كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أَهُمُ الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام؟
[ فإن قيل : كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصَّانع وصفاته سبحانه ، وذلك قوله فيه فائدة؟
والجواب عندهم من وجيهن :
الأول : أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قَوْلاً باطلاً يحبط ثواب الأول ، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق .
قوله تعالى : « وَهُمْ يَتْلُونَ » جملة حالية ، وأصل يتلون : يَتْلُوُونَ فأعلْ بحذف « اللاَّم » ، وهو ظاهر .
و « الكتاب » اسم جنس ، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب ، وحَقُّ من حمل التوراة ، أو الإنجيل ، أو غيرهما من كتب الله ، وآمن به ألاَّ يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابيين مصدق للثاني شاهد لصحته .
قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } في هذه الكاف قولان :
أحدهما : أنها في محلّ نصب ، وفيها حينئذ تقديران :
أحدهما : أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عالمه ، تقديره : قولاً مثل ذلك القول [ الذي قال أي قال القول ] الذين لا يعلمون .
[ الثاني : أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه . قال : تقديره : مثل ذلك القول قاله أي : قال القول الذين لا يعلمون ] حال كونه مثل ذلك القول ، وهذا رأي سيبويه رحمه الله ، والأول رأي النُّحَاة ، كما تقدم غير مرة ، وعلى هذين القولين ففي نصب « مِثْلَ قَوْلِهم » وجهان :
أحدهما : أنه منصوب على البدل من موضع الكاف .
الثاني من الوجهين : أنه مفعول به العامل فيه « يَعْلَمُونَ » ، أي : الذين لا يعملون مثل مَقَالة اليهود ، والنَّصَارى قالوا مثل مقالتهم ، أي : أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتِّفاق ، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليَهُود والنصارى .
الثاني من القولين : أنها في محلّ رفع بالابتداء ، والجملة بعدها خبر ، والعائد محذوف تقديره : [ مثل ذلك قاله الذين لايعملون .
وانتصاب « مِثْلَ قَوْلِهِمْ » حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو مفعول ب « يعلمون » تقديره ] مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعملون اعتقاد اليهود والنصارى ، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ معفوله ، وهو العائد على المبتدأ ، ذكر ذلك أبو البقاء ، وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : أن الجمهور يأبى جعل الكاف اسما .
والثاني : حذف العائد المنصوب ، [ والنحاة ] ينصُّون على منعه ، ويجعلون قوله : [ السريع ]
745 وَخَالِدٌ يَحْمدُ سَادَاتُنا ... بِالْحَقِّ لاَ يُحْمَدُ بَالْبَاطِلِ
ضرورة .
[ وللوكفيين في هذا تفصيلٌ ] .
فصل في المراد بالذين لا يعلمون
قوله تعالى : { قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } فقال مقاتل رحمه الله : إنهم مشركو العرب قالوا في نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه : إنهم ليسوا على شيء من الدين ، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنَّصَارى ، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألاَّ يلتفت إليه .
وقال مجاهد : عوام النصارى فَصْلاً بين خواصهم وعوامهم .
وقال عطاء : أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح ، وقوم هود وصالح ، ولوط وشعيب ، قالوا لنبيهم : إنه ليس على شيء .
وقيل : إن حملنا قوله : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ } على الحاضرين في زمن صلى الله عليه وسلم حملنا قوله : { قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } على المُعَاندين المتقدمين ويحتمل العكس .
قوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : قال الحسن : يكذبهم جميعاً ، ويدخلهم النار .
وثانيها : ينصف المظلوم المكذَّب من الظالم المكذِّب .
وثالثها : يريهم من يدخل الجنة عياناً ، ومن يدخل النار عياناً ، وهو قول « الزجاج » .
قوله : { بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } منصوبان ب « يحكم » ، و « فيه » متعلق ب « يَخْتَلِفُونَ » .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
« مَنْ » استفهام في محلّ رفع بالابتداء ، و « أظْلَمُ » أفعل تفضيل خبره ، ومعنى الاستفهام هنا النفي ، أي : لا أحد أظلم منه ، ولما كان المعى على ذلك أورد بعض الناس سؤالاًنوهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى } [ الأنعام : 21 ] { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } [ السجدة : 22 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } [ الزمر : 37 ] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه ، فكيف يوصف غيره بذلك؟ والجواب من وجوه :
أحدها : وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قالك لا أحد من المنانعين أظلم ممن منع من مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله ، ولا أحد من الكَذَابين أظلم ممن كذب على الله ، وكذلك ما جاء منه .
الثاني : أن التَّخصيص يكون بالنيِّسْبة إلى السَّبْق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكاً طريقهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها .
الثالث : أن هذا نفي للأظلمية ، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظَّالمية لم يكن مناقضاً؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية ، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ما وصف بذلك يزيد على الآخر؛ لأنهم متساوون في ذلك ، وصار المعنى : ولا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى وممن ذكر ، ، ولا إشكال فى تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم ، كما أنك إذ قلتك « لا أحد أفقه من زيد وبَكْر وخالط » لا يدلّ على أن أحدهم أَفْقَهُ من الآخر ، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم ، لا يقال : إن من منع مساجد الله ، وسعى في خَرَابها ، ولم يفتر على الله كذباً أقلّ ظلماً ممن جمع بين هذه الأشياء ، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكُفَّار ، وهم متساوون في الأظلمية إذْ كانت طرق الأظلمية مختلفة .
و « مَنْ » يجوز أن تكون موصولة ، فلا محلّ للجملة بعدها ، وأن تكون موصوفةً فتكون الجملة محلّ جار صفة لها .
و « مَسَاجِدَ » مفعول أول بت « منع » ، وهي جمع مسجد ، وهو اسم مكان السجود ، وكان من حقه أن يأتي على « مَفْعَل » بالفتح لانضمام عين مضارعة ، ولكن شذّ كسره ، [ كما شذّت ألفاظ تأتي ] .
وقد سمع « مَسْجَد » بالتفح على الأصل .
قال القرطبي رحمه الله : قال الفَرَّاء : كل ما كان على « فَعَلَ يَفْعُل » ، مثل دَخَلَ يَدخُل ، فالمَفْعَل منه بالفتح اسماً كان أو مصدراً ، ولا يقع فيه الفرق ، مثل : دخل يَدْخُل مَدْخَلاً ، وهذا مَدْخَلُه ، إلاَ أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين ، من ذلك : المَسْجِد ، والمَطْلع ، المَغْرِب ، والمَشْرِقن والمَسْقِط ، والمَفْرِق ، والمْجزِر ، والمَسْكِن ، والمَرْفِق ، من : رفَقَ يَرْفُق ، والمَنْبِت ، والمنْسك مَنْك نَسَكَ يَنْسُك ، فجعلوا الكَسر علامة للاسم .
والمَسْجَد بالفتح جَبْهَةُ الرجل حيث يصيبه مكان السجود .
قال الجوهري رحمه الله تعالى : الأعظاء السَّبعة مَسَاجد ، وقد تبدل جيمه ياء ، ومنه : المَسْجد لغة « .
قوله تعالى : » أَنْ يُذْكَرَ « ناصب ومنصوب ، وفيه أربع أوجه :
أحدها : أنه ثاني ل » منع « ، تقول : منعته كذا .
وقال أبو حيان : فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله ، ما أشبهه .
والثالث : أنه بدل اشتمال من » مَسَاجِدَ « أي : منع ذكر اسمه فيها .
والرابع : إنه على إسقاط حرف الجر ، والأصل من أن يذكر ، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران م كونها في محلّ نصب أو جر ، و » في خرابها « متعلق ب » سعى « .
واختلف في » خراب « فقال أبو البقاءك » هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسَّلام بمعنى التسليم ، وأضيف اسم المصدر لمفعوله؛ لأنه يعمل عمل الفعل « .
وهذا على أحد القولين في أسم المصدر ، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله : [ الوافر ]
746 أَكُْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا
وقال غيره : هو مصدر : خَرِبَ المكمان يَخْرُبَ خرباًن فالمعنى : سعى في أن تَخْرب هي بنفسها بعدم تَعَاهدها بالعِمَارة ، ويقال : منزل خَرَاب وخَرِب؛ كقوله : [ البسيط ]
747 ما رَبْعُ مَيِّةَ مَعْمُوراً يَطِيفُ بِهِ ... غَيْلاَنُ أَبْهَى رُباً مِنْ رَبْعِها الخَرِبِ
فهو على الاول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل .
فصل في تعلق الآية بما قبلها
في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :
فأما من حملها على النصارى ، وخراب » بيت المقدس « قال : تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط . فقيل لهم : كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد ، والسعي في خراباها هكذا؟ وأما من حمله على المسجد الحرام ، وسائر المساجد ، قال : جرى مشركي العرب في قوله تعالى : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } [ البقرة : 113 ] .
وقيل : [ ذم جميع الكفار ] ، فمرة وجه الذَّنب إلى اليهود والنصارى ، ومرة إلى المشركين .
فصل فيمن خرب » بيت المقدس «
قال بن عباس رضي الله تعالى عنه : [ إن ملك النصارى غزا » بيت المقدس « فخربه ، وألقى فيه الجيف ، وحاصر أهله ، وقلتهم ، وسبى البقية ، وأحرق التوراة ] ، ولم يزل » ببيت المقدس « خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر .
وقال الحسن وقتادة والسديك نزلت في بخت نصر وأصحابه غزو اليهود وخربوا بيت المقدس ، وأعانه على ذلك [ الرومي وأصحابه النصارى من أهل » الروم « .
قال السدي : من أجل أنهم قلتوا يحيى بن زكريا عليهما السلام .
قال قتادة : حلمهلم بغض اليهود على معاونة بخث نصر البابلي المجوسي ] .
قال ابو بكر الرازي رحمه الله تعالى في « أحكام القرآن » : هذان الوَجهان غلطان؛
لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد « بختنصّر » كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل ، والنصارى كانوا بعد المسيح ، فيكف يكونون مع بختنصّر في تخريب « بيت المقدس » ؟
وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم « بيت المقدس » مثل اعتقاد اليهود وأكثر ، فكيف أعانوا على تخريبه .
وقيل : نزلت في مشركي العَرَبِ الذين منعوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن الدعاء إلى الله ب « مكة » وألجئوه إلى الهِجْرةن فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام ، وقد كان الصديق رضي الله عنه بنى مسجداً عند دارهن فمنع وكان ممن يؤذيه وِلْدَان قريش ونساؤهم .
وقيل : إن قوله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ الإسراء : 110 ] نزلت في ذلك ، فمنع من الجهر لئر يؤذى ، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئاً ، ويصلون له تذللاً ، وخشوعاًن ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه ، وألسنتهم بالذكر له ، وجميع جسدهم بالتذلُّل لعظمته وسلطانه .
وقال أبو مسلم : المراد منه الذين صّدُّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من « المدينة » عام « الحديبية » ، واستشهد بقوله تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتح : 25 ] حلم قوله تعالى : « إلاَّ خَائِفِينَ » بما يعلي الله من يده ، ويظهر من كلمته ، كما قال في المُنَافقين : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } [ الأحزاب : 6061 ] .
[ فإن قيل : كيف يجوز حمل لفظ المساجد علكى مسجد واحد؟
والجواب : أن هذا كمن يقول : من أظلم ممن آذى صالحاً واحداً ، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين .
أو يقال : إن المسجد موضع السجود ، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مَسْجداً واحداً ] .
قال ابن الخطيب : وعندي فيه وجه خامس ، وهو أقرب إلى رعاية النظم ، وهو أن يقال : إنه لما حولت القِبْلَة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهودن فكانوا يمنعون النَّاس عن الصَّلاة عند توجّههم إلى الكعبة ، ولعلّهم أيضاً سعةوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها ، وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القِبْلَةِ ، فعابهم الله بذلكن وبيّن سوء طريقتهم فيه .
قال : وهذا التأويل أوْلَى مما قبله ، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السَّابقة على هذه الآية إلاَّ قبائح أفعال اليهود ولنصارى ، وذكر أيضاً بعدها قَبَائح أفعالهم ، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صَدّهم الرسول عن المَسجِدِ الحرام .
وأما حمل الآية على سَعْيِ النَّصَارى في تخريب « بيت المقدس » فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرَّازي رحمه الله تعالى ، فلم يبق إلاَّ ما قلناه .
فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم ، وفيه إشكال؛ لأن الشرك ظلم على ماقال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 113 ] مع أن الشِّرك أعظم من هذا الفعل ، كذا الزنا ، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل .
فالجواب عنه : [ مضى ما في الباب ] أنه عام دخله التخصيص ، فلا يقدح فيه . والله أعلم .
فصل فيما يستدل بالآية عليه
قال القُرْطبي رحمه الله : لا يجوز منع المرأة من الحجّ إذا كانت ضرورة ، سواء كان لها محرم أم لم يكن ، ولا تمنع أيضاً من الصَّالا في المَسَاجد ، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة واسلام : « لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ » وكذلك لا يجوز نقض المسجد ، ولا بيعه ، ولا تعطيله ، إن خربت المحلّة ، ولا يمنع بناء المساجد إلاَّ أن يقصدوا الشِّقاق والخلاف ، بأن يَبْنُوا مسجداً إلى جنب مَسْجد أو قَرْية ، يريدون بذلك تفريق أهل المسجد الأول وخرابه ، واختلاف الكلمة ، فإن المسجد الثَّاني ينقض ، ويمنع من بنيانه ، وسيأتي بقية الكلام [ في سورة « براءة » إن شاء الله تعالى ] .
قوله تعالى : { أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ } .
« أولئك » مبتدأ ، « لهم » خبر « كان » مقدّم على اسمها ، واسمها « أنْ يَدْخُلُوهَا » لأنه في تأويل المصدر ، أي : ما كان لهم الدخول ، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن « أولئك » .
قوله : إلاَّ خَائِفِينَ « حال من فاعل » يَدْخُلُوهَا « وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال؛ لأن التقدير : ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال ، إلاَّ في حالة الخوف .
وقرأ أبي » خُيَّفاً « وهو جمع خَائِف ، ك » ضارب و « ضُرّب » ، والأصل : خُوَّف ك « صُوَّم » ، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز ، قالوا : صوم وصيم ، وحَمَل أولاً على لفظ « من » ، فأفرد في قوله : « منع ، وسعى » وعلى معناه ثانياً ، فجمع في قوله : « أولئك » وما بعده .
فصل في ظاهر الآية
ظاهر الآية يقتضي أنَّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المَسْجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلاَّ خائفين .
وأما من جعله عامَّا في الكل ، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً :
أحدها : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مَسَاجد الله إلاَّ خائفين على حال الهيبة؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فَضْلاً أن يستولوا عليها ، ويمنعوا المؤمين منها ، ولمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم .
وثانيها : أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظرهم على المسجد الحرام ، وعلى سائر المساجد ، وأنه يذلّ المشركين لهم حتَّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلاَّ خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب ، أو يقتل إن لم يسلمنوقد أنجز الله تعالى ت صدق هذا الوعد ، فمنعهم من دخول المسجد الحرام ، ونادى فيه عام حجّ أبو بكر رضي الله عنه : « ألا لا يحجن بعد العام مشرك » ن وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخراج اليهود من جزيرة العرب ، فحجّ من العام الثاني ظارهاً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام ، وهذا هو تفسير أبي مسلم .
ثالثها : أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصَّغّار والذل بالجِزْيَةِ والإذْلال .
ورابعها : أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام ، إلاّ في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمُخَاصمة والمُحَاكمة والمُحَاجّة؛ كلّ ذلك يتضمّن الخوف ، والدليل عليه قوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] .
وخامسها : قال قتادة والسُّديك بمعنى أن النصارى لا يدخلون « بيت المقدس » إلا أكثر من مائة سنة في أيدي النَّصَارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدُّخول فيه إلا خائفاً ، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رحمه الله في زماننا .
وسادسها : أنه كان لفظه لفظ الخبر ، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول ، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] .
[ وسابعها : أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلاَّ خائفاً من القتل والسَّبي ] .
قوله : { لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ } هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها ، ولا يجوز أن تكون حالاً ، لأن خزيهم ثابتٌ على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة .
اختلفوا في الخِزْي ، فقال بضعهم : ما يلحقهم من الذُّل بمنعهم من المساجد ، وقال قتادة القَتْلُ للخزي ، والجزية للذمي .
وقال السدي : الخزي لهم في الدنيا قيام المهدين وفتح « عَمورِيّة » و « رُومِيَّة » و « قُسْطَنْطِنيَّة » ، وغير ذلك من مُدنهم ، والعَذاب العظيم [ فقد وصفه الله تعالى ت بما ] يجري مجري النهاية في المبالغة؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم باعظم الظلمن فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم .
فصل في دخول الكفار المسجد
اختلفوا في دخول الكافر المسجد ، فجوزه أبو حنيفة مطلقاً ، وأباه مالك مطلقاً .
وقال الشافعي رضي الله عنه : يمنع دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، واحتج بوجوه منها قوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا }
[ التوبة : 28 ] ، قال : قد يكون المراد المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة ، إما على المسجد فقط ، أو على الحرم كله ، وعلى التقديرين ، فالمقصود حاصل؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً .
فإن قيل : المراد به الحجّ لقوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] لأن الحجّ إما يفعل في السنة مرة واحدة .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه ترك للظَّاهر من غير موجب .
الثَّاني : ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم ، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نَجَاستهم ، [ وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام ] .
الثالث : أنه تعالى لو أراد الحج لذكر البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج هو « عرفة » .
الرابع : الدَّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 28 ] فأراد به الدخول للتجارة .
منها قوله تعالى : { أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد ، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلاَّ ما قام عليه الدليل .
فإن قيل : هذه الآية مخصوصة بمن خرب « ببيت المقدس » ، أو بمن منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العِبَادَةِ في الكعبة .
وأيضاً يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج .
فالجواب عن الأول : أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر ، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما يحصل من الدخولن وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول ، بل من شيء آخر .
ومنها [ أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم ، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجبٌ ، وتميكن الكُفَّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفُّوا به ، وأقدموا على تلويه وتنجسه .
ومنها أنه تعالى ] أمر بتطهير البيت في قوله : { طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [ البقرة : 125 ] والمشرك نجس لقوله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } [ التوبة : 28 ] .
والتطهير على النجس واجب ، فيكون تعبيد الكافر عنه واجباً ، وبأنا أجمعنا على أن الجُنب يمنع منه ، فالكافر بأن يمنع منه أولى .
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بأنه عليه الصلاة والسلام لماتقدم عليه وفد « يثرب » فأنزلهم المسجد بقوله عليه الصلاة والسلام : « مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الكَعْبَةَ فِهُوَ آمِنٌ » .
وهذا يقتضي إباحة الدخول .
وأيضاً فالكافر جاز له دخول سائر المساجد ، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم .
الجواب عن الحديثين : أنهما كانا في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بالآية ، وعن القياس أن المسجد الحرام [ أعظم ] قدراً من سائر المساجد ، فظهر الفرق ، والله أعلم .
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
قوله : عز وجل : { وَللَّهِ المشرق والمغرب } جلمة مرتبطة بقوله : « مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ ، وسَعَى في خَرَابِهَا » .
يعنى : أنه إن سعى في المنع من ذكره تعالى وفي خراب بيوته ، فليس في ذلك مانعاً من أداء العبادة في غيرها؛ لأن المشرق والمغرب ، وما بينهما له تعالى ، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين :
أحدهما : لشرفهما حيث جعلا لله تعالى .
والثاني : أن يكون من حذف المعلوم للعلم ، أي : لله المشرق والمغرب وما بينهما ، كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] والبرد؛ وكقول الشاعر : [ البسيط ]
748 تَنْفِي بَدَاهَا الحَصَى في كُلَّ هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيارِيفِ
أي : يداها ورِجْلاَهَا؛ ومثله : [ الطويل ]
749 كأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ... إَّذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أَعْسَرَا
أي : رجلُها ويدَاها .
وفي المشرق والمغرب قولان :
أحدهما : أنهما اسمان مكان الشروق والغروب .
والثاني : أنهما اسما مصدر ، أي : الإشراق والإغراب ، والمعنى : لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها ، وإغرابها من مغْربها ، وهذا يبعده قوله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } ، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتهما ، أو لأنهما مصدران ، وجاء المَشَارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم ، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما ، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع ، فحق أسم المصدر والزمان والمكان فتح العين ، ويجوز ذلك قياساً لا تلاوة .
قوله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ } « أَيْنَ » هنا اسم شرط بمعنى « إنْ » و « ما » مزيدةٌ عليها ، و « تولو » مجزوم بها .
وزيادة « ما » ليست لازمةً لها؛ بدليل قوله : [ الخفيف ]
750 أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا العُدَاةَ تَجِدْنَا .. . . .
وهي ظرف مكان ، والناصب لها ما بعدها ، وتكون اسم استفهام أيضاً ، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك « مَنْ » و « مَا » .
وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة ، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام .
وأصل تُولُوا : تُولِّيوا فأعل بالحذفن وقرأ الجمهور : تُوَلُّوا « بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا ، فإن » ولى « وإن كان غالب استعمالها أدبر ، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما .
تقول : وليت عن كذا إلى كذا ، وقرأ الحسن : » تَوَلَّوا « بفتحهما .
وفيها وجهان :
أن يكون مضارعاً ، والأصل : تتولوا من التولية ، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً ، نحو : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] .
والثاني : أن يكون ماضياً ، والضمير للغائبين ردّاً على قوله : » لَهُمْ في الدُّّنْيَا ولهم في الآخرة « فتتناسق الضمائر .
وقال أبو البقاء : والثاني : أنه ماض والضمير للغائبين ، والتقدير : إينما يَتَلّوا ، يعنى : أنه وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معى ثم قال : وقد يجوز أن يكون ماضياً قد وقع ، ولا يكون » أين « شرطاً في اللفظ ، بل في المعنى ، كما تقول : » ما صنعتَ صنعتُ « إذا أردت الماضي ، وهذا ضعيف؛ لأن » أين « إما شرط ، أو استفهما ، وليس لها معنى ثالث .
انتهى وهو غير واضح .
قوله : { فَثَمَّ وَجْهُ الله } الفاء وما بعدها جواب الشَّرْط ، فالجملة في محلّ جزم ، و « ثَمَّ » خبر مقدمن و « وَجْهُ اللهِ » رفع بالابتداء ، و « ثَمَّ » اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل : هنا وهنَّا بتشديد النون ، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب . قال أبو البقاء : لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك ، وثَمَّ ناب عن هناك [ وهذا ليس بشيء ] .
وقيل : بني لشبهه بالحَرْشفِ في الافتقار ، فإنه يفتقر إلى مشار إليه ، ولا ينصرف بأكثر من جره ب « من » .
ولذلك غَلِظ بعضهم في جعله مفعولاً في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [ الإنسان : 20 ] ، بل مفعول « رأيت » محذوف .
فصل في نفي التجسيم
وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه؛ لأنه لو كان الله تعالى جسماً ، وله جه جسماني لكان مختصاً بجانب معين وجهةٍ معينة ، ولو كان كذلك لكان قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } كذبان ولأن الةوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً ، وإذا ثبت هذا ، فلا بد فيه من التأويل ، ومعنى « وَجْهُ اللهِ » جهته التي ارتضاها قِبْلَةٌ وأمر بالتوجه نحوها ، أو ذاته نحو : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 68 ] ، أو المراد به الجَاهُ ، أي : فَثَمَّ جلال الله وعظمته من قولهم : هو وجه القول ، أو يكون صلةً زائداً ، وليس بشيء .
وقيل : المراد به العمل قاله الفراء؛ وعليه قوله : [ البسيط ]
751 أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصٍيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ
[ قوله تعالى : « وَاسِعُ عَليم » أي : يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم .
وقيل : واسع المغفرة .
فصل في سبب نزول الآية
في سبب نزول الآية قولان :
أحدهما : أنه أمر يتعلّق بالصلاة . والثاني : في أمر لا يتعلق بالصلاة .
فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجه :
أحدها : أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقابل « بيت المقدس » إلى الكعبة ، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب ، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى ، فإينما أمركم الله عزّ وجلّ باستقباله فهو القبلة؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها؛ بل لأن الله تعالى جعلها قبلة ، فهو يدبر عباده كيف يريد ] وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر .
وثانيها : قال ابن عباس رضي الله عنهما لما تحولت القِبْلَة عن « بيت المقدس » أنكرت اليهود ذلك ، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى :
{ قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 142 ] .
وثالثها : قال أبو مسلم : إن اليهود والنَّصَارى كل واحد منهم قال : إنَّ الجنة له لا لغيره ، فردَّ الله عليهم بهذه الآية؛ لأن اليهود إنما استقبلوا « بيت المقدس » ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصَّخرة والنصارى استقبلوا المشرق؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فولدت عيسى عليهما الصلاة والسلام هناك ، فردَّ الله عليهم أقوالهم .
ورابعها : قال قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ « بيت المقدس » بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية ، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة ، إلاَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجّه إلى « بيت المقدس » ، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء ، ثم إنه تعالى نسخه ذلك بتعيين الكعبة .
وخامسها : أن المراد بالآية من هو مشاهد الكعبة ، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد .
[ وسادسها : ماروى عبدالله بن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ، ثم صلينا فلما أصبحنا ، فإذا نحن على غير القِبْلَةِ ، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية ، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذ إلى الكعبة؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ « بيت المقدس » ] .
وسابعها : أن الآية نزلت في المسافر يصلى النوافل حيث تتوجّه به راحتله .
وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « إنما نزلت هذه الآية في الرَّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحتله في السفر » .
قال ابن الخطيب : فإن قيل : فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصَّواب؟
قلنا : إن قوله تبارك وتعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } مشعر بالتخيير ، والتخيير لا يَثْبُت إلا في صورتين :
إحداهما : في التَّطوع على الراحلة .
وثانيهما : في السفر عند تعذُّر الاجتهاد لظلمه أو لغيرها؛ لأن في هذين الوجهين المصّلي مخير .
فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير ، والذين حملوا الآية على الوجه الأول ، فلهم أن يقولوا : إن القِبْلَةَ لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس ، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت ، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت ، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القِبْلَتَين في المأذون فيه ، فَثَمَّ وجه الله ، قالوا : وحمل الكلام على هذا الوجه أولى؛ لأنه يعم كل مصلِّ ، وإذا حمل على الأول لا يعم؛ لأنه يصير محمولاً على التَّطوع دون الفرد ، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر ، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه ، فهو أولى من التخصيص ، وأقصى ما في ال « فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا » باب أن يقال : إنَّ على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال : من الجهات المأمور بها « فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ » إلاَّ أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى : « فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا » بحس ميل أنفسكم « فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ » ، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناهن وإذا كان كذلك ، فقد زالت طريقة التخيير .
القول الثاني : أنَّ هذه الآية نزلت في آمر سوى الصَّلاة وفيه وجوه :
أولها : أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجي أن يذكر فيها اسمي ، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا ، ثم إنهم أينما ولُّوا هاربين عني وعن سلطاني ، فإن سلطانى يلحقهم ، [ وتدبيري ] يسبقهم ، فعلى هذا يكون المراد منه [ سعة القدرة والسطان ] وهو نظير قوله : « وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ : ، وقوله : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] ، وقوله : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ طه : 98 ] .
وثاينها : قال قَتَادة : إن النبي عليه السلام قال : » إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ « ، وقالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ } [ آل عمران : 199 ] فقالوا : إنه كان لايصل [ إلى القِبْلَة ، فأنزل الله تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب ، وما بينهما كلها لي ، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني ، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذراً للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق ، وهو نحو قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] .
وثالثها : قال الحسن ، ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم : لما نزل قوله سبحانه وتعالى : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه؟ فنزلت هذه الآية .
ورابعها : قال علي بن عيسى رحمه الله : إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله تعالى عن ذكره حيث كنتم من أرضهم ، فللَّه المشرق والمغرب ، والجهات كلها .
وخامسها : زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب ] .
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
فصل
قرأ الجمهور : « وَقَالُوا » بالواو عطفاً لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها ، وهو أحسن في الربط .
وقيل : هي معطوفة على قوله : « وَسَعَى » فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة ، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله .
وقرأ ابن عامر وكذلك هي في مصاحف « الشام » : « قَالُوا » من غير « واو » ، وكذلك يحتمل وجيهن :
أحدهما : الاستئناف .
والثاني : حذف حرف العَطْف وهو مراد ، استغناءٌ عنه بربط الضَّمير بما قبل هذه الجملة ، و « اتَّخَذَ » يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع ، فيتعدّى لمفعول واحد ، وأن يكون بمعنى صَيَّر ، فيتعدّى لاثنين ، ويكون الأول هنا محذوفاً تقديره : وقالوا : اتخذ الله بعض الموجودات ولداً ، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مَفْعُول واحد : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } [ الأنبياء : 26 ] ، { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] ، { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] . والوَلد فعل بمعنى مفعول كالقَبْض والنقص وهو غير مقيس والمصدر : الولادة والوليدية وهذا الثاني غ ريب .
وقوله : « سبحانه » .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : « سُبْحَان » منصوب على المصدر ، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا .
قوله تعالى : { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } .
« بَلْ » إضراب وانتقال ، و « لَهُ » خبر مقدم ، و « ما » مبتدأ مؤخر ، وأتى هنا ب « مَا » ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيراً في « مَا » و « مَنْ » ، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله « قَانِتُونَ » ، فجاء بصيغة السَّلامة المختصّة بالعقلاء .
