ :
الأول : أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل ، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش ، وقيَّد بعضُهم جوازه بأن يفيد إحاطة ، كقوله : [ الطويل ]
1718- فَمَا بَرِحَتْ أقْدامُنَا فِي مَكَانِنَا ... ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أرينَا الْمَنَائِيَا
وقوله تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] فلما أفاد الإحاطةَ والتأكيدَ جاز ، واستدل الأخْفَش بقول الشَّاعرِ : [ البسيط ]
1719- بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا
وقول الآخرِ : [ الطويل ]
1720- وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بِي إلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلئِمٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُدَجَّلِ
ف « قريش » بدلٌ من « كم » و « بمستلئم » بدل من « بي » بإعادة حرف الجر ، وايس ثَمَّ إحاطة ولا تأكيد ، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفشِ دون الجمهورِ .
الثاني : أن البدلَ التفصيليّ لا يكون ب « أو » إنما يكون بالواو؛ لأنها للجمع .
كقولِ الشّاعرِ : [ الطويل ]
1721- وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيِنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
ويُمكن أن يجابَ عنه بأن « أو » قد تأتي بمعنى الواو .
كما في قول الشّاعرِ : [ الكامل ]
1722- قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِعِ
ف « أو » بمعنى الواو ، لأن « بين » لا تدخل إلا على متعدد ، وكذلك هنا لما كان « عامل » عاماً أبْدِلَ منه على سبيل التوكيدِ ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه؛ لأنه لا يؤكَّد العموم إلا بعموم مثله .
خامسها : أن يكون { مِّن ذَكَرٍ } صفة ثانية لِ « عامل » قصد بها التوضيح ، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها .
قوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } مبتدأٌ وخبرٌ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ :
الأولُ : أنَّ هذه الجملةَ استئنافيةٌ ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجالِ في الثَّواب الذي وَعَدَ الله به عباده العاملين؛ لأنه روي في سبب النزولِ ، أنَّ أمَّ سلمة رضي الله عنها قالت : يَا رَسُولَ اللهِ إني لأسْمَع الله يذكر الرِّجَالَ في الهجرة ، ولا يذكر النَِّسَاءَ ، فنزلت الآية .
والمعنى : كما أنكم من أصلٍ واحدٍ ، وأن بعضكم مأخوذٌ من بعضٍ ، كذلك أنتم في ثواب العملِ ، لا يُثابُ عامل دون امرأةٍ عاملةٍ . وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بأنها جملة معترضة ، قال : « وهذه جملةٌ معترضةٌ ثبت بها شركة النساءِ مع الرّجال فيما وعد اللهُ عباده العاملينَ » .
ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله : { عَمَلَ عَامِلٍ } وبين ما فُصِّل به عملُ العاملِ من قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } ولذا قال الزمخشريُّ : { فالذين هَاجَرُواْ } تفصيل لعمل العاملِ منهم على سبيل التعظيمِ لَهُ .
الثاني : أنَّ هذه الجملَة صِفَةٌ .
الثالث : أنَّها حالٌ ، ذكرهما أبو البقاءِ ، ولم يُعيِّن الموصوف ولا ذا الحال ، وفيه نظرٌ .
قال الكلبي : « بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » في الدين والنصرة والموالاة .
وقيل : كلكم من آدم وحوَّاء ، وقال الضّحّاك : [ رجالكم ] شكب نسائكم ، ونساؤكم شكل رجالِكم في الطاعات؛ لقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] .
وقيل : « مِنْ » بمعنى اللامِ ، أي : بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية .
قال القفَّالُ : هذا من قولكم : فرن مني ، أي : عَلَى خلقي وسيرتي . قال تعالى : { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } [ البقرة : 249 ] وقال عليه السَّلامُ : « مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا » فقوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي : بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية .
فصل
ليس المرادُ أنه لا يُضِيع نفس العمل؛ لأن العملَ -كما وجد- تلاشى وفني ، بل المرادُ أنه لا يُضِيع ثوابَ العملِ ، والإضاعة : عبارة عن تَرْكِ الإثابةِ ، « لاَ أضِيعُ » نفي للنفي ، فيكون إثباتاً ، فيصير المعنى : إني أوَصِّل ثوابَ أعمالِكم إليكم ، وإذا ثبت ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً ، وبمعصيته استحق عقاباً ، فلا بد من وصولهما إليه -بحكم هذه الآية- والجمع بينهما مُحَالٌ ، فإما أن يقدم الثواب ، ثم يعاقب ، وهو باطلٌ بالإجماعِ ، أو يقدم العقاب ، ثم ينقل إلى الثّوابِ . وهو المطلوب .
فإن قيلَ : القوم طلبوا -أولاً- غفران الذنوب ، وثانياً : إعطاء الثواب ، فقوله : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } إجابة لهم في إعطاء الثواب ، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب .
فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب ، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن .
قال ابنُ الخطيبِ : « وعندي -في الآية- وَجْه آخر ، وهو أن المراد من قوله : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } أي لا يضيع دُعاءكم . وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء ، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه » .
قوله : { فالذين هَاجَرُواْ } مبتدأ ، وقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } جواب قسم محذوف ، تقديره : والله لأكَفِّرَنَّ ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ . وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقولِ الشاعر : [ الكامل ]
1723- جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ ... وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ
رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً ، وله أن يقول : هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ -وله نظائر .
والظاهرُ أن هذه الجُمَل -التي بعد الموصولِ- كُلَّها صِلات له ، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ : المهاجرة ، والقَتْل ، والقتال .
ويجوز أن يكون ذلك على التنويع ، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم ، والتقدير : فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا ، والذين قاتلوا : فيكون الخبر بقوله : { لأُكَفِّرَنَّ } عمن اتصف بواحدةٍ من هذه . وقرأ جمهورُ السبعة : « وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا » ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ ، والثاني للمفعول ، وهي قراءة واضحة . وابنُ عامرٍ ، وابن كثيرٍ كذلك ، إلا أنهما شدَّدَا التاء من « قُتلوا » للتكثير ، وحمزة والكسائي بعكس هذا ، ببناء الأولِ للمفعول ، والثاني للفاعلِ ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ :
الأول : أنّ الواو لا تقتضي الترتيب ، كقوله :
{ واسجدي واركعي } [ آل عمران : 43 ] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى ، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ .
الثاني : أن تحمل ذلك على التوزيع ، أي : منهم مَنْ قُتِلَ ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم : قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله : { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا . وقرأ عمر بن عبد العزيز وقَتَلوا وقُتِلوا -ببناء الأولِ للفاعل ، والثاني للمفعول -من « فعل » ثلاثياً ، وهي كقراءة الجماعة ، وقرأ محارب بن دثار : وقَتَلوا وقَاتَلُوا -ببنائهما للفاعل- وقرأ طلحة بن مُصرِّف : وقُتِّلوا وقاتلوا ، كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أنه شدد التاء ، والتخريج كتخريج قراءتهما . ونقل أبو حيّان -عن الحسنِ وأبي رجاء- قاتلوا وقتّلوا ، بتشديد التاءِ من « قُتّلوا » وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ -كما تقدم- وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما .
فصل
هذه في المهاجرينَ الذين أخرجهم المشركون من ديارهم ، فقوله : { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أي : في طاعتي وديني .
{ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً } قوله : « ثواباً » في نصبه ثمانية أوجهٍ :
أحدها : أنه نصب على المصدر المؤكد؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه ، والتقدير : لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً ، فوضع « ثَوَاباً » موضع أحد هذينِ المصدرينِ؛ لأن الثوابَ -في الأصل- اسم لما يُثَابُ به ، كالعطاء -اسم لما يُعْطَى- ثم قد يقعان موضع المصدر ، وهو نظير قوله : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] و { وَعْدَ الله } [ القصص : 13 ] في كونهما مؤكدينِ .
ثانيهما : أن يكون حالاً من « جَنَّاتٍ » أي : مثاباً بها - وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها بالصفة .
ثالثها : أنها حالٌ من ضمير المفعول ، أي : مثابين .
رابعها : أنه حالٌ من الضمير في « تَجْرِي » العائد على « جَنَّات » وخصَّص أبو البقاء كونه حالاً بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ ، قال : وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به ، كقولك : هذا الدرهم ثوابك ، فعلى هذا يجوز أن يكونَ حالاً من [ ضمير الجنّاتِ ، أي : مثاباً بها ، ويجوز أن يكون حالاً من ] ضمير المفعول به في « لأدْخِلَنَّهُم » .
خامسها : نصبه بفعل محذوف ، أي : نعطيهم ثواباً .
سادسها : أنه بدل من « جَنَّاتٍ » وقالوا : على تضمين « لأدْخِلَنَّهُمْ » لأعْطِيَنَّهُمْ ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه ، احتاجوا إلى ذلك .
ولقائل أن يقول : جعل الثواب ظرفاً لهم ، مبالغة ، كما قيل في قوله : { تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] .
سابعها : أنه نصب على التمييز ، وهو مذهب الفرّاء .
ثامنها : أنه منصوبٌ على القطعِ ، وهو مذهبُ الكسائيّ ، إلا أن مكِّياً لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ .
وقوله : { مِّن عِندِ الله } صفةٌ له ، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف ، كقول السلطانِ العظيم : أخلع عليك خلعة من عندِي .
قوله : { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } الأحسن أن يرتفع { حُسْنُ الثواب } على الفاعلية بالظرف قبله؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله ، والتقدير : والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ .
ويجوز أن يكون مبتدأ ، والظرف قبله خبره ، والجملة خبرُ الأولِ .
وإنما كان الوجه الأول أحسنَ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد -وهو الأصل- بخلاف الثّانِي ، فإنَّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ .
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)
الغرور : مصدر قولك : غَرَرْت الرجل بما يستحسنه في الظاهر ، ثم يجده -عند التفتيش- على خلاف ما يجب .
نزلت في المشركينَ ، وذلك أنهم كانوا في رخاءٍ ولينٍ من العيش وتنعم ، فقال بعض المؤمنينَ : إنَّ أعداءَ اللهِ فيما نرى من الخير ، ونحن في الجَهْد ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ } في ضَرْبهم « فِي الْبِلادِ » وتصرُّفهم في الأرض للتجارات وأنواع المكاسب . فالخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمرادُ منه غيره .
قال قتادةُ : واللهِ ما غروا نبيَّ الله قط ، حتى قبضه اللهُ تَعَالَى ، ويمكن أن يقالَ : سبب عدم إغراره هو تواتُر الآيات عليه ، لقوله : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] فسقط قولُ قتادةَ .
قوله : « مَتَاعٌ » خبر مبتدأ محذوف ، دَلَّ عليه الكلام ، تقديره : تقلبهم ، أو تصرفهم متاع قليل . والمخصوص بالذم محذوف ، أي : بئس المهاد جهنم . ومعنى « مَتَاعٌ قَلِيلٌ » أي : بُلْغة فانية ، ومُتْعة زائلة .
وإنما وصفه بالقِلَّة؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع ، وكيف لا يكون قليلاً وقد كان معدوماً من الأزل إلى الآن ، وسيصير معدوماً من الأزل وإلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي -وهو الأزل والأبد- كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثُمّ قال بعده : { ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } يعني أنه مع قلته يؤول إلى المَضَرَّة العظيمةِ ، ومثل ها لا يُعَدُّ نِعْمَةً .
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
قرأ الجمهورُ بتخفيف « لكن » وأبو جعفر بتشديدها ، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء ، وعند يونس يجوز إعمال المخففة ، وعلى الثانية في محل نصب .
ووقعت « لكِن » هنا أحسن موقع؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن ، وذلك أن معنى الجملتينِ -التي بعدها والتي قبلها- آيلٌ إلى تعذيب الكفار ، وتنعيم المؤمنين المتقين . ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة ، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها ، جاز أن يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة -من حيث هي- متصفة بذلك ، فاستدرك أنَّ المتقينَ -وإن أخذوا في التجارة- لا يضرهم ذلك ، وأنَّ لهم ما وعدهم به .
قوله : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ :
أحدهما : الرفع ، على النعت لِ « جَنَّاتٌ » .
