كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النساء : 59 ] ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين ، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله - [ تعالى ] - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ } ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ ، وهداية الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم ، أكد الأمْرَ بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى ، فقال : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } الآية ، وقال القُرْطبيّ : لما ذكر اللَّه -تعالى- الأمْر الذي لو فَعَلَهُ المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه ، لأنْعَمَ عليهم ، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ .
فصل : سبب نزول الآية
قال جماعة من المفسِّرِين : « إن ثَوبَان مَوْلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ ، فأتَاهُ يَوماً وقد تَغَيَّر لًوْنُه ، ونحلُ جسمُه ، وعُرف الحُزْن في وَجْهِه ، فقال [ له ] رسُول الله صلى الله عليه وسلم [ ما غيَّر لَوْنَك؟ فقال : يا رسول الله ] مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك ، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ إلاَّ أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [ والصِّدِّيقين ] ، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة ، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك ، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة ، فلا أرَاكَ أبَداً » ، فنزلَتْ [ هذه ] الآيَةَ .
وقال مُقَاتل : نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصِارِ ، قال للنَّبِي صلى الله عليه وسلم يا رسُولَ الله ، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك ، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك ، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة ، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة ، فنزَلتْ هذه الآيةُ ، فلما تُوُفِّي النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً ، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ .
قال المُحَقِّقُون : لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَات؛ إلا [ أن ] سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك ، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا ، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين ، والمَعْنَى : ومَنْ يُطِع الله في أدَاءِ الفَرَائِضِ ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ .
فصل
ظاهر قوله : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة ، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي فقي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة .
قال القَاضي : لا بد من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره ، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يَأتونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة .
قال ابن الخَطِيب : وعِنْدِي فيه وَجْهٌ أخَرَ ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول : قوله : { وَمَن يُطِعِ الله } [ أي : ومن يُطِع الله ] في كَوْنِهِ إلهاً ، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلاَلَهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [ وقُدْرَته ] ، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَاد :
الأوّل : منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى ، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر ، وصَفَاؤُهَا أقْوَى ، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام ، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب .
الثاني : قال ابن الخَطِيب : إنه - تعالى- وعد المُطيعين في الآيةِ المتقدِّمَة بالأجْر العَظِيم والهداية ، ووعَدهُم هنا بِكَوْنِهِم مع النّبِيَّين [ كما ذكر في ] الآية ، وهَذَا الذي خَتَمَ به أشْرُف ممَّا قَبْلَهُ ، فليس المُرادُ مَنْ أطَاعَ الله وأطاعَ الرَّسُول مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين - كَوْن الكل في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ؛ لأن هذا يقْتَضِي التسوية في الدَّرجة بين الفَاضِلِ والمَفْضُوُل ، وأنَّه لا يجُوزُ ، بل المُرادُ : كونُهم في الجَنَّةِ بحَيْثُ يتمكَّن كل واحدٍ مِنْهُم من رُؤيَة الأخَرَ ، وإن بَعُد المَكَان؛ لأن الحِجَابِ إذَا زَالَ ، شَاهدَ بَعْضُهم بَعْضَاً ، وإذا أرَادُوا الزِّيَارَة والتَّلاقِي قَدَرُوا عَلَيْهِ ، فهذا هُو المُرادُ من هَذِه المَعيَّة .
قوله : { مِّنَ النبيين } فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه بَيَان ل « الذين أنعم الله عليهم » .
الثاني : أنه حلٌ من لضمير في « عليهم » .
الثالث : أنه حلٌ من الموصُول ، وهو في المَعْنَى كالأوَّل ، وعلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْن فيتعلَّق بمحْذُوف ، لأي : كَائِنين من النَّبِيِّين .
الرابع : أن يَتَعلَّق ب « يُطِع » قال الرَّاغِب : [ أي ] : ومن يُطِع الله والرَّسُول من النَّبِيّين ومَنْ بَعْدَهُم ، ويكون قوله : { فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } إشارةٌ إلى الملإ الأعْلَى .
ثم قال : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } ويُبيَّين ذلك قوله - عليه السلام - عند المَوْتِ : « اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى » وهذا ظاهِر ، وقد أفْسَدَهُ أبو حَيَّتن من جِهَةِ المَعْنَى ، ومن جَهَةِ الصِّنَاعَة :
أمَّا من جِهَة المَعْنَى : فلأن الرَّسُول هُنَا هو مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، وقد أخْبَر- تعالى- أنَّه من يُطِع الله ورسُولَهُ ، فهو مع مَنْ ذَكَرَهُ ، ولو جَعَلَ « مع النبيين » متَعلِّقاً ب « يُطِع » ، لكان « من النبيين » تَفْسيراً ل « مَنْ » الشَّرطيَّة ، فَيَلْزَم أن يَكُونَ في زَمَانِهِ- عليه الصلاة والسلام - [ أو بَعْدَهُ أنْبياء ] .
وأمَّا من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ؛ فلأن ما قَبْلَ الفَاءِ [ يُطيعُونَه ، وهذا غَيْر ممْكِن؛ لقوله تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } وقوله ] - عليه السلام- : « ولا نَبِيّ بَعْدِي » الوَاقِعَة جَوابَاً للشَّرْطِ لا يعمل فيما بَعْدَهَا ، لو قُلْتُ ، إن تَضْرِب يَقُم عَمْرو وزَيْداً لم يَجُزْ : وهل هذه الأوْصَاف الأرْبَعة لِصِنْفٍ واحدٍ أو لأصنَافٍ مختلفة؟ قولان .
فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد
قيل : المُرَاد بالنَّبِيَّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء والصَّالِحِين : صِنْفٌ واحد من النَّاس ، وقيل : المراد أصْنَاف مُخْتَلِفَة؛ لأن المَعْطُوف يَجبُ أن يكُون مُغَايِراً للمعْطُوف عَلَيْهِ ، وقيل : الاخْتِلاَف في الأصْنَافِ الثَّلاثة غير النَّبِيِّين ، فالصِّدِّيقُون هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيق : هو اسمٌ للمُبَالِغِ في الصِّدْقِ ، ومن عادَته الصِّدْق .
وقيل : الصِّدِّيق : هو اسمٌ لمن سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ، [ وعلى هذا فأبُو بكر أوْلَى الخَلق بهذا الاسْم؛ لأنَّهُ أول من سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صلى الله عليه وسلم ] ؛ واشْتَهَرَت الرِّوَاية بذلك ، وكان عَلَيَّ صَغِيراً واتَّفَقُوا على أنَّ أبا بَكْر لمَّا آمَنَ ، جَاءَ بَعْدَ ذلك بِمُدَّة قَلِيلَة بِعُثْمَان بن عَفَّان - رضي الله عنه- ، وطَلْحَة بن الزُّبَيْرِ ، وسَعْد بن أبي وقَّاص ، وعُثْمَان بن مَظْعُون- رضي الله عنهم- حتى أسْلَمُوا ، فكان إسْلامُه سَبَباً لاقْتِدَاء هؤلاء الأكَابِرِ بِهِ؛ فثبت أنَّه - رضوان الله عَلَيْه- كان أسْبَق النَّاس إسلاماً ، وإن كان إسلامُه صَار سَبَباً لاقْتِدَاء الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ ، فَكَانَ أحَقَّ الأمَّة بهذا الاسْم أبو بكر ، وإذا كان كَذِلِكَ ، كان أفْضَل الخَلْقِ بعد الرَّسُول [ عليه الصلاة والسلام ] ، وجَاهَدَ في إسْلامِ أعْيَان الصَّحَابةِ - رضي الله عنهم- في أوّل الإسْلام ، حين كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في غَايَةِ الضَّعْفِ ، وَعَلَيَّ - رضي الله عنه- إنما جاهدَ يَوْمَ أحُدٍ ويَوْمَ الأحْزابِ ، وكان الإسْلامُ قَوِيَّاً ، والجهاد وَقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلَ من الجِهَادِ وقت القُوَّة؛ لقوله - تعالى- : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] ، ودلَّ تَفْسِير الصِّدِّيق بما ذَكَرْنَا ، على أنَّهُ لا مَرْتَبَةَ بعْد النُّبُوَّة [ أشْرَف ] في الفَضْلِ إلا الصِّدِّيق ، فإنه أينما ذُكِرَ النَّبِيُّ والصِّدِّيق لَمْ يُجْعَل بينهما وَاسِطَةِ ، قال - تعالى - في صفة اسْماعيل : { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } [ مريم : 54 ] ، وفي صِفَةِ إدْرِيس : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } [ مريم : 41 ] ، وقال هُنَا ، { مِّنَ النبيين والصديقين } وقال : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، فلم يجْعَل بَيْنَهُمَا وَاسِطَة ، وقد وفَّقَ الله الأمَّة التِي هي خَيْر أمَّةِ ، حتى جَعَلُوا الإمام بعد الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- أبا بَكْر على سبيل الإجْمَاع ، ولما تُوُفي- رضي الله عنه- دُفِنَ إلى جَنْبِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا دَليلٌ على أنَّ اللهَ- تعالى- رفع الواسِطَة بين النَّبِيِّين والصِّدِّيقين .
وأمَّا « الشهداء » قيل : الذين استشهدوا يوم أُحُد ، وقيل : الَّذِين استشهدُوا في سَبيل الله .
وقال عكرمة- رضي الله عنه- : النَّبِيُّون هَهُنَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، والصِّدِّيقُون أبُو بكر ، والشُّهَدَاء ، عُمَر وعُثْمَان وعَلِبّ ، والصَّالِحُون : سائر الصَّحَابَةِ- رضي الله عنهم [ أجمعين ] .
قال ابن الخطيب : لا يجُوزُ أن تكون الشَّهَادَةُ مُقَيَّدة بكون الإنْسَانِ مَقْتُول الكَافِر؛ [ لأن مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَة عَظيِمة في الدِّين ، وكون الإنْسَان مَقْتُول الكَافِر ] ليس زيَادة شَرَفٍ ، لأنّ هذا القَتْل قد يَحْصُلُ في الفُسَّاق ، وفِيمَن لا مَنْزِلَة له عِنْدَ الله .
وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول : اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه ، لكَان قد طَلَبَ من الله ذَلِكَ القَتْل ، وهو غَيْر جَائِزٍ؛ لأنَّ صُدُور [ ذلك ] القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ ، وأيضاً قال- عليه الصلاة والسلام- : « المَبْطُونُ شَهِيدٌ ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ » ، فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل ، بل نَقُول : الشَّهيدُ : « فَعِيلٌ » بمعنى « الفاعِل » ، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ديِن اللهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان ، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان ، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْط ، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم الله - تعالى- في قوله : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] يُقَال للمَقْتُول في سَبِيلِ الله : شَهِيدٌ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله ، وشَهَادَتهِ له بأنَّه هو الحَقُّ ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل .
وأمّا الصَّالِحُون : فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة : إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل : الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه .
قوله : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } في نصب رَفيقاً قَوْلان :
أحدُهُمَا : أنه تَمْيِيزٌ .
والثاني : أنه حَالٌ ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً ، فيه احْتِمَالاَن :
أحدهما : أن يكون مَنْقُولاً من الفَاعِلِيَّة ، وتَقْديره : وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك ، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير لمُمَيَّز ، ولا يجُوزُ دُخُولُ « مِنْ » عليه .
والثاني : ألاَّّ يكون مَنْقُولاً ، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز ، وتدخل عليه « مِنْ » ، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً؛ لأحَد مَعْنَيَيْن :
إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد ، تذهب به العَرَي إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع؛ قال- تعالى- : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 16 ] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً ، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ ، وجوَّز الزَّجَّاج ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً ، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه .
والمعنى الثَّاني : أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى ، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنِه فَاضِلة ، ويَجُوز في « أولئك » أن يكون إشَارَة إلى [ النبيين ومن بَعْدَهُم ، وأن يكُون إشارَةً إلى ] مَنْ يُطِع الله وِرسُوله ، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا؛ كقوله [ تعالى ] : { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [ الحج : 5 ] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال : إنه رَاعَى لَفْظُ [ « مِنْ » ] فأفْرَد في قوله « رفيقاً » ، ومَعْنَاها فجمع في قوله : « أولئك » إلا أن البَدَاءَة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن ، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في « يَطِعْ » ثم على المَعْنَى في « أولئك » والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من « حَسُنَ » .
وقرأ أبو السَّمَّال : بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً ، نحو : عَضْد في : عَضُد ، وهي لُغَةُ تَمِيم ، ويَجُوز « حُسْ » ، بضم الحَاءِ وسُكُون السين ، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها ، وهذه لُغَة بَعْضِ « قَيْس » ، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ هذا من بَابِ التَّعَجُّيَّ؛ فإنه قال : فيه معنى التَّعَجُّب ، كأنه قيل : وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً ، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب .
وقُرئ : « وحَسْن » بسُكون السِّين؛ يقول المتعجب : حَسْنَ الوَجْهِ وَجْهُك ، وحَسْنُ الوَجْه وجْهك بالفَتْح والضَّمِّ مع التَّسْكِين .
قال أبو حَيَّان : وهو تَخْلِيط وتَرْكِيبُ مذْهب على مَذْهَبٍ ، فنقول اخْتَلَفُوا في فِعْلٍ المراد به المَدْح . فذهب [ الفارسي ] وأكثر النُّحَاةِ : إلى جَوازِ إلْحَاقه ببَابِ « نِعْم » و « بِئْسَ » [ فقط ، فلا يكُون فَاعِلُهِ إلا مَا يكُون فَاعِلاً لَهُمَا ] .
وذهب الأخْفَش والمُبَرِّد إلى جَوازِ إلْحَاقِه بِبَابِ « نَعْمَ » و « بِئْسَ » ] ، فيُجْعَل فَاعِله كَفَاعِلَهمَا ، وذلك إذا [ لم ] يَدْخُلُه مَعْنَى التَّعَجُّب [ وإلى جَوَازَ إلْحَاقِه بَفِعْل التَّعَجُّب ] فلا يجري مُجْرَى « نعم » و « بِئْس » في الفَاعِل ، ولا في بَقِيَّة أحْكَامِهما ، فَتَقُول : لَضَرُبَتْ يدك ولضرُبَت اليَدْ ، فأخذ التَّعَجُّبَ من مَذْهَب الأخْفَش ، والتمثيل من مَذْهَب الفارسيّ ، فلم يَتَّبع مَذْهَباً من المَذْهَبَيْن ، وأما جَعْله [ التَّسكِين ] والنَّقْل دلِيلاً على كَوْنِهِ مُسْتَقِلاً بالتَّعَجُّب ، فغير مُسَلَّم؛ لأن الفَرَّاء حَكَى في ذلك لُغَةً في غير مَا يُرَادُ به التَّعَجُّب .
و « الرَّفِيقُ » في اللُّغَة مأخُوذ من الرِّفْق ، وهو لينُ الجَانِبِ ولطافة الفِعْل ، وصَاحِبه رَفِيقٌ ، ثم الصَّاحِبُ يسمى رَفِيقاً؛ لارْتفَاقِكَ به وبِصُحْبَتِه ، ومن هذا قِيل للجَمَاعة في السَّفَر : رُفْقَة؛ لارتفاق بَعْضِهِم بِبَعْض ، والمَعْنَى : أن هَؤلاَءِ رُفَقَاء في الجَنَّة .
روى أنَس : بن مالِك قال : قال رجُل : يا رسُولَ الله مَتَى السَّاعة؟ قالَ ومَا أعْدَدْتَ لَهَا؛ فلم يَذْكُر كَثيراً إلا أنَّهُ يُحِبُّ الله ورسُوله . قال : فأنْتَ مع مَنْ أحْبَبْت .
قوله : { ذلك الفضل مِنَ الله } « ذَلِكَ » مُبْتَدأ ، وفي الخَبَر وَجْهَان :
أحدهما : أنه « الفضل » والجَار والمَجْرُور في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ ، والعَامِلُ فيها مَعْنَى الإشَارَة .
والثاني : أنه الجَارُّ ، و « الفضل » صِفَة لاسْم الإشَارَة ، ويجوز أن يكُون « الفضل » والجار بَعْدَه خَبَرَيْن [ ل « ذَلِك » ] على رَأي من يجيزُه .
فصل : في دفع شُبه المعتزلة القائلين بوجوب الثواب
« ذلك » [ اسم ] إشَارَة إلى ما تَقَدَّم ذكْرُه من الثَّوَابِ ، وقد حكم عليه بأنَّه فَضْل من اللهِ ، وهذا يَدُلُّ على أن الثواب غير وَاجِبٍ على الهِ - تعالى- ، وَيَدُلُّ عليه من جِهَة العَقْلِ أيْضاً وُجُوه :
أحدها : أن القٌدْرَة على الطَّاعَةِ إن كَانَت لا تَصْلُح إلا للطَّاعَةِ ، فَخَالِقُ تلك القُدْرَةِ هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعَة ، فلا يَكُون فعْلُه مُوجباً شَيْئاً ، وإن كانت صالحة للمَعْصِيَة أيْضاً ، لم يترجَّحْ جَانِب الطَّاعة [ لله ] على جَانِب المَعْصِيَة إلا بِخَلْقِ الدَّلعِي إلى الطَّاعَة ، ويصِيرُ مَجْمُوع القُدْرَةِ والدَّاعِي موجِباً للفِعْل ، فخالق هذا المَجْمُوعِ ، هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعة ، فلا يَكُون فِعْلُه مُوجِباً عليه شَيْئاً .
وثانيها : أنَّ نِعم الله على العَبْدِ لا تُحْصَى ، وهي مُوجِبةٌ للطَّاعَة والشُّكْر ، فإذا وَقَعَتْ في مُقَابَلَة النِّعَم السَّالِفَة ، امتنع كَوْنُها مُوجِبَة للثَّوَابِ في المُسْتَقْبَل .
وثالثها : أن الوُجُوب يَسْتَلْزِم [ اسْتِحْقاق ] الذَّمِّ عند التَّرْك ، وهذا الاسْتِحْقَاقُ يُنَافِي الإلَهِيَّة ، فيمتنع حُصُولُه في حَقِّ الإلَه - [ سبحانه وتعالى ] -؛ فَثَبَت أنَّ ظاهر الآيَة كَمَا دَلَّ على أنَّ الثَّواب فَضْل من الله- تعالى- فالبَرَاهيِنُ العقْلِيّة القَاطِعَة دَالَّةٌ على ذَلِكَ أيْضَاً .
فصل
يحتمل أن يكُون معنى الآية : ذَلِكَ الثَّوَاب لِكَمَالِ درجَتِه هو الفَضْلُ من الله ، وأن ما سِوَاهُ ليس بِشَيء ، ويُحْتَمَلُ أن يكوُون ذلك الفَضْلُ المَذْكُور والثَّواب المَذكُور هو من اللهِ لا مِنْ غَيْرِه .
{ وكفى بالله } أي : بثَوابِ الآخِرَة ، وقيل : لمن أطاع الله ورسوله وأحبه وفيه بَيَان أنَّهم لم ينالوا تلك الدَّرَجَة بطَاعَتِهم ، إنَّما نالوها بِفَضْلِ الله - عز وجل- .
روى أبو هُريرة- رضي الله عنه- . قال : قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم : « قَارَبُوا وسَدَّدُوا واعْلَمُوا أنَّه لا يَنْجُو أحَدٌ مِنْكُم بِعَمَلِهِ » قالُوا : ولا أنتَ يا رسُول الله؟ قال : « ولا أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني الله بِرَحْمَةٍ منه وفَضْل » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
قال القًرْطُبِي : إنه- تعالى- لمّا ذكر طاعة لله وطَاعَة رسُولِهِ ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته ، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم ، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم .
وقال ابن الخطيب : لما رغَّب في طاعة الهِ وطاعةِ رسُوله ، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات ، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين ، والحِذْر بمعنى؛ كالأثر والإثْر؛ والمَثَل والمِثْل ، والشَّبَه والشِّبْه .
قيل : ولم يُسْمَه في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك .
يقال : أخَذَ حِذْرَهُ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه ، والمَعْنَى : احْذَرُوا واحْتَذِروا من العَدُّوِّ ، ولا تمكَّنُوه من أنفُسِكم .
وقال الوَاحِدِيُّ : فيه قَوْلاَنِ :
أحدهما : المُرَاد بالحِذْرِ [ ها ] هُنَا السِّلاح ، والمعنى : خُذُوا سِلاَحَكُ ، والسِّلاح يسمى حِذْراً؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر .
والثاني : « خذوا حذركم » بمعنى : احْذَرُوا عَدُوَّكن ، فعلى الأوَّل : الأمر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به ، وعلى الثَّانِي : أخذ السَّلاح مَدْلُول عليه بِفَحْوَى الكَلامِ .
فإن قيل : إنَّ الَّذِي أمَر الله - تعالى- بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُقْضَى إلى الوُجُودِ ، لم يَنْعَدِم ، وإن كانَ الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ ، فلا حَاجَة إلى الحذْر ، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث ، قال- عليه السلام- : « المَقْدُورُ كَائِنٌ » وقيل : الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر .
فالجوابُ : أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع؛ فإنه يُقَالُ : إن كان الإنْسَان من أهْل السَّعَادة في قَضَاءِ الله وقدرِه ، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ ، لم ينْفَعْه [ الإيمانُ و ] الطَّاعَة ، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة .
واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء الله - تعالى- كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر ، وكان قَوْل القَائِل : أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَقِضاً؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً ، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ .
قوله : « فانفروا [ ثبات ] » يقال : نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً ، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ ، وخَرَجُوا للحَرْبِ ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون : إذا حَثَّهُم على النَّفِير وَدَعَاهُم إلَيْه؛ ومنه قوله - عليه السلام- : « [ و ] إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا » والنَّفِير : اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون؛ ومنه يُقال « فلان فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ .
وقال النُّحَاة : أصْلُ هذا الحَرْفِ من النُّفُور والنِّفَارِ؛ وهو الفَزَع ، يقال : [ نَفر ] إليه؛ ونَفَر مِنْهُ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ ، وفي مُضَارعه لُغَتَان » ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا ، وقيل : يُقَال : نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع ، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش : « فانفُروا » « أو انفُروا » بالضم ] فيهما ، والمَصْدَر النَّفِير ، والنُّفُور ، والنَّفْر : الجماعة كالقَوْم والرَّهْط .
[ قوله ] : « ثبات » نصب على الحَالِ ، وكذا « جميعاً » والمَعْنَى « انْفِرُوا جَمَاعَاتٍ [ متفرِّقَة ] [ أي ] سَرِيّة بعد سَرِيّة ، أو مُجْتَمِعِين كَوْكَبَةً وَاحِدَة ، وهذا المَعْنَى الَّذي أراد الشَّاعِر في قوله : [ البسيط ]
1821- . ... طَارُوا إلَيْه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانَا
ومثله قوله : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي : على أيّ الحَالَتَيْن كُنْتُم فَصَلُّوا .
قال أبُو حَيَّان : ولم يُقْرَأ » ثبات « فيما عَلِمْت إلا بكَسْر التَّاء . انتهى .
وهذه هي اللُّغَةُ الفَصيحَة ، وبَعْض العَرَب يَنْصِب جَمْع المُؤنَّث السَّالم إذا كان مُعْتَلَّ اللام مُعوضاً منها تاء التأنيث بالفَتْحَة ، وأنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
1822- فَلَمَّا جَلاَهَا بالأيَّام تَحَيَّزَتْ ... ثُبَاتاً عَلَيْهَا ذُلُّهَا واكْتئابُهَا
وقرئ شاذاً : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } [ النحل : 57 ] [ بالفتحة ] ، وحكي : سَمِعْتُ لغتَهُم ، وزعم الفَارِسي أن الوَارِدَ مُفْردٌ لامه؛ لأن الأصْل » لُغَوَة « ؛ فلما رُدَّت اللام ، قُلِبَت ألفاً ، وقد رُدَّ على الفَارِسي : بأنه يلْزَمُهُ الجَمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْه ، ويَرُدُّ عليه أيْضاً القِرَاءة المتقَدِّمة في الثبات؛ لأن المُفْرَد منه مكْسُورُ الفَاءِ .
[ » وثبات « جَمْعُ ثُبَة ، ووزنها في الأصْل : فُعَلَة ، كَحُطَمة ، و ] إنما حُذِفَت لامُها وعُوض عنها تاءُ التَّأنِيثِ ، وهل لامها واواً أو يَاء؟ قولان :
حُجَّة القَوْل الأول : أنها مُشتقَّة من [ ثَبَا يُثْبُو؛ كَخَلا يَخْلُو ، أي : اجْتَمع .
وحُجَّةُ القول الثاني : أنها مُشْتَقة من ] ثبيت على الرجل إذا أثْنيت عليه؛ كأنك جمعت مَحاسنه ، وتجمع بالألفِ والتَّاءِ ، وبالوَاوِ والنَّونِ ، ويجوز في فَائِهَا حين تُجْمَع على » ثُبين « الضَّم والكَسْر ، وكذا ما أشبَهَهَا ، نحو : قُلة ، وبُرة ، ما لم يُجْمَع جَمْع تكْسِير .
والثُّبة : الجَمَاعة من الرِّجَال تكُون فَوْقَ العَشرة ، وقيل : الاثْنَانِ والثَّلاثة ، وتُصَغَّر على » ثُبْيَة « ، بردِّ المَحْذُوف ، وأما » ثُبة الحَوْضِ « وهي وَسطُهُ ، فالمحذُوفُ عَيْنُها ، لأنَّها من بابِ المَاء ، أي : يَرْجِع ، تُصَغِّر على » ثُوَيْبَةٍ « ؛ كقولك في تَصْغيرِ سَنَة : سُنَيْهَة .
فصل
قال القرطبي : قيل إن هذه الآية مَنْسُوخة بقوله : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] وبقوله { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] [ ولأن يكُون { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] مَنْسُوخاً بقوله : { فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً } ، وبقوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } [ التوبة : 122 ] اولى؛ لأن فرض الجِهَادِ على الكِفَايَة ، فمتى سَدَّ الثُّغُورَ بَعْضَ المسْلِمِين ، أسْقِطَ الفَرْضُ عن البَاقِينَ .
قال : والصَّحِيحُ أن الآيَتَيْنِ محكْمَتَانِ ، إحَدَاهما : في لوَقْتِ الذي يُحْتَاجُ فيه إلى تعيُّن الجَميع ، والأخْرَى : عند الاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرِهَا .
قوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } » منكم « خبر مُقَدَّم ل » إنْ « واسمُها ، و » لمَنْ « دخلت اللام على الاسْم تأكِيداً لما فَصَلَ بَيْنَه وبَيْنَهَا بالخَبَر ، و » من « يجوزُ أن تكُونَ مَوْصُولة ، [ أو نكرة مَوْصُوفة ] واللاّم في » ليبطئن « فيها قَوْلان :
أصحهما : أنها جَوَابُ قَسَم مَحْذُوف ، تقديره أُقْسِمُ بالله لَيُبَطِّئنَّ ، والجُمْلَتَان- أعْنِي- القَسَم وجَوابُه- صِلَة ل » مَنْ « ، أو صِفَةٌ لَهَا على حَسَبِ القَوْلَيْن المُتَقَدِّمَيْن ، والعَائِدُ على كِلاَ التَّقْدِيرَيْن هو الضَّمِير المرفُوع ب » ليبطئن « ، والتَّقْدِير : وإنْ مِنْكُم لِلَّذِي ، أو لَفَرِيقاً والله لَيُبَطِّئَنَّ .
واسْتَدَلَّ بعض النُّحَاة بهذه الآيَةِ على أنَّه يجوز وَصْلُ المَوْصُولِ بجملة القَسَمِ وجوابه [ إذا عَرِيَتْ جُمْلَةُ القَسَم من ضمير عَائِدٍ على الموصول نحو : « جاء الذي أحْلِفُ باللهِ لقد قام أبوه » وجعله ] ردَّا على قدماء النحاة ، حيث زَعَمُوا مَنْعَ ذلك [ ولا دلالة على ذلك ] ، إذ لقائل أن يقُول : ذلك القَسَم المَحْذُوفُ لا أقَدِّرُهُ إلا مُشْتَمِلاً على ضَمِيرٍ يَعُود على المَوْصُول .
والقول الثاني : نقله ابن عَطِيَّة عن بَعْضِهِم : أنَّها لام التَّأكِيد بَعْدَ تأكيد ، وهذا خطَأٌ من قَائله ، والجُمْهُور على « ليبطئن » بتشديد الطَّاءِ .
ومُجَاهد بالتَّخفيف : و [ على ] كلتا القِرَاءَتيْن يُحْتَمل أن يكُون الفِعْل لازماً ومُتَعَدِّياً ، يقال : أبْطَأَ وبَطَّأ أي تَكَاسَلَ وتَثَبَّط ، والتَّبْطِئَة : التَّأخُر عن الأمْرِ ، فهذان لزِمَان ، وإن قُدِّر أنهما مُتَعَدِّيانِ ، فمعُمُولُهُمَا مَحْذُوفٌ ، أي : ليُبَطِّئَنَّ غَيْرَه ، أي : يُثَبِّطُه ويُجِبْنُه عن القَتَالِ ، و « إذ لم أكن » ظرف ، نَاصِبُهُ : « أنعم الله » .
فصل في تفسير « منكم »
قوله : « منكم » اختَلَفُوا فيه :
فقيل : المُرادَ منه : المُنافِقُون وهم عبدُ الله بن أبّيِّ وأصحابه ، كانوا يُثَبِّطُونَ النَّاس عن الجِهَادِ مع رسُولِ اله صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : تَقْدِير الكَلاَمِ يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم وأن مِنْكُم لمن ليُبَطِّئَنَّ ، فإذا كان عَذا المُبَطِّئ مُنَافِقاً ، فكيف يُجْعَلُ قِسْماً من المُؤمِن في قوله « أن منكم » .
فالجواب : أنه جعل المُنافقين من المُؤمنين من حَيْثُ الجِنْسِ والنَّسَبِ والاخْتِلاَطِ ، أو من حيث الظَّاهِر؛ لتشبههم بالمُؤمنين ، أو من حَيث زعمهم ودَعْواهُم ، كقوله : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } [ الحجر : 6 ] .
وقيل : المراد ضَعَفَهُ المؤمنين ، وهو اخْتِيَار جَمَاعَةٍ من المُفَسِّرين ، قالُوا : والتَّبْطِئَةُ بمعنى الإبْطَاء ، وفَائِدَة هذا التِّشْديد تَكَرُّر الفِعْلِ مِنْهُ .
حكى أهْل اللُّغَة أن العَرَبَ تَقُول : ما بَطأ بك يا فُلانُ عَنَّا ، وإدْخَالهم البَاء يَدُلُّ على أنَّه في نَفْسِه غير مُتَعَدٍّ ، فَعَلَى هذا مَعْنَى الآية : أن فيهم من يُبطئُ عن هذا الفَرْضِ ويتثاقل عن الجَهَادِ ، وإذا ظَفِر المسْلِمُون ، تَمنَّوْا أن يكُونُوا مَعَهُم ليَأخُذُوا الغَنِيمَة .
قال : هؤلاء هُمُ الَّذيِن أرادَ الله بقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] ، قال : ويَدُلُّ على أنَّ المُرَاد بقوله : « ليبطئن » الإبْطَاء منهم لا تَثْبِيطَ الغَيْرِ ، لم يَكُن لِهَذا الكَلاَمِ مَعْنًى .
وطعن القَاضِي في هذا القَوْلِ : بأنه - تعالى - حَكَى أن هؤلاَء المُبَطِّئِين ، يقولون من الله - تعالى- ، وهذا إنما يَلِيقُ بالمُنَافِقين ، وأيضاً لا يَليق بالمُؤمنين أن يُقال لهم : { ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ } ، يعني الرَّسُول « مودة » ، ثم قال : وإن حُمِلَ « ليبطئن » على أنه من الإبْطَاءِ والتَّثَاقُل ، صح في المُنَافِقِين ، لأنهم كانوا يَثَاقَلُون .
قوله : « فإن أصابتكم [ مصيبة ] أي : قَتْل وهَزيمَة » قال قد أنعم الله علي « بالقعود ، و » إذ لم أكن معهم شهيداً « ، أي : شَاهِداً حاضراً في تلك الغَزْوَةِ ، فيُصِيبُنَي ما أصابَهُم ، و » إذا لم أكن « طرف نَاصِبُه : » أنعم الله « ، » ولئن أصابكم فضل من الله « أي : ظَفَرٌ وغَنِيمة ، » ليقولن « هذا المنافق { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } [ الآية ] الجمهور على فَتْح لاَمِ » ليقولن « لأنَّه فِعْل مُسْنَد إلى ضَمِير » من « مبني على الفَتْحِ لأجل نُون التَّوكِيد ، وقرأ الحَسن بِضَمِّها ، فأسْند الفِعْل إلى ضَمِير » من « أيضاً [ لكن ] حملاً له على مَعْنَاها؛ لأن قوله : » لمن ليبطئن « في معنى الجماعة والأصْلُ : لَيَقُولُونَنَّ وقد تقدَّم تَصْرِيفُه .
قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } هذه » كأن « المُخَفَّفَةُ [ من الثَّقيلَة ] وعملُها باقٍ عند البَصْرِيّين ، [ وزعم الكُوفيُّون أنها حين تَخْفِيفها لا تَعْمَل كما لا تعملُ » لَكن « مُخَفَّفَة عند الجُمْهُور ، وإعْمَالُها عند البَصْرِيِّين ] غَالباً في ضَمِير الأمْرِ والشَّأن ، وهو وَاجِبُ الحَذْفِ ، ولا تَعْمَل عِنْدَهُم في ضَمِير غَيْرِ؛ ولا فِي اسْم ظَاهِر إلا ضَرُورةً ، كقوله : [ الهزج ]
1823- وَصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْر ... كَأنَّ ثَدْيَيْه حُقَّانِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1824- وَيَوْمَاً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ ... كأنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إلَى وَارِقِ السُّلَمْ
في إحْدى الرِّوَايات ، وظَاهِرِ كلام سَيَبويْه : أنَّها تَعْمَل في غير ضميرِ الشَّأنِ في غير الضَّرُورَة ، والجُمْلَة المنْفِيَّة بعدها في مَحَلِّ رَفع خَبَراً لَهَا ، والجملة بَعْدَهَا إن كانت فِعليَّة فتكون مُبْدوءَة بِ » قَدْ « ؛ كقوله : [ الخفيف ]
1825- لا يَهُولَنَّكَ اصْطِلاؤُكَ لِلْحَرْ ... بِ فَمَحْذُورُهَا كَأنْ قَدْ ألَمَّا
أو ب » لَمْ « كهذه الآية ، وقوله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } [ يونس : 24 ] وقد تُلُقِيتْ ب » لَمَّا « في قول عمَّار الكلبي : [ الرمل ]
1826- بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَِّيَالِي شَمْلَهُمْ ... فَكَأنْ لَمّض يَكُونُوا قَبْلَ ثَمْ
قال أبو حيَّان : ويحتاج مِثْل هذا إلى سَمَاعِ من العَرَبِ ، وقال ابن عَطِيَّة : » وكأن « مُضَمَّنة مَعْنَى التَّشْبيه ، ولكنها لَيْسَتْ كالثَّقِيلَةَ في الإحْتِيَاج إلى الاسْم والخَبَر ، وإنما تَجيءُ بعدها الجُمَل ، وظَاهِرِ هذه العِبَارَة : أنها لا تَعْمَلُ عند تَخْفِيفها ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَوْل الكُوفيين لا البَصْرِييِّن ، ويُحْتَمَل أنه أراد بذلك أن الجُمْلَة بعدها لا تَتَأثَّر بها لَفْظاً؛ لأن اسْمَهَا مَحْذُوف ، والجُمْلَة خَبَرُها .
وقرأ ابن كثير ، وحفص من عاصم ، ويعقوب : [ يَكُنْ ] بالياء؛ لأن المَوَدَّة في مَعْنَى الوُد [ و ] لأنه قد فُصِلَ بَيْنَها وبَيْن فِعْلِها ، والبَاقُون : بالتَّاء اعْتِبَاراً بلَفْظِها .
قال الواحدي : وكِلْتَا القراءَتَين قد جَاء التَّنْزِيل به؛ قال { قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ يونس : 57 ] وقال : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ } [ البقرة : 275 ] فالتأنيث هو الأصْلُ ، والتَّذْكِير يَحْسُن إذا كان التَّأنِيثُ غير حَقِيقيّ ، لا سيِّما إذا وقع فَاصِل بين الفِعْل والفَاعِل ، و » يكُون « يحتمل أن تكُون تَامَِّةٌ ، فيتعلق الظَّرْفُ بها ، أو بِمَحْذُوفٍ ، لأنَّه حالٌ ممن » مودة « إذ هو في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّم عليها ، وأن تكُون نَاقِصة ، فيتَعَلَّق الظَّرْف بمحذوفٍ على أنه خَبرَهَا ، واخْتَلَفُوا في هَذِه الجُمْلَة على ثلاثةِ أقْوَالٍ :
الأوّل : أنها اعْتِرَاضيَّة لا مَحَلَّ لها من الإعْرَابِ ، وعلى هَذَا فما المُعْترض بَيْنَهما؟ فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهَا مُعْتَرِضَة بين جُمْلَة الشَّرْطِ التي هِيَ { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ } وبين جُمْلَة القَسَم التي هي » وَلَئِنْ أصَابَكُمْ « ، والتَّقْدير : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } قال { قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } كأن لم تكن بينكم [ وبينه مودة ، ولئن أصابكُم فَضْل .
فأخرت الجُمْلَة المعترض بها أعني قوله ] { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ } والنية بها التوسط ، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتُريدي ، وردَّ الرَّاغِب الأصْبَهاني هذا القَوْل بأنَّه مستَقْبَحٌ ، لأنه لا يَفْصِل بين بَعْض الجملة [ وبَعْض ] ما يتعلَّق بِجُمْلة أخْرَى .
قال شهاب الدين : وهَذَا من الزَّجَّاج كأنه تَفْسِير مَعْنَى لا إعْرَاب ، على مَا يأتِي ذِكْرُه عَنْهُ في تفسير الإعْرَاب .
الوجه الثاني : أنها مُعْتَرِضَة بين القَوْل ومَفْعُوله ، والأصْل : ليقولنَّ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم كأن لَمْ يكُن ، وعلى هذا أكثر النَّاسِ ، وقد اخْتَلَفَت عِبَاراتُهم في ذَلِك ، ولا يَظْهَرُ المَعْنَى إلا بِنَقْل نصوصهم فَلْنَنْقُلْهَا .
فقال الزَّمَخْشَري : اعْتِرَاضٌ بين الفِعْلِ الَّذي هو « ليقولن » وبين مَفْعُولِهِ وهو « يا ليتني » والمعنى : كأنَّه لم يتقدم له مَعَكُم مَوَدَّة؛ لأن المُنَافِقِين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظَّاهر أنَّه تَهكُّم؛ لأنهم كَانُوا أعْدَى عَدُوٍّ للمؤمِنِين ، وأشدَّهم حَسَداً لهم ، فكيف يُوصَفُون بالمَوَدَّة إلا على وَجْهِ العَكْسِ والتَّهَكُّم .
وقال الزَّجَّاج : هذه الجُمْلَة اعْتِرَاضٌ ، أخبر -تعالى- بذلك؛ لأنَّهُم كانوا يُوادُّون المؤمنين .
وقال ابن عَطيّة : المنافق يُعَاطِي المؤمنين المَوَدَّة ، ويُعَاهِدُ على الْتِزَامٍ حِلْفِ الإسْلاَمِ ، ثم يَتَحلَّف نِفَاقاً وشَكّاً وكُفْراً بالله ورسُوله ، ثم يَتَمَنَّى عِنْدَما ينكشف الغَيْبُ الظَّفْرُ لَلمُؤْمنينن فعلى هذا يَجِيءُ قَوْلُه : « كأن لم يكن » التفاتة بليغَة ، واعْتِراضاً بين القَوْل والمَقُول بِلَفْظٍ يُظْهِر زيادَةً في قُبْحِ فِعْلِهِم .
وقال الرازي : هو اعْتِراضٌ في غايَةِ الحُسْنِ؛ لأن من أحَبِّ إنْسَاناً فَرح لِفَرَحِه ، وحَزِنَ لحُزْنِهِ ، فإذا قَلَبَ القَضِيَّة فذلك إظْهَارٌ للعَدَاوَة ، فحكى - تعالى- سُرُور المُنَافِقِ عند نَكْبَةِ المُسْلِمِين ، ثم أرَادَ أن يَحْكِي حُزْنه عِنْدَ دَوْلَةِ المسْلِمِينِ بسبب فَواتِهِ الغَنِيمَة فقَبْل أن يَذْكُرَ الكَلاَم بتَمَامِهِ ، ألْقَى قوله : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ } والمراد التَّعَجُّب؛ كأنه يَقُول : انْظُرُوا إلى ما يَقُولَه هذا المُنَافِقُ كأن لَمْ تكن بَيْنَكُم وبَيْنَهُ مودَّة ولا مُخَالَطَة أصْلاً ، والذي حَسَّن الاعتراض بهذه الجُمْلَة وإنْ كان محلها التَّأخِير ، كوْنَ ما بَعْدَهَا فَاصِلَة وهيَ لَيْسَت بِفَاصِلَة .
وقال الفَارِسِي : وهذه الجمْلَة من قَوْل المُنَافِقِين الَّذِين أقْعَدُوهُم عن الجِهَادِ؛ وخَرَجُوا هُمْ لم تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْنَه أي : وبَيْن الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- مودَّة ، فيخرجكم مَعَهُ لتأخذوا من الغنيمة ليُبَغّضُوا بذلك الرَّسُولَ إليْهم ، فأعاد الضَّمِيرَ في « بَيْنَهُ » على النَّبي- عليه الصلاة والسلام- .
وتبع الفارسي في ذَلِكَ مُقَاتِلاً؛ مَعْنَاه : كأنه لَيْسَ من أهل [ مِلَّتِكم ] ، ولا مودَّة بَيْنَكُم يريد : أن المبطّئ قَالَ لمن تَخَلَّف بإذْنٍ كأن لَمْ تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْن مُحَمَّدٍ مودَّة ، فيُخْرِجَكُم إلى الجِهَادِ ، فَتَفُوزُوا بما فَازَ .
[ القول الثاني : إنها في مَحَلّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، فيكون - تعالى- قد حَكَى بالقَوْلِ جملتين : جُمْلة التَّشْبيه ، وجملة التَّمَنِّي ، وهذا ظَاهِرٌ على قَوْلِ مُقاتِل والفَارسيٍّ : حيث زعَمَا أن الضَّمِير في « بَيْنَه » للرَّسُول - عليه الصلاة والسلام- ] .
القول الثالث : أنها في مَحَلّ نَصْبٍ على الحَالِ من الضَّمِير المستَتِر في « ليقولن » كما تقول : مررْتُ بزَيْد وكأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلاً عن مودَّة ، ونقل هذا عن الزَّجَّاج ، وتَبِعَهُ أبو البَقاءِ في ذلك .
و « يا » فيها قَوْلاَن :
أحدهما : وهُوَ قول الفَارسيِّ إنها لمًجَرد ، التَّنْبِيه ، فلا يقدَّر مُنادى مَحْذُوف ، ولذلك بلإشَرَت الحَرْف .
والثاني : أن المُنَادَى مَحْذُوف ، تقديره : يا هؤلاء ، لَيْتَنِي ، وهذا الخلاف جَارٍ فيها إذا باشَرَت حَرْفاً أو فِعلاً؛ كقراء الكسائيّ { أَلاَّ يَسْجُدُواْ } [ النمل : 25 ] وقوله : [ الطويل ]
1827- ألاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَة سِنْجَال .. .
وقوله : [ البسيط ]
1828- يا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ .. . .
على القول بفعليّة « حَبَّذَا » ولا يُفعل ذَلِكَ إلاَّ ب « يَا » خَاصَّة ، دون سائر حُرُوف النَّدَاء ، لأنَّها أمُّ البَابِ ، وقد كثرت مُبَاشرَتُها ل « لَيْتَ » دون سَائِرِ الحُرُوف .
قوله : « فأفوز » الجمهور على نَصْبِه في جَوَاب التَّمَنِّي ، والكُوفِيُّون يزْعمون نصبه بالخلافِ ، والجرميّ يزعمُ نصبه بنفس الفَاءِ .
والصحيح الأوَّل ، لأن الفَاء تَعْطِف هذا المَصْدَر المؤوَّل من « أنْ » والفِعْل على مَصْدَر مُتوهِّم ، لأن التَّقْدِير : يا لَيْتَ لي كَوْنَاً معهم- أو مُصَاحَبَتهم- فَفَوْزاً .
وقرأ الحسن : فأفُوزُ رفعاً على [ أحدِ وجهيْن :
إما ] الاستئناف ، أي : فأنا أفوزُ .
أو عَطْفاً على « كُنْتُ » فيكون داخِلاً في حَيِّز التَّمَني أيضاً ، فيكون الكَوْن معهُم ، والفَوْزُ العَظيم مُتَمنين جَميِعاً ، والمُرَاد بالفَوْزِ العظيم : النَّصِيب الوَافِر من الغَنِيمَة .
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
فقوله : { الذين يَشْرُونَ الحياة } فاعل ، « فليقاتل » و « يشرون » يحتمل وَجهيْن :
أحدهما : أن يكون بمعْنَى : يَشْتَرُون .
فإن قيل : قد تقرّر أن البَاء إنما تَدْخُل على المَتْرُوك ، والظَّاهرُ هنا أنها دخَلَتْ على المأخُوذ : فالجواب :
أن المراد ب « الذين يشترون » المُنَافقون المبطِّئون عن الجِهَادِ أمروا بأنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ ، ويُخْلِصُوا الإيمان بالله ورسُولِهِ ويُجَاهِدُوا في سَبِيل الله ، فلم نَدْخُل إلا على المَتْرُوك؛ لأن المُنَافِقِين تاركون للآخِرَةِ آخِذُون للدُّنْيا ، وتقدير الكَلام : فِلْيُقَاتِل الذين يَخْتَارُون الحياة الدُّنْيَا ، وعلى هذا التقدير فلا ، بل حَذْفٌ تقديره : آمِنُوا ثم قَتِلُوا؛ لاستحالة حُصُول الأمْرِ بشَرَائِعِ الإسْلام قبل حُصُول الإسْلامِ .
الثاني : أن « يشرون » بمعنى : يَبِيعُون .
قال ابْنُ مُفَرِّعٍ : [ مجزوء الكامل ]
1829- وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ
قالوا : وبَرْد هو غلامه ، وشريتُه بمعنى : بِعْتُه ، وتَمَنَّى الموت بعد [ بَيْعِه ] فيكُون المراد بالذين يَشْرُون : المؤمِنُون المُتَخَلِّفُون عن الجِهَادِ؛ المؤثِرُون الآجِلَة على العَاجِلَة ، وتصير هذه الآية في كَوْنِ شَرَى تحتمل الاشْتِرَاء والبَيْعِ باعْتِبَارَيْن؛ قوله- تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] على ما سَيَأتِي - إن شاء الله تعالى- وقد تقدم شيء من هذا أوَّل البقرة [ الآية 16 ] والجمهور على سُكُون لام « فليقاتل » لأنها وَقَعَتْ بعد الفَاءِ [ والواو ] فأشبهَت اللفظة اكتفاءً ، وقرئ بكسرها ، وهو الأصل وأجاز إسْكانَها وكَسْرَهَا كهذه الآية ، وقوله - تعالى- : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } [ الحج : 29 ] وقد قرئ بهما . والجمهور على بناء « فيقتل » للمفعُول ، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل .
والأوَّل أظهر؛ لقوله : { أَو يَغْلِبْ } [ « ويقتل » ] « ويغلب » عطف على شَرْط ، والفَاءُ في « فسوف » جوابُهُ لا يجُوزُ حَذْفُهَا والمشهور [ إظهار ] هذه الباء عند الفَاءِ ، وأدْغَمَها أبُو عمرو والكسائي ، وهِشَام وخلاد بخلاف عَنْه .
والجمهور على « نؤتيه » بنون العظمة ، وطَلْحَة بن مصرف والأعمش : بياء الغَيْبَة ، وهما ظَاهِرَتَانِ .
وقدم قوله « فيقتل » لأنها دَرَجَة شهادة وهي أعْظَم من غَيْرِهَا ، وثنَّى بالغَلَبَة ، وهي تَشْمَل نوعين : قتل أعْدَاء الله ، والظَّفَر بالغَنِيمَة ، والأولى أعْظَم من الثَّانِية . انتهى .
فصل
المعنى : أن من قَاتَل في سَبيل الهِ سواءٌ صار مَقْتُولاً لِلكُفَّار ، أو غالباً ، فسوف نُؤتيه أجْراً عظيماً ، ولا واسطة بَيْن هَاتَيْن الحَالَتَيْنِ . [ و ] إذا كان الأجْر حَاصِلاً على كُلِّ تَقدِير ، لم يكُن عملٌ أشْرَف من الجِهَادِ ، وهذا يَدُلُّ على ان المُجاهِد لا بُدَّ وأنْ يُوطِّن نَفْسَهُ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ أحد أمْرِيْن : إمَّا أن يَقْتُله العَدُّوُّ ، وإمّا أن يغلبَ ، فإذا غَيْر هذا [ العَزْم ] فما أسْرَعَ فِرَارَهُ .
روى أبو هُرَيْرَة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « تكَفَّل اله لِمَن جَاهَدَ في سبيل الله [ لا يُخرِجُهُ إلا جِهَادٌ في سَبِيلِه ] وتصدِيِق كلمته ، بأن يُدخلَه الجَنَّة ، أو يرجعه إلى مَسْكَنِه الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مع ما نال من أجرٍ أو غَنِيمَةٍ » .
وعن أبي هُرَيْرَة- رضي الله عنه-؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مثلُ المُجَاهِد في سَبِيل الله؛ كمثل القَانِتِ الصَّائم الَّذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا صيامٍ ، حتى يُرجِعه الله إلى أهْلِهِ بما يرجعُه من غَنِيمَة وأجْرٍ ، أو يتوفَّاه فَيَدْخُل الجنَّة » .
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
هذا استفْهام يرادُ به التَّحْرِيض ، والأمر بالجِهَاد على سَبيلِ الوُجُوب ، ومعناه : أنَّه لا عُذْر لَكُمْ في تَرْكِ المُقَاتلةِ ، وقد بَلَغَ حال المُسْتَضْعَفِين من الرِّجَال والنِّسَاءِ والولْدَانِ من المُسْلِمِين إلى ما بلغ في الضَّعْفِ ، فهذا الحَثُّ شديدٌ ، وبيان العِلَّة التي صَار القِتَالُ لِهَا وَاجِباً ، وهو مَا فِي القِتَال من تَخْلِيص هَؤلاء المُؤمِنين من لأيْدِي الكَفَرَة؛ لأنَّ هذا يَجْمَعُ مع الجِهَادِ ما يَجْرِي مُجْرى فكاك الأَسِير .
و « ما » : مبتدأ ، و « لكم » خَبَرُه ، أي : أيّ شَيْءٍ استقرَّ لكم ، وجُمْلَة قوله : « لا تقاتلون » فيها وجْهَان :
أظهرُهُمَا : أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ ، أي : مَا لَكُمْ غير مُقاتِلِين ، أنكر عليهِمْ أن يُكُونُوا على غير هذه الحَالَةِ ، وقد صرَّح بالحَالِ بعد هذا التركيب في قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقال في مثل هذه الحال : إنَّها لازمة؛ لأنَّ الكلام لا يتمُّ دونَها ، وفيه نَظَرٌ ، والعَامِل في هذه الحالِ ، الاستقرار المقدَّر؛ كقولك : ما لك ضاحِكاً .
والوجه الثاني : ان الأصل : « وما لكم في ألا تقاتلوا » فَحُذِفَت « في » فبقي « ألا تقاتلوا » فجرى فيها الخِلاف المَشْهُور ، ثم حُذِفَت « أنْ » النَّاصِبَة ، فارْتَفَعَ الفِعْل بَعْدَهَا؛ كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيرٌ من أنْ تَرَاهُ ، وقوله : [ الطويل ]
1830- أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى .. .
في إحدى الروايتين ، وهذا يؤيِّد كَوْنَ الحَالِ ليست بلازِمة .
فصل
قالت المُعتزلة : قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } إنكار عليهم في تَرْكِ القِتَالِ ، وبَيَان أن لا عُذْر ألْبَتَّة في تركه ، ولو كان فِعْل العَبْد ، بخلق الله- تعالى- ، لبطل هذا الكلام؛ لأن من أعْظَم العُذْر أنَّ الله ما خَلَقَهُ وما أرادَهُ ، وما قَضَى به ، وجوابُه مذكورٌ .
قوله : « والمستضعفين » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مَجْرورُ عطفاً [ على اسْمِ الله ، أي : وفي سَبيلِ المُسْتَضْعَفين .
والثاني : وإليه ذَهَبَ الزجاج والمَبرِّد أن يكون مَجْرُوراً عطفاً ] على نَفْسِ « سَبِيل » . قال أبو البَقَاء بعد أن حَكَاهُ عن المُبَرِّد وحده : لأن سَبِيل الله عامٌّ في كل خير؛ وخلاص المُسْتَضْعَفِين من المسْلِمِين من أيدي الكُفَّار من أعْظَم الخيور . والجُمْهُورُ على : « والمستضعفين » بواو العَطْفِ .
وقرأ ابن شهاب : « في سبيل الله المستضعفين » وفيها تخريجان :
أحدهما : أن يكُونَ حَرْفُ العَطْفِ مقدراً؛ كقولهم : « أكلت لَحْمَاً تَمْراً سَمَكاً » .
والثاني : أن يكونَ بَدَلاً من « سبيل الله » أي : في سَبِيل الله سبيلِ المُسْتضْعَفِين؛ لأنَّ سَبِيلَهم سَبِيلُ الله - تعالى- .
قوله : { مِنَ الرجال } فيه وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من المُسْتضْعَفين .
والثاني : أن « مِنْ » لِبَيَان الجنس ، و « الولدان » : قيل : جَمْع « وليد » ؛ وهم المُسْلِمُون الَّذِين بَقُوا بمكَّة لصدِّ المُشْرِكين ، أو ضعفهم عن الهَجْرَة مستنزلين ممتنعين .
انتهى بيضاوي .
فيكون المُرَاد بهم : العَبيد والإماءُ؛ لأن العَبْدَ والأمَةَ يقال لَهُما : الوَلِيدُ والوليدَةُ ، وجمعهما : الوِلْدَان والوَلائِد ، إلا أنَّه ههنا غلَّب الذكور ، ويكون المُرادُ بالرِّجَال والنِّسَاء : الأحْرار ، والحَرَائِر .
وقيل : جَمْع وَلَد؛ كَوَرَل ووِرْلان وحَربٌ وحَرْبَان والمُرَاد بهم : الصِّبْيَان ، [ وقيل : العبيد والأمَاء ، يقال للعبد : « وَليدٌ » ، وللامة : « وليدَةٌ » ، فغلَّب المُذكَّر على المُؤنَّث؛ اندراجه فيه ] .
و « الذين يقولون : فيه وَجْهَان :
أحدهًما : أن يكُونَ مجروراً على انَّه صفةٌ : إمَّا للمستَضعفِين ، وإمَّا للرَّجَال ومن بعدهم ، وغلَّب المُذَكَّرَ على المؤنَّثِ .
وقال أبو البَقَاء : » الذين يقولون : في مَوْضِع جَرِّ صفة لِمَنْ عَقِل من المذكورين « كأنه تَوَهَّم أنَّ الولدَان الصبيانُ ، والصبيانُ لا يعقلُون؛ فَجَعَله نعتاً لِمَنْ عقل من المذْكُورين وهُم الرِّجَال والنِّسَاء دونَ الولدان ، لأنَّ جَمْعَ السَّلامَة في المُذَكَّر يُشْترط فيه العَقْلُ ، و » الذين « جَارٍ مُجْرَاه .
قال شهاب الدين : وهذه غَفْلةً؛ لأنَّ مرادَ النَّحْويين بالعَاقِلِ : ما كان من جنْس العُقَلاَء وإنْ كان مسلوبَ العَقْلِ؛ ويدُلُّ عليه قوله - تعالى- : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } [ النور : 31 ] فالمُرادُ بالطفل هنا : الصِّبْيَان الصِّغار ، ومع ذلك وَصَفهم بالذين .
والثاني : أن يكُونَ منصوباً على الاخْتِصَاصِ .
فصل
المُرَاد بالمُستضعفين من الرِّجال والنِّسَاء والولْدَان : قومٌ من المُسْلِمِين بقُوا بمكَّة ، عَجَزُوا عن الهِجْرَة إلى المَدِينَةِ ، وكانوا يَلْقُون من كُفَّار مكَّة أذى شَديداً .
قال ابن عبَّاس : كنت أنَا وأمِّي من المُستضعفين من النِّسَاء والولدان ، وكانُوا يدعُون ويقولُون في دُعائِهِم : » ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها « وكانوا يُشْرِكُون معهم صِغَارَهمُ في الدُّعَاء؛ لأن الصِّغَار لم يُذْنِبُوا؛ كما وَرَدَت السُّنَّة في إخْرَاجِهِم في الاسْتِسْقَاءِ ، إنما ذكر الولدان؛ مُبَالَغةً في شَرْحِ ظُلْمِهِم . حيث بَلَغَ أذاهُم غير المُكَلَّفِين ، وأجْمَعُوا على أنَّ المراد من هذه القرية الظَّالِمِ أهلها [ مكة ] وكون أهْلِهَا موصُوفِين بالظُّلْمِ : يُحْتَمل أن يكُون لأجْل لأنَّهُم مُشْرِكُون؛ قال -تعالى- : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ويحتمل أن يكون لأجْل أنَّهم كانوا يُؤذُون المُسْلِمين .
قوله : » الظالم أهلها « » الظالم « : صفةُ للقرية ، و » أهلها « : مرفوعٌ به على الفاعلية . و » أل « في » الظالم « موصولةٌ بمعنى التي ، أي : التي ظَلَمَ أهْلُهَا . فالظلمُ جَازَ على القَرْيَةِ لفظاً ، وهو لِما بَعْدَها معنى ، ومثلهُ : » مررْتُ برجلٍ حَسَنٍ غلامُه « .
قال الزمخشري : فإن قلت : لِمَ ذكَّر » الظالم « وموصُوفُه مؤنث؟ قلت : هو وصْفٌ للقرْية إلا أنَّه مستَنِدٌ إلى أهْلِهَا ، فأعْطِي إعْراب » القرية « لأنها صفتها ، وذُكِرَ لإسناده إلى الأهْل؛ كما تقول : من هذه القرية التي ظلم أهلُها ، ولو أنْتَ فقيل : » الظَّالمةُ أهْلُها « لجَاز ، لا لتأنيث الموصُوف؛ بل لأنَّ الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ .
فإن قلت : هل يجُوزُ : مِنْ هذه القريةِ الظَّالِمين أهْلُها؟
قلت : نَعَمْ ، كما تقُول : « التي ظلموا أهلها » على لغة : « أكلوني البراغيث » ومنه : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] انتهى .
وهذه قاعدةٌ كُلية : أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هِيَ له سواءً كَانَتْ خبراً ، أم نعتاً ، أم حالاً يُنْعَتُ ما قَبْلَها في اثنين من خَمْسَة : واحدٍ من ألْقَابِ الإعْراب ، وواحدٍ من التَّنْكير والتَّعْرِيف ، وأمَّا بالنِّسْبَةِ إللى التَّذْكير ، والتَّأنيث ، والإفراد ، وضدَّيه فَيُحْسَبُ المرفُوعُ بها كالفِعْلِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، ويجبُ أيضاً إبرازُ الضَّمير منها مُطْلَقاً -أعني : سواءٌ ألْبس أم لم يُلْبَس -وأمَّا إذا كان المَرْفُوع بها اسْماً ظَاهِراً ، فلا حاجة إلى رَفعها الضَّمِيرَ ، إلا أنه لا بُدَّ من رَاجِع يرْجع إلى الاسْمِ الموْصُوف بها لَفْظاً كهذه الآية ، وه ذا بِخِلافِ الفِعْلِ إذا وُصِف به ، أو أُخْبِر به ، أو وَقَعَ حالاً لِشَيْء لفظاً وهو لغيره مَعْنىً ، فإن الضَّمِيرَ لا يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ ، نحو : « زيدٌ هِنْدٌ يَضْرِبُها » و « هند زيدٌ تَضْرِبُه » من غيرِ ضميرٍ باروٍ ، لقوة الفِعْل وضَعْفِ الاسم في العَمَلِ ، وسواءً لم يُلْبِس -كما تقدَّم تَمْثِيله- أو ألْبَسَ ، نحو : « زيدٌ عَمْرو يضربه » إذا قصدْتَ أن زيداً هو الضَّارِبُ لِعَمْرو ، هذا مُقْتَضَى مذهب البصْريِّين ، نصَّ عليه مَكي وغيره ، إلا أنَّه قال قبل ذَلِكَ : « إلا أنَّ اسْمَ الفَاعِل إذا كان خَبَراً أو صِفَةً لغيره مَنْ هو له ، لم يَسْتَتِرْ فيه ضَمِيرٌ ، ولا بد من إظْهَارِهِ ، وكذلك إنْ عُطِف على غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ » .
قال شهاب الدين : هذه الزِّيادةُ لمْ يذكُرْها النَّحْويُّون وتمثيلُها عَسِرٌ ، وأمَّا ابنُ مالِكٍ : فإنه سَوَّى بين الفِعْل والوَصْف ، يعني : إن ألْبس ، وجَب الإبْرازُ حتى في الفِعْل ، نحو : زيدٌ عَمْرٌو يَضْرِبُه هو « وإن لم يُلْبس جَاز ، نحو : » زَيْد هِنْدٌ يضْرِبُها « وهذا مقتضى مذهَبِ الكوفيين؛ فإنهم عَلَّلوا باللبس ، وفي الجُمْلَة ففي المَسْألة خِلافٌ .
قوله : { واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } قال ابن عبَّاسٍ : يريدون : اجهل علينا رجُلاً من المُؤمنين يُوَالينا ، ويقوم بِمَصالِحِنا ، ويحفظ عَلَيْنَا دِيننا وشرْعَنا؛ فأجَابَ اللهُ دعاءَهُم؛ لأن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، لما فَتَح مكَّة ، جعل عتَّاب بن أسَيْد وَالِياً عليهم ، فكان يُنْصِف الضَّعيفَ من القويِّ ، والمَظْلوم مِنَ الظَّالِم .
وقيل : المُرَاد : واجْعَل لَنَا من لدُنْك ولاية ونُصْرة ، أي : كُنْ أنْتَ لنا وليَّاً .
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
لما بيَّن وجوبَ الجهاد ، بيَّن أنه لا عِبْرة بصُورة الجِهَادِ ، بل العِبْرَة بالقَصْد والدَّاعِي ، فالمُؤمِنُون يقاتلون في سبيل الله ، أي : في طاعَةِ الله ونُصرة دينه ، والَّذين كَفَرُوا يُقَاتِلُون في سَبيلِ الطَّاغُوت ، أي : في طَاعَةِ الشَّيْطَان .
قال أبو عُبَيْدة والكسَائي : الطَّاغُوت يُذَكَّر ويُؤنَّث ، قال أبو عُبَيْد : وإنَّما ذكر وأنث؛ لأنَّهم [ كانوا يُسَمّون الكاهن والكاهِنة طاغُوتاً .
قال جابر بن عبد الله وقد سُئِل عن الطَّاغُوت التي ] كانوا يَتَحَاكَمُون إليْها -قال : كان في جُهَيْنة واحِدةٌ ، وفي أسْلم واحِدَةٌ ، وفي كل حَيٍّ واحدة .
قال أبو إسْحاق : والدَّلِيل على أنَّه الشَّيْطَان ، قوله -تعالى- : { فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أي : مَكْرَهُ وَ [ مَكْرَ ] من اتَّبَعَهُ ، وهذه الاية كالدَّالة على أنَّ كلَّ من كان غَرَضُه في فِعْل رضَى [ غير ] الله -تعالى- [ فهو في سبيل الطاغُوت ، لأنه -تعالى- ذكر هذه القِسْمَة؛ وهي أن القِتَال إمَّا أن يكون في سبيل الله ] ، أو في سبيل الطَّاغُوتِ ، وجب أن يكُون ما سِوَى الله طاغُوتاً ، ثم إنَّه -تعالى- أمر المُقَاتِلين في سَبيل الله أن يُقَاتِلُوا أوْلِيَاء الشَّيْطَان؛ فقال : « فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الشيطان » : حزبه وجُنودَهُ؛ وهم الكُفَّار ، ثم بيَّن أن كَيْد الشَّيْطان [ كان ضعيفاً لأن الله ينصر أوْلِيَاءَهُ ، والشَّيْطان ينصر أولياءَه ، ولا شَكَّ أن نُصْرَة الشَّيْطَانِ لأوليائه ] أضعف من نُصْرة الله ، وكيد الشَّيْطَان : مكره ، « كان ضعيفاً » : كما فعل يوم بَدْرٍ لما رأى الملائكِة ، خاف أن يأخذوه فَهَرَب وخَذَلَهُم ، وفائِدَة إدْخَال « كان » في قوله : « كان ضعيفاً » التَّأكيد لِضَعْف كَيْدهن يعني : أنه مُنْذُ كان مَوْصوفاً بالضَّعْف والذِّلَّةِ .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
قال الكَلْبِي : « نزلت في عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف الزُّهرِيِّ ، والمقدَادِ بن الأسْود الكندي ، وقدامة بن مَظْعُون الجُمَحِي ، وسَعْد بن أبِي وَقَّاصٍ ، وجَمَاعة كانوا مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْض ان يهاجروا إلى المَدِينَةِ ، ويَلْقُون من المُشْرِكِين أذًى شَديداً ، فَيَشْكُون ذلك إلى الرَّسُول ، ويقولون : ائْذَن لَنَا في قِتَالِهِم ، ويقول لَهُم الرَّسُول : كُفُّوا أيْدِيَكُم ، فإني لَمْ أومَر بقتالهِمْ ، واشْتَغِلُوا بإقَامَة دينكُم من الصَّلاة والزَّكَاة ، فلمَّا هَاجَر رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينَةِ ، وأُمِرَ بقتالهم في وَقْعَة بَدْرٍ ، كرهه بَعْضُهم وشقَّ عَلَيْه ، » فأنزل اللَّه -تعالى- هذه الآية . فَذَهَب بَعْضُهم إلى أنَّهَا نَزَلَت في المُؤمَِنين ، واحتجُّوا : بأنَّ الَّذَين يَحْتَاج الرَّسُول إلى أن يَقُولَ لهم كَفُّوا عن القِتَال ، هُم الرَّاغِبُون في القِتَالِ؛ وهم المُؤمِنُون .
ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّ المُنَافِقِين كانوا يُظْهِرُون أنَّهم مؤمِنُون ، وأنَّهم يريدُونَ قِتال الكُفَّار ، فلما أمر اللَّهُ بقتالِهم الكُفَّار ، أحجم المُنَافِقُون عَنْه ، وظهر مِنْهُم خِلاف ما كَانُوا يَقُولُونَهُ .
وقيل : نزلت في المُنَافِقِين ، واحتجُّوا بأنَّ الله -تعالى- وَصَفَهم بأنَّهم { يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ، وهذا الوصف لا يَلِيقُ إلا بالمُنَافِقِ؛ لأن المُؤمِن لا يَخَاف من النَّاسِ اشَدَّ من خوفِهِ من اللَّه ، وأيضاً قولهم : « ربنا لم كتبت علينا القتال » اعتراضٌ على اللَّه -تعالى- ، وذلك من صِفَة الكُفَّار والمُنَافِقِين ، وأيضاً قوله -تعالى- للرَّسُول : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى } وهذا الكلام إنَّما يذكر لمن كانت رَغبتهُ في الدُّنْيَا أكْثَر من رَغْبَته في الآخِرة ، وذلك من صِفَاتِ المُنَافِقِين .
وأجاب القَائِلُون بالقَوْل الأوَّل : بأن حُبَّ الحياة والنَّفرة عن القَتْلِ من لَوَازِمِ الطَّبْع؛ فهذه الخَشْيَة مَحْمُولة على هذا المَعْنَى ، وقولهم : « لِمَ كتبت علينا القتال » محمولة على التمَنِّي بتخفيف التَّكْلِيف ، لا على وَجْه إنْكَار [ لإيجَابِ ] اللَّه -تعالى- .
وقوله [ -تعالى- ] : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } ذكره ليهَوِّن على القَلْبِ أمر هذه الحَيَاةِ؛ لكي تزول عن قَلْبِه نَفْرَة القِتَالِ وحُبُّ الحَيَاة ، ويُقْدِمُون على الجِهَاد بقلب قَوِيٍّ ، لا لأجْل الإنْكَار .
وقيل : قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا رَاسِخين في العِلْم ، قالوه خوفاً وجُبْناً لا اعتقاداً ثم تابوا ، وأهْلُ الإيمان يتفاضَلُون في الإيمَانِ .
وقيل : كانوا مُؤمنين ، فلما كُتِبَ [ عليهم ] ، أي : فرض عليْهِم القِتَال ، تلفقوا من الجُبْنِ ، وتخلَّفُوا عن الجِهَاد ، والأوْلى حَمْل الآية على المُنَافِقِين ، لأنه -تعالى- ذكر بَعْد هذه الآية قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] ولا شَكَّ أنَّ هذا من كَلاَم المُنَافِقِين .
فصل
دلَّت الآيَة على أن إيجَاب الصَّلاة والزَّكاة ، كان مُقَدَّماً على إيجَاب الجِهَاد .
قوله { إِذَا فَرِيقٌ } : « إذا » هنا فُجَائِيَّة ، وقد تقدَّم أن فيها ثلاثة مَذَاهِب :
أحدُها- وهو الأصَحُّ : أنها ظَرْف مكان .
والثَّاني : أنها زمان .
والثَّالث : أنها حَرفٌ .
قيل في « إذا » هَذِه : إنها فجَائِية مَكَانِيَّة ، وأنها جوابٌ ل « لَمَّا » في قوله : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ } ، وعلى هَذَا فَفِيها وَجْهَان :
أحدُهُما : أنها خَبَر مقدَّمٌ ، و « فريق » : مبتدأ ، و « منهم » : صفةٌ ل « فَرِيقٌ » ، وكذلك « يَخْشَون » ، ويجُوزُ أن يكونَ « يَخْشَون » حالاً من « فريق » لاختصاصه بالوَصْفِ ، والتَّقْديرُ : « فبالحضرة فريق [ فهو ] كائن منهم خَاشُون أو خَاشِين » .
والثاني : أن يكون « فريقٌ » مُبْتَدأ ، و « منهم » : صفته ، وهو المُسَوِّغُ للابْتِداء به ، و « يَخْشَوْن » : جملة خبريةٌ وهو العَامِلُ في « إذا » ، وعلى القَوْلِ الأوَّلِ : العَامِلُ فيها مَحْذُوفٌ على قَاعِدة الظُّرُوف الوَاقِعة خبراً .
وقيل : إنَّها هنا ظَرْفُ زمانٍ ، وهذا فَاسِدٌ؛ لأنها إذْ ذَاك لا بُدَّ لها من عَامِلٍ ، وعامِلُها إمَّا ما قَبْلَها ، وإمَّا ما بَعْدَها ، لا جائز أن يكُون ما قَبْلَها لأن ما قبلها وهو « كُتب » ماضٍ لفظاً ومعنى ، وهي للاسْتِقْبال ، فاستحال ذلك .
فإن قيل : تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى « إذا » .
قيل : لا يجُوز ذلك؛ لأنه يصيرُ التقدير : فلمَّا كُتِب عَلَيْهم القِتَال في وَقْتِ خَشْيةِ فَرِيقٍ مِنْهُم ، وهذا يفتقرُ إلى جَوَابِ « لَمَّا » ولا جَوابَ لها ، ولا جَائزٌ أن يَكُونَ ما بَعْدها؛ لأنَّ العَامِل فيها إذا كان بعدها ، كان جواباً لها ، ولا جَوابَ لها هُنَا ، وكان قد تَقَدَّم أوَّلَ البقرة أنَّ في « لَمَّا » قولين : قولَ سيبويه : أنَّها حَرْف وجوب لوُجُوب ، وقول الفَارِسي : إنها ظَرْفُ زمانٍ بِمَعْنى « حين » وتقدَّم الردُّ عليه ، بأنَّها أُجيبت ب « مَا » النَّافِية وإذا الفُجَائِية ، وأنَّ ما بَعْدَها لا يَعْمَل فيما قَبْلَها ، فأغْنى عن إعادته ، ولا يجُوزُ أن يعمل ما يَلِيها فيها؛ لأنه في مَحَلِّ خَفْض بالإضَافَةِ على زَعْمِه ، والمُضَافُ إليه لا يَعْمَل في المُضَافِ .
وقد أجابَ بعضهم ، بأنَّ العامل فيها هنا مَعْنى « يخشون » ؛ كأنه قيل : جَزِعوا ، قال : « وجزعُوا هو العَامِلُ في » إذا « ، وهذا الآية مُشكلةٌ؛ لأنَّ فيها ظَرْفَيْن : أحدُهما لما مَضَى ، والآخرُ لِما يُسْتَقْبَل » .
قوله : « كخشية الله » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحَدُها -وهو المَشْهُور عند المُعْربين : أنها نَعْتُ مصدرٍ مَحْذُوفٍ ، أي : خشيةٌ كخَشْيِة الله .
والثاني : -وهو المُقَرَّر من مذهب سيبويه غيرَ مرة- : أنَّها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من ضَمِير الخَشْيَة المَحذُوف ، أي : يَخْشَوْنها النَّاسَ ، أي : يَخْشون الخَشْيَة الناس مشبهةً خَشْيَة الله .
والثالث : أنَّها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في « يخشون » أي : يَخْشَون النَّاسَ مثلَ أهل خَشْيَة الله ، أي : مُشْبهين لأهل خَشْيَة الله أو أشدَّ خشية ، أي : أشدَّ خَشْيَةً من أهل خَشْيَة الله .
و « أشدَّ » مَعْطُوف على الحَالِ؛ قاله الزمخشري ، ثم قال : « فإنْ قُلْتَ : لِمَ عَدَلْتَ عن الظَّاهِر ، وهو كَوْنُه صِفة للمَصْدَر ولم تُقَدِّرْه : يَخْشون خَشْية مثل خَشْيَة الله ، بمعنى : مثل ما يَخْشَى الله .
قلت : أبَى ذلك قوله : » وأشد خشية « ؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حُكْمٍ واحدٍ ، ولو قلت : » يخشون الناس أشد خشية « لم يكن إلا حَالاً من ضَمِير الفريقِ ، ولم ينتَصِب انتِصَابَ المَصْدَر؛ لأنك لا تَقُول : » خَشِي فُلانٌ أشَدَّ خشيةً « فتنْصِبُ » خشية « وأنْتَ تريد المَصدر ، إنَّما تَقَول : » أشدَّ خَشْيةٍ « فتجرُّها ، وإذا نَصَبْتَها لم يكن » أشدَّ خشيةً « إلا عِبَارةً عن الفاعل حالاً منه ، اللَّهم إلا أن تجعل الخَشْيَة خَاشِيةً على حدِّ قولهم : » جَدَّ جَدُّه « فتزعم أنَّ مَعْنَاه : يخشون الناسَ خَشْيَةً مثل خشيةٍ أشدَّ خَشْيَة من خَشْيَة الله ، ويجُوز على هذا أن يكُون مَحَلُّ » أشدَّ « مَجْرُوراً ، عطفاً على » خشية الله « تريد : كَخَشْيَة الله ، أو كَخَشْيَةٍ أشدَّ منها » . انتهى .
ويجوز نصبُ « خشيةً » على وجْه آخَر؛ وهو العَطْف على مَحَلِّ الكَافِ ، وينتصب « أشدَّ » حينئذ على الحَالِ من « خَشْيَة » ؛ لأنه في الأصْلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، والأصل : يَخْشَوْن النَّاسَ مثلَ خَشْيَةِ الله أو خَشْيَةً أشدَّ منها ، فلا ينتصب « خَشيَة » تمييزاً ، حتى يَلْزَم منه ما ذكره الزَّمَخْشَرِي ويُعْتذر عنه ، وقد تقدَّم نحو من هذا عِنْد قوله : { أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] . والمصدرُ مُضَاف إلى المَفْعُول والفَاعِل مَحْذُوف ، أي : كَخشيتهم اللَّهَ .
فإن قيل : ظاهر قوله : { أَوْ أَشَدَّ } يوهم الشَّكَّ ، وذلك محالٌ على الله -تعالى- .
فالجواب : يحتمل الأوْجُه المذكورة في قوله { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ويجوز أن تكون للتنويع ، يعني : أن منهم من يخشاهم كخشية الله ، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله .
قال ابْنُ الخَطِيب : وفي تأوِيله وُجُوهٌ :
الأوَّل : المُراد مِنْه : الإبْهَام على المُخَاطَب ، بمعنى أنَّهم على أحَد الصِّفَتَيْن من المُسَاواة والشدّة؛ وذلك لأنَّ كُلَّ خَوْفَيْن فأحدُهُما بالنِّسْبة إلى الآخَر : إمَّا أن يكُون مُسَاوِياً ، أو أنْقَص ، وأزيد ، فَبيَّن -تعالى- بهذه الآية أن خَوْفَهم من النَّاس ليس أنْقَص من خَوْفِهم من الله -تعالى- ، بل إمَّا أن يكون مُسَاوِياً أوْ أزْيَد ، وذلك لا يُوجِب كَوْنه -تعالى- شاكَّا ، بل يُوجِب إبْقاء الإبْهَام في هَذَيْن القِسْمَيْن على المُخَاطَب .
والثاني : أن يكون « أو » بمعنى الوَاوِ ، والتَّقْدِير : يخْشَوْنهم كَخَشْيَة اللَّه وأشَد خشية ، ولَيْس بَيْن هذيْن القِسْمَيْن مُنَافَاة؛ لأنَّ من هُو أشَدّ خَشْية ، فَمَعَه من الخشية مِثْل خَشْية اللَّه [ وزيادة ] .
الثَّالث : أن هذا نظير قوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }
[ الصافات : 147 ] يعني : أنَّ من يُبْصِرهم يَقُول هذا الكلام؛ فكذا ههنا .
قوله : { لولاا أَخَّرْتَنَا } أي : هَلاَّ أخرْتَنَا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ ، يعني : الموْت أي : هلاّ ترَكْتنا حَتَّى نَمُوت بآجَالِنَا ، وهذا كالعِلَّة لكَرَاهَتِهم إيجَاب القِتَالِ عليْهم ، ثم إنَّه -تعالى- أجَابَهُم بقوله : قلْ يا مُحَمَّد : { مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } أي : مَنْفعَتُها والاستِمْتَاعُ بها قَلِيلٌ ، « والآخرة » أي : وثواب الآخِرة خَيْر وأفْضَل لمن اتَّقَى الشِّرْك ومَعْصِية الرَّسُول ، وإنَّما كانت الآخِرَة خَيْرٌ؛ لأن نِعَم الدُّنْيَا قليلة [ فَانِيَةٌ ] ونعم الآخِرَة كَثِيرَة بَاقِيَةٌ ونِعَم الدُّنيا مُنْقَطِعة ، ونِعَم الآخِرَة مؤبَّدة ، ونِعَم الدُّنْيَا مشوبَةٌ بالهُمُومِ والمَكَاره ، ونِعَم الآخِرَة صَافية من الكُدُورَات .
روى المستورد بن شَدَّادِ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَا الدُّنْيَا في الآخِرَة إلاَّ مِثْل مَا يَجْعَل أحَدُكُم أصْبُعَهُ في اليَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِع » .
ثم قال : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } .
قرأ ابن كَثيرٍ ، وأبُو جعفَر ، وحمْزَة ، والكسَائِي : باليَاء رُجوعاً إلى قَولِه -تعالى- : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ } والباقُون : بتاء الخِطَاب؛ كقوله : { مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } والمعنى { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 49 ] ، أي : لا يُنْقَصُون من ثَوَابِ أعْمَالِهِم مثل فَتِيل النَّوَاةِ ، وهو ما تفلته بيدِكَ ثم تُلْقِيه احْتِقَاراً .
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
لما حَكَى عنهم أنَّهم يَخْشَون النَّاسَ عند فَرْضِ القِتَالِ بَكَّتهُم هَهُنَا؛ فقال : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } أي : لا خلاص لكُم من المَوْت ، والجِهَاد مَوْتٌ يستعقبه سَعَادة أخْرَوِيَّة ، فإذا كان لا بُدَّ من المَوْتِ ، فبأن يَقَع على وَجْهٍ يستَعْقِب السَّعَادة الأبَدِيَّة ، أوْلى من ألاَّ يكُون كَذَلِكَ .
قوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } : « أين » اسْم شَرْك يجزم فِعْلَين ، و « ما » زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها ، و « أين » ظَرْف مَكَان ، و « تكونوا » مَجْزومٌ بها ، و « يدرككم » : جوابُه .
والجمهُور على جزمه؛ لأنه جواب الشرط ، وطلحة بن سليمان : « يدركُكم » برفعه ، فخرَّجه المُبَرِّد ، على حَذْفِ الفَاءِ ، أي : فيدرككم المَوْت .
ومثلُه قول الآخر : [ الرجز ]
1831- يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد ، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ .
وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر : وهو أنْ يكُون « يَصْرَعُ » المرفُوعُ خبراً ل « إنك » ، والشَّرطُ معترِضٌ بينهما ، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله : « إنك تصرع » ؛ كقوله : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال : ويجُوزُ أن يُقال : حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ « أينما تَكُونوا » وهو « أينما كُنْتُم » كما حُمِل على ما يقع موقع « ليسوا مصلحين » وهو « ليسوا بمصلحين » فرفع كما رفع زهير « ولا ناعب » : [ البسيط ]
1832- ... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
وهو قولُ نحويّ سِيبيّ ، يعني منسوب لسيبويه ، فكأنه قال : « أينما كنتم » ، وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير : [ البسيط ]
1833- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ يَقُولُ ..
وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد . ورَدَّ عليه أبو حَيّان : بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط ، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضياًن لو قُلْت : « أنت ظَالمٌ إنْ تفعل » لم يَجُز . وهذا -كَمَا رَأيتَ- مضارعٌ ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى .
« ولو كنتم » قالوا : هي بِمَعْنى : « إنْ » وجوابُها مَحْذُوف ، أي : لأدْرَكَكُمْ ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلاً غَرِيباً عن عِنْدَ نَفْسِه ، فقال : « ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : لا تُنْقَصُون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها ، ثم ابتدأ بِقَوله : { تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على { أَيْنَمَا تَكُونُواْ } انتهى .
ورَدَّ عليه أبو حيَّان ، فقال : هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية :
أمَّا من حَيْثُ المعنى : فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلاً بقوله : { لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِراً إنما هو في الآخرة؛ لقوله -تعالى- : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى } .
وأمَّا من حَيْث الصِّنَاعةُ النَّحويّة : فإنَّ ظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ « أينما تكونوا » متعلِّقٌ بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } بمعنى ما فسّره ، وهذا لا يجُوزُ؛ لأن أسْمَاءَ الشَّرْط لها صَدْرُ الكَلاَم ، فلا يَتَقَدَّم عَامِلُها عليها ، فإنْ وَرَد مثلُ : « اضْربْ زيداً متى جَاءَ » قُدِّر له عَاملٌ يدلُّ عليه « اضرب » لا نفسُ « اضْرِب » المتقدِّم .
فإن قيل : فكذلك يُقَدِّر الزَّمَخْشَرِيّ عاملاً يدلُّ عليه { وَلاَ تُظْلَمُونَ } تقديره : « أينما تكونوا فلا تظلمون » فحذف « فلا تظلمون » ، لدلالةِ ما قبله عليه ، فيخلُصُ من الإشْكَال المَذْكُور .
قيل : لا يُمْكِن ذلك؛ لأنه حينئذ يُحذفُ جَواب الشَّرط وفعلُ الشرط مُضَارعٌ ، وقد تقدم أنَّه لا يَكُون إلا ماضياً « . وفي هذا الردِّ نظرٌ؛ لأنه أرادَ تَفْسِير المَعْنَى . قوله : ولا يناسب أن يكون مُتَّصِلاَ بقوله : { وَلاَ تُظْلَمُونَ } مَمْنُوعٌ ، بل هُو مُنَاسِب ، وقد أوضَحَهُ الزَّمَخْشَرِي بما تقدَّم احْسَنَ إيضَاحٍ .
والجُمْلَة الامتنَاعِيَّة في مَحَلَّ نصبٍ على الحَالِ ، أي : أينما تَكُونوا من الأمكنة ، يدركْكم المَوْت ، ولو كانت حَالُكم أنَّكم في هذه البُرُوج ، فيُفْهَمُ أن إدراكه لهم في غَيْرِها بطريق الأوْلى والأخْرى ، وقريبٌ منه : » أعْطُوا السَّائِل ولو على فَرَسٍ « . والجملةُ الشَّرطِيَّة تحتمل وَجْهَيْن :
أحدهمت : أنها لا مَحَلَّ لها من الإعراب؛ لأنها استِئْنَافُ إخبارٍ؛ اخبر -تعالى- أنَّه لا يفُوتُ الموتَ أحَدٌ ، ومنه قولُ زُهَيْر : [ الطويل ]
1834- وَمَنْ هَابَ أسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
والثَّاني : أنها في مَحَلِّ نَصبٍ بالقَوْل قَبْلَها أي : قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَبِيلٌ ، وقُلْ أيضاً : أينما تَكُونُوا .
والجُمْهُور على » مشيدة « بفتح الياء اسم مَفْعُول . ونعيم بن ميْسَرة بِكَسْرِها ، نسَبَ الفعلَ إليها مَجَارزاً؛ كقولهم : » قَصِيدَةٌ شَاعِرَة « ، والموْصُوفُ بذلك أهْلُها ، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مُبَالغةً في الوَصْفِ .
والبُرُوج : الحُصُونُ مَأخُوذةٌ من » التَّبرُّج « وهو الإظْهَارُ ، ومنه : » غير مُتبرِّجَات بزينة « ، والبَرَجُ في العين : سَعَتُها ، ومنه قولُ ذي الرُّمَّة : [ البسيط ]
1835- بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ ... كَأنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ
وقولُهُم : » ثَوْبٌ مُبَرَّجٌ « أي : عليه صُورُ البُرُوج؛ كقولهم : » مِرْطٌ مُرَجَّل « أي : عليه صُورُ الرِّجَال ، يروى بالجيم والحاء ، والمشيَّدة : المَصْنُوعة بالشِّيدِ؛ وهو الجِصُّ ، ويقال : » شَادَ البِنَاء وشيَّدَهُ « كرَّر العَيْن للتَّكْثِير؛ ومن مجيء » شاد « قولُ الأسود : [ الخفيف ]
1836- شَادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَهُ كِلْ ... سَاً فَِلِلطَّيْرِ فِي ذَرَاهُ وُكُورُ
ويقال : » أشاد « أيْضاً ، فيكون فَعَل وأفْعَل بِمَعْنًى .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : شاد القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أو طَلاَه بالشِّيد ، وهو الجِصُّ وهذا قَوْل عِكْرمَة ، وقال قتادة [ معناه : ] في قُصُورٍ محصَّنةٍ ، وقال السُّدِّيُّ في بُرُوجِ في سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّة ، وهي بُرُوج الفلك الاثْنَي عشر ، وهذا القَوْل مَحْكِيٌّ عن مَالِك ، ومعنى مشيدة ، [ أي ] مادّة من الرَّفْع؛ وهي الكَوَاكِبُ العِظَام .
وقيل : للكَواكِب : بُرُوجٌ ، لظُهُورِها من بَرِجَ يَبْرِج إذا ظَهَر وارْتَفَع ، ومِنْهُ : { } .
وخلقها الله -تعالى- في مَنَازِل للشَّمْس والقَمَر ، وقدّره فِيهَا ، ورتَّب الأزمِنَة عَلَيْهَا .
قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } نزلت في المُنَافِقينَ واليَهُود؛ وذلك أنَّهم قَالُوا لما قَدِم رسُول الله صلى الله عليه وسلم المدِينَةَ : ما زلنا نَعْرِف النَّقْصَ في ثِمَارِنَا ومَزَارِعِنَا مذ قِدَم هَذا الرَّجُل وأصْحَابهُ .
قال الله -تعالى- « وإن تصبهم » يعني : اليهود « حسنة » أي : خصب ورُخص في السِّعْر ، « يقولوا هذه من عندنا » لنا { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني : الجَدْب وغَلاَء الأسْعَار ، « يقولوا من عندك » أي : من شُؤْم محمَّدٍ وأصْحَابه ، وكَيْفِيَّة النَّظم : أنَّه -تعالى- لما حَكَى [ عنهم ] كونهم [ متثاقلين عن اجهاد خائفين من الموت راغبين في متاع الدنيا ، حكى عنهم ] في هَذِه الآية خَصْلَة أخْرَى أقبَح من الأولى .
وفي النَّظْم وَْه آخَر؛ وهو أنَّ الخَائِفِين من المَوْت ، المُتَثَاقِلِين في الجِهَادِ من عَادَتِهِم أنَّهم إذا جَاهَدُوا وقَاتَلُوا ، فإن أصَابُوا ظَفَراً أو غَنِيمةً ، قالوا : هَذِه من عِنْد الله ، وإن أصَابَهُم مَكْرُوه ، قالوا : هذه من شُؤْمِ مُصَاحَبة محمَّد صلى الله عليه وسلم .
فعلى هذا يكُون المُرَادُ ب « الحسنة » : الظفر والغَنِيمَة يوم بَدْر ، وب « السيئة » : القَتْل والهَزِيمة يوم أُحُد ، وهذا نَظير قَوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
قال القاضي : القول بأن الحَسَنَة هي الخصب ، وأن السَّيِّئَة هي الغلاء ، [ هذا ] هو المعتبر ، لأن إضافة الخصب والغلاء وكثرة النِّعم وقلَّتِها إلى الله جَائِزَةٌ وأمَّا إضافة النَّصْر والهزيمةِ إلى الله -تعالى- ، وهَذَا على مَذْهَبِه ] أمَّا على مَذْهَب أهْل السُّنَّة ، فالكل بِقَضَاءِ الله وقدَرِه .
فصل في تفسير الحسنة والسيئة
اعلم أن السِّيِّئَة تَقَع على البَلِيَّة والمَعْصِيَة ، والحَسَنة على النِّعْمَة والطَّاعَة؛ قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] وقال - [ تعالى- : { إِنَّ ] الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] ، وإذا ثبت هذا؛ فنقو : قَوْله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } ، وقوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يفيد العُمُوم في كُلِّ الحَسَنَات والسَّيِّئات ، ثم قال بَعْدَه : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .
فهُنَا تصريحٌ بأنَّ جميع الحَسَنات والسَّيِّئات من الله -تعالى- ، ولمَّا ثَبَتَ بما ذكرنا أنَّ الطَّعات والمَعَاصِي دَاخِلَتَانِ تحت اسْم الحَسَنَةِ والسَّيِّئَة ، كانت [ الآية ] دالَّة على [ أنَّ ] جميعَ الطَّاعاتِ والمَعَاصي من الله تعالى ، وهو المَطْلُوبُ .
[ فإن قيل ] : المرادُ من الحَسَنة والسَّيِّئَة هُنا : لَيْس هو الطَّاعَة والمَعْصِيَة؛ لاتِّفَاق الكُلِّ على أنَّ هذه الآية نَزَلت في الخَصب والجَدْب ، فاخْتُصَّتْ بِهِمَا ، وأيضاً فالحَسَنة التَّي يُرَاد بها الخَيْر والطَّاعَة [ لا يقال فيها : أصابَتْنِي ، إنما يُقَال : أصَبْتُها ، وليس في كَلاَم العَرَب أصَابَ فُلان حَسَنَة ] ، [ بمعنى : عَمِلَ خَيْرٍ أو أصَابَتْهُ سيِّئة ] بمعنى : عمل مَعْصِيَةٍ ، فلو كان المُرَاد ما ذَكَرْتُم ، لقَالَ : إن أصَبْتُم حَسَنَةً .
وأيضاً : لفظ الحَسَنَة وَاقِعٌ بالاشْتِرَاك على الطَّاعَةِ وعلى المنفعة ، وهَهُنا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ على الطَّاعضةِ وعلى المنفعة ، وهَهُنَا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ المَنْفَعَة مُرَادة ، [ فيمتنع كَوْن الطَّاعَة مرادة ] ، لأنَّه لا يجوز اسْتِعْمضال المُشْتَرَك في مَفْهُومَيْه مَعاً .
والجواب عن الأوَّل : [ أن ] خصوصَ السَّبَب لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفْظ .
وعن الثَّانِي : أنه يَصِحُّ أن يُقَال : أصَابَنِي تَوْفِيقٌ من الله ، وَعَوْن من الله ، وأصابه خُذْلاَنَ من الله ، ويكون المُراد [ من ذلك التَّوفِيق والعَوْن : تلك الطَّاعة ، ومن الخُذْلان : تلك المَعْصِيَة .
وعن الثَّالث : أن كل ] ما كَانَ مُنْتَفِعاً به فهو حَسَنة ، فإن كان نَفْعه في الآخِرَة ، فهو في الطَّاعةِ ، وإن كان نفعه في الدُّنْيا فهو السَّعَادة الحَاضِرة ، فاسْم الحَسَنَة بالنِّسْبَة إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْن مُتَوَاطئُ الاشْتِرَاك ، فزال السُّؤال ، ويؤيد ذَلِك : أن البَدِيهَة قَاطِعَةٌ بأنَّ كل مَوْجُود مُمْكِنٌ لِذَاته ، مستندٌ للحقِّ بذاته وهُوَ الله -تعالى- ، فلو استَغْنَى المُمْكن بذَاتِهِ [ عن الحَقِّ ] ، لزم نَفْيَ الصَّانع ، وهذا الحُكْمُ لا يخْتَلِفُ كَيْف كان المُمْكن؛ حيواناً ، أو جماداً ، أو فعلاً ، أو صِفَةً ، وهذا بُرْهَانٌ كالشَّمْس ، مُصَرِّح بأن الكُلَّ من عِنْد الله؛ كما قال -تعالى- : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .
قوله : { فَمَا لهؤلاء القوم }
وقف أبو عمرو والكسائي -بخلاف عَنْه- على « مَا » في قوله : « فما لهؤلاء » وفي قوله : { مَالِ هذا الرسول } [ الفرقان : 7 ] وفي قوله : { مَا لهذا الكتاب } [ الكهف : 49 ] وفي قوله : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ المعارج : 36 ] . والبَاقُون : على اللام التي للجرِّ دونن مَجْرُورهخا اتِّباعاً للرَّسم ، وهذا ينبغي إلاّض يَجُوز -أعني : الوَقْفَيْن -لأنَّ الأوَّل يُوقَف فيه على النُبْتَدَأ دونَ خَبرِه ، والثاني يُوقِف فيه على حَرْفِ الجَرِّ دونَ مَجْرُورِه ، وإنما يجُوزُ ذلك؛ لضَرُورةِ قَطْعِ النَّفْسِ أو ابْتِلاَءٍ .