قال الزمخشري فإن قلت : كيف جاء ب « مَا » التي لغير أولي العلم مع قوله : « قَانِتُونَ » .
قلت : هو كقولهك « سبحان ما سخركن لنا » وكأنه جاء ب « ما » دون « من » تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم ، وهذا جنوح منه إلى أن « ما » قد قد تقع على أولي العلم ، ولكن المشهور خلافه .
وأما قوله : « سُبْحان ما سَخَّرَكُنَّ لَنَا » فسبحان غير مضاف ، بل هو كقوله :
752 .. سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةً . .
و « ما » مصدرية ظرفية .
قوله تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مبتدأ وخبر ، و « كُلُّ » مضاف إلى محذوف تقديراً ، أي : كلّ مَنْ في السموات والأرض .
وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً كذا قال أبو حيان رحمه الله تعالى . وهذا بعيد جداً ، لأن المجعول ولداً لم يَجْرِ له ذكر ، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداًَ وغيره « .
قوله : « لم يَجْرِ له ذكر » بل قد جرى ذكره فلا بُعْدَ فيه .
وجمع « قَانِتُونَ » حملاً على المعنى لما تقدم من أن « كُلاَّ » إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ ، [ ومراعاة المعنى ، وهو الاكثر نحوه : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ومن مراعاة ] اللَّفظ : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } [ الإسراء : 84 ] { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] ، وحسن الجمع هنا لِتَوَاخي رُؤُوس الآي .
والقُنُوت : أصله الدوام ، ويستعمل على أربعة أوجه : الطاعة والانقياد ، كقوله تعالى : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ } [ آل عمران : 43 ] وطول القيام ، كقوله عليه السلام « لما سئل : أي الصَّلاة أفضل؟ قال : طول القُنُوت » وبمعنى السّكوت [ كقول زيد بن أرقم رضي الله عنه : كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] فأمسكنا عن الكلام والدعاء ، ومنه القنوت .
قال ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : « قانتون » أي : أن كل من في السموات والأرض مطيعون .
وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين .
وقال السّدي رحمه الله تعالى : يطيعون يوم القيامة ، وأوردوا على هذا أيضاً بأن هذا صفة المتّكلين ] .
وقوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات } يتناول مَنْ لا يكون مكلفاً ، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر :
الأول : بكونها شاهدةً على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصّنعة ، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية .
الثاني : كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء ، وهو قول أبي مسلم رحمه الله تعالى ، وعلى هذين الوجيهن الآية عامة .
الثالث : أراد بما في السَّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزيز؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له .
فصل فيمن قال اتخذ الله ولداً
قال ابن الخطيب : اعلم أن الظاهر من قوله : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } أن يكون راجعاً إلى قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله } [ البقرة : 114 ] وقد ذركنا أن منهم من تأوّله على النصارى .
ومنهم من تأوّله على مشركي العرب .
ونحن قد تأولناه على اليهود ، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى؛ لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنَّصَارى قالوا : المسيح ابن الله ، ومشركوا العرب قالوا : الملائكة بنات الله ، فلا جَرَمَ صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها نزلت في كعب بن الأشرف ، و كعب بن الأسد ، ووهب بن يهوذا؛ فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله [ سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً .
وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ] عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى : « كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أََقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ : لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أنْ أَتْخِذَ صَاحِبَةً أوْ وَلَداً » .
فصل في تنزيه الله تعالى
قال ابن الخطيب رحمه الله : احتج على التنزيه بقوله تعالى : { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } ووجه الاستدلال من وجوه :
الأول : أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاتهن وكل ممكن لذاته محدث ، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود ، والمخلوق لا يكون ولداً [ لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم ، ووجوده إنما حصل يخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه ، فثبت أن ما سواه فهو عبده ، وملكه ، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولداً له ، كلّ هذا مستفاد من قوله : « بل له ما في السموات والأرض » أي : له كلّ ماسواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع ] .
والثاني : أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده ، إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً ، فإن كان أزليًّا لم يكن حكمنا بجعل أحدها ولداً والآخر والداً أولى من العكس ، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرّداً من غير دليل ، وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له .
والثالث : أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد ، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه ، وممتازاً عنه من وجه آخر ، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك مُحَال ، فإذن المجانسة ممتنعةٌ ، فالولدية ممتنعة .
الرابع : أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر ، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عَجْزِ الأب عن أمور نفسه ، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفَقْر [ يحكى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله عز وجل لصرت على دينه فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى عليه الصلاة والسلام مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رضي الله عنه : فإن كان عيسى إلهاً فكيف يعبد غيره ، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة ، فانقطع النصراني ] .
قوله تعالى : « بَدِيعُ السَّمَوَاتِ » المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع .
وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في « لَهُ » [ وفيه الخلاف المشهور ] وقرىء بالنصب على المدح .
و « بديع السموات » من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل ، والأصل بديع سماواتُه ، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب ، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل ، فنصبت ما كان فاعلاً ، ثم أضيفت إليه تخفيفاً ، وهكذا كلّ ما جاء نظائره ، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب؛ لئلا يلزم إضافته الصفة إلى فاعلها ، وهو لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل .
وقال الزمخشري رحمه الله : و « بديعُ السَّمَوَاتِ » من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها .
ورده أبو حيان بما تقدم ، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه .
وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً : وهو أن يكون « بديع » بمعنى مُبْدِع؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع؛ نحو : [ الوافر ]
753 أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ
إلا أنه قال : « فيه نظر » ، وهذا الوجه لم يذكر أبن عطية غيره ، وكأن النظر الذى ذكره الزمخشري والله أعلم هو أن « فعيلاً » بمعنى « مُفْعِل » غيرُ مقبس ، وبيت عمرو رضي الله عنه متأول ، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمصوبة تقديراً .
والمبدع : المخترع المنشىء ، والبديع : الشيء الغريب الفائق غيره حسناً .
قوله تعالى : { وَإِذَا قضى أَمْراً } العامل في « إذَا » محذوف يدل عليه الجواب من قوله : « فَإنَّمَا يَقُولُ » ، والتقدير : إذا قضى أمراً يكون ، فيكون هو الناصب له .
و « قضى » له معانٍ كثيرة .
قال الأزهري رحمه الله تعالى : « قضى » على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ : [ الكامل ]
754 وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وقال الشَّماخ : [ الطويل ]
755 قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ
فيكون بمعنى « خَلَقَ » نحو : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [ فصلت : 12 ] وبمعنى أَعلم : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 4 ] .
وبمعنى أمر : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] .
وبمعنى ألزم : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] .
وبمعنى ألزم : قضى القاضي بكذا .
وبمعنى أراد : « إِذَا قَضَى أمْراً » .
وبمعنى أَنْهَى ، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى ، تقول : قَضَى يَقْضِي قََضَاءَ؛ قال : [ الطويل ]
756 سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً ... عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا
ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع ، من قولهم : قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم؛ لأنه فصل للدعوى .
ولهذا قيل : حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات .
وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا : القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها .
ومنه : انقضى الشيء : إذا تم وانقطع .
وقولهم : قضى حاجته أي : قطعها عن المحتاج ودفعها عنه .
وقضى دينه : إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه ، أو انتفع كل منهما من صاحبه .
وقولهم : قضى الأمر ، إذا أتمه وأحكمه .
وأما قولهم : قضى المريض وقضى نَحْبَه : إذا مات ، وقضى عليه : قتله فمجاز .
[ اختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي المقدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم ] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً :
الأول : الدين؛ قال الله تعالى :
{ حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله } [ التوبة : 48 ] يعني : دينه .
الثاني : القول؛ قال تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } [ المؤمنون : 27 ] يعني قولنا . وقوله : { فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } [ طه : 62 ] يعنى قولهم .
الثالث : العذاب؛ قال تعالى : « لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ » يعني لما وجب العذاب بأهل النار .
الرابع : عيسى عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً } [ مريم : 35 ] يعنى : عيسى عليه الصلاة والسلام .
الخامس : القتل ب « بدر » ، قال الله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله } [ غافر : 78 ] يعنى : القتل ب « بدر » وقوله : { لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [ الأنفال : 42 ] يعنى قتل كفار « مكة » .
السادس : فتح « مكة » ؛ قال الله تعالى : { فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ التوبة : 42 ] يعنى فتح « مكة » .
السابع : قتل « قريظة » وجلاء « بني النضير » ؛ قال الله تعالى : { فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] .
الثامن : القيامة ، قال الله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] .
التاسع : القضاء؛ قال الله تعالى : { يُدَبِّرُ الأمر } [ الرعد : 2 ] يعنى القضاء .
العاشر : الوحي؛ قال الله تعالى : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض } [ السجدة : 5 ] يعنى الوحي .
الحادي عشر : أمر الخلق؛ قال الله تعالى : { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } [ الشورى : 53 ] .
الثاني عشر : النصر ، قال الله تعالى : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } [ آل عمران : 154 ] يعنون : النصر ، { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } [ آل عمران : 154 ] يعني النصر .
الثالث عشر : الذنب؛ قال الله تعالى : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } [ الطلاق : 9 ] يعنى جزاء ذنبها .
الرابع عشر : الشأن والفعل ، قال الله تعالى : { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] لعله : وشأنه .
قوله تعالى : « فيكون » الجمهور على رفعه ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي : فهو يكون ، ويعزى لسيبوبه ، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه .
والثاني : أن يكون معطوفاً على « يقول » ، وهو قول الزَّجاج والطبري ، ورد ابن عطية هذا القول ، وقال : إنه خطأ من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين الوجود . انتهى . يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟
وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة .
أما أذا قيل بأنه على سبيل التمثيل ، وهو [ الأصح ] فلا .
ومثله قوله أبي النجم : [ الرجز ]
757 إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي ... الثالث : أن يكون معطوفاً على « كن » من حيث المعنى ، وهو قول الفارسي ، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على « يقول » ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه « يقول » كالموضع الثاني في « آل عمران » ، وهو « ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون » ولم ير عطفه على « قال » من حيثُ إنه مضارعن فلا يعطف على ماضي ، فأورد على نفسه : [ الكامل ]
758 وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ : لاَ يَعْنِينِي
فقال : « أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ » .
قال بعضهم : ويكون في هذه الآية ت يعنى في آية « آل عمران » ت بمعنى « كان » فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على « قال » .
وقرأ ابن عامر : « فيكونَ » نصباً هنا ، وفي الأولى من « آل عمران » ، وهي { كُنْ فَيَكُونُ } ، تحرزاً من قوله تعالى : { كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ } [ آل عمران : 5060 ] .
وفي مريم : { كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ } [ مريم : 3536 ] .
وفي غافر : { كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ } [ غافر : 6869 ] .
ووافقه الكسائي على ما في « النحل » و « يس » .
وهي : { أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] .
أما آيتا « النحل » و « يس » فظاهرتان : لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه ، وسيأتي .
وأما ما انفرد به ابن عامل في هذه المواضع الأربعة ، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها ، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل ، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام اكلبير ، فقال ابن مجاهد : قرأ ابن عامر : « فَيَكُونَ » نصباً ، وهذا غير جائز في العربيةح لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في « يس » و « النحل » ن فإنه نسق لا جواب .
وقال في « آل عمران » : قرأ ابن عامر وحده : « كُنْ فَيَكُونَ » بالنصب وهو وَهَمٌ . قال : وقال هشامك كان أيوب بن تميم يقرأ : « فَيَكُونَ » نصباً ، ثم رجع فقرأ : « يَكُونُ » رفعاً .
وقال الزجاج : « كُنْ فَيَكُونُ » رفع لاغير .
وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير ناظر لملعنى ، يريدون أه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء .
وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى ، فإن ذلك لا يصح لوجهين :
أحدهما : أن هذا وإن كان بلفظ الأمر ، فمعناه الخبر نحو : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن } [ مريم : 75 ] . أي فيمدّ ، وإذا كان معناه الخبر ، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة؛ كقوله : [ الوافر ]
759 سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي تَمِيمٍ ... وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا
وقول الآخر : [ الطويل ]
760 لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا ... وَيَأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا
والثاني : أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو : « ائتني فأكرمك » تقديره : « إن أتيتني أكرمتك » .
وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التدقير : إن تكن تكن ، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً ، وقد علمت أنه لابد من تغايرهما ، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال ، قالوا : والمُعَاملة اللفظية ، واردةٌ في كلامهم نحو : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } [ الجاثية : 14 ] .
وقال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
761 فَقْلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ ... عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ
وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي
فجعل « تَغْرُب » جوابابً ل « ارقب » وهو غير مترتِّب عليه ، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا ، وإنما ذلك مُرَاعة لجانب اللفظ .
أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح .
وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليهح لأنه أراد بالعباد الخُلّص ، وبذلك أضافهم إليه .
أو تقولُ : إن الجزَمَ على حَذْفِ لامِ الأمر ، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى .
وقال ابن مالك : « إنَّ » « أنْ » الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر ب « إنما » اختياراً ، وحكاه عن بعض الكوفيين .
قال : وحكوا عن العرب : إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب « تحطم » ، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره : إنما هي ضَرْبَة فَحَطمح كقوله : [ الوافر ]
762 لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
فصل في تحرير كلمة كن
قال ابن الخطيب : أعلم أن ليس المراد من قوله تعالى : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هو أنه تعالى يقول له : « كُنْ » ، فحينئذ يتكون ذلك الشيء ، فإن ذلك فاسد ، والذي يدل عليه وجوه :
الأول : أن قوله تعالى : « كُنْ » ما أن يكون قديماً أو محدثاً ، والقسمان فاسدان ، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على « كُنْ » إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه :
الأول : أن كلمة « كُنْ » لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاُ ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد ، يجب أن يكون محدثاً .
الثاني : أن كلمة « إذا » لا تدخل إلا على الاستقبال ، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله : « كُنْ » مرتّب على القضاء ب « فاء » التعقيب؛ لأنه قال : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } والمتأخر عن المحدث محدث ، فاستحال أن يكون « كُنْ » قديماً .
الثالث : أنه تعالى رتّب تكوين المخلوق على قوله : « كُنْ » ب « فاء » التعقيب ، فيكون قوله : « كُنْ » مقدماً على تكوين المخلوق بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً ، فقوله : « كُنْ » لا يجوز أن يكون قديماًن ولا جائز أيضاً أن يكن قوله : « كُنْ » محدثاُ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله : « كُنْ » ، وقوله « كُنْ » أيضاً محدث ، فيلزم افتقار « كُنْ » إلى « كُنْ » آخر ، ويلزم التسلسل والدور ، وهما مُحَالان ، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله : « كُنْ » وأن قوله : « كن » إن [ كان ] خطاباً له حال وجوده ، فتحصيل للحاصل ، قاله أبو الحسن الماوردي .
قال القرطبي رحمه الله : والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه ، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قِرَدَةً خاسئين ، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات .
الثاني : أن الله تعالى علام بما هو كائن قبل كونهن فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة ، فجاز أن يقول لها : كوني ، وبأمرها بالخروج من حال العدم إلى ح ال الوجودح لتصير جميعها له ، ولعلمه بها في حال العدم .
الثالث : أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدث ويكوِّنهن إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله ، وإنما هو قضاء يريده ، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً ، كقول أبي النَّجْم : [ الرجز ]
763 إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي ... ولا قول هناك ، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن .
وكقول عمروا بن هممة الدَّوْسِيّ : [ الطويل ]
764 فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ ... إِذَا رَامَ تَطْيَراً يُقَالُ لَهُ : قَعِ
وقال الآخر : [ الرجز ]
765 قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الحَقَا ... وَنَجِّيَا لَحْمَيْكُمَا أَنْ يُمْرَقَا
الحجة الثانية : أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب « كُن » قبل دخوله في الوجود ، أو حال دخوله في الوجود ، والأول باطل؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سَفَه .
والثاني أيضاً باطل؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً ، وذلك أيضاً لا فائدة فيه .
الحجة الثالثة : أن المخلوق قد يكون جماداً ، وتكليف الجماد عبثن ولا يليق بَالحكيم .
الحجة الرابعة : أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإيرادات ، فإذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن وقله : « كُنْ » فإما أن يتمكّن من الإيجادج والإحداث ، أو لا يتمكّن ، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفاً على قوله « كن » ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألاَّ يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب « كن » فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القادرة ب « كن » وذلك نزاع لفظي .
الحجة الخامسة : أن « كُنْ » كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثر لهذه الكلمة .
الحجة السادسة : أن لفظة « كُنْ » ككلمة مركبة من الكاف والنون ، بشرط كون الكاف متقدماً على النونن فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما؛ فإن كان الا ل لم يكن لكلمة « كُنْ » أثر البتة بل التأثير لأحد هذه الحرفينن وإن كان الثَاني فهو مُحَال؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثَّاني حاصلاًُ ، حين جاء الثَّاني فقد فات الأولن وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة .
الحجة السابعة : قوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] بين أن قوله « كُنْ » متأخر عن خلقه ، إذ المتأخر عن الشَّيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه ، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله : « كُنْ » في وجود الشيء ، فظهر بذه الوجوه فساد هذا المذهب ، فإذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التأويل وهو من وجوه :
الأول : أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء ، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة .
الثاني : قال أبو الهُذَيل : إنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علما أنه أحدث أمراً .
الثالث : قال الاصم : إنه خاصٌّ بالموجودين الذين قال لهم : { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] ، من جرى مجراهم .
الرابع : أنه أمر للأحياء بالموت ، وللموتى بالحياة . والكل ضعيف ، والقوي هو الأول .
وقال القرطبي رحمه الله : التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود ، ولا يتأخر عنه ، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلاّ وهو موجود بالأمر ، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجودن ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : وتلخيص المعتقد في هذه الآية : أن الله عز وجل لم يزل آمراً للمعومات بشرط وجودها ، قادراً مع تأخّر المقدورات ، عالماً مع تأخر المعلومات ، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال ، فهو بحسب المأمورات؛ إذ المحدَثَات تجيء بعد أن لم تكن . كل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم ، فهو قديم لم يزل ولمعنى الذي تقتضيه عبارة « كُنْ؛ هو قديم قائم بالذات .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
« لو » و « لولا » يكونان حرفي ابتداء ، وقد تقدم عند قوله : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } [ البقرة : 64 ] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة : « هلا » فيختصَّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة ، كقوله : [ الطويل ]
766 تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
أي : لولا تعدون الكمَيَّ ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التخصيص يؤوَّشل؛ كقوله : [ الطويل ]
767 ونُبِّئْتُ لَيْلَى أَرْسَلَتْ بِشَفَاعَةٍ ... إلَيَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِعُهَا
ف « نفس ليلى » مرفوع بفعل محذوف يفسره « شفيعها » أي : فهلا شفعت نفس ليلى .
وقال أبو البقاء : إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتحضيض ، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان ، وهذه الجملة التخضيضية في محلّ نصب بالوقل .
قوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين } قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك .
وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي إسحاق : « تَشَّابَهَت » بتشديد الشين .
قال الدَّاني : « وذلك غير جائز؛ لأنه فعل ماض » ، يعني : أن التاءين المزيدتين إنما تجيثان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا .
فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين
هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين ، فإنهم قدحوا في التوحيد باتَّخاذ الولد ، وَقَدَحُوا الآن في النبوّة .
قال ابن عباس : « هم اليهود » .
وقال مجاهد : « هم النصارى » لأنهم المذكورون أولاً ، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك } [ النساء : 153 ] .
فإن قيل : المراد مشركو العرب ، لأنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون ، وأهلب الكتاب أهل العلم .
[ قلنا ] : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي ، وأهل الكتاب كانوا كذلك .
وقال قتادة وأكثر المفسرين : هم مشركو العرب لقوله : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } [ الأنبياء : 5 ] ، وقالوا : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] .
وتقرير هذه الشبهة أنك تقول : إن الله تعالى يكلّم الملائكة وكلم موسى ، ويقول : يا محمد إن الله تعالى كلّمك فلم يكلمنا مُشَافهة ، ولا ينص على نبوتك حتى يتأكّج الاعتقاد ، وتزول الشبهة ، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات ، وبالآيات وهي القرآن ، وسائر المعجزات ، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت ، فلم يجب إجابتها لوجوه :
أحدها : أنه إذا حصلت الدلالة الواحدةن فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب ، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة ، فحيث لم يكتف بها ، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد ، ويدل له قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } [ العنكبوت : 51 ] .
وثانيها : لو كان في [ علم الله تبارك وتعالى ] أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآسية لَفَعَلَهَا ، ولكنه علم أنه لو أعطاعهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك ، وذلك قال تعالى :
{ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] .
وثالثها : إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراقُ العادة عادة ، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً .
وأما قوله تعالى : « تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ » [ فالمراد أن المكذبين للرسل ت تتشابه أقوالهم وأفعالهم ] ، فكما أن قوم موسى ، [ كانوا أبداً في التعنت واقتراح ] الأباطيل ، كقولهم : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ } [ البقرة : 61 ] وقولهم : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] وقولهم : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } [ البقرة : 67 ] وقولهم : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 152 ] ، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العِنَادِ واللّجاج ، وطلب الباطل .
قوله : { قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يعنى القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة ، وكلام الذِّئْب ، وإشباع الّخلق الكثير من الطعام القليل ، آيات قاهرةٌ ، ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
اعلم أن القوم لما أَصرُّوا على العِنَّاد واللّجَاج الباطل ، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله أنه لا مزيد على مافعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة .
قوله : « بالحَقِّ » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مفعولاً به ، أي : بسبب إقامة الحق .
الثاني : أن يكون حالاً من المفعول في « أَرْسَلْنَاكَ » أي : أرسلناك ملتبساً بالحق .
الثالث : أن يكون حالاً من الفاعل ، أي : ملتبسين في الحق .
وفيه وجوه :
أحدها : أنه الصدق كقوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } [ يونس : 53 ] أي : صدق وقال ابن عباس رضي الله عنهما : « بالقرآن » ، لقوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ } [ ق : 5 ] .
وقال ابن كيسان : « بالإسلام وشرائعه » ، لقوله تعالى : { وَقُلْ جَآءَ الحق } [ الإسراء : 81 ] ، وقال مقاتل : « لم نُرسِلْك عبثاً وإنما أرسناك بالحق » لقوله عز وجل : { مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } [ الأحقاف : 3 ] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه :
أحدها : أنه متعلق بالإرسال .
وثانيها : أنه متعلّق بالبشير والنذير أي : أنت مبشر بالحق ومنذر به .
وثالثها : أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن ، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيراً لمن أطاع الله بالثواب ، ونذيراً لمن كفر بالعقاب ، والأولى أن يكون البشير والنذير حالاً من الرسول ، أي : أرسلناك بالحق لتكون بشيراً ونذيراً لمن اتبعك [ ونذيراً لمن كفر بك ] ويجوز أن يكون بشيراً ونذيراً حالاً من « الحق » ؛ لأنه يوصف أيضاً بالبشارة والنَّذَارة ، وبشير ونذير على صيغة « فعيل » .
أما بشير فتقول : هو من بَشَرَ مخففاً؛ لأنه مسموع فيهن و « فعيل » مطرد من الثلاثي .
وأما : « نذير » فمن الرباعي ، ولا ينقاس عَدْل مُفْعِل إلى فَعِيل ، إلا أن له هنا مُحَسِّناً .
قوله تعالى : « وَلاَ تُسْأَلُ » قرأ الجمهور : « تُسْأَلُ » مبنيًّا للمعفول مع رفع الفعل معلى النفي ، وفي معنى هذه القراءة وجوه :
أحدها : أن مصيرهم إلى الجحيم ، فمعصيتهم لا تضّرك ، ولست مسؤولاً عن ذلك ، وهنو كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] وقوله : { عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] .
الثاني : أنك هَادٍ وليسي لك من الأمر شيء ، ولا تَغْتَمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب ، ونظيره قوله تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] .
الثالث : أنك لا تسأل عن ذَنْب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة أُبَيّ : « وما تسأل » ، وقراءة عبدالله « ولن تسأل » .
وقال مقاتل رحمه الله تعالى : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لَوْ أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بَأْسَهُ بِاليَهُودِ لآمَنُوا » ؛ فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم } وقُرىء « تَسْألُ » مبيناً للفاعل مرفوعاً أيضاً ، وفي هذه الجملة وجهان :
أحدهما : أنه حال ، فيكون معطوفاً على الحال قبلها ، كأنه قيل : بشيراً أو نذيراً ، وغيكر مسؤول .
والثاني : أن تكون مستأنفةً .
وقرأ نافع ويعقوب : « تَسْأَلْ » على النَّهي ، وهذا مستأنف فقط ، ولا يجوز أن تكون حالاً؛ لأن الطَّلب لا يقع حالاً .
وفي المعنى على هذه القراءة وجهان :
الاول : روي أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة .
قال ابن الخطيب رحمه الله : وهذه الرواية بعيدة؛ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان عالماً بكفرهم ، وكان علاماً بأن الكفار معذّب ، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل .
والثاني : معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكُفَّار من العذاب ، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة ، فيقال لك : لا تسأل عنه .
وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : « ولن تسأل » .
وقرأ أبي : « وما تسأل » ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور ، نفي أن يكون مسؤولاً عنهم .
والجحيم : شدّة توقّد النار ، ومنه قيل لعين الأسد : « جَحْمَة » لشدة توقُّدها ، يقال : جَحِمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ؛ ويقال لشَّدة الحر « » جاحم « ؛ قال : [ مجزوء الكامل ]
768 وَالحَرْبُ لاَ يَبْقَى لِجَا ... جِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالمِرَاحُ
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
والرِّضَا : ضد الغضب ، وهو من ذوات « الواو » لقولهم : الرضوان ، والمصدر : رضاً ورِضَاء بالقصر والمد ، ورِضْواناً بكسر « الفاء » وضمها .
قال القرطبي رحمه الله : رَضِيَ يَرْضَى رِضاً ورِضاءً ورِضْواناً ورُضواناً ومَرْضاة ، وهو من ذوات « الواو » ويقال في التثنية : رِضَوان ، وحكى الكسائي رحمه الله : رِضيان ، وحكى رضاء ممدود ، وكأنه مصدر رَاضَى يُرَاضِي مُرَاضَاعةً ورِضَاءً .
وقد يتضمّن معنى « عَطَف » فيتعدى ب « عَلى » ؛ قال : [ الوافر ]
769 إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ .. . .
والملّة في الأصل : الطريقة ، يقال : طريق مُملٌّن أي : أثَّر فيه [ المشي ] ، ويعبر بها عن الشريعة تشبيهاً بالطريقة .
وقيلك بل اشتقت من « أَمْلَلْتُ » ؛ لأن الشريعة فيها مَن يُمْلي ويُمْلَى عليه .
فصل في سبب نزول هذه الآية
اعلم أنه تعالى لما بين أن العلّة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم ، وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في [ تشددهم في باطلهم ، وثباتهم على كُفْرهم ] أنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهمن ولا يرضون منك بالكُفْر ، بل الموافقة لهم في دينهم وطريقتهم .
قال ابن عباس رحمه الله : هذا في القِبْلَةِ ، وذلك أن يهود « المدينة » ونصارى « نجران » كانوا يرجون النبي صلى الله عليه وسلم حين كان يصلِّي إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكَعْبة أَيسُوا منه الموافقة على دينهم فنزلت هذه الآية .
وقيل : كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم الهدنة ، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه ، فأنزل الله هذه الآية .
معناه : إنك إن هادنتهم ، فلا يرضون بها ، ولا يطلبون ذلك تعللاً ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم .
قوله : « تَتَّبعَ » منصوب ب « أن » مضمرة بعد « حتى » قاله الخليل ، وذلك أن « حتى » خافضة بالاسم لقوله عز وجل : { حتى مَطْلَعِ الفجر } [ القدر : 5 ] وما يعمل في الاسم لايعمل في الفعل ألبتة وما يخفض اسماً لا ينصب شيئاً .
وقال النَّحاسك « تَتَّبع » منصوب ب « حتى » ، و « حتى » بدل من « أن » .
فصل في أن الكفر ملّة واحدة
دلت هذه الآية على أن الكفر ملّة واحدة لقوله تعالى : « مِلَّتَهُمْ » فوحّد الملّة ، وبقوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، وأمّا قوله صلوات الله وسلامه عليه : « لا يتوارَثُ أَهْل ملّتين شيء » المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : « لا يُوَرّثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ ، وَلا الكَافِرُ المُسْلِمَ » ثم قال تعالى : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } [ البقرة : 120 ] يعني الإسلام هو الهدى الحقّ الذى يصح أن يسمى هدى ، وهو الهدى كله ليس وراء هدى .
قوله تعالى : « هو » يجوز في « هو » أن يكون فصلاً أو مبتدأ ، وما بعده خبره ، ولا يجوز أن يكون بدلاً من « هُدَى اللهِ » لمجيئه بصيغة الرفع .
وأجاز أبو البقاء رحمه الله تعالى فيه أن يكون توكيداً لاسم « إن » ، وهذا لا يجوز فإن المضمر لا يؤكّد المظهر .
قوله : « وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ » هذه تسمى « اللام » الموطِّئَة للقسم ، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط ، وأكثر مجيئها مع « إن » وقد تأتي مع غيرها نحو : { لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ } [ آل عمران : 81 ] ، { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } { مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ } وحذف جواب الشَّرْط ، ولو أجيب الشرط لوجبت « الفاء » وقد تحذف هذه « اللاَّم » ويعمل بمقتضاها ، فيجاب القسم نحو قوله تعالى : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] .