والثاني : النصبُ ، على الحال من الضمير المستكن في « لَهُمْ » قال : « وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في » لَهُمْ « إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت » جَنَّاتٌ « بالابتداء ، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في » لَهُمْ « ضميرٌ مرفوعٌ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله » . يعني أنّ « جَنَّاتٌ » يجوز فيها رفعها من وجهين :
أحدهما : الابتداء ، والجار قبلها خبرها ، والجملة خبر « الَّذِينَ اتَّقوا » .
ثانيهما : الفاعلية؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِ « الَّذِينَ اتَّقَوْا » . وقد تقدم أن هذا أوْلَى ، لقُربه من المفرد .
فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وجهان : وجهان : الرفع على النعت ، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في « لَهُمْ » لتحمُّله -حينئذٍ- ضميراً .
وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع؛ نعتاً لها ، ولا يجوز النصبُ على الحال ، لأن « لَهُمْ » ليس فيه -حيئذٍ- ضمير؛ لرفعه الظاهر .
و « خَالِدِينَ » نُصِبَ على الحالِ من الضمير في « لَهُمْ » والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ .
قوله : « نُزُ لاً » النُّزُل : ما يُهَيَّأ للنزيل -وهو الضيف .
قال أبو العشراء الضبي : [ الطويل ]
1724- وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا
هذا أصله ، ثم اتُّسِع فيه ، فأطلق على الرزق والغذاء -وإن لم يكن لضيف- ومنه قوله تعالى : { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ الواقعة : 93 ] وفيه قولانِ ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل ، كقول الأعشى : [ البسيط ]
1725- .. أو تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ :
أحدهما : أنه منصوب على المصدر المؤكّد ، لأنه معنى « لَهُمْ جَنَّاتٌ » : نُنْزِلُهم جنات نزلاً ، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله : « كأنه قيل : رزقاً ، أو عطاءً من عند اللهِ » .
ثانيها : نصبه بفعل مُضْمَر ، أي : جعلنا لهم نُزُلاً .
ثالثها : نَصبه على الحال من « جَنَّات » لأنها تخصَّصَت بالوَصْف .
رابعها : أن يكون حالاً من الضمير في « فِيهَا » أي مُنزّلةً -إذا قيل بأنّ « نُزلاً » مصدر بمنى المفعول نقله أبو البقاءِ .
خامسها : أنه حالٌ من الضمير المستكن في « خَالِدِينَ » -إذا قُلْنَا : إنه جمع نازل- قاله الفارسيُّ في التذكرة .
سادسها : وهو قول الفرّاء -نصبه على التفسير- أي التمييز- كما تقول : هو لك هبةً ، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً .
والجمهور على ضم الزاي ، وقرأ الحسنُ ، والأعمشُ ، والنَّخَعِيُّ ، بسكونها ، وهي لغةٌ ، وعليها البيتُ المتقدم . وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس ، والحق الأول .
قوله : { مِّنْ عِندِ الله } فيه ثلاثة أوجه ، لأنك إن جعلت « نُزُلاً » مصدراً ، كان الظرفُ صفةً له ، فيتعلق بمحذوف ، أي : نزلاً كائناً من عند اللهِ أي : على سبيلِ التكريمِ ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ :
أحدهما : جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ ، تقديره : نُزُلاً إياها .
ثانيهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : ذلك من عند الله؛ نقل ذلك أبو البقاءِ .
قوله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ } « ما » موصولة ، وموضعها رفع بالابتداء والخبر « خَيْرٌ » و « للأبْرَارِ » صفة لِ « خير » فهو في محل رفع ، ويتعلق بمحذوفٍ ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس « خَيْرٍ » فإنه قال : و « للأبرارِ » متعلق ب « خَيْرٌ » .
وأجاز بعضهم أن يكون « لِلأبْرَارِ » هو الخبر ، و « خَيْرٌ » خبر ثانٍ ، قال أبو البقاء : « والثاني- أي : الوجه الثاني- : أن يكون الخبر » لِلأبْرَارِ « والنية به التقديمُ ، أي : والذي عند اللهِ مستقرٌّ للأبرارِ ، و » خَيْرٌ « -على هذا- خبرٌ ثانٍ » .
وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس -كالصفة- فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور ، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ؟ .
ونقل أبو البقاء -عن بعضهم- أنه جعل « لِلأبْرَارِ » حالاً من الضمير في الظرف ، « خّيْرٌ » خبر المبتدأ ، قال : « وهذا بعيدٌ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره ، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار » .
قال أبو حيّان : « وقيل : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : الذي عند الله للأبرار خير لهم ، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور -إذ ذاك- يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع صلة للموصوف ، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها » .
فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه -أعني جعل « لِلأبْرَارِ » حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ ، لأنَّ العاملَ في الحالِ -حينئذ- الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً ، فيلزم ما قاله ، وإن عنى به الوجهَ الأول -أعني : جعل « لِلأبْرَارِ » خبراً ، والنية به التقديم وب « خَيْرٌ » التأخير كما ذكر أبو البقاءِ ، فلا يلزم ما قال؛ لأنّ « لِلأبْرَارِ » -حينئذٍ- يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلُّق به الظرفُ .
و « خَيْرٌ » -هنا- يجوز أن يكون للتفضيل ، وأن لا يكون ، فإن كان للتفضيل كان المعنى : وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا ، أو خيرٌ لهم مما ينقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ .
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قال جابرٌ ، وابنُ عبّاسٍ ، وقتادةُ ، وأنسٌ : نزلت في النجاشي -ملك الحبشة- واسمه أصْحَمة ، وهو -بالعربية- عطية ، « وذلك أنه لما مات نعاه جبريلُ -عليه السّلام- لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اخرجوا ، فصلُّوا على أخ لكم مات بِغَيْر أرْضِكم ، فقالوا : مَنْ هو؟ قال النجاشيُّ ، فخرج إلى البقيع ، وكُشِفَ له إلى أرض الحبشةِ ، فأبصر سريرَ النجاشي ، وصَلَّى عليه أربعَ تكبيراتٍ ، واستغفر له ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يُصلي على عِلجٍ حبشيٍّ ، نصرانيٍّ ، لم يَرَه قطّ ، وليس على دينه . » فأنزل الله هذه الآية .
قال عطاءٌ : نزلت في أربعينَ رجلاً من أهل نجرانَ ، واثنينَ وثلاثينَ من الحبشة ، وثمانيةٍ من الرُّوم ، كانوا على دينِ عيسى فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جُرَيْحٍ : نزلت في عبد اللهِ بن سلام وأصحابه . وقال مُجَاهدٌ : نزلتْ في مؤمني أهل الكتاب كُلِّهم .
قوله : { لَمَن يُؤْمِنُ } اللام لام الابتداء ، دخلت على اسم « إنَّ » لتأخُّرهِ عنها ، و « مِنْ أهْلِ » خبرٌ مقدَّمٌ و « من » يجوز أن تكونَ موصولةً -وهو الأظهر- وموصوفة ، أي : ل « قوماً » ، و « يؤمن » صلة -على الأول- فلا محلَّ له ، وصفة -على الثاني- فمحله النصب ، وأتى -هنا- بالصلة مستقبلة- وإن كان ذلك قد مضى -دلالة على الاستمرار والديمومة .
والمعنى : إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللهِ وما أنْزِل إليكم ، وهو القرآنُ ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم ، وهو التوراة والإنجيل .
قوله : { خَاشِعِينَ } فيه أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنه حالٌ من الضمير في « يؤمن » وجَمَعَه ، حَمْلاً على معنى « مَنْ » كما جمع في قوله : « إلَيْهِمْ » وبدأ بالحمل على اللفظ في « يُؤْمِن » ثم بالحَمْلِ على المعنى؛ لأنه الأولى .
ثانيها : أنه حال من الضمير في « إلَيْهِمْ » فالعامل فيه « أنْزِلَ » .
ثالثها : أنه حال من الضمير في « يَشْتَرُون » وتقديم ما في حيِّز « لا » عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة .
رابعها : أنه صفة لِ « من » إذا قيل بأنها نكرة موصوفة . وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة ، سواء كانت موصولةٌ ، أو نكرة موصوفة .
قوله : « للهِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق ب « خَاشِعِينَ » أي : لأجل الله .
ثانيهما : أنه متعلق ب « لاَ يَشْتَرُونَ » ذكره أبو البقاء ، قال : « وهو في نية التأخير ، أي : لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله » .
قوله : { لاَ يَشْتَرُونَ } كقوله : { خَاشِعِينَ } إلا في الوجه الثالث ، لتعذره ، ويزيد عليها وجهاً آخر ، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في « خَاشِعينَ » أي : غير مشترين .
وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل في البقرة .
ومعناه : أنهم لا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهم ، ولا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم لأجل الرياسة والمأكلة ، كفعل غيرهم من رؤساءِ اليهودِ .
واعلم أنه -تعالى- لما بيَّن أنَّ مصير الكفار إلى العقاب ، بيَّن -هنا- أنَّ مِنْ آمنَ منهم فإن مَصيرَه إلى الثَّوابِ .
وقد وصفهم بصفات :
أولها : الإيمان بالله .
ثانيها : الإيمان بما أُنْزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم .
وثالثها : الإيمان بما أُنْزِلَ على الأنبياء قَبْلَه .
ورابعها : كونهم خَاشِعِينَ لله .
وخامسها : أنهم لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً ، كما يفعله أهلُ الكتابِ ممن كان يكتم أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله : { أولاائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ } « أولئك » مبتدأ ، وأما « لَهُمْ أجْرُهُمْ » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون « لَهُمْ » خبراً مقدَّماً ، و « أجْرُهُمْ » مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر الأول ، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ :
الأول : أنه متعلق ب « أجْرُهُمْ » .
الثاني : أنه حال من الضمير في « لَهُمْ » وهو ضمير الأجر ، لأنه واقع خبراً .
ثانيها : أن يرتفع « أجْرُهُمْ » بالجارِّ قبله ، وفي الظرف الوجهان ، إلا أنّ الحال من « أجْرُهُمْ » الظاهر؛ لأن « لَهُمْ » لا ضمير فيه حينئذ .
ثالثها : أن الظرف هو خبر « أجْرُهُمْ » و « لَهُمْ » متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار . ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قال ابنُ الخطيبِ : « ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآدابِ ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان : منها ما يتعلق به وحده ، ومنها ما يكون مشتركاً بينه وبين غيره ، أما القسم الأول فلا بُدَّ فيه من الصَّبْر ، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة » .
قال الحسن : اصبروا على دينكم ، فلا تدعوه لشِدَّةٍ لا رَخَاءٍ .
وقال قتادة : اصبروا على طاعةِ الله ، وصابروا أهل الضلالة ، ورابطوا في سبيل الله .
وقال الضحاكُ ، ومقاتل بنُ سليمان : على أمر اللهِ . وقال مقاتلُ بن حيان : على فرائض الله . وقال زيد بن أسلم : على الجهاد . وقال الكلبيّ على البلاء .
واعلم أن الصبر يدخل تحته أنواع : الصبر على مشقّة النظر والاستدلال على الطاعات ، وعلى الاحتراز عن المنهيَّات ، وعلى شدائد الدُّنْيا من الفَقْر ، والقحط والخوف ، وأما المصابرة فهي تَحَمُّل المكاره الواقعة بينه وبيْنَ غيره ، كتحَمُّل الأخلاق الردئيةِ من أهله وجيرانه وترك الانتقام كقوله تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وإيثار الغير على نفسه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقوله : { اصبروا وَصَابِرُواْ } من الجناس اللفظي ، وكذلك قوله : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] « وصابروا » يعني الكفار ، « ورابطوا » يعني المشركين .
قال أبو عبيدة : « أي : اثبتوا ودَاوِمُوا » والربطُ : الشد ، وأصل المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم بحيث يمون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخرِ ثم قيل لكل مقيم في ثَغْرٍ يدفع عَمَّنْ وراءه : مرابط ، وإن لم يكن له مركوبٌ مربوطٌ .
قال -عليه السلام- : « رِباط يَوْم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، وموضع سَوْطِ أحَدِكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها وما عليها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها » .
{ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال بعضهم : اصبروا على النَّعْماء ، وصابروا على البأساء والضراء ، ورابطوا في دار الأعداء ، واتقوا إله الأرض والسماء ، لعلكم تفلحون في دار البقاء .