قال الفرَّاء : كثرت في الكَلاَم هذه الكَلِمَة ، حتى تَوهَّمُوا أنَّ اللاَّم متصلة بِهَا ، وأنَّهُمَا حَرْف وَاحِدٌ ، ففصَلُوا اللاَّمَ بما بَعْدَها في بَعْضِه ، وَوَصَلُوها في بَعْضِه ، والقراءة الاتِّصَالُ ، ولا يجُوزُ الوَقْفُ على اللامِ؛ لأنَّها لامٌ خافضة .
لمَّا دلَّ الدَّلِيل على أنَّ كل ما سِوَى الله مستندٌ إلى الله ، وكان ذَلِكَ الدَّليل في غاية الظُّهُور ، قال -تعالى- : { فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } وهذا يَجْرِي مُجْرَى التَّعَجُّبِ؛ لعدم وُقُوفِهم على صِحَّةِ هَذَا الكَلاَمِ مع ظُهُورِهِ .
قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآيَة تدلُّ على صِحَّة قَوْلِنا؛ لأنه لو كَان حُصُول الفَهْمِ والمعرفة بِتَخْلِيق الله -تعالى- ، لم يَبْق لِهذا التَّعَجُّب مَعْنًى ألْبَتَّة؛ لأن السَّبَب في عَدَمِ حُصُول هذه المَعْرِفة ، هو أن الله -تعالى- لم يَخْلُق ذلك فِيهم .
وهذا تمسُّكٌ بطريقة المَدْح والذَّمِّ؛ وهي معارَضَةٌ بالعِلْمِ والدَّاعي .
والمراد ب « هؤلاء القوم » : المنافقون واليَهُود ، « لا يكادون يفقهون حديثاً » أي : قَوْلاً .
وقيلأ : الحديث هاهنا : القُرْآن : أي : لا يَفْقَهُون مَعَانِي القُرْآن ، والفِقْه : الفَهْم ، يُقَال : فَقِهَ بكسر القَافِ؛ إذا فَهِم ، وفَقَهَ بِفَتْحِ القَافِ : إذا غَلَب غَيْرَه ، وفَقْه بِضَمِّ القَافِ ، ومنه ما قال عليه السَّلام لابن عبَّاس « اللَّهُمَّ فَقِّههُ في التَّأوِيل » أي : فَهِّمْهُ تأويلَهُ ، فعلى هَذَا التَّأوِيل قالت المُعْتَزِلَةُ : هذه الآية تَقْتَضِي وَصْف القُرْآنِ بأنَّهُ حَادِثٌ ، والحَدِيث : فعيل بِمَعْنَى مَفْعُول مِنْه أن يَكُون القُرْآن مُحْدَثاً .
والجَوَابُ : إن كان مُرادُكم بالقرْآنِ هذه العِبَارات ، فَنَحْنُ نُسَلِّم كَوْنَها مُحْدَثَةً .
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
في « ما » هذه قَوْلان :
أحدهما : قال أبو البقاء : إنها شَرْطِيةٌ : وضَعَّف أن تكونَ مَوْصُولةً قال : « ولا يَحْسُن أن تكُونَ بِمَعْنَى الذي؛ لأنَّ ذلك يَقْتَضِي أن يكون المُصيبُ لهم مَاضِياً مخصَّصاً ، والمعنى على العُمُومِ والشَّرْطيةُ أشْبَهُ ، والمرادُ بالآيةَ : الخِصْب والجَدْب ، ولذلك لم يَقُلْ : ما أصَبْت » . انتهى ، يَعْنِي أنّض بَعْضَهم يَقُول : إنَّ المرادَ بالحَسَنة الطَّاعةُ ، وبالسَّيِّئةِ المَعْصِيَةُ ، ولو كان هَذَا مُرَاداً ، لقال : « ما أصَبْتُ » ؛ لأنَّه الفَاعِلُ للحَسَنَةِ والسَّيِّئة جَمِيعاً ، فلا تُضَاف إليه إلا بِفعْلِهِ لَهُمَا .
والثاني : أنها مَوْصُولةٌ بمعنى الَّذِي ، وإليه ذَهَب مكِّي ، ومَنَع أن تَكُونَ شَرْطِيَّة ، قال : « وليسَتْ للشرطِ؛ لأنَّها نزلت في شَيْءٍ بِعَيْنِه ، وهو الجَدْب والخِصْب ، والشَّرطُ لا يكون إلا مُبْهَماً ، يجوزُ أنْ يَقَع وألاَّ يقعَ ، وإنَّما دخلت الفَاءُ للإبْهَام الَّذِي في » الَّذِي « مع أن صِلَتهِ فِعْلٌ ، فدلَّ على أنَّ الآية لَيْسَت في المَعَاصِي والطَّاعَات كَمَا قال أهْلُ الزَّيْغ ، وأيْضاً فإنَّ اللَّفْظَ » ما أصابَكَ « ، ولم يَقُل : » ما أصَبْتَ « . انتهى .
والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنَّ الشرطيةَ أصْلٌ في الإبْهام كنما ذكره أبُو البَقَاء ، والموصولوُ فبالحَمْل عَلَيْها ، وقولُ مكيّ : » لأنها نَزَلَتْ في شيء بعينه « هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ بالشرطِ؛ لأنه لا يُشَبَّه بالشَّرْط فلم تَدْخُلِ الفَاءُ في خَبَره ، نَصَّ النَّحْويُّون على ذلك ، وفي المَسْألَةِ خلافٌ : فَعَلَى الأوَّل : » أصابَك « في محلِّ جَزْم بالشَّرْط ، وعلى الثَّاني : لا مَحَلَّ له؛ لأنه صِلَة .
و » من حسنة « الكلامُ فيه كالكَلامِ في قَوْله : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] وقد تقدَّم ، والفاءُ في » فمن الله « جَوَابُ الشَّرْط على الأولِ وزائدةٌ على الثَّّاني ، والجارُّ بَعْدَها خبرٌ لمبتدأ مَحْذُوف ، تقديرُه : فَهُو من الله ، والجُمْلَةُ : إمَّا في محلِّ جَزْمٍ أوْ رَفْعٍ على حَسَبِ القَوْلين .
واختلِفَ في كافِ الخِطَابِ : فقيل : المرادُ كلُّ أحدٍ ، وقيل : الرَّسُول والمُرادُ أمتهُ ، وقيل : الفَرِيقُ في قوله : { إِذَا فَرِيقٌ } ، وذلك لأنَّ » فريقاً « اسمُ جَمْعٍ فله لَفْظٌ ومَعْنًى ، فراعَى لفظه فأفْرَدَ؛ كقوله : [ الطويل ]
1837- تَفَرَّقَ أهْلاَنَا بِبَيْنٍ فَمِنْهُمُ ... فَرِيقٌ أقَامَ واسْتَقَلَّ فَرِيقُ
وقيل في قوله : { فَمِن نَّفْسِكَ } : إنَّ همزَة الاسْتفْهَام مَحْذوفة ، تقديره : أفمِنْ نفسِك ، وهو كَثِيرٌ؛ كقوله -تعالى- : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا } [ الشعراء : 22 ] وقوله -تعالى- : { بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] . ومنه : [ الطويل ]
1838- رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلدُ لا تُرَع ... فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الْوُجُوه هُمُ هُمُ
وقوله : [ المنسرح ]
1839- أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الْكِرَامَ وأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبْلاً
تقديره : وأتِلْكَ ، وأهَذا رَبِّي ، وأهمُ هُم ، وأفرحُ ، وهذا لم يُجْزءه من النُّحَاةِ إلا الأخفش ، وأمَّا غيره فلك يُجِزْهُ إلا قَبْل » أمْ « ؛ كقوله : [ الطويل ]
1840- لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتَ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ
وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدَّر ، أي : لا يكَادُونَ يَفْقهون حَدِيثاً يَقُولون : ما أصَابَكَ .
وقرأت عائشة : « فَمَنْ نَفْسُكَ » بفتح ميم « من » ورفع السِّين ، على الابتداء والخَبَر ، أيّ شيءٍ نَفْسُك حَتَّى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ .
قوله : « رسولاً » فيه وَجْهَان :
أحدُهُما : أنه حالٌ مؤكِّدة .
والثاني : أنه مَصْدر مؤكِّدٌ بِمَعْنَى إرسال ، وِمنْ مَجِيء « رَسُول » مَصْدراً قوله : [ الطويل ]
1841- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
أي : بإرسال ، بمعنى رِسَالة . و « للناس » يتعلق ب « أرسلناك » ، واللاَّم للعِلَّة ، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حَالاً من « رسولاً » كأنه جَعَله في الأصْلِ صِفَةً للنَّكِرَة ، فقُدِّم عليها ، وفيه نَظَر .
فصل
قال الجُبَّائِيُّ : قد ثَبتَ أنَّ لَفْظَ السِّيِّئَة يقع على البَلِيَّةِ والمِحْنَة ، وتارة يقع على الذَّنْب والمَعْصِيَة ، ثم إنَّه -تعالى- أضَافَ السِّيِّئَة إلى نَفْسِهِ في الآية الأولَى بقوله : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } ، وأضَافَها في هذه الآيَةِ إلى العَبْد بِقَوْله : { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ولا بُدَّ من التَّوْفِيقِ بين الآيَتَيْنِ؛ فنقول : لمَّا كانت السَّيِّئَةُ بمكعنى البَلاَءِ والشِّدَّة مُضَافَة إلى الله ، وجب أن تَكُون السِّيِّئَةُ بمعْنَى المُصِيبَة مُضَاَفة إلى العَبْدِ؛ ليزُول التَّنَاقُضُ بين هَاتَيْنِ الآيَتَيْن المُتَجَاوِرَتَيْن ، وقد حَمَل المُخَالِفُون أنْفُسَهم على تَغْيِير الآيَةِ ، وقرأوا : « فمن نفسك » فَغَيَّروا القُرْآن ، وسلَكُوا مثل طريقَةِ الرَّافِضَة في ادِّعاءِ التَّغْيير في القُرْآن .
فإن قيل : إن الحسَنَة وإن كَانَت من فِعْل العَبْد ، فإنَّما وَصَل إلَيْهَا بتسْهِيله وألْطَافِه ، فصَحَّت الإضَافَةُ إلَيْه ، وأمَّا السَّيِّئة ، فَهِي غير مُضَافَةٍ إلى الله -تعالى- بأنَّه [ مَا ] فَعَلَها ، ولا أرَادَهَا ، ولا أمَرَ بِهَا ، ولا رَغَّبَ فيهَا . فلا جَرَم انْقَطَعَتْ هذه النِّسْبَة إلى الله تعَالى من جَمِيعِِ الوُجُوهِ .
قال ابن الخَطِيبِ : والجَوابُ : أن هذه الآيَةَ دلَّت على أنَّ الإيمَان حَصَل بتَخْلِيق الله -تعالى- : لأن الإيمَان حَسنَةٌ [ والحَسَنَة ] هي الغِبْطَةَ الخَالِيَةُ عن جَمِيعِ جِهَاتِ القُبْحِ ، والإيمان كَذَلِكَ؛ فوجب أن تكُون حَسَنة؛ لأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ قوله { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } [ فصلت : 33 ] أن المُرادَ به : كلمة الشَهَادة ، وقيل في قوله : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] قيل : هو قَوْل لا إلَه إلاَّ الله؛ فَثَبت أنَّ الإيمان حَسَنَة ، وإنما قُلْنَا : إن كل حَسَنَةَ من الله؛ لقوله -تعالى- : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله } وهذا يفيد العُمُوم في جَميع الحَسَنَاتِ ، وإذا ثَبَت أنَّ الإيمان حَسَنة ، وكُلُّ حسنة من الله ، وجب القَطْع بأنَّ الإيمَان من اللهِ .
فإن قيل : لم لا يجُوز أن يكون المُرَادُ من قوله : « من الله » هو أنَّ الله قدَّرَه عَلَيْه ، وهَدَاه إلى مَعْرَفَة حُسْنهِ ، وإلى مَعْرِفَة قُبْحِ ضِدّه الذي هو الكُفر .
قُلْنَا : جميع الشَّرَائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بالنِّسْبَة إلى الإيمَانِ والكفر عندكم ثمَّ إنَّ العَبْد باخْتِيَار نَفْسِه أوْجد الإيمان ، ولا مَدْخل لِقُدْرة الله وإعانَتِه في نَفْس الإيمَانِ ، فكان الإيمَانُ مُنْقَطِعاً عن الله - [ تعالى ] - من كل الوُجُوهِ ، فكذا هَذَا مُنَاقِضاً لقوله : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله } ؛ فثبت لدلاَلَة هذه الآية أن الإيمان من الله ، والخُصُوم لا يَقُولُون به ، وأمَّا بيان أنَّ الكُفْر من اللهِ فَلوُجُوه :
أحدُهَا : أن كُلَّ من قَالَ : الإيمانُ من الله قال الكُفْر من الله؛ فالقَوْل بأحَدِهِمَا من الله -تعالى- دُون الآخَرِ- مخالِفٌ لإجْمَاع الأمَّةِ .
وثانيها : أن العَبْد لو قَدَر على تَحْصِيل الكُفْرِ ، فالقُدْرَة الصَّالِحة لإيجَادِ الكُفْر : إمَّا أن تكُون صَالِحة لإيجَادِ الإيمان ، أو لا ، فإن كانت صَالِحَةً لإيجَادِ الإيمانِ ، [ فحينئذٍ ] يَعُود القول في أنَّ إيمان العَبْدِ مِنْهُ ، [ وإن لَمْ تَكُنْ صَالِحةٌ لإيجَادِ الإيمَانِ ، فيكُونُ القَادِر على الشَّيْءِ غير قَادِر على ضِدَّه ، وذلك عندهُم مُحَالٌ؛ فثبت أنَّهُ لَمْ يَكُنْ الإيمَان مِنْه ، وجَب ألاّ يكُونَ الكُفْر مِنْهُ ] .
وثالثها : أنَّه لمَّا يكُن العَبْد مُوجداً للإيمَانِ فبأن لا يكون موجداً للكفر أوْلى؛ وذلك لأنَّ المُسْتَقِلَّ بإيجَادِ الشَّيْءِ هو الَّذي يُمْكِنُه تَحْصِيلُ مُرَادِهِ ، ولا نَرَى في الدُّنْيَا عَاقِلاً ، إلاَّ يُريدُ أن يكُون الحَاصِل في قَلْبهِ هو [ الإيمان والمَعْرِفَة والحقّ ، وإن أحداً مِنِ العُقَلاء لا يُرِيدُ أن يكُونَ الحَاصِلُ في قلبه هو ] الجَهْل والضَّلال والاعْتِقاد المُطابق ، وَجَب إلاَّ يتحصَّل في قَلْبه إلاَّ الحَقَّ ، وإذا كَانَ الإيمانُ الَّذي هو مَقْصُوده ومَطْلُوبه ومُرَادُه ، لم يقع بإيجادِه ، فبأن يكُون الجَهْلُ الَّذِي لم يُرده وما قَصَد تَحْصيله ، وهو في غَايَة النَّفْرَة [ عَنْهُ ] غير وَاقِع بإيجَادِه أوْلَى ، وأما الجَوَابُ عن احْتجاجه بقوله : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فَمِنْ وَجْهَيْن :
الأوَّل : أنَّه -تعالى- قال حكاية عن إبْراهيم -عليه السلام- : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] ، أضاف المرَض إلى نَفْسِهِ ، والشِّفَاء ، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ ، فكذا يَقْدَح ذَلِك في كونه -تعالى- خَالِقاً للمَرَضِ والشِّفَاء ، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ ، فكذا ههنا؛ فإنه يُقَالُ : يا مُدَبِّر السَمَوات والأرْضِ؛ ولا يُقالُ : « يا مدبِّر القَمْل والصِّبيان والخَنَافِس . . » فكذا ههنا .
الثاني : قال أكثر المُفَسِّرين في قَوْل إبْراهيم -عليه السلام- : « هذا رَبِّي » إنه ذَكَر هذا اسْتِفْهَاماً على سَبِيل الإنْكَارِ؛ كما قدمناه فكذا هَهُنَا؛ كأنَّهُ قِيلَ : الإيمَان الَّذِي وقع على وَفْقِ قَصْدِه ، قد بَيَّنَّا أنَّه ليس وَاقِعاً مِنْهُ ، بل من الله -تعالى- فهذا الكُفْر [ ما ] قَصَدَهُ ، وما أرَادَهُ ، وما رَضِي به ألْبَتَّةَ ، فكيف يَدْخُل في العَقْل أن يُقال إنَّه وقع بِهِ . د
وأما قِرَاءة : « فمن نفسك » فنَقُول : إن صح أنه قرأ بها أحدٌ من الصَّحَابَة والتَّابِعين ، فلا طعن فيه ، وإن لم يَصِحَّ ذلك ، فالمراد أن من حَمَل الآية على أنَّها وردتْ على سَبِيل الاستفهام على وَجْه الإنْكَارِ ، قال : لأنَّه لما أضاف السيئة إلَيْهم في مَعْرض الاسْتِفَهَام على سَبيلِ الإنْكَارِ ، كان المُرادُ أنَّها غير مُضَافةٍ إليهم ، فذكر [ قوله ] : « فمن نفسك » كقولِنَا : إنه استِفْهَامٌ على سَبيلِ الإنْكَارِ .
[ فصل ]
قوله : « ما أصابك من حسنة » أي : من خَيْر ونَعْمَةٍ ، « فمن الله ، وما أصابك من سيئة » أي : بليَّةٍ أو أمر « تكْرَهُهُ » فمن نفسك « أي : بذُنُوبِكَ ، الخِطَاب للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والمُرَاد غيره ، نظيرُه قوله -تعالى- : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] .
قال البَغَوِيُّ : وتعلَّق أهْل القَدَر بِظَاهر هذه الآية؛ فقالوا : نَفَى الله -عز وجل- السَّيِّئَة عن نَفْسِه ، ونَسَبَهَا إلى العَبْد؛ فقال : » وما أصابك من سيئة فمن نفسك « ولا مُتَعلِّق لهم فيه؛ لأنَّه ليس المُرادُ من الآيةِ حَسَنات الكَسْبِ ولا سيِّئاتِه ] من الطَّاعَاتِ والمَعَاصِي ، بل المُراد مِنْه : ما يُصيبُهُم من النِّعَم والمِحَنِ ، وذلك ليس من فَعْلِهِم؛ بدليل أنَّه نَسَبَها إلى غَيْرِهم ولم يَنْسِبْهَا إلَيْهِم ، فقال » ما أصابك « ولا يقال في الطَّاعَة والمَعْصِيَة : أصَابَنِي ، إنَّما يقال : أصَبْتُهَا ، ويُقَال في المِحَن : أصَابَنِي؛ بدليل أنه لَمْ يَذْكُر عليه ثَوَاباً ولا عِقَاباً؛ فهو كقوله -تعالى- : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] ولما ذكر حَسَنَات الكَسْب وسيِّئَاته نسبها إلَيْه ، ووعد عليها الثَّوَابَ والعِقَاب؛ فقال { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] .
وقيل : مَعْنى الآية : » ما أصابك من حسنة « : من النَّصْر والظَّفَرِ يوم بَدْرٍ ، » فمن الله « أي : من فَضْلِ الله ، و » ما أصابك من سيئة « : من القَتْلِ والهَزِيمَةِ يوم أحُدٌ ، » فمن نفسك « أي : يعني : فبذنوب أصْحَابِك وهو مُخَالفتهم لَكَ .
فإن قيل : كَيْف وَجْه الجَمْع بين قوله : » قل كل من عند الله « [ وبين قوله : فمن نفسك » .
قيل : قوله : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أي : الخِصْب والجَدْب ، والنَّصْر والهَزِيمَة كلُّها من عِنْد الله ، وقوله « فمن نفسك » أي : ما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك؛ عقوبة لك كما قال : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ } [ الشورى : 30 ] ؛ يدل عليه مَا روى مُجَاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قرأ : « وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك » .
ثم قال [ -تعالى- ] : « وأرسلناك للناس رسولاً » .
قوله : « رسولاً » فيه وجهان «
أحدهما : أنه حال مؤكدة .
والثاني : أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال ، ومن مجيء » رسول « مصدراً قوله : [ الطويل ]
1842 أ- لَقَدْ كَذبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهمْ بِرَسُولِ
أي بإرسال ، بمعنى رسالة . و » للناس « يتعلق ب » أرسلناك « ، واللام للعلة . وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من » رسولاً « كأنه جعله في الأصل صفةً للنكرةَ فَقُدِّم عليها ، وفيه نظر .
فصل
وهذا يدلُّ على أن المُرَاد من هَذِه الآيات إسناد جميع الأمُور إلى الله -تعالى-؛ لأنَّ المَعْنَى : ليس لك إلاَّ الرِّسَالة والتَّبْلِيغ ، وقد فَعَلْت وما قصَّرت ، « وكفى بالله شهيداً » على جَدِّك وعَدَم تَقْصِيرك في أدَاء الرِّسَالة وتَبْليغ الوَحْي ، فأمَّا حُصُول الهِدَايَة فليس إلَيْك ، بَلْ إلى الله؛ ونظيره قوله -تعالى- : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } [ آل عمران : 128 ] ، وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] .
وقيل المَعْنَى : وكفى بالله شهيداً على إرْسالِك وصدْقَك ، وقيل : وكَفَى بالله شهيداً على أنَّ الحسنة والسَّيِّئة كُلَّها من الله .
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
وذلك أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقُول : « مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطاعَ الله ، ومن أحَبَّنِي فقد أحَبَّ الله » فقال بَعْضُ المُنَافِقِين : ما يُريدُ هذا الرَّجُلُ إلا أن نَتَّخِذَهُ ربّاً؛ كما اتَّخَذَتِ النَّصَارى عِيسَى ابن مَرْيمَ ربّاً؛ فأنزل الله -عز وجل- : « من يطع الرسول » فيما أمَرَهُ [ الله ] « فقد أطاع الله » ، « ومن تولى » : عن طاعته « فما أرسلناك » يا محمَّد « عليهم حفيظاً » أي : حَافِظاً ورَقِيباً ، بل كل أمُورهم إلى الله -تعالى- ، ولا تغتم بسبب تولِّيهم ولا تَحْزَن ، والمُرَادُ : تسلِيَة الرَّسُول -عليه الصَّلاة والسلام- .
قيل : نَسَخَ الله -عز وجل- هذه الآية بآية السَّيْف ، وأمره بِقتال من خَالَفَ الله ورسُوله .
قوله : « حفيظاً » : حالٌ من كَافِ « أرسلناك » و « عليهم » مُتعلِّق ب « حفيظاً » ، وأجاز فيه أبُو البَقَاءِ ما تقدَّم في « للنَّاسِ » .
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
في رفع « طاعة » : وجهان :
أحدهما : أنه خبرُ مُبْتَدأ مضمَرٍ ، تقديره : « أمر طاعة » ولا يجُوز إظهارُ هذا المُبْتَدأ؛ لأن الخَبَر مَصْدَر بدلٌ من اللَّفْظِ بفعله .
والثاني : أنه مُبْتَدأ والخَبَر مَحْذُوف ، أي : مِنَّا طَاعَة ، أو : عَنْدنا طَاعَةٌ ، قال مكي : « ويجُوز في الكَكَم النَّصْبُ على المَصْدَر » .
قوله : « فإذا برزوا » [ وأخْرِجُوا ] ، من عندك بيت طائِفَةٌ مِنْهُم غير الَّذي تَقُولُ .
أدغم أبو عَمْرو وحمزة : تاء « بَيَّت » في طَاءِ « طائفة » لتقاربهما ، ولم يَلْحَقِ الفِعْلَ علامةُ تأنيث؛ لكونه مَجَازياً ، و « منهم » : صِفَةٌ ل « طائفة » ، والضَّمِير في « تَقُول » يحتمل أن يكُون ضَمير خِطَاب للرَّسُول -عليه السلام- ، أي « غيرَ الذي تَقُولُه وترسم به يا مُحَمَّد ، ويؤيِّده قِرَاءة عبد الله : » بيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُم « ، وأن يكون غَيْبَة للطَّائفة ، أي : تقول هي .
وقرأ يَحْيَى بن يَعْمر : » يقول « بياء الغَيْبَة ، فيحتمل أن يَعُود الضَّمِيرُ على الرَّسُول بالمَعْنَى المُتقدِّم ، وأن يَعُود على الطَّائِفَةِ ، ولم يرنِّث الضَّمِيرَ؛ لأن الطِّائِفَة في معنى الفَرِيق والقوم .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : » بيت طائفة « أي : زوَّرت وسوَّت » غير الذي تقول « : خلاف ما قُلْت ومَا أمَرْت به ، أو خَلاَف ما قَالَتْ ومَا ضَمِنَت من الطَّاعَة؛ لأنَّهم أضْمَرُوا الرَّدَّ لا القَبُول .
قال الزَّجَّاج : كل أمر تفكر فيه وتُؤوِّل في مصالحه ومفاسده كثيراً ، قيل : هذا أمْر مُبَيَّتٌ؛ قال -تعالى- : { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول } [ النساء : 108 ] ، وقال قتادَةُ والكَلْبِيُّ : بَيَّت ، أي : غيَّر وبَدَّل الَّذِي عَهِدَ إليهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون التَّبْييتُ بمعنى : التَّبْدِيل .
وقال أبُو عُبَيْدَة : والتَّبييتُ معناه : قالُوا وقَدَّرُوا لَيْلاً مَا أعطوك نهاراً ، وكل ما قُدِّر بلَيْل فهو مُبَيَّتٌ .
وقال أبو الحَسَن الأخْفَش : تقول العَرَب للشَّيْءِ إذا قُدِّرَ : بَيْتٌ ، يُشَبِّهُونَهُ بتقدير بُيُوت الشِّعْر ، وفي اشْتِقَاقه وَجْهَان :
أحدهما : أم أصْلح الأوْقَات للفكْر أن يَجْلِس الإنْسَان في بَيْتِهِ باللَّيل ، فهناك تكُون الخَوَاطِر أجْلى والشَّواغل أقَل ، فلما كان الغَالِبُ أنَّ الإنْسَان وقت اللَّيْل يكون في البَيْتِ ، والغَالِبُ أنه إنَّما يَسْتَقْصِي في الأفْكَار في اللَِّيْلِ ، فلا جَرَم سُمِّي ذلك فيس الفِكْر مبيِّتاً .
والثاني : أن التَّبْييتَ والبَيَات : أن يَأتِي العَدُوُّ ليلاً ، وبات يَفْعَل كذا : إذا فَعَلَه لَيْلاً؛ كما يُقَال : ظلَّ بالنَّهار ، وبَيَّتَ بالشيء ، قَدَّره ، وإنما خَصَّ هذه الطَّائِفَة من جُمْلَة المُنَافِقِين لوجهين :
أحدهما : أنه -تعالى- ذكر من عَلِم أنَّه يَبْقى على كُفْرِه ونِفَاقِه ، فأمَّا من عَلِمَ أنَّه يرجع عن ذَلِك فإنَّه لم يَذْكُرْهُم .
والثَّاني : أنَّ هذه الطَّائِفَة كانوا قد سَهِرُوا لَيْلَهُم في التَّبْيِيتِ ، وغيرهم سَمِعُوا وسَكَتُوا ولم يُبَيِّتُوا ، فلا جَرَم لم يُذْكَرُوا .
وفي الآيَة دليل على أن مُجَرَّدَ القَوْل لا يُفيد شيئاً ، فإنَّهُمْ قَالُوا ططائفة « ولَفَظُوا بِهَا ، ولم يحقِّق الله طاعتهم .
ثم قال : { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } ذكر الزَّجَّاج [ فيه ] وجْهَيْن :
أحدهما : [ معناه ] : ينزل إلَيْك في كِتَابِه .
والثَّّاني : يكُتَبُ ذلك في صَحضائِف أعْمَالهم؛ ليجَازوا بهز
وقال الضَّحاك عن ابن عبَّاسٍ ، يعني : ما يُسِرُّون من النِّفَاق .
و » مَا « في » ما يبيتون « يجوز أن تكون مَوْصُولة أو مَوْصُوفة أو مَصْدَرية . » فأعْرِض عَنْهم « يا مَحَمَّد ، ولا تفضحهم ولا تُعَاقِبْهُم ولا تُخْبَر بأسْمَائِهِم؛ فأمر الله -تعالى- بستْر [ أحْوَالِ ] المُنَافِقين إلى أن لمن توكَّلَ عليه .
قال المُفَسِّرون : كان الأمْر بالإعْراض عن المُنَافِقِين في ابْتِداء الإسْلاَم ، ثم نُسِخ ذلك بقوله : { جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] . وهذا فيه نَظَر؛ لأن الأمْر بالصَّفْح مُطْلَق ، فلا يفيد إلاّض المَرَّة الوَاحِدَة ، فورودُ الأمْر بعد ذَلِك بالجَهِادِ لا يكون نَاسِخاً له .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
قرأ ابن محيْصن : « يَدَّبَّرون » : بإدغام التَّاء في الدَّال ، والأصْل : يَتَدبرون ، وهي مخالفةٌ للسَّوَاد والتَّدْبير والتَّدَبُّر عبارة عن النَّظَر في عَوَاقِب الأمُور وأدْبَارِهَا ، ودُبُرُ الشَّيْء آخره ، ومنه قوله : إلامَ تدبَّروا أعْجَاز أمُورٍ قَدْ ولت صُدُورَها ، ويقال في فَصِيح الكَلاَم : لو استَقبلتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْت ، أي : لو عَرَفَت في صَدْرِي ما عَرَفْتَ [ من ] عاقِبَتِهِ ، لامْتَنَعْت .
فصل : وجه النظم في الآية
ووجه النظم أنه -تعالى- [ لمَّا ] حكى أنواعَ مكر المُنَافِقِين وكَيْدِهم؛ لأجل عَدَم اعتِقَادِهم صحَّة دَعْوَى النَّبي صلى الله عليه وسلم للرِّسَالَة ، فلا جَرَم أمرهم [ الله ] تعالى بأن يَنْظُروا ويتفكروا في الدَّلائِل [ الدَّالَّة ] على صِحَّة النُّبوَّة؛ فقال [ -تعالى- ] « أفلا يتدبرون القرآن » والعلماء قَالُوا : دلالة القُرْآنِ على صِدْق نُبُوَّةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوْجُه :
أحدُها : فصاحَته .
وثانيها : اشْتِمَاله على الإخْبَارِ عن الغُيُوبِ .
والثالث : سلامَتُه عن الاخْتِلاَف ، وهاذ هو المذكُور في هَذِهِ الآية ، وذكروا في تَفْسِير سَلاَمَتِه عن الاخْتِلاَف ثلاثة أوْجُه :
الأول : قال أبو بَكر الأصَم : معناه أنَّ هؤلاء المُنَافِقِين كانوا يَتَواطَئُون في السَِّرِّ على أنْواع كَثِيرةٍ من العُلُوم ، فلو كَان ذَلِك مِنْ عِنْد غَيْر الله ، لوقع فيه أنْواعٌ من الكَلِمَات المُتَنَاقِضَة؛ لأن الكِتَاب الكَبِير لا ينْفَكُّ من ذَلِكَ ، ولمّا لم يثوجد فيه ذلك ، عَلِمْنَا : أنه لَيْس من عِنْد غَيْر الله؛ قاله ابن عبَّاسٍ .
فإن قيل : أليس أنَّ قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22- 23 ] كالمناقض لقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، وآيات الجِبْرِ كالمناقِضَةِ لآيات القَدَرِ ، وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } [ الحجر : 92 ] كالمناقَضِ لقوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .
فالجواب أنا بَيَنَّا أنه لا مُنَافَاة ولا مُتَنَاقَضَةَ بَيْن شَيْءٍ مِنْهَا .
الثالث : قال [ أبُو ] مسلم الأصْفَهَانِي : المراد منه عدم الاخْتِلاف في رُتب الفَصَاحَةِ فيه من أوَّله إلى آخره على نَهْج وَاحدٍ ، ومن المَعْلُوم أن الإنْسَان وَإنْ كان في غَايَة البَلاغَة ونهاية الفَصَاحَة ، إذا كَتَبَ كِتَاباً طويلاً مُشْتَمِلاً عَلَى المعاني الكثيرة ، فلا بُدَّ وأن يقع التَّفَاوُت في كَلاَمه ، بحيْث يكون بَعْضُه قريباً مُبَيِّناً وبَعْضُه سَخِيفاً نازلاً .
ولما لم يكُن القُرآن كَذلِك ، علمنا أنه مُعْجِزٌ من عِنْد الله -تعالى- .
والضمير في « فِيه » يُحتمل أن يعودَ على القُرْآن ، وهو الظَّاهِر ، وأن يعُود على ما يُخْبره الله -تعالى- به ممَّا يُبَيِّتُون ويُسِرُّون ، يعني : أنه يُخْبِرُهم به عَلَى حَدٍّ ما يَقَع .
فصل في دلالة الآية
دلت الآية على أن القُرْآن معلوم المَعْنَى ، خلافاً لِمَنْ يَقُول : إنَّه لا يَعْلَم مَعْنَاه إلا النَّبي والإمَام المَعْصُوم؛ [ لأنه ] لو كان كَذَلِك ، لما تَهَيَّأ للمنافقين مَعْرِفة ذلِك بالتَّدَبُّر ، ودلت الآية أيْضاً على إثْبات القياسِ ، وعلى وُجُوب النَّظَرِ والاستِدْلال ، وعلى فَسَاد التَّقْليد ، [ و ] لأنه -تعالى- أمر المُنَافقِين بالاستِدْلال بهذا الدَّليل على صِحَّة نُبُوَّته فيه ، فبأن يَحْتَاج إلى مَعْرِفَة ذَاتِ الله -تعالى- وصِفَاته إلى الاستدْلال أوْلى .
فصل
قال أبو علي الجُبَّائي : دلت الآية على أن أفْعَال العِبَاد [ غَيْر ] مَخْلُوقة لله تعالى لأن قوله -تعالى- : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } يقتضي أن فعل العَبْد لا يَنْفَكُّ عن التَّفَاوُت والاختلاف وفِعْل الله -تعالى- لا يوجد فيه التَّفَاوُت؛ لقوله -تعالى- : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ } [ الملك : 3 ] ، فهذا يَقْتَضِي أن فِعْل العَبْد لا يكُون فِعْلاً على الإطْلاقِ .
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
وهذا نوع آخر من أعْمَال المُنَافِقِين الفَاسِدة ، وذَلِك أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَبْعَث السَّرايا فإذا غَلَبُوا أو غَُلبُوا بَادَرَ المُنَافِقون يستَخْبِرونَ عن حَالِهَم ، فَيُفْشُون ويُحَدِّثُون به قَبْل أنْ يُحْدِّثَ به رسُول الله صلى الله عليه وسلم فَيُضْعِفُون به قُلُوبَ المُؤمِنين ، فأنْزَل الله -تعالى- { وَإِذَا جَآءَهُمْ } يعني : المُنَافِقِين « أمر من الأمن » أي : الفَتْح والغَنِيمَة « أو الخوف » أي : القتل والهزيمَة « أذاعوا به » أشاعُوه وأفشوْه ، وذلك سَبَبٌ للضَّرر من وُجُوهٍ :
أحدها : ان مَثْل هذه الإرْجَافَات لا تنفَكُّ عن الكَذِب .
وثانيها : إن كان ذلك الخَبَر من جَانِبِ الأمْن زَادُوا فيه زِيَادات كَثِيرة ، [ فإذا لَمْ تُوجد تلك الزَّيَادات ، أوْرَث ذلك شُبْهَة للضُّعَفَاءِ في صدق الرَّسول -عليه السلام- ] ؛ لأن المنافِقِين كانوا يروون تلك الإرْجَافَات عن الرسُول ، وإن كان ذَلِك الخَبَر خَوْفاً ، تشوَّشَ المر على ضُعَفَاء المُسْلِمين بسبَبِه ، ووقعوا في الحَيْرَة والاضْطراب ، فكان ذلك سَبَباً للفِتْنَة .
وثالثها : أن العَداوَة الشَّدِيدة كانت قَائِمَةً بين المُسْلِمين وبين الكُفَّار ، فكان كلّ وَاحِد من الفريقين مُجدًّا في إعْداد آلات الحَرْب وانْتِهَاز الفُرْصَة ، فكل ما كان [ أمْناً ] لأحد الفَرِيقَيْن ، كان خَوْفاً للفَريقِ الثَّانِي ، وإن [ وقع خَبر الأمْن للمُسْلِمين ، أرجَفَ بذلك المُنَافِقُون ، فوصل الخَبَر في أسْرَع مُدَّة إلى الكُفَّار؛ فاحارزوا وتحصَّنُوا من المُسْلمين ، وإن ] وَقَعَ خبر الخَوْف للمُسْلِمِين بالَغوا في ذلك وزادوا فيه ، وألْقوا الرُّعب في قُلُوب الضَّعْفَة ، فظهر أن الإرْجَافَ مَنْشَأ الفِتَنِ والآفَاتِ .
قوله : { أَذَاعُواْ بِهِ } : جواب إذا ، وعَيْنُ أذَاعَ ياء؛ لقولهم : ذاع الشَّيء يذِيع ، ويُقال : أذاع الشَّيْء ، أيضاً بمعنى المُجَرَّد ، ويكونُ متعدِّياً بنفسه وبالبَاءِ ، وعليه الآيةُ الكريمة ، وقيل : ضَمَّن « أذاع » مَعْنَى « تَحَدَّثَ » فعدَّاه تعديتَه ، أي : تحدَّثوا به مُذيعين له ، والإذاعة : الإشاعةُ ، قال أبو الأسْوَد : [ الطويل ]
1842- ب- أذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أوقِدَتْ بِثُقُوبِ
والضَّمِيرُ في « به » يجُوزُ أن يعودَ على الأمْر ، وأن يعُودَ على الأمن أو الخَوْفِ؛ لأنَّ العَطْفَ ب « أو » والضَّميرُ في « رَدُّوهُ » للأمْر .
قوله : « لو ردوه » أي الأمْر ، « إلى الرسول » أي : [ لَمْ ] يحدِّثوا به حَتَّى يكُون النَّبي صلى الله عليه وسلم هو الذِي يُحدِّث به ، و « إلى أولي الأمر [ منهم ] » أي : ذَوِي الرأي من الصَّحَابة؛ مثل أبي بكْر وعُمر وعُثْمَان وعلي ، وقيل : أمَرَاء السَّرَايا؛ لأنَّهم الَّذِين لَهُم أمر على النَّاس ، وأهل العِلْم لَيْسوا كذلِك .
وأجيب عن هَذَا : بأن العُلَمَاء يجبُ على غَيْرِهم قُبُول قولِهِم؛ لقوله -تعالى- : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] فأوجب الحَذَر بإنْذَارِهِم ، وألزَم المُنْذرين قُبُول قولهم ، فجاز لهذا المَعْنَى إطْلاق اسم أولي الأمْرِ عَلَيهم .
قوله : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخْرِجُونه ، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم ، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى ، والاسْتِنْبَاط في اللُّغَةِ : الاستِخْراج ، وكذا « الإنباط » يقال : استَنْبَطَ الفَقِيهُ : إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه ، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال : [ الطويل ]
1843- نَعَمْ صَادِقاً والفَاعِلُ القَائِلُ الذي ... إذَا قَالَ قَوْلاً أنْبَطَ المَاءَ في الثَّرَى
ويقال : نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها .
والنبط أيضاً : جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات . ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة : « ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطاً » . قال كَعْبٌ : [ الطويل ]
1844- قَرِيبٌ ثَرَاهُ مَا يَنَالُ عَدُوُّهُ ... لَهُ نَبَطاً ، آبِي الْهَوَانِ قَطُوبُ
و « منهم » حَالٌ : إمَّا من الَّذِين ، أو من الضَّمير في « يَسْتَنْبِطُونه » فيتعلق بمَحْذُوفٍ .
وقرأ أبو السَّمال : « لَعَلْمه » بسُكُون اللام ، قال ابن عَطِيَّة : هو كتَسْكِين { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] وليس مِثْله؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ ، وتسكينَ مَفْتُوحها شاذٌّ؛ ومثلُ تسكين « لَعَلْمَهُ » قوله : [ الطويل ]
1845- فَإنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... مِنَ الأدمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ
أي : دَبِرت ، فِسَكَّن .
فصل معنى « يستنبطونه »
[ قيل المراد ب « يستنبطونه » : يَسْتَخْرِجونَهُ ، وقال عِكْرمة : يَحْرِصُون عليه ويسألون عنه ] ، وقال الضَّحَّاك : يتتبّعونه ، يريد : الذين سَمِعُوا تلك الأخْبَار من المُؤمنين والمُنَافِقين ، لو رَدُّوه إلى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإلى ذَوِي الرَّأي والعِلْم ، لعلمه الذين يَسْتَنْبِطُونه ، أي : يُحِبون أي يَعْلَمُوه على حَقِيقَتِهِ كما هُو .
وقيل : المُراد ب « الذين يستنبوطه » أولئك المُنَافِقُون المُذِيعُونَ ، والتقدير : ولو أن هؤلاء المُنَافِقِين المُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الأمْنِ والخَوْف إلى الرَّسُول وإلى أولي الأمْر ، وطلبوا مَعْرِفَة الحَالِ [ فيه ] من جهتِهم ، لعلمه الَّذين يستَنْبِطُونه مِنْهُم و [ هم ] هؤلاء المُنَافِقُون المُذِيعُون منهم ، أي : من جَانب أولي الأمْر [ منهم ] .
فإن قِيلَ : إذا كَان الَّذين أمَرَهُم الله -تعالى- برد هذه الأخْبَارِ إلى الرَّسُول وإلى أولي [ الأمر مِنْهُم وهم المُنَافِقُون ، فكَيف جَعَل أولي الأمْر منهم في قوله : { وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ } .
الجواب : إنما جَعَل أولي ] الأمْر مِنْهُم على حَسَب الظَّاهِر؛ لأن المُنَافِقين يظْهِرُون من أنفسهم أنَّهم مؤمِنُون ، ونَظِيرُه : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } [ النساء : 72 ] وقوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً }
قال أبو العَباس [ المُقْرِئ ] : وَرَدَت الرَّحْمَة [ في القُرْآن ] عَلَى سَبْعَة أوجه :
الأوّل : القُرْآن ، قال -تعالى- : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أراد بالفَضْلِ الإسْلام ، وبالرَّحْمَة القُرْآن .
الثاني : بمعنى الإسْلام؛ قال -تعالى- : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الإنسان : 31 ] أي : في الإسلام [ ومثله { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] أي : في دين الإسلام ] .
الثالث : [ بمعنى ] : الجنة؛ قال -تعالى- : { أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي }
[ العنكبوت : 23 ] أي : من جَنَّتِي .
الرَّابع : المَطَر؛ قال -تعالى- : { يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ، النمل : 63 ] .
الخامس : النِّعمة؛ قال -تعالى- : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } .
السادس : النبوة؛ قال -تعالى- : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] ، أي : النُّبُوَّة .
السابع : الرِّزْق؛ قال -تعالى- : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] : من الرِّزْقِ؛ ومثله { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } [ الإسراء : 28 ] أي : رِزْقاً .
فصل
اعلم : أن ظَاهِر هذا الاسْتِثْنَاء يوهِمُ أنَّ ذلك القليل وَقَع لا بِفَضْل الله ولا بِرَحْمَتِه ، وذلك محال .
قوله : « إلا قليلاً » ذكر المفسَِّرُونَ فيها عشرة أوجه :
الأول : قال بعضهم : إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل « اتبعتم » أي : لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم ، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان ، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته ، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد صلى الله عليه وسلم ، ويكون قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } كلام تامٌّ ، [ وذلك القَلِيلُ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي ، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل ، وورقة بن نوفل ، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول ] .
وقال أبو مُسْلم : المراج بِفَضْل الله ورحمته في هذه الآية : هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون؛ بقولهم : { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] بيَّن -تعالى- أنّضه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع ، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلاً مِنْكُم ، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة ، والنِّيَّات القويَّة ، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل المُؤمِنِين ، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقّاً هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا ، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقاً؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلاً ، بل الأمْر في كونه حَقاً وباطلاً على الدَّلِيل ، وهو أحْسَن الوُجُوه .
[ وقيل : المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف ، وعلى ذها التَّأويل قيل : فالاستثْنَاء مُنْقَطِع؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب ، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر .
الثاني : أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل « عَلِمه » أي : لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلاً ] .
قال الفرَّاء والمبرد : [ وأما ] القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل « أذاعوا » أوْلى من هَذَا؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ؛ فالأقلُّ يعلمُه والأكْثَر يجهله ، وصرف الاسْتشثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك .
قال الزَّجَّاج : هذا غَلَطٌ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء شيئاً يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَمِضٍ ، إنما هو اسْتِنْبَاط خَبَر ، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه ، ويمكن أن يُقَال : كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاسْتِنْبَاطَ على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف ، [ أمَّا ] إذا حملناه على الاسْتِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام ، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد .
الرابع : أنه مُسْتَثْنَى من فاعل « لوجدوا » أي : لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلاً مِنْهُم ، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ ، فيظنُّ البَاطِلَ حقاً والمتناقضَ مُوَافِقاً .
الخامس : أنه مُسْتَثْنى من الضَّمِير المَجْرُور في « عَلَيْكُم » ، وتأويلُه كتأويل الوَجْه الأول .
السادس : أنه مُسْتَثْنى من فاعل « يستنبطونه » ، وتأويله كتأويل الوجه الثَّالث .
السابع : أنه مُسْتَثْنَى من المَصْدَر الدالّ عليه الفعْلُ ، والتقدير : لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري .
الثَّامن : أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري .
الثَّامن : أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه ، والتقدير : لاتبعتم الشَّيْطَان كلكم إلا قليلاً من الأمُور كُنْتم لا تتَّبِعُون الشًّيْطَان فيها ، فالمعنى : لاتبعتم الشَّيْطان في كل شَيْء إلا في قَليلٍ من الأمُور ، فإنكم كُنْتُم لا تتَّبِعُونه فيها ، وعلى هَذَا فهو استِثْناء مفرَّغ؛ ذكر ذلك ابن عَطِيَّة ، إلا أنَّ في كلامه مناقشةً : وهو أنَّه قال « أي : لاتَّبعتُم الشَّيْطَان كلّكم إلا قَلِيلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها » ، فجعله هنا مُسْتَثْنَى من المتَّبعِ فيه المَحْذُوف على ما تَقَدَّم تقريره ، وكان تَقَدَّم أنه مُسْتَثْنى من الاتِّباع ، فتقديره يؤدِّي إلى اسْتِثْنَائِه من المتَّبَع فيه ، وادِّعاؤه أنه استثنَاء من الاتباع ، وهما غيران .
التاسع : أن المُرَاد بالقلة العدمُ ، يريد : لاتَّبعْتُم الشَّيْطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحَدٍ منكم؛ نقله ابن عطية عن جَمَاعةٍ وعن الطَّبِري ، ورَدَّه بأن اقْتِران القِلَّة بالاسْتِثْنَاء يقتضي دُخُولَها؛ قال : « وهذا كَلاَمٌ قَلِقٌ ولا يشبه ما حَكَى سيبَويْه من قَوْلِهِم : » هذه أرضٌ قَلَّ ما تُنْبِتُ كذا « أي : لا تُنْبِتُ شيئاً » .
وهذا الذي قاله صَحيحٌ ، إلا أنه كان تَقَدَّم له في البَقَرَةِ في قوله -تعالى- : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] أن التَّقْليل هنا بِمَعْنَى العدم ، وتقدَّم الردُّ عليه هُنَاك ، فَتَنَبَّهَ لهذا المَعْنَى هُنَا ولم ينتبه له هناك .
العاشر : أن المُخَاطب بقوله : « لاتبعتم » جميعُ النَّاس على العُمُوم ، والمُرَادُ بالقَلِيل : أمةُ محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصةً ، وأيَّد صَاحِبُ هذا القَوْلِ قوله بقوله -عليه السلام- : « ما أنْتُم في سِوَاكُم من الأمَمِ إلاَّ كالرَّقْمَة البَيْضاء في الثَّور الأسود » .