والأهواء جمع هوى ، كما تقول : « جمل وأجمال » ، ولما كانت مختلفة جمعت ، ولو حمل على أفراد الملة لقال : هواهم . قوله : « مِن العِلْمِ » في محلّ نصب على الحال من فاعل « جَاءَكَ » و « مِن » للتبعيض ، أي جاءك حال كونه بعَ العلم .
فصل في المراد بهذا الخطاب
قيل : المراد بهذا الخطاب الأمة كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، فالخطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة . { بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم } البيان بأن دين الله هو الإسلام ، والقبلة قبلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهي الكَعْبَةٌ .
{ مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي معين يعصمك ويذبّ عنك .
فصل فيما تدل عليه الآية
قالوا : الآية تدلّ على أمور : منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله .
وثانيها : أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلّة ، ويبطل القول بالتقليد .
وثالثها : أن اتباع الهَوَى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدلّ على بطلان التقليد .
ورابعها : سئل الإمام أحمد رحمه الله عمن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : كافر .
فقيل : بم كفرته؟ فقال : بآية من كتاب الله ، تعالى ، { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } [ البقرة : 145 ] فالقرآن من علم الله تعالى ، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } رفع بالابتداء ، وفي خبره وجهان :
أحدهما : « يَتْلُونَهُ » ، وتكون الجملة من قوله : « أولئِكَ يُؤْمِنُونَ » : إما مستأنفة وهو الصحيح .
وإما حالاً على قول ضعيف مثله أو السورة .
والثاني : أن الخبر هو الجملة من قوله : « أولئِكَ يُؤْمِنُونَ » .
ويكون « يَتْلُونَهُ » و تكون الجملة في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في « آتْنَاهُمْ » وإما من الكتاب ، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين ، ولا كان الكتاب متلوًّا .
وجوز الحوفي أن يكون « يتلونه » خبراً ، و « أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ » خبراً بعد خبر ، قال : مثل قولهم : « هذا حلو حامض » كأنه يريد جعل الخبرين في معنى واحد ، هذا إن أريد ب « الذين » قوم مخصوصون .
وإن أريد بهم العموم ، كان « أولئِكَ يُؤْمِنُونَ » الخبر .
قال جماعة منهم ابن عطية رحمه الله وغيره و « يَتْلُونَهُ » حالاً يستغنى عنها ، وفيها الفائدة .
وقال أيضاً أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون « يَتْلُونَهُ » خبراً؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان : ونقول : ما لزم من الامتناع مِنْ جَعْلِهَا خبراً يلزم من جعلها حالاً؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة .
قوله تعالى : « حَقَّ تِلاَوَتِهِ » فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه نصب على المصدر وأصله : « تلاوةً حقًّا » ثم قدم الوصف ، وأضيف إلى المصدر ، وصار نظير « ضربت شديد الضرب » أي : ضَرْباً شديداً . فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه .
الثاني : أنه حال من فاعل « يَتْلُونَهُ » أي : يتلونه محقين .
الثالث : أنه نعت مصدر محذوف .
وقال ابن عطية : و « حَقَّ » مصدر ، والعامل فيه فعل مضمرن وهو بمعنى « أفعل » ، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف ، إنما جازت هنا؛ لأن تَعَرُّفَ التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض ، وإنما هو بمنزلة قولهم : رجل وَاحِدُ أُمِّه وَسِيجُ واحده يعني : أنه في قوة « أفعل » التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة ، وكأنه يرى أن إضافة « أفعل » غير محضة ، و لاحاجة إلى تقدير عامل فيه؛ لأن ما قبله يطلبه . والضمير في « به » فيه أربعة أقوال :
أحدهما وهو الظاهر : عوده على الكتاب .
الثاني : عوده على الرسول ، قالوا : « ولم يَجْرِ له ذكر لكنه معلوم » ، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار ، فإنه مذكور في قوله : { أَرْسَلْنَاكَ } [ البقرة : 119 ] ، غلا أن فيه التفاتاً من خطاب إلى غيبة .
الثالث : أنه يعود على الله تعالى ، وفيه التفات أيضاً من ضيمر المتكلّم المعظم في قوله : « أَرْسَلْنَاكَ » إلى الغيبة .
الرابع : قال ابن عطية : إنه يعود على « الهدى » وقرره بكلام حسن .
فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في أهل السَّفينة الذين كانوا مع جفعر بن أبي طالب ، وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من « الحبشة » وثمانية من رهبان « الشام » منهم بحيرى .
وقال الضحاك : هو من آمن من اليهود : عبدالله بن سلام ، وشعبة بن عمرو ، وتمام ابن يهوذا ، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين ، وعبدالله بن صوريا . دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب .
وقال قتادة وعكرمة : هم المؤمنون عامة لقوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } هذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب ، وهذا شأن القرآن؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما ، وأيضاً قوله : { يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون } وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن .
والتلاوة لها معنيان :
أحدهما : الاتباع فعلاً؛ لأن من اتبع غيره يقال : تلاه فعلاً ، قال تعالى : { والقمر إِذَا تَلاَهَا } [ الشمس : 2 ] .
والثاني : القراءة .
وفي حق التلاوة وجوه :
أحدها : أنهم يدبّروه ، فعلموا بموجبه [ حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما ] .
وثانيها : أنهم خضعوا عند تلاوته .
وثالثها : أنهم عملوا بمحكمه ، وآمنوا بمتشابهه ، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه ، وفوضوه إلى الله تعالى .
ورابعها : يقرءونه كما أنزل الهل ، ولا يحرفونه ، ولا يتأولونه على غير حق .
وخامسها : روي عن عمر رضي الله عنه هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا .
وسادسها : المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد ، وهو تعظيمها ، والانقياد لها .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
العامل في « إذ » « قال » .
وقيل : العامل فيه « اذكر » مقدراً ، وهو مفعول ، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولاً .
وقدره الزمخشري رحمه الله تعالى كان كيت وكيت ، فجعله ظرفاً ، ولكن عامله مقدر . و « ابْتَلَى » ما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه .
وأصل ابتلى : ابْتَلَوَ ، فألفه عن « واو؛ لأنه » من بَلاَ يَبْلو « أي؛ اختبر .
و » إبْرَاهِيم « مفعول مقدم ، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة؛ لأنه متى اتَّصَل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه ، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً وربتة ، هذا هو المَشْهثور ، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة .
وخالف أبو الفتح في ذلك وقال : » إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول ، فصار للفظ به شعور وطلب « .
وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل ، منها : [ السريع ]
770 لَمَّا عَصَى أَصْحَابُهُ مُصْعَباً ... أَدَّى إِلَيْهِ الكَيْلَ صَاعاً بِصَاعْ
ومنها : [ البسيط ]
771 جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ ... وَحُسْنِ فِعْلِ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ
وقال ابن عطية : وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع إلابتلاء به ، إذا معلوم أن الله هو المبتلي ، واتِّصَال ضمير الفعل بالفاعل موجب للتقديم ، يعنى أن الموجب للتقديم سببان : سبب معنوي وسبب صناعي .
و » إبراهيم « علم أعجمي .
قيل : معناه قبل النقل أب رحيم .
فصل في تفسير لفظ إبراهيم
قال الماوردى : هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم .
قال السهيلي : كثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي ، أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم ، راحم بالأطفال ، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغاراً إلى يوم القيامة [ على ماروى البُخَاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس ] .
وفيه لغات سبع ، أشهرها : إبراهيم بألف وياء ، وإبْرَاهام بألفين ، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في » البقرة « ، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر » النساء « وموضعين في آخر » براءة « وموضع في آخر » الأنعام « وآخر » العنكبوت « ، وفي » النجم « و » الشورى « و » الذاريات « و » الحديد « والأول في » الممتحنة « ، وفي » إبراهيم « وفي » النحل « موضعين ، وفي » مريم « ثلاثة ، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسة عشر في » البقرة « وثلاثة عشر في السور المذكورة .
وروي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك .
ويروى أنه قيل لمالك بن أنس : إن أهل « الشام » يقرءون ستة وثلاثين موضعاً إبراهام بالألف ، فقال : أهل « دمشق » بأكل البطِّيخ أبصر منهم بالقراءة .
فقيل : إنهم يدعون أنها قراءة عثمان .
فقال : هذا مصحف عثمان ، فأخرجه فوجده كما نقل له .
الثالثة : إبْرَاهِم بألف بعد الراء ، وكسر الهاء دون ياء ، وبها قرأ أبو بكر؛ وقال زيد بنُ عمروِ ينِ نُفَيْلِ : [ الرجز ]
722 عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ ... إذْ قَالَ وَجْهي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ
الرابعة : كذلك ، إلا أنه بفتح الهاء .
الخامسة : كذلك إلا أنه بضمها .
السادسة : إبْرَهَم بفتح الهاء من غير الف وياء .
قال عبدالمطلب : [ الرمل ]
773 نحْنُ آلُ الله ِ فِي كَعْبَتِهِ ... لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ ابْرَهَمْ
السَّابعة : إبْرَاهُوم بالواو .
قال أبو البقاء : ويجمع على « أَبَاره » عند قوم ، وعند آخرين « بَرَاهِم » .
وقيل : أبارِهَة وبَرَاهِمَة ويجوز أَبَارِهَة [ وقال المبرد رحمه الله تعالى : لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها ] .
وحكى ثعلب فيه : « بَرَاهٍ » كما يقال في تصغيره : « بُرَيْه » بحذف الزوائد .
والجمهور على نصب « إبراهيم » ورفع « رَبُّهُ » كما تقدم .
وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس . قالوا : وتأويلها دعا ربه ، فسمى دعاءه ابتلاء مجازاً؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير .
والضمير المرفوع في « فَأَتمّهُنّ » فيه قولان :
أحدهما : أنه عائد على « ربّه » أي : فأكملهن .
والثاني : أنه عائد على « إبْرَاهِيمَ » أي : عمل بهن ، ووفّى بهن .
وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده ب « الشوس » من أرض « الأهواز » .
وقيل : « بابل » ، وقيل : « كولى » وقيل « كسكر » وقيل : « حيران » .
ونقله أبوه إلى « بابل » أرض نمرود بن كنعان ، كان له أربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن ، ذكره السهيلي .
فصل فيما دلتش عليه السورة
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح و جوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم ، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 122 ] بين نوعاً آخر من البيان ، وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام معترف بفضله جميع الطَّوائف ، والمشركون أيضاً معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده ، ومن ساكني حرمه ، وخادمي بيته ، فذكر فضيلته لهم؛ لأنها تدلّ على قبول محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه :
أحدها : أنه تعالى لما أمر ببعض التكاليف ، فلما وفّ لأى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة .
وثانيها : أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللَّجَاج والتعصّب للباطل .
وثالثها : أن الحج من خصائص دين محمد صلى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ذلك عن إبراهيم ليكون ذلك كالحُجَّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك .
واربعها : أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى ، فبيّنم الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ، ووجوب الاقتداء به ، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب على قلوبهم .
فصل في معنى الاتبلاء
والابتلاء هنا الاختبار والامتحان ، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء؛ لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات على سبيل التَّفَصايل من الأَزَلِ إلى الأبد ، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً ، أو عاملهم معاملة المختبر .
وختلف في « الكَلِمَاتِ » فقال مجاهد : هي المذكورة بعدها في قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } إلى آخرها من الآيات ، ورفع البيت ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، والدعاء ببعث محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذه أمور شاقّة؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقاً عظيمة . وأما بناء البيت وتطهيره ، ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه ، ثم إنه يتضمّن إقامة المَنَاسك ، وقد امتحن الله تعالى الخليل عليه الصلاة والسلام بالشَّيْطَان في الموقف لرمي الجِمَار وغيرها .
وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد صلى الله عليه وسلم فهو مما يحتاج إلى اخلاص العمل لله تعالى ، وإزالة الحَسَد عن القلب ، فكل هذه تكاليف شاقّة ، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف ، فلم يقبل وقال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } .
واعترض القاضي على هذا ، فقال : إنما يجوز هذا لو قال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ، ثم قال بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن .
وأجيب عنه : بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط ، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء ، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال ، ثم أخبر عنه أتمّها ، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل ، وهذا ليس ببعيد .
وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : عشر خصال كانت فَرْضاً في شرعه ، وهي سُنّة في شرعنا : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، أما التي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق ، وفرق الرأس ، وقصّ الشارب ، والسِّوَاك ، وأما التي في البدن : فالخِتَان ، وحَلْق العَانَةِ ، ونَتْف الإبط ، وتقليم الأظفار ، [ والاستنجاء بالماء .
وفي الخبر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من قصّ الشارب ، وأول من اختتن وأول من قلّم الأَظفار ] .
وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثاً عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مَخْتُونين : آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال محمد بن حبيب الهاشمي أربعة عشر : آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرَّسِّ ، ومحمد صلى الله عليه وسلم . وروي أن عبدالمطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه وجعل مَأْدُبة ، وسماه محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام .
قال يحيى بن أيوب رضي الله تعالى عنه طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلاَّ عند ابن أبي السّريّ .
وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يُبْتلَ أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ابتلاه بثلاثين خَصْلة من خصال الإسلام : عشر منها في سورة « براءة » : { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] إلى آخر الآية .
وعشر منها في سورة « الأحزاب » : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] إلى آخر الآية وعشر منها في « المؤمنين » : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } إلى قوله { أولئك هُمُ الوارثون } [ المؤمنون 110 ] .
وروي عن ابن عباس : أربعون فزاد : وعشر في { سَأَلَ سَآئِلٌ } إلى قوله تعالى { يُحَافِظُونَ } [ المعارج : 1-34 ] .
وقال ابن عباس ، وقتادة ، والربيع : هي مناسك الحَجّ .
[ وقال الحسن ] : ابتلاه بسبعة أشياء : بالشمس والقمر ، والكواكب ، والخِتَان على الكِبَر ، والنار ، وذَبْح الولد ، والهجرة ، فوفّى بالكلّ .
وقال يمَان بن رباب : هي مَحَاجّته قومه ، والصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والضيافة ، والصبر عليها .
وقال بعضهم : هي قوله : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] .
وقال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يَرْفَعَان البَيْتَ : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [ البقرة : 127 ] الآية .
وقيل : هي قوله : { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] الآيات .
قال القَفّال : وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كلّ ما في فعله كُلفة شدة ومشقة ، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء ، ويتناول كل واحد منهان فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل ، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض ، [ فحينئذ يقع بين هذه الروايات ] ، فوجب التوقّف .
فصل في وقت هذا الابتلاء
قال القاضي : هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة؛ لأنَّ الله تعالى جعل قيامه عليه الصلاة والسلام بهنّ كالسبب لأنْ يجعله الله إماماً ، والسبب مقدم على المسّبب ، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشَّاقّة ، فلما وفَّى بها لا جرم أعطاه خُلْعة النبوة والرسالة .
وقال غيره : إنه بعد النبوة ، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي ، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته .
وأجاب القاضي : بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه التكاليف ، فلما تمّم ذلك جعله نبيّاً مبعوثاً إلى الخلق .
إذا عرفت هذا فنقول : قال القاضي : يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحَسَن من أمر الكواكب والشمس والقمر ، فإنه عليه الصلاة والسلام ابْتُلِيَ بذلك قبل النبوة .
وأما ذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الخِتان ، فكل ذلك بعد النبوة .
يروى أنه عليه الصلاة والسلام ختن نفسه ، وكان سنه مائة وعشرين سنة .
ثم قال : فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله : « أَتَمَّهُنَّ » أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن ، ويقوم بهن بعد النبوةن فلا جَرَمَ أعطاه خلعة الإمامة والنبوة .
فصل
قال القرطبي رحمه الله روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب ، يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف اضيف ، وأول من استحدّ ، وأول من قلّم الأظافر ، وأول من قَصَّ الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقاراً .
وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله .
قال غيره : وأول من ثَرَدَ الثَّرِيدَ ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من اسْتَاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل .
قوله : « قَالَ إِنِّي » هذه الجملة القولية يجز أن تكون معطوفة على ما قبلها ، إذا قلنا بأنها عاملة في « إذْ » ؛ [ لأن التقدير : وقال أِنِّي جاعلك إذ ابتلى ، ويجوز أن تكون استئنافاً إذا قلنا : إن العامل في « إذْ » مضمر ] ، كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل : قال : إنِّي جَاعِلُكَ .
ويجز فيها أيضاً على هذا القول أن تكون بياناً لقوله : « ابْتَلَى » وتفسيبراً له ، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، وما بعدها ، نقل ذلك الزمخشري .
قوله : « جَاعِلُكَ » هو اسم فاعل من « جَعَلَ » بمعنى « صَيَّرَ » فيتعدّى لاثنين :
أحدهما : « الكاف » ، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟
وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه في محل جر بالإضافة .
والثاني : أنه في محل نصب ، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير ، قالوا : ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة؛ كقولهم : [ الوافر ]
774 فَمَا أَدْرِ وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي
وقال آخر : [ الطويل ]
775 هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ .. . . .
وهذا يدل على تسليم كون « نون » مسلمني تنويناً ، وإلاّ فالصحيح أنها نون وقاية .
الثالث وهو مذهب سيبوبه أنّ حكم الضمير حكم مظهره ، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره .
والمفعول الثاني « إمَاماً » .
قوله : « لِلنَّاسِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلق بجاعل أي لأجل النَّاس .
والثاني : أنه حال من « إمَاماً » ، فإنه صفةُ نكرةٍ قدم عليها ، فيكون حالاً منها؛ إذ الأصل : إمَاماً للناس ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف .
و « الإِمَامُ » : اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به .
ومنه قيل لحائط البناء : « إِمَام » ويكون في غير هذا جمعاً ل « آمّ » اسم فاعل من آمّ يؤمّ نحو : قائم وقيام ، ونائم ونيام وجائع وجياع .
والمراد من الإمام هاهنا النبي ، ويدلّ عليه وجوه :
منها أن قوله : « للنَاسِ إِمَاماً » يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس ، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاًّ بالشرع؛ لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً [ لذلك الرسول لا إماماً له ، فحينئذ ] يبطل العموم .
وأيضاً إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [ والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّاً .
وأيضاً إنّ الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم ] قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 21 ] .
والخلفاء أيضاً أئمة؛ لأنه رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم ، وقبول قولهم ، وأحكامهم . والقضاة ، والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى ، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضاً إماماً به .
قال عليه الصلاة والسلام : « إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَام إِمَاماً لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا » وقد يسمى من يؤتم به في الباطل ، قال الله تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيداً .
فصل في إمامة سيدنا إبراهيم
اعلموا أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقّق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام السَّاعة ، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب ، وإما في الدين والشريعة حتى إن عَبَدَةَ الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام .
وقال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ النحل : 123 ] وقال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
وقال عز وجل : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } [ الحج : 78 ] .
وجميع أمة محمد ت عليه الصلاة والسلام يقولون في صلاتهم : وارْحَمْ محمّداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم ، وعلى آل إبراهيم .
قوله : « وَمِنْ ذُرِّيتِي » فيه ثلاثة أقوال :
أحدها : أ ، « ومنْ ذُرِّيَّتي » صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول ، والمفعول الثَّاني والعامل فيهما محذوف تقديره : قال : واجعل فريقاً من ذريتي إماماً قاله أبو البقاء .
الثاني : أن « وَمِنْ ذُرِّيَتِي » عطف على « الكاف » ، كأنه قال : « وجاعل بعض ذرّيتي » كما يقال لك : سأكرمك ، فتقول : وزيداً .
قال أبو حَيَّان : لا يصح العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة ، فالعطف عليها لا يكون إلاَّ بإعادة الجار ، ولم يُعَدْ؛ ولأن « مِنْ » لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفاً ، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح ، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف؛ لأنه نصب ، فتجعل « مِنْ » في موضع نصب؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [ في مذهب سيبويه رحمه الله تعالى ] لفوات المحرز ، وليس نظير ما ذكر؛ لأن « الكاف » في « سأكرمك » في موضع نصب .
الثالث : قال أبو حيان : والذي يقتضيه المعنى أني يكون « مِنْ ذُرِّيَّتِي » متعلقاً بمحذوف ، التقدير : واجعل من ذريتي إماماً ، لأن « إبراهيم » فهم من قوله : إني جاعلك للنَّاس إماماً الاختصاص فسأل أ ، يجعل من ذرّيته إماماً .
قال شهاب الدِّين : إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي ، فيتعدّى « جاعل » لواحد ، فهذا ليس بظاهر .
وإن أراد التعلق المعنوي ، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء ، ويجوز أن يكون « مِنْ ذُرِّيَّتِي » مفعولاً ثانياً قدم على الأول ، فيتعلّق بمحذوف ، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت : « من ذريتي إمام » لصح .
وقال ابن عطية : وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي : ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف ، ولو قدره قبل « مِنْ ذُرِّيَّتِي » لكان أولى؛ لأن ما في حَيّز الاستفهام لا يتقدم عليه .
وفي « ذرية » ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها ، وبالضم قرأ الجمهور ، وبالفتح قرأ أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت . وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل .
فصل في اشتقاق ذريّة
فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب :
أحدها : أنها مشتقة من « ذَرَوْتُ » .
الثاني : من « ذَرَيْتُ » .
الثالث : من ذَرَأَ الله الخَلْق .
الرابع : من الذَّرِّ .
وأما تصريفها فَذُرِّيَّة بالضم إن كانت من ذَرَوْتُ ، فيجوز فيها أن يكون وزنها « فُعُّولَة » ، والأصلك « ذُرُّوْوَة » ، فاجتمع واوان : الأولى زائدة للمد ، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفاً ، فصار اللفظ « ذُرُّويَة » ، فاجتمع ياء وواو ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة ، وكسر ما قبل الياء ، وهي الراء للتجانس .
ويجوز أن يكون وزنها « فُعِّيلَة » ، والأصل : « ذُرِّيْوَة » ، فاجتمع ياء المد والواو التي هي لام الكلمة ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت فيها ياء المد . وإن كانت من ذَرَيْتُ لغة في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنها « فْعُّولة » أو فُعِّيلَة كما تقدم ، وإن كانت « فُعُّولة » فالأصل « ذُرُّوْيَة » ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام .
وإن كانت « فُعِّيْلَة » فالأصل « ذُرِّيَية » ، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام . وإن كانت من ذرأ مهموزاً ، فوزنها ، « فُعِّيْلة » ، والأصل : « ذُرِّيْئة » فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة « خطيئة » والنسيء « ، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة .
وإن كانت من » الذَّر « فيجوز في وزنها أربعة أوجه :
أحدها : » فُعْلِيَّة « وتحتمل هذه الياء أن تكون للنَّسب ، وغَيَّرُوا الذَّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر : دُهْرِي ، وإلى السهل سُهْلي بضم الدال والسين ، وأن تكون الغير النسب فتكون ك » قُمْرية « .
الثاني : أن تكون » فُعِّيْلَة « ك » مُرِّيقَة « والأصل » ذُرِّيرة « ، فقلبت الراء الآخيةر ياء لتوالي الأمثال ، كما قالوا : تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت .
الثالث : أن تكون » فُعُّولَة « ك » قدوس « و » سبُّوح « ، والأصل : » ذُرُّوْرَة « فقلبت الراء ياء لما تقدم ، فصار ذُرُّوْيَة فاجتمع واو وياء ، فجاء القلب والإدغام كما تقدم .
الرابع : أن تكون فعلولة ، والأصل : ذُرُّوْرَة ، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله .
وأما ذِرِّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فِعَّيلة ، والأصل : ذِرَّيْوَة ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها ، فإ ، كانت من ذريت فوزنها فِعلية أيضاً ، وإن كانت من ذرأ فوزنها فِعَّيلَة أيضاً كبطِّيخة ، والأصل ذِرِّيْئَة ، ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال . وإن كانت من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون وزنها فِعَلِيَّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة .
الثاني : أن تكون » فِعَّيلَة « .
اثالث : أن تكون » فِعْليلة « ك » حلتيت « والأصل فيها : ذِرِّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الآخيرة ياء والإدغام فيها .
وأما » ذَرِّيَّة « بفتح الذال : فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها : فَعِّيْلة ك » سكينة « والأصل » ذَرِّيْوة أو ذَرِّيية أو فَعُّولة والأصل ذَرُّورَة أو ذَرُّويَة ، ففعل به ما تقدم في نظيره .
وإن كانت من ذرأ فوزنها : إما فعِّيلَة ك « سكينة » ، والأصل ذَرِّيئة وإما فَعُّولة ك « خرّوية » والأصل : ذَرَّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره .
وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضاً أربعة أوجه :
أحدها : فَعْلِيَّة ، والياء أيضاً تحتمل أن تكون للنسب ، ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألاّ يكون نحو : بَرْنية .
الثاني : فَعُّولة ك « خَرُّوبة » والاصل ذَرُّوْرَة .
الثالث : فَعَّيلَة ك « سكينة » والأصل : ذريرة .
الرابع : فَعْلُولة ك « بكُّولة » ، والأصل ذرورة أيضاً ، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخير ، وإدغام ما قبلها وكسرت الذال إتباعاً ، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة .
فصل في معنى الذّرية
النسل يقعل على الذكور والإناث ، والجمع الذراري .
وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلاًّ بقوله عز وجل : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] يعنى : نوحاً عليه الصلاة والسلام ومن معه ، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
فصل
هل كان إبراهيم عليه السَّلام مأذوناً له في قوله تعالى : « ومن ذرّيتي » أو لم يكن مأذوناً فيه؟ فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنباً .
قلنا : قوله : « ومن ذرّيتي » يدلّ على أنه عليه الصلاة والسلام طلب أن يكون بَعْضُ ذريته أئمة ، وقد حقق الله تعالى إجابة دُعَاءه في المؤمنين من ذريته ك « إسماعيل » ، و « يعقوب » ، و « يوسف » ، و « موسى » ، و « هارون » و « داود » ، و « سليمان » ، و « أيّوب » و « يونس » ، و « زكريا » ، و « يحيى » و « عيسى » ، عليهم السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام .
قوله تعالى : { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } .
الجمهور على نَصْب « الظَّالمِينَ » مفعولاً ، و « عَهْدِي » فاعل ، اي : لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم .
وقرأ قتادة ، والأعمش ، وأبو رجاء : « الظَّالِمُونَ » بالفاعلية ، و « عَهْدِي » مفعول به ، والقراءتان ظاهرتان؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما ، فإن من نالك فقد نِلْته .
والنَّيْل : الإدراك ، وهو العطاء أيضاً ، نال يَنَال نيلاً فهو نائل ، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من : « عَهْدِيْ » ، الباقون بفتحها .
فصل في تحرير معنى العهد
اختلفوا في العَهْدِ ، فقيل : الإمامة .
وقال السدي : النبوة ، وهو قول ابن عباس .
وقال عطاءك رحمتي .
وقيل : عهده أمره ، ويطلق على الأمر ، مقال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا }
[ آل عمران : 183 ] أي : أمرنا ، وقال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ } [ يس : 60 ] يعنى ألم أقدم إليكم الأمر به ، فيكون معنى قوله تعالى : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } أي : لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله .
[ قال قتادة رحمه الله تعالى : هو الإيمان .
وقال مجاهد والضحاك رحمهما الله هو طاعتي ، أي : ليس لظالم أن يطاع في ظلمه ومعنى الآية : لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك .
وقال أبو عبيدة رحمه الله تعالى : العهد الأمان من النار؛ لقوله عز وجل : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن } [ الأنعام : 82 ] .
قال ابن الخطيب : والأول أولى؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة .
فإن قيل : أفما كان إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظَّالمين؟
فالجواب : بلى ، ولكن لم يعلم حال ذرّيته ، فبيّن الله تعالى أن فيهم من هذا حاله ، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم .
فصل في عصمة الأنبياء
الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين .
الأول : أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد : الإمامة ، ولا شكّ أن كل نبي إمام ، فإن الإمام هو الذي يؤتم به ، والنبي أولى الناس ، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً ، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى .
الثاني : أنَّ العَهْدَ إن كان هو النبوة ، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظَّالمين ، وإن كان هو الإمامة ، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به ، وكل فاسق ظالم لنفسه ، فوجب ألاَّ تحصل النبوة لأحد من الفاسقين .
فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟
قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين : الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له ، واختلفوا في أنَّ الفسق الطَّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟
واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية ، ووجه الاستدلال بها من وجهين :
[ الأول : ما بيّنا أن قوله : « لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » جواب لقوله : « وَمِنْ ذُرِّيَّتِي » وقوله : « وَمِنْ ذُرِّيََّتِي » طلب الإمامة الَّتي ذكرها الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد بهذا العهْدِ هو الإمامة ، ليكون الجواب مُطَابقاً للسؤال ، فتصير الآية كأنه تعالى قال : لا ينال الإمامة الظَالمين ، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه ، فكانت الآية دالّة على ما قلناه ] .
فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة .
[ قلنا ] : أما الشيعة [ فيستدلون ] بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العِصْمَةِ ظاهراً وباطناً .
وأما نحن فنقول : مقتضى الآية ذلك إلاّ أنا تركنا عبارة الباطن ، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة .
فإن قيل : أليس أن يونس عليه الصلاة والسلام قال :
{ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] وقال آدم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ؟
قلنا : المذكور في الآية هو الظلم المطلق ، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام .
الوجه الثاني : أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } [ يس : 60 ] يعني : ألم آمركم بهذا؟
وقال الله تعالى : { قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا } [ آل عمران : 183 ] يعنى أمرنا ، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضائهم . إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول : لا يخلو قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } من أن يريد أن أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى ، ولما بطل الوجه الأول لانفاق المسلمين على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين ، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر ، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها ، فلا يكونون أئمة في الدّين ، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق ، قال عليه السلام : « لاَ طَاعَة لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ » ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً ، وأن أحكامه لا تنفذ إذ وُلِّيَ الحكم ، وكذلك لا تقبل شهادته ، ولا خبره [ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يُقَدَّم للصَّلاة ، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به ، فإنه لا تفسد صلاته ] .
وقال ابو بكر الرَّازيك « ومن النَّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ، ولا يجوز كون الفاسق قاضياً » ، قال : وهذا خطأ ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة ، وكيف يكون خليفةً ، وروايته غير مقبولة ، وأحكامه غير نافذة .
قال : وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنفية : أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه ، وتولى القضاء من إمام جائر فإنَّ أحكامه نافذة ، والصَّلاة خلفه جائزة؛ لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه ، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة ، فلا اعتبار في ذلك بمن وَلاَّه؛ لأن الذي ولاَّه بمنزلة سائر أعوانه ، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولاً ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرِّضَا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه ولكان قضاؤه نافذاً ، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان . والله أعلم .
فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظَّلمة
ونقل القرطبي رحمه الله تعالى عن أبن خويز منداد أنه قال : وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخذاً على موجب الشريعة ، فجائز أخذه؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحَجّاج وغيره .
وإن كان مختلطاً حالالاً وظلماً ، كما في أيدي الأمراء اليومن فالوَرَعُ تركه ، ويجوز للمحتاج أخذه ، وهو كَلِصٍّ في يده مال مسروق ، ومال حلال ، [ وقد وكله فيه رجل ، فجاء اللص يتصدق به على إنسان ] ، فيجوز أن تؤخذ منه الصَّدقة ، وكذلك لو باع أو اشترى كان العَقْدُ صحيحاً لازماً ، وإن كان الوَرَعُ التنزُّه عنه ، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها ، [ وإنما تحرم لجهاتها ، وإن كان في أيديهم ظلماً صراحاً ، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم ] ، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوباً غير أنه لا يعرف له صاحب ، ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ ويجعل في بيت المال ] .
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
« إذْ » عطف على « إذْ » قبلها ، وقد تقدم الكلام فيها ، و « جَعَلْنَا » يحتمل أن يكون بمعنى « خَلَقَ » و « وضعَ » فيتعدّى لواحدن وهو « البيت » ، ويكون « مَثَابَةً » نصباً على الحال وأن يكون بمعنى « صيّر فيتعدى لاثنين ، فيكون » مَثَابَةً « هو المفعول الثاني . والأصل في » مثابة « » مثوبة « فأعلّ بالنقل والقلب ، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟
وهل الهاء فيه للمبالغة ك » عَلاَّمة « و » نَسَّابة « لكثكرة من يثوب إليه ، أي يرجعن أو لتأنيث المصدر ك » مقامة « أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال ، وقد جاء حذف هذه الهاء؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل : [ الطويل ]
776 مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ
وقال : [ الرمل ]
777 جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ ... لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ
وهل معناه من ثاب يثوب أي : رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟
قولان :
أظهرهما : أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : إنهم يثوبون إليه في كل عام .
وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما : [ أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه ] ، وقرأ الأعمش وطلحة » مَثَابَاتٍ « جمعاً ، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس .
قوله تعالى : » لِلنَّاسِ « فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب .
والثاني : أنه متعلّق بجعل أي : لأجل الناس يعنى مناسكهم .
قوله تعالى : » وَأَمْناً « فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على » مثابة « وفيه التأويلات المشهورة : إما في جعله نفس المصدر ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذا أمن ، وأما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل ، أيك آمناً ، على سبيل المجاز كقوله : { حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] .
والثاني : أنه معمول لفعل محذوف تقديره : وإذ جعلنا البيت مثابة ، فجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد .
والمعنى : أن الله جعل البيت محترماً بحكمه ، وربما يؤيد هذا بقرأءة : » اتَّخِذُوا « على الأمر ، فعلى هذا يكون » وأَمْناً « وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية ، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات .
فصل في تحرير المقصود من البيت
اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني ، وهو تطهير البيت ، فنقول : المراد ببيت الله الحرام؛ لأن الألف واللام فيه : إما للعهد أو للجنس ، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس ، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة .
قال ابن الخطيب : وليس المراد نفس الكعبة؛ لأنه تعالى وصفه بكونه » أمناً « وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت ، والمراد منه كل حرم .
قال تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] والمراد حرم كله لا الكعبة نفسها؛ لأنه لا يذبح في الكعبة ، ولا في المسجد الحرام ، وقال تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] .
والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، وقال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن ، فاقتضى جميع الحرم . والسّبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت ، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت .
فصل في تحرير معنى الأمن
قوله : « وأمناً » أي : وموضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين ، ولا شَكَّ أن قوله تعالى : { جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } خبر فتارة يتركه على ظاهره ، ويقولك هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره ، ويقول : هو أمر .
أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القَحْط والجدب على ما قال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] وقوله : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ القصص : 57 ] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القَتْلِ في الحرم؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه .
وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه ، قال الله تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] فأخبر عن وقوع القَتْلِ فيه .
وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى : أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمناً من الغارة والقَتل ، فكان البيت محرماً بحكم الله تعالى ، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل « مكة » ، وكانوا يسمون قريشاً : أهل الله تعظيماً له ، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليَهُمَّ بالظَّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب ، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكَلْب قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح « مكة » : « إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لاَ يُعْضَدُ شُوْكُهُ ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلاَ يَلْتَقِطُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا ، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا » فقال العباس رحمه الله : يا رسول الله إلإذْخِرَ . فقال : « إلاَّ الإذْخِرَ » .
فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟
قال الشَّافعي رحمه الله تعالى ورضي عنه : إذا دخل البيت من وجب عليه حَدٍّ فلا تستوف منه ، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجوز .
واحتج الشافعي رضي الله عنه بأنه عليه الصلاة والسلام أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب « مكة » غيلة إن قدر عليه ، وهذا في الوقت الذي كانت « مكة » فيه محرمة ، وذلك يدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه ، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها .
واحتج أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية .
والجواب عنه أن قوله : « وأمناً » ليس فيه بيان أنه جعله آمناً في ماذا؟ فيمكن أن يكون أمناً من القَحْط ، وأن يكون آمناً من نَصْب الحروب ، وأن يكون آمناً من إقامة الحُدُود ، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل ، بل حَمْلُه على الأمن من القَحْط والآفات أَوْلَى؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر ، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك ، فكان قول الشَّافعي رحمه الله أولى .
قوله تعالى : « واتَّخِذُوا » قرأ نافع وابن عامر : « واتَّخَذُوا » فعلاً ماضياً على فلظ الخبر ، والباقون على لفظ الأمر .
فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه معطوف على « جَعَلْنَا » المخفوض ب « إذ » تقديراً ، فيكون الكلام جملة واحدة .
الثاني : أنه معطوف على مجموع قوله : « وإذْ جَعَلْنَا » فيحتاج إلى تقدير « إذْ » أي : وإذ اتَّخّذُوا ، ويكون الكلام جملتين .
الثالث : ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره : فثابوا واتخذوا .
وأما قراءة الأمر فيها أربعة أوجه :
أحدها : أنها عطف على « اذكروا » إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسْرَائِيل ، أي : اذكروا نعمتي واتخذوا .
والثاني : أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله : « مثابة » ، كأنه قال : ثوبوا واتخذوا ، ذكر هذين الوجهين المَهْدَوِي .
الثالث : أنه مفعول لقول محذوف ، أي : وقلنا : اتخذوا ، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته ، أو لمحمد عليه الصلاة والسلام وأمته .
الرابع : أن يكون مستأنفاً ذكره أبو البقاء .
قوله تعالى : « مِنْ مَقَامِ » في « من » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها تبعيضية ، وهذا هو الظاهر .
الثاني : أنها بمعنى « في » .
الثالث : أنها زائدة على قول الأخفش ، وليس بشيء .
والمقام هنا مكان القيام ، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً . واصله : « مَقْوَم » فأعل بنقل حركة « الواو » إلى السَّاكن قبلها ، وقلبها آلفاً ، ويعبر به عن الجماعة مجازاً؛ كما يعبر عنهم بالمجلس؛ قال زهير : [ الطويل ]
778 وفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمٍ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ
قوله : « مُصَلَّى » مفعلو « اتَّخِذُوا » ، وهو هنا اسم مكان أيضاً ، وجاء في التفسير بعنى قبله .
وقيل : هو مصدر ، فلا بد من حذف مضاف أي : مكان صلاة ، وألفه منقلبة عن واو ، والأصل : « مُصَلَّو » ؛ لأن الصلاة من ذوات « الواو » كما تقدم أول الكتاب .
فصل في المقصود بالمقام
اختلفوا في « المقام » فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة : هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه ، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه ، ثم رفعته من تحته ، وقد غاصت رجله في الحَجر ، فوضته تحت الرجل الآخرى ، فغاصت رجله أيضاً فيه ، فجعله الله تعالى من معجزاته يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيِّناً فاندرس من كثرة المسح بالأيدي ، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } [ البقرة : 127 ] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام ، وقال مجاهد رحمه الله وإبراهيم النخعي رضي الله عنه : « مقام إبراهيم الحرم كله » وقال يمان : المسجد كله مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
[ وقال عطاءك إنه عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال ابن عباس : « الحج كله مقام إبراهيم ] .
واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر رحمة الله عليه أنه عليه الصَّلاة والسلام لما فرغ من الطواف أتى المقام ، وتلا قوله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } .
وروي أنه عليه الصلاة والسلام مرّ بالمقام ، ومعه عمر رضي الل عنه فقال : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية ، وقال تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } .
وليس للصلاة تعلق بالحرم ، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع ، فيكون مقام إبراهيم هو هذا ، ولو سأل أهل » مكّة « عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد ، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رُطُوبة الطّين حتى غاصت فيه رِجْلا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك من أظهر الدلائل على وَحْدَانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام ، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره ، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل ، ولم يثبت قيامه على غيره ، فحمل هذا اللفظ ، أعنى : مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى .
قال القَفَّال : ومن فسر » مقام إبراهيم « بالحجر خرج قوله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } على مجاز قول الرجل : اتخذت من فلان صديقاً ، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ، وإنما تدخل » من « لبيان المتخذ الموصوف ، ويميزه في ذلك المعنى من غيره .
فصل في تحرير معنى المُصَلّى
اختلفوا في « المُصَلّى » .
فقال مجاهد رحمه الله تعالى : « هو الدعاء » ، قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ الأحزاب : 56 ] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله : إن الحرم كله مقام إبراهيم .
وقال الحسن رضي الله عنه : أراد به قبلة إبراهيم .
وقال قتادة والسّدي : أمروا أن يصلوا عنده ، وهذا القول أولى؛ لأن لفظ « الصَّلاة » إذا أطلق يعقل منه الصَّلاة الشَّرعية وقال عليه الصلاة والسلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة . وصلَّى النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية . وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضاً فعن الشافعي رحمه الله قولان :
أحدهما : أنهما فرض؛ لهذه الآية ، فإن الأمر للوجوب .
والثاني : أنهما سنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله هل عليَّ غيرها؟ قال لا إلاَّ أن تطوع ، وإن كان الطواف سنة فهما سنة .
فصل في الكلام على البيت المعمور
روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال : البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح ، وهو بجال الكعبة من فوقها ، حرمته في السَّماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً .
وذكر علي رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم ، فانهدم فبنته العَمَالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم ، فبنته جُرْهم ، ومر عليه الدهر فانهدم ، بنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شابّ ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم ، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مِرْطٍ ، ثم ترفعه جميعُ القبائل ، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعه .
وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب .
في الصفح الأول : أنا الله ذو بَكَّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حفًّان وباركت لأهلها في اللحم واللبن .
وفي الصفح الثاني : أنا الله ذو بَكَّة خلقت الرحم ، وشققت لها اسماً من اسمي من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطتعه .
وفي الثالث : أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشرّ ، فطوبى لمن كان الخير على يديه ، وويل لمن كان الشر على يديه .
وقال صلوات الله وسلامه عليه : « الرُّكْنُ وَالمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللهُ تَعَالَى نُورَهُمَا ، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَضَاءَ لَهُمَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ ، وَما مسهما ذُو عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٌ إلاَّ شُفِيَ » .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « هَذَا الحَجَرُ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَإنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أهْلِ الشِّرْكِ » .
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال : « هَذَا الحَجَرُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا ، وَلسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ ، يَشْهَدُ عَلَى مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقِّ » .
وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قَبَّل الحجر الأَسْوَد وقال : « إِنِّي لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، وأن الله ربّي ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبَّلتك » .
قوله تعالى : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ } تقدم معنى العَهْد .
قيل : معناه هاهنا أمرنا وقيل : أوحينا .
قوله : « وَإسْمَاعِيلَ » إسماعيل علم أعجميٌّ ، وفيه لغتان : باللام والنون؛ وعليه قول الشاعر : [ الرجز ]
779 قَالَ جَوَارِي الحَيِّ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إسْمَاعِينَا
ويجمع على : « سَمَاعلة » و « سماعيل » و « أساميع » .
ومن أغرب مانقل في التسمية أن إبراهيم عليه السلام لما دعا لله أن يرزقه ولداً كان يقول : اسمع إيل اسمع إيل ، وإيل هو الله تعالى فسمى ولده بذلك .
قوله : « أَنْ طَهِّرَا » يجوز في « أن » وجهان :
أحدهما : أنها تفسيرية لجملة قوله : « عَهِدْنَا » ، فإنه يتضمن معنى القول؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا ، فهي بمنزلة « أي » التي للتفسير ، وشرط « أن » التفسيرية أن تقع بَعْدَما هو بمعنى القول لا حروفه .
وقال أبو البقاء : والمفسرة تقع بعد القول ، وما كان في معناه .
فقد غلط في ذلك ، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب .
والثاني : أن تكون مصدرية ، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية ، قالوا : « كتبت إليه بإن قم » وفيها بحث ليس هذا موضعه ، والأصل : بأن ظهرا ، ثم حذفت الباء ، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب ، أو خفض .
و « بَيْتِيَ » معفول به أضيف إليه تعالى تشريفاً وقرأ أهل « المدينة » وحفص « بيتيَ » بفتح الياء هاهنا ، وفي سورة « الحج » ، وزاد حفص في سورة « نوح » عليه الصلاة والسلام .
و « الطائف » اسم فاعل من : « طاف يطوف » ، ويقال : أطاف رباعياً ، قال : [ الطويل ]
780 أطَافَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ .. . . .
وهذا من باب « فَعَل وأفْعَل » بمعنى .
فصل في معنى تطهير البيت
يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به ، لأنه موضع الصَّلاة فيجب تطهيره من الشرك ، ومن كل ما لا يليق به ، وذكر المفسّرون وجوهاً :
أحدها : أن معنى « طَهِّرَا بَيْتِيَ » ابنياه وطَهّراه من الشرك ، وأسِّسَاه على التقوى .
وثانيهما : عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه ، وزاره وأقاموا به .
ومجازه : اجعلاه طاهراً عندهم ، كما يقال : فلان يطهر هذا ، وفلان ينجسه .
وثالثها : ابنياه ، ولا تدعا أحداً من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطَّائفين فيه ، بل اقرَّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال : طهر الله الأرض من فلان ، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تَطْهيره من الأَوثَان والشرك ، وهو كقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس ، بل خلقن طاهرات ، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً .
ورابعها : معناه : أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي ، ليقتدي الناس بكما في ذلك .
وخامسها : قال بعضهم : إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجِيف والأقذار ، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بإزالة تلك القَاذُورَات وبناء البيت هناك ، وهذا ضعيف؛ لأن قيل البناء ما كان البيت موجوداً ، فتطهير تلك العَرْصَة لا يكون تطهيراً للبيت ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً ، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً لكنه مجاز .
قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } .
الطائفين : الدَّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين .
والرّكع « ، وجمع » راكع « .
والعكوف لغة : اللزوم واللبثح قال : [ الوافر ]
781 . ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا
وقال : [ الرجز ]
782 عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الفَنْزَجَا ... ويقال : عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ ، بالفتح في الماضي ، والضم والكسر في المضارع ، وقد قرىء بهما .
و » السُّجُود « يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه جمع ساجد نحو : قاعد وقعود ، وراقد ورقود ، وهو مناسب لما قبله .
والثاني : أنه مصدر نحو : الدخول والقعود ، فعلى هذا لابد من حذف مضاف أي : ذوي السّجود ذكره أبو البقاء .
وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله : » الطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ « لتبايُنِ ما بينهما ، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله : » الرُّكَّعِ السُّجُودِ « ، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حِيَالِهَا ، وجمع صفتين جمع سلامة ، وأخْريَيْن جمع تكسير لأجل المقابلة ، وهو نوع من الفَصَاحة ، وأخر صيغة » فعُول « على » فُعّل « ؛ لأنها فاصلة .
فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة
في هذه الأوصاف الثلاثة قولان :
أحدهما : أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه ، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف .
فالمراد بالطَّائفين : من يقصد البيت حاجًّا أو معتمراً ، فيطوف به ، والمراد بالعاكفين : من يقين هناك ويجاوزر ، والمراد بالركع السجود : من يصلي هناك .
والثاني : قال عطاء : إنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفينن وإذا كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود . وعن ابن عباس رضي الله عنهما العاكفون هم الذين يصلون عند الكعبة .
خصّ الركوع والسجود بالذكر؛ لأنها أقرب أحوال المصليم إل الله تعالى .
فصل فيما تدل عليه الآية
هذه الآية تدل على أمور منها :
أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء ، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة؛ لأنه تعالى كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص .
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء : أن الطواف لأهل الأنصَارِ أفضل ، والصلاة لأهل « مكة » أفضل .
ومنها جواز الاعتكاف في البيت .
ومنها جواز الصلاة في البيت فرضاً أو نَفْلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها ، خلافاً لمن منع جواز الصَّلاة المفروضة في البيت .
فإن قيل : لا تسلم دلالة الآية على ذلك؛ لأنه تعالى لم يقل : الركّع السجود في البيت ، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطَّواف في جوف البيت ، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصَّلاة إلى البيت متوجّهة إليه ، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت ، سواء كان ذلك في البيت ، أو خارجاً عنها ، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوب بالبيت ، ولا يسمى طائفاً بالبيت مَنْ طاف في جوفه ، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه ، لقوله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } [ الحج : 29 ] .
وأيضاً المراد لو كان التوحه إليه للصلاة ، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه ، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه .
فإن قيل : احتجّ المخالف بقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّهاً إلى المسجد ، بل إلى جزء من أجزائه .
والجواب : أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كلّ المسجد ، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه ، ومن كان داخل البيت فهو كذلك ، فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية .
فصل في تظهير جميع بيوت الله
ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى ، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة ، وإنما خص الكعبة بالذكر ، لأنه لم يكن هناك غيرها .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
قال القاضي رحمه الله تعالى : في هذه الآيات تقديم وتأخير ، لأن قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود ، والذي ذكره من بعد وهو قوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت } [ البقرة : 127 ] وإن كان متأخراً في التلاوة ، فهو متقدم في المعنى .
قوله تعالى : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } والجعل هنا يعنى التَّصيير ، فيتعدّى لاثنين ف « هذا » مفعول أول و « بلداً » مفعول ثان ، والمعنى : اجعل هذا البلد ، أو هذا المكان ، و « آمناً » صفة أي ذا أمن نحو : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أو آمناً من فيه نحو : ليلُهُ نائم . والبلد معروف ، وفي تسميته قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من البلد .
والبلْد في الأصل : الصدر يقال : وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت ، أي : صدرها ، والبلد صدر القرى ، فسمي بذلك .
والثاني : أن البلد في الأصل الأثر ، ومنه : رجل بليد لتأثير الجهل فيه .
وقيل لبركة البعير : « بَلْدَة » لتأثيرها في الأرض إذا برك ، قال الشاعر [ الطويل ]
783 اُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلُ بِهَا الأًصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُها
إنما قال في هذه السورة « بَلَداً آمناً » على التنكير .
وقال في سورة إبراهيم : { هذا البلد آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] على التعريف لوجهين :
الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ، ولم يكن المكان قد جعل بلداً ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } [ إبراهيم : 37 ] .
فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً ، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً ، فكأه قال : اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة ، كقولك : جعلت هذا الرجل آمناً .
الثاني : أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً ، فقوله : { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } تقديره : اجعل هذا البلد بلداً آمناً ، كقولك : كان اليوم يوماً حارًّا ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة ، فقوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن ، وأما قوله : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة ، والله أعلم .
فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم
قيل : المراد من الآية دعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام للمؤمنين من سكّان « مكة » بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى « مكة » فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله عز وجلّ كما فعل بأصحاب الفيل .
فصل في الرد على بعض الشُّبهات
فإن قيل : أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير ، وخرب الكَعْبة ، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟
فالجواب : لم يكن مقصوده تخريب الكمعبة لذاتها ، بل كان مقصوده شيئاً آخر .
فإن قيل : ما الفائدة في قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وقد أخبر الله تعالى قبل ذلك بقوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] ؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أن الله تعالى لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمناً ، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده آمناً ، فطلب إبرراهيم عليه الصلاة والسلام أن يكون الأمن بجميع البلد .
وثانيها : أن يكون قوله تعالى : « وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ » بعد قوله أبراهيم عليه الصلاة والسلام { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } فيكون إجابة لدعئه ، وعلى هذا فيكون مقدماً في التلاوة مؤخراً في الحكم .
وثالثها : أن يكون المراد من الأَمْنِ المذكور في قوله تعالى : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] هو الأمن من الأعداء والخيف والخَسْف والمَسْخ ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القَحْط ، ولهذا قال : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } .
فإن قيل : الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا ، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟
فجوابه من وجوه :
أحدها : أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين ، وإذا كان البلد آمناً مخصباً تفرغ أهلها لطاعة الله تعالى وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك .
وثانيها : أنه تعالى جعله مثابة للناس ، والناس إنما يمكنهم الذَّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنةً ، والأقوات هناك رخصية .
وثالثها : أن الأمنو الخَصْب مما يدعوا الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة ، فحينئذ يشاهل المشاعر العظيمة ، والموقف الكريمة ، فيكون الأمن تتمّةً في تلك الطاعة .
فصل في المراد بالأمن
اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل : الأمن من القَحْط؛ لأنه أسكن ذرّيته بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع .
وقيل : الأمن من الخَسْف والمَسْخ .
وقيل : الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي ، واحتج عليه بأنه عليه الصلاة والسلام سأله الأمن أولاً ، ثم سأله الرِّزْق ثانياً .
ولو كان المَطْلوب هو الأمن من القَحْط لكان سؤال الرِّزْق بعده تكرار ، وقد يجاب بأنه : لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخَسْف والمَسْخ ، أو لعله الأمن من القَحْط ، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية ، وقد يكون بالتَّوْسعة فيها ، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القَحْطِ ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن ، وَغَدٍ العيش .
فروي أنه لما دعا بهذا أمر الله تعالى جبريل ، فاقتلع « الطائف » من « الشام » فطاف بها حول البيت أسبوعاً ، فسميت « الطائف » لذلك ، ثم أنزلها « تهامة » ، وكانت « مكة » وما يليها حين ذلك قَفْراً لا ماء فيها ولا نَبَاتَ ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها ، وأنبت فيها أنواع الثَّمَرات .
فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟
اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟
فقالوا : إنها كانت كذلك أبداً لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ » .
قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم } [ إبراهيم : 37 ] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك ، ثم إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أكّده بهذا الدعاء .
وقيل : إنها إنوما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقبله كانت كسائر البَلَدِ ، الدليل عليه قوله عليه السلام : « اللَّهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينْةَ كَمَّا حَرَّمَ إِبْرَاهِيْمُ مَكَّة » .
وقيل : كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة .
قوله : « مَنْ آمَنَ » بدل بعض من كلّ ، [ وهو « أَهْلَهُ » ] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه ، و « من » في « مِنَ الثَّمَرَاتِ » للتبعيض .
وقيل : للبيان ، وليس بشيء ، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها .
فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدَّعاء
إنما خصَّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجيهن :
الاولك أنه لما سأل الله تعالى فصار ذلك [ تأديباً ] في المسألة ، فلما ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة : خصّص المؤمنين بهذا الدُّعاء دون الكفارين .
الثاني : يحتمل إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار ، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحَجّ ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب .
قوله : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ ] يجوز في « من » ثلاثة أوجه .
أحدها : أن تكون موصولة ، وفي محلّها وجهان :
أحدهما : أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره ، قال الله : وأرزق من كفر ، ويكون « فأمتعه » معطوفاً على هذا الفعل المقدر .
والثاني : [ من الوجهين ] : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء ، و « فأمتعه » الخبر ، دخلت الفاء في الخبر تشبيهاً له بالشرط .
وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا ، والرد عليه .
الثَّاني من الثلاثة الأوجه : أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء ، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع .
الثالث : أن تكون شرطية ، ومحلّلها الرفع على الابتداء فقط ، و « فَأُمتِّعُهُ » جواب الشرط .
ولا يجوز في « من » في جميع وجوهها أن تكون منصوبةً على الاشتغال .
أما إذا كانت شرطاً فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء ، وفعل الشرط عنا غير ناصب لضميرها بل رافعة .
وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو « فأمتعه » شبيه بالجزاء ، وذلك دخلته الفاء ، فكما أن الجمزاء لا يفسر عاملاً فما أشبهه أولى بذلك ، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر .
وقال أبو البقاء : لايجوز أن تكون « من » مبتدأ ، و « فأمتعه » الخبر؛ لأن « الذي » لا تدخل « الفاء » في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقاً بالصلة نحو : الذي يأتينين فله درهم ، والكُفْر لا يستحقّ به التمتع .
فإن جعلت الفاء زائدة على قوله الأخفش جاز ، أو جعلت الخبر محذوفاً ، و « فامتعه » دليلاً عليه جاز تقديرهك ومن كفر أرزقه فأمتعه .
ويجوز أن تكون « من » شرطية ، والفاء جوابها .
وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن كفر أرزق ، و « من » على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل فعل الشرط انتهى .
أما قوله : « لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع » فليس بمسلّم ، بل التمتُّع القليل والمصير إلى النار مستحقَّان بالكفر .
وأيضاً فإن التمتُّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّاً بالكفر؛ ولكن قد عطف عليه ماهو مستحقّ به ، وهو المصير إلى النار ، فناسب ذلك أن يقعا جميعاً خبراً .
وأيضاً فقد ناقض كلامه؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية ، وهل الجزاء إلاَّ مستحق بالشرط ، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به .
وأما تجويزه زيادة الفاء ، وحذف الخبر ، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها .
وقرىء « أُمْتِعُهُ » مخفَّفاً من أمتع يمتع ، وهي قراءة ابن عامر رضي الله عنه ، و « فأمتعه » بسكون العين ، وفيها وجهان :
أحدهما : أنه تخفيف كقوله : [ السريع ]
784 فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ .. . .
والثاني : أن « الفاء » زائدة وهو جواب الشرط؛ فلذلك جزم بالسكون ، وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد « فَأمْتِعْهُ ثُمَّ اضْطرَه » على صيغة الأمر فيهما ، ووجهها أن يكون الضمير في « قال » لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و « من » على هذه القراءة يجوز أن تكون متبدأ ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية ، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخراً عنها؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام .
وقال الزمخشري : « وَمَنْ كَفَر » عطف على « من آمن » كما عطف « ومن ذرّيتي » على الكاف في « جاعلك » قال أبو حيان : أما عطف « من كفر » على « من آمن » فلا يصح؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام؛ لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأرزق من كفر؛ لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل .
« من آمن » العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في « ومن كفر » ، وإذا قدرته أمراً تنافى مع قوله : « فأمتعه » ؛ لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع ، وإلجائهم إليه تعالى وأن كلاًّ من الفعلين تضمَّن ضميراً ، وذلك لا يجوز إلاَّ على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى ، أيك قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : وازرق من كفر ، فقال الله : أمتعه قليلاً ثم أَصطره ، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على « من » كما عطف « ومن ذريتي » على الكاف في « جاعلك » .
فقال : فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟
فالجواب : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم ، وأما الرزق فربما يكون استدراجاً .
والمعنى : قال : « وارزق من كفر فأمتعه » فظاهر قوله « والمعنى قال » أن الضمير في « قال » لله تعالى ، وأن « من كفر » منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم .
و « قليلاً » نعت لمصدر محذوف أو زمان ، وقد تقدم له نظاره واختبار سيبويه فيه .
وقرأ الجمهور : « أَضْطَرُّهُ » خبراً .
وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الهمزة ، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال : إِخَال .