وقيل : المرابطة : انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روى أبو سلمةَ بن عبد الرحمن ، قال : لم يكن في زمنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة . واحتج أبو سلمة بقوله صلى الله عليه وسلم : « ألاَ أدلُّكم عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا ، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ ، وَكَثْرةُ الْخُطَا إلى المَسَاجِدِ ، وانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ثُمَّ قَالَ : فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ » ثلاث مراتٍ -وقيل الرباط : اللزوم والثبات ، وهذا المعنى يعم ما تقدم .
روى ابنُ عباسِ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأ السُّورَةَ الَّتِي يُذكر فِيهَا آل عِمْرانَ يَومَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلاَئِكتهُ حَتَّى تُحْجَب الشَّمس » .
وعن أبَيٍّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قرأ آلِ عمرانَ أعْطي بكل آيةٍ منها أمَاناً على جِسْر جَهَنَّمَ » وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ » .
وعن العرس بن عُمَيْرَةَ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ ، وَإنَّهُمَا يَأتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صُورَةِ مَلَكَيْنِ يَشْفَعَانِ لَصَاحِبِهمَا حَتَّى يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ » .
قيل : سُمِّيتَ البَقَرَةُ وآل عمران بالزَّهْرَاوَيْنِ؛ لأنهما نُورَان ، مأخوذ من الزَّهر والزَّهرة .
وقيل : لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئهُمَا بما يُزْهِرُ له من نُورِهما ، أي مَعَانيهما .
وقيل : لما يُثِيبُ على قراءتها من النُّورِ التَّامِّ يوم القيامة .
وقيل : لما تَضَمَّنَتَاهُ من اسْمِ الله الأعظمِ ، كما رَوَى أبو دَاوُدَ وغيره عن أسْمَاءَ بنت يَزيدَ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : { وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] ، والتي في آل عمران : { الله لاا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 2 ] . »
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
قال بعض المفسرين : « ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام ، ذكر فيها أحكاماً كثيرة ، وبذلك ختمها ، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع ، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير » .
فصل
روى الواحدي عن ابن عباس في قوله : { ياأيها الناس } أن هذا الخطاب لأهل مكة .
ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين ، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق ، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة ، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين .
وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة ، بل هو عام ، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً ، والمر بالتقوى عاماً ، وعلة هذا التكليف عامةً ، فلا وجه للتخصيص ، وحجة ابن عباس أن قوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] مختص بالعرب؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم ، فيقولون : « أسألك بالله وبالرحم ، أنشدك الله والرحم » ، وإذا كان كذلك ، كان قوله : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } [ النساء : 1 ] ، مختصاً بالعرب ، فيكون قوله : { ياأيها الناس } مختصاً بهم ، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد .
ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية .
فصل
اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن :
أحدهما : هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن ، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة ، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته .
والثانية : سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد .
فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد ، وهذا سر عظيم .
{ مِّن نَّفْسٍ } متعلق ب « خلقكم » فهو في محل نصب ، و « من » لابتداء الغاية ، وكذلك « منها زوجها وبتَّ منهما » والجمهور على واحدة بتاء التأنيث ، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [ هاهنا ] آدم عليه السلام ، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } [ الكهف : 74 ] .
وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [ تاء ] تأنيث وله وجهان :
أحدهما : مراعاة المعنى؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام .
والثاني : أن النفس تذكر وتؤنث . وعليه قوله : [ الوافر ]
1726- ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
قوله : { وَخَلَقَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه عطفٌ على معنى « واحدة » لما فيه من معنى الفعل ، كأنه قيل : « من نفس وحدت » أي : انفردت ، يُقال : « رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة » انفرد .
الثاني : انه عَطْفٌ على محذوف .
قال الزَّمَخْشرِيُّ : « كأنه قيل : من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها » بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها ، وَإنَّما حمل الزمخشري رحمه الله تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي؛ لأن خلق حواء -وهي المعبر عنها بالزوج- قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك ، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح .
الثالث : أنه عطف على « خَلْقَكُمْ » ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها ، إذ لا تقتضي ترتيباً؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رحمه الله تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [ للمؤمنين ] في { ياأيها الناس } لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال : والثاني أنه يُعْطَفُ على « خلقكم » ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول ، والمعنى : خلقكم من نفس آدم؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [ منه ] وخلق منها أُمَّكم حواء .
فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين ، وفيه نظر ، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في « منها » أي : « مِنْ جِنْسِها زوجَها » ، وهو قول أبي مسلم ، قال : وهو كقوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } [ النحل : 72 ] وقال { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 164 ] وقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ } [ التوبة : 28 ] .
قال : وحواء لم تخلق من آدم ، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم .
قال الْقَاضِي : والأول أقوى لقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } .
قال ابن الخَطِيبُ : « يمكن أن يجاب بأن كلمة » مِن « لابتداء الغاية ، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب ، [ كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب ] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه » .
وقرئ « وخالِقُ وباثٌّ » بلفظ اسم الفاعل ، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : وهو خالِقٌ وباثٌّ .
وَيُقَالُ : بَثَّ وأبَثَّ ومعناه « فَرَّقَ » ثلاثياً ورباعياً .
قال ابن المظفر : « البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء » .
يقال : بَثَّ الخيلَ في الغارة ، وبَثَّ الصَّيادُ كِلاَبَهُ ، وخلق الله الخلق : بَثَّهُمْ في الأرض ، وبثثت البسطة إذا نشتريها . قال تعالى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } [ الغاشية : 16 ] .
فإن قيل : ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب : لما ذكر أنَّه خَلَقَنَا من نفس واحدة ، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه؛ لأنا عبيدة وهو مولانا ، ويجب على العبد الانقياد لمولاه؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان ، فأوجَدَ وأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى ، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعَم بأنواع الخضوع والانقياد؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وِرِبَّاً يجبُ علينا عبادته ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب ، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه ، فكيف وهذا محال؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها ، والداعية إليها [ ومتى حصلت القدرة والداعي كان ] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة ، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر .
وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمالِ القدرة؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان ، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ ، يجب الانقياد لتكاليفه؛ ولأن الله تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [ وذلك لأن الأقارب لا بد أن ] يكون بينهم مواصلة وقرابة ، وذلك يزيد في المحبة ، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم ، فقال : { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ليؤكد شفقة بعضنا على بعض .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ .
فالجواب : لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما ، وذلك محال ، فلهذا عدل إلى قوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } .
وقوله : « كثيراً » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نَعْتٌ ل « رِجَالاً » .
قال أبو البقاء : ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى؛ لأن « رجالاً » بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة } [ يوسف : 30 ] .
والثاني : أنه نعت لمصدر تقديره : وبث منهم بثاً كثيراً؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على لحالِ .
فإن قيل : لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء؟ ففيه جوابان :
أحدهما : أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره : ونساءً كثيرة .
والثاني : أنَّ الرِّجال لشهرتهم [ وبروزهم ] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء ، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء .
قوله : { تَسَآءَلُونَ } قرأ الكوفيون « تَسَاءَلُونَ » بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً ، والأصل : « تتساءلون » به ، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ : هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين؛ لأن مقاربتها في الهمس ، ولهذا تُبْدَلُ من السين ، قالوا : « ست » والأصل « سِدْسٌ » وقرأ عبد الله : « تَسْاَلُون » من سأل الثلاثي ، وقُرِئَ « تَسَلون » بنقل حركة الهمزة على السين ، و « تَسَاءلون » على التفاعل فيه وجهان :
أحدهما : المشاركة في السؤال .
والثاني : أنه بمعنى فَعَلَ ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله .
قال أبُو البَقَاءِ : « وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول؛ لأن المعنى : » تتخالفون : يعني أن الأصل تعدية « تسألون » إلى الضمير بنفسه ، فلما ضُمِّن « تتخلفون » عُدِّي تَعْدِيَتَه « .
قوله : { والأرحام } الجمهور نصبوا الميم ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على لفظ الجلالة ، أي : واتقوا الأرحام أي : لا تقطعوها ، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي : قَطْعَ الأرحام .
ويقال : إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام ، وذلك أن معنى اتقوا الله؛ اتقوا مخالَفَتَه ، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيه ، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج .
قال الواحدي : ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء ، أي : والأرحام احفظوها وصلوها كقولك : الأسدَ الأسدَ ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته .
والثاني : أنه معطوف على محل المجرور في » به « ، نحو : مررت بزيد وعمراً ، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع ، وه يؤيده قراءة عبد الله » وبالأرحام « .
وقال أبو البقاء : تُعَظِّمُونه والأرحام ، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له » ،
وقرأ حمزة « والأرحامِ » بالجر ، قال القفال : وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره ، وفيها قولان .
أحدهما : أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في « به » من غير إعادة الجار ، وهذا لا يجيزه البصريون ، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك ، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب ، واحتجاج كل فريق في قوله تعالى : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة ، كالزجاج وغيره ، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم ، قال : { والأرحام } بخفض [ الأرحام ] هو كقولهم : « أسألك باللَّهِ والرحمِ » قال : « وهذا قبيح؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به ، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير ، وهو لا يجوز .
قال ابن عيس : إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع ، فلا يجوز أن يقال : » اذهب وزيد « و » ذهبت وزيدا « ، بل يقولون : اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد ، قال تعالى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ } [ المائدة : 24 ] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل ، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور ، بسبب أنه قد ينفصل؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور ، مع أنه [ لا ] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى .
والثاني : أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور ، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به ، وجوابُ القسمِ { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } وضُعِّفَ هذا بوجهين :
أحدهما : أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في ب » الأرحام « يمنعان من ذلكَ ، والأصلُ توافق القراءات .
والثاني : أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى ، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك .
وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال : « ورَبِّ الأرحام » .
قال أبو البقاء : وهذا قد أغنى عنه ما قبله « يعني : الحلف بالله تعالى .
ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [ كما أقسم ] بالشمس والنجم والليل ، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك ، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى ، ليس على القسم ، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير ، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها .
وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون : أسألك بالله وبالرحم ، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط ، وهاهنا ليس كذلك ، بل هو حلف باللهِ أولاً ، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم ، وهذا لا ينافي مدلول الحديث .
أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة ، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه ، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوجب القطع بصحة اللغة ، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع ، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان :
أحدهما : ما تقدم من تقدير تكرير الجر ، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم .
والثاني : فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه : [ البسيط ]
1727- فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب
وقال الآخر [ الطويل ]
1728- تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ
وقال آخر [ الوافر ]
1729- أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي ... أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا
وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة .
قال بن الخطيبِ : » والعَجَبُ من هَؤلاء [ النحاة ] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد ، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن « .
وقرأ عبد الله أيضاً » والأرحامُ « رفعاً على الابتداء ، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية : أهلٌ أنْ توصل ، وقَدَّرَهُ الزمخشري : » والأرحام مِمَّا يتقي « أو » مما يتساءل به « .
وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية ، والمعنوية ، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط ، وقَدَّرَهُ أبو البقاء : والأرحام محترمة ، أي : واجبٌ حرمتها .
فإن قيل : ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً : » اتقوا الله الذي خلقكم « . ثم قال بعده : » واتقوا الله « .
فالجواب فائدته من وجوه :
الأول : فائدته تأكيد الأمر والحث عليه .
والثاني : أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب . والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض ، ويقع التساؤل به .
الثالث : قوله أولاً : { اتقوا رَبَّكُمُ } ولفظ » الرَّبِّ « يَدَلُّ على التربية والإحسان ، وقوله ثانياً { واتقوا الله } ولفظ » الإله « يدل على الغلبة والقهر ، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب ، والأمر الثاني يدل على الترهيب ، فكأنَّهُ قيل : اتقِ الله إنه ربّاك ، وأحسن إليك ، واتق مخالفته؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } .
جارٍ مجرى التعليل والرقيب : فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً ، ورُقوباً ، ورِقْباناً إذا أحدَّ النَّظَرَ [ لأمر يريد تحقيقه ] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك ، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال : [ مجزوء الكامل ]
1730- كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ ... ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ
وقال : [ الكامل ]
1731- وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى ... لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ
والْمَرْقَبُ : المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب ، والرقيب أيضاً [ ضرب ] من الحيات ، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر ، وقد تقدمت من البقرة ، والارتقاب : الانتظار .