فصل دلالة الآية على حجية القياس
دلت هذه الآية على أنَّ القياس حُجَّة؛ لأن قوله : { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } صفة لأولي الأمْر ، وقد أوْجَبَ الله على الذين يجيئُهُم أمْرَيْن : الأمن ، أو الخوف أن يَرْجَعُوا في مَعْرِفَتِه إليهم ولا يَخْلُو إمَّا أن يَرْجِعُوا إليهم في مَعْرِفَة هذه الوَقَائِع مع حُصُول النَّصِّ فيها أوْ لا ، والأوَّل باطل؛ لأن من استدلَّ بالنَّصِّ في واقِعَةٍ لا يُقَال : إنه استنبط الحكم؛ فثبت أنه - تعالى- أمَر المكَلَّف بِرَدِّ الوَقِعة إلى من يَسْتَنْبِط الحُكْم فيها ، ولَوْلاَ أن الاسْتِنبَاط حُجَّة ، لما أمَر المُكَلَّف بذلك؛ فَثَبَت أن الاستِنْبَاط حُجَّة ، وإذا ثبت ذلك فَنَقُول : دلت الآيَةُ على أمُورٍ :
منها : أن في الأحْكَام ما لا يُعْرَف بالنَّصِّ ، بل بالاستِنْبَاطِ .
ومنها : أنَّ الاستنباط حُجَّة .
ومنها : أن العَامِيِّ يجِب عليه تَقْلِيد العُلَمَاء في أحْكَام الحَوَادِث .
ومنها : أن النَّبِي- عليه الصلاة والسلام- كان مُكَلَّفاً باستِنْبَاط الأحْكَام؛ لأن الله - تعالى- أمَر بالرَّدِّ إلى أولي الأمْرِ ، ثم قال : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ولم يخصّص أولي الأمْر دون الرَّسُول ، وذلك يُوجِب الرَّسُول وأولي الأمْر كلهم مُكَلَّفُون بالاسْتِنْبَاط .
فإن قيل : لا نُسَلَّم أن المراد ب { الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أولي الأمْر ، لكن هذه الآيَة إنَّما نزلت في بَيَان الوَقَائِع المُتَعَلِّقة بالحُرُوب والجِهَاد ، فهَبْ أن الرُّجُوع إلى الاستنبَاط جَائِزٌ فيها ، فَلِمَ قُلْتُم بجوازِه في الوَقَائِع الشَّرْعِيَّة؛ فإن قِيْسَ أحد البَابَيْن على الآخَر ، كان ذَلِك إثْبَاتاً للقِيَاس الشَّرْعِيِّ بالقِياس ، وأنَّه لا يجُوز أن الاسْتِنْبَاط في الأحْكَام الشَّرْعِيَّة داخل تحت الآية فلمَّا قُلْتُم يلزم أن يُكون القِيَاس حُجَّة ، فإنَّه يمكنُ أن يكُون المُرادَ بالاسْتِنْبَاط : استخراج الأحْكَام من النُّصُوص الخَفِيَّة ، أو مِنْ تركيبَات النُّصوصِ ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البَرَاءة ، الأصليَّة ، أو مما ثَبَت بحكم العَقْلِ ، كما يقول الأكَثُرون إن الأصْل في المَنَافِع الإبَاحَة ، وفي المَضَارِّ الحُرْمَة .
سلمنا أنَّ القِيَاس الشَّرْعِي داخلٌ في الآية ، لكن بِشَرْط أن يكون القياسُ مُفِيداً للعِلْم؛ لقوله - تعالى- : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . فاعتبر حُصُول العِلْم من هذا الاستِنْبَاط ، ونِزَاع في مثل هذا القِيَاس ، إنما النِّزاع في القِياس الَّذِي يفيد الظَّنَّ : هل هو حُجَّة في الشرع ، أمْ لا .
والجواب : أمَّا الأوَّل فلا يصح؛ لأنَّه يَصِيرُ التقدير : أو رَدُّوه إلى الرَّسُول وَإلى أولِي الأمْر مِنْهُم لَعَلِمُوه ، وعَطْف المظهر على المُضْمَر ، وهو قوله : « ولو ردوه » قَبِيح مستكره .
وأما الثَّاني فَمَدْفُوع من وَجْهَيْن :
أحدهما : أن قوله : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف } حاصل في كل ما يتعلَّق بباب التَّكْلِيف ، فَلَيْس في الآيَة ما يوجِبُ تَخْصِيصها بأمر الحُرُوبِ .
وثانيها : هَبْ أن الأمْر كما ذكرْتم ، لكن لمَّا ثَبَت تَعَرُّف أحْكَام الحروب بالقِيَاس الشَّرْعِي ، وجب أن يتمسَّك بالقِيَاس الشَّرْعِيِّ في سَائِر لوَقَائِع ، لأنه لا قائل بالفَرْق .
وأما الثَّالث : وهو حَمْل الاستِنْبَاط على اسْتِخْرَاج النُّصُوص الخَفِيَّة أو على تَرْكيبات النُّصوص الخَفِيَّة أو على تَرْكِيبات النُّصُوص ، فكلُّ ذلك لا يُخْرِجُه عن كونه مَنْصُوصاً ، والتَّمَسُّك بالنَّصِّ لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً .
وأما قوله : لا يجوزُ حَملُه على التَّمسُّكِ بالبَرَاءة الأصْلِيَّة .
قلنا : لَيْسَ هذا استِنْبَاطاً ، بل هذا إبقاء لما كان على ما كان ، ومثل هذا لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً .
وأما الرابع : وهو أن هذا الاستِنْبَاط إنَّما يجُوز عند حُصُول العِلْم ، والقياس الشَّرْعِيِّ لا يفيد العِلْم .
فنقول : جوابُه من وجهين :
أحدُهُما : أنَّه عندنا يُفِيدُ العِلْم؛ أن ثُبُوت إن القِيَاسَ حجَّة يقطع بأنَّه مهما غَلَب على الظَّنِّ أنَّ حُكْم الله في الأصْل معلَّل بكذا ، ثمَّ غَلَب على الظَّنِّ أنَّ ذلك المَعْنَى قَائِمٌ في الفَرْع ، فهنا يحصل ظنُّ أنَّ حُكم الله في الفَرْعِ مُسَاوٍ لحُكْمِه في الأصْل ، وعند هذا الظَّنِّ يُقْطَع بأنَّه مكَلَّفٌ بأن يعمل على وَفْق هذا الظَّنِّ؛ فالحاصل : أن الظَّنَّ واقع في طَرِيق الحُكْم ، وأما الحُكْمُ فمقطوع به ، وهو يجري مَجْرَى ما إذا قَالَ الله - تعالى- : مهما غَلَب عَلى ظنِّك كذَا ، فاعلم أنَّ حُكْمِي في الوَاقِعَة كذا ، فإذا غَلَب الظَّنُّ قَطَعْنَا بثُبُوت ذلك الحُكْمِ .
وثانيهما : أن العِلْم قد يُطْلَق ويراد به الظَّنَّ؛ وقال - عليه الصلاة والسلام- : « إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَد » شَرَطَ العِلْمَ في جواز الشَّهَادَةِ ، وأجْمَعْنَا على أنَّ عند الظَّنِّ تُجُوزُ الشَّهَادة؛ فثبت أنَّ الظَّنِّ قد يُسَمَّى بالعِلْمِ .
فصل في رد شبهة للمعتزلة
دلَّت [ هذه ] الآية على أنَّ الذين اتَّبعوا الشَّيْطَان ، قد مَنَعَهُم الله فَضْلَه ورحمته وإلا ما كان يتبع ، وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ قول المُعْتَزِلَة : في أنَّه يجب على الله رعاية الصْلَحِ في الدِّين . أجابُوا : بأن فَضْلَ اللهِ ورَحْمَتَه [ عامَّات في حق الكُلِّ ، لكن المُؤمِنين انْتَفَعُوا به ، والكَافِرِين لم ينْتَفِعُوا به فَصَحَّ عَلَى سبيل المجاز أنه لم يَحْصًل للكَافِرين فَضْل الله ورَحْمَته ] في الدِّين .
والجواب : أن حَمْل الَّفظ على المَجَاز خِلاف الأصْل .
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
قوله- تعالى- : « فقاتل » : في هذه الفَاءِ خَمْسَةُ أوجه :
أحدها : أنَّها عاطفةٌ هذه الجُمْلَة على جُمْلة قوله : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } [ النساء : 74 ] .
الثاني : أنها عاطفتها على جُمْلَةِ قوله : { فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان } [ النساء : 76 ] .
الثالث : أنَّها عاطِفتُها على جُمْلَة قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ } [ النساء : 75 ] .
الرابع : أنها عاطفتها على جملة قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 74 ] .
الخامس : أنها جوابُ شرط مُقَدَّر ، أي : إنْ أرَدْت فقاتل ، وأولُ هذه الأقْوَال هو الأظْهَر .
فصل
لما أمر بالجِهَاد في الآيات المُتقدِّمة ورغب فيه ، وذكر قِلَّة رغبة المُنَافِقِين في الجِهَاد ، عاد [ إلى ] الأمْر بالجِهَاد في هَذِه الآية .
قوله : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } في هذه الجُمْلَة قولان :
أحدهما : أنها في محلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعل « فقاتِلْ » أي : فقاتِلْ غير مُكّلِّفٍ إلا نَفْسُك وحدها .
والثاني : أنها مُسْتأنفة أخْبَرَه- تعالى- أنه لا يكلِّف غَيْرَ نَفْسِه .
والجمهور على « تُكَلَّفُ » بِتَاء الخِطَاب ورفْع الفعل مبنيّاً للمفعُول ، و « نفسك » هو المفعُول الثاني ، وقرأ عبد الله بن عُمَر : « لا تُكَلِّفْ » كالجَمَاعة إلا أنه جزمه ، فقيل : على جَواب الأمْرِ ، وفيه نظرٌ ، والذي يَنْبَغِي أن يكُون نَهْيَاً ، وهي جملة مُسْتأنفة ، ولا يجُوز أن تكون حَالاً في قراءة عبد الله؛ لأنَّ الطَّلَب لا يكون حالاً ، وقرئ « لا نكلف » بنُون العَظَمَة ورفع الفِعْل ، وهو يَحْتَمِل الحال والاستئنَاف المُتقدِّمَيْن .
فصل في سبب نزول الآية
روي أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم واعد أبا سُفيان بعد حَرْب أحد موسم بدر الصُّغْرى في ذِي القَعْدَة ، فلما بلغ المِيعَاد دعَا النَّاس إلى الخُرُوج فكرهه بَعْضُهُم؛ فأنزل الله : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ } أي : لا تَدَع جِهَاد العَدُوِّ ولو ودك ، فإن الله قد وعدك بالنُّصْرة ، و { حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } [ الأنفال : 65 ] أي : حثَّهُم ورغَّبْهم في الثَّواب ، فَخَرَج رسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَبْعِين رَاكِباً فَكَفَاهُم الله القِتَالَ .
والتَّحْرِيض : الحَثُّ على الشيءِ ، قال الرَّاغِب : كأنه في الأصْل إزالةُ الحَرَض ، نحو : « قَذَيْتُه » أي : أزَلْت قَذَّاهُ وأحْرَضْتُه : أفسَدْتُه كأقذيته ، أي : جَعَلْتُ فيه القَذَى ، والحَرَضُ في الأصْل : ما لا يُعْتَدُّ به ولا خَيْر فيه ، ولذلك يقال للمُشْرِف على الهَلاكِ؛ « حَرَض » ؛ قال - تعالى- : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } [ يوسف : 85 ] وأحرصه كذا ، قال : [ البسيط ]
1846- إنِّي امْرؤٌ هَمٌّ فأحْرَضَنِي ... حَتَّى بلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ
فصل
دلَّت الآية على أنَّه لو لم يُساعده على القِتَالِ غيره ، لم يجز له التَّخَلُّفُ عن الجِهَادِ ألْبَتَّة ، والمعنى : لا تؤاخذ [ إلا ] بفعلك دون فِعْل غَيْرِك ، فإذا أدَّيْت فرضك لا تُكَلِّف بِفَرْض غَيْرِك ، واعْلَم : أنَّ الجِهَاد في حَقِّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم واجِبٌ ، فإنه على ثِقَة من النَّصْر والظَّفْرِ؛ لقوله - [ تعالى ] - :
{ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] ، وقوله هَهُنَا : { والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } وعسى من الله : جَزْمٌ وَاجِبٌ فلزمه الجِهَاد وإن كان وحده بِخِلاف أمَّته ، فإنه فَرْضُ كِفَايَة ، فما لَمْ يَغْلِب على الظَّنِّ أنه يُفيد ، لم يَجِبْ .
وقوله : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أي : قِتَال المُشْركين والبَأس أصله المكرُوه ، يقال : ما عَلَيْكَ من هذا الأمْر بَأسٌ ، أي : مَكْرُوه ، ويقال : والعَذَاب قد يُسَمَّى بأساً؛ لكونه مَكْرُوهَاً؛ قال - تعالى- : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } [ غافر : 29 ] ، { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } [ الأنبياء : 12 ] { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84 ]
قوله : { والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } « بأساً و » تنكيلاً « : تمييز ، والتَّنْكِيل تفعيل من النَّكْل وهو القَيْد ، ثم اسْتُعْمِل في كُلِّ عذاب يقال : نَكَلْت فُلاناً؛ إذا عَاقَبْتُه عقوبَةً تَنْكِيل غَيْره عن ارتِكَابِ مِثْله ، من قَوْلِهِم : نَكَل الرَّجُل عن الشَّيءِ ، إذا جَبُن عَنْه وامْتَنَع منه؛ يُقَال : نَكَلَ فلان عن اليَمين؛ إذا خَافَه ولم يُقْدِم عَلَيْه ، قال - تعالى- : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } [ البقرة : 66 ] وقال في حَدِّ السَّرقَة : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] ، فقوله : { والله أَشَدُّ بَأْساً } أي : أشد صَوْلَةً وأعظم سُلْطَاناً ، يَدُوم ، وعذاب الله لا يَقْدِر أحدٌ على التَّخَلُّص مِنْهُ ، وعذاب غَيْره يتخلَّص مِنْه .
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه :
أحدها : أنه - تعالى- لمَّا أمَر الرَّسُول - [ عليه الصلاة والسلام ] - بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية أنَّ من يَشْفَع شَفَاعَة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا ، والغَرَض مِنْه : أنه - عليه الصلاة والسلام- يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً .
وثانيها : أنه - عليه الصلاة والسلام- كان يوصِيهم بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة .
وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمِنين راغباً في الجِهَاد ، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد ، فصار غَيْرُهُ من المُؤمِنين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر؛ ليعيِنه على الجِهَاد ، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ ، بيَّن في هذه الآية انَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْها ، والغَرَض مِنْه : أنه -عليه الصلاة والسلام- يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً .
وثانيها : أنه -عليه الصلاة والسلام- كان يوصِيهم بالقِتَال ، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه ، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبِي صلى الله عليه وسلم في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ ، فنهى [ الله ] عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة ، وبيَّن أن [ هَذِه ] الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ ، كانت مُحَرَّمَة .
وثالِثُها : أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد ، والشَّفَاعَة مأخُوذَةٌ من الشَّفْع وهو الزَّوْج من العَدَد ، ومنه الشَّفِيع ، [ وهو ] أن يَصِير الإنْسَان [ نفسه ] شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا ، [ ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ : إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ ، وناقة شَفِيعٌ : إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها ، والشُّفْعَةُ : ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك ، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك ، فهي على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشْفِّع ، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له ] فيكون المُرَادُ : تَحْرِيض النَّبِيِّ -عليه الصلاة والسلام- إيَّاهم على الجِهَاد؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو ، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة .
وقي : المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ -عليه الصلاة والسلام- في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف .
ونقل الوَاحِديُّ عن ابن عبَّاس؛ ما معناه : أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا ، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار ، والشفاعة السَّيِّئَة : أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار ، وقيل : الشَّفَاعة الحَسَنَة : ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [ عند مُؤمِنٍ ] آخَرِ؛ في أن يُحَصَّلَ له آلات الجِهَاد ، ورُوي عن ابن عبَّاس؛ أن الشفاعة الحَسَنة [ هي الإصلاح بين النَّاس ، والشَّفَاعة السَّيِّئة ، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ .
وقيل ] : هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير ، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ .
والمراد بالكفل : الوِزْر .
قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ : المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض ، فإن كان في ما يَجُوز ، فهو شَفَاعة حَسَنَة ، وإن كان فِيمَا لا يجُوز ، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة .
قال ابن الخَطيب : هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد ، وإلاَّ صَارَت الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا ، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ .
« والكفل » : النَّصِيب ، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثرن عكس النصيب ، وأنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ ، قال تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] وأصلُه قالوا : مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير ، وهو كساء يُدَارُ حَوْلَ سِنَامِهِ ليُرْكَبَ ، سُمِّي بِذَلِك؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه ، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ ، واستعمال النَّصِيب في الخير ، غاير بَيْنَهُمَا في هذه الآيَة الكَريمة؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة ، والنَّصِيب مع الحَسَنة ، و « منها » الظَّاهِر أن « مِنْ » هنا سَببيَّة ، أي : كِفْلٌ بِسَبِبها [ ونَصِيب بسبِبها ] ، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ ، والمُقِيت : المُقْتَدَر [ قال : ابن عباس : مقتدراً مجازياً ] ، قال : [ الوافر ]
1847- وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتًا
أي : مقتدراًن ومنه : [ الخفيف ]
1848- لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ
ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو ... سِبْتُ « أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
وأنشد نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ : [ الطويل ]
1849- تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ ... فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ
قال النَّحَّاس : » هو مُشْتَقٌ من القُوتِ ، وهو مِقْدَارُ ما يَحْفَظ به بَدَنُ الإنْسَانِ من الهَلاَك « فأصل مُقيت : مُقْوِت كَمُقِيم .
[ و ] يقال : قُتُّ الرَّجُلَ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ » وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت « وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا ، أي : مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه من عِيَالٍ وغيره؛ ذكره ابن عَطِيَّة : يقول : [ منه : قُتُّهُ ] أقوته قُوتاً ، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً ، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ .
وأمَّا قول الشَّاعِرِ : [ الخفيف ]
1850- ... ... ... ... ... ... .... إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
فقال الطَّبَرِي : إنه من غَيْر هَذا [ المعنى المتقدِّم ، فإنه بمَعْنَى الموقوفِ ، ] فأصْل مُقِيت : مُقْوِت كمُقِيم .
وقال مُجَاهِدٌ : معنى مُقِيتاً : شاهداً وقال قتادة : حَفِيظاً ، وقيل معناه : على كل حيوان مُقِيتاً ، أي : يُوصِل القُوت إلَيْه .
قال القَفَّال : وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ ، وهو أنه - تعالى- قادر على إيصَال النَّصِيب والكفيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع ، إن خيراُ فَخَيْرٌ ، وإن شَرَّاً فَشَرٌّ ، ولا ينتَقِص بسبَب ما يَصِل إلى الشَّافِع [ شيء ] من جَزاء المَشْفُوع ، وعلى الوَجْه الآخر : أنَّه تعالى- حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها ، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا ، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [ أو في ] بَاطِل ، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه .
وقوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } وَلَمْ يقتيه بوقتٍ ، والحالُ يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة .
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
في النَّظْم وجْهَان :
أحدهما : أنَّه لما أمَرَ المُؤمِنِين بالجهاد ، أمَرَهُمْ أيضاً بأن الأعْدَاء لو رَضُوا بالمُسَالَمَةِ فكونوا أنْتُم [ أيضاً ] رَاضِين بها ، فقوله : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } كقوله- تعالى- : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] .
والثَّانِي : أن الرَّجُل [ في الجِهَاد ] كان يلْقَّاهُ الرَّجُل في دَارِ الحَرْبِ أو ما يُقارِبُها ، فَيُسَّلمُ عليه لا يَلْتَفِتُ إلى سلامِهِ [ ويقتله ] ، وربَّمَا ظَهَرض أنَّهُ كان مُسْلِماً ، فأمرهم بأن يُسَلِّم عليهم أو يُكْرِمهم ، فإنهم يقابلونه بمثل ذَلِكَ الإكْرَام أو أزْيَد ، فإن كان كَافِراً ، لم يَضُرَّ المسلم مُقَابَلَة إكْرَام ذلك الكَافِر بنوع من الإكْرَام ، وإن كان مسلماً فَقَتَلَه ، ففيهِ أعْظَم المَضَارِّ والمفَاسِدِ ، ويقال : التحية [ في الأصْلِ ] : البَقَاءِ والمِلْكُ .
قال القُرْطُبِي : قال عبد الله بن صالح العِجْليّ : سألت الكسَائِيُّ عن قوله : « التحيات لله » ما مَعْنَاهَا؟ فقال : التَّحِيَّاتُ مثل البَرَكَاتِ ، قلت : ما معنى « البركات » ؟ فقالك ما سَمِعْت فيها شيئاً ، وسألْت عنها مُحَمَّد بن الحسن [ فقال ] : هو شَيْءٌ تعبدّ الله به عبادَهُ ، فقدِمْتُ الكُوفَة فلقيت عَبْدَ الله بن إدْرِيس : إنه لا عِلْم لهما بالشَّعْرِ وبهذه الأشْيَاءِ ، التَّحِيَّة : المُلك وأنْشَدَهُ : [ الوافر ]
1851- أؤمُّ بِهَا أيَا قَابُوسَ حَتى ... أُنِيحَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بجنْدِي
وقال آخَرَ : [ مجزوء الكامل ]
1852- وَلِكُلِ مَا نَالَ الفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلاَّ التَّحِيّيهْ
ويقال : التَّحِيَّة : البَقَاء والملك ، ومنه : « التحيات لله » ، ثم استُعملت في السلام مَجَازاً ، ووزنها ، تَفْعِلَ من حَيَّيْت ، وكان في الأصْل : تحيية؛ مثل « : تَوْصية وتَسْمِيَة ، والعرب تؤثر التَّفْعِلة على التَّفْعيلِ [ فيٍ ذَوَاتِ الأرْبَع؛ نحو قوله : { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } [ الواقعة : 94 ] .
والأصل : تَحْيِيَة فأدغمت ، وهذا الإدغَامُ واجبٌ خِلافاً للمَازِني ، وأصْل الأصْل تَحْيِيُّ؛ لأنه مَصْدَر حَيّا ، وحَيّا : فَعَّل مَصْدره على التَّفْعِيل ، إلا أن يَكُون مُعْتَلَّ اللامِ؛ نحو : زكَّى وغَطَّى ، فإنه تحذف إحْدَى اليَاءَيْن ويعوَّض منها تَاء التَّأنيثِ؛ فيقال : تَزْكِيه وتغْطِيَة ، إلا ما شَذَّ من قوله : [ الرجز ]
1853- بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيًّا ... كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا
إلا أن هذا الشُّذُوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو : » حَيّا « لاعتلالِ عَيْنه ولامه باليَاءِ ، وألحق بعضُهم ما لامُه هَمْزَةٌ بالمُعْتَلِّها ، نحو : » نَبّأ تَنْبئةً « و » خَبَّأ تَخْبِئَةً « ؛ ومثلها : أعيِيَة وأعيَّةٌ ، جمع عَيِيّ .
وقال الرَّاغِب : وأصلُ التَّحِيَّة من الحياة ، ثم جُعِلَ كلُّ دُعَاءٍ تحيَّة؛ لكون جميعه غير خَارجٍ عن حُصُولِ الحياة أو سَبَبِ الحَيَاةِ ، وأصل التحية أن تَقُول : » حياك الله « ثم اسْتُعْمِل في الشَّرْعِ في دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ .
وجعل التحيَّة اسْماً للسَّلام؛ قال : -تعالى- : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، ومنه قول المُصَلِّي : » التحيات لله « أي : السَّلامة من الآفاتِ لله . قال [ الكامل ]
1854أ- حُيِّيت مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقال آخر : [ البسيط ]
1854ب- إنَّا مُحَيُّوك يا سَلْمَى فَحيِّينَا ... ... ... ... .. ... .
فصل في أفضلية « السلام عليكم »
واعلمْ أن قول القائِل لغيْره : السَّلام عليك ، أتم من قوله : « حَيَّاك الله؛ لأن الحَيَّ إذا كان حليماً كان حَيَّا لا محالة ، وليس إذا كان حَيَّا كان سَلِيماً؛ لأنَّه قد تكون حَيَاتُه مقرونَة بالآفاتِ ، وأيضاً فإن السلام اسم من أسْمَاء الله -تعالى- ، فالابْتِدَاء بِذِكْر الله -تعالى- أجْمَل من قوله : حيَّاك الله ، وأيضاً : فَقَوْل الإنْسَان لغيره : السلام عَلَيْكَ ، بشارة لَهُ بالسَّلام ، وقوله حيَّاك الله لا يُفِيد ذَلِكَ ، قالوا : ومَعنى قوله : السلام عليك ، أي : أنْت سَلِيمٌ مِنِّي فاجعلني سَلِيماً مِنْك ، ولهذا كَانَت العَرَبُ إيضا أسَاء بعضهم لم يَردُّوا السلام ، فإن ردُّوا عليهم السلام ، أمِنُوا من شرِّهم ، وإن لم يَرُدُّوا عليهم السلام ، لم يؤمنوا شَرَّهُم .
فصل في الوجوه الدَّالة على أفضلية السّلاَم
ومما يدل على أفْضَلِيَّة السلام : أنَّه من أسْمَاء الله -تعالى ، وقوله - [ تعالى ] - { يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا } [ هود : 48 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ هِيَ } [ القدر : 5 ] ، وقوله : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] ، وقوله : { قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ } [ النمل : 59 ] وقوله : { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ، وقوله : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملاائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] ، وقوله : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 90 ، 91 ] ، [ وقوله ] : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الزمر : 73 ] ، وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] وقوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] .
وأمَّا الأخْبَار : فرُوِي أن عبد الله بن سلام قال : » لمَّا سَمِعْت بقدوم الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ، دخَلْتُ في غِمَار النَّاسِ ، فأوَّل ما سَمِعْتُ مِنْهُ : « يا أيها الذين آمنوا ، أفْشُوا السَّلاَمَ وأطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاس نِيَامٌ تدخلون الجنة بسلام » .
وأما المَعْقُول : قال القتبي : إنما قال : « التحيات » على الجَمْعِ؛ لأنَّه كان في الأرْضِ ملوك يُحَيُّون بِتَحيِّاتٍ مختَلِفَات ، [ فيقال ] لبعضهم : أبيْت اللَّعْنَ ، ولبعضهم : اسْلَم وانْعَم ، ولبعضهم : عِش ألْفَ سَنَةٍ ، فقيل لَنَا : قولوا : التَّحِيَّات لله ، أي : الألْفَاظ الَّتِي [ تدلُّ ] على امُلْك ، ويكْنَى بها عن الله -تعالى- :
قالوا : تحية النَّصِارى وَضْع اليَدِ على الفَمِ ، وتَحِيّةُ اليهود بعضهم لبعض : الإشارَةُ بالأصَابع ، وتحيةُ المجُوس : الانْحِنَاء ، وتحيَّةُ العرب بعضهم لِبَعْض قَوْلهم حَيَّاك الله ، وللمُلوك أن يَقُولوا : انْعَمْ صَبَاحاً ، وتحيَّةُ المُسْلِمين أن يقولوا : السلام عَلَيْكُم ورَحْمَة الله وبركاته؛ وهذه أشرف التَّحِيَّاتِ ، ولأن السَّلام مشعِرٌ بالسَّلامة من الآفَاتِ ، والسَّعْيُ في تَحْصِيل الصَّون عن الضَّرر أوْلى من السَّعْي في تَحْصِيل النَّفْع .
وأيضاً فإن الوَعْد بالنَّفْع قد يقدر الإنْسَان على الوَفَاءِ به وقَدْ لا يَقْدِر ، وأما الوَعْد بترْك الضَّرَر ، فإنه يكون قَادِراً عليه لا مَحَالة ، والسَّلام يدلُّ عليْهِ .
فصل
من الناس من قال : السلامُ واجبٌ؛ كقوله -تعالى- : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ [ على أَنفُسِكُمْ } ] [ النور : 61 ] ، ولقوله -عليه السلام- :
« أفْشُوا السلام » والأمر للوُجُوب والمَشْهُور أنه سُنَّة . قال بعضهم : السلام سُنَّة على الكِفَايَة .
قوله : « فحيوا » أصل حيُّوا : حَييوا فاستثقلت الضَّمَّةُ على اليَاءِ ، فحُذِفَت الضَّمةُ فالتقى ساكنان : الياءُ والواو ، فحُذِفَتْ اليَاءُ ، وضُمَّ ما قبل الوَاوَ .
وقوله : { بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } أي : بتحيَّةٍ أحْسَن من تِلْك التَّحِيَّة الأوْلَى .
وقوله : { أَوْ رُدُّوهَآ } أي رُدُّوا مِثْلَها؛ لأن رَدَّ عينها مُحالٌ فَحذفَ المُضَافُ ، نحو : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
فصل في كيفية السلام
مُنْتَهى الأمْر في السَّلام أن يُقَال : السَّلام عليْكُم ورَحْمَة الله وبركاته؛ بدليل أن هَذَا القَدْر هو الوَارِدُ في التَّشَهُّد .
قال العلماء : الأحْسَن أن المُسْلِم إذا قَال : السلام علَيك ، رَدَّ في جوابه بالرَّحْمَة ، وإذا ذكر السلام والرَّحْمة في الابْتِدَاءِ ، زِيدَ في جَوابِه البَرَكَة وإذا ذكر الثلاثة في الابتداء ، أعادها في الجَوَاب .
رُوي : « أن رَجُلاً قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم السلام عليك يا رسُول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : وعَلَيك السلام ورحْمَة الله وبركاته ، وجاء ثَالثٌ وقال : السَّلام عليك وَرحْمَة الله وبركَاتُه : فقال -عليه الصلاة والسلام- : » وعَلَيْك السلام ورَحْمَة الله وبَرَكَاتُه « فقال الرَّجل : نقصتني فأين قول الله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } فقال : عليه الصلاة والسلام- : » ما تَرَكْتَ لِي فَضْلاً فَرَدَدْنَا عَلَيْكَ مَا ذَكَرْت « .
وقيل : معنى قوله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } إذا كان الذي يُسَلِّم مُسْلِماً ، » أو ردوها « رُدُّوا مثلها إذا كان غَيْر مُسْلِمٍ .
فصل
يقول المُبْتَدِئ : السلام عليكم ، والمجيب يَقُول : وعليْكُم السلام ، وإن شاء المُبْتَدِئُ قال : سلامٌ عَلَيْكم؛ لأن التَّعْرِيف والتَّنْكير ورد في ألفاظِ القْرآن كما تَقَدَّم ، لكن التَّنْكِير أكْثَر والكل جَائِزٌ ، وأما في التَّحْليل من الصَّلاة ، فلا بُدَّ من الألف واللامِ بالاتِّفَاقِ .
فصل
قال -عليه الصلاة والسلام- : » السُّنَّة أن يُسلِّم الرَّاكِب على المَاشي ، وراكب الفَرَسِ على رَاكِب الحِمَارِ ، والصَّغير على الكَبِير ، والٌلُّ على الأكْثَر ، والقَائِم على القَاعِد « والسُّنَّةُ الجَهْر بالسَّلام؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام- : » أفْشُوا السَّلام « قال أبو يوسف : من قال لأخَرٍ : أقْرئ فلاناً مِنِّي السلام وَجَب عليه أنْ يَفْعَل .
فصل
السُّنة : إذا اسْتَقْبلك رَجَلٌ واحد فقل : سلامٌ عليْكُم ، واقْصِد الرَّجُل والملكَيْن؛ فإنهما يَرُدَّان السلام عليك ، ومن سَلَّم عليه المَلَكُ فقد سَلِمَ من عَذَابِ الله -تعالى- ، وإذا دَخَلت بَيْتاً خَالِياً ، فَسَلَّم على من فيه من مُؤْمِني الجِنِّ ، والسُّنَّة أن يَكون المُبْتَدِئ بالسَّلام على طَهَارَةٍ وكذلك المُجِيبُ .
روي أن رجلاً سلَّم على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو على قَضَاء الحَاجَةِ ، فقام وتَيَمَّمَ ثم رَدَّ السلام ، والسُّنَّةُ إذا الْتَقَى الرَّجُلاَن المبادرة بالسَّلام .
فصل : المواضع التي لا يُسلَّم فيها
فأما المواضع التي لا يسَلَّم فيها ثمانيةٌ :
الأوَّل : قال -عليه الصلاة والسلام- : » لا تبدَءُوا اليَهُود بالسَّلام « ، ورخَّصَ بَعْضَ العُلَمَاءِ في ذلك إذا دَعَت إليه حَاجَة ، وأما إذا سَلَّمُوا علينا ، فقال أكْثَر العُلَمَاءِ : ينبغي أن يُقَال : وعليْكَ؛ لأنَّهم كانوا يَقُولون عِنْد الدُّخُولِ على الرسول -عليه الصلاة والسلام- السَّامُ عَلَيْك ، فكان -عليه السلام- يَقُول : وعَلَيْكُم ، فجرت السُّنَّةُ بذلك ، فإذا قُلْنَا : وعليْكُم السَّلام ، فهل يجوز ذِكْر الرَّحْمَة؟ قال الحَسَن : يجُوز أن يُقال للكافِرِ : وعَلَيْكُم السلامَ ، ولكن لا يُقَال : ورَحْمَة اللهِ؛ لأنها اسْتِغْفَارٌ .
وعن الشَّعبيّ؛ أنه قال لِنَصْرانيّ وعليْك السَّلام ورَحمة الله ، فقيل له فيه ، فقال : ألَيْس في رَحْمَة الله [ يَعِيشُ ] .
الثاني : إذا دَخَل الحَمَّام [ فرأى ] النَّاس متَّزرين يُسَلِّم عليهم ، وإن لم يكُونُوا متَّزرين ، لم يُسَلِّم عليهم .
الرابع : ترك السَّلام على القَارِئ؛ لأنه يقطع عليه التِّلاوة؛ وكذلك روايَة الحَدِيث .
الخَامِس : لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بالأذَان والإقَامَةِ .
السادس : لا يسَلَّم [ على ] لاعب النَّرْدِ ، ولا المغَنِّي ، ولا مُطَيِّر الحَمَامِ ، ولا المستغل بِمَعْصِيَة اللهِ .
السَّابِع : لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بقضاء الحَاجَةِ؛ لما تقدَّم من الحَدِيث ، وقال في آخِرِه : « لَولاَ أنِّي خَشِيتُ أنْ يَقُول : سلَّمْت علَيْه فَلَمْ يَرُدَّ الجَوَاب ، وإلا لَمَا أجِبْتُك ، إذا رَأيْتَنِي على هذه الحَالَةِ ، فلا تُسَلِّم ، فإنك إن سلَّمْت لم أرُدَّ عَلَيْك » .
الثَّامن : إذا دخل الرَّجُل بَيْتَه فَيُسَلِّم على امْرأته ، وإن حَضَرت أجْنَبِيَّة ، [ لم ] يسلم عَلَيْهِمَا .
قال القرطبي : ولا يُسَلِّم على النِّسَاء الشَّابات الأجَانِب؛ خوف الفِتْنَة من مُكَالَمَتِهِن بنزعة شَيْطَانٍ أو خائنة عَيْنٍ ، وأما المَحَارِمُ والعجائز فَحَسَنٌ .
فصل
والرَّدُّ فرض كِفَايَة؛ إذا قام به البَعْض سَقَطَ عن البَاقِين ، والأوْلى للكُلِّ أن يحيُّوا؛ إذ الرد وَاجِبٌ [ على الفَوْر ] فإن أخَّر حتى انْقَضى الوَقْت ، وأجابه بعد فَوْت [ الوقت ] ، كان ابْتِداء سَلاَمٍ ولا جَوَاباً ، وإذا وَرَد السلام في كِتَاب ، فجوابه وَاجِبٌ بالكِتَاب أيْضاً للآية ، وإذا سَلَّمت المَرْأة الأجْنَبيَّة عَلَيْه ، وكان في رد الجَوَابِ عليها تُهْمَةٌ أو فِتْنَةٌ ، لم يجب الردّ ، بل الأوْلَى إلا يفعل وحيث قُلْنَا : لا يُسَلِّم ، فلو سَلَّم لم يجب الرَّدُّ؛ لأنه أتَى بِفِعْل منهِيٍّ عَنْه ، فكان وجوده كَعَدَمِه .
قوله : { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً }
قيل : الحِسيب بمعنى المُحَاسِبِ على العَمَل؛ كالأكيل والشَّرِيب والجَليسِ ، بمعنى : المؤاكِل والمُشَارِب والمُجَالِس ، أي : على كل شَيْءٍ من ردِّ السلام بِمِثلِه وبأحْسن مِنْهُ ، « حسيباً » : أي : مُحَاسِباً ومُجَازِياً ، وقيل : بمعنى الكَافِي من قَوْلهم : حَسْبي كَذَا ، أي : كافياً ، قاله أبُو عُبَيْدَة؛ ومنه قوله تعالى : { حَسْبِيَ الله } [ التوبة : 129 ] ، وقال مُجَاهِد : حَفِيظاً .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
وجه النَّظْمِ أنه -تعالى- يقول : من سَلَّم عليْكُم وحيَّاكم ، فاقبلوا سَلامَهُ وأكْرِمُوه وعامِلُوه بناءً على الظَّاهِر ، وأما البَوَاطِن فلا يعْلَمُها إلا اللهُ الذي لا إله إلا هُو ، وإنما تَنْكَشِفُ بواطن الخَلْقِ في يَوْم القِيَامَة . قوله : « ليجمعنكم » جواب قَسَم مَحْذُوف .
[ قال القُرْطُبِيُّ : اللامُ في قوله : « ليجمعنكم » ] لام قَسَم ، نزلت في الَّذِين شَكُّوا في البَعْثِ ، فأقْسَمَ الله -تعالى- بنفسه ، وكلُّ لامٍ بعدها نُونٌ مشَدَّدَةٌ فهي لامُ القَسَم وفي جملةِ هذا القَسَمِ مع جوابه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنها قي مَحَل رفعٍ خَبَراً ثانياً لقوله : « الله » ، و « لا إله إلا هو » : جُمْلَةُ خَبَر أوّل .
والثاني : أنها خَبَر لقوله : « الله » أيضاً ، و « لا إله إلا هو » : جملة اعتراضٍ بين المُبْتَدأ وخبره .
والثالث : أنها مُسْتَأنَفةٍ لا محلَّ لها من الإعْرَاب ، وقد تقدم إعْرَاب { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } [ البقرة : 255 ] و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ البقرة : 2 ] في البقرة .
قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدُها : أنها على بابها من انتهَاءِ الغَايَة ، قال أبو حيان : ويكونُ الجَمْع في القُبُور ، أو تُضمِّن « ليجمعنكم » معنى « ليحشركم » فيُتَعَدَّى ب « إلى » ، يعني : أنه إذا ضُمِّن الجَمْعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مَجْمُوع فيه .
وقال أبو البقاءِ -بعد أن جوَّز فيها أن تكون بمَعْنَى « في » - : « وقيل : هي على بابها ، أي : ليجمعَنَّكم في القُبُور؛ فعلى هذا يَجُوز أن يكُون مَفْعُولاً به ، ويجُوز أن يكون حَالاً ، أي : ليجمَعَنَّكم مُفْضين إلى حِسَاب يوم القيامة » يريد بقوله « مفعولاً به » : أنه فَضْلَةٌ كَسَائِر الفضلات ، نحو : « سرتُ إلى الكُوفَةِ » ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأنْ يُضَمَّنَ الجمعُ مَعْنَى الحَشْرِ كما تقدَّم ، وأمَّا تقديره الحَالَ ب « مفضين » فغيرُ جَائزٍ؛ لأنَّه كونٌ مقيَّدٌ .
والثاني : أنَّها بمعنى « فِي » أي : في يوم القِيَامَةِ ، ونظيره قولُ النَّابغة : [ الطويل ]
1885- فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأنَّنِي ... إلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القَارُ أجْرَبُ
أي : في النَّاسِ .
والثالث : أنها بِمَعْنَى « مَعَ » ، وهذا غيرُ وَاضِح المَعْنَى .
قال القُرْطِبي : وقيل : « إلى » وصلة في الكلام ، والمَعْنَى : « ليجمعنكم » يوم القيامة والقيامة بمعنى القِيام كالطَّلابة والطِّلاب؛ قالوا : ودخلت التاءُ فيه للمُبَالَغَة ، كعلاَّمة ونَسَّابَة؛ لِشِدَّةِ ما يَقَعُ فيه من الهَوْل ، وسُمِّي بذلك لقيام الناس فيه للحساب؛ قال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } [ المطففين : 6 ] .
وقال الزَّجَّاج : يجُوز أن يُقال : سمِّيت القِيَامَة قِيَامة؛ لقيام الناس من قبورهم؛ قال -تعالى- : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } [ المعارج : 43 ] .
والجُمْلَة من قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } فيها وجهان :
أحدهما : أنّضها في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدرٍ مَحْذُوف دَلَّ عليه « ليجمعنكم » أي : جمعاً لا رَيْبَ فيه ، والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ ، « ومن أصدق » ، تقدَّم نظيرُ هذه الجُمْلَة ، و « حديثاً » نصبٌ على التَّمييز .
وقرأ الحُمْهُور : « أصدق » بصاد خَالِصَة ، وحمزة والكسائي : بإشمامها زاياً ، وهكذا كلُّ صَادٍ ساكِنَةٍ بعدها دالٌ ، نحو : « تصدقون » و « تصدية » ، وهذا كما فعل حَمْزَة في { الصراط } [ الفاتحة : 6 ] و { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] ، للمجانسة قصد الخِفَّةِ .
فصل
قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } أي : قولاً ووَعْداً ، وهذا اسْتِفْهَام على سبيل الإنْكَار ، والنَقْصُود منه : وجُوب كَوْنه -تعالى- صادقاً ، وأن الكَذِب والخُلْفَ في قوله مُحَالٌ .
قال ابن الخَطِيب : ظاهر الآيةِ يدُلُّ على أنَّه -تعالى- أثْبَت أن القِيَامة ستُوجَد لا مَحَالَة ، وجعل الدَّلِيل على ذلك مُجَرَّد إخْبَار الله -تعالى- عنه ، وهذا حَقٌّ؛ لأن المَسَائل الأصُولِيَّة على قِسْمَين : منها ما العلم بِصِحَّة النبُوَّة يَحْتَاج إلى العِلْم بِصِحَّتِه ، ومنها ما لا يكُون كَذَلِك .
فالأوَّل : مثل عِلْمَنا بافتقار العَالِم إلى صَانِعِ عالم بالمَعْلُومَات قادرٍ على كل الممُكِنَات ، فإنَّا ما لم نَعْلَم ذلك ، لا يمكننا العِلْمُ بصدقِ الأنْبِيَاء ، فكل مَسْألة ، هذا شَأنُها ، فإنه يَمْتَنِعُ إثباتُها بالقُرْآن وإخْبار الأنْبِيَاءِ -عليهم الصلاة والسلام- وإلا وقع الدَّوْر .
وأما القسم الثَّاني : وهو جملة المَسَائِل التي لا يَتَوَقَّف العِلْم بِصَحَّة النُّبُوَّة على العِلْم بصحَّتِها ، فكل ذلك مِمَّا يمكن إثْبَاتُه بالقُرْآنِ وبكلام الله -تعالى- ، فثبت أن الاستدلالَ على قِيَامِ القِيَامَةِ بإخْبَار الله -تعالى- عنه اسْتِدلال صَحِيحٌ . انتهى .
فصل
استدلت المُعْتَزِلَة بهذه الآية على أنَّ كلام الله -تعالى- مُحْدَثٌ ، قالوا : لأنَّهُ تعالى وَصَفَهُ بكونه حَدِيثاً في هذه الآيَةِ وفي قَوْله -تعالى- : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً } [ الزمر : 23 ] ، والحديث : هو الحَادِثُ والمُحْدِث .
والجواب : أنكم تَحْكُمُون بحدُوثِ الكلام الذي هو الحَرْف والصَّوْت ، ونحن لا نُنَازعُ في حُدُوثِهِ ، إنما [ الَّذِي ] نَدَّعِي قدمه شَيْء آخَر غير هذه الحُرُوف والأصْوَات ، والآيَةُ لا تدل على حُدُوث ذلك الشَّيْء ألْبَتَّةَ بالاتِّفَاقِ منَّا ومنْكُم؛ أمَّا مِنَّا : فظاهِر ، وأما منكم : فإنَّكُم تَنْكِرُون وُجُود كلامٍ سوى هذه الحُرُوف والأصْوات ، فكَيْف يُمْكِنكُم أن تَقُولوا بدلالة هذه الآية على حُدُوثه .
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
قوله -تعالى- : « فما لكم » : مبتدأ وخَبَر ، و « في المنافقين » فيه ثلاثة أوجُه :
أحدها : انه متعلِّقٌ بما تعلَّق الخَبَرُ ، وهو « لكم » ، أي : أيُّ شَيْءٍ كائنٌ لكم -أو مُسْتَقِرٌّ لكم- في أمْر المُنَافِقِين .
والثاني : أنه مُتَعَلِّق بمعنى فئتين ، فإنَّه في قُوَّة « مال كم تفترقون في أمور المنافقين » فحُذِف المُضافُ ، وأُقيم المُضَافُ إليه مقامه .
والثالث : أنه مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من « فئتين » ؛ لأنه في الأصْل صفةٌ لها ، تقديرُه : فئتين مُفْترِقَتَيْن في المُنَافِقِين ، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها ، انتصبَتْ حَالاً .
وفي « فئتين » وجْهَان :
أحدُهما : أنها حالٌ من الكافِ والميم في « لَكُم » ، والعَامِلُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به « لَكُم » ؛ ومثله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] وقد تقدَّم أنَّ هذه الحَالُ لازمةٌ؛ لأن الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها ، وهذا مذهبُ البَصْرِيَِّين في كل ما جَاءَ من هذا التَّرْكِيب .
والثاني -وهو مذهب الكوفيين- : أنه نَصْبٌ على خَبَر « كان » مُضْمَرةً ، والتقدير : ما لَكُم في المُنَافِقِين كنتم فئتين ، وأجَازوا : « ما لك الشاتم » أي : ما لك كُنْتَ الشَّاتِمَ ، والبَصْرِيُّون لا يُجِيزُون ذلك؛ لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف ، ويدلُّ على كَوْنِهِ حالاً التزامُ مَجِيئه في هذا التَّركِيب نَكِرةً ، وهذا كما قالُوا في « ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً » : إنَّ « قائماً » لا يجُوز نصبُه على خَبَر « كان » المُقَدَّرةِ ، بل على الحَالِ؛ لالتزامِ تَنْكيره . وقد تقدَّم اشتِقَاقُ « الفِئَة » في البقرة .
فصل
قال قوم : نَزَلت في الذين تخَلَّفُوا يَوْمَ أحُد من المُنَافِقِين ، وقالوا : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } [ آل عمران : 167 ] . فاختلف أصْحَاب الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- : فقالَتْ مَنْهُم فرقة : كَفَرُوا ، وآخَرُون قالوا : لَمْ يَكْفُرُوا ، فنزلت الآية؛ وهو قول زَيْد بْنِ ثَابِت وطُعِن في هذا الوَجْهِ : بأن في نَسَقِ الآية ما يَقْدَحُ فيه وأنَّهم من أهْل مكَّة؛ وهو قوله : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ } .
وقال مُجَاهِد : هم قَوْم خَرَجُوا إلى المَدِينَة ، وأسْلَمُوا ثم ارْتَدُّوا ، واسْتَأذَنُوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَكَّة؛ ليأتوا بِبِضَائِع لَهُم يتَّجِرُون فيها ، فَخَرَجُوا وأقَامُوا بمكَّة ، فاختلف المسلمون فيهم : فقائل يَقُول : هم مُنَافِقُون ، وقائل يَقُول : هُمْ مُؤْمِنُون .
وقيل : نزلت في نَاسٍ من قُرَيْش قَدِمُوا المَدِينَةَ ، وأسْلَمُوا ثم نَدِمُوا على ذلك ، فَخَرَجُوا كهيئة المُتَنَزِّهِين حتى بَعُدوا عن المدينة ، فكتَبُوا إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم : إنَّا عَلَى الَّذِي وافقْنَاك عليه من الإيمَانِ ، ولَكِنَّا اجتوينا المدينة واشْتَقْنَا إلى أرْضِنا ، ثم إنَّهُم خرجوا في تجارةٍ لَهُم نحو الشَّامِ فَبَلَغَ ذَلِك المُسْلِمِين ، فقال بَعْضُهم : نخرج إليْهم فنقتلهم ونأخذ ما مَعَهُم؛ لأنَّهم رَغِبُوا عن دِيننَا ، وقالت طَائِفة : كيف تَقْتُلون قوماً على دينكُم إن لَمْ يَذَرُوا دِيَارَهم ، وكان هَذَا بِعَيْن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهو سَاكِتٌ لا يَنْهَى واحداً من الفَرِيقَيْن؛ فنزلت الآية .
وقيل : هم العرنيون : وقال ابْن زَيْد : نزلت في أهل الإفكِ ، وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة : هم قَوْمٌ أسْلَمُوا بمكَّة ثم لم يُهَاجِرُوا وكانُوا يُظَاهِرُون المُشْرِكين ، فاختلف المُسْلِمُون فيهم وتشاجروا ، فنزلت : « فما بالكم » يا معشر المؤمنين { فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } أي : صرتم فيهم فئتين ، { والله أَرْكَسَهُمْ } أي : نكَّسَهُم ورَدَّهم إلى الكُفْرِ وأحْكَامه من الذُّلِّ والصِّغَار والسَّبْي والقَتْل .
قال الحسن : وإنما سَمَّاهم مُنَافِقِين وإن أظْهَرُوا الكُفْر؛ لأنهم وُصِفُوا بالصِّفَةِ التي كَانُوا عَلَيْهَا من قَبْل .
قوله : { والله أَرْكَسَهُمْ } مبتدأ وخبر ، وفيها وجهان :
أظهرهما : أنها حالٌ ، إمَّا من المُنَافِقِين -وهو الظَّاهِرُ- ، وإمَّا من المُخَاطبين ، والرابطُ الواوُ ، كأنه أنكرَ عليهم اختلافهم في هؤلاء ، والحالُ أنَّ الله قد ردَّهم إلى الكُفْر .
والثاني : أنها مُسْتَأنفةٌ أخبر -تعالى- عنهم بذلك . و « بما كسبوا » مُتَعَلِّقٌ ب « أركسهم » والبَاءُ سَبَبِيَّة ، أي : بسبب كَسْبِهِم ، و « ما » مصدريَّةٌ أو بمعنى الَّذِي ، والعائدُ مَحْذُوفٌ على الثَّانِي ، لا على الأوَّلِ على الصَّحِيح .
والإركاس : الردُّ والرَّجْعُ ، ومنه الرِّكْس ، قال -عليه السلام- في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها : « إنها ركس » . وقال أمَيَّة بن أبِي الصَّلت : [ البسيط ]
1856- فَأرْكِسُوا في جَحِيمِ النَّارِ إنَّهُمُ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزَّورَا
أي : رُدُّوا ، وقال الرَّاغِب : « الرِّكْس والنِّكْس : الرَّذْلُ ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ؛ لأن النِّكْسَ : ما جُعِل أعلاه أسْفَله ، والرِّكْسَ : ما صَارَ رَجِيعاً بعد أن كَانَ طعاماً » .
وقال النَّضْر بن شميل والكَسَائي : الرَّكْس والنِّكْس : قلب الشَّيْء على رَأسِه ، أو رَدِّ أوَّلِهِ على آخِره ، والمَرْكُوس والمنكُوسُ وَاحِدٌ .
وقيل : أرْكسه أوْبقَه ، قال : [ المتقارب ]
1857- بِشُؤْمِكَ أرْكَسْتَنِي فِي الخَنَا ... وأرْمَيْتَنِي بِضُرُوبٍ الْعَنَا
وقيل : الإركاس : الإضلال ، ومنه : [ المتقارب ]
1858- وأرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ... وصَيَّرتَنِي مَثَلاً لِلْعِدَى
وقيل : هو التنكيسُ ، ومنه : [ الرمل ]
1859- رُكِّسُوا في فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ... كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ
وارتكَس فُلانٌ في أمْر كَانَ ، أي : نَجَا مِنْهُ والرُّوكُوسِيَّةُ : قوْمٌ بين النَّصَارى والصَّابِئِين ، والرَّاكِس : الثَّور وسْط البَيْدَر والثيران حوالَيه وقت الدياس .
ويقال : أرْكس ورَكَّس بالتَّشْدِيد ورَكَّس بالتَّخْفِيف : ثلاث لُغَات بمعنى واحد ، وارتكَس هو ، أي : رجع .
وقرأ عبد الله : « ركسهم » ثلاثياً ، وقرئ « ركَّسهم -ركَّسوا » بالتشديد فيهما .
وقال أبو البقاء : « وفيه لُغَةٌ أخرى : » ركسه الله « من غير همز ولا تشديد ، ولا أعلم أحَداً قرأ به » .
قلت : قد تقدَّم أن عبد الله قَرَأ « والله ركسهم » من غير همز ولا تشديد [ ونقل ابن الخطيب أنَّها قراءة أبيِّ أيْضاً ] وكلام أبي البَقَاءِ مُخْلِّصٌ؛ فإنه إنما ادَّعى عَدَمَ العلمِ بأنَّها قِرَاءةٌ ، لا عدمَ القراءة بها .
قال الرَّاغب : : إلا أن « أركسه » أبلغُ من « ركسه » ؛ كما أنَّ أسْفَلَه أبلغُ من سُفْلَه « وفيه نظر .
فصل
قوله : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } قالت المُعْتزِلة : المُرَاد من قوله : » أضل الله « ليس أنَّه هو خلق الضَّلال فيه للوُجُوه المَشْهُورة؛ لأنه قال قبل هذه الآية : { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } فبيَّن -تعالى- [ أنه ] إنَّمَا رَدَّهُم وطَرَدَهُم بسبب كَسْبِهِم وفِعْلِهِم ، وذلك يَنْفِي القَوْل بأنَّ ضلالَهُم حصل بِخَلْق الله ، وعند هذا حَمَلُوا قوله : » ومن أضل [ الله ] « على وُجُوه :
أحدُها : المُرَاد أنَّ الله حَكَم بضلالهم وكُفْرِهم؛ كما يُقَال : فلان يكفر فُلاناً ويضَلِّلُه ، بمعنى : أنه حَكَم به وأخبر عنه .
وثانيها : أن المَعْنَى : أتُريدون أن تَهْدُوا إلى الجَنَّةِ من أضَلَّه الله عن طريق الجَنَّةِ؛ وذلك لأنَّه -تعالى- يُضِلُّ الكُفَّار يوم القيامَة عن الاهْتِدَاء إلى طريق الجَنَّةِ .
وثالثها : أن يُفَسَّر الإضْلال بمعنى الألْطَاف ، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذه الوُجُوه ، ثُمَّ نقول : هَبْ أنَّها صحيحة ، ولكِنَّه -تعالى- أخْبَر عن كُفْرِهِم وضلالِهِم ، وأنَّهم لا يَدْخُلون الجَنَّة ، فقد تَوَجَّه الإشْكَال؛ لأن انْقِلاب علم الله -تعالى- جهلا مُحَالٌ ، والمُفْضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ ، ويدل على أنَّ المُرَاد أنه -تعالى- أضَلَّهُم عن الدِّين -قوله- تعالى- : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } والمَعْنى : أنه -تعالى- لمَّا أضلَّهُم عن الإيمَانِ امتنع أن يجد المَخْلُوق سَبِيلاً إلى إدْخَالِه في الإيمَانِ .
قوله -تعالى- : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ } الآية .
يجوز في » لو « وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريَّة .
والثاني : أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوُقُوعِ غيره .
فعلى الأوَّل : تتقدَّر مع ما بعدها بمصدر ، وذلك المصدرُ في محل المفعول ل » ودوا « وحينئذٍ فلا جَوَابَ لها ، والتقدير : وَدُّوا كُفْرَكُم .
وعلى الثاني : يكون مَفْعُولُ » وَدَّ « مَحْذُوفاً ، وجوابُ » لو « أيْضاً محذوف؛ لدلالة المَعْنَى عليهما ، والتقدير : وَدُّوا كُفْرَكم ، لو تَكْفُرون كما كَفَرُوا لسُرُّوا بذلك .
و » كما كفروا « : نعتٌ لمَصْدِر محذوف ، تقديره : كُفراً مثل كُفْرِهم ، أو حالٌ من ضَمِير ذلك المَصْدر كما هو مَذْهَب سيبويْه .
و » فتكونوا « : عطف على » تكفرون « والتقدير : وَدُّوا كفرَكُم ، وكونكم مُسْتَوين معهم في شَرْعِهم؛ كقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ، أي : ودُّوا لو تُدْهنون ، والفَاءُ عَاطِفَة .
قال الزَّمَخشَريّ : » ولو نُصِب على جَوَاب التَّمَنِّي؛ لجاز « قال أبو حيَّان : فيه نظر : من حَيْث إن النَّصْبَ في جواب التَّمَنِّي إذا كان التَّمَنِّي بلفظ الفِعْل ، يحتاج إلى سَمَاع من العَرَب ، بل لو جَاءَ ، لم تتحقَّقَ فيه الجَوابِيةُ ، لأنَّ » ودَّ « التي بِمَعْنَى التمني ، متعلِّقُها لا الذَّوَات ، فإذا نُصِب الفِعْل بعد الفَاءِ ، لم يَتَعَيَّنْ أن تكون فَاءَ جواب؛ لاحتمال أن يَكُون من بَابِ عَطْف المَصْدر المقدَّر على المَصْدَر المَلْفُوظ به ، فيكون من بَابِ : [ الوافر ]
1860- لَلًبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي .. . . .
يعني : كَأنَّ المَصْدَر المَفْعُولَ ب « يود » ملْفُوظٌ به ، والمصدرُ المقدَّرُ ب « أن » والفِعْلِ ، وإلاَّ فالمصْدرُ المَحْذُوفُ ليس مَلْفوظاً به ، إلا بِهَذَا التَّأويلِ المذكُورِ ، بل المَنْقُولُ أنَّ الفِعلَ ينْتَصِبُ على جَوَابِ التَّمنِّي ، إذا كان بالحَرْفِ ، نحو : « ليت » ، و « لو » و « ألا » إذا أشْرِبتا مَعْنَى التَّمنِّي .
وفيما قاله أبُو حَيَّان نظر؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ لم يَعْنِ ب « التمني » المفهوم من فِعْل الودادة ، بل المَفْهُومَ من لفظ « لو » المُشعرةِ بالتمني ، وقد جاء النَّصْب في جوابها؛ كقوله : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] ، وقد قدَّمْتُ تَحْقِيقَ هذه المَسْألَةِ ، فظهر قول الزَّمَخْشَرِي من غير توقُّفٍ ، و « سواء » : خبر « تكونون » وهو في الأصْل مَصْدرٌ واقعٌ مَوْقعَ اسْمِ الفَاعِلِ ، بمعنى مُستوبن؛ ولذلِك وُحّد ، نحو : « رجال عدل » .
لمَّا اسْتَعْظَم قولهم : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } على سَبِيل الإنْكَارِ عَقب ذِكْر الاسْتبعاد ، بأن قال : إنَّهم بلغُوا في الكُفْر إلى أنَّهم يَتَمنُّون أن تَصِيرُوا أيُّها المُسْلِمُون كُفَّاراً ، فلما بَلَغُوا في تعصُّبهم في الكُفْر إلى هذا الحَدّ ، فكيف تَطْمَعُون في إيمانِهِم .
ثم قال : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } مَعَكُم .
قال عكرمة : هي هِجْرة أخرى والهِجْرة على ثَلاثَة أوْجُه :
هجرة المُؤمنين في أوَّلِ الإسْلام ، وهي قوله : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } [ الحشر : 8 ] وقوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 100 ] ونحوهما .
وهجرة المؤمنين وهي الخُرُوجُ في سَبِيلِ اللهِ مع رسُول الله صَابِراً محتَسِباً ، كما حكى هَهُنَا ، مَنَعَ من مُوالاتهم حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيل الله .
وهجرة سَائر المُؤمنين : وهي ما قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « المُهَاجِر من هجر مَا نَهَى الله عَنْه » .
قال أبو بكر الرَّازِي : التقدير : حتى يُسْلِمُوا ويُهَاجِرُوا؛ لأن الهِجْرَة في سَبِيل الله لا تكون إلا بَعْد الإسْلاَم ، فدلَّت الآيَةُ على إيجَاب الهِجْرة بعد الإسْلام ، وأنَّهم وإن أسلَمُوا لَمْ يكُن بينَنَا وبَيْنَهم موالاةٌ إلا بَعْد الهِجْرَة؛ لقوله - [ تعالى ] - : { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } [ الأنفال : 72 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنَا بَرِيءٌ من كل مُسْلِم أقَامَ بَيْن أظْهُر المُشْرِكِين » وهذا التَّكْلِيفُ إنَّما كان لازِماً حَيْث كانَت الهِجْرة وَاجِبَةٌ مَفْروضة ، فلمَّا فتحت مَكَّة ، نُسِخ ذلك ، قال رسُول الله صلى الله يوم فتح مكة : « لا هِجْرَة [ وَاجِبَة مَفْرُوضة ] بعد الفَتْح ، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ » .
ورُوي عن الحَسَن : أن حُكْم الآيَة ثَابِتٌ [ في كُلِّ ] من أقَام في دَارِ الحَرْب . قال ابن الخَطِيب : الهِجْرَة تحصل تارةً بالانْتِقَالِ من جَارِ الكُفْرِ إلى دَارِ الإسْلام ، وأخْرَى تَحْصُل بالانْتِقَال عن أعْمَال الكُفَّار إلى أعْمَال المُسْلِمين ، قال -عليه الصلاة والسلام- :
« المُهَاجِر مَنْ هجر ما نَهَى اللهُ عَنْهُ » وقال المُحَقِّقُون : الهِجْرة في سَبِيل الله عِبَارة عن الهِجْرة عن تَرْك منهيَّاته وفِعْل مأموراته ، والآية عامَّة في الكُلِّ ، وقَيَّدَ الهجرة بِكَوْنِها في سَبِيلِ الله؛ لأنه رُبَّمَا كَانَت الهِجْرَة لِغَرض من أغْرَاض الدُّنْيا فلا تكُونُ مُعْتَبَرة .
قال القُرْطُبِي : والهِجْرة أنْوَاع : منها الهِجْرة إلى المَدِينَة؛ لنُصرة النَّبي صلى الله عليه وسلم في الغَزَوات ، وكانت هذه وَاجِبَة أوَّل الإسْلام ، حتى قال : « لا هِجْرَة بعد الفَتْح » وكذلك هِجْرَة المُنَافِقِين مع النبي صلى الله عليه وسلم [ وهجرة مَنْ أسْلم في دَارِ الحرب فإنها وَاجِبَة ، وهجرة المسلم ما حَرَّم الله عَلَيْه ] كما قال -عليه السلام- : « والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَر مَا حَرَّم الله عليه » وهاتان الهِجْرَتان ثابتَتَان الآن ، وهجرة أهل المَعَاصِي؛ ليرجعوا عمَّا هُم عليه تأدِيباً لهم ، فلا يُكَلَّمُون ولا يُخَاطَبُون ولا يُخَالَطون حتى يَتُوبُوا؛ كما فعل النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مع كَعْب وصاحِبَيْه .
قوله : { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي : فإن أعْرَضُوا عن التَّوْحيد والهجْرَة « فخذوهم » إذا قَدَرْتُم عليهم أسَارَى ، ومنه يُقَال للأسِير : أخيذٌُ ، { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في الحِلِّ والحَرَم { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ } في هذه الحَالِ « ولياً » يتولى شَيْئاً من مُهماتكم « ولا نصيراً » لينصركم على أعْدَائِكُم ، ثم استَثْنَى منهم وهو قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } .
قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } : في هذه الاستثناء قولان :
أظهرهما : أنه استثناء مُتَّصِلٌ ، والمستثنى منه قوله : { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } في الأخذ والقتل لا في المُوالاة؛ لأن موالاة الكُفَّار والمنافقين لا يجوز بحال .
والمُسْتَثْنَوْنَ على هذا قَوْمٌ كُفارٌ ، ومَعْنَى الوَصْلَةِ هنا الوَصْلَةُ بالمُعَاهَدَةِ والمُهَادَنَةِ . وقال أبُو عبيد : « هو اتِّصَالُ النَّسَب » ، وغلَّطه النَّحَّاس بأن النَّسَب كان ثابتاً بين النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والصَّحابة ، وبين المُشْرِكين ، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم .
وقال ابن عبَّاس : يريد : ويلْجَئُون إلى قوم { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي : عهد ، وهم الأسْلَميُّون ، وذلك أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم وادَعَ هِلال بن عُوَيْمر الأسْلَمِيّ عند خُرُوجه إلى مَكَّة ، على ألاَّ يُعينَهُ ولا يُعين عليْه ، ومن وَصَل إلى هِلالٍ من قَوْمهِ وغيرهم ولجأ إليه ، فلهم من الجواز مثل ما لِهِلالٍ .
وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ : أراد بالقَوْم الَّذين بالقَوْم الَّذِين بَيْنكم وبَينهم ميثَاقٌ : بني بَكْرٍ بن زَيْد بن مَنَاة ، وكانوا في الصُّلْح والهُدْنَة ، وقال مُقَاتِل : هم خُزَاعَة .
والقَوْل الثاني : أنه منقطعٌ -وهو قول أبِي مُسْلم الأصْفَهَانِيِّ ، واختيار الرَّاغب- .
قال أبو مُسْلم : « لَمَّا أوجبَ اللهُ الهِجْرَةَ على كُلِّ مَنْ أسلم ، استثنى مَنْ له عُذْرٌ فقال : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } وهم قوم قَصَدُوا الهِجْرَة إلى الرَّسُول -عليه الصلاة والسلام- ونصرته ، وكان [ بينهم وبَيْنَه في الطَّريق كُفَّار يخافونهم ، فَعَهِدُوا إلى كُفَّارٍ كان ] بينهم وبين المُسْلمين عَهْدٌ ، فأقاموا عَنْدَهُم إلى أنْ يُمْكِنهُمُ الخلاصُ ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صَار إلى الرَّسُول وأصْحَابه؛ لأنه يخافُ اللهَ فيه ، ولا يقاتِلُ الكُفَّار أيضاً لأنهم أقاربُه؛ أو لأنه يَخَافُ على أولاده الذين هُمْ في أيديهم » ، فعلى هذا القَوْلِ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً؛ لأن هؤلاء المُسْتَثنين لم يَدْخُلوا تحت قوله : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } والمُسْتَثنوْن على هَذَا مُؤمِنُون .
قوله : { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } يجوز أن يكونَ جملةً من مُبْتَدَأ وخَبر في مَحَلِّ جرِّ صفة ل « قوم » ، ويجوز أن يكُونَ « بينكم » وحْدَه صفةً ل « قوم » ، فيكون في محلِّ جَرٍّ ويتعلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ، و « ميثاق » على هذا رفعٌ بالفَاعِليَّة؛ لأنَّ الظَّرف اعتمد على مَوْصُوفٍ ، وهذا الوَجْهُ أقربُ؛ لأنَّ الوَصْفَ بالمُفْرَدِ أصْلٌ للوصف بالجُمْلَة .
قوله : « أو جاءوكم » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على الصِّلَة؛ كأنه قيل : أو إلا الذين جَاءُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهُم ، فيكون التقدير : « إلا الذين يصلون بالمعاهدين ، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم » فيكون المُسْتَثْنَى صِنْفَيْن من النَّاس : أحدهما : واصلٌ إلى قومٍ مُعاهدين ، والآخر مَنْ جَاءَ غَيْرَ مقاتِلٍ للمسلمين ولا لِقَوْمه .
والثاني : أنه عضطْفٌ على صِفَةِ « قوم » وهي قوله : { فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } بعد قوله : { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } فقرَّر أنَّ كفَّهُم عن القِتَال أحدُ سَبَبَي اسْتِحقَاقِهم لنفي التعرُّض لهُم ، وتَرْكِ الإيقاع بهم ، فإن قُلْت : كلُّ واحد من الاتِّصالين له تأثيرٌ في صحة الاستِثْنَاء ، واستحقاقِ تَرْكِ التَّعرضِ للاتصال بالمُعَاهدين والاتصال بالْكَافِّين ، فهلا جَوَّزْت أن يَكُونَ العَطْفُ على صفةِ « قوم » ، ويكون قوله : « فإن اعتزلوكم » تقريراً لحكم اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطهم بهم ، وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت : هو جَائِزٌ ، ولكن الأوَّلَ أظهرُ وأجْرى على أٍلوب الكلام « . انتهى .
وإنما كان أظهر لوجهين :
أحدهما : من جِهَة الصِّنَاعة ، والثاني : من جهة المَعْنَى .
أمَّا الأوَّلُ : فلأنَّ عطفَه على الصِّلة لكون النِّسْبَة فيه إسْنَادِيةً ، وذلك أن المُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عنه مَحْكُومٌ له ، بخلاف حُكْم المُسْتَثْنَى منه ، فإذا قدَّرْتَ العَطْفَ على الصَِّلَة ، كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه ، بِخِلاَف ما إذا عَطَفْتَه على الصِّفَة ، فإنه يكونُ تَقْيِيداً في » قوم « الذين هم قيدٌ في الصِّلَةِ المُحَدَّثِ عن صَاحِبها ، ومتى دار الأمْر بين أن تكُون النِّسْبَة إسْنَاديّة وبين أن تكون تقييدية ، كان جَعْلها إسناديةً أوْلى لاسْتِقلالها .
والثاني من جهة المَعْنَى : وذلك أنَّ العَطْفَ على الصِّلَةَ يؤدِّي أن سَبَبَ تَرْكِ التَّعرُّض لهم تَرْكُهُم القتالَ ونَهْيُهُم عنه ، وهذا سَبَبٌ قريب ، والعَطْفُ على الصِّفَة يؤدي إلى أنَّ سَبَبَ تركِ التعرُّضِ لهم ، وصُولُهم إلى قَوْم كافِّين عن القِتَال ، وهذا سببٌ بعيدٌ ، وإذا دَارَ الأمرُ بين سَبَبٍ قريب وآخر بعيدٍ ، فاعْتِبَارُ القرِيبِ أوْلَى .
والجمهورُ على إثبات « أو » ، وفي مُصْحَفِ أبَيٍّ : « جاءوكم » من غير « أوْ » ، وخَرَّجها الزَّمَخْشَرِيُّ على أحَدِ أرْبَعة أوْجُه : إمَّا البيان ل « يصلون » ، أو البَدَلِ منه ، أو الصِّفة لقَوْم بعد صِفَة ، أو الاستئنافِ .
قال أبو حيان : « وهي وجوهٌ مُحْتَمَلَةٌ وفي بعضها ضعفٌ ، وهو البيانُ والبدلُ؛ لأن البيانَ لا يَكُون في الأفْعَالِ؛ ولأن البدل لا يتأتَّى لكونه ليس إيَّاه ، ولا بعضه ، ولا مُشْتَمِلاً عليه » . انتهى ، ويحتاج الجَوَابُ عنه [ إلى ] تأمُّلٍ ونظرٍ .
قوله : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فيه سبعة أوجُه :
أحدها : أنه لا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة ، بل جِيءَ بها للدُّعاء عليهم بضيق صُدُورهم عن القَتَالِ ، وهذا مَنْقثولٌ عن المُبَرِّد ، إلاَّ أنَّ الفَارسِيَّ رضدَّ عيله بأنا مَأمُورون بأنْ نَدْعُوَ على الكُفَّارِ بإلقاءِ العَدَاوَة بينهم ، فَنَقُولُ : « اللَّهُم أوْقِعِ العَدَاوَةَ بين الكُفَّار » لكن يكُونُ قوله : { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } نفياً لما اقْتَضَاهُ دعاءُ المُسْلِمين عليهم .
وقد أجَابَ عن هذا الردِّ بعضُ النَّاس؛ فقال بن عضطِيَّة : « يُخَرَّجُ قولُ المُبَرِّد على أن الدُّعَاء عليهم بألاَّ يقاتلوا المُسْلِمِين تعجيزٌ لَهُم ، والدعاءُ عَلَيْهم بألاَّ يقاتلوا قومهم تَحْقيرٌ لَهُمْ ، أي : هُمْ أقلُّ وأحْقَرُ ومُسْتَغْنى عَنْهُم ، كما تقول إذا أردت هذا المَعْنَى : » لا جعل الله فُلاناً عليَّ ولا مَعِي « بمعنى : أسْتَغْنِي عنه وأستَقِلُّ دونَه » .
وأجاب غيرُه بأنَّه يجُوزَ أن يكونَ سُؤالاً لقومهم ، على أنَّ قوله : « قومهم » قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ لَيْسُوا منهم ، [ بل عن مُعاديهم « .
الثاني : أنَّ » حصرت « حالٌ من فاعل » جاءوكم « وإذا وَقَعت الحَالُ فعلاً مَاضِياً ففيها ] خلافٌ : هل يَحْتاج إلى اقْتِرانه ب » قَدْ « والراجِحُ عدمُ الاحْتِياج؛ لكثرة ما جاء منه ، فَعَلى هذا لا تُضْمَرُ » قد « قَبْلَ » حصرت « ، ومَنِ اشْتَرَط ذلك ، قَدَّرها هنا .
والثالث : أنَّ » حصرت « صفةٌ لحَالٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : أو جاءُوكم قوماً حَصِرَتْ صُدُورُهُم رجالاً حصرت صُدُورهم ، فنصب لأنَّه صفة مَوْصُوف مَنْصُوب على الحال ، إلاَّ أنه حذف المَوْصُوف المنْتَصب على الحَالِ ، وأقيمت صِفته مَقَامَه وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة ، وهَذَا الوجُه يُعْزَى للمُبرِّد أيضاً .
الرابع : أن يَكُون في مَحَلِّ جَرِّ صفةً لِقَوْم بعد صِفَة ، و » أو جاءوكم « مُعْتَرِضٌ .
قال أبُو البَقَاءِ : يَدُلُّ عليه قِرَاءةُ مَنْ أسْقَط » أو « وهو أبَيٌّ ، كذا نَقَلَهُ عنه أبو حيَّان والذي في إعْرَابِه إسقاطُ » أو جاءُوكم « جميعه ، وهذا نَصُّه قال : » أحَدُهُما : هو جَرٌّ صِفَةً لقومِ ، وما بَيْنَهُمَا صفة أيضاً ، و « جاءوكم » هذا نَصُّه ، وهو أوفق لهذا الوَجْهِ .
الخامس : أن يكون بدلاً من « جاءوكم » بدلَ اشْتِمَال؛ لأن المَجِيء مشتمِلٌ على الحَصْر وغيره ، نَقَلَه أبو حيان عن أبي البقاء أيضاً .
السادس : أنه حبرٌ بعد خَبَر ، وهذه عِبَارة الزَّجَّاج ، يعني : أنها جملة مُسْتَأنفَة ، أخْبر بها عن ضِيق صُدُورِ هَؤلاَء عن القِتَال بعد الإخْبَار عَنْهُم بما تَقَدَّم .
قال انب عطية بعد حِكَاية قولِ الزَّجَّاج : « يُفَرَّق بين الحَالِ وبين خَبَرٍ مستأنفٍ في قولك : » جاء زَيْد رَكِبَ الفَرَسَ « أنك إذا أرَدْتَ الحَالَ بقولك : » ركب الفَرَس « قدَّرْتَ » قد « ، وإن أرَدْت خَبَراً بعد خَبَر ، لم تَحْتَجْ إلى تقدِيرها » .
السَّابع : أنه جَوَاب شَرْطِ مُقَدَّر ، تقديره : إن جاءُوكُن حصرت [ صدورهم ] ، وهو رأي الجُرجَانِيِّ ، وفيه ضَعْفٌ؛ لعدم لدَّلاَلة على ذَلِك .
وقرأ الجُمْهُور : « حصرت » فعلاً ماضياً ، وقرأ الحَسَن ، وقتادة ، ويعقوب : « حصرة » نَصْباً على الحَالِ بوزن « نبقة » ، وهي تؤيِّد كونَ « حصرت » حالاً ، ونقلها المَهْدَوِي عن عَاصِمٍ في رواية حَفْص ، ورُوي عن الحَسَن أيضاً : « حصرات » و « حاصرات » .
وهاتان القراءتان تَحْتَمِلان أن تكُونَ « حصرات » و « حاصرات » نَصْباً على الحال ، أو جَرّاً على الصِّفَة ل « قوم » ؛ لأنَّ جَمْع المُؤنَّث السَّالمِ يستوي جَرُّه ونَصْبُه ، إلا أنَّ فيهما ضَعْفاً؛ من حيث إنَّ الوَصْفَ الرَّافع لظاهرٍ الفَصيحُ فيه أن يُوَحد كالفِعْلِ ، أو يُجمَعَ جَمْعَ تَكْسِير ويَقِلُّ جمعُه تَصْحِيحاً ، تقول : مررت بِقومٍ ذاهب جَوَاريهم ، أو قيام جواريهم ، ويَقِلُّ : « قائِمَاتٍ جَوَاريهم » .
وقرئ : « حصرةٌ » بالرفع على أنه خَبَر مُقَدَّم ، و « صدورهم » مبتدأ ، والجُمءلَة حال أيضاً . وقال أبو البقاء : « وإن كان قد قُرِئ : » حصرة « بالرَّفْع ، فعلى أنَّه خَبَر ، و » صدورهم « ، مُبْتَدأ ، والجُمْلَةٌُ حال » .
قوله : « أن يقاتلوكم » أصلُه : عن أنْ : فلمَّا حُذِف حَرْف الجَرِّ ، جرى الخِلاف المَشْهُور ، أهي في مَحَلِّ جَرٍّ أو نَصْب؟ والحَصْرُ : الضِّيق ، وأصلُه في المكان ، ثم تُوُسِّع فيه [ فأطْلِق على حَصْر القَوْل : وهو الضيق في الكلام على المُتَكلِّم والحصر : المكتوم ] قال : [ الكامل ]
1861- وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرَِّكِ يَا أمَيْمُ ضَنينا
فصل
اخْتَلَفُوا في الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله -تعالى- :
فقال الجُمْهُور [ هم ] من الكُفَّار والمَعْنَى : أنه -تعالى- أوجَبَ قتل الكَافِر ، إلاَّ إذا كان مُعَاهِداً أوْ تَارِكاً للقِتَال ، فإنَّه لا يَجُوز قَتْلَهم ، وعلى هذا التَّقْدِير فالقول بالنَّسْخ لازم؛ لأنَّ الكافر وإن تَرَكَ القِتَال؛ فإنه يَجُوز قَتْله .
وقال أبُو مُسْلم الأصْفَهَاني : هم قوم من المُؤمِنين ، وذكر ما تقدَّم عنه في كَوْن الاستِثْنَاءِ مُنْقَطِعاً .
قوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } التَّسْليط في اللغة مأخوذ من السَّلاطة؛ وهي الحدَّة ، والمقصود : أنَّ الله تعالى منَّ على المُسْلِمين بِكَفِّ بَأسِ المُعَاهِدِين .
قال [ بعض ] المفسِّرين : معنى الآية : أن القَوْم الَّذين جَاءوكُم بنو مُدْلج ، كانوا عَاهَدُوا ألاَّ يُقَاتِلُوا المُسْلِمين ، وعاهَدُوا قُرَيْشاً ألاَّ يقاتِلُوهم وحصرَت : ضاقَتَ صُدُورُهُم ، { أَن يُقَاتِلُونَكُمْ } أي : عن قتالِكُم للعَهْد الذي بَيْنَكُم ، { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } يعني : مَنْ أمِنَ منهُم ، ويجُوز أن يكُون مَعْنَاه : أنَّهم لا يُقَاتِلُونَكُم مع قَوْمِهِم ، يعني : قُرَيشاً قد ضاقَتَ صُدُورُهم لِذَلِك .
وقال بَعْضُهم : « أو » الوَاوِ؛ كأنه قال : إلى قَومٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ ، جاءُوكُم حصرت صُدورُهم عن قَتَالِكُم والقشتَال مَعَكُم وهم -قَومُ هلالٍ- الأسْلميُّون وبنو بكر ، نهى الله -سُبْحَانَهُ- عن قتل هؤلاء المُرْتَدِّين إذا اتَّصَلُوا بأهل عَهْدٍ للمُؤمِنين؛ لأن من انْضَمَّ إلى قَوْمٍ ذَوي عَهْد فله حُكْمهم في حَقْن الدَّمِ .
فصل
المَعْنَى : أن ضيق صدورهم عن قِتَالِكُم؛ إنَّما هو لأن الله -تعالى- قَذَفَ الرُّعْب في قُلُوبِهِم ، ولو أنه -تعالى- قَوَّى قُلُوبَهُم على قِتَال المُسْلِمِين ، لتَسَلَّطُوا عليهم ، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ من الله تَسْلِيط الكَافِر على المُؤمِن وتَقْويته [ عَلَيْه ] .
وأجاب المُعْتَزِلَةُ بوجهين :
الأول : قال الجُبَّائِي : قد بينَّا أنَّ الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله -تعالى- قومٌ مؤمِنُون لا كَافِرُون ، وعلى هذا فَمَعْنَى الآيَة : ولو شَاءَ الله لَسَلَّطهم عليكم بِتَقْوية [ قُلُوبِهِم ] ليدْفَعُوا عن أنْفُسِهِم ، إن أقدمتم على مُقَاتَلتِهِم على سَبيل الظُّلْمِ .
الثَّاني : قال الكَلْبِي : إنه -تعالى- أخبر أنَّه لو شاء لَفَعَل ، وهذا لا يُفِيدُ إلاَّ أنه -تعالى- قَادِرٌ على الظُّلْم ، وهذا مَذْهَبُنَا ، إلا أنَّا نقول : إنه -تعالى- لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ .
قوله : « فلقاتلوكم » اللام جَوَاب « لو » على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة ، تقديره : ولَوْ شَاءَ الله لِسَلَّطَهُم عليكم ، ولو شَاءَ الله لَقَاتَلُوكُم .
وقال ابن عطيّة : هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى ، لو لم تَكن الأولى كنت تقول : « لقاتلوكم » . وهي تَسْمِيةٌ غريبة ، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي ، والجُمْهُور على : « فلقاتلوكم » من المُفاعَلة . ومُجَاهِد ، وجماعة : « فلقتَّلوكم » ثُلاثياً ، والحَسَن والجَحْدَري : « فلقتَّلوكم » بالتَّشديد .
قوله : « فإن اعتزلوكم » أي : فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم ، وألْقُوا إليْكُم السَّلَم ، أي : الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي : « السَّلْمَ » بفتح السِّين وسُكُون اللام ، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً بالقَتْل والقِتَالِ .
[ قوله : { لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } « لكم » متعلِّق ب « جعل » ، و « سبيلاً » مَفْعُولُ « جعل » ، و « عليهم » حالٌ من « سبيلا » ؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها ، ويجُوز أن تكونَ « جعل » بمعنى « صير » ، فيكون « سبيلا » مَفْعُولاً أوّلَ ، و « عليهم » مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم ] .
قال بعضهم : هذه الآية منْسُوخة بآية السَّيْف ، وهي قوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] ، وقال آخرون : إنَّها غير مَنْسُوخة ، أمَّا الَّذِين حملوا الاسْتِثْنَاء على المُسْلِمين ، فهو ظاهِرٌ على قولهم ، وأمَّا الذين حَمَلُوه على الكَافِرِين؛ فقال الأصَمُّ : إذا حَمَلْنَا الآية على المُعَاهدين ، فَكَيْفَ يمكن أن يُقَال إنها مَنْسُوخَةٌ .
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
السِّين في « ستجدون » للاسْتِقْبَال على أصلها ، قالوا : ولَيْسَت هنا للاسْتِقْبَال ، بل للدَّلالة على الاسْتِمْرَار ، وليس بِظَاهِرٍ .
قال الكَلْبِي عن أبي صَالٍِ ، عن ابن عبَّاس : هم أسَد وغطَفَان كانوا حَاشِرِي المَدِينَة ، تَكَلَّموا بالاسْلام رياءً ، وهم غير مُسْلِمِين ، فكان الرَّجُل مِنْهُم يقول له قَوْمُه : بماذا أسْلمت؟ فيقول : آمَنْتُ بربِّ القِرْدِ ، وبرب العَقْرب والخُنْفُسَاء ، وإذا لقوا أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا : إنَّا على دينِكُم ، يريدون بذلك الأمْن في الفَرِيقَيْن ، وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس : هم بَنُو عَبْد الدَّار ، كانوا بهذه الصِّفَةِ .
{ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } فلا تتعرَّضُوا لَهُم ، { وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } فلا يَتَعرَّضُوا لَهُم ، { كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة } دعوا إلى الشِّرْك ، { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أي : رَجَعُوا وعادوا إلى الشِّرْك .
وقرأ عبد الله : « ركسوا فيها » ثلاثيَّا مُخَفَّفاً ، ونقل ابْنُ جنيٍّ عنه : « ركَّسوا » بالتَّشْديد . وقرأ ابن وثابِ والأعْمِشُ : « رِدوا » بِكَسْر الرَّاء؛ لأن الأصْل : « رددوا » فأدْغِم ، وقلبت الكَسْرة على الرَّاء . وقوله : « إلى الفتنة » إلى الكُفْر { أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } أي : فإن لَمْ يكفُّوا عن قِتَالِكُم حَتَّى تسيروا إلى مَكَّة : { ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم } أي : المفاداة والصُّلْح ، « ويكفوا أيديهم » ولم يقبضوا أيديهُم من قتالكم ، « فخذوهم » ، أسرى { واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أي : وجدتموهم ، « وأولئكم » أي : أهل هذه الصِّفة { جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي : حُجَّة بيِّنة ظاهرة بالقَتلِْ والقِتَال ، وهذه الآيَة تَدُلُّ على أنَّهُم إذا اعْتزلوا قِتَالَنا وطَلَبُوا الصُّلحِ مَنَّا ، وكفوا أيْديهُم عن إيذائِنا ، لم يَجُزْ لنا قِتَالهم ، ونَظِيرُه قوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ } [ الممتحنة : 8 ] ، وقوله : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } [ البقرة : 190 ] .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
كما رَغَّب في مُقَاتَلة الكُفَّار ، ذكر بَعْدَهَا ما يتعلَّق بالمُحَارَبَة ، ولا شَكَّ أنَّه قد يَتَّفِقُ أن يرمي الرَّجُلُ رجُلاً يَظُنُّه كافراً حَرْبِيَّا فيقْتُلهُ ، ثم يتبين أنَّه مُسْلِمٌ ، فذكر الله - تعالى- حكْم هَذِهِ الوَاقِعَة .
قوله - تعالى- : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن } .
قد تقدَّم الكلام في نَظِير هذا التَّركيب عند قوله- تعالى- : { مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } [ البقرة : 114 ] .
وقوله : { إِلاَّ خَطَئاً } فيه أرْبَعة أوجُه :
أحدُها : أنه اسْتثنَاء منقَطِع - وهو قولُ الجُمْهُور- إنْ أُريد بالنَّفِي معناه ، ولا يجُوزُ أن يكُون مُتَّصِلاً ، إذ يصير المَعْنَى : إلا خَطَأ فله قَتْلُه .
والثاني : أنه مُتصلٌ إنْ أُريد بالنَّفْي التحريمُ ، ويَصِير المَعْنَى : إلا خطأ بأن عَرَفَه أنَّه كَافر فَقَتَله ، ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً .
الثالث : أنه استِثْنَاء مُفَرَّغ ، ثم في نَصْبِه ثلاثة احْتِمَالاتٍ :
الأوَّل : أنه مَفْعُول له ، أي : ما يَنْبَغِي له أن يَقْتُلَه [ لعلَّه من الأحْوَالِ ، إلا في حَالِ الخَطَأَ .
الثالث : أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذُوف ، أي : إلا قَتْلاً خَطَأ ، ذكر هذه الاحْتِمَالات الزَّمَخْشَرِيُّ .
الرابع : من الأوْجه : أن تكون « إلا » بمعنى « ولا » والتقدير : وما كان لمُؤمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤمِنَاً عَمْداً ولا خَطَا ، ذكره بعضُ أهْلِ العِلمُ ، حكى أبُو عُبَيْدة عن يُونُس قال : سألتُ رُؤبة بن العَجَّاج عن هَذِهِ الآيَةِ ، فقال : « ليس أنْ يَقْتُلَهُ عَمْداً ولا خَطَا » فأقام « إلاَّ » مقامَ الوَاوِ؛ وهو كقول الشَّاعِر : [ الوافر ]
1862- وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِ
إلا أن الفَرَّاء ردَّ هَذا القَوْلَ؛ بأن مثل ذلك لا يجوزُ ، إلا إذا تقدَّمه استِثْنَاءٌ آخر ، فيكونُ الثَّانِي عطفاً عليه : كقوله : [ البسيط ]
1863- مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
وهذا رأي الفراء ، وأمَّا غَيْرُه ، فيزعم أنَّ « إلا » تكون عَاطِفَة بمعنى الوَاو من غَيْر شَرْطِ ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذا في قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 150 ] .
وقرأ الجُمْهُور : « خطأ » مهموزاً بوزْنِ « نبأ » ، والزهري : « خَطَا » بوزن « عَصَا » ، وفيها تخريجان :
أحدُهُمَا : أنه حَذَفَ لام الكَلِمَة تَخْفِيفاً بإبدالها ألفاً ، فالتقت مع التَّنْوين؛ فَحُذِفَت لالتِقَاء السَّاكِنَيْن ، كما يُفْعَل ذلك بِسَائِر المَقْصُور ، والحسن قرأ : « خَطَاءً » بوزن « سَمَاء » .
فصل
ذكر المُفسِّرون في سَبَبِ النَّزُول وُجُوهاً :
أحدها : روى عُرْوَة بن الزُّبَيْر : أن حُذِيْفَة بن اليَمَان قَاتَل مع النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُد فأخْطَأ المُسْلِمَون ، وظَنُّوا أن أبَاهُ اليَمَان وَاحداً من الكُفَّار ، فضَرَبُوه بأسْيَافِهم ، وحُذَيْفَة يَقُول : إنَّه أبي ، فلم يَفْهَمُوا قولَه إلا بعد أنْ قَتَلُوه ، فقال حُذَيْفة : يَغْفِر الله لكم وهو أرحم الرَّاحمين ، فلما سَمِعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذلك ، أزْدَاد وَقْع حُذَيْفَة عِنْدَه ، فَنَزَلَت هَذِه الآية .
وثانيها : أن أبا الدَّرْدَاءِ كان في سَرِيَّة ، فَعدل إلى شَعْبٍ لحاجة [ فوجد ] رجُلاً في غَنَم لَهُ ، فحمل [ عليه ] بالسَّيْف ، فقال الرَّجُل لا إله إلا الله ، فقتلَه وسَاقَ غَنَمَهُ ، ثم وَجَد في نَفْسِه شَيْئاَ فذكر الوَاقِعة للرَّسُول- عليه الصَّلاة والسلام- فقال النَّبِيُّ -عليه الصلاة والسلام- : « هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه » وندم أبُو الدَّرْدَاءِ ، فنزلت الآية .
ثالثها : عيَّاش بن أبي رَبِيعَة المَخْزُومِيَّ ، وكان أخَاً أبِي جَهْل من أمّه : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يُظهر إسلامَه لأهله فخرج هارباً إلى المدينة ، وتحصّن في أطم من آطامِها ، فجزعت أمه لذلك جزعاً شديداً وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه : والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به ، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة ، فأتوا عياشاَ وهو في الأطم ، قالا له : إنزل فإنّ أمك لم يُؤوها سقف بيت بعدك ، وقد حلفت ألاّ تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعةٍ فجلده كل منهم مائة جلدة ، ثم قدموا به إلى أمّه فلما أتاها قالت : والله لا أُحِلّكَ من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به ، ثم تركوه موثقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال : يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هُدى لقد تركت الهدى ، ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها ، فغضب عياش من مقالته ، وقال : والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك ، ثم إن عياشاً ألم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت ، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية .
فصل تفسير قوله - تعالى- : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ }
قوله : { وَمَا كَانَ [ لِمُؤْمِنٍ } ] قيل : معناه : ما كانَ لَهُ فيما أتاه من رَبَّه وعهد إلَيْه ، وقيل : ما كَانَ لَهُ في شَيْءٍ من الأزمِنة ذلك ، والمَقْصُود : بَيَان أنّ حُرْمَة القَتْل كانت ثَابِتَة من أوَّل زمان التَّكْلِيف .
وقوله : « إلا خطأ » فعلى القَوْل بأنَّهُ مُتَّصِلٌ؛ ذكروا وُجُوهاً :
أحدها : أن هذا الاستِثْنَاء مَعْنَاه : أن الإنْسَان يُؤاخذ عن القَتْل ، إلا إذا كان القَتْل قتْل خَطَأ ، فإنَّه لا يُؤاخَذُ به .
وثانيها : أنه استْثْنَاء صَحِيحٌ على ظاهر اللِّفْظِ ، والمعنى : ليس لِمُؤمِنٍ أن يَقْتُل مُؤمِناً ألْبَتَّةَ إلا عند الخَطَأ ، وهو ما إذا رأى عليه شِعَار الكُفَّار ، أو وَجَدهُ في عَسْكَرِهِم فظنه مُشْرِكاً .
فَحيِنئذٍ يَجُوز قَتلُه .
ثالثها : أن في الكَلاَم تَقْدِيماً وتأخِيراً ، والتقدير : ومَا كَانَ لِمُؤمِن أن يَقْتُل مُؤمِناً إلا خَطَأ؛ كقوله - تعالى- : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] أي : وما كان الله ليتَّخِذَ من وَلَدٍ؛ لأنَّه - تعالى- لا يُحَرِّم عليه شَيْءٌ ، إنَّما يُنْفَى عنه ما لا يَلِيقُ بِهِ .
قال القُرْطُبِي : قوله : { وَمَا كَانَ } لَيْس على النَّفِي ، وإنَّما هو على التَّحْرِيم والنَّهِي؛ كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] ولو كانت على النَّفِي ، لما وُجِد مُؤمِنٌ قَتل مُؤمِناً [ قط ] ؛ لأن ما نفاه الله لا يجُوز وُجُودهُ؛ كقوله { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [ النمل : 60 ] ، معناه : ما كُنْتُم لِتُنْبِتُوا؛ لأنه - تعالى- لم يُحرَّم عليهْم أنْ يُنْبِتُوا الشجر ، إنما نَفَى عَنْهُمْ أن يمكنهم إنْبَاتُهَا ، فإنه - تعالى- هو القَادشرُ على إنْبَاتِ الشَّجَرِ .