وقرأ ابن محيصن « أطَّرَّه » بإدغام الضاد في الطاء ، [ نحو ] : اطَّجع في اضطجع وهي مَزْذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف : ضغم شقر ، نحو : اطجع في اضطجع ، قاله الزمخشرين وفيه نظر؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها ، أدغم أبو عمرو الدَّاني اللام في { يَغْفِرْ لَكُمْ } [ نوح : 4 ] والضاد في الشين : { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } [ النور : 62 ] والشين في السين : { العرش سَبِيلاً } [ إلاسراء : 42 ] .
وأدغم الكسائي الفاء في الباء : { نَخْسِفْ بِهِمُ } [ سبأ : 9 ] .
وحكى سيبويه رحمه الله تعالى أن « مْضَّجَعًا » أكثر ، فدلّ على أن « مطّجعاً » كثيرٌ .
وقرأ يزيد بن أبي حبيب : « أضطُرُّهُ » بضم الطاء كأنه للإتباع .
وقرأ أبي : « فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَّرُّهُ » بالنون .
واضطر افتعل من الضَّرِّ ، وأصله : اضْتَرَّ ، فأبدلت التاء طاء؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدِّ ، عليه جاء التنزيل؛ وقال : [ البسيط ]
785 إِضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَإٍ .. . .
والاضطرار : الإلجاء والإلزاز إلى الأمر المكوره .
قوله : « أُمَتِّعُهُ » قيل : بالرزق .
وقيل : بالبقاء في الدنيا .
وقيل : بهما إلى الخروج محمد صلى الله عليه وسلم فيقتله أو يخرجهُ من هذه الديار إن قام على الكُفْر ، [ وقيد المتاع بالقلّة ] ؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد .
وفي الاضطرار قولانك
أحدهما : أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه ، كما قال الله تعالى :
{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] و { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] يقال اضطررته إلى الأمر أي : ألجأته [ وحملته عليه ] وقالوا : إن أصله من الضَّر؛ وهو إدناء الشيء ، ومنه ضرة المرأة لدنوّها .
الثاني : أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختياراً ، كقوله تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } [ البقرة : 173 ] فوصفهُ بأنه مضطر إلى تناول الميتة ، إن كان ذلك الأكل فعله ، فيكون المعنى : أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار ، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور ، وبئس المصير ضده .
قوله : « وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » المصير فاعل ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : النار ومصير : مفعل من صار يصير ، وهو صالح للزمان والمكان .
وأما المصدر فيقاسه الفتح؛ لأن ماكسر عين مضارعه ، فقياس ظرفية الكسر ومصدره الفتح ، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب .
أحدها : كالصحيح [ وقد تقدم ] .
والثاني : أنه مخير فيه .
والثالث : أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى ، فإن كان « المصير في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقاً ، والتقدير : وبئس المصير النّار كما تقدم ، وإن كان مصدراً على رأي من أجازه فالتقدير : وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النَّار .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
« إذ » عطف على « إذ » قبلها ، فالكلام فيهما واحد .
و « يرفع » في معنى ماضياً ، ح لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي .
وقوال الزمخشريك « هي حكاية حال ماضية » قال أبو حيان : وفيه نظر .
و « القوعد » جمع قاعدة ، وهي الأساس والأصل لما فوق ، وهي صفة غالبة ، ومعناها الثابتة ، ومنه « قَعَّدَك الله » أي : أسأل الله تثبيتك ، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع .
وأما القواعد من النِّسَاء فمفردها « قاعد » من غير تاء؛ لأن المذكر لا حظَّ له فيها إذ هي من : قَعَدَتْ عن الزوج .
ولم يقل « قواعد البيت » ، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين .
[ فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد
الأكثرون على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عليه الصلاة والسلام واختلفوا هل كان إسماعيل شريكاً له في رفع القواعد؟
فالأكثرون على أنه كان شريكاً له؛ للعطف عليه .
وروي عن علي رضي الله عنه أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر .
فقالا : إلى من تكلنا؟
قال : إلى الله تعالى ، فعطش إسماعيل ولم ير الماء ، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعكن فضربها بأصبعه ، فنبع زمزم . وهذا ضعيف؛ وذلك لقوله تعالى : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } وذها يوجب صرفه إلى المذكور السابق : وهو رفع القواعد ] .
فصل في الكلام على رفع القواعد
يروى أن الله تبارك وتعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام ، وكانت زبدة بيضاء على الماء ، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زُمُرّد أخضر ، وأنزل الله الحجر ، كان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية ، وأمر الله تعالى آدم عليه الصلاة والسلام أن يحج إليه ، ويطوف به .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من « الهند » إلى « مكة » ماشياً ، وكان ذلك إلى أيام الطوفان ، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة ، وبعث جبريل عليه الصلاة والسلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس ، وكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم أمر الله تعالى عليه الصلاة والسلام بعد ما ولد إسماعيل ت عليه الصلاة والسلام ببناء البيت ، فسأل الله تعالى أن يبين له موضعه ، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت ، فتبعها حتى أتيا « مكة » ، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث الله سحابة على قدر الكَعْبَة ، وذهب إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ظلها إلى أن وافت « مكة » فوقعت على موضع البيت ، فنودي منها يا إبراهيم ابْنِ على ظلها ولا تزل ولا تنقص .
[ وقيل : أرسل الله جبريل عليه الصلاة والسلام ليدله على موضع البيت قال ابن عباس رضي الله عنهما : بُنِي البيت من خسمة أجبل : طوزر سيناء ، وطور زيتا ، ولبنان جبال بالشام ، والجودي : جبل بالجزيرة وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة ، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل عليه الصلاة والسلام يطلبه فصاح أو قُبيس : يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها ، فأخذ الحجر الأسود ، فوضعه مكانه .
وقيل : إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء ، وسمي « صراح » ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة « الحج » ‘إن شاء الله تعالى والله أعلم ] .
قوله : « من البيت » فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق ب « يرفع » ومعناها اتبداء الغاية .
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من « القواعد » ، فيتعلّق بمحذوف تقديره : كائنة في البيتن ويكون معنى « من » التبعيض [ روى ابن كثير رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما ، « أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض ، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها؛ ليخرج بها أحدهما ، فتحركا تحرك الرجل ، فانتفضت مكة بأسرها ، فانتهوا عن ذلك الأساس » .
وقيل : أبصر القوم برقة ، كادت تخطلف بصر الرجل فبرأ الرجل من يدهن فوقع في موضعه ، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم ] .
قوله : « وَإٍسْمَاعيِلُ » فيه قولان :
أحدهما : وهو الظاهر أنه عطف على « إبراهيم » ن فيكون فاعلاً مشاركاً في الرفع ، ويكون قوله : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } في محلّ نصب بإضمار القول ، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما ، أي : يرفعان يقولان : ربنا تقبل ، ويؤيد هذا قراءة عبدالله بإظهار فعل القول ، وقرأ : « يَقُولاَنِ : رَبَّنَا تَقَبَّشلْ » أي : قائلين ذلك ، ويجوز ألا يكون هذا القول حالاً ، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها ، ويكون هو العامل في « إذ » قبله ، والتقدير : يقولان : ربنا تقبل إذ يرفعان ، أي : وقت رفعهما .
والثَّاني : الواو [ واو الحال ] ، و « إسماعيل » مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله : « رَبَّنَا تَقَبَّلْ » فيكون إبراهيم هو الرَّافع ، وإسماعيل هو الدَّاعي فقط ، قالوا : لأن إسماعيل كان حينئذ طفلاً صغيراً ، ورَوَوْه عن علي رضي الله عنه والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول : ربنا تقبل منّا .
وفي المجيْ بلفظ « الرب » جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح .
و « تقّبل » بمعنى « اقبل » ، ف « تَفَعَّلْ » هنا بمعنى المجرد .
وتقدم الكلام على نحو « إنك أنت السميع » من كان « أنت » يجوز فيه التأكيد والابتداء والفَصْل . وتقدمت صفة السَّمع ، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورةن كقوله تعالى { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت } [ آل عمران : 106 ] وتأخرت صفة العلم ، لأنها فاصلة ، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها .
[ فإن قيل : قوله : { إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } يفيد الحصر ، وليس الأمر كذلك ، فإن غعيره قد يكون سميعاً .
فالجواب أنه تعالى لكماله ف يهذه الصفة كأنه هو المختص بها دن غيره ] .
قوله : « مسلمين » مفعول ثاني للجعل؛ لأنه بمعنى [ التصييير ، والمفعول الأول هو ] « ن » .
وقرأ ابن عباس : مُسْلِمِيْنَ « بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان :
أحدهما : أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع ، وبه استدل من يجعل التثنية جمعاً .
والثاني : أنها أرادا أنفسهما وأهلهما ك » هاجر « .
قوله : » لك « فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب » مسلمين « لأنه بمعنى نُخْلص لك أوجهنا نحو : { أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } [ آل عمران : 20 ] فيكون المفعول محذوفاً لفهم المعنى .
والثاني : أنه نعت لمسلمين أي : مسلميمن مستقرين لك أي مستسلمين . والأول أقوى معنى .
فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال
استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } ، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد ، أو الاستسلام والانقياد ، وكيف كان فقد رغبا ف يأن يجعلهما بهذه الصفة لامعنى له إلاّ خَلْق ذلك فيهما ، فإن [ الجعل ] عبارة عن الخلق .
قال الله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى .
فإن قيل : هذه الآية الكرمية متروكة الظاهر؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السُّؤال [ كانا ] غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل ، وإنه باطل ، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين؛ ولأن صدور هذا الدُّعَاء منهما لا يصلح إلاَّ بعد أن كانا مسلمين ، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الجَعْل عبارة عن الخَلْق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق :
أحدها : » جعل « بمعنى » صيّر « ، قال [ الله ] تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } [ الفرقان : 47 ] .
وثانيها : » جعل « بمعنى » وهب « ، تقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس .
وثالثها : [ جعل ] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] .
وقال : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 10 ] .
ورابعها : « جعل » كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً } [ السجدة : 24 ] يعنى أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] فهو الأمر .
وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كتاباً [ وشاعراً ] إذا علمته ذلك .
وسادسها : البيان والدّلالة تقول : جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت [ من الحجة ] ما بين بطلان ذلك . إذ ثبت ذلك فنقول : لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام ، والحكم لهما بذلك كما يقال : جعلني فلان لصّاً ، وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سّمنا أن المراد من الجَعْل الخَلْق ، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام ، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها ، فقد جعله الله مسلماً له ، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديباً ، فيجوز أن يقال : صيّرتك أديباً ، وجعلتك أديباً ، وف يخلاف ذلك يقال : جعل ابنه لصّاً محتالاً .
سلمان أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام ، لكنه على خلاف الدَّلاَئل العقلية ، فوجب ترك القول به .
وإما قلنا [ إنه ] على خلاف الدَّلائل العقلية؛ لأنه لو كان فعل العَبْد خلقاً لله تعالى لماك استحق العبد به مدحاً ولا ذمّاً ، ولا ثواباً ولا عقاباً ، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد .
والجواب : قوله : الآية متروكة الظاهر .
[ قلنا ] : لا نسلّم وبيانه من وجوه :
الأول : أن الإسلام عرض قائم بالقلب ، وأنه لا يبقى زمانين فقوله : « واجعلنا مسلمين لك » أي : اخلق هذا العرض ، فينافي الزمان المستقبل دائماً ، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال .
الثاني : أن يكون المراد منه الزِّيَادة في الإسلام كقوله : { ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } [ الفتح : 4 ] { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] ويؤيد هذا قوله تعالى { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق ، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال .
الثالث : أن « الإسلاَم » إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف « اللام » كقوله : « مُسْلِمَيْنِ لَكَ » ، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرِّضا بكل ما مقدر [ وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته ، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية ، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليصحل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال ] فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر .
قوله : يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة له فلان فائدة في الصفة ، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف ، وجب حمله على تحصيل الصفة ، ولا يقال : وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح ، وهو مرغوب له فيه .
قلنا : نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوَصْف به والحكم به ، فكان حمله على الأول أولى .
وأيضاً أنه متى حصل الإسلام فيها فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذبن فكان ذلك الوصف حاصلاً ، وأي فائدة في طلبه بالدعاء .
وأيضاً أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال : جعله مسلماً .
أما قوله : يحمل ذلك على فعل الألطاف .
فالجواب : هذا مدفوع من وجوه :
أحدها : أن لفظ الجَعْل مضاف إلى « الإسلام » ، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر .
وثانيها : أن تلك الألْطَاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها ، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة ، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل ، وإنه غير جائز .
وثالثها : أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في تَرْجيح جانب الفعل على الترك أو لا .
فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً .
وإن كان لها أثر في الترجيح ، فنقول : متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب ، وذلك أن مع حصول ذلك القدر من الترجيح ، إما أن يجب الفعل ، أو يمتنع ، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع .
فإن وجب فهو المطلوب .
وإن امتنع فهو مانع لا مرجح ، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع : إما أن يكون لانظمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجمع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً ، وقد فرضناه كذلك هذا خلف .
وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال ، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول .
قوله : الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم .
قلنا : إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم .
قال القرطبي : سألاه التثبت والدوام و « الإسلام » في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعاً ، منه قوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] ، وكفى هذا دليلاً لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد ، ويؤيده قوله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } [ الذرايات : 35 ، 36 ] والله أعلم .
قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً } فيه قولان :
أحدهماك وهو الظاهر أن « من ذرّيتنا » صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول ، و « أمة مسلمة » مفعول ثاني تقديره : واجعل فريقاً من ذرّيتنا أمة مسلمة .
وفي « من » حينئذ ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها للتعبيض .
والثاني : أجازه الزمخشري أن تكون للتبيين ، قال تبارك وتعالى : { الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ } [ النور : 55 ] .
الثالث : أن تكون لابتداء غاية الجعل ، قاله أبو البقاء .
والثاني : من القولين : أن يكون « أمة » وهو المفعول الأول ، و « من ذرّيتنا » حال منها؛ لأنه في الأصل صفة نكرة ، فلما قدم عليها انتصب حالاً ، و « مسملة » هو المفعول الثاني ، والأصل : واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة ، ف « الواو » داخلة في الأصل على « أمة » ، وإنما فصل بينهما بقوله : « مِنْ ذُرِّيَتِنَا » وهو جائز؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف ، وفي إجازته ذلك نظر ، فإن النحويين كأبي عليٍّ وغيره منعوا الفصل بالظَّرف [ بين حرف العطف ] إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله : [ المنسرح ]
786 يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيةٍ ... الْعَصْبِ وَيَوْماً أَدِيمُا نَغِلاَ
ضرورة ، فالفصل في الحال أبعد ، وصار ما أجازه نظير قولك : « ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد » وهذا غير فصيح ، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلْقُ وأُوْجِد ، فيتعدى لواحد ، ويتعلق « من ذرّيتنا » به ، ويكون « أمة » مفعولاً به ، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول ، والعامل الأول ليس معناه « اخلق » إنما معناه « صَيَّرْ » .
وإن كان من عطف الجمل ، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوقن والمنطوق ليس بمعنى الخلق ، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] أن يكون التقدير : وملائكته يصلون لا ختلاف مدلول الصَّلاتين ، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما ، وقوله : « لك » فيه الوجهان المتقدمان بعد « مسلمين » .
فصل
إنماخص بعضهم؛ لأنه تعالى أعلمهما [ أن ] في ذريتهما الظالم بقوله { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
وقيل : أراتد به العرب؛ لانهم من ذريتهما .
وقيل : هم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : { وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] .
فإن قيل : قوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] كما يدلّ على أن في ذرّيته من يكون ظالماً فكذلك [ يوجب فيهم من لا يكون ظالماً ] ، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية ، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟
فالجواب : تلك الدلالة ما كانت قاطعة ، والتشفيق بسوء الظن مولع .
فإن قيل : لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجرى مجرى البُخْل في الدعاء؟
فالجواب : الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم .
والأمة هناك الجماعة ، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى :
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] . وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [ كقوله تعالى : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } أي دين وملة ] . ومنه قوله تعالى : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ] .
وقد تكون بمعنى الحِيْن والزمان ، ومنه قوله تعالى : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] أي : بعد حين وزمان .
ويقال هذا أمة زيدن أي أّمُّ زيدٍ ، والأمة أيضاً : القامة ، يقال : فلان حسن الأّمَّة ، أي : حسن القامة؛ قال [ المتقارب ]
787 وَإِنَّ مُعَاوِيَة الأَكْرمِينَ ... حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الأُمَمْ
وقيل : الأمة الشَّجَّة التي تبلغ أم الدماغ ، يقال : رجل مأموم وأميم نقله القرطبي .
قوله : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية ، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها معفولاً ثانياً ، ف « أنا » مفعول أول ، وم « مناسكنا » مفعول ثان .
وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من « رأى » بمعنى عرف ، فتتعدى أيضاً لاثنين كما تقدم ، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية ، والقلبية تقبل [ النَّقْل ] لاثنين كقول القائل : [ الطويل ]
788 وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَات رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
وقال الكُمَيْت : [ الطويل ]
789 بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمٍ عَاراً علَيَّ وَتَحْسِبُ
وقال ابن عطية : ويلزم قائله يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثةن وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى؛ وأنشد قول حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ : [ الطويل ]
790 أَرِينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأَنِنَّي ... أََرَى ما تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا
يعنى : أنه قد تعدت « علم اقلبية إلى اثنين ، سواء كان مجردة من الهمزة أم لا ، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه » فَعِلَ وأَفْعَل « بمعنى وهو غريب ، ولكن جَعْلَه بيت حطَائط من رؤية القلب ممنوعن بل معناه من رؤية البَصَرِ ، ألا ترى أن قوله : » جواداً مات « من متعلقات البصر ، فيحتاج في إثبات تعدي » أعلم « القلبية إلى اثنين إلى دليل .
وقال بعضهم : هي هنا بصرية قلبية معاً؛ لأن الحج لا يتم إلاّ بأمور منها ما هو معلوم ومنها منا هو مبصر .
ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز ، أو استعهمال المشترك في معنييه معاً .
وقرأ الجمهور : { أَرِنَا } بإشباع كسر » الراء « هنا ، وفي [ النساء : 153 ] وفي [ الأعراف : 143 ] { أرني أَنظُرْ } ، وفي [ فصلت : 29 ] { أَرِنَا اللذين } .
وقرأ ابن كثير بالإسْكَان في الجميع ، ووافقه في » فصلت « ابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، واختلف عن أبي عمرو ، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميعن وروي عه الدَّوري اختلاس الكَسْر فيها .
أما اكسر فهو الأصل .
وأما الاختلاص فحسن مشهور .
وأما الإسكان فللتخفيف ، شبهوا المصتل بالمنفصل فسكنوا كسره ، كما قالوا في فَخِذ : فَخْذ ، وكَتِف : كَتْف .
وقد غلط قوم راوي هذه القراءة .
وقالوا : صار كسر الراء دليلاً على الهمزة المحذوفة ، فإن أصله : « أرئنا » ثم نقل .
قال الزمخشري تابعاً لغيره : قال الفارسي : التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة ، وأما كسرة الراء فصارت كالاصل؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال .
وقال ايضاً : ألا تراهم أدغموا في { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } [ الكهف : 38 ] ، والأصل « لكان أنا » نقولا الحركة ، وحذفوا ، ثم أدغموا ، فذهاب الحركة في « أرنا » ليس بدون ذهابها في الإدغام ، وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّاً عن العرب؛ قال القائل : [ البسيط ]
791 أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا
وأصل أرنا : أَرئنَا ، فنقلت حركة « الهمزة » إلى « الراء » وحذفت هي ، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله : { حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] .
و « المناسك » واحدها : « مَنْسِك » بفتح العين وكسرها ، وقد قرىء بهما والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعة .
ويقال : المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع ، كالمسجد والمشرق والمغرب .
قال الله تعالى : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } [ الحج : 67 ] قرىء بالفتح الكسر ، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل ، وكذلك قوله عليه السلام « خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ » أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ ، لا أنه أراد : خذوا عنِّي مواضع نسككم ، وبعض المفسرين حمل المَنَاسك على الذبيحة فقط .
قال ابن الخطيب : وهو خطأ ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبُّد ، [ لا لكونها مذبوحة ] ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك .
قال القرطبي : [ قوله تعالى : « مَنَاسِكَنَا » يقال ] : إن أصل النُّسك في اللغة الغَسْل ، يقال منه نسك ثوبه إذا غسله .
وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال : رجل ناسك إذا كان عابداً .
فصل في تسمية عرفات
وقال الحَسَن : إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ « عرفات » ، فقال : يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من النماسك؟ قال : نعم [ فسميت « عرفات » ] فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمره جبريل عليه السلام بأن يرميه بسبع حَصَيات ، ففعل فذهب الشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي سَبْعِ حصيات .
فبعضهم حمل المناسك هنا على [ شعائر ] الحج ، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف .
وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج ، ثمل « منى » و « عرفات » و « المزدلفة » ونحوها .
وبعضهم حمله على المجموع .
فصل في استلام الأركان
قال ابن إسحاق : وبلغني أن آدم عليه السلام كان يَسْتَلِمُ الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام .
وقال : حج إسقحاق وسارة من « الشَّام » ، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سَنَةٍ على البُرَاق ، وحجّة بعد ذل الأنبياء والأمم .
وروي محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ مَكَّة فَتَعَبَّدَ بِهَا هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوان فَمَاتَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَقُبورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالحَجرِ » .
وذكر ابن وهب أن شعيباً ما ب « مكة » هو من معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربيّ « مكة » بين دار الندوة وبين بني سهم .
وقال ابن عباس : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبل إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام ، فقر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود .
وقال عبدالله بن ضمرة السلولي : ما بين الرُّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين .
قولهك « وتب علينا » احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال : لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب ، فلولا تقدم الذنب ، وإلاَّ لكان طلب التوبة طلباً للمحال .
قالت المعتزلة : الصغيرة تجوز على الأنبياء .
ولقائل أن يقول : إن الصَّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها ، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها مُحَال؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال .
قال ابن الخطيب : وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة ، ولمن لم يجوزها ، وهي من وجوه :
أولها : يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدُّداً في الانصراف عن المعصية؛ لأن من تصور نفسه بصورة النَّادم العازم على التحرز التشديد ، كان أقرب إلى ترك المعاصي .
وثانيها : أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه ، فإنه لا ينفكّ عن التَّقْصِير من بعض الوجوه : إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى ، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك .
وثالثها : أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً ، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة ، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العُصَاة للتوبة فقال : « وَتُبْ علَيْنَا » أي على المُذْنبين من ذرّيتنا ، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده ، فاعتذر الوالد عنه ، فقد يقول : أجرمت وعصيت فاقبل عُذْري ، ويكون مراده : أن ولدي أذنب فاقبل عُذْره؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه ، والذي يقوي هذا التأويل وجوه :
الأولك ما حكى الله تعالى في سورة « إبراهيم » أنه قال : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 3536 ] .
فيحتمل أن يكون المعنى : ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب ، وتغفر له ما سلف من ذنوبه .
الثاني : ذكر أن في قراءة عبدالله : « وَاََرِهِمْ مَنَاسِكَهُم وَتُبْ عَلَيْهم » .
الثالث : أنه قال عطفاً على هذا : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] .
الرابع : تأولوا قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } [ الأعراف : 11 ] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه ، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله : « أَرِنَا مَنَاسِكَنَا » أية « ذُرّيتنا » .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال : إنهما لما قالا « وَتُبْ علينا » وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام؛ لأنهما كان لهما ذنب .
قال القرطبي : وهذا حسن ، وأحسن مه أن يقال : إنهما لما عرفا المَنَاسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس ، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصُّل من الذنوب وطلب التوبة .
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى
دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه عليه الصلاة والسلام طلب من الله تعالى أن يتوب عليه ، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد ، لكان طلبها من الله تعالى [ مُحَالاً وجهلاً .
قالت المعتزلة : هذا معارض بما أن الله تعالى ] طلب التوبة منا . [ فقال ] { ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } [ التحريم : 8 ] ولو كانت فعلاً لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً ، وإذا ثبت ذلك حمل قوله : « وَتُبْ عَلَيْنَا » على التوفيق ، وفعل الألطاف ، أو على قبول التوبة من العبد .
والجواب : [ قال ابن الخَطِيْب ] متى لم يخلق الله تعالى داعيةً موجبة للتوبة استحال حصول التوبة ، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العَبْدِ ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة .
فصل في معنى التوبة
اعلم أن التوبة هي الرجوع ، فمعنى توبة الله تعالى أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم ، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المَعَاصي ، فمتعلّق التوبة مختلف ، وإذا اختلفت التعلّعات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة .
فصل في الدعاء
قال بعضهم : إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه ، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء ، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة ، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه ، وإن كان دعاؤه لشر ، فليدع بالعزيز والمنتقم ، وبما يناسبه . وتقدم الكلام على قوله : { إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } .
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
في ضمير « فيهم » قولان :
أحدهما : أنه عائد على معنى الأمة؛ إذ لو عاد على لفظها لقال : « فيها » قاله أبو البقاء .
والثاني : أنه يعنود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل : يعود على أهل « مكة » ، ويؤيده : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ، وفي قراءة أبي : « وَابْعَثْ فيهِمْ فِي آخِرِهُمْ رَسُلاً مِنْهُمْ » .
قوله : « مِنْهُمْ » في محلّ نصب ، لأنه صفة ل « رسولاً » ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : رسولاً كائناً منهم .
قال ابن الأنباري : يشبه أن يكون أصله من قولهم : ناقة مرْسَال ورسلة ، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النُّوق .
ويقال للجماعة المهملة المرسلة : رسل ، وجمعه أَرْسَال . ويقال : جاء القوم أَرْسالاً ، أي بعضهم في أثر بعض ، ومنه يقال للبن : رسل ، لأنه يرسل من الضرع . نقله القرطبي رحمه الله تعالى .
قوله : « يَتْلُوا » في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل « رسولاً » ، وجاء هذا على الترتيب الأحسن ، إذا تقدم ما هو شبيه بالمفرد ، وهو المجرور على الجملة .
والثاني : أنها في محل نصب على الحال من « سولاً » ؛ لأنه لما وصف تخصص .
الثالث : أنها حال من المضير في « منهم » ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به « منهم » لوقوعه صفةً .
وتقدم قوله : « العزيز » ؛ لأنها صفة ذات ، وتأخر « الحكيم » ؛ لأنها صفة فعل .
ويقال : عَزَّ ، ويَعَزُّ ، ويعِزُّ ، ولكن باختلاف معنى ، فالمَضْمُوم بمعنى « غلب » ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] .
والمفتوح بمعنى [ الشدة ، ومنه : عزّ لحم الناقة ، أي : اشتد ، وعَزّ عليّ هذا الأمر ، والمكسور بمعنى ] النَّفَاسة وقلّة النظير .
فصيل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم
اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين :
أحدهما : أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع .
والثاني : أن يكون المبعوث منهم لام من غيرهم ، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريتهن كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها ، وإذا كان منهم ، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه ، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه ، وأمانته ، وكان أحرص الناس على خيرهم ، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم .
أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : « أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيْمَ وَبِشَارَةُ عِيْسَى » .
وأراد بالدعوة هذه الآية ، وبِشَارة عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكره في سورة « الصف » من قوله : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] .
وثالثها : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما دعا بهذا الدعاء ب « مكة » لذريته الذين يكونون بها ، وبما حولها ، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب « مكة » وما حولها إلاّ محمداً صلى الله عليه وسلم .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كل الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من بني إسرائيل إلا عشرة : هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
قوله : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } فيه وجهان :
الأول : أنها الفُرْقان الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك ، فوجب حمله عليه .
الثاني : يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدَّالة على وجود الصَّانع وصفاته سبحانه وتعالى ، ومعنى تلاوته إيّاها عليهمك أنه كان يذكرهم بها ، ويدعوهم إليها ، ويحملهم على الإيمان بها .
قوله : « وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب » أي : القرآن يعلمهم مافيه من الدَّلائل والأحكام .
وأما الحكمة فهي : الإصابة في القول والعمل .
وقيلك أصلها من أحكمت الشيء أي رددته ، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل .
اختلف المفسرون [ في المراد بالحكمة ] هاهنا .
قال ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين ، والفقه فيه ، والاتباع له .
وقال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول قتادة .
وقال أصحاب الشافعي رضي الله عنه : والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً ، وتعلميه ثانياً ، ثم عطف عليه الحكمة ، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب ، وليس ذلك إلاَّ سُنّة الرسول عليه اسلام .
فإن قيل : لم لا يجوز حَمْله على تعليم الدَّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟
فالجواب : لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يُسْتفاد من الشرع أَوْلَى .
وقيل : الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل .
وقال مقاتل : هي مواعظ القرآن الكريم ، وما فيه منا لأحكام .
وقال ابن قتيبة : هي العلم والعمل به .
وقيل : حكمة تلك الشرائع ، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع .
وقيل : أراد بالكتاب الآيات المحكمة ، واراد بالحكمة المتشابهات . [ وقال بان دُريد : كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة ] .
وأما قوله : « وَيُزَكِّهِمْ » .
قال الحسن : يطهّرهم من شركهم .
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : التزكية هي الطاعة والإخلاص .