فصل
دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه .
قال تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] .
وقال تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } [ التوبة : 10 ] قيل : إنَّ الإلّ القرابة ، قال : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وقال عليه السلام : قال الله تعالى : « أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي ، من وَصَلَها وَصَلْتُه ، ومن قطعها قطعته » .
فصل
قال القرطبيُّ : الرحم : اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره . وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام ، مع أنَّ القطيعة موجودة ، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث ، والولاية ، وغيرهما من الأحكام ، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن من غير دليل ، وهم يرون ذلك [ نسخاً ] ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام ، وبني الأخوال والخالات .
فصل
أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة ، وأن قطيعتها محرَّمة ، وقد صحَّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسْمَاءَ وقد سألته : أأصِلُ أمِّي؟ « صِلِي أمَّكِ » فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى لحل بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام ، إذا لم يكن عصبة ، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام « مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ » وهذا قول أكثر أهل العلم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف .
فصل
واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ : لا يدخلون في مقتضى الحديث .
وقال شريك القاضي : يُعْتَقُونَ .
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [ لا ] يعتق على الابن إذا ملكه .
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام؛ لأنهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حلاً ممن له رحم ، فإنه عطفه عليه ، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء . قالوا : إن اليتيم من لا أب له ولا جد ، والإيتاء : الإعطاء قال أبو زيد : أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ ، وهي الرّشوة .
وقال الزمخشري : الأيتام الذين مات آباؤهم ، وَالايُتْمُ : الانفراد ، ومنه الرملة اليتيمة ، والدُّرة اليتيمة .
وقيل : [ اليتيم ] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات .
قال : وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله ، زال عنه هذا الاسم؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَتِيم أبي طَالِبٍ ، إمَّا على القياس ، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له .
وأما على قوله عليه السلام : « لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ » فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة .
وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه : إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه .
وفي بعض الروايات : إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [ فأخبر ابن عباس ] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ ، ثم قال أبو بكر : « واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها » .
قال عليه السلام : « تستأمر اليتيمة في نفسها » وهي لا تستمر إلاَّ وهي بالغة .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1732- إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى ... النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى
فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير .
فإن قيل : كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى؟ واليتيم فعيل : فيجمع على فعلى ، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى ، وجريح وجرحى؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فيه وجهان .
أحدهما : أن يقال : إن جمع اليتيم ، يَتْامَى ، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى .
والثاني : أن نقول : جمع اليتيم يتائم؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو « صاحب » و « فارس » ثم تنقلب « اليتائم » « يتامى » .
قال القفّال : « ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى ، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف » .
فإن قيل : إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً ، فكيف قال : { وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ } .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن يقال : المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا ، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى ، إما على أصل اللغة ، وإما لقرب عهدهم باليُتْم ، وإن كان قد زال من هذا الوقت كقوله تعالى :
{ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } [ الأعراف : 120 ] .
أي : الذين كانوا سحرة قبل السُّجود ، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ } [ الطلاق : 2 ] والمعنى مقاربة الأجل ، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } [ النساء : 6 ] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ .
الوجه الثاني : أن يقال : المراد باليتامى الصِّغار ، وعلى هذا ففي الآية وجهان :
أحدهما : أن قوله « وَآتَوَا » أمر ، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى : أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم . فتزول المناقضة .
والثاني : أنَّ المُرَاد : وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم ، والفائدة فيه : أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره ، فباح اللهُ - تعالى - ذلك ، وفيه إشكال وهو : أنه لو كان المراد ذلك لقال : وآتوهم من أموالهم ، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم .
فصل
نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال : لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم ، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى ، فَشَكَوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزل اللهُ تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم .
قال المفسرون : الصحيح أنها « نزلت في رجل من غطفان ، كان معه كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فلما علمها العَمُّ قال : أطَعْنَا لرَّسُولَ ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير ، ودفع إليه ماله فقال النبي صلى الله عليه وسلم » وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ « أي : جَنَّتهُ ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم » ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ « .
قال القرطبيُّ : وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين :
أحدهما : إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية ، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير .
والثاني : الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه ، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى : الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم ، كقوله { فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } [ الشعراء : 46 ] أي الذين كانوا سحرة ، وكان يقال للنبي صلى الله عليه وسلم » يتيم أبي طالب « فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه .
قال أبو حنيفة : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة ، أعطي ماله على كل حال؛ لأنَّه يصير جداً .
قوله : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ } وقد تقدَّم في البقرة قوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ }
[ البقرة : 59 ] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك ، والمنصوب هو الحاصل ، وتفعل هنا بمعنى استفعل ، وهو كثير ، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة : [ الطويل ]
1733- فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ
أي : المستبدل .
قل الواحدي : « تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه » .
قوله : « بالطّيب » .
هو المفعول الثاني ل « تتبدلوا » .
وفي معنى هذا التبدُّل وجوه :
الأول : قال الفرّاء والزَّجَّاج : لا تستبدلوا الحرام ، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم .
الثاني : قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْري والأسُّدِّيُّ : وكان ولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ، ويجعل مكانه الزيف ، يقول : درهم بدرهم ، فَنُهُوا عن ذلك .
وطعن الزمخشريُّ : في هذا الوجه فقال : ليس هذا تَبَدُّلاً ، إنما هو تبديل .
الثالث : أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء مكان سمينة من مال الصبي .
الرابع : معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك .
فصل
قل أبو العباس المقرئ : ورد لفظ « الطيِّب » في القرآن على أربعة أوجه :
الأول : الحلال كهذه الآية .
الثاني : بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى : { صَعِيداً طَيِّباً } [ النساء : 43 ] أي : ظاهراً .
الثالث : بمعنى الحَسَن قال تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] أي : الحسن ، ومثله { والطيبات لِلطَّيِّبِينَ } [ النور : 26 ] أي : الكلام الحسن للمؤمنين .
الرابع : الطيِّبَ : المؤمن قال تعالى : { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } [ آل عمران : 179 ] يعني : الكافر من المؤمن .
قوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } في قوله ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « إلى » بمعنى « مع » كقوله : { إِلَى المرافق } [ المائدة : 6 ] ، وهذا رأي الكوفيين .
الثاني : أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال ، أي : مضمومة ، أو مضافة إلى أموالكم .
الثالث : أن يضمَّن « تأكلوا » بمعنى « تضموا » كأنه قيل : ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين .
قال الزمخشري : « فإن قلت : قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى ، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم ، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها؟
قلت : » لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال ، وهم من ذلك يَطْعمون منها ، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق ، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم ، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم « .
واعلم أنه تعالى ، وَإن ذكر الأكل ، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال ، وإنما ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً } في الهاء ثلاثة أوجه :
حده : أنها تعود على الأكل المفهوم ، من » لا تأكلوا « .
الثَّاني : على التبدُّلِ المفهوم من » لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث « .
الثالث : عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو :
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ومنه : [ الرجز ]
1714- كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة ، والأول أولى لأنه أقرب مذكور .
وقرأ الجمهور « حُوبً » بضم الحاءِ ، ولحسن بفتحها ، وبعضهم : « حَباً » بالألف ، وهي لغت في المصدر ، والفتح لغة تميم .
ونظير الحوْب والحاب ، والقول والقال ، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل : المضموم اسم مصدر ، [ والمفتوح مصدر ] وصله من حوب الأبل ، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم؛ لأنه يزجر به ، ويطلق على الذَّنب أيضاً؛ لأنه يزجر عنه ، ومنه قول عليه السلام : « إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ » أي : لذنب عظيم . وقل القرطبي : والحوبُ الوحشة ، ومنه قوله عليه السَّلام أبي أيوب « إن طلاق أم أيوب لحوب » .
قال القفال : وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه ، يقال : حَابَ يَحُوب ، حَوْباً ، وحَاباً وحِيابة .
قال المخبل السعدي : [ الطويل ]
1735- فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ ... فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ
وقال آخر [ الوافر ]
1736- وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا
والحَوْبةُ : المرة الواحدة ، والحَوْبَةُ : الحاجة ، ومنه في الدعاء « إليكَ أرفع حَوْبَتِي » ، وأوقْعَ اللهُ الْحَوْبَة ، و « تحوَّب فلان » إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ ، والتضعيف للسَّلْبِ ، و « الحَوِأب » بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة ، يقال : ألحق اللهُ به الحوبةَ ، أي : [ المسألة ] والحاجة ، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء ، وأصل الياء الواو ، وتحوَّب فلان أي : تعبد وألقى الحوب عن نفسه ، والتحوُّب أيضاً التحزُّن ، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ .
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، وفي جوابه وجهان :
أحدهما : أنه قوله : { فانكحوا } وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ ، والعشر ، ولا يقومون بحقوقهن ، فلمَّا نزلت { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ } أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى ، فقيل لهم : إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء ، فانكحوا ما طاب لكم من [ النساء مثنى وثلاث ورباع من ] الأجنبيات أي : اللاتي لسن تحت ولايتكم ، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف ، أي : في نكاح يتامى النساء .
فإن قيل : « فواحدة » جواب لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً } فكيف يكون جواباً للأول؛ فالجواب : أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى ، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى . والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر .
وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر : [ الطويل ]
1737- فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ
أي : أيقِنُوا ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] .
قوله : { أَلاَّ تُقْسِطُواْ } إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر ، أي : « مِنْ أن لا » ففيها الخلاف المشهور أي : في محل نصب [ أو جر ، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه ، كأنك قلت : « فَإنْ حَذَرْتم » فهي في محل نصب ] فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة .
وقرا الجمهور : « تقسطوا » بضم التاء ، من أقْسَط : إذا عدل ، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ ، والتقديرُ : وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي : العدل .
وقرأ إبراهيم النخعي : ويحيى بن وثَّاب بفتحها من « قسط » وفيها تأويلان :
أحدهما : أن « قَسَطَ » بمعنى « جار » ، وهذا هو المشهور في اللغة ، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ ، والثلاثي بمعنى جار ، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى « أقسط » أي : أزال القسط وهو الجور ، و « لا » على هذا القول زائدة ليس إلا ، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] .
والثاني : حكي الزجاج أن « قسط » الثلاثي يستعمل استعمال « أقسط » الرباعي ، فعلى هذا تكون « لا » غير زائدة ، كهي في القراءة الشهيرة؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة .
قالوا : قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ ، فبنوا « قسط » على بناء ظلم وجار وغلب .
وقال الراغب : « القِسْط » أن يأخذ قِسْطَ غيره ، وذلك جَوْرٌ ، وأَقْسَطَ غيره ، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ ، وذلك إنصاف ، ولذلك يقال : قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار ، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ ، قال تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
[ وقال تعالى : { وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } [ الحجرات : 9 ] .
وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير ، قال له : ما تقول فيَّ؟ قال : « قَاسِطٌ عادِلٌ » فأعجب الحاضرون ، فقال لهم الحجاج : ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً ، ألم تسمعوا قوله تعالى :
{ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] .
المادة من قوله : { قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] .
قوله : { مَا طَابَ } في « ما » هذه أوجه :
أحدها : أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن « ما » تكون للعاقل ، وهي مسألة مشهورة ، وذلك أن « ما » و « من » وهما يتعاقبان ، قال تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] وقال : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] وقال { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ } [ النور : 45 ] .
وحكى أبو عمرو بن العلاء : سبحان من سبح الرعد بحمده .
وقال بعضهم : نَزَّلَ الإناث منزلة غير العقلاء كقوله : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [ المؤمنون : 6 ] .
قال بعضهم : وَحَسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء ، وهن ناقصات العقول . وبعضهم يقول : هي لصفات من يعقل .
وبعضهم يقول : لنوع من يعقل كأنه قيل : النوع الطيب من النساء ، وهي عبارات متقاربة . فلذلك لم نعدّها أوجهاً .
الثاني : أنها نَكِرَةٌ موصوفة ، أي : انكحوا جنساً طيباً أو عدداً طيِّباً .
الثالث : أنها مصدرية ، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل ، تقديره : فانحكوا [ الطَّيِّبَ .