ورابعها : أن وجْه الإشْكَال في اتِّصَال هذا الاستِثْنَاء أن يُقَال : الاستثناء من النَّفْي إثْبات ، وهذا يَقْتَضِي الإطْلاق في قَتْل المُؤمِن في بَعْضِ الأحْوالِ ، وذلك محَالٌ؛ لأن ذلِكَ الإشْكَال إنَّما يَلْزَمُ إذا سَلَّمْنا أنَّ الاستثناء من النَّفْيِ إثْبَات ، وذلك مُخْتَلف فيه بين الأصُوليِّين ، والصَّحيحُ أنَّهُ لا يَقْتَضِيه؛ لأن الاستِثْنَاء يَقْتَضِي نَفْيَ الحُكْمِ عن المُسْتَثْنَى ، لا صَرْف المحكوم عليه ، لا بالنَّفْيِ ولا بإثْبَات ، وحينئذ يَنْدَفِع الإشْكَال ، وممَّا يَدُلُّ على أنَّ الاستثناء في المَنْفِيِّ ليس بإثْبَاتٍ ، قوله- عليه الصلاة والسلام- : « لا صَلاَةَ إلاَّ بطَهُورٍ ولا نِكَاحَ إلاَّ بولِيِّ » ويقال : لا مُلْكَ إلا بالرِّجَالِ ، ولا رِجَال إلاَّ بالمَالِ ، والاستثناء في هذه الصور لا يُفيد أن يكون الحُكْم المُسْتَثْنَى من النَّفْي إثْبَاتاً .
وخامسها : قال أبُو هَاشِم : وتقدير الآيَة : وما كان لِمُؤمِنٍ أنْ يَقْتُل مُؤمِناً [ إلاَّ ] أن يَكُون خَطَأ ، فإنَّه لا يُخْرِجُه عن كَوْنِه مُؤمناً ، وهذا بِنَاء على أصْلِهِم ، وهو أنَّ الفَاسِق عند المُعْتَزِلةِ لَيْسَ بمُؤمِن ، وهو أصْلٌ [ فاسدٌ ] وباطل .
وإن قُلنا : إنه استِثْنَاء مُنْقطعٌ ، فهو لمعنى لكن ، ونظائره كثيرة ، قال - تعالى- : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } [ النساء : 29 ] . وقال : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم } [ النجم : 32 ] وقال : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25 ، 26 ] .
فصل
قال القُرْطُبِي : ذهب دَاوُد إلى وُجُوب القِصَاصَ بين الحُرِّ والعِبْد ، في النَّفْس وفي الأعْضَاءِ ، لقوله - تعالى- : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] إلى قوله : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] ولقوله - عليه الصلاة والسلام- : « المُؤمِنُون تتكَافَأ دِمَاؤُهُم » ولم يفرق بَيْنَ حُرٍّ وعَبْدِ .
قال أبُو حنِيفَة [ وأصْحَابُه ] : لا قِصَاص بين الأحْرَار والعَبِيد إلا [ في ] النَّفْسِ ، فيُقتل الحُرُّ بالعَبْدِ كما يقتل العَبْدُ بالْحُرِّ ، ولا قِصَاص بينهما في الجِرَاح والأعْضَاء ، وأجمع العُلَمَاءُ على أنَّ قوله - تعالى- : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } لأنَّه لم يَدْخُل فيه العَبِيدُ ، وإنما أريد به : الأحْرار؛ فكذلك قوله- عليه السلام : -
« المُؤمِنُون تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُم » أريد به الأحْرَار خَاصَّة ، والجُمْهُور على ذلك ، وإذا لم يَكُن قِصَاصٌ بين العَبيد والأحْرار فيما دُونَ النَّفْسِ ، فالنفس أحْرَى بذلك ، وقد مَضَى هذا في البَقَرَةِ .
قوله : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } « خطأ » إما مَنْصُوب على المَصْدَر ، أي : قتلاً خطأ ، وإما على [ أنَّه ] مصدرٌ في مَوْضِع [ الحال ] أي ذا خَطَأٍ أو خاطئاً والفَاء في قوله : « فتحرير » جوابُ الشَّرْطِ ، أو زائِدَةٌ في الخَبَر إن كَانَت « من » بمعنى الَّذِي ، وارتِفَاعُ « تحرير » : إمَّا على الفَاعِليَّةِ ، أي : فيجبُ عليْه تَحْرِير ، وإمَّا على الابتدائِيَّة ، والخبر مَحْذُوف أي : فعليه تحرير أو بالعكس ، أي : فالوَاجِبُ تَحْرِيرُ ، والتحرير عبارةٌ عن جَعْلِهِ حُرَّا والحُرُّ هو الخَالِصُ ، ولما كان الإنْسَان في أصْلِ الخلقة خُلِقَ لِيَكُون مالكاً للأشْيَاءِ ، لقوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] فكونه مَمْلُوكاً صفة تُكَدَّر مقتضى الإنْسَانِيَّة ، فسميت إزالة المُلْكِ تَحْرِيراً ، أي : تخليصاً لذلك الإنْسَان عما يُكَدِّر إنْسَانيَّتَهُ ، والرَّقبة عبارَةٌ عن النَّسَمَة في قولهم : « فُلان يَمْلِك كَذَا رَأساً من الرَّقِيق » .
والدِّيَةُ في الأصْلِ مَصْدر ، ثم أطلَقَ على المالِ المَأخُوذ في القتل ، ولذلك قال : { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } ، والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الأعٍيَان ، تقول : وَدَى يَدِي دِيَةً ووَدْياً ، كوشَى يَشِي شِيَةٌ ، فحذفت فَاءُ الكَلِمَة ، ونَظِيرُه في الصَّحيح اللام : « زِنة » و « عِدة » ، و « إلى أهله » متعلَّق ب « مسلمة » تقول : سَلَّمت إليه كَذَا ، ويجُوز أن يكون صِفَةً ل « مسلمة » وفيه ضَعْفٌ .
فصل الخلاف في القصاص للقتل العمد
معنى [ الآية ] فِعلية رقبة مُؤمِنَة كَفَّارة وَدِية كَامِلَة { مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } أي : إلأى أهْل القتيل الذين يَرِثُونه ، « إلا أن [ يصدقوا » . أي : ] يتصدَّقُوا بالدِّيَة فيَعفوا ويَتْرُكُوا الدِّيَة ، واختلفوا في قتل العمد :
فقال أبو حنيفة : لا يُوجِب الكَفَّارة؛ لهذه الآيَة فقال : « ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير [ » رقبة « ] شرط لوجوب الكَفَّارةِ كونه خطأ ، وعند انتفاء الشَّرْط لا يَحْصل المَشْرُوط .
وقال الشَّافِعِيُّ : تجب الكفَّارة؛ لما رَوَى واثِلة بن الأسْقَع ، قال : أتَيا رسُول الله صلى الله عليه وسلم في صَاحِب لَنَا أوجب النَّار بالقَتْلِ ، فقال : أعْتِقُوا عنه يَعْتِقُ الله بِكُلِّ عُضْوٍ منه عَضْواً منه [ من النَّار ] ولأن الكَفَّارة في قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ والإحْرَام ، يستوي فيه العَامِدُ والخَاطِئُ [ إلا ] في الإثْمِ فَكَذَا في قَتْل المُؤمِنِ .
فصل
قال ابن عبَّاس ، والحَسَن ، والشَّعْبي ، والنَّخْعِي : لا تجزئ الدِّيَة إلا إذا صًام وصَلَّى ، لأنه وَصَفَها بالإيمَانِ ، والإيمانً : إمَّا التَّصْديقُ ، وإمَّا العَمَلُ ، وإمَّا المجْمُوع والكل فائِت عن الصَّبي .
وقال الشَّافِعِي ومالك والأوزاعِي وأبُو حنيفة : يُجْزئ الصَّبِي إذا كَانَ أحَد أبويه مُسْلِماً ، لأنَّ قوله : « ومن قتل مؤمناً [ خطأ ] » يَدْخُل فِيه الصَّغير فَكَذَا قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } يدخل فيه الصَّغيرُ .
فصل
قال أبو بَكْر الأصم : وجمهور الخَوَارج : الدِّيَة واجبةٌ على القَاتِلِ لوجُوهٍ :
الأوَّل : لأنَّ قوله : « فتحرير رقبة » والمراد : إيجَابُها على القَاتِل لا عَلَى غَيْره بالإجْمَاعٍ فكذا الدِّيَّة؛ لأن اللَّفْظَ في الموضعَيْن وَاحِدٌ .
الثاني : أن الجِنَايَة إنَّما صَدَرت مِنْهُ ، والضَّمَان لا يَجِبُ إلاَّ على المُتْلِفِ ، أقصى ما في البَاب أنَّ هذا الفِعْل صَدَر عنه على سَبيل الخَطَأ ، والفِعْل الخَطَأ في قِيم المُتْلَفَاتِ وأروش الجنايَاتِ ، قائم مقام العَمْد ، وتلك لا تَجِب إلا على المُتْلِف فكذا هَهُنَا .
الثالث : أن العَاقِلَة لم يصْدر عَنْهم خيانة ، فلا يَجبُ عليْهم شَيْء؛ لقوله - تعالى- : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 164 ] وقال : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } [ البقرة : 286 ] « ورُوِيَ أنَّ أبا رَمْثه دَخَل على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ومَعَهُ ابْنُه ، فقال - عليه الصلاة والسلام- من هذا؟ فقال ابْني ، فقال : » إنَّه لا يَجِنِي عَلَيْك ولا تَجْنِي عليه « ومَعْلُوم أنَّه ليس المَقْصُود الإخْبَار عن نَفْسِ الجِنَايَة ، إنَّما المَقْصُود : بيان [ أن ] أثر جَنَايتكَ [ لا ] يَتَعَدَّى إلى وَلَدِكَ وبالعكس .
الرابع : إن النُّصُوص تدلُّ على أن مالَ الإنْسَان مَعْصُوم [ وأنه ] لا سبيل لأحَدٍ أن يأخُذَه منه ، قال- تعال- : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } [ النساء : 29 ] .
وقال عليه الصلاة والسلام : » كُلُّ امْرِئ أحَقُّ بِكَسْبِه « وقال : » حرمة مال المسلم كحرمة دمه « وقال : » لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس « تركنا هذه النُّصُوص في الأشْيَاءِ الَّتِي عرفنا بنصّ القُرْآن كَوْنَها مُوجِبَة لجوازِ الأخذ كالذَّكَوَات ، وأخذ الضَّمَانات ، وأمّا الدِّيَة على العَاقِلَة ، فالمُعْتَمَد فيه عَلَى خَبَرِ الواحِدِ ، وتَخْصِيصُ عُمُوم القُرْآنِ بخير الوَاحِدِ لا يجُوزُ؛ لأن القُرآن مَعْلُوم وخبر الوَاحِدِ مَظْنَون ، ولا يَجُوزُ تقديم المَظْنُونِ على المَعْلُومِ؛ ولأن هذا خَبَر وأحِدٍ وَرَدَ فيما تَعُمُّ به البَلْوَى؛ ولأنَّه خبر وَاحِدٍ ورد على مُخَالَفَةِ أصُولِ الشَّرِعةِ فوجب رَدُّه ، واحتجَّ الفُقَهَاءِ بما » رُوِيَ [ عن ] المُغيرةِ أنَّ امْرَأة ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأةٍ ، فالقَت جَنباً ميّتاً ، فَقَضَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم على عَاقِلَة الضَّارِبَة بالغِرَّة ، فقام حَمْل بن مَالِك فقال : كَيْفَ نَدِي من لا شَرِبَ ولا أكَل ، ولا صَاحَ ولا اسْتَهَلَّ ، ومثل ذَلِكَ يُطِل ، فقال- عليه الصلاة والسلام- : هذا من سَجْع الجاهلية « .
وعن عمر- رضي الله عنه- فقُضِيَ عَلَى عَليَّ- رضي الله عنه- بأن يعقل عن مَوْلَى صَفية بنت عَبْد المُطَّلِب حين جَنَى موْلاَهَا ، وعَلِيٌّ كان ابْن أخِي صَفِيَّة وقضى للزُّبَيْر بمِيِيراثِهَا ، وهذا يَدلُلُّ على أنَّ الدِّيَة إنَّما تِجِبُ عَلَى العَاقِلَة .
فصل
مذهب الفُقَهَاء أنَّ دِيَة المرأة نِصْف دِيَة الرَّجُل ، وقال الأصَمُّ وابن عَطِيّة : ديتُها مِثْلُ دِيَةِ الرَّجُل ، واحْتَجَّ الفقهاء بأن عَليَّا ، وعُمَر ، وابن مَسْعُود قَضَوْا بذلك؛ ولأن المرأة في المِيراث والشَّهَادَةِ على النِّصْفِ من الرَّجُلِ ، فكذلك في الدِّيَة ، واستدل الأصَمُّ بهذه الآيَة قوله- تعالى- : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } وأجْمَعُوا على أنَّ هذه الآية دَخَلَ فيها حُكْم الرَّجُل والمرأة فوجب أن يكون الحُكْم ثَابِتاً فِيَها بالسويّة .
قوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } فيه قولان :
أحدهما : أنه اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع .
والثاني : أنه متصلٌ .
قال الزمخشري : « فإن قُلْتَ : بِمَ تَعَلَّق » أن تصدقوا « وما مَحَلُّه؟ قلت : تَعَلَّق ب » عليه « أو ب » مسلمة « كأنه قِيلَ : وتَجِبُ عليه الديَّة أو يًسَلِّمُهَا إلا حِين يتصدَّقُون عليه ، ومَحَلُّها النَّصْب على الظَّرْف ، بتقدير حذف الزَّمَانِ ، كقولهم : » اجلس ما دام زَيْدٌ جالِساً « ، ويجُوز أن يكُون حَالاً من » أهله « بِمَعْنَى إلا مُتصدِّقين » . وخطَّأه أبو حيَّان في هذين التَّخْرِيجين .
أما الأوّل : فلأنَّ النَّحْويَّين نَصُّوا على مَنْع قِيَام « أنْ » وما بعدها مقامَ الظَّرْف ، وأنَّ ذلك ما تَخْتَصُّ به « ما » المَصْدَرِيّةُ ، لو قلت : « آتيك أن يَصِيحَ الدِّيكُ » أي : وقت صِيَاحه ، لم يَجُز .
وأما الثَّانِي : فنصَّ سِيبوَيْه على مَنْعِه أيضاً ، قال في قَوْلِ العرب : « أنْت الرَّجُل أن تُنَازِلُ ، أو أنْ تُخَاصِم » أي : أنْتَ الرَّجُل نزالاً ومُخَاصَمَة : « إنَّ انْتِصَابِ هذا انْتِصَابُ المَفْعُول من أجْلِه ، لأنَّ المُسْتَقْبَل لا يَكُون حالاً » فكونُه مُنْقَطعاً هو الصَّوابُ .
وقال أبو البَقَاءِ : « وقيل : هو مُتَّصِلٌ ، والمَعْنَى : فعليه دِيَةٌ في كُلِّ حَالٍ ، إلا في حال التَّصَدُّق عَلَيْه بِهَا » .
والجُمْهُور على « يصدقوا » بتشديد الصَّاد ، والأصل : يتصدَّقوا ، فأدْغمت التَّاء في الصَّاد ، ونُقِل عن أبيِّ هذا الأصل قِرَاءةٌ ، وقرأ أبو عمرو في رِوَاية عَبْد الوَارِثِ- وتُعْزى للحَسَن وأبي عَبْد الرَّحْمَن : - « تصدقوا » بِتَاءِ الخِطَاب ، والأصل : تتصَدَّقُوا بتَاءَيْن ، فأدغمت الثَّانِية ، وقُرئ : « تَصْدُقوا » بتاء الخِطَاب وتَخْفِيف الصَّاد ، وهي كالَّتِي قَبْلَها ، إلا أنَّ تَخْفِيفَ هذه بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْن : الأولَى أو الثَّانِية على خِلاف في ذلك ، وتَخْفيف الأولَى بالإدْغَام .
قوله [ -تعالى- ] : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } لما ذكر أوَّلاً أنَّ قتل المُؤمِن خَطَأ [ فيه ] تحرِيرُ رَقَبَة ، وتَسْلِيم الديَّة ، ذكر هُنَا أنَّ من قَتَل خَطَأ من قَوْم عَدُوٍّ لنا فَعَلَيْه تَحْرِير الرقبة ، وسَكَت عن الدِّيَة ، ثم ذَكَر بعده إنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم ميثَاقٌ ، وجَبت الدِّيَةُ ، فالسُّكُوت عن إيجَاب الدِّيَة ، ثم ذَكَر بعده إنْ كان من قًوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم ميثاقٌ ، وجَبت الدِّبَةُ ، فالسُّكُوت عن إيجَاب الدِّيَة هنا وإيجَابُها فِيمَا [ قبل هذه الآية ] وفيما بعد يدُلُّ على أنَّ الدِّيَة غير وَاجِبَة في هَذِه الصُّورَة ، وإذا ثبت هذا ، فَنَقُولُ : قوله - تعالى- : { مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ } إمَّا أن يَكُون المُرادُ مِنْهُ كَوْن هذا المَقْتُول من سُكَّان دَارِ الحَرْب ، أو كَوْنه ذا نَسَبٍ منْهُم .
والثاني بَاطِلٌ؛ لانعقاد الإجْمَاع على أن المُسْلِمَ السَّاكن في دَارِ الإسْلام ، وجَميع أقارِبِه كُفَّار ، فإذا قُتِلَ خَطَأ ، وجبت الدِّيَة في قَتْلِه ، فتعيَّن الأوَّل ، وهو كَوْن المَقْتُولِ خَطأ من سُكَّان دَارِ الحَرْبِ وَهُو مُؤمِنٌ ، فتجب [ فيه ] كَفَّارة بلا دِيَة .
قال الشَّافِعِي : كما دَلَّت هذه الآيَةُ على هَذَا المَعْنَى ، فالقياس يُقَوِّيه فأمَّا أنَّه لا تَجِبُ الدِّية ، فلأنَّا لو أوْجَبْنا الدِّيَة في قَتْل المُسْلِم السَّاكِن في دَارِ الحَرْب ، لاحْتَاج مَنْ يريدُ غَزْوَ دَارِ الحَرْب ، إلى أنْ يَبْحَث عَنْ كُلِّ أحدٍ أنه هَلْ هُوَ من المُسْلِمِيِن أمْ لا ، وذَلِكَ مما يَصْعب وَيشقُّ ، فيفضي إلى اْحترازِ النَّاسِ عن الغَزْوِ ، فالأوْلَى سُقُوط الدِّيَة عن قاتِله؛ لأنَّه الذي أهْدَرَ دَمَ نَفْسِه باخْتِيَار السُّكْنَى في دَارِ الحَرْب ، وأمَّا الكَفَّارة فإنَّها حَقُّ الله - تعالى-؛ لأنَّه قَتَل إنْسَاناً مُؤمِناً مُواظِبَاً على عِبَادة الله- تعالى- ، وقيل : المُرادُ منه : إذا كان المَقْتُولُ مُسْلِماً في دَارِ الإسلامِ ، وهو من نَسَبِ قوم كفارٍ ، [ وأقاربه ] في دار الحرب- حرب المسلمين- ففيه الكَفَّارةُ بِلا دِيَة [ لأهله ] ، وكان الحَارِثُ بن زَيْد من قوم كُفَّار حربٍ للمسلمين ، وكان فيه تَحْرِير رَقَبة ، ولم يَكُن فيه دِيّة؛ لأنَّه لم يَكُن بين قَوْمِه وبَيْن المُسْلِمِين عَهْد .
قوله : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } فيه قولان :
أحدهما : أن المُرادَ مِنْه : المُسْلِم؛ لأنَّه - تعالى- ذكر أوّلاً حال المُسْلِم القَاتِل خَطَأ ، ثم ذكر حال المُسْلِم المَقْتُول خَطَأ إذا كان بَيْنَ أهْل الحَرْب ، ثم ذكر حال المُسْلِم [ المَقْتُول خَطَأ ] إذا كان بين أهْلِ العهد وأهْل الذِّمَّة ، ويؤكَّدُه قوله : « وإن كان » فلا بُدَّ من إسْنادِه إلى شَيْء تقدَّم ذِكْرُه وهو المُؤمِنُ المَنْقُول خَطَأ .
الثاني : أن المُرَاد منه : الذمي أو المُعاهد ، وهؤلاء طَعَنُوا في القَوْل الأوَّل من وُجُوه :
أحدها : أن المُسْلِم المَقْتُول خَطَأ سواءٌ كَانَ من أهْل الحَرْب أو من أهل الذِّمَّة ، فهو دَاخِلٌ تحت قوله : « ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة [ مؤمنة ] ودية مسلمة إلى أهله » فلو كان المُراد من هذه الآية هو المُؤمِن المَقْتُول من سُكَّان دَارِ الحَرْبِ ، فإنه - تعالى- إنما أعَادَهُ لبَيَانِ أنَّه لا تَجِبُ الدِّيَة في قَتْلِه ، فأمَّا هَهُنَا فَقَدْ أوْجَبَ الدِّيَة والكَفَّارة ، فلو كان المُرادُ هو المُؤمِن ، لكان تِكْرَاراً من غير فَائِدَةٍ ، وأنه لا يجُوزُ .
ثانيها : لو كان المُرادُ ما ذكَرْتُم لما كانَت الدِّيَة مُسَلَّمَة إلى أهله؛ لأنَّ أهْلَه كُفَّار لا يَرِثُونَهُ .
ثالثها : أن قوله : [ « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق » ] يقتضي أن يكُونوُا مِنْ ذلك القَوْم في الوَصْفِ الذي وقع التَّنْصيص عليه ، وهو حُصُول المِيثاقِ بَيْنَهُمَا ، فإن كَوْنَه منهم مُجْمَل ، لا يَدْرِي أنَّه مِنْهُم في أيَّ الأمُور ، وإذا حَمَلنَاه على كَوْنِهِ مُعَاهداً ، [ وجب أن يكون مُعَاهداً أو ذمِّيّاً ] مثلهم ، ويمكن أن يُجَابَ عن هَذِه الأوجه :
أمَّا الأوَّل : فلأن الله- تعالى- ذكر حُكْم المُؤمِن المَقْتُول خَطَأ السَّاكِن في دَارِ الحَرْبِ ، وبيَّن أنَّ أهْلَ الذِّمَّة ، وبيَّن وُجُوب الدِّيَة ، وذكر القِسْم الثَّانِي ، وهو المُؤمِنُ المَقْتُول خَطَأ السَّاكن بين أهْلِ الذِّمَّة ، وبيَّن وُجُوب الدِّيَة ، والكَفَّارة في قَتْلِه ، والغَرَضُ منه : إظْهَار الفرق بَيْنَهُ وبين القِسْم الذي قَبْلَه .
والجَوَابُ عن الثَّاني : أن أهْلَه هم المُسْلِمُون الَّذِين تُصْرف الدية إليهم .
وأما الثالث : فإن كَلِمَة « من » صَارَت مُفَسرة في الآيَة السَّابِقة؛ بمعنى « في » ، يعن : في قوم عَدُوٍّ لكم ، فكذا هَهُنَا ، وفائِدَة هذا البَحْث تَظْهَر في مَسْألة شرعِيّة ، وهي أنَّ أبَا حَنِيفَة يرى أنَّ دِيَة الذِّمِّي مثل ديَة المُسْلِم .
وقال الشافعي : دية اليَهُودِيّ والنَّصْرَاني ثُلْث دِيَة المجوسي ، وقال غيره : نِصْف دِيَة المُسْلِم .
واحتج أبُو حَنيفَة بقوله : « وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق » والمرادُ به : الذِّمِّي ، ثم قال : « فدية » فأوْجَبَ فيهم تمام الدِّيَة .
وجَوَابُه : أن نَقُول : هذه الآية نَزَلَت في المُؤمِنِين كما بَيَّنَّا فَسَقط استدلاَلُه ، وبتقدير أن تَكُونَ نَزَلَت في أهْل الذِّمَّة ، فإنما وَجَبَ [ فيها ] مسمَّى دِيَة ، ولكن لم يُبَيِّن مِقْدَارَها ، فلم قُلْتُم بأنَّ الدِّية التي أوجَبَها في حَقِّ المُسْلِمِ ، بل لِكُلِّ دَيةٍ مقدارٌ مُعَيَّن ، فإن الدِّية هي المالُ المأخوذ الَّذي يؤدِّى في مقابَلَةِ النَّفْسِ .
فإن قيل : لِمَ قدَّم تَحْرِير الرَّقَبَة على الدِّيَة في الأولى ، وهَهُنا عَكَسَ؟
الجواب : أن الوَاوَ لا تُفِيد الترْكيب ، فتصيرُ كَقَوْله : { وادخلوا الباب سُجَّداً [ وَقُولُواْ حِطَّةٌ } ] [ البقرة : 58 ] ، وفي آية أخرى ، { وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً } [ الأعراف : 161 ] .
فصل
والكفَّارة تكُون بإعْتَاق رَقَبَةٍ مؤمِنةٍ سواء كان المَقْتُول مُسْلِماً أو مُعاهِداً ، رجلاً أو امْرأةً ، حرًّا كان أو عَبْداً ، وتكُون في مَالِ القاتِل .
قوله - تعالى- : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } .
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } مفعولُه مَحْذُوفٌ : أي : فَمَنْ لم يَجِدْ رَقَبة ، وهي بِمَعْنَى وجدان الضَّالِّ ، فلذلك تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ ، وقوله : { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ } ارتفاعه على أحَدِ الأوْجه المذكُورة في قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وقد مَرَّ ، أي : فعليه صِيَامُ ، أو : فيجبُ عليه صِيَامُ ، أو فواجبه صِيَام .
قال أبُو البَقَاءِ ، ويجُوزُ في غَيْر القُرْآنِ النَّصْبُ على « فليصم صوم شهرين » . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاسْتِعمَال المعروفَ في ذَلِكَ أنْ يُقَالَ : « صمت شهرين ويومين » ، ولا يَقولون : صُمْتُ صومَ- ولا صِيَامَ - شَهْرَين .
فصل
إذا كان وَاجِداً للرقبة ، أو قادراً على تَحْصِلَها بِثَمَنِها ، فاضِلاً عن نَفَقَتِه ونَفَقَة عِيَاله وحاجته من مَسْكَنٍ ونحوه ، فعليه الإعْتَاق ، ولا يَجُوز له الصَّوْم ، أو نَوَى صَوْماً أخَر ، وجب عليه الاستِئْنَاف ، فإن أفْطَرَ بعُذْرٍ مُرَخَّصٍ ، أو سَفَرٍ ، أو حيض : فقال النَّخْعِيُّ ، والشافعي في أظهر قَوْليه : يَنْقَطِع التَّتابُع ، وعليه الاستِئْنَاف .
وقال سعيد بن المسيَّب ، والحَسَن ، والشَّعْبِي : لا يَنْقَطِع ، ولو حَاضَت المَرْأة ، لم ينقطع التَّتَابُع ، لأنَّه لا يُمْكِنُ الاحتِرَازُ عنه؛ قال مَسْروقُ : فإن الصَّوْم بدلٌ من مَجْمُوع الكَفَّارَةِ والدِّيَة .
فصل : فيما إذا عجز عن الصوم هل يطعم؟
إذا عَجَز عن الصَّوْم هل يُطْعِم ستِّين مِسْكِيناً فيه قولان :
أحدهما : يطعم كالظِّهَار .
والثاني : لا؛ لأن المُشَرِّع لم يذكر له بَدَلاً .
أحدها : أنه مَفْعُول من أجْلِه ، تقديره : شَرَعَ ذلك توبةً منه .
قال أبو البَقَاءِ : ولا يجُوز أن يَكُون العَامِل : « صوم » إلا على حَذْف مُضَافٍ ، أي : لوقوعِ تَوْبَة [ من الله ] أو لحُصُول توبة [ من الله ] . يعني : أنه إنما احْتَاج إلى تَقْدِير ذلك المُضَافِ ، ولم يقل إن العَامِل هو الصِّيَام؛ لأنه اختلَّ شَرْطٌ من شروطِ نَصْبه؛ لأنَّ فاعلَ الصِّيَام غيرُ فاعل التَّوبَة .
الثاني : أنها مَنْصُوبةٌ على المَصْدَر أي : رجُوعاً منه إلى التَّسْهِيل ، حيث نَقَلكم من الأثْقَلِ إلى الأخَفِّ ، أو توبة مِنْه ، أي : قَبُولاً منه ، مِنْ تاب عَلَيْه ، إذا قبل تَوْبَته ، فالتقدير : تابَ عليكم تَوْبَةً [ مِنْه ] .
الثالث : أنها مَنْصُوبةٌ على الحَالِ ، ولكن على حَذْفِ مُضَافٍ ، تقديره : فَعَليه كذا حالَ كَوْنِهِ صَاحِبَ توبةٍ ، ولا يجُوز ذلك من غَيْر تَقْدِير هذا المضاف؛ لأنك لو قُلْتَ : « فعليه صِيَامُ شهريْنِ تَائِباً من الله » لم يَجُزْ ، و « من الله » في مَحَلِّ نَصْب؛ لأنه صِفَةٌ ل « توبة » فيتعلَّقُ بمحْذُوف .
فإن قيل : الخَطَأ لا يَكُون مَعْصِية ، فما مَعْنَى قوله : { تَوْبَةً مِّنَ الله } .
فالجواب من وجوه :
الأول : أنَّ فيه نَوْعاً من التَّقْصِير ، فإنَّ الظَّاهِر أنَّه لو بَالَغ في الاحْتِيَاطِ والاسْتِكْشَافِ لما تعذر عليه الفعل ، ألا تَرَى أن من قَتَل مُسْلِماً يظنه حَرْبيَّا ، فلو بالغ في الاستكشافِ ، فالظَّاهر أنَّه لَمْ يقَعْ فيه ، ومن رمى صَيْداً فأصَاب إنْسَاناً ، فلو احتاطَ ولم يَرْمِ إلاَّ في مَوْضع يَقْطَع بأنه ليس هُناك إنْسَان ، فإنَّه لا يقع في تلك الواقعة؛ فقوله : { تَوْبَةً مِّنَ الله } تنبيه على أنه كَانَ مُقَصِّراً في ترك الاحْتِيَاطِ .
وثانيها : أن قوله : { تَوْبَةً مِّنَ الله } راجعٌ إلى أنَّه - تعالى- أذِن لهُ في إقَامة الصَّوم مقامَ الإعْتَاقِ عند العَجْزِ عنه؛ لأن الله - تعالى- إذا تَابَ على المُذْنِبِ ، فقد خَفَّفَ عَنْه ، فلما كان التَّخْفِيف من لَوَازِم التَّوْبَة ، أطلف لَفْظَ « التوبة » لإرادة التَّخْفِيف؛ إطلاقاً لاسْمِ المَلْزُوم على اللاَّزِم .
وثالثها : أن المُؤمِن إذا اتَّفق له مِثْل هذا الخَطِأ ، فإنه يَنْدَم ويتمنَّى ألاَّ يكون ذلك ممَّا وقَع ، فسمَّى الله ذلك النَّدم والتَّمنِّي تَوْبَة .
ثم قال -تعالى- : { وَكَانَ الله عَلِيماً } بأنَّه لن يقْصِد « خطأ » لما حَكَم بِهِ عَلَيْه ، ولم يؤاخِذُهُ بذلك الفَعْل الخَطَأ ، فإن الحَكْمَة تقتضي ألاّ يُؤاخذ الإنْسَان إلا بما يَتَعَمَّد .
قال أهل السُّنَّة : أفعال الله- تعالى- غير معلَّلَةٍ برعاية المَصَالِحِ ، ومعنى كونه « حكيماً » : كونه عَالِماً بعواقِبِ الأمُور .
قال المعتزلة : هذا باطِلٌ؛ لأنه - تعالى- عطف الحَكيم على العَلِيم ، فَلَو كان الحَكِيم هو العَليم ، لكان عَطْفَاً للشَّيْء على نَفْسِه ، وهو مُحَالٌ .
الجواب : أن كل موضع في القُرْآن [ ورد فيه ] الحكِيم معْطُوفاً على العَلِيم- كان المُراد من الحَكِيم : كونه مُحْكَماً في الفِعْل ، فالإتقان ، والإحْكَام ، عائدٌ إلى كيفيَّة الفعلِ .
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
لما ذكر القتْل الخَطَأ ، ذكر بعده بيان حُكم قتل العَمْدِ ، وله أحكام مِثْل وُجُوب القِصَاص والديَّة ، وقد ذُكر في سُورة البَقَرة عند قوله- [ تعالى ] - { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } [ البقرة : 178 ] لا جرم اقْتَصَر هَهُنَا على بَيَان الإثْمِ والوَعِيد .
وقوله : « معتمداً » : حالٌ من فَاعِل « يقتل » ، وروي عن الكَسَائِيّ سكون التَّاء؛ كأنه فَرَّ من تَوالِي الحَرَكات ، و « خالداً نصْبٌ على الحَالِ من محْذُوف ، وفيه تقديران :
أحدهما : » يجزاها خالداً فيها « فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضَّمِير المَنْصُوب أو المَرْفُوع .
والثاني : » جازاه « ، بدليل { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } فعطفَ المَاضِي عليه ، فعلى هذا هي حَالٌ من الضَّمِير المنصوب لا غيرُ ، ولا يجُوزُ أن تكون حالاً من الهَاءِ في » جزاؤه « لوجهين :
أحدهما : أنه مُضَافٌ إليه ، [ ومَجِيْ الحَالِ من المُضَاف إليه ] ضعِيفٌ أو مُمْتَنع .
والثاني : أنه يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بين الحَالِ وصاحبها بأجْنَبِيٍّ ، وهو خبرُ المبتدأ الذي هو » جهنم « .
فصل : سبب نزول الآية
نَزَلَت [ هذه الآية ] في مقيس بن ضبابة الكِنْدِي ، وكان قد أسْلَم هو وأخُوه هِشَامٌ ، فوجد أخَاه هِشَاماً قَتِيلاً في بَنِي فهر إلى بَنِي النَّجَّار ، فأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له [ ذلك ] ، فأرسل رسُول الله صلى الله عليه وسلم معه رَجُلاً من بَنِي النَّجَّار؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمُرُكم إن عَلِمْتُم قاتل هِشَام بن ضبابة [ أن تدفَعُوه ] إلى مقيس فيقتصَّ منه ، وإن لم تَعْلَمُوه أن تَدْفَعُوا إليْه ديته ، فأبلغهم الفِهري ذلك : فَقَالوا : سمعاً وطاعَةً لله ولرسُولِه ، ما نَعْلَم له قَاتِلاً ولكنَّا نُؤدِّي ديته ، فأعطوه مِائة من الإبل ، ثم انْصَرَفَا راجِعَيْن إلى المّدِينَة ، فأتَى الشَّيْطَان مقيساً فوسْوَس إليه ، فقال : تقبل دِيَّة أخيك فَتَكُون عليك مَسَبَّة ، اقْتُل الذي ركب بَعِيراً منها وسَاقَ بقيَّتِها راجعاً إلى مَكَّة [ كَافِراً ] فنزل فيه : » ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها « بكفره وارتداده ، وهو الَّذِي استثْنَاه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يوم فَتْح مَكَّة عَمَّنْ أمَّنَهُ ، فَقُتِل وهو مُتَعَلِّق بأستار الكَعْبَة ، { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [ أي : طَرَدَهُ عن الرَّحْمَة ] { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } .
فصل : اختلاف العلماء في شبه العمد
قال القرطبي : ذكر الله- عز وجل- في كتابه العَمْد والخطأ ، ولم يذكر شِبْهَ العَمْد ، وقد اختلف العُلَمَاءِ في القَوْل به :
فقال ابن المُنْذِر : وأنكر ذَلِكَ مَالِك؛ وقال : ليس في كِتاِ الله إلا العِمْدَ والخَطَأ وذكره الخَطَّابي أيضاً عن مَالِك ، وزاد : أما شبه العَمْد فلا نَعْرِفُه .
قال أبو عمرو : أنكر مَالِك واللَّيْث بن سَعْد شبه العَمْد ، فمن قُتِلَ عِنْدَهُمَا بما لا يَقْتُل مثلُه غَالِباً؛ كالعضَّة واللَّطْمة ، وضرب السَّوْط ونحوه؛ فإنه عَمْد وفيه القَوَد ، قال : وهو قول جَمَاعَةٍ من الصَّحَابة والتَّابعين ، وذهب جُمْهُور فقهاءِ الأمْصَار إلى أن هذا كُلّه شبع العًمْد .
قال ابن المُنْذِر : شبْه العمد يُعْمَل به عِنْدَنا ، وممن أثبت شِبْه العَمْ الشَّعْبيُّ ، والحَكَم ، وحمَّاد ، والنَّخعِيُّ ، وقتادَةُ ، وسُفْيَان الثَّوْريُّ ، وأهل العِرَاقِ والشافعي وأحمد ، وذُكِرَ عن مالكٍ ، ورُوِيَ عن عُمَر بن الخَطَّاب ، وعن عَلِيّ بن أبي طَالِبٍ- رضي الله عنهم أجمعين- .
فصل فيمن تلزمه دية شبه العمد
أجَمعُوا على أن دِيَة العَمْد في مالِ الجَانِي ، ودية الخَطَأ على عاقِلَتِه ، واختلفُوا في دية شبه العَمْد :
فقال الحَارِث العُكْلِي ، وابن أبي لَيْلَى ، وابن شُبْرُمة ، وقتادة ، وأبو ثَوْر [ هي ] في مال الجَانِي .
وقال الشَّعْبي ، والنَّخْعِيّ ، والحَكَم ، والشَّافِعِيّ ، والثَّوْرِيّ ، ومحمد ، وأحْمَد ، وإسْحق ، وأصحاب الرَّأي : [ هي ] على العاقلة .
قال ابن المُنْذِر : وهو الصَّحِيحُ : لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الجَنِين على عاقِلة الضَّارِبَة .
فصل
اخْتَلَفُوا في حُكْم هذه الآية :
[ فَرُوِي ] عن ابن عبَّاس أن قاتِل المرمن عَمْداً لا توبةَ لَهُ ، فقيل له : أليْس قد قال الله - تعالى- في سورة الفُرْقَان : { وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ } [ الفرقان : 68- 70 ] فقال : كانت هذه الآيةُ في الجاهِليَّة وذلك أن أناساً من أهْل الشِّرْك [ كانوا ] قد قَتَلُوا وزَنوا ، فأتَوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الذي تدعُو إليه لَحَسنٌ ، لو تخبرنا أنَّ لما عَلِمْنَا كَفَّارَة ، فنزلت : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ، إلى قوله { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ } [ الفرقان : 70 ] فهذه لأولَئِك ، وأما الَّتي في النِّسَاء؛ فالرَّجل الذي إذا عرف الإسْلام وشرائِعَه ، ثم قتل مُسْلماً متعمداً فجزاَؤُه جَهَنَّم .
وقال زيْد بن ثابت : لما نزلت الآيةُ التي في الفُرْقَان { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] ، عجبنا من لينها ، فلبثْنَا سبْعَة أشْهر ثم نزلت الغَلِيظَة بعد اللَّيِّنَة ، [ فنزلت ] فَنَسَخَتْ الليِّنة ، وأراد بالغَلِيِظَة هذه الآية ، وبالَّيِّنَة أية الفُرقان .
وقال ابن عبَّاسٍ : تلك آية مكِّيَّة ، وهذه مَدَنيِّة نزلت ولم يَنْسَخْهَا شيء .
وذهب أهل السُّنَّة إلى أن قَاتِل المُسْلِم عَمْداً توبته مَقْبُولة؛ لقوله - تعالى- { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً } [ طه : 82 ] ، وقال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] ، وما رُوي عن ابن عبَّاسٍ؛ فهو تَشديد ومُبَالغَة في الزَّجْرِ عن القَتْلِ ، وليس في الآيَة متعلِّق لمن يَقُول بالتَّخْليد في النَّار بارتكاب الكبائر؛ لأن الآية نزلَتْ في قَاتِل [ وهو ] كَافِرٌ ، وهو مقيس بن صبابة ، وقيل : إنَّه وعيد لمن قَتَل كافراً مُخَلّداً في النَّارِ .
حكي أنَّ عمرو بن عُبَيْد جاء إلى عمرو بن العَلاءِ ، فقال : هل يُخْلِف الله وعده؟ فقال : لا ، فقال : ألَيْسَ قد قال- تعالى- : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } فقال أبو عَمْرو : من العَجَم أتَيْت يا أبا عُثْمان : إن العرب لا تَعُدُّ الإخلاف في الوعيد خُلْفاً وذمَّا وإنَّما تَعُدُّ إخلاف الوَعْد خُلْفاً ، وأنشد [ شعراً ] : [ الطويل ]
1864- وأنَّي مَتَى أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدي
والدَّليل على أن غير الشِّرْك لا يُوجِب التَّخْلِيد في النَّارِ ، قوله عليه الصلاة والسلام « مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شَيْئاً ، دخل الجنة » وروي [ عن ] عبادة بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه-؛ « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَيْلَة العَقَبَة - وحوله عِصَابة من أصْحَابِه- : » بايِعُوني على ألاَّ تُشْرِكُوا بالله شَيئاً ، ولا تَسْرِقُوا ولا تَزْنُوا ، ولا تَقْتُلُوا أوْلادكم ، ولا تأتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونه بين أيْدِيكُم وأرْجُلِكُم ، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ ، فَمَنْ وفَّى مِنْكُم ، فأجْرُه على الله ، ومن أصابَ من ذَلِكَ [ شيئاً ] فعُوقِبَ في الدُّنْيَا ، فهو كَفَّارة له ، ومن أصَابَ من ذَلِكَ شَيْئاً ثم سَتَرهُ الله عَلَيْه ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عَاقَبَه « فبايَعْنَاه على ذَلِكَ .
وذكر الوَاحِدِي : أن الأصْحَاب سلكوا في الجَوَابِ عن هَذِه الآيَة طُرُقاً كَثِيرة ، قال : وأنَا لا أرْتَضِي شَيْئاً منها؛ لأنّ الذي ذَكَرُوا إما تَخْصِيصٌ ، وإما معَارَضَة ، وإما إضْمار ، واللَّفظ لا يَدُلُّ على شيء من ذَلِك ، قال : والَّذي اعْتَمَدُوه وجهان :
الأول : إجْماع المفسِّرين على أن الآيَة نزلت في كَافِرٍ قتل مُؤْمِناً ، ثم ذكر تِلْك القِصَّة .
والثاني : أن قوله : { فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ } معناه الاسْتِقْبَال ، والتقدير : إنه سيجزى بجهنم ، وهذا وعيد ، قال : وخُلْفُ الوَعِيد كَرَم .
قال ابن الخَطِيب : والوَجْه ضعيفٌ؛ لأن العِبْرة بعُمومِ اللَّفْظ لا بخصوص السَّبَبِ ، وأيضاً ثَبَتَ في أصُول الفِقْهِ؛ أن [ ترتيب ] الحُكْم على الوَصْفِ المُنِاسِب ، يدلُّ على كَوْن ذلك الحُكْم علَِّة لذلِك؛ كقوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، و { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } [ النور : 2 ] ، دلَّ ذَلِك على أن المُوجِبَ لهذا الوَعِيد هو الكُفْر دون القَتْلِ العَمْد ، وإن كَان المُوجبُ هو الكُفْر ، وكان الكُفْر حَاصِلاً قبل هذا القَتْل ، فحينئذ لا يَكُون للقَتْل أثراً ألْبَتَّة في هذا الوَعِيد ، ويكُون هذا الكلام جَارياً مُجْرَى قوله من [ يتعمد قَتْل ] نفس فجزاؤه جَهَنم خَالِداً فيها؛ لأن القَتْل العَمْد ما لم يكُن له أثر في الوَعِيد ، وذلك بَاطِل ، وإن كان المُوجِب لهذا الوعيد [ كونه ] قَتْلاً عَمْداً ، فلزم أن يُقَال : أيْنَمَا حصل القَتْل العَمْد ، حصل هذا الوعيد؛ فثبت أن هذا الوَجْه الذش ارتَضَاه الوَاحِدِيّ ليس بِشَيْء .
وأما الوحه الثاني : فهو في غَايَة الفَسَادِ؛ لأن الوعيدَ قَسْمٌ من أقْسَام الخَبَر ، فإذا جَوَّزْنا الخُلْف فيه على الله ، فقد جَوَّزْنا الكَذِب على الله -تعالى- يوصِلُ هذا الجَزَاءَ إلَيْه أم لا ، وقد يقُول الرَّجُل لعَبْدِه : جزاؤُكَ أن أفْعَلَ بك كَذَا وكَذَا ، إلا أنِّي لا أفعَلُ ، وهذا الجوابُ أيضاً ضَعِيفٌ ، لأنَّه ثبت بهذه الآيةِ أن جزاء القَتْل العَمْد هو ما ذُكِر ، وثبت بسَائر الآيَاتِ أنه -تعالى- يوصل الجَزَاء إلى المسَحِقِّين؛ قال -تعالى- :
{ مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، وقال : { وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 8 ] .
قال ابن الخطيب : واعلم أنّا نَقُول [ أن ] هذه الآيَة مَخْصُوصة في مَوْضِعَيْن :
أحدهما : أن يكون القَتْل [ العَمْد ] غير عُدْوان؛ كما في القِصَاص ، فإنه لا يَحْصُل فيه هذا الوعِيد ألْبَتَّة .
والثاني : القتل العَمْد العثدْوَان إذا تَاب عنه لا يَحْصُل فيه هذا الوعيد ، وإذا ثبت دُخُول التَّخْصِيص فيه في هاتني الصُّورتَيْن فيدخُلُه التَّخْصيص فيما إذا حَصَل العفو فيه؛ بدليل قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
لما نهى عن قتل المُؤمِن ، أمر المُجَاهِدِين بالتَّثَبُّت في القتل؛ لئلاَّ يسْفَكُوا دماً حَرَاماً بتأويل ضَعِيفٍ ، والَّرْب في الأرْض مَعْنَاه : السَّيْر فيها بالسَّفر للتِّجَارة والجِهَاد ، وأصْله من الضَّرْب باليَدِ ، وهو كِنَايَة عن الإسْرَاع في السَّيْر ، فإن من ضَرَب إنْساناً ، كانت حَرَكة يَدِهِ عند ذلك الضَّرْب سَرِيعَة .
قال الزَّجَّاج : معنى « ضربتم في سبيل الله » : إذا غَزَوْتُم وسِرْتُم إلى الجِهَاد .
قال القُرْطُبي : تقول العَرَب : ضَرَبْتُ في الأرْضِ ، إذا سِرْتَ لِتِجَارَةٍ أو غزوٍ أو غيره مُقْتَرِنَة بفي ، وتقول : ضَرَبْت الأرْض دون « في » إذا قَصَدْت قَضَاء حَاجَة الإنْسَان؛ ومنه قوله - عليه الصلاة والسلام- : « لا يَخْرُجُ الرَّجُلان يضربان الغَائِطَ يتحدَّثَان ، كَاشِفين عن فَرْجَيْهما ، فإن الله يَمْقُتُ على » ذَلِكَ « وفي » إذا « مَعْنَى الشَّرْط ، فلذلك دَخَلَت الفَاءُ في قوله : » فتبينوا « وقد يُجَازى بها كقوله : [ الكامل ] .
1865أ- ... وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ
والجيِّد ألا يُجَازى بها لقول الشَّاعر : [ الكامل ]
1865ب- والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
قوله : » فتبينوا « : قرأ الأخوان من التَّثبُّت ، والباقُون من البَيَان ، هما متقاربان؛ لأن مَنْ تَثبت في الشَّيْء تَبَيَّنه ، قاله أبو عبيد ، وصحَّحه ابن عطيَّة .
وقال الفَارِسيّ : » التثبُّت هو خَلاَف الإقْدَام والمُراد التَّأنِّي ، والتَّثَبُّت أشد اخْتِصَاصاً بهذا المَوْضِع؛ بدل عليه قوله : { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [ النساء : 66 ] أي : أشدٌّ وَقْعَاً لهم عَمَّا وُعِظُوا به بألاَّ يُقْدِمُوا عليه « فاختار قراءة الأخوين .
وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة ، قالوا : لأن المتثبِّت قد لا يَتَبيَّن ، وقال الرَّاغب : لأنه قلَّ ما يكون إلا بَعْدَ تثبُّت ، وقد يَكُون التَّثبُّت ولا تبيُّنَ ، وقد قُوبِل بالعَجَلَة في قوله- عليه الصلاة والسلام- : » التبيُّن من الله والعَجَلُة من الشيطان « وهذا يُقَوِّي قراءة الأخَوَيْن أيضاً ، و » تَفَعَّل : في كلتا القراءتين بمعنى الدال على الطَّلب ، أي : اطلبوا التثّبُّت أو البيان .
وقوله : « لمن ألقى » اللام للتَّبْلِيغ هنا ، و « من » مَوْصُولة أو مَوْصُوفة ، و « ألقى » هنا ماضي اللَّفْظِ ، إلا أنه بمعنى المُسْتقبل ، أي : لمن يُلْقَى ، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عمّا وقع وانْقَضَى ، والمَاضِي إذا وقع صِلَة ، صَلح للمُضِيِّ والاسْتِقْبَال .
وقرأ نافع وابن عَامِر وحَمْزة : « السَّلَم » بفتح السِّين واللام من غير ألف ، وباقي السَّبْعَة : « السَّلام » بألف ، ورُوي عن عَاصِمٍ : « السَّلْم » بكسر السِّين وسكون اللام ، فأما « السَّلام » فالظَّاهِر أنه التَّحيّة .
والمعنى : لا تُقُولوا لمن حَيَّاكم بهذه التَّحِيّة إنه إنَّما قَالَها تَعَوُّذَاً فتُقْدِمُوا عليه بالسَّيْف لتأخذوا مَالَه ، ولكن كُفُّوا عَنْهُ ، واقْبَلُوا منه ما أظْهَرَهُ .
وقيل : مَعْنَاه : الاستسْلام والانْقِياد ، والمعنى : لا تَقُولوا لمن اعْتَزَلَكُم ولم يقاتلكم : لَسْتَ مُؤمِناً ، وأصْل هذا من السَّلامة؛ لأن المعتزل عن النَّاس طالبٌ للسَّلامة .
والسّلامةُ والسَّلَمُ - بفتحهما- الانقِيَاد فقط ، وكذا « السَّلْم » بالكسر والسُّكُون ، وقرأ الجَحْدري بفتحها وسُكُون اللام ، وقد تَقَدَّم [ القول فيها ] في البقرة ، والجُمْلَة من قوله : « لست مؤمناً » في محل نَصْب بالقَوْل؛ والجُمْهُور على كَسْر الميم الثَّانِية من « مؤمناً » اسم فاعل ، وأبو جعفر بفتحها اسم مَفْعُول ، أي : لا نُؤمِّنك في نَفْسِك ، وتُرْوَى هذه القِرَاءَة عن عَلِيٍّ وابن عبَّاس ويَحْيَى بن يَعْمُر .
قوله : « تبتغون » في محل نَصْبٍ على الحَالِ من فَاعِل « يقولوا » أي : لا تَقُولوا ذلك مُبْتَعِين .
فصل
ذَكُروا في سَبَب النُّزُول روايتين :
الأولى : أن الآية نزلت في « رجُلٍ من بَنِي مُرَّة بن عَوْف ، يقال له : مرداس بن نهيك رَجُل من أهْل فدك ، أسْلَم ولم يُسْلِم من قومِهِ غيره ، فَسَمِعُوا [ بسرية ] رسول الله صلى الله عليه وسلم تُريدهم ، وكان على السَّريَّة رجُلٌ يقال له : غَالِبُ بن فَضَالَة اللَّيْثي ، فهربوا وأقَام الرَّجُل؛ لأنَّه كان مُسْلِماً ، فلما رأى الخيل خَافَ أن يكُونُوا من غَيْر أصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ فألْجأ غَنَمَه إلى عاقُول من الجَبَل وصعد هو الجبل ، فلمَّا تلاحَقُوا وكثروا ، سَمِعَهُم يكَبِّرون ، فلما سمع التكبير ، عَرَف أنهم من أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم فكَبَّر ونَزَل ] وهو يقول : لا إله إلا الله [ محمد رسُول الله ] ، السلام عليكم ، فتغشّاه أسَامةُ بن زيْدٍ فَقَتَلَهُ واسْتاق غَنَمه ، ثم رَجَعُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فوجَدَ عليه وَجْداً شديداً ، وقد [ كان ] سَبَقَهُم قبل ذلك الخَبَر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » قتلتموه إرادة ما معه؟ « ثم قرأ الآية على أُسَامَة بن زَيْد ، فقال : يا رسول الله ، اسْتَغْفِرْ لي ، فقال : فكيف تَصْنَعُ بلا إله إلا الله؟
قال أسامة : فما زال يُعِيدُها حتى وَدِدْت أنِّي لم أكُنْ أسْلَمت إلاّ يَومْئذٍ ، ثم استَغْفَر لي وقال : » أعتق رقبة « .
ورَوَى أبو ظبيان عن أسَامة؛ قال : قلت يا رسُول اللهِ؛ إنما قَالَها خوْفاً من السِّلاح ، قال : » أفَلا شَقَقْتَ عن قَلْبِه ، حَتَّى تَعْلَم أقالَهَا أمْ لا « .
الثانية : روى عِكْرمة عن ابن عبَّاسٍ؛ قال : مرَّ رجلٌ من بَنِي سليم على نَفَرٍ من أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه غَنَمٌ له فسلَّم عليهم ، قالوا : ما سلَّم عليكم إلا ليتعوذ مِنْكُم ، فقاموا فقتلُوه وأخَذُوا غَنَمَه ، فأتَوْا بها إلى رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّهُ هَذِه الآيَة :
الثالثة : » أن المِقْدَاد بن الأسْوَد وقعت له وَاقِعَة مثل وَاقِعَة أُسَامة ، قال : فقلت يا رسول اللَّه ، أرأيت إن لَقِيتُ رجُلاً من الكُفَّار يقاتِلُنِي ، فَضَربَ إحْدَى يَدَيَّ بالسَّيْف ، ثم لازمني بشجرةٍ ، ثم قال : أسْلَمْتُ لله -تعالى- ، أفأقاتِلُه يا رسُول الله بَعْد ذَلِك؟ فقال رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم : لا تَقْتُلْهُ ، فقال : يا رسُول الله إنه قَطَعَ يَدِي ، فقال -عليه الصلاة والسلام- : لا تَقَتْلُه ، فإن قَتَلْتَهُ ، فإنه بمنزِلَتِك بعد أن تَقْتُلَهُ ، وأنت بِمَنْزِلَِتِه قبل أن يَقُول كَلِمَتَهُ التي قَالَها « .
فصل
قال أكثر الفُقَهاء : لو قال اليَهُودِي والنَّصْرَاني : أنا مُؤمِنٌ أو أنا مُسْلِمٌ ، لا يحكم بإسلامهِ بهذا القَدْرِ ، لأن مَذْهَبَه أن الَّذِي هو عليه هو الإسْلام وهو الإيمانِ ، ولو قال : لا إله إلا اللَّه محمَّدٌ رسُول الله ، فعِنْد قوم [ لا يحكَمُ بإسلامهِ ] ؛ لأن فيهم من يَقُول : إنه رسُولُ الله إلى العَرَب لا إلى الكُلِّ ، وفيهم من يَقُول : إنَّ محمَّداً الذي هو الرسُول الحَقُّ لم يجىء بَعْدُ وسيجيء بَعْد ذَلِك؛ بل لا بُد بأن يعْتَرِف بأنَّ الَّذِي كان عَلَيْه بَاطِلٌ ، وأن الدِّين الموْجُود بين المُسْلِمِين هو الحَقُّ والفَرْضُ .
قال أبُو عبيدة جميع متاع الدُّنْيَا عَرَضٌ بفتح الرَّاء ، يقال : إن الدُّنْيَا عَرَضٌ حاضر يأخُذُ منها البَرُّ والفَاجِرُ ، والعَرْض بسُكُون الرَّاءِ ما سِوَى الدَّرَاهِم والدَّنَانِير ، وإنما سُمي مَتَاعُ الدُّنْيا عَرَضاً؛ لقلة لَبْثهِ .
قوله -تعالى- : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } يعني : ثواباً كثيراً ، وقيل : مغانم كثيرة لِمَنِ اتَّقى قَتْلَ المُؤمِن ، والمَغَانِم : جمع مَغْنَم ، وهو يصلح للمَصْدَر والزَّمَان والمَكَان ، ثم يُطْلَق على ما يُؤخَذُ من مال العَدُوِّ في الغَزْوِ؛ إطلاقاً للمَصْدَر على اسْمِ المَفْعُول ، نحو : « ضَرْب الأمِير » .
قوله : « كذلك » هذا خبر ل « كان » قُدِّم عليها وعَلَى اسْمِها ، أي : كُنتم من قَبْل الإسْلام مثلَ مَنْ أقْدَمَ ولم يَتَثَبَّتْ ، وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المُخَاطبين بأولَئِك الَّذِين ألْقوا السَّلم ، وليس فيه بَيَانٌ للمُشَبَّه فيما إذا قِيلَ : المُرَادُ أنكم أوَّل ما دَخَلْتُم في الإسْلام ، فبمجرّد ما سُمعَتْ من أفْواهِكم كَلِمة الشَّهَادة ، حقنت دماؤكم وأمْوالُكُم من غير تَوقِيفٍ ذلك على حُصُول العِلْمِ بأن قَلْبكُم موافِقٌ لما في ضمائِركم فعليكُم بأن تَفْعَلُوا بالدَّاخلين في الإسْلامِ كمَا فُعِل بكم ، وأن تَعْتَبروا ظَاهِر القَوْل ، وألاَّ تقولوا إن إقْدامَهُم على الإسلام لأجْلِ الخَوْف من السَّيف ، هذا إخْبَار أكثر المُفسِّرين ، وفيه إشْكَالٌ؛ لأن لهم أن يَقُولوا : ما كان إيمانُنَا مثل إيمان هَؤلاء؛ لأنا آمَنَّا عن الطواعِيَة والاخْتِيَار ، وهؤلاء أظْهَرُوا الإيمَان تحت ظلال السُّيُوف ، فكيف يُمْكِن تشبيه أحَدهما بالآخر! .
قال سعيد بن جُبَيْر : المُرَاد أنكم كُنْتُم تكْتُمون إيمانَكُم عن قَوْمِكم؛ كما أخْفَى هذا الدَّاعِي إيمانَهُ عن قومه ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكُم بإعْزَازكم حتى أظْهَرْتُم دينكم ، فأنتُم عامِلُوهم بمثل هذه المُعَامَلَة ، وهذا أيضاً فيه إشْكَالٌ؛ لأن إخْفَاء الإيمَانِ ما كان عامّاً فيهم .
قال مُقاتل : المراد كذلك كُنْتُم من قبل الهِجْرَة حين كُنْتُم فيما بين الكُفَّار ، تأمَنُون من أصْحَاب رسُول الله بكَلِمَة « لا إله إلا الله » فأقْبَلُوا منهم مثل ذلِك .
وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول . [ قال ابن الخطيب ] والأقْرَبُ أن يُقَال : إنَّ من يَنْتَقِل من دينٍ إلى دينٍ ، فَفِي أول الأمْر يَحْدُث ميلٌ قليل بسبب ضعيفٍ ، ثم لا يَزَال ذلك المَيْل يتأكد ويتَقَوَّى إلى أن يَكْمُل ويستحكم ويَحْصُل الانْتِقَال؛ فكأنه قيل لهم : كُنْتم في أول الأمْرِ إنما حَدَث فِيكُم ميلٌ ضعيف بأسْبَابٍ ضعيفةٍ إلى الإسْلام ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكُم بالإسْلام بتَقْوِيَة ذلك المَيْل وتأكِيد النَّفْرة عن الكُفْر؛ فكذلك منهم هذا الإيمَان ، فإن الله -تعالى- يؤكد حلاوة الإيمَانِ في قُلُوبهم ، ويقوِّي تلك الرَّغْبَة في صُدُورهم .
قوله -تعالى- : { قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } الظَّاهِر أن هذه الجُمْلَة من تَتِمَّة قوله : « كذلك كنتم من قبل » فهي مَعْطُوفة على الجُمْلَة قَبْلَها ، والمعنى : إيمانُكُم كان مِثْل إيمانِهِم ، في أنَّه إنَّما عرف منكم بِمُجَرَّد القَوْل اللِّسَاني ، دون ما في القلب ، أو [ في ] أنه كان في ابْتِدَاء الأمْرِ حاصلاً بِسَببٍ ضَعِيفٍ ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكم : حيث قوى نُورَ الإيمَانِ في قُلُوبِكُم ، وحَبَّبَه لكم وأثابكم عَلَى العَمَل بِهِ .
وقلي : بل هي من تَتِمَّة قوله : « تبتغون » عَرَض الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وذلك لأنَّ القَوْم لما قَتَلُوا من تكَلَّم بلا إله إلا الله ، ثم إنَّه -تعالى- نهاهُم عن هذا الفِعْل وبيَّن أنه من العَزَائِم؛ قال بَعْدَه : « فمن الله عليكم » أي : منَّ عليكم بأن قَبِل تَوْبَتَكُم من ذَلِك الفعْلِ المنكَر ، ثم أعَاد الأمْر بالتَّبْيين؛ مبالَغَة في التَّحْذِير ، فقال : « فتبينوا » قُرِئت كالتي قَبْلَها ، فقيل : هي تأكيد لَفْظِي للأولى .
وقيل : ليست للتأكيد؛ لاخْتِلاَف متعلّقهما ، فإنَّ تقدير الأوّل : « فتبيَّنوا في أمْر مَنْ تَقْتُلُونَه » ، وتقدير الثَّانِي : فتبينوا نِعْمَة الله أو تثبَّتوا فيها ، والسِّيَاقُ يدل على ذلك ، ولأنَّ الأصل عدم التأكيد .
قوله : « إن الله كان بما تعملون خبيراً » والجُمْهُور على كَسْرِ هَمْزة « إن الله » ، وقرئ بفَتْحها على أنَّها معمُولة ل « تبينوا » ، أو على حذْف لاَم العِلَّةِ ، وإن كان قد قُرِئ بالفَتْح مع التَثَبُّت ، فيكونُ على لام العِلَّة لا غير .
والمُرادُ منه : الوَعِيد والزَّجْر عن إظْهَار خلافِ ما في الضَّمِير .
فصل : فيما إذا دخل الغزاة بلداً ووجدوا شعار الإسلام
إذا رأى الغُزَاةُ في بلد أو قرية شعارَ الإسلام ، فعليهم أن يَكُفُّوا عنهم ، فإنّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كان إذا غَزَا قوماً ، فإن سَمِع أذاناً كفّ عنهم ، وإن لم يَسْمَع ، أغار عليهم .
وَروي عن ابن عِصَام عن أبيه؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بَعَثَ سرِيّةً قال : « إذا رَأيْتُم مسْجِداً أو سَمِعْتُم أذاناً ، فلا تَقْتُلُوا أحداً » .
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
كما رَغَّبَ في الجِهَادِ ، أتْبَعَ ذلِك ببَيَانِ أحْكَام الجِهَاد ، ومن أحْكَامه : التَّحْذِير عن قَتْل المُسْلِمِين على سبيل العَمْدِ والخَطَأ وعلى تأويل الخَطَأ ، ثم أتْبَعَهَ بحُكْم آخر؛ وهو بَيان فَضْل المُجَاهِد على غَيْرِه .
وقيل : لما عاتبهم على قَتْل المتكَلِّم بالشَّهادة ، فلعَلَّه وَقَعَ في قُلُوبهم أن الأوْلى الاحْتِرَاز عن الجِهَادِ؛ للوقوع في مِثْل هذا المَحْذُورِ فذكر عَقِبه فَضْل المُجَاهد على غَيْره؛ إزالَة لهذه الشُّبْهَة .
قوله « غير أولي الضرر » قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو وحَمْزَة وعَاصِم : « غير » بالرفع ، والباقون : بالنَّصْب ، والأعْمَش : بالجرِّ .
والرَّفع على وجهَيْن :
أظهرهما : أنه على البَدَل من « القاعدون » وإنما كان هذا أظْهَر؛ لأن الكَلاَم نفي ، والبدلُ معه أرْجَحُ؛ لما قُرِّر في علم النَّحْو .
والثاني : أنه رَفْعٌ على الصِّفَة ل « القاعدون » ، ولا بد من تأويل ذلك؛ لأن « غير » لا تتعَرَّفُ بالإضَافَة ، ولا يَجُوز اختِلاَفُ النَّعت والمَنْعُوت تعريفاً وتنكيراً ، وتأويله : إمَّا بأن القاعِدِين لَمَّا لم يَكُونوا نَاساً بأعْيَانِهِم ، بل أُرِيد بهم الجَنْسُ ، أشْبَهوا النَّكِرة فَوُصِفوا كما تُوصَف ، وإمَّا بأن « غير » قد تَتَعَرَّف إذا وقَعَت بين ضِدَّين ، وهذا كما تَقَدَّم في إعْرَاب { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] في أحَد الأوْجُه ، وهذا كلُّه خُرُوج عن الأصُول المقرَّرة ، فلذلك اخْتِير الأوّل؛ ومثله : [ الرمل ]
1866- وَإذا أقْرِضْتَ قَرْضَاً فَاجْزِهِ ... إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجَمَلْ
برفع « غير » كذا ذكره أبو عَلِيّ ، والرِّوَاية : « لَيْسَ الجَمَلْ » عند غَيْره .
وقال الزَّجَّاج : ويجُوزُ أن يكُون « غير » رفعاً على جِهَة الاستِثْنَاءِ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون من المُؤمنين والمُجَاهِدُون ، إلا أولي الضَّرَر فإنَّهم يساوون المُجَاهِدِين ، أي : الذين أقعدهم عن الجِهَاد الضَّرر ، والكَلامُ في رفع المُسْتَثْنَى بعد النفي قد تقدم عِند قوله : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] .
والنَّصْب على [ أحد ] ثلاثة أوْجُه :
[ الأوّل ] : النَّصْبُ على الاستِثْنَاء من « القاعدون » [ وهو الأظهر؛ لأنه المحدَّثُ عَنْهُ ، والمعنى : لا يَسْتَوِي القَاعِدُون ] إلا أولِي الضَّرَر ، وهو اخْتِيَار الأخْفَش .
والثاني : من « المؤمنين » وليس بِوَاضِح .
والثالث : على الحَالَ من « القاعدون » [ والمعنى : لا يستوي القاعدون ] في حَالِ صِحَّتهم والمُجَاهِدون؛ كما يُقَال : جاءَني زيد غير مَرِيضٍ ، أيك جاءني زَيْد صَحِيحاً ، قاله الزَّجَّاج والفراَّء؛ وهو كقوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد } [ المائدة : 1 ] .
والجرُّ على الصفَة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة .
قال الأخْفَش القراءة بالنَّصْب على الاستثنَاء أوْلَى؛ لأن المَقْصُود منه استِثْنَاء قوم لم يَقْدرُوا على الخُروج؛ كما روي في التَّفْسير أنه لما ذكر الله -تعالى- فضيلة المُجَاهِدِين ، جاء قَوْمٌ من أولي الضرر ، فقالوا للنَّبي صلى الله عليه وسلم : حالتنا كما تَرَى ، ونحن نَشْتَهِي الجَهِاد ، فهل لنا من طَرِيقٍ؟ فنزل { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } فاستثناهم الله -تعالى- .
وقال آخرون : القِرَاءة بالرَّفع أولى؛ لأن الأصْل في كلمة « غَيْر » أن تكون صفة ، كانت القراءة بالرَّفْع أوْلَى . فالضَّرر النُّقْصَان ، سواء كان بالعَمَى أو العَرَج أو المَرَض ، أو بسبب عَدَمِ الأهْبَة .
فصل
روى ابن شهاب عن سَهْل بن سعد السَّاعِدِي -رضي الله عنه-؛ أنه قال : « رأيتُ مَرْوَان بن الحكم جَالِساً في المَسْجِد ، فأقَبْلت حَتَّى جلست إلى جَنْبِه ، فأخبرنا أن زَيْد بن ثَابتٍ -رضي الله عنه- أخبره؛ أن رسُول الله صلى الله عليه وسلم أملَى عَلَيه » لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله « ، قال : فجاء ابنُ أمِّ مَكْتُوم وهو يُمْلِيها عليَّ ، فقال : يا رسُول الله ، لو أستطيعُ الجِهَاد لجَاهَدتُ ، وكان رجلاً أعْمَى ، فأنزل الله -تعالى- عليه وفخذُهُ على فَخْذِي ، فثقلتْ عليّ حَتَّى خشفْتُ أن ترضَّ فَخذِي ، ثم سري عنه » ، فأنزل الله : « غير أولي الضرر » في فضل الجهاد والحثِّ عليه .
روى أنس -رضي الله عنه-؛ « أنَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رَجَع من غَزْوَة تَبُوك ، فَدَنَا من المَدِينَة فقال : » إن في المَدِينَة لأقْوَاماً ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قَطَعْتُم من وَادٍ وإلا كَانُوا مَعَكُم فيه ، قالوا : يَا رسُول الله وَهُم بالمَدِينَة؟ قال : نعم وهم بالمدينة حبَسهم العذر « ، وروى مقسم عن ابْن عبَّاس؛ قال : » لا يستوي القاعدون من المؤمنين « عن بَدْر ، والخَارِجُون إلى بدر .
وقوله : » في سبيل الله بأموالكم « كلا الجارَّيْن متعلِّق ب » المُجَاهِدُون « و » المُجَاهِدُون « عَطْف على القَاعِدُون .
فصل
اخْتَلَفُوا في هذه الآية : هل تَدُلُّ على أن المُؤمنين القَاعِدِين الضْراء ، يُسَاوُون المجاهدين أم لا؟ .
قال بعضهم : لا تدل؛ لأنا إن حملنا لفظ » غَيْر « على الصفَة ، وقلنا : [ إن ] التَّخْصِيص باصِّفَة لا يدل على نَفْي الحُكْم عمّا عَدَاه ، لم يلزم ذلك ، وإن حَمَلْنَاه على الاستِثْنَاء ، وقلنا : [ إن ] الاستثناء من النَّفي ليس بإثْبَات ، لم يلزم ذلك ، أمَّا إذا حَمَلْنَاه على الاستثناء وقلنا : الاستثناء من النَّفْي إثبات ، لزم القَوْل بالمُسَاوَاة .
واعلم أن هذه المُسَاواة في حق الأضْرَاء ، عند من يَقُول بها مَشْرُوطة بشَرْط آخر ذكره الله -تعالى- في سُورة التَّوْبة ، وهو قوله : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى } [ التوبة : 91 ] إلى قوله : { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] ، ويدل على المُسَاواة ما تقدَّم في حَدِيث غزوة تَبُوكٍ .
وتقرير ذلك قوله عليه الصلاة والسلام : » إن بالمدِينَةِ قَوْماً ما سلكتُم وادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم « ، وقال عليه السلام : » إذا مَرِضًَ العَبْدُ قال الله -تعالى- : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ « .
وقال المُفَسَِّرون في قوله -تعالى- :
{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] ؛ أن من صَار هرماً ، كتب له أجْر عمله قبل هرمه غير مَنْقُوص ، وقالوا في تَفْسِير قوله -عليه الصلاة والسلام- « نِيَّة المُؤْمَن خَيْرٌ من أجْر عَمَلِهِ » إن المُؤْمِن يَنْوِي الإيمان والعمل الصَّالح ، لو عاش لهذا لا يحصَّل له ثواب تلك النِّيَّة أبداً .
قوله -تعالى- : { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } لما بيَّن [ تعالى ] أن المُجاهدين والقاعِدين لا يَسْتَويان ، ثم إن عَدَم الاسْتِوَاء يَحْتَمل الزِّيَادة والنُّقْصَان ، لا جرم بَيَّنَه الله -تعالى- .
قوله : « درجةً » في نصبه أربعة [ أوْجُه : ]
أحدها : أنها مَنْصُوبة على المَصْدر؛ لوقوع « درجة » موقع المَرَّة من التَّفْضِيل؛ كأنه قيل : فَضَّلهم تَفْيلة ، نحو : « ضَرَبْتُه سَوْطاً » وفائدة التنكير التَّفْخِيم .
الثاني : أنها حَالٌ من « المُجَاهِدِين » أي : ذوي درجة .
الثالث : مَنْصُوبة انتصابَ الظَّرْف ، أي : في دَرَجَةٍ ومَنْزِلة .
الرابع : انْتِصَابها على إسْقَاط الجَارِّ أي : بِدَرَجة .
فلما حُذِف الجَارُّ ، وَصَل الفِعْل فعَمِل ، وقيل : نُصِب على التَّمْيييز .
قوله : « وكلاًّ وعد الله الحسنى » « كلاًّ » مَفْعُول أول ل « وَعَد » مُقَدماً عليه ، و « الحُسْنَى » مفعول ثان ، وقرئ : « وكُلٌّ » على الرَّفْع بالابتداء ، والجُمْلَة بعده خبره ، وتالعَائشد مَحْذُوف ، أي : وعده؛ وهذه كَقِرَاءة ابن عامر في سورة الحديد : { وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى } [ الحديد : 10 ] .
والمعنى : كلاًّ من القاعِدِين والمُجاهِدِين ، فقد وَعَدَه الله الحُسْنَى .
قال الفُقَهِاء : وهذا يَدُلُّ على أن الجِهَاد فرض كِفَايَةٍ ، وليس على كُلِّ واحدٍ بِعَيْنِه؛ لأنه -تعالى- وعد القاعِدِين الحُسْنَى كما وعَد المُجَاهِدِين ، ولو كان الجِهَادُ واجِباً على كلِّ أحدٍ على التَّعْيين ، لما كان القَاعِدُ أهْلاً لوعد الله إيَّاه الحُسْنَى .
وقيل : أراد ب « القَاعِدِين » هنا : أولِي الضَّرَر ، فضَّل الله المُجَاهشدِين عليهم دَرَجَة؛ لأن المُجَاهِد باشَر الجِهَاد مع النِّيَّة ، وأولُوا الضَّرر لهم نِيَّة بلا مُبَاشَرة ، فنزلوا عَنْهُم درجَة وعلى هذا نزول الدَّلالة .
قوله -تعالى- : { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } في انتصاب « أجراً » أربعة أوجُه :
أحدها : النَّصْب على المَصْدَر من مَعْنَى الفِعْل الذي قَبْلَه لا من لَفْظَه؛ لأن مَعْنَى « فَضَّلَ الله » : آجرَ؛ فهو كقوله : أطْرُهُم أجْرٌ ، ثم قوله -تعالى- : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ [ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } بدل من قوله : « أجْراً » .
الثاني : أنه انْتَصَب على إسْقَاط الخافِضِ ، أي : فضلهم بأجْر .
الثالث : النَّصْب على أنَّه مَفْعُول ثاني؛ لأنه ضَمَّن فضَّل معنى أعْطَى ، أي : أعْطَاهُم أجراً تفضلاً مِنْه .
الرابع : أنه حالٌ من درجات ] .
قال الزمخشري : « وانتصب » أجْراً « على الحَالِ من النّكرة التي هي » دَرَجَاتٍ « مقدَّمةًعليها » وهو غير ظَاهِر؛ لأنه لو تأخَّر عن « دَرَجَاتٍ » لم يَجُز أن يَكُون نعتاً ل « دَرَجَاتٍ » لعدم المطابقة؛ لأنَّ « درجات » جَمْع ، و « أجْراً » مفرد ، كذا ردَّه بعضهم ، وهي غَفْلَة؛ فإنَّ « أجراً » مَصْدرٌ ، والأفْصَح فيه يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مكلقاً ، [ وقيل : انتصب على التَّمْيِيز ، و « دَرَجَاتٍ » عَطْف بَيَان ] .
قوله- تعالى- « درجات » فيه سِتَّة أوجه :
الأربعة المذكورة في « دَرَجَة » .
والخامس : أنه بدلٌ من « أجْراً » .
السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ ، على أن يكون تَأكِيداً للأجْرِ ، كما تقول : « لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفاً » كأنك قُلْت : أعْرِفُها عُرْفاً ، وفيه نظر ، و « مغفرة ورحمة » عطف على « دَرَجَاتٍ » ، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِمَا [ تَعْظِيماً ] ، أي : وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً ، ورحِمَهُم رَحْمَةً .
فأن قيل : إنه - تعالى- لِمَ ذَكَرَ أولاً « دَرَجَة » وهَهُنَا « دَرَجَاتٍ » ؟
فالجواب من وُجوه :
أحدها : ليس المُراد بالًَّدرجة الوَاحِدَةَ بالعَدَدِ ، بل الوَاحِدِ بالجِنْسِ ، فيدْخُل تحته الكَثير بالنَّوْعِ .
وثانيها : أن المُجَاهِد أفضَل [ بالضَّروُرة ] من القَاعِد المَضْرُور [ بدرجَةِ ] ومن القَاعِدِ الصَّحيح [ بدَرَجَات ] وهذا على القَوْل بعدم المُسَاواةِ بينَ المُجَاهِدِين والأضِرَاءِ .
وثالثها : فضَّلَ المُجَاهِدين في الدُّنَيَا بدرجَة واحدة ، وهي الغَنِيمَة ، وفِي الآخِرة بدرجَات كَثيِرة في الجَنَّة .
ورابعها : أن المُراد ب « المُجَاهِدين » في الأولى : المُجَاهِدِين بأمْوَالِهِم وأنفُسِهِم ، وههنا المراد ب « المُجَاهِدين » : من كان مُجَاهِدَاً على الإطْلاق في كُلِّ الأمُور ، وأعنِي : في عمل الظَّاهِرِ؛ كالجهاد بالنفس والمَالِ والحج ، وعلى العباداتِ كُلِّها ، وفي أعْمَال القلُوب وهو أشرف أنْوَاعِ الجِهَاد؛ لأنه صَرْف القَلْبِ من الالْتِفَات إلى غَيْر الله إلى الاستغَراقِ في طَاعَةِ الله .
فصل
ذكر المفسِّرون معنى « الدرجات » .
قال ابن جبير في هذه الآيةِ هي سَبْعُونَ دَرَجَة ، ما بَيْن كل دَرَجَتَيْن عَدْو الفَرَسِ الجَوَادِ المضمر سَبْعين خريفاً . وقيل : الدَّرَجَاتِ هي الإسْلام والهِجْرَةِ والجِهَادِ والشَّهَادَة ، فاز بها المُجَاهدُِون .
فصل : في حكم الجهاد
والجهاد في الجُمْلَةِ فَرضٌ ، غير أنه يَنْقَسِم إلى فَرْضِ العَيْنِ وفَرْضِ الكِفَاية ، ففرض العَيْنِ أن يَدْخُلَ العَدُوُّ دارَ قوم من المُؤمِنِيِن ، فيجب على كُلِّ مكَلَّفِ من الرِّجَالِ ممن لا عُذْرَ له مِنْ أهْلِ تلك البَلْدَةِ الّخُرُوج إلى عَدِّهم ، حراً كان او عبداً ، غنياً كان أو فقيراً ، دفعاً عن أنفسهم وعن جِيِرانِهِم ، وهو في حَقِّ من بَعُد مِنْهُم من المُسْلِمين عَوْنُهم ، وإن وقعت الكِفَايَة بالنَّازِِلين بهم ، فلا فرضَ على الأبْعَدين ، ولا يَدْخُل في هذا القِسْم العَبيد والفُقَراء ، فإذا كان الكُفَّار قَادِرِين في بِلادهم ، فعلى الإمَام ألا يُخَلَّي كلَّ سَنَة عن غَزْوَة يغزوها بِنَفْسِه أو بسَراياه ، حتى لا يكُون الجِهَاد مُعَطلاً .
فصل : رد شبهة الشيعة
قال الشِّيعة : عَلِيُّ كان مِن المُجَاهِدِين ، وأبو بكر من القَاعِدِين ، فيكون عَلِيٌّ أفْضَل ، للآية ، فيُقَالُ لهم : مباشَرَة علي للقِتَالِ أكثر مُبَاشَرَةً من النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فيكون أفْضَل منه ، وهذا لا يَقُولُه عَاقِلٌ ، فإن قالوا : جِهَاد النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأنه في إظْهَارِ الدِّين بتَقْرير [ الأدلة ] قُلْنَا : وكذلك أبُو بَكْر ، سعى في إظْهَارِ الدِّين في أوّل الإسْلام وضَعْفِه ، وجِهَاد عَلِيَّ كان وهو في الدِّين بعد ظُهُور الإسْلام وقُوَّتِه ، والأوّل أفضل ، وأيضاً : فجهَاد أبِي بكر كان بالدَّعْوَةِ إلى الدِّين ، وأكثر أفاضل العَشْرَة أسْلَمُوا على يَدِهِ ، وذلك حِرْفَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وجهاد عَلِيٍّ كان بالقَتْل ، والأوّل أفضل .
فصل : رد شبهة المعتزلة
[ قالت المعتزلة ] لما كان التَّفَاوُت في الثواب بحسب التَّفاوُت في العَمَل ، دَلَّ على أن عِلَّة الثَّوابِ هو العَمَل ، وأيضاً لو لم يكن العَمَل مُوجِباً للثَّوَاب ، لكان الثَّوَاب هِبَةً لا أجراً ، والله - تعالى- سمَّاه أجراً .
فالجواب : أن العملَ عِلَّةُ الثَّوابِ ، بجعل الشَّارع لا بِذَاتِه .
فصل : الاشتغال بالنوافل أفضل من النكاح
قال الشَّافِعِيّة : دَلَّت الآية على أن الاشتغال بالنَّوافِل ، أفْضَل من الاشتغال بالنكاح ، لأن من أقَام بالجِهَادِ ، سقط الفَرْضُ عن البَاقِين ، فلو أُقيموا عليه كان من النَّوافِل ، والآية تَقْتَضِي تَفْضِيل جميع المُجَاهِدين من مُفْتَرَضٍ و [ من ] مُتنَفَّل على القَاعِدِين والمتنقل بالنِّكَاح قاعِد عن الجِهَاد ، فثبت أن الاشتَغال بالمَنْدُوب إليه من الجِهَاد أفْضَل من الاشْتِغَال بالنِّكاح .
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
لما ذَكَر - [ تعالى ] - ثواب من أقْدَم على الجِهَاد ، أتْبَعَه بِعِقَاب من قَعَدَ عَنْهُ ورضي بالسُّكُون في دَارِ الحَرْبِ .
قوله : « توفَّاهم » يجوز أن يكون مَاضِِياً ، وإنما لم تَلْحَق علامة التَّأنيث للفعل؛ لأن التأنيث مَجَازِيّ؛ ويدلُّ على كونه فعلاً مَاضِياً قِرَاءَةُ « تَوَفتهُم » بتاء التأنيث .
قال الفرَّاء : ويكون مثل قوله : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] فيكون إخْبَاراً عن حَالِ أقْوَام معيَّنين ، انْقَرَضُوا ومضوا ويجوز أن يَكُون مُضَارعاً حُذِفَتْ إحدى التَّاءَيْن تَخفيفاً والأصل : تتوَفَّاهُم ، وعلى هذا تكُون الآيةُ عامَّة في حقِّ كلِّ من كان بهذه الصِّفَة .
و « ظَالِمي » حالٌ من ضَمِير « تَوَفَّاهُم » والإضَافة غير محضة؛ إذ الأصْل ظَالِمين أنفسُهِم؛ إلا أنَّهم لما حَذَفُوا [ النُّون ] طلباً للخَفة ، واسْم الفَاعِل سواء أُرِيد به الحَالُ أو الاستِقْبَال ، فقد يكُون مفصُولاً في المَعْنَى وإن كان مَوْصُولاً في اللَّفْظِ؛ فهو كقوله- تعالى- : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] ، و { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، { ثَانِيَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] والتقدير : مُمْطِر لَنَا وبَالِغاً للكَعْبَةِ وثانِياً عِطْفه ، والإضافة في هَذِهِ المَوَاضِع لَفْظِيَّة لا مَعْنَوِيَّة .
وفي خبر « إنَّ » هذه ثلاثة أوْجُه : أحدها : أنه مَحْذُوفٌ ، تقديُره : إنَّ الذين توفَّاهُم الملائكةُ هَلَكُوا ، ويكون قوله : « قالوا : فيم كنتم » مبيِّناً لتلك الجُمْلَةِ المَحْذُوفة .
الثاني : أنه « فأولئك مأواهم جهنم » ودخلت الفَاءُ زائدة في الخَبَر؛ تشبيهاً للموصُول باسم الشَّرْط ، ولم تمنع « إنَّ » من ذَلِكَ ، والأخْفَش يَمْنَعُه ، وعلى هذا فَيَكُون قوله : « قالوا : فيم كنتم » إمَّا صفةً ل « ظَالِمِي » ، أو حالاً للملائكة ، و « قد » مَعَه مقدَّرَةٌ عند مَنْ يشتَرِط ذلك ، وعلى القول بالصِّفَة ، فالعَائِد محذوف ، أي : ظالمين أنْفُسَهم قَائِلاً لهم المَلاَئِكَة .
والثالث : أنه « قالوا فيم كنتم » ، ولا بد من تَقْدِيرِ العَائِد أيْضاً ، أي : قالوا لَهُم كذا ، و « فيم » خَبَرَ « كُنْتُم » ، وهي « ما » الاستِفْهَامِيَّة حُذِفَت ألِفُها حين جُرَّتْ ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك عند قوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله } [ البقرة : 91 ] ، والجُملة من قوله : « فيم كنتم » في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ ، و « في الأرض » متعلقٌ ب « مُسْتَضْعَفِين » ، ولا يجوز أن يكُون « في الأرْضِ » هو الخَبَر ، و « مُسْتَضْعَفِين » حالاً ، كما يَجُوز ذلك في نَحْو : « كان زيدٌ قائَماً في الدَّارِ » لعدمِ الفَائدة في هذا الخَبَر .
فصل في معنى التَّوَفِّي
في هذا التَّوفِّي قولان :
الأول : قول الجُمْهُور ، معناه تُقْبَض أرْوَاحهم عند الموْتِ .
فإن قيل : كيف الجَمْع بَيْنَه وبين قوله- تعالى- : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] ، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }
[ البقرة : 28 ] وبين قوله { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] .
فالجواب : خالق الموت هو الله- تعالى- ، والمُفَوَّض إليه هذا العمل هو مَلك المَوْت وسَائِر الملائكة أعْوانه .
الثاني : توفَّاهم الملائِكة ، يعني : يَحْشُرونهم إلى النَّار ، قاله الحَسَن .
فصل
الظُّلْم قد يُراد به الكُفْر؛ كقوله- تعالى- : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وقد يرادُ به المَعْصِيَة؛ كقوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] ، وفي المراد بالظُّلْمِ هَهُنَا قَوْلان :
الأول : قال بَعْضُ المُفَسِّرين : نزلت في نًاسٍ من أهْلِ مَكَّة ، تكلَّمُوا بالإسْلام ولم يُهَاجِرُوا منهم : قَيْس بن الفاكه بن المُغيرَة ، وقَيْس بن الوَليد وأشْبَاهُهُمَا ، فلما خَرَج المُشْرِكُون إلى بَدْر ، خرجوا مَعَهُم ، فقاتَلُوا مع الكُفَّار وعلى هذا أراد بِظُلْمِهِم أنْفُسَهُم : إقامَتَهُم في دَارِ الكُفْرِ ، وقوله - تعالى- : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة } أي : ملك المَوْتِ وأعْوَانِهِ ، أو أراد مَلَك المَوْتِ وَحْدَه؛ لقوله- تعالى- : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] والعَرَبُ قد تُخَاطِب الوَاحِد بلَفْظ الجَمْع .
الثاني : أنها نَزَلَت في قَوْم من المُنَافِقِين ، كانوا يُظْهِرُون الإيمان للمُؤمِنِين خوفاً ، فإذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِم ، أظْهَرُوا لهم الكُفْر ، ولا يُهَاجِرُون إلى المَدِينَةِ .
وقوله : « قالوا فيم كنتم » من أمْرِ دينكُم ، وقيل : فيم كُنْتُم من حَرْب أعْدَائه ، وقيل : لما تركتم الجِهَادَ ورَضِيتُم بالسُّكُون دَارِ الكُفَّار؛ لأن الله - تعالى- لم يَكُن يَقْبَل الإسلام بعد هِجْرَةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهِجْرَة ، ثم نَسَخَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّة بقوله « لا هِجْرَة بَعْدَ الفَتْح » وهؤلاء قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ ، وضربَتَ الملائكةُ وجوهَهم وأدْبَارَهُم ، وقَالُوا لهم : فيم كُنْتُم؟ [ « قالوا كُنَّا » ] أي : في ماذا كُنْتُم أو في أيِّ الفَرِيقَيِن كنتم؟ أفي المُسْلِمين أو في المُشْرِكِين؟ سُؤال توبيخ وتَقْرِيع ، فاعتذروا بالضَّعْف عن مُقَاوَمَة المُشْرِكِين ، « وقالوا كنا مستضعفين » عَاجِزين ، « في الأرْضِ » يعني « أرْض مَكَّة .
فإن قيل : كان حَقُّ الجَوَاب أن يَقُولوا : كنا في كَذَا وكذا ، ولم نكُنْ في شَيْء .
فالجَوَاب : أن مَعْنَى » فِيمَ كُنْتُم « : التَّوْبِيخ ، بأنهم لم يَكُونُوا في شَيْءٍ من الدِّين ، حَيْثُ قَدَرُوا على المُهَاجَرَة ولم يُهَاجِرُوا فقالوا : كُنَّا مستَضْعَفِين اعْتِذاراً عمَّا وبَّخُوا بِه ، واعتِلالاً بأنَّهم ما كَانُوا قادِرِينِ على المُهَاجَرة ، ثم إنّ المَلاَئِكَة لم يَقْبَلُوا منهم هذا العُذْر؛ بل ردُّوه عَلَيْهِم ، فقالوا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } يعني أنكم كنتم قادرين على الخُرُوجِ من مَكَّة إلى بَعْضِ البِلاَدِ التي لا تُمْنَعُون فيها من إظْهَار دِينكُم ، فبقيتم بين الكُفَّار لا للعجز عن مُفَارَقَتِهِم ، بل مع القُدْرَة على المُفَارَقَة .
فصل
وقد ورد لَفْظُ الأرْض على ثَمَانِية أوْجُه :
الأول : الأرض المَعْرُوفة .
الثاني : أرْضُ المَدِينة ، قال الله - تعالى- : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } .
الثالث : أرض مَكَّة؛ قال - تعالى- [ { قَالُواْ ] كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } أي : بمكة .
الرابع : أرْض مِصْر؛ قال - تعالى- { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض } [ الإسراء : 103 ] .
الخامس : أرض الجَنَّة؛ قال تعالى { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] .
السادس : بُطُون النِّساء؛ قال - تعالى- : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } [ الأحزاب : 27 ] يعني : النساء .
السابع : الرحمة؛ قال - تعالى- : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } [ الزمر : 10 ] ، وقوله - تعالى- : { ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } [ العنكبوت : 56 ] أي رحْمَتِي .
الثامن : القَلْب؛ قال - تعالى- : { اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] ، أي : يحيى القُلُوب بعد قَسْوَتِها .
قوله : « فتُهاجِرُوا » مَنْصُوبٌ في جَوَابِ الاسْتِفْهَام .
وقال أبو الببَقَاء : « ألَمْ تَكُنْ » استِفْهام بمعنى التَّوْبِيخ ، « فتُهَاجِرُوا » مَنْصُوبٌ على جواب الاستفهام؛ لأنَّ النَّفْي صار إثْبَاتاً بالاستفهَام « . انتهى .
قوله : » لأنَّ النَّفْي « إلى آخره لا يَظْهَر تَعْلِيلاً لقوله : » مَنْصُوبٌ على جواب الاستِفْهَام « ؛ لأن ذلك لا يَصِحُّ ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه عِلّةً لقوله : » بمَعْنَى التَّوْبيخ « ، و [ » ساءت « ] : قد تَقَدَّم القول في » سَاء « ، وأنها تَجْرِي مَجْرى » بِئْس « فيُشْترط في فاعلها ما يُشْتَرَك فَاعِلِ تيك ، و » مصيراً « : تَمْيِيز .
وكما بَيَّن عَدَم عُذْرِهِم ، ذكر وعيدَهُم ، فقال : » فأولئك مأواهم جَهَنَّم ، ثم استَثْنى فقال : « إلا المستضعفين » : في هذا الاستثناءِ قولان :
أحدُهُما : أنه متصلٌ ، والمسْتَثْنَى منه قوله : « فأولئك مأواهم جهنم » ، والضمير يعودُ على المُتوفِّيْن ظَالِمِي أنْفُسِهم ، قال هذا القَائِل : كأنه قيل : فأولئك في جَهَنَّم إلا المُسْتَضْعَفين ، فعلى هذَا يَكُون هذا استِثْنَاء مُتَّصلاً .
والثاني- وهو الصَّحيح : - أنه مُنْقَطِعٌ؛ لأن الضَّمير في « مَأواهُم عائدٌ على قوله : » إن الذين توفاهم « ، وهؤلاء المُتوفَّوْن : إمَّا كُفَّارٌ أو عُصَاة بالتَّخَلُّف ، على ما قال المفَسِّرون ، [ وهم ] قادرون على الهِجْرَة ، فلم يندرجْ فيهم المُسْتَضْعَفُون فكان مُنْقَطِعاً ، و » مِنْ الرِّجَال « حالٌ من المُسْتَضْعَفِين ، أو من الضَّمِير المستتر فيهم ، فيتعلَّقُ بمَحْذُوف .
قوله : » لا يستطيعون حيلة « في هذه الجُمْلَة أرْبَعة أوجه :
أحدها : أنَّها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ ، كأنه قيل : ما وَجْهُ استِضْعَافِهم؟ فقيل : كذا .
والثاني : أنها حالٌ .
قال أبو البَقَاء : » حالٌ مبينَّة عن مَعْنَى الاستِضْعَاف « ، قال شهاب الدين : كأنَّه يُشِير إلى المَعْنَى المتقدِّم في كونها جَوَاباً لسُؤال مُقَدِّر .
الثالث : أنها مفسِّرةٌ لنفسِ المُسْتَضْعَفِين؛ لأنَّ وجوه الاستِضْعَاف كثيرة ، فبيَّن بأحد مُحْتَمَلاته ، كأنه قيل : إلا الذين استُضْعِفُوا بسبب عَجْزِهِم عن كذا وكذا .
الرابع : أنها صِفَة للمُسْتَضْعَفِين أو للرِّجَال ومن بَعْدَهم ، ذكره الزمخشري ، وعبارة البيضاوي أنه صِفَة للمُسْتَضْعَفِين؛ إذ لا تَرْقِية فِيِهِ ، أي : لا تعيُّن فيه ، فكأنه نكِرةٌ ، فَصَحَّ وَصْفُهُ بالجُمْلَة . انتهى ما ذكرنا .
واعتذر عن وصف ما عُرِّف بالألف واللام بالجُمَل التي ي حُكم النَّكِرَات ، بأن المُعَرَّف بِهِمَا لمَّا لم يكن مُعَيَّناً ، جاز ذلك فيه ، كقوله : [ الكامل ]
1867- وَلَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي .. .
وقد قَدَّمتُ تَقْرير المَسْألةِ .
فصل في معنى الآية
المعنى : لا يقدرون على حِيلَةٍ ولا نَفَقَةٍ ، إذا كان بِهِم مَرَضٌ ، أو كانوا تَحْتَ قَهْر قَاهِرٍ يَمْنَعُهم من المُهَاجَرَة .
وقوله : « [ و ] لا يهتدون سبيلاً » أي : لا يَعْرِفُونَ طريق الحقِّ ، ولا يَجِدُون من يَدُلُهم على الطَّرِيق .
قال مُجَاهد والسُّدِّي وغيرهما : المرادُ بالسَّبيل [ هنا : ] سبيل المَدِينَة .
قال القُرْطُبِيّ : والصَّحِيح إنَّه عامٌّ في جَمِيع السُّبُل .