وقال أبو حيان : والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل ، والمعنى فانكحوا ] النكاح الذي طاب لكم . والأول أظهر .
الرابع : أنها ظرفية تستلزم المصدريَّة ، والتقدير : فانحكوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم . إذا تقرر هذا ، فإن قلنا : إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة ، أو مصدرية ، والمصدرُ واقع اسم الفاعل كانت « ما » مفعولاً ب « انكحوا » ويكون « من النساء » فيه وجهان :
أحدهما : أنها لبيان الجنس المبهم في « ما » عند مَنْ يثبت لها ذلك .
والثاني : أنها تبغيضية ، أي : بعض النساء ، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من « ما طاب » وإن قلنا : إنها مصدرية ظرفية محضة ، ولم يُوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان كان مفعول « فانكحوا » قوله « من النساء » نحو قولك : أكلت من الرغيفِ ، وشربتُ من العسل أي : شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل .
فإن قيل : لِمَ لا يجعل على هذا « مثنى » وما بعدها هو مفعول « فانكحوا » أي : فانكحوا هذا العدد؟ فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل .
وقرأ ابن أبي عبلة « مَنْ طَابَ » وهو يرجحُ كون « ما » بمعنى الذي للعاقل ، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء ، وهذا ليس بمبني للمفعول؛ لأنه قاصر ، وإنما كُتِبَ كذلك دلالة على الإمالة وهي قراءة حمزة .
فصل
اختلف المفسرون في كيفية تعلق هذا الجزاء بهذا الشرط فروى عروة قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله تعالى { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } .
فقالت : يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فَيرغَبُ في مالها وجمالها ، إلاَّ أنَّهُ يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها ، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يَذُبُّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها ، فقال تعالى : { وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى } فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء ، قالت عائشة - رضي الله عنها - ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فانزل اللهُ تعالى : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء [ اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } [ النساء : 127 ] فالمراد منه هذه الآية ، وهن قوله { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } .
وقيل : لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من لحوق الحوبِ بتركِ الإقْسَاطِ في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم ، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو اكثر ، ولا يقوم بحقوقهنَّ في العدل . فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها ، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء ، فقللوا عدد المنكوحات؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله ، فكأنه لم يتحرّج ، وهذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة والضحاك والسدي .
وقيل : لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا ، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات ، قاله مجاهد .
وقال عكرمة : هو الرجل عنده النسوة ويكون عند الأيتام ، فإذا أنفق ماله على النسوة ، وصار محتاجاً أخذ في إنفاق مال اليتامى عليهن ، فقال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [ نكاح ] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف ، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس .
فصل
قال الواحدي والزمخشري : قوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } أي ما حلَّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } [ النساء : 23 ] .
قال ابن الخطيب : وهذا فيه نظر؛ لأن قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } هو أمر إباحة ، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله ، أبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ من يكون نكاحها مباحاً لكم ، وذلك يخرج الآية من الفائدة ، وأيضاً على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة؛ لأنَّ أسباب الحِلِّ والإبَاحَةِ لمَّا لَمْ تُذْكَرْ في هذه الآية صارت مجملة لا محالة ، وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص ، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجملُ لا يكون حجة أصلاً .
قوله « مَثْنَى » منصوب على الحال من « طَابَ » وجعله أبو البَقاء حالاً من « النساء » فأجاز هو وابن عطية أن يكون بدلاً من « ما » وهذان الوجهان [ ضعيفان ] .
أمَّا الأول : فلأنَّ الْمُحْدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله { النسآء } كالتبيين .
وأما الثاني : فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل ، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل .
واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف ، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع؟ قولان :
وقول الكوفيين وأبي إسحاق : جوازه .
والمسموع [ من ذلك ] أحد عشر لفظاً : أُحاد ، وَمَوْحَد ، وثُنَاء ، وَمَثْنَى ، وَثُلاَثَ ، وَمَثْلَث ، ورُباع ، وَمَرْبَع ، ولم يسمع خُماس ومَخْمس ، وعَشار ومَعْشَر .
واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب :
أحدها : مذهب سيبويه ، وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر ، وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر .
فإذا قلت : جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ ، كان بمنزلة قولك : جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً ، ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد ، إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم : علمته الحساب باباً باباً .
والثاني : مذهب الفراء ، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع إضافتها عنده لتقدير الألف واللام ، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة .
الثالث : مذهب أبي إسحاق : وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث .
والرابع : نَقَلَهُ الأخفش عن بعضهم ، أنه تكرار العدل ، وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين ، وعن معناه؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا تقول : « جاءني مَثْنَى وثلاث » حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل ، فإذا قلت : « جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى » ، أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين ، بخلاف غير المعدولة ، فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى .
وقال الزمخشري : « إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن؛ عدلها من صيغتها ، وعدلها عن تكررها ، وهن نكرات يُعَرَّفْنَ بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثْنَى والثلاث » .
قال أبو حيان : « ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا اعلم أحداً قاله ، بل المذهب فيه أربعة » ذكرها كما تقدم ، وقد يقال : إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [ أبو حيان ] أيضاً في مثاله بقوله : ينكح المثنى من وجهين :
أحدهما : دخول « أل » عليها ، قال : « وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات »
الثاني : أنه أولاها العوامل ، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل ، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام :
« صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى » أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى : { أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وقوله : [ الطويل ]
1738- .. ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ
وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله : [ الطويل ]
1739- ... بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ
وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله : [ الوافر ]
1740- ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ ... أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا
ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره : ضربتهم خماس .
ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ ، لا تقول : « مثناة » ولا « ثُلاثة » بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً .
وقرأ النخعي وابن وثّاب « ورُبَعَ » من غير ألف ، وزاد الزمخشري عن النخعي : « وثُلَثَ » أيضاً ، وغيره عنه « ثُنَى » مقصوراً من « ثُناء » حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً ، كما حذفها الآخر في قوله : [ الرجز ]
1741- . ... يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا
فصل معنى قوله : « مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ » أي اثنين وثلاثاً وأربعاً أربعاً ، والواو بمعنى « أو » للتخيير كقوله تعالى : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } [ سبأ : 46 ] وقوله : { أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة ، وكانت الزيادة من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .
فصل
ذهبَ أكْثرُ الفقهاء إلى أن قوله تعالى : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ } لا يتناول العبد؛ لأن الخطاب إنما يتناول إنساناً متى طلب امرأة قَدِرَ على نكاحها ، والعبد ليس كذلك؛ لأنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه لقوله تعالى : { عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ } [ النحل : 75 ] ، فَيَنْفِي كونه مستقلاًّ بالنكاح .
وقال عليه السلام : « أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذنِ مَوْلاَهُ فَهُوَ عَاهِرٌ » .
وقال مالك : يجوز للعبد أن يتزوج أربعاً لظاهر الآية .
وأجيب بأن قوله تعالى بعد هذه الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مختص بالأحرار؛ لأن العبد لا ملك له ، وبقوله تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر ، بل يكون لسيده .
قال مالك : إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الآخر لا يوجب دخوله في السابق .
وأجيب بأن هذه الخطابات وردت متوالية على نسق واحد ، فلما ذكر في بعضها الأحرار علم أن الكل كذلك .
فصل
ذهبت طائفة فقالوا : يجوز التزويج بأيّ عدد شاء ، واحتجوا بالقرآن والخبر ، أمَّا القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } إطلاق في جميع الأعداد ، بدليل أنه لا عدد إلاّ ويصح استثناؤه منه .
وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل .
الثاني : أن قوله : « مثنى وثلاث ورباع » لا يصلح مخصصاً لذلك العموم؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج؛ والحجر مطلقاً ، فإن الإنسانَ إذا قال لولده : افعل ما شئت ، اذهب إلى السوق وإلى المدرسة ، وإلى البستان ، لم يكن تنصيصاً للإذن بتلك الأشْيَاء المذكورة فقط ، بل يكون ذلك إذناً في المذكور ، وغيره ، هكذا هنا .
الثالث : أن الواو للجمع المطلق ، فقوله تعالى : { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } لا يدخل هذا المجموع ، وهو تسعة ، بل يفيد ثمانية عشر؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط ، بل عن اثنين اثنين ، وكذا البقية .
وأما الخبر فمن وجهين :
الأول : أنه ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام مات عن تسع ، وأمرنا الله باتباعه بقوله تعالى : { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأقل [ مراتب ] الأمر الإباحة .
الثاني : أن التزويج بأكثر من أربع طريقة عليه الصلاة والسلام ، فيكون سنةً له .
وقال عليه الصلاة والسلام : « النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع ، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز .
أجاب القدماء بما رُوِيَ أن غَيْلاَنَ أسلم وتحته عشر نسوة فقال له عليه الصلاة والسلام : « أمْسِكْ أربعاً وَفَارِقْ بَاقِيهنَّ » وهذا ضعيف من وجهين :
الول : أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد ، وذلك لا يجوز .
الثاني : أن هذه واقعة حال ، فلعله عليه الصلاة والسلام إنَّما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز ، إمَّا لنسب أو رضاع ، أو اختلاف دين محرم ، وإذا قام الاحتمال فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله .
واستدلوا أيضاً بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الربع ، وهذا أيضاً فيه نظر من وجهين :
أحدهما : أن الإجْمَاعَ لا يُنْسَخُ به فكيف يقال : الإجماع نسخ هذه الآية؟
الثاني : أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار ، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين .
وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الثاني أن هذا المخالف من أهل البدعة ، فلا عبرة بمخالفته .
فإن قيل : إذا كان المر على ما قلتم فكان الأولى أن يقال : « مثنى او ثلاث أو رباع » فلم جاء بواو العطف [ دون « أو » ] .
فالجواب : أنه لو جاء بالعطف ب « أو » لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام ، وألاَّ يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام ، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية ، وبعضهم بالتثليث ، والفريق الثالث بالتربيع ، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسماً من هذه الأقسام ، ونظيره أن يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال وهو ألف ، درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة ، فكذا ها هنا في ترك « أو » وذكر الواو .
فصل
قال مالك والشافعيُّ : -رحمهما الله تعالى - « إذا تزوج خامسة وعنده أربع عليه الحد إن كان عالماً » .
وقال الزُّهْرِيُّ : « يرجم إذا كان عالماً ، وإذا كان جاهلاً عليه أدنى الحدين ، الذي هو الجلد وهو مهرها ، ويفرِّق بينهما ولا يجتمعان أبداً » .
وقال النُّعْمَانُ : « لا حدّ عيه في شيء من ذلك » .
وقالت طائفة : « يحدُّ في ذات المحرم ، ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح ، مثل أن يتزوج مجوسية ، أو خمساً في عقد ، أو تزوّج معتدة ، أو بغير شهود ، أو [ تزوج ] أمة بغير إذن مولاها » .
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } شرط ، إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : { وَلَن تستطيعوا } [ النساء : 129 ] ما أنتج [ من ] الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة ، أو يتسرَّى بما ملكت يمينه ، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له ، بَلْ يكون لغواً على زعمه .
والجمهور على نصب « فواحدة » بإضمار فعل أي : فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت أيمانكم ، وإنما قدّرنا ناصباً آخر لملك اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين ، إلا أن يريد به الوطء في هذا ، والتزويج في الأول ، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وكلاهما مقول به ، وهذا قريب من قوله : [ الرجز ]
1742- عَلَفْتُهَا تِبْنَاً وَمَاءً بَارِدَاً .. . . .
وبابه .
وقرأ الحسن وأبو جعفر : « فواحدةٌ » بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : الرفع بالابتداء ، وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء ، والخبر محذوف أي : فواحدة كافية .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع واحدة .
الثالث : أنه فاعل بفعل مقدّر أي : يكفي واحدة .
و « أو » على بابها من كونها للإباحة أو التخيير . و « ما ملكت » كهي [ في قوله ] : « مَا طَابَ » [ فإن قيل : المالك هو نفسه لا يمينه ، فلِمَ ] أضاف المِلْك لليمين [ فالجواب ] لأنها محل المحاسن ، وبها تُتَلَقَّى رايات المجد .
وروي عن أبي عمرو : « فما ملكت أيمانكم » ، والمعنى : إن لم يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه .
وقرأ ابن أبي عبلة « أو من ملكت أيمانكم » .
ومعنى الآية : إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة ، أو بالمملوكة .
قوله : « ذلك أدنى » مبتدأ وخبر ، و « ذلك » إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي .
و « أدنى » أفعل تفضيل من دنا يدنو أي : قرُب إلى عدم العول .
قال أبو العباس المقرئ : « ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين :
الأول : بمعنى أحرى قال تعالى : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } .
والثاني : بمعنى » دون « قال تعالى : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } [ البقرة : 61 ] يعني الرديء بالجيد » .
قوله تعالى : { أَلاَّ تَعُولُواْ } في محل نصب أو جرٍّ على الخلاف المشهور في « أن » بعد حذف حرف الجر ، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه :
أحدها : « إلى » أي : أدنى إلى ألا تعولوا .
والثاني : « اللام » والتقدير : أدنى لئلا تعولوا .
والثالث : وقدّره الزمخشريُّ من ألا تميلوا؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله ، فما تعدى به فعله [ تعدى ] هو به ، وأدنى من « دنا » و « دنا » يتعدى ب « إلى » و « اللام » ، و « من » تقول : دنوت إليه ، وله ، ومنه .
وقرأ الجمهور : « تعولوا » من عال يعول إذا مال وجار ، والمصدر العول والعيالة ، وعال الحاكم أي : جار .
حكي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له : أتعول عليَّ .
وقال أبو طالب في النبي عليه السلام [ الطويل ]
1743- ... لَهُ حَاكِمٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } [ النساء : 3 ] قال : « لاَ تَجُورُوا » .
وفي رواية أخرى « ألا تميلوا » .
قال الواحدي رحمه الله : « كلا اللفظين مرويّ؛ وعال الرجل عيالَهُ يَعُولهم إذا مانَهُمْ من المؤونة ومنه أبْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بمَنْ تَعُول » .
وحكى ابن العرابي : عال الرجل يعول : كثر عياله ، وَعَالَ يِعِيلُ افتقر وصار له عائلة ، والحاصل أن « عال » يكون لازماً ومتعدياً ، فاللازم يكون بمعنى : مال وجار ، والمتعدي ومنه « عال الميزان » .
قال أبو طالب : [ الطويل ]
1744- بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَغِلُّ شَعِيرَةً ... وَوَزَّان صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ
وعالت الفريضة إذا زارت سهامها ، ومعنى كثر عياله ، وبمعنى تفاقم الأمر ، والمضارع من هذا كله يَعُولُ ، وعال الرجل افتقر ، وعالَ في الأرض : ذهب فيها ، والمضارع من هذين يَعِيل ، والمتعدي يكون بمعنى أثقل ، وبمعنى مانَ من المؤونة ، وبمعنى غَلَبَ ومنه « عيل صبري » ، ومضارع هذا كله يَعُول ، وبمعنى أعجز ، تقول : أعجزني الأمرُ ، ومضارع هذا يَعيل ، والمصدر « عَيْل » و « مَعِيل » ، فقد تلخص من هذا أن « عال » اللازم يكون تارة من ذوات الواو ، وتارة من ذوات الياء ، باختلاف المعنى ، وكذلك عال المتعدي أيضاً . ومنه : [ الطويل ]
1745- وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ ... وفسَّر الشافعي رحمه الله { تَعُولُواْ } بمعنى يكثر عيالُكُم .
وردَّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم .
قال الرازي : « هذا غلط من جهة المعنى واللفظ ، أما المعنى فللإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزويج ، وأما اللفظ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء؛ لأنه من العَيْلَةِ ، وأما عال بمعنى » جار « فمن ذوات الواو ، واختلفت المادتان ، وأيضاً فقد خالف المفسرين » .
وقال صاحبُ النظم : قال أولاً « ألاَّ تعدلوا » فوجب أن يكون ضده الجور .
وأجيب عن الأول وهو أنَّ التَّسْتَرِي أيضاً يكثر معه العيال ، مع أنه مباح ممنوع؛ لأن الأمة ليست كالزوجة؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها ، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها .
قال الزمخشري : « وجههُ أن يُجْعَلَ من قولك : عَالَ الرجلُ عياله يعولهم كقولك : مانَهم يُمُونهم أي : أنْفَقَ عليهم؛ لأن من كثر عياله لَزِمَهُ أن يَعُولهم ، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق » ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً ، وقال : ولكن للعلماء طُرق وأساليبُ ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات ، انتهى .
وأما قولُهم : « خالف المفسرين » فليس بصحيح ، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد .
واما قولهم : « اختلفت المادتان » فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب : عال الرجل يعول كثر عياله ، وحكاها الْكِسَائِيُّ أيضاً قال : يقالُ : عالَ الرَّجل يَعُولُ ، وأعال يعيل كثر عياله .
قال أبو حاتم : كان الشَّافِعِيُّ أعْلَمَ بلسانِ العرب مشنَّا ، ولعلّه لغة ، ويقال : هي لغة « حمير » ونقلها أيضاً الدَّوْرِيُّ المقرِئُ لغةً عِنْ حِمْيَرَ وأنشد [ الوافر ] :
1746- وَإنَّ الْموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلاَ شَكٍّ وَإنْ أمْشِي وَعَالا
أمشى : كثرت ماشيته ، وعَالَ كَثُرَ عياله ، ولا حجَّةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكون « عال » من ذَوَاتِ الياء ، وهم لا يُنْكِرُونَ أنَّ « عال » يكون بمعنى كثر عياله ، ورُوِيَ عنه أيضاً أنَّهُ فَسَّرَ تعولوا بمعنى تفتقروا ، ولا يُريدُ به أنَّ « تعولوا » وتعيلوا بمعنى ، بل قصد الكِنَايَة أيضاً؛ لأن كثرةَ العيالِ سَبَبٌ للفقر .
وقرأ طلحة : « تَعيلوا » بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال : [ الوافر ]
1747- فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وقرأ طاوس : « تُعيلوا » بضمها من أعَالَ : كثر عياله ، وهي تُعَضَّدُ تفسير الشَّافعيِّ المتقدِّم من حيث المعنى .
وقال الرَّاغبُ : عَالَهُ ، وَغَالَهُ يتقاربان ، لكن الغَوْلَ : فيما يُهلك والعَوْل فيما يُثْقِلُ .
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
مفعول ثانٍ ، وهي جمع « صَدُقة » بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة « سَمُرة » ، والمرادُ بها : المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ ، وهي لُغَةُ الحجاز .
وقرأ قتادةُ : « صُدْقاتهن » بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال ، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ .
وقرأ مجاهدٌ وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال ، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للاتباع .
وقرأ ابن وثاب والنخعي « صُدُقَتَهُنَّ » بضمهما مع الإفراد .
قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في « ظُلْمة » « ظُلُمة » ، وقد تقدم الخلاف ، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء؟
وقرئ : « صدقاتهن » بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة ، كقولهم في عَضُد : عَضْد .
قال الوَاحِدِيُّ : « ولفظ الصَّاد والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة ، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم .
وفي نصب » نحلة « أربعةُ أوجهٍ :
أحدها : أنَّها منصوبةِ على المصدر ، والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن » آتوهن « بمعنى انحلوهُنَّ ، فهي مصدر على غير الصدر نحو : » قَعَدْت جلوساً « .
الثاني : أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال ، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات :
أحدها : أنَّهُ الفاعل من » فآتوهن « أي : فآتوهن ناحِلين .
الثاني : أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو : النِّسَاءُ .
الثالث : أنه المفعول الثاني وهو » صدقاتهن « . أي : منحولات .
الوجه الثَّالثُ : أنَّها مفعول من أجله ، إذا فُسِّرَتْ بمعنى : شِرْعة .
الوجه الرابع : انتصابها بإضمار فعل بمعنى : شَرَعَ أي : نحل الله ذلك نِحلة ، أي : شَرَعَةُ شِرْعة وديناً .
والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ ، والنَّحْلَة : الشِّرْعَة ، ومنه : نِحْلة الإسلام خَير النحل ، وفلان ينتحل بكذا : أي يَدِيِنُ به ، والنَّحْلَةُ : الفَرِيضةُ .
قال الراغب : والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ : الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع ، وهي أخصُّ من الهِبَةَ ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس ، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ ، نظراً منه إلى فعله ، فكأن » نَحَلْتهُ « أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل ، ثم قال : ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ بذلك اعتباراً بفعله .
وقال الزَّمخشريُّ : مِنْ نَحَلَه كذا أي : أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه ، نِحْلَةً وَنَحْلاً ، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ- : » غنّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً « .
قال القَفَّالُ : وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له ، يقال : هذا شعر منحول ، أي : مضاف إلى غير قائله ، وانتحلت كذا إذا ادَّعَْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ .
فصل من المقصود بالخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان :
أحدهما : أنه » لأولياء « [ النساء ] ؛ لأنَّ العربَ كانت في الجاهليَّةِ لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً ، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، ومعناه : أنَّك تأخذ مهرها إبلاً فَتَضُمَّهَا إلى إبلك فتنفج مالك اي : تعظمه ، وقال ابن العرابي : النافجة ما يأخذه الرَّجلُ من الحلوانِ إذا زوج ابنته ، فَنَهى الله عن ذلك ، وامر بدفع الحقِّ إلى أهله ، وهذا قول الكلبيِّ وأبي صالح واختيار الفرَّاء وابن قتيبةَ .
وقال الحضرميّ : وكان أولياء النساء يُعطى هذا أُخْتَه على أن يعطيه الآخرُ أخته ، ولا مهر بينهما ، فَنُهوا عن ذلك ، « ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّغَار » ، وهو أن يزوج الرَّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ، ولا صداق بَيْنَهُمَا .
الثاني : أنَّ الخطاب للأزواج ، أمِرُوا بإيفاء مهور النساء ، وهذا قول علقمة ، والنَخَعِيّ وقتادة ، واختيار الزجَّاج ، لأنه لا ذكر للأولياء ها هنا ، والخطاب قبله للأزواج .
قال قَتَادَةُ : نحلة فريضة .
وقال ابن جريج : فريضة مسمَّاة .
قال أبو عبيدة : لا تكون النِّحْلَةُ إلاَّ مُسَمَّاة ومعلومة . قال القَفَّال : يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة ، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ } [ التوبة : 29 ] أي : يضمنوها ويلتزموها ، فعلى الول المراد دفع المُسَمَّى ، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج لا تُستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمَّي أو لم يسمَّ ، إلا ما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم في الموهوبة .
قوله : « فإن طبن لكم منه » « منه » في محل جر؛ لأنه صفة ل « شيء » فيتعلق بمحذوف أي : عن شيء كائن منه .
و « مِنْ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها للتبغيض ، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق .
قال ابن عطيَّة : و « مِنْ » لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو [ وقعت ] على التبغيض لما جَازَ ذلك انتهى .
وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك ، ولا يشكل كونها للتَّبغيض ، وفي هذا الضمير أقوال :
أحدها : أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب { صَدُقَاتِهِنَّ } .
الثاني : أنه يعود على « الصَّدُقات » لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها ، لو قيل : صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى ، وهو شبيهٌ بقولهم : هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ؛ ولأنه لو قيل : « هو أحسنُ فتىً » لَصَحَّ المعنى .
ومثله : [ الرجز ]
1748- وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في « برد » ضمير يعود على « ألبان » لسدِّ « لبن » مسدَّها . الثالث : أنه يعود على « الصَّدُقات » أيضاً ، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت ، كقوله : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } [ آل عمران : 15 ] بعد ذكر أشياء قبله ، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله : [ الرجز ]
1749- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقال : أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة .
الرابع : أنه يعود على المال ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه .
الخامس : أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه ب « آتوا » ، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة .
السَّادس : قال الزمخشريُّ « ويجوز أن يُذَكَّر الضمير؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد ، فيكون متناولاً بَعْضَهُ ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها فصاعداً » .
وقال أبو حَيَّان : وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى « فَإنْ طِبْنَ » فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال : « منه » أي : مِنْ صَداقِها ، وهو نظير قوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } [ يوسف : 31 ] ؛ أي لكلّ واحدة منهن ، ولذلك أفرد « متكأ » .
قوله : « نَفْسَاً » منصوب على التَّمييز ، وهو هنا منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل : فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ ، ومثله { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] .
وهذا منصوب عن تمام الكلام ، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً ، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفسٍ واحدةٍ ، ومثله : قَرَّ الزيدون عيناً ، كقوله : { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْع } [ هود : 77 ] وقيل : لَفْظثهَا واحد ومعناها جمع ، ويجوز « انفساً » « وأعيناً » وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها ، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو : إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله نحو : كَرُمَ الزيدون رجالاً ، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً .
وإن كان الثاني : فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة ، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد : كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً ، أي : إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ ، ومثله « كَرم التقياء سَعْياً » ، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه ، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول : فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً ، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو : كَرُمَ الزيدون آباء ، أي : أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد ، والغرضُ خلافه ، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد ، وهو الأوْلى ، ولذلك جاءت عليه الآية الكريمةُ ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع ، وَحَسَّنَ الإفرادَ ها هنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ تذكير الضمير وإفراده في « منه » ، وهو أنَّ المعنى : فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً .
وقال بعض البصريين : « إنَّما أفرد؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى ، والهوى مصدر ، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع » .
وقال الزَّمخشريُّ : و « نَفْسَاً » تمييزٌ ، وتوحيدثها؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه . ونحا أبو البَقاءِ نَحْوَهُ ، وشَبَّهَهُ ب « درهماً » في قولك : عشرون درهماً .
واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه ، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله : [ الطويل ]
1750- أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفُرَاقِ حَبيبَها ... وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ
وقوله : [ الطويل ]
1751- رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ ... كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا
والأصل تطيبُ نفساً ، وتحلَّبا ماء ، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه ، وحجةُ سيبويه في منع ذلك انَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ ، والفاعِلُ لا يَتضقَدَّم ، فكذلك ما في قوته ، واعترضَ على هذا بنحو : زيداً ، من قولك أخرجْتُ زيداً ، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل ، إذ الأصل : خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم . والجارّان في قوله { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الاعراض ، ولذلك عُدِّي ب « عن » كأنَّهُ قيل : فَإن أعْرَضْنَ لَكُمْ عِن شيء منه طيبات النفوس ، والفاء في « فَكُلوه » جواب الشرط وهي واجبة ، والفاء في « فُكلوه » عائدة على « شيء » .
فإن قيل : لِمَ قال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ } ولم يقل : وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمضحْنَ لَكُمْ؟
فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة ] .
قوله : « فكلوه هنيئاً مريئاً » .
في نصب « هَنِيئاً » أربعةُ أقوال :
أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره : أكْلاّ هنيّئاً .
الثاني : أنه منصوب على الحال من الهاء في « فَكُلُوهُ » أي : مُهَنِّئاً ، أي سهلاً .
والثالث : أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحالِ النيابةُ عن فعلها نحو : « أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ » ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو « سَقْياً لَهُ وَرَعْياً » .
الرابع : أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله .
قال الزَّمَخشرِيُّ : « وقد يوقف على » فَكُلُوهُ « ويبتدأ ب » هنيئاً مريئاً « على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين؛ كأنه قيل : » هَنْئاً مًرْءاً « .
قال أبو حيان : وهذا تحريف لكلام النُّحاة ، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر ، فانتصابهما انتصباَ المصدرِ ، ولذلك قال : كَأَنَّهُ قيل : » هَنْئاً مَرْءاً « ، فصار كقولك » سٌقْياص لك « و » رَعْياً لك « ، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة انَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر ، لا تقول : » سقياً اللهَ لك « ، ولا : » رعياً الله لك « ، وإنْ كانَ ذلك جائزاً في أفعالها ، و » هنيئاً مرئياً « ، يرفعان الظاهر بدليل قوله : [ الطويل ]
1752- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ ... لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ
ف » ما « مرفوع ب » هنيئاً « أو » مريئاً « على الإعمال ، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره؛ لأن » مريئاً « لا يستعملُ إلاَّ تابعاً ل » هنيئاً « فكأنَّهما عاملٌ واحد .
ولو قلت : « قام قعد زيد » لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف . انتهى .
إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ ، فإنه قال : هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه ، كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً ، فَاَوَّلُ البعارة يُسَاعِدُ الزمخشري ، وآخرها وهو تقديره بقوله : كأنهم قالوا : ثَبَتَ هنيئاً ، يُعَكِّرُ عليه ، فعلى القولين الوَّلين يكُون « هَنيئاً مَريئاً » متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى ، وعلى الآخرين مقتطعين لفظاً؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره .
واختلف النحويون في قولك لمن قال : أصاب فلان خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك . هل « ذلك » مرفوع بالفعل المقدر ، وتقديره : ثبت له ذلك هنيئاً ، فحذف « ثبت » وقام « هنيئاً » مقامه الذي هو حال أو مرفوع ب « هنيئاً » نفسه؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَعَ ما كان الفعل يرفعه ، كما أن قولك : « زَيْدٌ في الدَّارِ » « في الدَّارِ » ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار ، وقام الجار مقامه رفع الضمير [ المستتر ] الذي كان فيه ، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في « هنيئاً » فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر ، وَإذا قُلْتَ : « هَنِيئاً » وَلَمْ تَقُلْ « ذلك » فعلى مذهب السيرافي يكون في « هَنِيئاً » ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في « ثبت » المحذوفِ ، وعلى مذهب الفارسي يكون في « هنيئاً » قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير .
وأما نصب « مريئاً » ففيه خمسة أوجه : أحدها : أنَّهُ صِفَةٌ ل « هنيئاً » وإليه ذَهَبَ الحوفي .
والثاني : أنَّهُ انتصب انتصاب « هنيئاً » وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه ، ومنع الفارسي كونه صفة ل « هنيئاً » قال : لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل ، والفعل لا يوصف ، فكذا ما قام مَقَامَهُ ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ انَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المالغة والمصادر إذا وُصِفَت لم تَعْمَل عمل الفعل ، ولم تستعمل « مريئاً » إلا تابعاً ل « هنيئاً » ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [ غير ] تابع وهو مردود؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً ، وهل « هَنِيئاً » في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ ، كالصَّهيلِ والهدير؟ خلاف . نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال : وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن « فعيل » ، كالصَّهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر . انتهى .
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها ، قال : « هنيئاً » مصدر جاء على وزن « فَعِيل » ، وهو نعت لمصدر محذوفٍ ، أي : أكْلاً هنيئاً ، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء والتقدير مُهَنَّأً ، و « مريئاً » مثله ، وتلمريء فعيل بمعنى مُفْعِل ، لأنَّك تقول : « أمْرَأَنِي الشَّيْء » ، ووجه لمصدر محذوف؟ وكيف يفسر « مريئاً » المصدر بمعنى اسم الفاعل؟
ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال : « فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُء الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه » .
انتهى .
وَهَنَا يضهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً - وقرأ أبو جعفر : « هنيّاً مريّاً » ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة ، كذلك « بري » و « بريون » و « بريَّا » ، ويقال : هَنَأَني الطعامُ ومرأني ، وإن أفردت « مَرَأنِي » ، وهذا كما قالوا : أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ ، بضم الدَّال من « حدث » مشاكلة ل « قَدُمَ » ، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال ، وله نظائر أخر ، ويقال : هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي : أعطيته . واشتقاق الهنيء من الهِناء ، وهو ما يُطْلَى به البَعير للجرب كالقطران قال : [ الطويل ]
1753- مُتَبَدِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ
والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق ، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة : مَرِيء .
فصل في دلالة الآية على أمور
دَلَّت الآية الكريمة على أمور :
منها انَّ المهر لها ولا حق للولي فيه .
ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالين .
فإن قيل : قوله : « فكلوه هنيئاً مريئاً » يتناول ما إذا كان المهر عيناً ، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ مريئاً .
فالجواب أن المراد بقوله « هنيئاً مريئاً » ليس نفس الكل ، بل المراد منه كل التصرفات ، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر ، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } بالنساء : 10 ] وقوله : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ النساء : 29 ] .
فصل
قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة ، علم أنها لم تطب عنه نفساً ، وعن الشعبي : أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شُريح في عَطِيَّة أعْطَتْهَا إيَّاهُ ، وَهِيَ تطلب الرجوع ، فقال شُرَيْح : رُدَّ عَلَيْهَا ، فقال الرجل : أليس قد قال الله تعالى { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ } ، فقال : لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه .
وروي عنه أيضاً : أقيلها فيما وهبت ولا أقليه؛ لأنهن يخدعن .
وَرُوِيَ أنَّ رجلاً من آل أبي معيطٍ أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه ، فلبثت شهراً ثم طلقها ، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان ، فقال الرَّجُلُ : أعْطَتْنِي طيبة به نفسها ، فقال عبدُ الملك : فإن الآية التي بَعْدَهَا { فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً } [ النساء : 20 ] أردد عليها .
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كتب إلى قُضاتِه : إن النساءَ يُعْطين رَغْبَةً ورهبة ، وَأَيُّمَا امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها .
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5)
أصل تُؤْتُوا تُؤتيوا : تُكْرِموا فاستثقلت الضمةُ على الياءِ وواو الضمير فحذفت الياء لئلا يلتقي ساكنان .
والسُّفَهاء جمع : سفيه ، وعن مجاهد : « المراد بالسُّفَهاءِ » النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ أزواجاً ، أو بنات ، أو أمهات ، وضَعَّفَهُ بَعْضُهُم بأنَّ فَعِيلة إنَّما تُجْمَع على فَعَائلِ أوْ فَعِيلات ، قاله [ أبو البقاء ] وابن عطية ، وقد نقل بعضهم أنَّ سَفَيهةَ تُجْمَعُ : على « سُفَهَاءَ » كالمُذكَّر ، وعلى هذا لا يَضْعُفُ قول مُجَاهِدٍ . وجمعُ فَعِيلَةٍ ابن عطية جمع فَعِيلة بِفَعَائِلٍ ، أوْ فَعِيلات ليس بظاهر ، لأنَّهَا يَطَّرد فيها أيْضاً « فِعَال » نحو : كريمةٍ ، وَكرامٍ ، وظريفةً ، وظِراف ، وكذلك إطلاقهُ فَعِيلة ، وَكَانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقيِّدَها بألاَّ تكون بمعنى : مَفْعُولةٍ ، تَحَرُّزاً من قتيلة فَإنَّها لا تُجْمَعُ على فَعَائِل .
والجمهورُ قرؤوا ( الَّتِي ) بلفظِ الإفراد صفةً للأمْوالِ ، وإنْ كانت جَمْعاً؛ لأنَّهُ تَقَدَّم أنَّ جمع ما لا يعقل من الكثرة ، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ ، الأحسنُ فيه أنْ يُعَامَل مُعَاملةَ الوَاحِدَةِ المؤنَّثة ، والأمْوالِ من هذا القبيل ، لأنَّهَا جمعُ ما لا يُعْقل ، ولم تُجْمَع إلاَّ على أفْعال ، وإنْ كانت بلفظِ القِلَّةِ؛ لأن المرادَ بها الكثرة .
وقرأ الحسن والنخعي « اللاتي » مطابقةٌ للفظ الجمع ، وكان القياسُ ألاَّ يوصف ب « اللاتي » إلا ما يوصفُ مفرده ب « التي » والأموال لا يوصف مفردها وهو « مال » ب « التي » .
وقال الفراء : العرب تقول في النِّساءِ « اللاتي » أو جمع « التي » نفسها .
قوله : « قياماً » إن قلنا : أن « جَعَلَ » بمعنى صَيَّرَ ف « قياماً » مفعول ثانٍ ، والأول محذوف ، وهو عائد الموصول والتقدير : الَّتِي جعلها اللهُ ، أي : صَيَّرَها لكم قياماً ، وَإنْ قُلْنَا : إنها بمعنى « خلق » ف « قياماً » حال ، من ذلك العائد على المحذوف ، والتقدير : جعلها أي : خلقها وأوجدها في حال كونها قياماً .
وقرأ نافع وابن عامر « قيماً » ، وباقي السبعة « قياماً » وابن عمر « قِواماً » بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر « قَواماً » بفتحها وَيُرْوَى عَنْ أبي عمرو ، وقرئ « قِوَماً » بزنة « عِنب » .
فَأَمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أن « قِيماً » مصدر كالقيام وليس مقصوراً منه قال الكسائِيُّ والأخْفشُ والفراء . فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُرادُ به الثباتُ والدَّوامُ ، وقد رُدَّ هذا القولُ بأنه كان يَنْبَغِي أن تَصِحَّ الواو لتحضُنها بِتَوسُّطِها ، كما صَحَّت واو « عِوَض » « وحِوَل » ، وقد أجيبَ عنه بأنه تَبعَ فعله من الإعلال وكما أُعِلَّ فعله أُعِلَّ هو ، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِلَ عليه في الإعلال .
وَحَكَى الأخفش : « قِيماً » و « قِوَماً » قال : والقياسُ تصحيحُ الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشُّذُوذِ كقولهم : « ثِيرَة » وقول بني ضبة « طِيال » في جمع طويل ، وقول الجميع « جِياد » في جمع جواد ، وإذا أعلّوا « دِيَماً » لإعلال « دِيْمة » ، فاعتلالُ المصدر لاعتلال فعلِه أوْلى ، ألا تَرَى إلى صِحَّةِ الجمع مع اعتلالِ مُفْرده في معيشة ، ومعايش ، ومقامة ، ومَقَاوِم ، ولم يُصَححوا مَصْدراً أعلُّوا فِعْلهُ .
الثاني : أنه جمع « قِيمة » ك « دِيَم » في جمع « دِيْمَة » ، والمعنى : أنَّ الأموال كالقيم للنفوس؛ لأنَّ بقاءها بها ، وقد رَدَّ الفارسيُّ هذا الوجه ، وإنْ كان هو قول البصريين غير الأخفشِ ، بأنه قد قرئ قوله تعالى : { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] وقوله : { البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] . ولا يصحُّ معنى القيمة فيهما ، وقد رَدَّ عليه الناس بأنَّه لا يلزم من عدم صحَّة معناه في الآيتين المذكورتين ألا يصح هنا ، إذ معناه لائق ، وهناك معنى آخر يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وأما قراءة باقي السَّبعة فهو مصدرُ « قام » والأصلُ « قِوام » ، فأبدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة ، والمعنى : التي جعلها اللهُ سبب قيام أبدانكم أي : بقائها .
وقال الزَّمخشريُّ : « أي : تقومون بها وتنتعشون بها » .
وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان :
أحدهما : أنه مصدرُ قَاوَمَ ك « لاوَذَ ، لِواذاَ » صحَّت الواوُ في المصدرِ كما صحَّت في الفعل .
الثاني : أنه اسم لما يقوم به الشَّيء ، وليس بمصدر كقولهم : « هذا ملاك الأمر » أي : ما يملك به الأمر .
وَأمَّا قراءة الحَسَن ففيها وجهان :
أحدهما : أنَّه اسم مصدر كالكلام ، والدَّوام ، والسَّلام .
والثاني : أنَّهُ لغة من القوام المراد به القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سببُ بقاءِ قاماتكم ، يقال : جارية حَسَنةُ القِوام ، والقَوام ، والقمة كله بمعنى واحد .
وقال أبو حاتم قوام بالفتح خطأ ، قال : لأنَّ القوام امتداد القامة ، وقد تقدَّم تأويلُ ذلك على أنَّ الكسائيَّ قال : هو بمعنى القِوام أي بالكسر ، يعني أنه مصدر ، وَأمَّا « قِوَماً » فهو مصدر جاء على الأصلِ ، أعني : الصَّحِيحَ العين كالعِوَض ، والحِوَل .
فصل
لما أمر في الآية الأولى بإيتاء اليتامى أمْوَالَهم ، وبدفع صدقات النساء إليهنَّ فَكَأنَّهُ قال : إنَّمَا أمرتكم بذلك إذا كانوا عاقلين بالغين ، متمكنين من حفظ أموالهم ، فأمَّا إذا كانوا غير بالغين ، أو غير عقلاء ، أو كانوا بالغين عقلاء؛ إلاَّ أنَّهم سُفهاء ، فلا تدفعوا إليهم أموالهم ، والمقصود منه الاحتياطُ في حفظ أموال الضُّعفاء العاجزين .
واختلفوا في السُّفَهاء :
فقال مجاهد والضَّحَّاك : هم النِّسَاءَ كما قَدَّمْنَا ، وهذا مذهب ابن عمر ويدلُّ عليه ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« ألا إنَّما خُلِقَت النَّارُ للسُّفَهاء ، يقولها [ ثلاثاً ] ألا وإن السُّفهاء النِّساء ، [ إلاّ امرأة أطاعت قيّمها » ] .
وقال الزَّمخشريُّ وابن زيد : والسُّفهاء ههنا السفهاء عن من الأولاد ، ويقول : لا تعط مالك [ الذي هو قيامك ] ولدك السَّفيه فيفسده . وقال ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير : هم النِّساء [ والصبيان ] إذا علم الرجل أنَّ امرأته سفيهةٌ مُفْسِدةٌ ، وَأنَّ ولده سفيه مفسد ، فلا يسلط واحداً منهما على ماله .
وقيل : المرادُ بالسُّفهاء كل من لم يحفظ المال للمصلحة من النِّسَاءِ والصبيان والأيتام ، وكلُّ من اتَّصف بهذه الصفة؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز ، وقد تقدَّم في « البقرة » أنَّ السَّفه خفة العقل ولذلك سُمِّي الفاسق سفيهاً ، لأنه لا وزن له عند أهل العلم والدين ، ويسمى النَّاقص العقل سفيهاً لخفة عقله .
فصل في دلالة الآية في الحجر على السفيه
قال القرطبيُّ : دلت هذه على جواز الحجر على السَّفيه لقوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } ، وقوله : { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً } [ البقرة : 282 ] فأثبت الولاية على السَّفيه كما أثبتها على الضَّعيف ، والمراد بالضَّعيف في الآية الضَّعيف الْعَقْلِ لصغرِ أو مرض .
فصل في حال السفيه قبل الحجر عليه
[ قال القرطبيُّ ] : واختلفوا في حال السَّفيه قبل الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، فقال مالك وأكثر أصحابه : إنَّ فعل السَّفيه وأمره كُلّهُ جائز ، حتى يحجر عليه الإمامُ ، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأبي يوسف .
وقال ابن القَاسِم : أفعاله غير جائزة ، وإن لم يضرب الإمام على يَدِهِ .
فصل : في الحجر على الكبير
واختلفوا في الحجر على الكبير ، فقال مالك وجمهورُ الفقهاء : يحجر عليه .
وقال أبو حَنِيفَةَ : لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلا ان يكون مُفسداً لماله ، فإذا كان كذلك منع من تسلميهم المالَ حتى يبلغ [ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها ] ، سُلِّمَ إليه المال بكل حالٍ ، سواء كان مُفْسِداً ، أو غير مفسد؛ لأنَّه يُحبَلُ منه لاثنتي عشرة سنة ، ثم يُولد له لِستَّةِ أشهرٍ فيصير جَدَّاً وأباً ، وأنا أستحي أن أحجر على مَنْ يصلح أن يكون جَدَّاً .
فصل في الخطاب في الآية
في هذا الخطاب قولان :
الأوَّلُ : أنَّهُ خطاب الأولياء بأن يُؤتُوا السُّفهاء الذين تحت ولايتهم أموالهم لقوله تعالى : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } [ النساء : 5 ] وبه يصلح نظمُ الآيةِ مع ما قَبلها .
فإن قيلَ : فكان ينبغي على هذا ان يقال : ولا يؤتوا السُّفَهَاء أموالهم .
فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أنَّه تعالى أضاف المال إليهم ، لا لأنَّهم ملكوه ، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه ، ويكفي في الإضافة الملابسة بأدنى سبب .
وثانيهما : إنَّما حَسًنَتِ هذه الإضافَةُ إجراءاً للوحدة بالنَّوع مجرى الوحدة بالشخص كقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } [ النساء : 25 ] { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] وقوله : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 85 ] ومعلوم أنَّ الرَّجل منهم ما كان يقتل نفسه ، وإنَّمَا كان يقتل بعضهم بعضاً ، وكان الكلُّ من نَوْع واحدٍ ، فكا ها هنا لما كان المال ينتفع به نَوْع الإنسان ، ويحتاج إليه ، فلأجل هذه الوَحْدَة النَّوعيَّة حسنت إضافة أموال السُّفهاء إلى الأولياء .
القول الثاني : أنَّه خطاب للآباء بألاَّ يدفعوا مالهم إلى أولادهم إذا كانوا لا يحفظون المال سفهاءُ ، وعلى هذا فإضَافَةُ الأموال إليهم حقيقة ، والقول الأوَّلُ أرجحُ؛ لأنَّ ظاهر النَّهي التحريم ، وأجمعوا على انَّهُ لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصّغار ، ومن النِّسوان ما شاء من ماله ، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السُّفهاء أموالهم؛ لأنه قال في آخر الآية : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } وهذه الوصيّة بالأيتام أشبه ، لأنَّ المرء مشفق بطبعه على ولده ، فلا يقولُ له إلا المعروفَ ، وإنَّما يحتاج إلى هذه الوصيَّة مع الأيتام الأجانب .
قال ابنُ الخطيب : « ولا يمتنع [ أيضاً ] حمل الآية على كلا الوجهين » .
قال القاضي : هذا بعيد؛ لأنه يقتضي حمل قوله : « أمْوالُكم » على الحقيقة والمجاز جميعاً ، ويمكن الجوابُ عنه بأن قوله : { أَمْوَالَكُمُ } يفيدُ كون تلك الأموال مختصة بهم ، اختصاصاً يمكنه التّصرف فيها ، ثم إنَّ هذا الاختصاص حاصل في المال المملوك له وفي المال المملوك للصَّبي ، إلاَّ أنَّه تحت تصرُّفه ، فهذا التَّفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله { أَمْوَالَكُمُ } وإذا كَانَ كذلك لم يبعد حمل اللَّفظ عليهما من حيث إن اللفظ [ أفاد ] معنى واحداً مشتركاً بينهما .
قوله : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم } .
ومعنى الرزق : أن أنفقوا عليهم . وقوله « فيها » فيه وجهان :
أحدهما : أنَّ « في » على بابها من الظرفية ، أي اجعلوا رزقهم فيها .
والثاني : أنها بمعنى « مِنْ » ، أي : بعضها والمراد : [ من ] أرباحها بالتجارة .
قال ابن الخطيب : « وإنَّمَا قال » فيها « ولم يقل : مِنْهَا ، لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رِزْقاً [ لهم ] ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم ، بأنْ يَتَجِرُوا فيها ، فيجعلوا أرزاقهم من الأرْبَاحِ لا من أصول الأموال » . والأمر بالكِسْوَةِ ظاهر .
فصل في تفسير القول المعروف
قوله تعالى : { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } .
اختلف المفسِّرون في القول المعروف :
قال ابن جُريْجٍ ومجاهد : إنه العدة الجميلة من البرِّ والصِّلة .
وقال ابنُ عباس : هو مثل أن يقول : إذا ربحت في سَفْرتِي هذه فعلت بك ما أنت أهله ، وإن غنمت في غَزَاتِي جعلت لك حظاً .
وقال ابن زيد : إن لم يكن ممن يجب عليك نفقته ، فقل له : عافانا الله وإيَّاك ، وبارك اللهُ فيك .
وقيل : قولاً لَيِّنَاً تَطِيبُ بهِ أنفسهم .
وقال الزَّجَّاجُ : « علموهم مع إطعامهم وكسوتهم أمر دينهم » .
وقال القَفَّالُ : « هو أنه إن كان المولى عليه صبياً فيعرفه الولي أنَّ المال ماله ، وهو خازن له ، وأنه إذا زال صباه يَردُّ إليه المال ، ونظيره قوله تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] [ و ] لا تعاشره بالتَّسلُّطِ عليه كمعاشرة العبيد ، وكذا قوله : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } [ الإسراء : 28 ] وإن كان المولى عليه سفيهاً ، وَعَظَهُ ونصحه وحثه على الصلاة ، ورَغَّبَهُ في ترك التبذير والإسراف ، وعَرَّفَهُ عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق ، إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام » .
وقال ابن الخطيب : وهذا أحسن من سائر الوجوه .