روى أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بهذه الآيَة [ إلى ] مسلمي مَكَّة ، فقال جندب بن ضمرة لِبنيه : احْمِلُونِي فإني لَسْت من المُسْتَضْعَفِين ، ولا أنِّي لا أهْتَدِي الطَّرِيق ، والله لا أبيتُ اللَّيْلَة بمكّة ، فحملُوه على سَرِير مُتَوجِّهاً [ إلى ] المدينة ، وكان شيخاً كبيراً فَمَات في الطَّريق .
فإن قيل : كيفَ أدْخَل الوِلْدَان في جملة المسْتَثْنين من أهْل الوَعِيد ، فإن الاستِثْنَاء إنَّما يَحْسُن لو كانُوا مستحِقِّين للوَعِيد على بَعْضِ الوُجُوه .
قلنا : سُقُوط الوعيدِ إذا كان بِسَبَبِ العَجْزِ ، والعَجْزُ تارة يَحْصُل بسبَبِ عَدَمِ الأهْبَةِ ، وتارةً [ يًحْصُل ] بسبَبِ الصِّبَا ، فلا جرم حَسُن هذا الاستِثْنَاء ، هذا إذَا أريد بالوِلْدَان الأطْفَال ، ويجُوز أن يُرَاد المُرَاهِقُون منهم ، الَّذيِن كَمُلَت عُقُولُهم ، فتوجَّه التَّكْلِيف نَحْوَهُم فيما بَيْنَهُم [ وبين الله ] ، وإن أريد العَبِيدُ والإمَاءُ البَالِغُون ، فلا سُؤال .
قوله : « فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم » وفيه سُؤالان :
أحدهما : أن القَوْمَ [ لما ] كانوا عَاجِزِين عن الهِجْرَة ، والعَاجِز عن الشَّيْء غير مُكَلَّف له ، وإذا لم يَكُن مُكَلَّفاً ، لم يكن عَلَيْهِ في تَرْكِهِ عُقُوبَة ، فلم قال : « عسى الله أن يعفو عنهم » والعفو لا يتصوَّر إلاَّ مع الذَّنْبِ ، وأيضاً : « عَسَى » كلمة إطْمَاع ، وهذا يَقْتَضِي عدم القَطْعِ بحُصُول العَفْوِ .
فالجواب عن الأول : أن المُسْتَضْعَف قد يكُون قَادِراً على ذَلِكَ الشَّيْء مع ضرْبٍ من المَشَقَّة ، وتمييز الضَّعْف الذي يَحْصُل عنده الرُّخْصة عند الحَدِّ الذي لا يَحْصُل عنده الرُّخْصَة شاقٌّ ، فربما ظَنَّ الإنْسَان أنَّه عاجز عن المُهَاجَرة ، ولا يكون كَذَلِكَ ، ولا سِيَّمَا في الهِجْرَة عن الوَطَنِ؛ فإنها شَاقَّة على النَّفْس ، وبسبب شِدَّة النَّفْرَة قد يظن الإنْسَان كونه عَاجِزاً ، مع أنَّه لا يُكون كذلك ، فلهذا المَعْنَى كانت الحَاجَة في العَفْو شَدِيدة في هَذَا المقَامِ .
السؤال الثاني : ما فَائِدة ذكْر لَفْظَة « عَسَى » هَهُنا؟
فالجواب : لأن فيها دَلاَلَة على [ أن ] ترك الهِجْرَة أمر مُضَيّق لا تَوْسِعة فيه ، حتى أن المُضْطَر البَيِّن الاضْطِرَار من حَقِّه أن يقُول : عسى الله أن يَعْفُو عني ، فكيف الحال في غَيْرِه ، ذكره الزَّمَخْشَرِي .
قال ابن الخَطِيب : والأولى أن يكون الجَوَاب ما تَقَدَّم من أن الإنْسَان لشدة نُفْرَته عن مُفارقَة الوَطَن ، رُبًَما ظَنَّ نَفْسَه عَاجِزاً عنها مع أنه لا يَكُون كَذَلِكَ ، فلهذا المَعْنَى ذكر العَفْوَ بكلمة « عَسَى » لا بالكَلِمَة الدَّالَّة على القَطْع .
قال المفَسِّرُون : « وكلمة » عَسَى « من الله وَاجِبٌ؛ لأنه للأطْمَاع ، والله - تعالى- إذا أطْمَعَ عَبْدَه أوْصَلَه إليه .
ثم قال : » وكان الله غفوراً رحيماً « .
ذكر الزَّجَّاج في كان ثلاثة أوجه :
الأول : » كان « قَبْلَ أن خلق الخَلْق مَوْصُوفَاً بِهَذِه الصِّفَةِ .
الثاني : كان مع جَمِيع العِبَاد بِهذه الصِّفَة ، والمقصود بَيَان أن هذا عَادَة الله أجْرَاهَا في حَقِّ خلقه .
الثالث : أنه - تعالى- لو قال : » عفو غفور « كان هذا إخْبَارَاً عن كَوْنِهِ كذلك فقط ، ولمَّا قال : إنَّه كان كَذَلِكَ ، فهذا إخْبَار وقع بِخَبَرِه على وَقْفِهِ ، فكان ذلك أدلَّ على كونه صِدْقاً [ وحَقّاً ] ومُبَرَّأ عن الكَذِب .
وقال ابن عباس : كُنْتُ أنا وأمِّي ممن عَذَرَ اللهُ [ يعني ] : من المستضَعْفَيِن ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدْعُو لهؤلاءِ المسْتَضْعَفين .
روى أبو هُرَيْرَة؛ قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقال : سَمِع الله لِمَنْ حَمِدَه في الرُّكْعَة الأخيرة [ من صَلاَةِ العِشَاء ] قنت : اللَّهمُ أنْجِ عيَّاش بن أبي رَبِيعَة ، اللَّهُم أنْجِ الوليدَ بن الوليدَ ، اللَّهُمَّ أنْج المستَضْعَفين من المؤمنين ، اللهم اشْدُدْ وطْأتَكَ على مُضَر ، اللهم اجْعَلْهَا عليهم سِنين كسِنِي يُوسُف .
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
لما رَغَّبَ في الهِجْرَةِ ، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه ، وذلك المَانِعُ أمْرَان :
الأوّل : أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش ، فأجاب الله عن ذلك بقوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } .
قال القرطبي : قوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } شرط ، وجَوَابُه : { يَجِدْ فِي الأرض } .
واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب؛ يقولون : رغم أنفه ، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه؛ لأن الأنْفَ لا يجد ذلك [ البَلَد ] من النِّعْمَة والخَيْر ، ما يكون سَبَباً لرغم أنفِ أعدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة ، فإنه إذا اسْتَقَام حَالُه في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة ، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلْدَتِه ، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له ، وزعمت أنُوفُهم بذلك وَهَذَا أوْلَى الوُجُوه .
وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة : فهو أن الإنْسَان يَقُول : إن خَرَجْت عن بَلَدِي لطلب هذا الغَرَضِ ، فربما وَصَلْتُ إليه ، وربَّما لم أصِلْ إليه ، فالأولى ألا أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل ، فأجَابَ الله - تعالى- عن ذَلِك بقوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } .
والمراد ب « السِّعَة » : سعة الرِّزْق ، وقيل : سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى .
قوله - تعالى- : { وَمَن يَخْرُجْ [ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ] .
روي أنه لما نَزَلَت هذه الآيَةِ ، سَمِعَهَا رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له : جُنْدَعُ بن ضَمْة ، فقال : والله ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - عز وجل- ، وإني لأجِدُ حِيلَة ، ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدينَةَ وأبعد مِنْهَا ، والله لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة ، أخرِجُوني ، فخرجوا به يَحْمِلُونَه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم ، فأدركه المَوْت ، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه ، فقال : اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك ، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولُك ، فمات فَبَلَغَ خَبَرُه أصْحَابَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً . وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا : ما أدْرَك هذا ما طَلَب ، فأنْزَلَ الله تعالى- : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت [ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } ] أي : قبل بُلُوغه إلى مهاجره ، « فقد وقع أجْرُه على الله » . أي : وجَب بإيجَابِه على نفسه فَضْلاً مِنْه .
فصل
قال بَعْضُهم : إن من قَصَد طاعَةً وعجز عن إتْمَامِهَا ، كتب الله ثَوابَ تِلْكَ الطَّاعَة؛ كالمرِيض يَعْجَزُ عما كان يَعْمَلُه في حال صِحَّتِه من الطَّاعَة ، فيكتب الله [ له ] ثواب ذلك العَمَل؛ هكذا رُوِي عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم .
وقال آخَرُون : يُكْتَب له : أجر قَصْدِه ، وأجْر القَدْرِ الذي أتَى به من ذَلِكَ العَمَل ، أما أجْرُ تَمَام العَمَلِ ، فذلك مُحَالٌ .
والقول الأوَّل أوْلى؛ لأنه - تعالى- ذكر هذه الآيَةِ في مَعْرِض التَّرْغِيب في الهَجْرَة ، وهو أنَّ من خرج للرَّغْبَة في الهِجْرَة ، فقد وجد ثَوَاب الهِجْرَة ، والتَّرْغِيب إنما يَحْصُل بهذا المَعْنَى ، فأما القَوْل بأنّ معنى الآيةِ هو أن يَصِل إليه ثَوَابُ ذَلِكَ القَدْر من العَمَل ، فلا يَصْلُح مرغِّباً؛ لأنه من المَعْلُوم أن كُلَّ من أتَى بِعَمَلٍ فإنه يَجِدُ الثَّوَاب المرتَّبَ على قَدْرِ ذلك العَمَل .
فصل : شبه المعتزلة في وجوب الثواب على الله والرد عليها
قالت المُعْتَزِلَة : هذه الآية تَدُلُّ على أن العمل يُوجِب الثَّواب على الله- تعالى-؛ لقوله : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } ، وذلك يدلُّ على قَوْلِنَا من ثلاثة أوجُه :
الأول : حقيقة الوُجُوب هو الوُقُوع والسُّقُوط؛ قال- تعالى- : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } [ الحج : 36 ] أي وقعت وسَقَطَت . وثانِيها : أنه ذَكَرهُ بلفظ الأجْر ، والأجر عبارة عن المَنْفَعَة المسْتَحقِّة ، فأمَّا الذي لا يكُون مُسْتَحقاً ، فلا يُسَمَّى أجْراً ، بل يُسمَّى هِبَةً .
وثالثها : قوله : « على الله » وكلمة « عَلَى » للوُجُوب؛ قال -تعالى- : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت [ مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } ] [ آل عمران : 97 ] .
والجواب : أنا لا نُنَازعُ في الوُجُوب ، لكن بِحُكْم الوَعْد والتَّفْضُّل والكرم ، لا بحكم الاسْتِحْقَاق الذي لو لم يفْعَل لخَرَج عن الإلهيَّة .
فصل
نقل القُرْطُبِي عن مالكٍ؛ أنه قال : هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ ليس لأحَدٍ لمُقَامُ بأرض يُسَبُّ فيها السَّلَف ويَعْمَلُ فيها بِغَيْر الحَقِّ .
فصل
استدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الغَازِي إذا مَاتَ في الطَّرِيقِ ، وَجَبَ سهْمُهُ في الغَنِيمَةِ ، كما وَجَبَ أجْرُه ، وفيه ضَعْفٌ؛ لأن لَفْظَ الآيَةِ مَخْصُوص بالأجْر ، وأيضاً فاسْتِحْقَاق السَّهم من الغَنِيمَة مُسْتَحقٌّ بحيازَتِها ، إذ لا يُكُون ذلك إلا بَعْدَ حِيَازَتِها .
قوله- تعالى- : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ } قال عِكْرمَة مَوْلَى ابْن عبَّاس : طَلَبْتُ اسم هذا الرَّجُل أرْبَع عَشْرَة سَنَة حتى وَجَدْتُه ، وفي قول عِكْرمة [ هذا ] دَلِيلٌ على شَرَفِ هذا العِلْمِ ، وأنَّ الاعْتِنَاء به حَسَنٌ والمَعْرِفَة به فَضْلٌ؛ ونحوه قول [ ابن عبَّاس ] : مكثت سِنين أريد أن أسْأل عُمَر- رضي الله عنه- عن المَرْأتَيْن اللَّتَيْن تظاهرتا على رسُول الله صلى الله عليه وسلم فما يَمْنَعُنِي إلا مَهَابَتُه ، والذي ذَكَرَه عِكْرِمَة هو قَوْل ضمرة بن العِيص ، أو العيص بن ضمرة بن زِنْبَاع ، حَكَاه الطَّبَري عن سَعِيد بن جُبَيْر ، ويقال فيه ضُمَيْرة أيضاً ، ذَكَرَ أبُو عمرو أنَّه قد قِيلَ فيه : خَالِد بن حزام بن خُوَيْلد ابن أخِي خَدِيجَة [ خرج ] مُهَاجراً إلى لأرْض الحَبَشَة ، فَهَتَفَتْهُ حيَّة في الطَّرِيق ، فمات قبل أن يَبْلُغ أرْض الحَبَشَة؛ فأنزل الله فِيه الآية ، وحكى ابْن الحَوْزِيّ أنه حَبيبُ بن ضَمْرة .
وقال السُّدِّيُّ : ضَمْرة بن جُنْدب الضمريّ .
وحكى المَهْدَويّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نُعَيم ، وقيل ضمرة بن خُزاعة .
وروى معمر عن قتادة : لما نَزَل قوله- تعالى- : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة } [ النساء : 97 ] قال رَجُل من المُسْلِمِين وهو مَرِيضٌ : والله - تعالى- ما لي عُذْرٌ : إني لَدَلِيل في الطَّرِيق وإني بمُوسِرٌ ، فاحْمِلُوني فأدْركه المَوْتُ في الطَّرِيق ، فقال أصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم : لو بَلَغَ إلَيْنَا لتَمَّ أجْرُه ، وقد مات بالتَّنْعِيم ، وجاء بَنُوه إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وأخبروه بالقِصَّة ، فنزل قوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً [ إِلَى الله وَرَسُولِهِ } ] الآية .
قوله : « ثم يدركه » الجُمْهُور على جَزْم « يدركْه » عَطْفَاً على الشَّرْطِ قبله ، وجوابه : « فقد وقع » وقرأ الحَسَن البصري بالنَّصْب .
قال ابن جِنِّي : « وهذا لَيْسَ بالسَّهْل ، وإنما بَابُه الشَّعْر لا القُرْآنُ ، وأنشد [ الوافر ]
1868- سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم ... وَألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا
والآيةُ أقْوَى من هذا؛ لتقدُّم الشرط قَبْلَ » المَعْطُوف « ، يعني : أن النَّصْب بإضْمَار » أن « في غَير تِلك المَوَاضِع ضَرُورَةٌ؛ كالبيتِ المتقدم؛ وكَقوْل الآخر : [ الطويل ]
1869- . ... وَيَأوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا
وتبع الزَّمَخْشَرِي أبا الفَتْح في ذلك ، وأنْشَدَ البَيْت الأوَّل . وهذه المَسْألة جَوَّزها الكُوفيُّون لمدركٍ أخرَ ، وهو أن الفِعْلَ الواقِع بين الشَّرْط والجَزَاء ، يجوز فيه الرَّفْع والنَّصْب والجَزْمُ إذا وَقَعَ بعد الواوِ والفَاءِ؛ واستدَلُّوا بقول الشاعر : [ الطويل ]
1870- ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَهً مُطْمَئِنَّةً ... فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوى الْقَاعِ يَزْلَقِ
وقول الآخر : [ الطويل ]
1871- ومَنْ يَقْتَرِب مَنِّا ويَخْضَعَ نُؤوِه ... ولا يَخْشَ ظُلْماً مَا أقَامَ وَلاَ هَضْمَا
وإذا ثَبَتَ ذلك في الواوِ والفضاءِ ، فليَجُزْ في » ثُمَّ « ؛ لأنها حَرْف عَطْفٍ .
وقرأ النَّخعيُّ ، وطَلْحَة بن مُصَرِّف برفع الكَاف ، وخَرَّجَها ابن جنِّي على إضْمَار مُبْتَدَأ ، أي : » ثم هو يُدْرِكُه المَوْتُ « فعطَ جُمْلَةً اسمِيّةً على فِعْلِيَّةً ، وهي جُمْلَة الشَّرْطِ : الفعلُ المَجْزُومُ وفاعلُه ، وعلى ذلك حَمَل يُونُس قولَ الأعْشَى : [ البسيط ]
1872- إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عَادَتُنَا ... أوْ تَنْزِلُون فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ
أي : وأنتم تنزلون ، ومقله قول الآخر : [ البسيط ]
1873- إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِيِنِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلّيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوبُ
أي : ثم أنتم تَأتيني ، وهذا أوْجهُ من أن يُحْمَل على أن يَأتِيني . قلتُ : يريدُ أنه لا يُحْمَلُ على إهْمَالِ الجَازِمِ ، فيُرْفَعُ الفعل بعده ، كما رفع في :
1874- ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ
فلم يَحْذِفِ اليَاء ، وهذا البَيْت أنشده النَّحويُّون على أنَّ عَلاَمَةَ الجَزْم ، حَذْفُ الحَرَكَةِ المُقَدَّرة في حَرْفِ العِلَّة ، وضَمُّوا إليه أبياتاً أخَرَ ، أمَّا أنَّهم يَزْعُمُون : أنَّ حَرْف الجَزْم يُهْمَل ، ويَسْتدلون بهذا البَيْت فَلا . ومنهم مَنْ خَرَّجَهَا على وَجْه أخَر؛ وهو أنه أراد الوَقْفَ على الكلمة ، فنقلَ حَركَة هاءِ الضَّمِير إلى الكَافِ السَّاكِنَة للجَزْمِ ، كقولِ الآخَر : [ الرجز ]
1875- عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُه ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أضْرِبُهْ
يريد : « لم أضْرِبْه » بسكون البَاء للجَازِم ، ثم نَقَل إليها حَرَكَة الهاءِ ، فصار اللَّفْظُ « ثم يُدْرِكُهْ » ثم أجْرََى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ ، التقى ساكنان ، فاحْتاجَ إلى تَح~رِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ؛ لأنه الأصلُ ، وللإتباع أيضاً .
ثمَّ قالَ الله - تعالى- : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي : ويَغْفِرُ [ الله ] ما كَانَ مِنْهُ [ مِنِ القُعود ] إلَى أنْ خَرَجَ .
فصل
قال ابن العَرَبِيَّ : قَسَّمَ العُلَمَاءُ الذِّهَاب في الأرْض [ إلى ] قسمين : هَرباً ، وطلباً .
والأول ينْقَسِم سِتَّة أقْسَام :
أحدها : الهِجْرَة : وهي الخُروج من دَارِ الحرب إلى دَار الإسْلام ، وكانت فَرْضَاً في أيَّام النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهِجْرَةِ باقيةٌ مفروضَةىٌ إلى يَوْمِ القِيَامَة ، والَّتِي انقطعت بالفَتْح : حي القَصْد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ كَانَ ، فإنْ بَقِيَ في دَارِ الحَرْب ، عصى ويختلف في حَالِه .
وثانيها : الخُرُوج من أرْض البِدْعَة؛ كما تقَدَّم نَقْلُه عن مالك؛ فإنه إذا لم يَقْدِر على أزَالة المُنْكَر يَزُولُ عَنْهُ ، قال [ الله ] - تعالى- : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] .
وثالثها : الخُرُوج من أرض غلب عليها الحرامُ؛ لأن طَلَبَ فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ .
ورابعها : الفِرَار من الأذِيَّة في البَدَن ، وذلك فَضْل من الله ورُخًصَةٌ؛ كما فَعَلَ إبْراهيم - عليه الصلاة والسلام- لمَّا خَاف من قَوْمِه وقال : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] ، وقال : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الصافات : 99 ] ، وقال - تعالى- حكاية عن موسى- عليه الصلاة والسلام : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 21 ] .
وخامسها : خَوْف المَرَضِ في البلاد الوَخْمَة ، فيخرج إلى أرْضِ النزهة؛ لأن النِّبي صلى الله عليه وسلم أذن للرُّعاة حين استَوْخَمُوا المدينة ، أن يَخْرُجُوا إلى المَسْرَح فيكونوا فيه؛ حتى ما يَصحُّوا ، وقد استُثْني من ذلك الخُروُج من الطَّاعُون ، بِمَا في الحَدِيث الصَّحيح .
وسادسها : الفِرَار خَوْف الأذِيَّة في المَالِ ، فإن حُرْمة مال المُسْلِم؛ كَحُرْمَة دَمِه .
وأما الطَّلَبُ فينقسم قِسْمَيْن :
طلب دِين وطَلَب دُنْيَا .
فأمَّا طَلَب الدِّين فينقسم إلى تِسْعَةِ أقْسَام :
الأول : سَفَر العِبْرة ، قال تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ [ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ] [ الروم : 9 ] .
يقال : إنَّ ذا القَرْنَيْنِ إنَّما طَافَ الأرْضَ؛ ليرى عَجَائِبَهَا ، وقيل : ليُنْفِذَ الحَقَّ فيها .
الثاني : سفر الحَجِّ ، فالأوَّل نَدْب ، وهذا فَرْضٌ .
الثالث : الجهاد [ وله أحكامُه ] .
الرابع : سَفَر المعاش؛ إذا تَعَذَّر على الرَّجُل مَعَاشُه مع الإقامة ، فيخرج في طَلَبِه لا يزيد عَلَيْه؛ من صَيْد ، أو احتِطَابٍ ، أو احتشَاسٍ ، فهو فَرْضٌ عَلَيْه .
الخامس : سَفَر التِّجَارة والكَسْب الزَّائِد على القُوتِ ، وذلك جَائزٌ بفضل الله تعالى؛ قال -تعالى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] يعني : التِّجَارة ، وهو نَعْمَة مَنَّ الله بِهَا في سَفَر الحَجِّ ، [ فكيف إذَا انْفَرَدَتْ ] .
السَّادس : طلب العِلْم .
السَّابِع : قصد البِقَاع الشَّرِيفة؛ قال- عليه الصلاة والسلام : « لا تُشَدُّ الرِّحَال إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِد » .
الثَّامن : الثُّغُور للر!ِبَاط بها .
التاسع : زيارة الإخْوَان في الله - تعالى-؛ قال - عليه الصلاة والسلام : « زارَ رجُلٌ أخاً لَهُ في قَرْيَة ، [ فأَرْصَدَ الله له مَلَكَاً على مدرجته ، فقال : أيْن تُرِيدُ ، قال : أريد أخاً لِي في هَذِهِ القَرْيَة ] ، فقال : هل له عَلَيْكَ من نِعْمَةٍ تَرُّبُّها عَلَيْه ، قال : إني أحْبَبْتُه في الله ، قال : فإني رسُول الله إلَيْك ، بأنَّ الله قد أحَبَّك كَمَا أحْبَبْتَهُ فيه » [ رواه مسلم ، وغيره ] .
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
لما ذَكَرَ الجِهَاد ذَكَرَ أحد الأمُور التي يَحْتَاج إليها المُجَاهِد ، وهو مَعْرِفَة كَيْفِيَّة أداء الصَّلاةِ في الخَوْف ، والاشْتِغَال بمُحارَبَة العَدوِّ .
« أن تقصروا » : هذا على حَذْفِ الخَافِضِ ، أي : في أن تَقْصُرُوا ، فيكونُ في مَحَلِّ « أنْ » الوَجْهَان المَشْهُوران ، وهذا الجَارُّ يتعلَّقُ بلفظِ « جُنَاح » أي : فََليْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ في قَصْرِ الصَّلاة .
قال الوَاحِدِيُّ : يُقَال : قَصَرَ فلان صَلاَتهُ ، وأقصرها وقَصَّرَها ، وكُلُّ جَائِزٌ .
والجمهور على « تَقْصُروا » من « قَصَرَ » ثلاثياً ، وقرأ ابن عبَّاس : « تُقْصِروا » من « أقْصر » ، وهما لُغَتَان : قَصَر وأقْصَر ، حكاهما الأزْهَرِيُّ ، وقرأ الضَّبِيُّ عن رجاله بقراءة ابن عبَّاسٍ ، وقرأ الزُّهري : « تُقَصِّروا » مشدِّداً على التَّكْثِيرِ .
قوله : « من الصَّلاة » في « مِنْ » وَجْهَان :
أظهرهُما : إنها تَبْعِيضيَّةٌ ، وهذا مَعْنَى قول أبي البقاء ، وزعم أنه مَذْهَب سيبويه ، وأنَّها صفةٌ لمَحْذُوفٍ ، تقديرُه : شيئاً من الصلاة .
والثاني : أنَّها زائدةٌ ، وهذا رأيُ الأخْفَش فإنه لا يَشْتَرِطُ في زِيَادتها شيئاً ، و « أن يَفْتِنَكم » : مفعُول « خفِْتُم » .
وقرأ عبد الله بن مَسْعُود ، وأبَيُّ : « من الصَّلاة أن يفتنكُم » بإسقاط الجُمْلة الشَّرْطيّة ، و « أن يفتنكُم » على هذه القراءة مَفْعُولٌ من أجْله ، ولغةُ من أجْله ، ولغةُ الحِجَاز : « فَتَنَ » ثُلاثياً ، وتميم وقَيْس : « أفْتَن » رُبَاعياً .
فصل
لفظ القَصْر مُشْعِرٌ بالتَّخْفِيف؛ لأنه لَيْس صريحاً في أنَّ المُرادَ : هو القَصر في عَدَدِ الركَعَات ، أي : في كيْفِيَّة أدائِها ، فلا جَرَم حصل في الآيَة قولان :
الأوّل : قَوْل الجُمْهُور أنَّ المراد مِنْه : القَصْر في عدد الرَّكِعَات والقَائِلُون بهذا القَوْلِ اختلفُوا على قَوْلَين :
الأوَّل : أن المراد مِنْهُ : صلاة المُسَافِر؛ وهو أنَّ كُلَّ صَلاَةٍ تكُونُ في الحَضَر أرْبَع رَكَعَاتٍ ، فإنها تَصِير في السَّفَرِ رَكْعَتِيْنِ ، وعلى هَذَا إنَّما يَدْخُل القَصْر في الرُّبَاعِيَّة خاصَّة .
الثاني : أنَّ المراد : صرةَ الخَوْفِ في السَّفَر ، وهو قَوْل ابن عبَّاسٍ ، وجَابِر بن عبد الله ، وجماعة ، قال ابن عبَّاس : فَرَضَ الله صلاة الحَضَر أرْبَعَاً ، وصلاة [ السَّفر ركعتين ] ، وصلاة الخَوْفِ رَكْعَةً على لسان نَبِيِّكُم صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني : أن المُرادَ من القَصْر : التَّخْفِيف في كيفية أداء الرَّكَعَات ، وهو أن يُكتفى في الصَّلاة بالإيمَاءِ والإشَارَة بدل الرُّكُوع والسُّجُود ، وأن يَجُوز المَشْيُ في الصَّلاة ، وأن تجُوز الصلاة عند تلَطُّخ الثَّوْب بالدَّمِ وهو الصَّلاة حال التِحَام القِتَال ، [ وهو مَرْوِيٌّ عن ابْن عَبَّاسِ وطاووس ، واحتَجُّوا : بأنَّ خوف فِتْنَة العَدُوِّ لا تَزُول فيمَا يُؤتَى بِرَكْعَتِيْن على تَمَامِ أوْصَافِهَا ، وإنما عَيَّن ذَلِكَ فيما يَشْتَدُّ فيه الخَوْف حَالَ التِحام القِتَال ] ، وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنه يُمْكِنُ أن يُقَال : إن المُسَافر إذا كانَت الصَّلاة قَلِيلَة الرَّكَعَات ، فيمكنه أنْ يَأتِيَ بَهَا على وَجهِ لا يَكُون خَصْمُه عَالِماً بَِكَوْنِهِ مُصَلِّياً أما إذا كثُرت الرَّكَعَات ، طالَت الصَّلاة ، ولا يُمْكِنُه أن يَأتِي بها على حين غَفْلَةٍ مع العَدُوِّ ، وحَمْل لفظِ القصْر على إسْقَاط [ بَعْض ] الرَّكَعَاتِ أوْلَى لوجوه : أحدُها : ما رُوِيَ عن يعلى بن أمّيَّة أنَّه قال :
« قلت لعمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه- : كيف نَقْصُر وقد أمِنَّا ، وقد قال الله- تعالى- : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } فقال : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ؛ فَسَأَلْتُ الرَّسُولَ- عليه الصلاة والسلام- فَقَالَ : » صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُم ، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ « ، وهذا يدلُّ على أن القَصْر المذكُور في الآية ، وهو القصْرُ في عَدَدِ الركَعَاتِ .
الثاني : أن القَصْر عبارةٌ عن أن يؤتى بِبَعْض الشَّيْء ويقتصر عَلَيْه ، فإمَّا أن يُؤتَى بشَيٍْ آخَرَ ، فذلك لا يُسَمَّى قَصراً ، ومعْلُوم : أن إقامَة الإيماء [ مَقَامَ ] الرُّكُوع والسُّجُود ، وتَجويز المَشِي في الصَّلاة ، وتَجْوِيز الصَّلاة مع الثَوْب المُلَطَّخ بالدَّم ، ليس شيء من ذلك قَصْراً؛ بل كُلُّها إثباتٌ لأحْكَامِ جديدةٍ ، وإقَامَة لشَيْءٍ مَقَامَ شَيْء آخَرَ .
الثالث : أن » مِنْ في قوله : « مِنَ الصّلاة » للتَّبْغيضِ ، وذلك يُوجِبُ جَوازَ الاقْتِصَارِ على بَعْضِ الصَّلاة .
الرابع : أن لَفْظَ القَصْر كان في عُرْفِهِم مَخصُوصاً بتنْقِيصِ عددِ الرَّكَعَاتِ ، ولهذا بمَّا صلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظُّهر رَكْعِتَيْنِ ، قال ذو اليَدَيْنِ : « اقصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيت؟ » .
الخامس : القَصْر بمعنى : تغير هَيْئَةٍ [ الصَّلاة ] المَذْكُورة في الآيةِ الَّتِي بَعْدَهَا توجب أن يكُون المُراد من هذه الآيَة بَيَان القَصْر ، بمعنى حذف بَعْض الرَّكعَات ، لئلا يَلْزَم التَّكْرار .
فصل هل الأفضل الإتمام أم القصر؟
قصر الصَّلاة في السَّفر جَائِز بالإجْمَاعِ ، واخْتَلَفُوا في جواز الإتْمَام .
فذهب أكْثَرُهُم إلى أن القَصْرَ واجِبٌ ، وهو قَوْل عُمَر وعَلِيِّ ، وابن عُمَر ، وجابر ، وابن عبَّاس ، وبه قال الحَسَن وعُمَر بن عَبْد العَزِيز ، وقتادة ، وهو قول مالِكٍ وأصحاب الرأي بما روت عائِشَة - رضي الله عنها- ، قالت : « الصَّلاةُ أوَّل ما فُرِضَت [ رَكْعَتَيْن في الحَضَر والسَّفَر فأقِرَّتْ ] صَلاَة السَّفَر ، وأتِمَّت صَلاةُ الحَضَر » .
وذهب قَومٌ إلى جواز الإتْمَام ، رُوِيَ ذلك عن عُثْمَان [ وسَعْد ] بن أبِي وَقَّاصٍ ، وبه قال الشَّافِعِيُّ إن شاءَ أتَمَّ ، وإن شاءَ قَصَر ، والقَصْر أفْضَل .
فصل
قال أهل الظَّاهِر : قَلِيلُ السَّفَر وكَثِيرُه سَوَاء؛ بِظَاهِر الآية ، فإن الآيَة مرتَّبةٌ من شَرْطِ وجَزَاء ، فإذا وُجِدَ الشَّرْط وهو الضَّرْب في الأرْض ، ترتَّب عَلَيْه [ الجزاء ] سواء كَانً طَويلاً أوْ قَصِيراً ، وذلك مَرْوِيٌّ عن أنَسٍ ، وقال عَمْرُو بن دِينَار : قال لي جَابر بن زَيد : أقْصِر بعَرَفَة .
فإن قيل : هذا يَقْتَضِي حُصُول الرُّخْصَة عند انْتِقَال الإنْسَان من مَحَلَّة إلى مَحَلَّة . فالجواب : لا نُسَلِّم أنَّ هذا ضَرْب في الأرْضِ ، وإن سُلَّم ، فنقول : الإجْمَاع مُنْعَقِدٌ على أنَّه غير مُعْتَبَر ، فَهَذا تَخْصِيصٌ بالإجْمَاع ، والعامُّ بعد التَّخْصيص حُجَّة .
وقال الجُمْهُور : إن السَّفر مات لم يتقدَّر مَخْصُوصٍ ، لم تَحْصُل فيه الرُّخْصَة ، وقالوا : أجْمَع السَّلَف على أنَّ أقَل السَّفِر مقدَّرٌ ، لأنه رُوِيَ عن عُمَر أنَّه يَقْصِر في يَوْم تامٍّ؛ وبه قَالَ الزُّهرِي والأوْزَاعِيُّ .
وقال ابْن عَبَّاس : يَقْصرُ إذا زَادَ علي يَوْم ولَيْلَة .
قال أنَس : المُعْتَبَر خَمْسَة فَرَاسِخ ، وقال الحَسَن : مَسِيرة لَيْلَتَيْن .
وقال الشَعْبِي ، والنَّخعِي ، وسعيد بن جُبَيْر : من الكُوفَة إلى المَدَائِن مسيرة ثلاثةَ أيّام ، وهو قول أبِي حَنِيفَة ، وروى الحَسَن بن زِيَاد ، عن أبي حنيفة : أنَّهُ إذا سَافَر إلى موضع يكون مَسيرة يَوْمَيْن ، وأكثر اليوم الثَّالِث ، جاز القَصْر ، وهكذا رَوَاهُ ابن سماعة ، عن أبِي يُوسُف ومحمَّد .
وقال مَالِكٌ : أمْيَال هَاشِم جَدَّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي قدَّر أمْيَال البَادِية؛ كل ميلٍ اثْنَا ألف قدم ، وهي أرْبَعَةٌ آلاف خطوة ، فإن كل ثَلاثَة أقْدَام خُطْوة ، قالوا : واختِلاَف النَّاس يدل على انْعِقَاد الإجْمَاع ، على أن الحُكْمَ غير مَرْبُوط بِمُطْلَق السَّفَر .
قال أهل الظاهر : اضْطِرابُهم يَدُلُّ على أنَّهم لم يَجِدُوا دَلِيلاً في تَقْدِير المُدَّة ، إذ لو وَجَدُوه لما حَصَل الاضْطِرَاب ، وأما سُكُوت [ سَائِر ] الصَّحَابَة؛ فلعلَّه كان لاعْتِقَادِهم أنّ الآية دَالَّة على ارتِبَاط الحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَر ، وإذا كان الحُكْم مَذْكُوراً في نَصِّ القُرْآن ، لم يكن بِهِم حَاجَةٌ إلى الاجْتِهَاد والاستِنْبَاطِ؛ فلهذا سَكَتُوا ثَلاَثَة أيّامٍ « ؛ وهو يدل على أنَّه إذَا لَمْ يَحْصُل المَسْح ثلاثة أيَّام ، لا يسَمَّى مسافِراً .
واستدل الشَّافيَّة بما رَوَى مُجَاهِدٌ وعطاء ، عن ابن عبَّاس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : » يا أهْل مَكَّة ، لا تَقْصُروا في أدْنَى من أرْبَعَة بُرُد من مَكَّة إلى عُسْفَان « قال أهل الظَّاهِر : وهذا تَخْصِيص لعُمُوم القُرْآن بخَيْر الوَاحِد ، وهو لا يَجُوز؛ لأن القُرْآن مَقْطُوع به والخَبَر مَظْنُونٌ ، وقال عليه الصلاة والسلام : » إذا رُوِيَ عَنِّي حديثٌ فاعْرِضُوه على كِتَاب الله- [ تعالى ] ، فإن وَافق ، فَاقْبَلُوه ، وإلا فَرُدُّوهُ « وهذا مُخَالِفٌ لعموم الكِتَاب ، وأيْضَاً فإنها أخْبَار وردَتْ في وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الحاجَةُ إلى مَعْرفتها؛ لأن الصَّحابة - رضي الله عنهم- كانُوا في أكْثَر الأوْقَات في السَّفَر والغَزْو ، فلو كَانَت الرُّخْصَة مَخْصُوصَة بِسَفَرٍ ، مقدَّر ، لعرفوها ونَقَلُوها نقلاً متواتراً ، لا سِيَّمَا وهو عَلَى القُرْآن ، وأيضاً : فدلائل الشَّافِعيَّة ودلائل الحَنَفِيَّة مُتَدافعة فسقَطَت ووجبَ الرُّجُوع لِظَاهِرِ القُرْآنِ .
فصل
خصَّ أهلُ الظَّاهر جواز القصر بِحَال الخَوْف؛ لقوله - تعالى- : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } والمَشْرُوط بالشَّيْءِ عدمٌ ، عند عَدَمِ ذلك الشَّيءِ ، ولا يَجُوز دفع هذا الشَّرط بأخْبَار الآحَاد؛ لأن نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبر الوَاحِدِ لا يَجُوز .
قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } فقيل : إن يَفْتِنُوكم عن إتْمَام الرُّكُوع [ والسُّجُود ] ، وقيل : » أن يفتنكم « أي يغلبكم الَّذين كَفَرُوا في الصَّلاة ، ونَظِيرُه قوله : [ تعالى ] : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } عن الصلاة؛ لأن كُلَّ مِحْنَة ، وبَلِيّة ، وشِدَّة فهي فِتْنَة ، وجَواب الشَّرْط مَحْذُوف يَدُلُّ عليه ما قَبْلَه .
وقيل : الكَلاَم تَمَّ ] عند قوله : « مِنَ الصَّلاة » ] والجملة الشَّرْطيةُ مُسْتَأنَفةٌ حتى قيلَ : إنها نَزَلَت بعد سَنَةٍ عن نُزُول ما قَبْلَها ، وجوابُه حينئذٍ أيْضاً مَحْذُوف ، ولكن يُقَدَّرُ من جِنْسِ ما بَعْدَه ، وهذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ ، وتأخير نُزُولِهَا لا يَقْتَضِي استِئْنَافَهَا .
فصل
اخْتَلَفُوا متى يَقْصُر :
فالجُمْهُور على أنَّ المُسَافِرَ لا يَقْصُر حتَّى يَخْرُج من بُيُوت القَرْيَة [ وحينئذٍ ] هو ضَارِبٌ في الأرْضِ ، وهو قول مَالِكٍ في المُدَوَّنة ، وروي عنه : أنَّه إذا كَانَت قَرْيَة تَجمع أهْلَهَا لا يَقْصُرُ حتى يُجَاوِزَها بثلاثَةِ أمْيَالٍ ، وكذلك في الرُّجُوع ، وعن الحَارِث بن أبي رَبيعة : إذا أرادَ السَّفَر ، يَقْصُرُ في مَنْزِلِه؛ فيكون مَعْنَى قوله - [ تعالى ] - : { إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } معناه ] : إذا أرَدْتُم السَّفَر . وعن مجاهد : لا يَقْصُر يَوْمَه الأوَّل حتى اللَّيْل ، وهذا شَاذٌّ؛ لأن النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم صلى الظُّهْر بالمَدِينَة [ أرْبعاً ] ، وصلَّى العَصْرَ بذي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْن ، وبين المَدِينَة وذي الحُلَيْفَة سِتَّة أمْيالٍ ، أو سَبْعَة .
فصل
وعلى المَسَافِر أن يَنْوِي القَصْرَ حين الإحْرَام ، فإن افْتَتَحَ الصَّلاة بنيَّة القصر ، ثُمَّ عزم على المُقَام في أثناء الصَّلاة ، جعلها نَافِلَةً ، فإن كان ذَلِكَ بَعْدَ أنْ صَلَّى منها رَكْعَةً [ واحِدَة ] ، أضَاف إليها أخْرى [ وسلَّم ] ثم صلى صلاة مُقِيم ، وقال الأبْهَرِيّ ، وابن الجَلاَّب : هذا - والله أعْلم- اسْتِحْبَابٌ ، ولو بَنَى على صَلاَتِه وأتمّها ، أجْزأتْهُ .
قوله : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } [ و ] المعنى : إن العدَاوَةَ بَيْنَكُم وبَيْنَ الكَافِرين قَديمَةٌ ، والآن قد أظْهَرْتُم خلافَهُم في الدِّين فازْدَادَت عَدَاوتُهم لَكُم ، فمن شِدَّة العَدَاوة ، حارَبُوكم وقَصَدُوا إتلافكُم إن قَدَرُوا ، فإن طَالَتْ صَلاتُكُم ، فرُبَّمَا وَجَدُوا الفُرْصَة في قَتْلِكُ؛ فلهذا رَخَّصْتُ لَكُم في قَصْر الصَّلاة .
قوله « لكم » متعلّقٌ بمَحْذُوف : لأنه حالٌ من « عَدُوّاٍ » ، فإنه في الأصْل صِفَةُ نَكِرَةٍ ، ثم قُدِّم عَلَيْها ، وأجاز أبُو البَقَاء أن يتعلَّق ب « كَان » ، [ وفي المِسْألة ] كَلاَمٌ مرٍّ تَفْصِيلُه . وأفْرد « عَدُوّاً : وإن كَانَ المُرَادُ به الجَمْعَ لأنَّ العدُوَّ يسْتَوِي فيه الوَاحِد والجمع؛ قال- تعالى- : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي } [ الشعراء : 77 ] وقد تقدّم تَحْقِيقُه في البَقَرة .
فصل في معنى الآية
قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } متَّصِل بما بَعْدَه من صَلاَةِ الخَوْفِ ، منفصل عَمَّا قَبْلَه ، رُوِيَ عن أبي أيُّوبٍ الأنْصَارِي ، أنَّه قال : نَزل قَوْلُه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } هذا القَدْر ، ثمَّ بعد حَوْلٍ سألُوا رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن صَلاَةِ الخَوْفِ؛ فنزل : » إن خفتم « أي : وإن خِفْتُم » أن يفتنكم الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً ، وإذا كنت فيهم « .
ومثله في القُرْآن كَثِيرٌ [ أن ] يجيء الخبر بِتَمَامِه ، ثم يُنسق عَلَيْه خبرٌ آخًر ، وهو في الظَّاهِر كالمُتَّصِل به ، وهو مُنْفَصِلٌ عنه؛ كقوله - تعالى- : { الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } [ يوسف : 51 ] هذه حكاية عن امْرَأة العَزِيز ، وقوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] ، إخبارٌ عن يُوسُف- عليه الصلاة والسلام- .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
كما بيَّن قَصْر الصَّلاة بحَسبِ الكَمِيَّة في العَدَِ ، بين في هذه الآيَة كِيْفِيَّتَها ، والضَّمِير في « فِيهِم » يعُود كما بيَّن قَصْر الصَّلاة يَحسبِ الكَمِيَّة في العَدَِ ، بين في هذه الآيَة كَيْفِيَّتَها ، والضَّمِير في « فِيهِم » يعُود على الضَّاربين في الأرضِ ، وقيل على الخَائِفَين .
روى الكَلْبِيُّ ، عن أبِي صَالح؛ عن ابن عبَّاس ، وجابر - رضي الله عنهم- : أن المُشْرِكِين لَمَّا رأوْا رسُول الله صلى الله عليه وسلم وأصْحَابَهُ قاموا في الظُّهْر يُصَلُّون جميعاً ، نَدِمُوا ألاّ كَانُوا أكبُّوا عليهم ، فقال بَعْضُهم لبعضٍ : دَعْهم فإنَّ لهم بَعْدَها صَلاةَ هي أحَبُّ إليهم من آبائِهِم وأبْنَائِهِم ، يعني : صَلاَة العَصْر ، فإذا قَامُوا فيها فَشَدُّوا عليهم ، فاقْتُلُوهم؛ فنزل جِبْرِيل فقال : يا محمَّد إنَّها صلاة الخَوْفِ ، وإن الله - عز وجل- يقُول : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } فعلَّمه صَلاَةَ الخَوْفِ .
فصل : هل صلاة الخوف خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم
قال أبُو يُوسف ، والحَسَن بن زِيَاد : صلاة الخَوْف كانت خَاصَّة للرسول - عليه الصلاة والسلام- ، ولا تجُوز لغيره؛ لقوله- تعالى- : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } .
وقال المُزَني : كانت ثَابِتَةً ثم نُسِخَتْ ، ومذهب الجُمْهُور : ثُبُوتُها في حقِّ كل الأمَّة؛ لقوله - تعالى- : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] وأن حكمها باقٍن وقد ورد كيفيَّة صَلاَة الخَوْفِ على سِتَّة أوْجُه مذكُورة في كُتُبِ الفِقْهِ .
قال أحْمد بن حَنْبَل : كُلُّ حَدِيثٍ رُوِيَ في أبًواب صَلاةِ الخَوْفِ ، فالعَمَل به جَائِزٌ ، روي فيه سِتَّةُ أوْجُه مذكورة في كُتُبِ الفِقْهِ .
قوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } أي : شَهِيداً مَعَهُم في غَزَواتهم ، { فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ } أي : فَلْتَقِف؛ كقوله- تعالى- : { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [ البقرة : 20 ] أي : وَقَفُوا ، والمعنى : فاجْعَلْهم طَائِفَتَيْن ، فَلْتَقُم طَائِفة منهم مَعَك ، فَصَلٍّ بهم .
وقرأ الحسن « فَلِتَقُمْ » بِكَسْر لاَمِ الأمْر وهو الأصْل ، « وليأخذوا أسلحتهم » والضَّمير : إمَّا للمُصَلِّين ، أو لغيرهم ، فإنَ كان للمُصَلِّين ، [ فقالوا ] : يأخُذُون من السِّلاح ما لا يَشَعلُهُم عن الصَّلاة؛ كالسَّيْف والخنجَر؛ لأن ذلك أقْرَب إلى الإحْتِيَاط ، وأمْنَع للعدُوِّ من الإقْدَام عَلَيْهِم ، وإن كان لِغَيْر المُصَلِّين ، فلا كَلاَمَ .
واحتار الزَّجَّاج عَوْدَه على الجَميع ، قال : « لأنه أهيْيَب للعَدُوَِّ » . والسِّلاح : ما يُقَاتَل به ، وجمعه أسْلِحَة وهو مُذكَّر ، وقد يُؤنَّث باعْتِبَار الشَّوْكَة ، قال الطِّرمَّاحُ : [ الطويل ]
1876- يَهُزُّ سِلاحاً لَمْ يَرِثْهَا كَلاَلَةً ... يشُكُّ بِهَا مِنْهَا غُمُوضَ المَغَابِنِ
فأعاد الضَّمير عليه كَضَمير المؤنِّثة ، ويقال : سلاح كحِمَار ، وسِلْخٌ كضِلْع ، وسُلَح كصُرَد ، وسُلْحَان كسُلَطَان؛ نقله أبو بكر دُرَيْد . والسَّلِيحُ : نبت إذا رَعَتْه الإبل ، سَمِنَتْ وغَزُرَ لبنُها ، وما يُلْقِيه البَعِيرُ من جَوْفِه ، يقال له : « سُلاحٌ » بزنة غُلام ، ثم عُبِّر عن كُلِّ عَذِرة ، حتى قيل في الحُبَارَى ، « سِلاحُه [ سُلاحُه ] »
ثم قال - تعالى- : { فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } يعني : غير المُصَلِّين من وَرَائِكُم يَحْرُسُونكم يريد : مكان الَّذِين هم تجاه العَدُو ، ثم قال- [ تعالى ] - : { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } وهم الَّّذِين كانُوا في تجاه العَدُوِّ ، وقرأ أبو حَيْوة : « وليأتِ » بناء على تذكيرِ الطَّائِفَةِ ، ورُوِيَ عن أبِي عَمْرو : الإظْهَارُ والإدْغَامُ في « ولتأتِ طَائَفَةٌ » .