وقال بان كيسان : يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود .
وقيل : يأخذ زكاة أموالهم . ولما ذكر هذه الدعوات ، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال : { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
و « العزيز » : هو القادر الذي لا يغلب ، و « الحكيم » : هو العليم الذي لا يجهل شيئاً .
[ واعلم أن « العزيز » و « الحكيم » بهذين التفسيرين صفة للذات ، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه ، وأراد بالحكمة : أفعال الحكمة ، لم يكن « العزيز » و « الحككيم » من صفات الذات أزلية ، وصفات الفعل ليست كذلك ، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل ، وصفات الذات ليست كذلك .
فصل ]
[ و ] قال الكلبي : العزيز المتقدم لقوله تعالى : { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } [ آل عمران : 4 ] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : العزيز الذي لا يوجد مثله .
وقيل : المنيع الذي لا تناله الأيدي ، ولا يصل إليه شيء .
وقيل : القوي .
والعزّة القوة ، لقوله تعالى : { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } [ يس : 14 ] أي قوينا .
وقيل : الغالب ، لقوله : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] أي غلبنين ويقال : من عزيز أي من غلب .
والعم أن مناسبة قوله : { أَنتَ العزيز الحكيم } لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر ، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها ، ومن كان عالماً قادراً فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم .
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
« من » اسم استفهام بمعنى الإنكار ، فهو نفي في المعنى ، لذلك جاءت بعده « إلاَّ » التي للإيجاب ، ومحلّه رفع بالابتداء .
و « يرغب » خبره ، وفيه ضمير يعود عليه .
والرغبة أصلها الطلب ، فإن تعدت ب « في » كانت بمعنى الإيْثَار له ، والاختيار نحو : رغبت في كذا ، وإن تعدت ب « عن » كانت بمعنى الزّهَادة نحو : رغبت عنك .
قوله : { إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } في « مَنْ » وجهان .
أحدهما : أنها في محلّ رفع البدل من الضمير في « يرغب » ، وهو المختار؛ لأن الكلام غير موجب ، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف .
فإذا قلت : ما قام القوم إلاَّ زيد ، ف « إلاَّ » عندهم حرف عطف ، وزيد معطوف على القوم ، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو .
الثاني : أنها في محلّ نصب على الاستثناء ، و « من » يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون نكرة موصوفة ، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول ، ومحلها الرفع ، أو النصب على الثاني .
قوله : « نَفْسَهُ » في نصبه سبعة أوجه :
أحدها : وهو المختار أن يكون مفعولاً به؛ لأنه حكي أن « سَفِهَ » بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى « سَفَّه » بفتح الفاء والتشديد ، وحكى عن أبي الخَطّاب أنها لغة ، وهو اختيار الزّمخشري [ فإنه قال ] : « سفه نفسه : امتهنها ، واستخف بها » ، ثم ذكر أوجهاً أخرى .
ثم قال الوجه الاول ، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث : « الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وَتُغْمِضَ النَّاسَ » .
الثاني : أنه مفعول به ولكن على تضمين « سفه » معنى فعل يتعدى ، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى « جهل » ، وقدره أبو عبيدة بمعنى « أهلك » .
قال القرطبي : وأمام سَفُهَ بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد ] .
الثالث : أنه منصوب على إسقاط حرف الجَرّ تقديره : سَفِهَ في نَفْسه .
الرابع : توكيد لمؤكد محذوف تقديره : سفه في نفسه ، فحذف المؤكد قياساً على النعت والمنعوت ، حكاه مكّي .
الخامس : أنه تمييز ، وهو قول الكوفيين .
قال الزمخشري : ويجز أن يكون في شذوذ تعريف المميِّز؛ نحو قوله : [ الوافر ]
792 .. وَلاَ بِفزَارَةَ الشُّعْرِ الرِّقَابَا
[ الوافر ]
793 . . ... أَجَبَّ الظَّهْرَ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ
فجعل « الرِّقَاب » و « الظَّهر » تمييزين ، وليس كذلكن بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به؛ لأنهما معمولا صفة مشهبة ، وهي « الشُّعْر » جمع أَشْعَر ، و « أَجَبّ » وهو اسم .
السادس : أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين .
السابع : أنه توكيد لمن سفه؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين ، وهو تخريج غريب نقله صاحب « العَجَائب والغَرَائب » .
والمختار الأول؛ لأن التضمين لا ينقاص ، وكذلك حرف الجر .
وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد ، فالصحيح لا يجوز .
وأما التمييز فلا يقع معرفة ، ما ورد نادر أو متأول .
وأما النصب على التشبيه بالمفعول ، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة .
فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات
لما ذكر أمر إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وشرائعه ابتلاه الله بها ، وبناء بيته ، والحرص على مصالح عباده ، ودعائه [ الخير لهم ] ، وغير ذلك عدب الناس فقال : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } .
قال النحاس : وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي ، أي وما يرغب والمعنى : يزهد فيها ، وينأى بنفسه عنها ، أي : الملّة وهي الدين والشرع؛ إلاّ من سَفِهَ نَفْسَهُ .
قال قتادة : وكل ذلك توبيخ اليهود ، والنصارى ، ومشركي العرب؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوَصْلَة إلى إسرائيل وقريش ، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه ، [ فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله ] ، وسائر العرب ، [ وهم العدنانيون ] مرجعهم إلى إسماعيل ، وهم يفتخرون على [ القَحْطَانيين ] بما أعطاه الله تعالى من النبوة ، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام ، ولما ثبت أنّ إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود ، والعجب ممن [ أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام ] ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هوم دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه .
[ فإن قيل : لعل الرسول عليه الصلاة والسلام الذي طلب إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعثه غير هذا الشخص .
فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية ، والمعتمد في إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزة على يده ، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ ، ولفظ « الملة » يتناول الفروع والأصول؛ فيكون محمداً عليه الصلاة والسلام .
والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثه هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته ، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم ] .
فصل
روي أن عبدالله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : إن الله تعالى قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون ، وأَسْلم سَلَمَةُ ، ومهاجراً أَبَى أن يسلم ، فنزلت هذه الآية الكريمة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : « إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ » خَسر نفسه .
وقال الكلبي : « ضلّ من قتل نفسه » .
وقال أبو البقاء ، وأبو عبيدة : « أهلك نفسه » .
وقال ابن كيسان والزجاج : « جهل نفسه » ؛ لأنه لم يعرف الله تعالى خالقها ، وقد جاء « مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ » .
وقال ابن بحر : معناه جهل نفسه ، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء ، فيعلم به توحيد الله وقدرته .
وهذا معنى قول الزجاج رحمه الله تعالى : لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما ، وعينين يبصر بهما ، وأذنين يسمع بهما ، ولسان ينطق به ، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع ، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ، ومَعِدَة أعدّت لطبخ الغذاء ، وكبد يصعد إليها صَفْوه ، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف ، وامعاء يرتكز إليها نقل الغذاء ، فيبرز من أسفل البدن ، فيستدل بها على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً وهذا معنى قوله تعالى : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } { الذاريات : 21 ] .
قوله : { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } اخترناه من سائر الخلق في الدنيا ، وإنّه في الآخةر عظيم المنزلة .
[ قال الحسين بن فضيل : فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى . وقال الحسن : من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب ] .
قوله : « فِي الآخِرَةِ » فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف ، وليست موصولة .
الثاني : أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك : بعد سقياه .
الثالث : يتعلق بمحذوف أيضاً ، لكن من جنس المفلوظ به أي : وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين .
الرابع : أن يتعلق بقوله الصالحين ، وإن كانت « آل » موصولة؛ لأنه يُغْتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعاً ، ونظيره قول الشاعر : [ الرجز ]
794 رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا تَمَعْدَدَا ... كَانَ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا
الخامس : أن يتلّق ب « اصطفيناه » .
قال الحسين بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير مجازه : ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة .
وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنُبُوِّ السمع عنه .
والاصطفاه : الاختيار ، « افتعال » من صورة الشيء ، وهي خياره ، وأصله : اصتفى ، وإنما قلبت تاء الافتعال « طاء » مناسبة للصاد لكونها حرف إطْبَاق ، وتقدم ذلك عند قوله : { أَضْطَرُّهُ } [ البقرة : 126 ] .
وأكد جملة الأصطفاء باللام ، والثانية ب « أن » و « اللام » ؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد ، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مُغَيَّب ، فاحتاج الإخبار به إلى فَضْل توكيد .
وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه ، ونقله جيل بعد جيل .
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
في « إذ » خمسة أوجه :
أصحها : أنه منصوب ب « قال أسلمت » ، أي : قال أسلمت وقت قول الله لم أسلم .
الثاني : أنه بدل من قوله : « في الدنيا » .
الثالث : أنه منصوب ب « اصطفيناه » .
الرابع : أنه منصوب ب « اذكر » مقدراً ، ذكر أبو البقاء ، والزمخشري ، وعلى تقدير كونه معمولاً ل « اصطفيناه » أو ل « اذكر » مقدراً يبقى قوله : « قَالَ : أَسْلَمْتُ » غير منتظم مع ما قبله ، إلاّ أن يقدر حذف حرف عطف أي : فقال ، أو يجعل جواباً بسؤالٍ مقدر ، أي ما كان جوابه؟
فقيل : قال أسلمت .
الخامس : أبعد بعضهم ، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال ، والعامل في « اصْطَفَيْنَاه : .
وفي قوله : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ } التفات ، إذ لو جاء على نسقه لقيل : إذ قلنا؛ لأنه بعد » ولقد اصطفيناه « ، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله : [ البسيط ]
795 بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً ... وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعاً بَعْدَ سَبْعِينا
وقوله : » لرَبِّ الْعَالَمِينَ « فيه من الفخامة ما ليس في قوله » لك « أو » لربي « ، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميعا العالمين اعترف بأنه بربه وزيادة ، بخلاف الأول ، فذلك عدل عن العبارتين .
وفي قوله : » أسلم « حَذْفُ مفعول تقديره : أسلم لربك .
فصل في تحرير وقت قول الله لإبراهيم : أسلم
الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس ، واطّلاعه على أمَارَات الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له تعالى : { أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } ؛ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن يعرف ربه ، ويحتمل أيضاً أن يكون قوله : » أسلم « كان قبل الاستدلال ، فيكون المراد من هذا القول دلالة الدليل عليه [ لا نفس القول ] على حسب مذاهب العرب في هذا ، كقول الشاعر : [ الرجز ]
796 إِمْتَلأَ الْحَوْضُ وَقَالَ : قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأْتِ بَطْنِي
ويدل على ذلك قوله تعالى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] فجعل دلالة البُرْهان كلاماً .
وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر بعد النبوة ، واختلفوا في المراد منه .
فقال الكلبي والأصمّ : أخلص دينك ، وعبادتك لله تعالى .
وقال عطاء : أسلم نفسك إلى الله ، وفوّض أمورك إليه .
قال : أسلمت ، أي : فوضت .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : وقد تحقّق ذلك حيث لم يأخذ من الملائكة من ألقي في النار .
قال القرطبي : والإسلام هنا على أتم وجوهه ، فالإسلام في كلام العرب الخضوع والإنقياد للمستسلم والله أعلم .
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قرىء : « وَصَّى » ، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصَّى ، وأوصى رباعياً ، وهي قراءة نافع ، وابن عامر ، وكذلك هي في مصاحف « المدينة » و « الشام » .
وقيل : أوصى ووصى بمعنى .
والضمير في « بها » فيه ستّة أقوال :
أحدها : أنه يعود على الملّة في قوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ } [ البقرة : 130 ] .
قال أبو حيان : « وبه أبتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره » .
والزمخشري رحمه الله لم يذكر هذا ، وإنما ذكر عوده على قوله « أسلمت » لتأويله بالكلمة .
قال الزمخشري : والضمير في « بها » لقوله : { أسلمت لرب العالمين } على تأويل الكلمة والجملة ، ونحوه رجوع الضمير في قوله : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } [ الزخرف : 26 27 ] وقوله : « كَلِمَةً بَاقِيَةً » دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة . انتهى .
الثاني : أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله : « أسلمت » كما تقدم تقريره عن الزمخشري .
قال ابن عطية : « وهو أصوب لأنه أقرب مذكور » .
الثالث : أنه يعود على متأخرن وهو الكلمة المفهومة من قوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } .
الرابع : أنه يعود على كلمة الإخلاص ، وإن لم يَبْدُ لها ذكر قاله الكلبي ومقاتل .
الخامس : أنه يعود على الطَّاعة للعلم بها أيضاً .
السادس : أنه يعود على الوصيّة المدلول عليها بقوله : « ووصّى » ، و « بها » يتعلّق ب « وَصَّى » و « بينه » مفعول به .
روي أنهم ثمانية : إسماعيل ، واسم أمه هاجر القبطية ، وإساحق ، وأسم أمه سارة وستة ، واسم أمهم قنطورا بنت قطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة ، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران وتشيق وشيوخ ، ثم توفي عليه الصلاة والسلام .
وكان بين وفاته وبين مولد النبي صلى الله عليه وسلم نحو من ألفي سنةٍ وستمائة سنة ، واليهود ينقصون ذلك نحواً من أربعمائة سنة .
قوله : « وَيَعْقُوب » والجمهور على رفعة وفيه قولان :
أظهرهما : أنه عطف على « إبراهيم » ، ويكون مفعوله محذوفاً ، أي : ووصى يعقوب بنيه أيضاً .
والثاني : أن يكون مرفوعاً بالابتداء ، وخبره محذوف تقديره : ويعقوب قال : يا بني إن الله اصطفى .
وقرأ إسماعيل بن عبدالله ، وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على « بنيه » ، أي : ووصّى إبراهيم يعقوب أيضاً .
[ ولم ينقل أنّ يعقوب جده إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وإنما ولد بعد موته قاله الزمخشري ، وعاش يعقوب مائة وسبعة وأربعين سنة ، ومات بمصر ، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند ابنه إسحاق ، فحمله يوسف ، ودفنه عنده ] .
قوله : « يَابَنِي » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم ، أو على قراءته منصوباً .
والثَّاني : أنه من مقول يعقول إن قلنا رفعه باللابتداء ، ويكون قد حذف مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام للدلالة عليه تقديره : « ووصّى إبراهيم بنيه يا بني » .
وعلى كل تقدير فالجملة من قوله : « يابني » وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين ، أي : فقال يابني ، وبفعل الوصية؛ لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين ، [ قال النحاس : يا بني نداء مضاف ، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها؛ لأنها لو سكنت لا لتقى سكنان ، وبمعناه { بِمُصْرِخِيَّ } [ إبراهيم : 22 ] ونحوه ] . وقال الراجز : [ الرجز ]
797 رَجْلاَنِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبَرَانَا ... إِنَّا رَأَيْنَا رَجُلاً عُرْيَانَا
بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو لإجراء الخبر مجرى القول ، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن مسعود : « أن يا بني » ب « أن » المفسرة ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما يَنْسبك منه مصدر .
قال الفراء : ألغيت « أن » لأن التوصية كالقول ، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول « أن » وجاز إلغائها ، وقال النحويون : إنما أراد « أن » وألغيت ليس بشيء . ومَنْ أبَى جعلها مفسرة وهم الكوفيون يجعلونها زائدة .
و « يعقوب » علم أعجمي ولذلك لا ينصرف ، ومن زعم أنه سُمِّي يعقوب؛ لأنه وُلِد عقب العيص أخيه ، وكانا توأمين ، أو لأنه كثر عَقبهُ ونَسْلُه فقد وهم؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف ، لأنه عربي مشتق .
ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الْحَجَل ، إذ سمي به المذكر انصرف؛ والجمع يَعَاقِبَة وَيَعَاقِيب ، و « اصْطَفَى » ألفه عن ياء تلك الياء منقلبة عن « واو » ؛ لأنها من الصَّفْوة ، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعداً ، قلبت ياء ، ثم انقلبت ألفاً .
اصْطَفَى : اختار .
قال الراجز : [ الرجز ]
798 يا ابْنَ مُلُوكٍ وَرَّثُوا الأمْلاَكَا ... خِلآفةَ اللهِ الَّتِي أَعْطَاكَا
لَكَ اصْطَفَاهَا وَلَهَا اصْطَفَاكَا ... والدين : الإسلام .
و « لكم » أي لأجلكم ، والألف واللام في « الدين » للعهد؛ لأنهم كانوا عرفوه .
قوله : { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ } هذا في الصورة عن الموت ، وهو في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك : « لا تصلً إلا وأنت خاشع » ، فنهيك له ليس عن الصلاة ، وإنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته ، والنُّكْتة في إدخال حرف النهي على الصلاة ، وهي غير مَنْهِي عنها هي إظهارُ أَنَّ الصلاة التي لا خشوع فيها كَلاَ صلاة ، كأنه قال : أنهاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالة ، وكذلك المعنى في الآية الكريمة إظهار أن موتهم لا على حال الثابت على الإسلام موت لا خير فيه ، وأن حقّ هذا الموت ألا يجعل فيهم .
[ وعن الفضيل بن عياض أنه قال : « إلا وأنتم مسلمون » ، أي : مسلمون الظن ، أي محسنون الظن بربكم ، وروي عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم قبل موته بثلاثة أيام يقول : « لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى » ] . وأصل تموتُن : تَمُوتُوننَّ : النون الأولى علامة الرفع ، والثانية المشددة للتوكيد ، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع؛ لأن نون التوكيد أولى بالبقاء لدلالتها على معنى مستقلّ ، فالتقى سكنان : الواو والنون الأولى المدغمة ، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين ، وبقيت الضمة تدلّ عليها ، وهكذا كل ما جاء في نظائره .
قوله : { إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة ، و « أنتم مسلمون » مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، كأنه قال تعالى : « لا تموتنّ على كل حالا إلا على هذه الحال » ، والعامل فيها ما قبل إلا .
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
« أم » في أم هذه ثلاثة أقوال :
أحدها وهو المشهور : أنها منقطعة والمنقطعة تقدر ب « بل » ، وهمزة الاستفهام . وبعضهم يقدرها ب « بل » وحدها ، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال . ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي ، أي : بل أكنتم شهداء يعنى لم تكونوا . الثاني : أنها بمعنى همزة الإستفهامن وهو قول ابن عطية والطبري ، إلا أنهما اختلفا في محلها . فإن ابن عطية قال : و « إم » تكون بمعنى ألف الاستفهام ف يصدر الكلام ، لغة يمانية .
وقال الطبري : إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره .
قال ابو حيان في قول ابن عطية : « ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال » .
وقال في قول الطبري : وهذا أيضاً قول غريب .
الثالث : أنها متصلة ، وهو قول الزمخشري .
قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة ، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك : وقيل : الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون : ما مات نبي إلا على اليَهُودية ، إلا أنهم لو شهدوه ، وسمعوا ما قاله لبنيه ، وما قاله لظهر لهم حرصُه على ملّة الإسلام ، وَلَمَا ادَّعوا عليه اليهودية ، فالآية الكريمة مُنَافية لقولهم ، فكيف يقال لهم : أم كنتم شهداء؟
ولكن الوجه أن تكون « أم » متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل : أَتَدَّعُون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء ، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذْ أراد بنيه على التوحيد وملّة الإسلام ، فما لكم تَدَّعُونَ على الأنبياء ما هم منه براء؟
قال أبو حيان : ولا أعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة ، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره ، لو قلت « أم زيد » تريد : « أقام عمرو وأم زيد » لم يجز ، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك : « بلى وعمراً » لمن قال : لم يضرب زيداً ، وقوله تعالى : { فانفجرت } [ البقرة : 60 ] أي فضرب فانفجرت ، وندر حذفه مع « أو » ؛ كقوله : [ الطويل ]
799 فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا .. . .
أي : من أخ أو والد ، ومع حمتى كقوله : [ الطويل ]
800 فَوَعَجَبَا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي ... كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ
أي : يسبني الناسُ حتى كليبٌ ، على نظر فيه ، وإنما الجائز حذف « أم » مع ما عطفت كقوله : [ الطويل ]
801 دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا
أي : أم غَيٌّ ، وإنما جاز ذلك؛ لإن المستفهم على الإثبات يتضمنّن نقيضه ، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى ، ألا ترى إلى قوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] كيف حذف و « الْبَرْدَ » انتهى .
و « شهداء » خبر كان ، وهو جمع شاهد أو شهيد ، وقد تقدم أول السورة .
قوله : « إذ حضر » إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي : شهداء وقت حضور الموت إياه ، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه مقدماته؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
802 وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلاً يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
أي : أنا سببه ، والمشهور نصب « يعقوب » ، ورفع « الموت » ، قدم المفعول اهتماماً وقرأ بعضهم بالعكس .
وقرىء : « حَضِر » بكسر الضاد ، قالوا : والمضارع يَحْضُر بالضم شاذ ، وكأنه من التداخل وقد تقدم .
قوله : « إذْ قَالَ » ، « إذ » هذه فيها قولان :
أحدهما : بدل من الأولى ، والعامل فيها ، إما العامل في « إذ » الأولى إن قلنا : إن البدل لا على نية تكرار العامل ، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك .
الثاني : أنها ظرف ل « حضر » .
قوله : « مَا تَعْبُدُونَ » ، ما أسم استفهام في محلّ نصب؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون ، وهو واجب التقديم؛ لأن له صدر الكلام ، وأتى ب « ما » دون « من » لأحد أربعة معانٍ .
أحدها : أن « ما » للمبهم أمره . فإذا عُلِم فُرّق ب « ما » و « مَنْ » .
[ قال الزمخشري : وكفاك دليلاً قول العلماء : « مَن » لما يعقل .
الثاني : أنها سؤال عن صفة المعبود ] .
قال الزمخشري : كما تقول : ما زيد؟ تريد : أفقيه أم طبيب ، أم غير ذلك من الصفات؟
الثالث : أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء ، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر ، فاستفهم ب « ما » التي لغير العاقل ، فعرف بَنُوه ما أراد ، فأجابوه عنه بالحق .
الرابع : أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم ب « ما » دون « من » ، لئلا يَطْرُق لهم الاهتداء ، فيكون كالتلقين لهم ، ومقصوده الاختبار .
وأجاب ابن الخطيب بوجهين :
الاول : أن « ما » عام في كل شيء ، والمعنى : أي شيء تعبدون .
والثاني : قوله : « مَا تَعْبُدُونَ » كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟
وقوله : « مِنْ بَعْدي » أي : بعد موتي .
قوله : { قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ } .
تمسّك المقَلِّدة بهذه الآية الكريمة قالوا : إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد ، ولم ينكره عليهم .
والجواب : أن هذا ليس تقليداً ، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصَّانع كقوله : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } [ البقرة : 21 ] فهاهنا المراد من قوله : { نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ } أي : الإله الذي دلّ عليه وجودك ، ووجود آبائك .
فصل في نزول هذه الآية
قال القَفَال : وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل « مصر » رأى أهلها يعبدن النيران والأوثان ، فخاف على بنيه بعد وفاته ، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى .
وحكى القاضي عن ابن عباس : أن يعقوب عليه السَّلام جميعهم إليه عند الوفاة ، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران ، فقال : يا بني ما تبعدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك .
ثم قال القاضي : هذا بعيد لوجهين :
الأول : أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين .
الثاني : أنه تعالى ذكر في الكتاب الأَسْبَاط من أولاد يعقوب ، وأنهم كانوا قوماً صالحين ، وذلك لا يليق بحالهم .
[ وقال عطاء : إن الله لم يقبض نبياً حتى يخبره بين الموت والحياة ، فلما خير يعقوب قال : أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم؛ ففعل ذلك به ، فجمع ولده وولد ولده ، وقال لهم : قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا : نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون ، والعرب تسمي العم أباً كما تسمي الخالة أماً ، وسيأتي الكلام على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى ] .
وقال القَفَّال : وقيل : إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق؛ لأن إسماعيل [ كان أسنّ من إسحاق ] .
قوله : « وَإِلَهَ آبائِكَ » أعاد ذكر الإله ، لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرور دون إعادة الجار ، والجمهور على « آبائك » .
وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء : « أبيك » .
وقرأ أُبّي : « وَإلَهَ إِبْرَاهِيمَ » فأسقط « آبائك » .
فأما قراءة الجمور فواضحة .
وفي « إبراهيم » وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل .
والثاني : أنه عطف بيان ، ومعنى البدلية فيه التفصيل .
الثالث : أنه منصوب بإضمار « أعني » فالفتحة على هذا علامة للنصب ، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصَّرْف ، وفيه دليل على تسمية الجَدِّ والعم أباً ، فإن إبراهيم جده إسماعيل عمه ، كما يطلق على الخالة أمّ ، ومنه : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } [ يوسف : 100 ] في أحد القولين .
قال بعضهم : وهذا من باب التَّغليب ، يعنى : أنه غلب الأب على غيره ، وفيه نظر ، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع ، فيغلب فيهما .
وأما قراءة « أبيك » فتحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مفرداً غير جمع ، وحينئذ فإما أن يكون واقعاً موقع الجمع أو لا ، فإنْ كان واقعاً موقع الجمع ، فالكلام في « إبراهيم » وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة . وإن لم يكن واقعاً موقعَهُ ، بل أريد به الإفراد لفظاً ومعنى ، فيكون « إبراهيم » وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة ، ويكون إسماعيل وما بعده عطفاً على « أبيك » ، أي : وإله إسماعيل .
الثاني : يكون جمع سلامة بالياء والنون ، وإنما حذفت النون للإضافة ، وقد جاء جمع آب على « أبُونَ » رفعاً ، و « أبين » جراً ونصباً ، حكاها سيبويه؛ قال الشاعر : [ المتقارب ]
803 فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَا
ومثله : [ الوافر ]
804 فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أَخُوكُمْ .. . .
والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير ، وإسحاق : علمٌ أعجميٌّ ، ويكون مصدر أسحاق ، فلو سُمِّي به مذكرٌ لا نصرف ، والجمع : أسحاقهٌ وأساحيق .
قال القرطبي : ولم ينصرف إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق؛ لأنَّها أعجميةٌ .
قال الكسائيُّ : وإن شِئْتَ صرفت « إسحاق » ، وجعلته من السّحق ، وصرفت « يعقوب » وجعلته من الطَّير .
وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أباً ، وبدأ بذكر الجد ، ثم إسماعيل العم؛ لأنَّهُ أكبر من إسحاق .
فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أباً
ذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن الجد أب ، وأسقط به الإخوة ، والأخوات ، وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس وعائشة ، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين ، والحسن ، وطاوس وعطاء .
وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وعلي رضي الله عنهم وهو قول مالك ، وأبي يوسف ومحمد .
واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بأدلة منها هذه الآية الكريمة ، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد .
فإن قيل : قد أطلقَهُ على العمِّ ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقاً .
فالجواب : الأصل في الاسْتِعْمَال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به ، فيبقى في الثاني حجة .
والثاني : منها قوله تبارك وتعالى مخبراً عن يوسف : { واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } [ يوسف : 38 ] .
ومنها : ما روى عطاء عن ابن عباس أنَّهُ قال : من شاء لاَعَنْتُهُ عند الحجر الأسود أنّ الجدّ أب .
وقال أيضاً : ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن أبناً ، ولا يجعل أب الأب أباً .
واحتجَّ الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه بأدلّة .
منها : { ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [ البقرة : 132 ] فلم يدخل يعقوب في بنيه ، بل ميَّزه عنهم ، فلو كان الصاعد في الأبوَّة أباً لكان النازل في النبوَّة ابناً في الحقيقة ، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدَّ ليس بأب [ ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد ، فعلمنا أنه حقيقة من الأب مجاز الجد ] . ولو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لِمَنْ مات أبُوه وجدُّه حَيٌّ أن ينفي أنَّ له أباً ، كما لا يصح في الأب القريب ، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة .
فإن قيل : اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنَّ رُتْبَةَ الأدنى أقْرَبُ من رتبةِ الأبعد ، فلذلك صح فيه النفي .
فالجواب : لوك كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه .
ومنها : لو كان الجد أباً على الحقيقة لصحَّ القول بأنَّهُ مات ، وخلف أُمًّا وآباء كثيرين ، وذلك مما لم يطلقه أحدٌ من الفقهاء ، وأرباب اللغة ، والتفسير .
ومنها : [ ول كان الجدُّ أباً ولا شكَّ ] أنَّ الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجدن ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أُمًّا ، ولو كان كذلك لما وقعت الشُّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رضي الله عنه إلى السؤال عنه ، [ فهذه الدلائل دلت على أنَّ الجدَّ ليس بأب ] .
ومنها : قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] فلو كان الجدُّ أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة ، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب .
وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين :
الأول : أنه قرأ أُبيّ : « وإلَهَ إبْرَاهِيمَ » بطرح « آبائك » إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في الغرض؛ لأن القراءة الشاذَّة لا تدفع القراءة المتواترة .
بل الجواب أن يقال : إنَّه أطلق لفظ الأب على الجدِّ وعلى العمِّ .
وقال عليه الصلاة والسلام في العبَّاس : « هَذَا بَقِيَّةٌ آبَائِي » .
وقال : « رُدٌُّوا عَلَيَّ أبي ، فإنِّي أخْشَى أنْ تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ » ، فدلنا ذلك على أنَّهُ ذكره على سبيل المجاز ، ولو كان حقيقة لما كان كذلك .
وأمَّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي ، لا إلى الاسم اللغوي؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللِّسَان .
قوله : « إلهاً واحداً » فيه ثلاثة أَوْجُهٍ :
أحدها : أَنَّهُ بَدَلٌ من « إلهك » بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله : { بالناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ } [ العلق : 1516 ] .
والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله : [ الوافر ]
805 فَلاَ وَأَبِيكِ خَيْرٍ مِنْكِ إِنِّي ... لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ
ف « خير » يدلٌ من « أبيك » ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ .
والثاني : أنَّهُ حال من « إلهك » والعامل فيه « نعبد » ، وفائدة البدل الحال التنصيص على أنَّ معبودهم فَرْدٌ إذْ إضافة الشيء إلى كثير تُوهِم تَعْدَادَ المضاف ، فنصَّ بها على نفي ذلك الإبهام . وهذه الحال تمسى « حالاً مُوَطِّئة » ، وهي أن تذكرها ذاتاً موصوفة ، نحو : جاء زيد رجلاً صالحاً .
الثالث : وإليه نَحَا الزَّمَخْسَرِيُّ : أن يكون منصوباً على الاختصاص ، أي : نريد بإلهك إلهاً واحداً .
قالوا : أبو حيَّان رحمه الله : وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً .
قوله : { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنَّها معطوفةٌ على قوله : « نعبد » يعني : أنها تتمّةٌ جوابهم له ، فأجابوه بزيادة .
والثني : أنهَّا حال من فاعل « نعبد » ، والعامل « نعبد » .
والثالث : وَإليه نَحَا الزَّمخشري : ألاَّ يكون لها محل ، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة ، أي : ومن حالنا أنَّا له مخلصون .
قال ابو حيّان : ونصّ النحويون على أنَّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقويةً في الحكم ، أمّا بين جزئَيْ صلة وموصول؛ كقوله : [ البسيط ]
806 مَاذّا وَلاَعَتْبَ في المَقْدُورِ رُمْتَ أَمَا ... يَكْفِيكَ بِالنُّجْحِ أمْ خُسْرٌ وتَظْلِيلُ
وقوله : [ الكامل ]
807 ذَاكَ الَّذِي وأَبِيكَ يَعْرِفُ مالِكاً ... وَالحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ
أو من مُسْنَد ومُسْنَد إليه كقوله : [ الطويل ]
808 وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةٌ قَوْمٍ ضِعَافٍ وَلاَ عُزْلِ
أو بين شرط وجزاء ، أو قسم وجوابه ، مما بينهما تلازم .
وهذه الجملة قبلها كلامٌ مستقل عمّا بعدها ، لا يُقَال : إنَّ بين المشار إلَيْهِ وبين الإخبار عنه تلازماً؛ لأنَّ ما قبلها من مقول بني يعقوب ، وما بعدها من كلام الله تعالى ، أخبر بها عنهم ، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه . نتهى ملخصا .
وقال ابن عطية : « ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » ابتداء وخبر ، أي : كذلك كنا ، ونحن نكون .
قال أبو حيان : يظهر منه أنَّهُ جعل هذه الجملة عطفاً على جملةٍ محذوفة ، ولا حاجة إليه .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
« تلْكَ » مُبْتَدَأ ، و « أمَّةٌ » خبره ، ويجوز أنْ تَكُونَ « أُمَّة » بدلاً من « تلك » ، و « قد خلت » خبر للمبتدأ .
وأصل « تلك » : « تي » ، فلمَّا جاء باللاَّم للبعد حُذِفَتِ الياء لالتقاء الساكنين ، فإن قيل : لِمَ لَمْ تسكر اللام حتى لا تحذف الياء؟
فالجواب : أنَّهُ يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين .
وزعم الكوفيون أنَّ التاء وحدَها هي الاسمن وليس ثَمَّ شيء محذوف .
وقوله : « قد خلت » جملة فعلية في محل رفع صفة ل « أُمَّة » إنْ قيل إنها خبر « تلك » أو خبرُ « تلك » إن قيل : إن « أمة » بدل من « تلك » كما تقدم ، و « خلت » أي صارت إلى الخلاءن وهي الأرض التي لا أنيس بها ، والمراد به ماتت ، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم .
والأمة : الجماعة ، وقيل : الصنف .
قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون صفة ل « أمة » أيضاً ، فيكون محلها رفعاً .
والثاني : أن تكون حالاً من الضمير في « خلت » فحملها نصب ، أي : خلت ثابتاً لَهَا كَسْبُها .
والثالث : أن تكون استئنافاً فلا محلّ لها .
وفي « ما » من قوله : « ما كسبت » ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها بمعنى الذي .
والثاني : أنها نكرة موصوفةن والعائد على كلا القولين محذوف أي : كسبته ، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول .
والثالث : أن تكون مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور ، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي : لها مكسوباً أو يكون ثَمَّ مضاف ، أي : لها جزاء كسبها .
قوله : { وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } إن قيل : إن قوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } مستأنف كانت هذه الجملة عطفاً عليه .
وإن قيل : إنه صفة أو حال فلا .
أما الصفة فلعدم الرابط فيها .
وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها ، وزمان استقرار كسب المخاطبين ، وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان ، و « ما » من قوله : « ما كسبتم » ك « ما » المتقدمة .
فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد
دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب ، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك ، إن كان خيراً فبفضله وإن كان شرًّا فبعدله ، فالعبد مكتسب لأفعاله ، على معنى أنه خلقت له قدرة مُقَارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرَّعشة مثلاً ، وذلك التمكن هو مَنَاط التكليف ، وهذا مذهب أهل السُّنة .
وقالت الجبرية بنفي اكتساب العَبْدِ ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح .
وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين ، وأن العبد يخلق أفعاله ، نقلهُ القرطبي .
قوله : « وَلاَ تُسْأَلُونَ » هذه الجملة استئناف ليس إلاَّ ، ومعناها التوكيد لما قبلها؛ لأنه لما تقدم أن أحداً لا ينفعه كسب أحد ، بل هو مختص به إن خَيْراً وإن شرًّا ، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره ، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم ، فأخبروا بذلك .
و « ما » يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصلة أسمية ، أو حرفية ، أو نكرة ، وفي الكلام حذف ، أي : ولا يُسْألون عما كنتم تعملون .
قال أبو البقاء : ودلّ عليه : لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم انتهى .
ولو جُعِل الدالُّ قوله : « ولا تسألون عما كانوا يعملون » كان أوْلى؛ لأنه مقابلة .
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
والكلام في « أو » [ كالكلام فيها عند ] قوله : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] .
و « تهتدوا » جزم على جواب الأمرن وقد عركف ما فيه من الخلاف : أعني هل جزمه بالجملة قبله ، أو ب « إن » مقدرة .
قوله : « مِلَّة إبْرَاهِيمَ » قرأ الجمهور : « ملّة » نصباً ، وفيها أربعة أوجه :
أحدها : أنه مفعول فعل مضمر ، أي بل نتبع ملة؛ [ فحذف المضاف وإقيم المضاف إليه مقامه ] لأن معنى كونوا هوداً : اتبعوا اليهودية أو النصرانية .
الثاني : أنه منصوب على خبر « كان » ، أي : بل نكون ملّة أي : أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم : « إني من دين » أي من أهل دين ، وهو قول الزَّجَّاج ، وتبعه الزمخشري .
الثالث : أنه منصوب على الإغْرَاء ، أي : الزموا ملّة ، هو قول أبي عبيدة ، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به ، وإن اختلف العامل .
الرابع : أنه منصوب على إسقاط حرف الجر ، والأصل : نقتدي بملّة إبراهيم ، فلما حذف الحرف انتصب .
وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين ، فيكون تقدير الفعل : بل نكون ، أو نتبع ، أو نقتدي كما تقدم ، وإن يكون خطاباً للكفار ، فيكون التقدير : كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا .
وقرأ ابن هرمز ، وابن أبي عبلة « مِلَّةٌ » رفعاً وفيها وجهان :
أحدهما : أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : بل ملتنا ملّة إبراهيم ، أو نحن ملة ، أي : أهل ملة .
الثاني : أنها مبتدأ حذف خبره ، تقديره : ملة إبراهيم ملتنا .
قوله : « حَنيفاً » في نصبه أربعة أقوال :
أحدها : أنه حال من « إبراهيم » ؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياساً في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم .
أحدها : أن يكون المضاف عاملاص عمل الفعل .
الثاني : أن يكون جزءاً نحو : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً } [ الحجر : 47 ] .
الثالث : أن يكون الجزء كهذة الآية؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء .
والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه ، ولو كان المضاف جزءاً ، قالوا : لأن الحال لا بد لها من عامل ، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها ، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل ، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام ، أو معنى الإضافة ، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل .
ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك : « رأيت وجه هند قائمة » ، وهو قول الزجاج .
الثاني : نصبه بإضمار فعل ، أي : نبتع حنيفاً وقدره أبو البقاء ، ب « أعني » ، وهو قول الأخفش الصغير ، وجعل الحال خطأ .
الثالث : أنه منصوب على القطع ، وهو رأي الكوفيين ، وكان الأصل عندهم : إبراهيم الحنيف ، فلما نكره لم يمكن إتْباعه ، وقد تقدم تحرير ذلك .
الرابع : وهو المختار : أن يكون حالاً من « ملّة » فالعامل فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها ، وتكون حالاً لازمة؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف ، وكذلك على القول بجعلها حالاً من « إبراهيم » ؛ لأنه لم ينتقل عنها .
فإن قيل : صاحب الحال مؤنث ، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث ، فيقال : حنيفة .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن « فعيلاً » يستوي فيه المذكر والمؤنث .
والثاني : أن الملّة بمعنى الدين ، ولذلك أبدلت منه في قوله { دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] ذكر ذلك ابن الشَّجَرِيِّ في « أماليه » .
و « الحَنَفُ » : الميل ، ومنه سمي الأَحْنَفُ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى؛ قالت أُمُّهُ : [ الرجز ]
809 وَاكللهِ لَوْلاَ حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... مَا كَانَ في فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
ويقال : رجل أَحْنَفُ ، وامرأة حَنْفَاءُ .
وقيل : هو الاستقامة ، وسمي المائل الرِّجْل بذلك تفاؤلاً؛ كقولهم لِلَّدِيغ « سَلِيم » ولِلْمَهْلكة : « مَفَازة » قاله ابن قتيبة [ وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ ] .
وقيل : الحَنيفُ لقب لمن تديَّن بالإسلام؛ قال عَمْرٌو : [ الوافر ]
810 حَمِدْتُ اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلى الإسْلاَمِ وَالدِّينِ الحَنِيفِ
[ قاله القفال . وقيل : الحنيف : المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه ] .
قال الزجاج؛ وأنشد : [ الوافر ]
811 وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ... حَنِيْفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِيْنِ
وأما عبارات المفسرين ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين : الحنيفية حج البيت .
وعن مجاهد أيضاً : اتباع الحق .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام .
وقيل : اتباع شرائع الإسلام .
وقيل : أخلاص الدين قاله الأصم .
وقال سعيد بن جبير : هي الحج الحسن ، وقال قَتَادة : الحنيفية الختان ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات ، وإقامة المناسك .
قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا؛ لأن بعض اليهود قالوا : عزيزٌ ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله وذلك شرك .
وأيضاً إن الحنيف اسم لمن دَانَ بدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة ، من حجّ البيت الخِتَان وغيرهما ، فمن دَانَ بذلك فهو حنيف ، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء ، ثم كانت تشرك ، فقيل من أجل هذا « حنيفاً ، وما كان من المشركين » ونظيره قوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 6 ] .
فصل في الكلام على هذه الآية
اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله : « ملّة إبراهيم حنيفاً » وتقديره : إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأن هؤلاء المختلفين قد « أتفقوا » على صحّة دين إبراهيم ، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، فكأنه سبحانه وتعالى قال : إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر ، فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان المقول على التقليد ، فالرجوع إلى دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وترك الهيودية والنصرانية أولى .
فإن قيل : اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك ، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة ، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم عليه الصلاة والسلام أو كانوا مقرين به ، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه ، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه ، فكان الأخذ به أولى .
فالجواب : أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
فإن قيل : أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
فالجواب أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد ، وثبت أن النصارى يقولون بالتَّثْليث ، واليهود يقولون بالتشبيه ، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنّ محمداً عليه الصلاة والسلام لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم .
فصل
[ اعلم أن قوله تعالى : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } ليس المراد منه التخيير ، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تُجَوِّزُ اختيار النصرانية على اليهودية ، بل تزعم أنه كفر ، وكذلك أيضاً حال النصارى ، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية ، والنصارى إلى النصرانية ، فكل فريق يدعو إلى دينه ، ويزعم أنه على الهدى ] .
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
« قولوا » : في هذا الضمير قولان :
أحدهما : أنه للمؤمنين ، والمراد بالمنزل إليهم القرآن على هذا .
والثاني : أنه يعود على القائلين كانوا هوداً أو نصارى .
والمراد بالمُنزل إليهم : إما القرآن ، وإما التوراة والإنجيل
[ قال الحسن رحمه الله تعالى : لما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا : كونوا هوداً أو نصارى ذكر في مقابلته للرسول عليه الصلاة والسلام قل : بل « ملة » إبراهيم ، قال : { قولوا آمَنَّا بالله } ] .
وجلمة « آمنَّا » في محلّ نصب ب « قولوا » ، وكرر الموصول في قوله : { وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ } لاختلاف المنزل إلينا ، والمنزل إليه ، فلو لم يكرر لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إليهم ، ولم يكرر في « عيسى » ؛ لأنه لم يخالف شريعة موسى إلاّ في نزر يسير ، فالذي أوتيه عيسى هو عَيْن ما أوتيه موسى إلا يسيراً ، وقدم المنزل إلينا في الذكر ، وإن كان متأخراً في الإنزال تشريفاً له .
والأسباط جمع « سِبْط » وهم في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل والشّعوب في العجم .
وقيل : هم بنو يعقوب لصلبه .
وقال الزمخشري : « السبط هو الحَافِدُ » .
واشتقاقهم من السبط وهو التتابع ، سموا بذلك؛ لأنهم أمة متتابعون .
وقيل : من « السَّبط » بالتحريك جمع « سَبَطَة » وهو الشجر الملتف .
وقيل ل « الحَسَنَيْنِ » : سِبْطا رسول الله صلى الله عليه وسلم لانتشار ذرّيتهم .
ثم قيل لكل ابن بنت : « سِبْط » .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : جميع إبراهيم براهم ، وإسماعيع سماعيل ، قاله الخليل وسيبويه والكوفيون ، وحكوا : بَراهِمة وسَماعِلة ، وحكوا براهِم وسماعِل .
قال محمد بن يزيد : هذا غلط ؛ لأنه الهمزة ليس هذا موضع زيادتها ، ولكن أقول : أباره وأسامع ، ويجوز أباريه وأساميع .
وأجاز أحمد بن يحيى « بِراه » ، كما يقال في التصغير « يريه » .
قوله : { وَمَآ أُوتِيَ موسى } يجوز في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكون في محل جر عطفاً على المؤمن به ، وهو الظاهر .
والثاني : أنها في محل رفع بالابتداء ، ويكون { وَمَا أُوتِيَ النبيون } عطفاً عليها . وفي الخبر وجهان :
أحدهما : أن يكون « من ربهم » .
والثاني : أن يكون « لا نُفَرِّقُ » هكذا ذكر أبو حيان ، إلا أن في جعله « لا نُفَرِّقُ » خبراً عن « ما » نظر لا يخفى من حيث عدم عد الضمير عليها .
ويجوز أن تكون « ما » الأولى عطفاً على المجرور ، و « ما » الثانية مبتدأه ، وفي خبرها الوجهان ، وللشيخ أن يجيب عن عدم عود الضمير بأنه محذوف تقديره : لا نفرق فيه ، وحذف العائد المجرور ب « في » مطَّرِد كما ذكر بعضهم ، وأنشد : [ المتقارب ]
812 فَيَوْمٌ علَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرْ
أي : نُسَاءُ فيه ونُسَرُّ فيه .
قوله : « من ربِّهم » فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما وهو الظاهر أنه في محل نصب ، و « من » لابتداء الغايةن ويتعلّق ب « أوتي » الثانية إن أَعَدْنَا الضمير على النبيين فقط دون موسى وعيسى ، أو ب « أوتي » الأولى ، وتكون الثانية تكراراً لسقوطها في « آل عمران » إن أعدنا الضمير على موسى وعيسى عليهما السلام والنبيين .
الثاني : أن يكون في محلّ نصب على الحال من العائد على الموصول فيتعلّق بمحذوف تقديره : وما أوتيه كائناً من ربهم .
الثالث : أنه في محل رفع لوقوعه خبراً إذا جعلنا « ما » مبتدأ .
قوله : « بين أحد » متعلق ب « لا نفرق » ، وفي « أحد » قولان :
أظهرهما : أنه الملازم للنفي الذي همزته أصلية ، فهو للعموم وتحته أفراد ، فلذلك صحّ دخول « بين : عليه من غير تقدير معطوف نحو : » المال بين الناس « .
والثاني : أنه الذي همزته بدل من » واو « بمعنى واحدٍ ، وعلى هذا فلا بد من تقدير معطوف ليصح دخول » بين « على متعدد ، ولكنه حذف لفهم المعنى ، والتقدير : بَيْنَ أحدٍ منهم؛ ونظيره ومثله قول النابغة : [ الطويل ]
813 فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
أي : بين الخير وبَيْنِي .
و » له « متعلِّق ب » مُسْلِمُون « ، قدم للاهتمام به لعود الضمير على الله تعالى أو لتناسب الفواصل .
فصل في الكلام على الآية
قدم الإيمان بالله؛ لأن من لا يعرف الله يستحيل أن يعرف نبيًّا أو كتاباً ، فإذا عرف الله ، وآمن به عرف أنبياءه ، وما أنزل عليهم .
وقوله : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } فيه وجهان :
الأول : لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى ، بل نؤمن بالكل ، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا : آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنْزِلَ . . . « الآية .
الثاني : لا نقول : إنهم متفرقون في أصول الديانات ، بل هم يجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين } [ الشورى : 13 ] .
[ فإن قيل : كيف يجوز الإيمان بأبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟
قلنا : نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه ، فلا تلزمنا المناقضة ، وإنما تلزم المناقضة لليهود والنصارى؛ لاعترافهم بنبوة من ظهر المعجز على يده . لم يؤمنوا ] .
وقوله : » وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ « يعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله لا لأجل الهوى .
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
« الباء » في قوله « بمثل » فيه أقوال :
أحدها : أنها زائدة كهي في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] وقوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } [ مريم : 25 ] ؛ وقوله : [ البسيط ]
814 ... سُودُ المَحَاجِرِ لاَ يَقْرَأْنَ باِلسُّوَرِ
والثاني : أنها بمعنى « على » ، أي : فإن آمنوا على مثل إيمانكم بالله .
والثالث : أنها للاستعانة كهي في « نجرت بالقدُّوم » ، و « كتبت بالقلم » ، والمعنى :
فإن دخلوا في الإيمان بشهادةٍ مثل شهادتكم . وعلى هذه الأوجه ، فيكون المؤمَن به حذوفاً ، و « ما » مصدرية ، والضمير في « به » عائداً على الله تعالى والتقدير : فإن آمنوا بالله إيماناً مثل إيمانكم به ، و « مثل » هنا فيها قولان :
أحدهما : أنها زائدة ، والتقدير : بما آمنتم به ، وهي قراءة عبدالله بن مسعود ، وابن عباس [ وذكر البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تقولوا بمثل ما آمنتم به ، فإن الله تعالى ليس له مثل ، ولكن قولوا بالذي آمنتم به ، وهذا يروى قراءة أُبيّ ] ونظيرها في الزيادة قول الشاعر : [ السريع أو الرجز ]
815 فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْشفٍ مَأْكُولْ ... وقال بعضهم : هذا من مجاز الكلام تقوم : هذا أمر لا يفعله مثلك ، أي : لا تفعله أنت .
والمعنى : فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، نقله ابن عطية ، وهو يؤول إلى إلغاء « مثل » وزيادتها .
والثاني : أنها ليست بزائدة ، والمثليّة متعلقة بالاعتقاد ، أي : فإن اعتقدوا بمثل اعتقادكم ، أو متعلقة بالكتاب ، أي : فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به ، والمعنى : فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل ، وهذا التأويل ينفي زيادة « الباء » .
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : وفيها وجوه ، وذكر بعضها أن المقصود منه التثبيت ، والمعنى : إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم ، ومساوياً له في الصحة والسداد ، فقد اهتدوا ، ولمَّا استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصواب والسَّدَاد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه : ها هو الرأي الصواب ، فإ ، كان عندك رأي أصوب مه فاعمل به ، وقد علمت أن لا أَصْوَبَ من رأيك ، [ ولكنك تريد تثبيت صاحبك ، وتوقيفه على أن ما رأت لا رأي وراءه ] .
وقيل : إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف ، فإن آمنوا بمثل ذلك ، وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف ، فقد اهتدوا؛ لأنهم يتوصّلون به إلى معرفة نوبة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين ، فقد اهتدوا .
و « ما » ف يقوله : « بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ » فيها وجهان :
أحدهما : أنها بمعنى الذي ، والمراد بها حينئذ : إما الله تعالى بالتأويل المتقدم عند من يجيز وقوع « ما » على أولي العلم نحو :
{ والسمآء وَمَا بَنَاهَا } [ الشمس : 5 ] .
وإما الكتاب المنزل .
[ والثاني : أنها مصدرية ، وقد تقدم ذلك .
والضمير في « به » فيه أيضاً وجهان :
أحدهما : أنه يعود على الله تعالى كما تقدم ]
والثاني : أن يعود على « ما » إذا قيل : إنها بمعنى الذي .
قوله : « فَقَدِ اهْتَدَوا » جواب الشرط في قوله : « فَإِنْ آمَنُوا » ، وليس الجواب محذوفاً ، كهو في قوله : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ } [ فاطر : 40 ] ، لأن تكذيب الرسل ماض محقق هناك ، فاحتجنا إلى تقدير جواب .
وأما هنا فالهداية منهم لم تقع بعد ، فهي مستقبلة معنى ، وإن أبرزت في لفظ المعنى .
[ قال ابن الخطيب : والآية تدل على أن الهدىية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء ، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها ، وبين وجوه دلالتها ، ثم بيَّن وجه الزجر وما يلحقهم إن تولوا ، فقال : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } ] .
قوله : « فِي شِقَاقٍ » خبر لقوله : « هم » ، وجعل الشقاق ظرفاً لهم ، وهم مظروفون له مبالغة في الأخبار باستعماله علهيم ، وهو أبلغ من قولك : هم مُشَاقّونَ ، وفيه : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } [ الأعراف : 66 ] ونحوه .
والشِّقَاق : مصدر من شاقَّهُ يُشَاقّه نحو : ضاربه ضِراباً ، ومعناه المخالفة والمعاداة .
وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه من الشّق وهو الجانب . وذلك أن أحد المشاقين يصير في شقّ صابحه ، أي : جانبه؛ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
816 إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
أي : بجانب .
الثاني : أنه من المشقة ، فإن كلاًّ منهما يحرص على ما يَشُقّ على صاحبه .
الثالث : أنه من قولهم : « شققتُ العَصَا بين وبينك » ، وكانوا يفعلون ذلك عند تعاديهم .
فصل في الكلام على الآية
قال ابن الخطيب : معناه إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة ، والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة ، فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طَلَب الدين ، والانقياد للحق ، وإنما غرضهم المنازعة ، وإظهار العداوة .
قال ابن عباس وعطاء رضي الله عنهما « فإنما هم في شِقَاقٍ » أي : في خلاف منذ فارقوا الحقّ ، وتمسّكوا بالباطل ، فصاروا مخالفين لله .
وقال أبو عبيدة ومقاتل : « في شِقَاقٍ » ، أي : في ضلال .
وقال ابن زيد : في منازعة ومُحَاربة .
وقال الحسن : في عداوة .
قال القاضي : ولا يكاد يقال في المُعَاداة على وجه الحق ، أو المخالفة التي لا تكون معصية : إنه شقاق ، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنته وفي استحقاق النَّار ، فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم ، وصارَ وَصْفُهُمْ بذلك دليلالآ على أنهم معادون للرسول ، مضمرون له السوء مترصّدون لإيقاعه في المِحَنِ ، فعند هذا آمنه الله تعالى ت من كيدهم ، وآمن المؤمنين من شرّهم ومكرهم ، [ فقال : « سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ » تقوية لقلبه وقلوب المؤمنين ] .
و « الفاء » في قوله : « فَسَيْكَفِيْكَهُمْ » تشعر بتعقيب الكفاية عقب شقاقهم ، وجيء ب « السين » دون « سوف » ؛ لأنها أقرب منها زماناً بوضعها ، ولا بد من حذف مضاف أي : فسيكفيك شقاقهم؛ لأن الذوات لا تكفى إنما تكفى أفعالها ، والمكفي به محذوف ، أي : بمن يهديه الله ، أو بتفريق كلمتهم .
[ ولقد كفى بإجلاء بني النضير ، وقتل بني قريظة ، وبني قينقاع ، وضرب الجزية على اليهود والنصارى ] .
قوله : { وَهُوَ السميع العليم } أي : السميع لأقوالهم ، العليم لأحوالهم .
وقيل : السميع لدعائك العليم بنيتك ، فهو يستجيب لك ويصولك لمرادك . [ وروي أن عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقرأ في المصحف ، فقتل فقطرت نقطة من دمه على قوله تعالى « سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ » .
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم ، قد أخبره بذلك ] .
والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان؛ ويجوز في غير القرآن الكريم : « فسيكفيك » .
فصل في الكلام على سمع الله وعلمه
واحتجوا بقوله تعال : { وَهُوَ السميع العليم } على أنه سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات ، وإلا يلزم التكرار ، وهو غير جائز ، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عاليماً .
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
قرأ الجمهور « صيغة » بالنصب .
وقال الطبري رحمه الله : من قرأ : « ملّةُ إبراهيم » بالرفع قرأ « صبغة » بالرفع وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز ، وابن أبي عبلة .
فاما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه :
أحدها : أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد ، وهذا اختاره الزمخشري ، وقال : « هو الذي ذكره سيبويه ، والقول ما قالت حَذَام انتهى قوله .
واختلف حينئذ عن ماذا انْتَصَبَ هذا المصدر؟
فقيل : عن قوله : » قولوا : آمنا « .
وقيل عن قوله : » ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ « .
وقيلك عن قوله : » فَقَد اهْتَدُوا « .
الثاني : أن انتصابها على الإغراء أي : الزموا صبغة الله .
وقال أبو حيان وهذا ينافره آخر الآية ، وهو قوله : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } [ فإنه خبر والأمر ينافي الخبر ] إلا أن يقدر هنا قول ، وهو تقدير لا حاجة إليه ، ولا دليل من الكلام عليه .
الثالث : أنها بدل من » ملة « وهذا ضعفيف؛ إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة .
الرابع : انتصابها بإضمار فعل أي : اتبعوا صِبْغَةَ الله ، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء ، وهو في الحقيقة ليس زائداً فإنَّ الإغراء ايضاً هو نصب بإضمار فعل .
قال الزمخشري رحمه الله : هي أي الصبغة من » صَبَغَ « كالجِلْسَة من » جَلَس « ، وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ ، والمعنى : تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النُّفُوس .
فصل في الكلام على الصّبغ
الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال : صبغ الثوب يصبغُهُ بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها .
و » الصِّبْغة « فعلة من صبغ كالجِلْسَة من جلس ، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ .
ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال :
الأول : أنه دين الله ، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوهاً .
أحدها : أن بعض لنصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ، ويقولون : هو تطهير لهم . وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال : الآن صار نصرانياً فأمر المسملون أن يقولوا : آمنا وصبغنا الله صِبْغة لا مثل صِبْغتكم ، وإنما جيء بفلظ الصِّبغة على طريق المُشَاكلة كما توقول لمن يغرس الأشجار : [ اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلاً يصطنع الكرم .
والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المُشَاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم ] : اغرس كما يغرس فلان ، تريد رجلاً مواظباً على الكرم .
ونظيره قوله تعالى : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } [ البقرة : 1415 ] ، { يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] ، { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } [ هود : 38 ] .
وثانيها : اليهود تصبغ أولادها يهوداً ، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم ، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قُلُوبهم .
عن قتادة قال ابن الأنباري رحمه الله يقال : فلان يصبغ فلاناً في الشيء ، أي : يدخله فيه ، ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب . وأنشد ثعلب : [ الطويل ]
817 دَعِ الشَّرَّ وانْزِلْ بالنَّجَاةِ تَحَرُّزاً ... إِذا أنْتَ لَمْ يَصْبَغْكَ بِالشّرْعِ صَابِغُ
وثالثها : سمي الدين صبغة؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطَّهَارة والصلاة قال الله تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } [ الفتح : 29 ] .
[ وقال مجاهد والحسن وأبو العالية وقتادجة رضي الله تعالى عنهمك أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فيما يسمونه المعمودية ، وصبغوه بذلك ليطهروه به ، كأنه الخِتَان ، لأن الختان تطهير ، فلما فعلوا ذلك قالوا : الآن قد صار نصرانياً حقًّا ، فرد الله تعالى عليهم بقوله : { صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً } وهي الإسلام فسمى الإسلام صبغة استعارة ومجازاً من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب .
قال بعض شعراء ملوك « همدان » : [ المتقارب ]
818 وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ
صَبَغْتنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا في الصِّبَغْ ]
ورابعها : قال القاضي : قوله : « صِبْغَةَ اللهِ » متعلّق بقوله : { قولوا آمَنَّا بالله } [ البقرة : 136 ] إلى قوله : « وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ » فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تَعَالى؛ ليبيّن أن المُبَاينة بين هذا الدين الذي اختاره الله ، بين الدِّين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية ، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحسّ السليم .
القول الثاني : أن صبغة الله فطرته ، وهو كقوله : { فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] .
ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبِنْيَتِهِ بالعَجْزِ والفَاقَة ، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق ، فهذه الآثار كالصبغة له وكالسِّمَة اللاَّزمة .
[ قال القاضي رحمه الله تعالى : من حمل قوله تعالى : « صبغة الله » على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول : هو دين الله؛ لأن الفطرة التي أمروا بها هو الدين الذي تقتضيه الأدلّة من عَقْل و شرع ، وهو الدين أيضاً الذي ألزمكم الله تعالى التمسّك به ، فالنفع به سيظهر دُنيا ودين ، كالظهور حُسْن الصبغة ، وإذا حمل الكلام على ما ذكرنا ، لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى ، وفي صبغ يستعملونه في أولادهم معنى؛ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه ، فلا فائدة فيه ] .
القول الثالث : أن صبغة الله هي الختان ، الذي هو تطهير ، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تظهير لهم ، فكذلك الختان تظهير للمسلمين قاله أبو العالية .
القول الرابع : قال الأصم رحمه الله تعالى : أنه حجة الله .
القول الخامس : قال أبو عبيدة رحمه الله تعالى : إنه سُنة الله
وأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين :
أحدهما : أنها خبر مبتدأ محذوف أي : ذلك الإيمان صبغة الله .
والثاني : أن تكون بدلاً من « ملَّة » ؛ لأن من رفع « صبغة » رفع « ملة » كما تقدم فتكون بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءة النصب .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : وقيل : الصِّبْغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلاَم ، بدلاً من مَعْمُودية النصارى ، ذكر ذلك الماوردي رحمه الله تعالى . وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجباً ، وبهذا المعنى جاءت السُّنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين اسلما .
وقيل : « وَمَنْ أَحْسَنُ » مبتدأ وخبر ، وهذا استفهام معناه النفي أي : لا أحد ، و « أحسن » هنا فيها احتمالان :
أحدهما : أنها ليست للتفضيل؛ إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن .
والثاني : أن يراد التفضيل باعتبار من يظنّ أن في « صبغة » غير الله حسناً لا أن ذلك بالنسبة غلى حقيقة الشيء .
و « من الله » متعلق بأحسن ، فهو في محل نصب .
و « صبغة » نصب على التمييز من أحسن ، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ والتقدير : ومن أحسن من صبغة الله ، فالتفضيل إنما يجري بين الصّبغتين لا بين الصَّابغين . [ وهذا غريب معنى ، وغني عن القول كون التمييز منقولاً عن المبتدأ ] .
قوله تعالى : { وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ } جلمة من مبتدأ خبر معطوف على قوله : « قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ » فهي في محلّ نصب بالقول .
قال الزمخشري : وهذا العطف يرد قول من زعم أن « صبغة الله » بدل من « ملّة » ، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الهل لما فيه من فكّ النظم ، وإخراج الكلام عن الْتِئَامِهِ واتساقه .
قال أبو حيان : وتقديره في الإغراء : علكيم صبغة ليس بجيد؛ لأن الإغراء إذا كان بالظروف والمجرورات لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور ، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدّرناه : ب « الزمموا صبغة الله » انتهى . كأنه لضعف العمل بالظّروف والمجرورات ضعف حذفها وإبقاء عملها .
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
الاستفهام في قوله : « أَتُحَاجُّونَنَا » للإنكار و التوبيخ .
والجمهور : « أتحاجوننا » بنونين الأولى للرفع ، والثانية نون « ن » .
وقرأ زيد والحسن والأعمش رحمهم الله بالإدغام .
وأجاز بعضهم حذف النون الأولى .
فأما قراءة الجمهور فواضحة .
وأما قراءة الإدغام فلاجتماع مثلين ، وسوغ الإدغام وجود حرف المد وللين قبله القائم مقام الحركة .
وأما من حذف فبالحمل على نون الوقاية كقراءة : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] ؛ وقوله [ الوافر ]
819 تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلَيْنِي
يريد « فَليْنَنِي » ، وهذه الآية مثل قوله : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] ، فإنه قرئت بالأوجه الثلاثة : الفَكِّ والإدغام والحذف ، ولكن في المتواتر .
وها لم يُقْرأ في المشهور كما تقدَّم إلا بالفكّ .
ومَحَلُّ هذه الجملة النصب بالقول قبلها .
والضمير في « قل » يَحْتَمِلُ أن يكون للنبي عليه الصلاة والسَّلام أو لكلّ من يصلح للخطاب ، والضمير المرفوع في : « أتحاجُّوننا » اليهود والنصارى ، أو لمشركي العرب أو للكلّ .
و « المحاجّة » مفالعة من حَجَّة يَحُجُّهُ .
فصل في حرير معنى المحاجّة
اختلفوا في تلك المحاجة : فقيل : هي قولهم : إنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم ، والمعنى : أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسوله من العرب لأمتكم ، وتقولونك لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم ، وترونكم أحق بالنبوة منا .
وقيل : هي قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقوله : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] ، وقولهم : { كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } [ البقرة : 135 ] قاله الحسن رضي الله عنه .
وقيل : { أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } أي : أتجادلوننا في دين الله .
وقوله : « في الله » لا بد من حذف مضاف أي : في شأن الله ، أو دين الله .
قوله : « وَهُوَ رَبُّنَا » مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال ، وكذا ما عطف عليه من قوله : « وَلَنَا أعمالنا » ولا بد من حذف مضاف أي : جزاء أعمالنا ، ولكم جزاء أعمالكم .
فصل
قوله : { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } فيه وجهان :
الأول : أنه أعلم بتدبير خلقه ، وبمن يصلح للرسالة ، وبمن لا يصلح لها ، فلا تعتضوا على ربكم ، فإنّ العبد لس له أن يعترض على ربه ، بل يجب عليه تفويض الأمر إليه .
الثاني : أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلى بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم ، فلم ترجّحون أنفسكم علينا ، بل الترجيح من جانبنا؛ لأنا مخلصون في العبودية ، ولستم كذلك ، وهذا التأويل أقرب .
قوله تعالى : { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } المراد منه النَّصيحة في الدين ، كأنه تعالى قال لنبيه : قل لهم هذا القول على وجه الشَّفقة والنصيحة ، اي : لا يرجع إليَّ من أفعالكم القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر ، وإنما المراد [ نصحكم ] وإرشادكم إلى الأصلح .
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
قال القرطبي رحمه الله : وجمع إسحاق : أساحيق .
وحكى الكوفيون : أساحقة ، وأساحق؛ وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب .
قال النحاس رحمه الله : فأما إسرائيل فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوّله ، وإنما يقال : « أساريل » .
وحكى الكوفيون « اسارلة » ، و « أسارل » . والباب في هذا كله أن يجمع مسَّماً فيقال : « إبراهيمون » ، و « إسحاقون » ، و « يعقوبون » ، والمسلَّم لا عمل فيه .
قال القرطبي رحمه الله تعالى وقوله تعالىك « أَمْ تَقُولُونَ » : قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وابن عامر بتاء الخطاب ، والباقون بالياء .
فأما قراءة الخطاب ، فتحتمل « أم » فيها وجهين :
أحدهما : أن تكون المتّصلة ، والتعادل بين هذه الجملة وبين قوله : « أَتُحَاجُّونَنَا » فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين : المُحَاجَّة في الله ، أو ادعاء على إبراهيم ، ومن ذكر معه اليهودية والنصرانية ، وهو استفهام إنكار وتوبيخ كما تقدم ، فإنّ كلا ا لأمرين باطلٌ .
قال ابن الخَطِيبِ : إن كانت متّصلة تقديره : بأي الحُجّتين تتعلّقون في أمرنا؟
أَبِالتَّوْحِيدِ فنحن موحدون ، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متّبعون؟
والثاني : أن تكون المنقطعة ، فتتقدر ب « بل » والهمزة على ما تقدر في المنقطعة على أصح المذاهب .
والتقدير : بل أتقولون؟
والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضاً فيكون قد انتقل عن قوله : أتحاجوننا وأخذ في الاستفهام عن قضية أخرى ، والمعنى على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم ومن ذكرمعه ، [ كأنه قيل : أتقولون : إن الأنبياء علليه السلام كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى ] .
وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن « أم » فيها منقطعة على المعنى المتقدم ، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنها متّصلة؛ لأنك إذا قلت : أتقوم أم يقوم عمرو؛ أيكون هذا أم هذا ، أورد ابن عطية هذا الوجه فقال : هذا المثال غير جيّد؛ لأن القائل غير واحد ، والمخاطب واحد ، والقول في الآية من اثنين ، والمخاطب اثنان غيران ، وإما تتّجه معادلة « أم » للألف على الحكم المعنوى ، كأن معنى قل : أتحاجوننا : « أيحاجون يا محمد أم تقولون » .
وقال الزمخشري : وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلاَّ منطقعة .
قال أبو حيان رحمه الله تعالى : ويمكن الاتصال مع قراءة الياء ، ويكون ذلك من الالتفات إذا صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة ، والضمير لناس مخصوصين .
وقال ابو البقاء : أم تقولون يقرأ بالياء ردًّا على قوله : « فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ » ، فجعل هذه الجملة متعلّقة بقوله : « فَسَيَكْفِيكَهُمُ » ، وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله : « فسيكفيكهم » إلى قوله : « أم يقولون » حتى يجعله ردّاً عليه ، وهو بعيد عنه لفظاً ومعنى .
وقال أبو حيان : الأحسن في القراءتين أن تكون « أم » منقعطة ، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله ، وسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية ، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم ألا ترى إلى قوله : { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 65 ] الآيات .
وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين ، بل إحداهما ، وصار السؤال عن تعيين إحداهما ، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معاً .
وهذا الذي قاله الشيخ حَسَن جداً .
و « أو » في قوله : « هُوداً أو نصارى » كهي في قوله : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقد تقدم تحقيقه .
قوله تعالى : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } .
معناه : أن الله أعلم ، وَخَبره أصدق ، وقد أخبر في التوراة والإنجيل ، وفي القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أنه كانوا مسلمين مبرئي عن اليهودية والنصرانية .
فإن قيل : إنما يقال هذا فيمن لا يعلمن وهم علموه وكتموه ، فكيف يصح الكلام؟
فالجواب : من قال « إنهم كانوا على ظَنّ وتوهم ، فالكلام ظاهر ، ومن قال : علموا وجحدوا ، فمعناه : أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به ، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله تعالى أعلم .
[ و » أم « في قوله تعالى : » أم الله « متصلهة ، والجلالة ، عطف على » أنتم « ، ولكنه فصل بي المتعاطفين بالمسؤول عنه ، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة؛ وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثثة أوجه : تقدم المسؤول عنه نحو قوله : » أأعلم أم الله « ، وتوسطه نحو » أأنتم أعلم أم الله « ، وتأخيره نحو : أأنتم أم الله أعلم .
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى : » أم الله « مبتدأ ، والخبر محذوفل أي : أم الله أعلم ، و » أم « هنا متصلة ، أي : ربكم أعلم ، وفيه نظر؛ لأنه إذا قدر له خبراً صناعياً صار جملة ، و » أم « المتصلة لا تعطف الجمل ، بل المفرد وما فيها معناه . وليس قول أبي البقاء بتفسير معنى ، فيغتفر له ذلك ، بل تفسير إعراب ، والتفصيل في قوله : » أعلم « على سبيل الاستهزاء ، وعلى تقدير أن يظن بهم علم ، فيكون من الجهلة ، وإلا فلا مشاركة ، ونظيره قول حسان : [ الوافر ]
أَتهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... شَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ
وقد علم أن الرسول عليه الصلاة والسلام خير الكل ] .
قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله } .
في » من « من قوله : » مِنَ اللهِ « أربعة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة ب » كنتم « ، وذلك على حذف مضاف أي : كتم من عباد الله شهادة عنده .
الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة؛ لأن « عنده » صفة لشهادة ، وهو ظاهر قول الزمخشري رحمه الله ، فإنه قال : و « من » في قوله : « شَهَادَةً مِنَ اللهِ » مثلها في قولك : « هذه شهادة مني لفلان » إذا شهدت له ، ومثله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 1 ] .
الثالث : أنها في محلّ نصب على الحال من المضمر في « عنده » يعني : من الضمير المرفوع بالظَّرف لوقوعه صفة ، ذكره أبو البقاء رحمه الله تعالى .
الرابع : أن يتعلّق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف ، وهو « عنده » لوقوعه صفة ، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذلك له عامل مستقل غير العامل في الظرف .
قال أبو البقاء : ولا يجوز أن تعلق « من » بشهادة لئلاً يفصل بين الصلة والموصول بالصفة يعني : أن « شهادة » مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل ، فلو عَلّقت « مِنْ » بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول ، وبين أبعاض الصّلة بأجنبي ، وهو الظرف الواقع صفة لشهادة .
وفيه نظر من وجهين :
أحدهما : لا نسلم أن « شهادة » ينحل إلى الموصول وصلته فإن كل مصدر لا ينحل لهما .
والثاني : سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم و الحالة هذه أن الظرف صفة ، بل هو معمول لها ، فيكون بعض الصلة أجنبياً حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته ، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر ، وهو أن المعنى يأبى ذلك .
و « كتم » يتعدّى لا ثنين ، فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره : كنتم النَّاس شهادةً ، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون « من الله » صفة لشهادة أو متعلّقة بعامل الظرف لا متعلقة ب « كنتم » ، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستدعة من الله عنده ابلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عبادة الله .
وقال في « ري الظمآن » : في الآية التقديم وتأخير ، والتقدير : ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك : « ومن أظلم من زيد من جملة الكلمتين للشهادة » ، والمعنى : لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً أو نصارى ، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه ، لكن لما استحال ذلك مع عدلهن وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك .
قال ابو حيان : وهذا متكلّف جدّاً من حيث التركيب ، ومن حيث المدلول . أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضَّرائر عند الجمهور .
وأيضاً فيبقى قوله : « مِمَّنْ كَتَمَ » متعلقاً : إما ب « أظلم » ، فيكون ذلك على طريق البدلية ، ويكون إذ ذلك بدل عام من خاص ، وليس بثابت ، وإن كان بعضهم زعم وروده ، لكن الجمهور تأولوه بوضع العامّ موضع الخاص ، أو تكون « من » متعلقة بمحذوف ، فتكون في موضع الحال ، أي : كائناً من الكاتمين .
وإمّا من حيث المدلول ، فإن ثبوت الأظلمية لمن جُرَّ ب « من » يكون على تقدير ، أي : إن كتمها فلا أحد أظلم منه ، وهذا كله معنى لا يليق به تعالى وينزه كتابه عنه .
قوله تعالى : « { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سُدى ، وأنه يجازيهم على أعمالهم .
والغافل الذي لا يفطن إلى الأمور إهمالاً منه؛ مأخوذ من الأرض الغُفْل ، وهي التي لا عَلَم لها ولا أثر عمارة .
وناقة غُفْلك لا سِمَة بها .
ورجل غُفْلك لم يجرب الأمور . وقال الكسائي : » أرض غُفْل لم تمطر « ، غفلت عن الشيء غَفْلَةً وغُفُولَةً ، وأغفلت الشيءك تركته على ما ذكر منك .
فإن قيل : ما الحكمة في عدوله عن قوله : » وَاللهُ عَلِيمٌ « إلى » وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ « .
فالجواب : أن نفي النقائص وسلبها عن صفاتا لله تعالى أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها ، فإن النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة ، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض ، فلما قال الله تعالى : » وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ « دلّ ذلك على أنه عالم ، وعلى أنه غير غافل ، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية .
فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [ يوسف : 19 ] .
فالجواب : أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر ، بخلاف هذه الآية ، فإن المقصود بها الزجر والتهديد .
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
اعلم أن الله تعالى لما حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية ليكون وعظاً لهم ، وزجراً حتى لايتّكلوا على فضل الآباءن فكلّ واحد يؤخذ بعمله .
وأيضاً أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك ، بل كل إنسان مسؤول عن عمله ، ولا عذر له في ترك الحق بأن يتوهم أنه متمسّك بطريقة من تقدم؛ لأنهم أصابوا أو أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد .
فإن قيل : لم كررت هذه الآية؟
فالجواب من وجهين :
الأول : قال الجُبَّائي : إنه عني بالآية الأولى إبراهيم ، ومن ذكر معه ، والثانية أسلاف اليهود .
قال القاضي : هذا بعيد؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يَجْرِ لهم ذلك مصرح ، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبينه : إنهم كانوا هوداً ، فكأنهم قالوا : إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود ، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسُّف ، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه ، فقوله : « تلك أمة » يجب أن يكون عائداً إليهم .
الوجه الثاني : أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التَّكْرار عبثاً ، فكأنه تعالى قال : ما هذا إلا بشر ، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا [ الجنس ] ، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة ، فلها ما كسبت ، وانظر فيما دعاكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أنفع لكم ، وأعود عليكم ، ولا تُسألون إلا عن عملكم .
قال القرطبي رحمه الله تعالى : كررها ، لأها تضمّنت معنى التهديد والتخويف ، أي : إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم ، فأنتم أحرى ، فوجب التأكيد فذلك كررها .
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
قوله : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ } فيه قولان :
أحدهما : وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً ، لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً ، فيطعن فيه بعض أعدائه ، فيقول : أنا أعلم أنهم [ سيطعنون عليَّ فيما فعلت ، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد ] ، فإذا ذكروه مَرَّة ، فسيذكرونه بعد ذلك مرات ، فصحّ على هذا التأويل أن يقال : سيقول السُّفهاء من الناس ذلك ، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك [ نزلت الآية ] .
[ قال القرطبي : « سيقول » بمعنى : قال؛ جعل المستقبل موضع الماضي ، دلالة على استدامة ذلك ] وأنهم يستمرون على ذلك القول .
و « السفهاء » جمع ، واحده سفيه ، وهو الخفيف العقل ، من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد تقدم .
والنساء سفائه . وقال المؤرج : السَّفيه : البهات الكاذب المتعمد خلاف ما يعلم .
وقال قُطْرب : الظلوم الجهول .
القول الثاني : أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد .
أحدها : أنه - عليه الصلاة والسلام - إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه ، كان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً .
وثانيها : أنه - تعالى - إذا أخبر عن ذلك أولاً ، ثم سمعه منهم ، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما إذا سمعه فيهم أولاً .
وثالثها : أن الله - تعالى - إذا أسمعه ذلك أولاً ، ثم ذكر جوابه معه ، فحين يسمعه النبي - عليه الصلاة والسلام - منهم يكون الجواب حاضراً ، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً .
فصل في الكلام على السفيه
تقدم الكلام على السَّفه في قوله : { كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء } وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه ، فيعدل عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره ، يوصف بالخفّة والسفه ، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا ، [ فإذا كان العادل عن الرأي واضحاً في أمر دنياه يعدّ سفيهاً ، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه ، فهذا اللفظ ] يمكن حمله على اليهود ، وعلى المشركين ، وعلى المنافقين وعلى جملتهم ، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين .
قال ابن عباس ومجاهد : هم اليهود ، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القِبْلة ، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية ، فلما تحول عن ترك القبلة اغْتَمُّوا وقالوا : قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة ، فنزلت هذه الآية .
قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم رضي الله عنهم : إنهم مشركو العرب ، [ وذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان متوجهاً إلى « بيت المقدس » حين كان ب « بمكة » والمشركون ] كانوا يتأذون منه بسبب ذلك ، فلما جاء إلى « المدينة » وتحول إلى الكعبة قالوا : رجع إلى موافقتنا ، ولو ثبت عليه لكان أولى به .
وقال السدي : هم المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها ، فكان هذا التحويل مجرد العبث ، والعمل بالرأي والشهوة ، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين ، لأن هذا الاسم مختص بهم ، قال الله تعالى : { ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] .
وقيل : يدخل فيه الكل؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم ، ودخل فيه الألف واللام ، وقد بَيّنا صلاحيته لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي ، والنص أيضاً يدلّ عليه ، وهو قوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] .
[ فإن قيل : المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة ، وإن كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً .
قلنا : هذا القدر لا ينافي العموم ، ولا يقتضي تخصيصه؛ بل الأقرب أن يكون الكل قد قالوا ذلك؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن ، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً ] .
قوله تعالى : { مِنَ النَّاسِ } في محلّ نصب على الحال من « السفهاء » والعامل فيها « سيقول » ، وهي حال مبينة ، فإن السَّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان ، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازاً ، فرفع المجاز بقوله : « مِنَ النَّاسِ » ذكره ابن عطية وغيره .
قوله : { ما وَلاّهُمْ } « ما » مبتدأ ، وهي استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب ، والجملة بعدها خبر عنها و { عن قبلتهم } متعلّق ب « ولاّهم » ، ولا بد من حذف مضاف في قوله : « عليها » أي : على توجهها ، أو اعتقادها ، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله : « عليها » مجاز ، نزَّل مواظبتهم على المُحَافظة عليها منزلة من اسْتَعْلَى على الشيء ، والله أعلم .
فصل في الكلام على التولّي
وَلاَّه عنه : صرفه عنه ، وولى إليه بخلاف ولّى عنه ، ومنه قوله تعالى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] وفي هذا التولّي قولان :
المشهور عند المفسرين : أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة عاب الكفار المسلمين ، فقالوا : { مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ } فالضَّمير في قوله : { مَا وَلاَّهُمْ } للرسول - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي « بيت المقدس » .
واختلفوا في تاريخ تحويل القِبْلَة بعد ذهابه إلى « المدينة » فقال أنس بن مالك - رضي الله عنه - بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وقال معاذ : بعد ثلاثة عشر شهراً ، وقال قتادة : بعد ستة عشر شهراً .
وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً ، [ وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال .
وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً ] من مقدمه .
وقال الواقدي : صرفت القِبْلَة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً .
وقال آخرون : بل سنتان .
القول الثاني : قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبرُ بأن الله - تعالى - حوّلها إلى الكعبة وجب القول به ، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله : { كَانُوا عَلَيْهَا } ، أي : السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قِبْلَة اليهود والنصارى ، فقبلة اليهود إلى العرب؛ لأن النداء لموسى عليه الصلاة والسلام جاء فيه وهو قوله تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي } [ القصص : 44 ] ، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب ، وذلك شبه الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة ، وهو وقت هُمُود الناس الذي هو الموت الأصغر ، واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى ، والنَّصَارى إلى المشرق؛ لأن جبريل - عليه الصلاة والسلام - إنما ذهب إلى مريم في جانب المَشرق ، لقوله تعالى : { إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] ؛ لأن المشرق مكان إشراق الأنوار ، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها ، فهو مشتبه بحياة العالم فاستقبلوه؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم ، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجّهوا إلى شيء من الجهات ، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجهاً إلى الكعبة استنكروا ذلك ، فقالوا : كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين ، فقال تبارك وتعالى رداً عليهم : { قُلْ : لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ } .
قال ابن الخطيب : « ولولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم » .
فصل في تحرير معنى القبلة
القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان ، وهي من المقابلة ، وإنما سميت القبلة قبلةً؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله .
وقال قطرب : يقولون في كلامهم : ليس لفلان قبلة أي : ليس له جهة يأوي إليها ، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال .
وقال غيره : إذ تقابل الرجلان ، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر . [ قال القرطبي : وجمع القبلة في التكسير قبل ، وفي التسليم قبلات ، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة ، وتقول : قبلات ، ويجوز أن تحذف الكسرة ، وتسكن الباء ] .
فصل في بعض شبه اليهود والنصارى
قال ابن الخطيب : هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام ، فقالوا : النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وكلاهما لا يليق بالحكيم ، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام [ وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام ، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة ، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً له ، وإن كان مقيداً بقيد الدوام ، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على ] أنه يبقى دائماً ، ثم إنه رفعه بعد ذلك ، فها هنا كان جاهلاً ، ثم بدا له ذلك ، [ وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً ] فثبت أن النسخ يقتضي : إما الجهل أو التجهيل ، وهما مُحَالان على الله تعالى ، فكان النسخ منه محالاً ، [ فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً ] ، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام ، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة ، فقالوا : إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح ، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [ جانب إلى ] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً ، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم ، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى ، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى : { قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ } .
وتقديره : أن الجهات كلها لله - عز وجل - مُلْكاً ومِلْكاً ، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة ، بل إنما تصير قبلة؛ لأن الله عز وجل جعلها قبلة ، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتَّحويل من جهة إلى جهة؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السُّنة .
وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان :
الأول : لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات ، وبيانه من وجوه :
أحدها : أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعظّمه ، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً ، وذلك مصلحة مطلوبة .
وثانيها : أن الكعبة منشأ محمد صلى الله عليه وسلم ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد - عليه الصلاة والسلام - وذلك أمر مطلوب [ لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع ، والمفضي إلى المطلوب مطلوب ] .
وثالثها : أن الله - تعالى - بين ذلك في قوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] فأمرهم الله - تعالى - حين كانوا ب « مكة » أن يتجهوا إلى « بيت المقدس » ليتميزوا عن المشركين ، فلما هاجروا إلى « المدينة » وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود .
[ ورابعها : أن في أفعاله حكماً ، ثم إنها تارة تكون ظاهرة لنا ، وتارة تكون مستورة خفية عنا ، وتحويل القبلة يمكن أن يكون لمصالح خفية ، وإذا كان كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في الإسلام ] .
فصل في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد أم لا؟
اختلفوا هل كان استقباله بيت المقدس عن رأي واجتهاد أم لا؟
فقال الحسن : كان عن رأي واجتهاد ، وهو قول عكرمة وأبي العالية .
وقال القرطبي : كان مخيراً بينه وبين الكعبة ، فاختار بيت المقدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم .
وقال الزجاج : امتحاناً للمشركين ، لأنهم ألغوا الكعبة .
وقال ابن عباس : وجب عليه استقباله بأمر الله - تعالى - ووحيه لا مَحَالَةَ ، ثم نسخ الله ذلك ، وهو قول جمهور العلماء نقله القرطبي .
فصل
اختلفوا أيضاً حين فرضت عليه الصَّلاة أولاً ب « مكة » ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة؟ على قولين :
فقالت طائفة : إلى بيت المقدس وب « المدينة » سبعة عشر شهراً ، ثم صرفه الله - تعالى - إلى الكعبة ، قاله ابن عباس .
وقال آخرون : أول ما افترضت الصلاة إلى الكعبة ، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه ب « مكة » على ما كان عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل ، فلما قدم « المدينة » صلى إلى « بيت المقدس » ستة عشر شهراً ، أو سبعة عشر شهراً على الخلاف ، ثم صرفه الله إلى « الكعبة » .
قال ابن عمر : وهذا أصح القولين عندي .
قوله تعالى : { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } تقدم الكلام على الهداية ، قالت المعتزلة : إنما هي الدلالة الموصلة ، والمعنى : أنّه - تعالى - يدلّ على ما هو للعبادة أصلح ، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم - إذ تمسّكوا به - إلى الجنة .
قال أصحابنا : هذه الهداية : إما أن يكون المراد منها الدعوة ، أو الدلالة ، أو تحصيل العلم فيه ، والأولان باطلان؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين ، فوجب حمله على الوجه الثالث ، وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
الكاف في قوله تعالى : « وَكَذَلِكَ » فيها الوجهان المَشْهُوران كما تقدم ذلك غير مَرَة : إما النصب على النعت ، أو على الحال من المصدر المحذوف .
والتقدير : وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، ولكن المشار إليه ب « ذلك » غير مذكور فيما تقدم ، وإنما تقدم ام يدلّ عليه . واختلفوا في « ذلك » على خمسة أوجه :
أحدها : أن المشار إليه هو الهُدى المدلول عليه بقوله : { يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } .
والتقدير : جعلناكم أمة وسطاً مثل ما هديناكم .
الثاني : أنه الجعل ، والتقدير : جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجَعْل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية .
الثالث : قيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطاً .
الخامس - وهو أبعدها - أن المشار إليه قوله : { وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا } [ البقرة : 130 ] أي : مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً .
[ قال ابن الخطيب : ويحتمل عندي أن يكون التقدير : ولله المشرق والمغرب ، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها مِلْكاً لله تعالى ، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم ، بأن جعله قبلة فضلاً منه ، وإحساناً؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة ، فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً .
وفيه وجه آخر : وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء ، وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً ، كقوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] لأن المعروف عند كل أحد أنه - سبحانه وتعالى - وهو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه ، وإذلال من يشاء ، فقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي : ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً ] .
و « جعل » بمعنى صير ، فيتعدّى لاثنين ، فالضمير مفعول أول ، و « أمة » مفعول ثاني ووسطاً نعته .
والوَسَط بالتحريك : اسم لما بين الطرفين ، ويطلق على خيار الشيء؛ لأن الأوساط محميَّة بالأطراف؛ قال حَبِيبٌ : [ البسيط ] .
821 - كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ... بِهَا الحَوَادِيُ حَتَّى أَصْبَحَتُ طَرَفَا
ووسط الوادي خير موضع فيه؛ قال زُهَيْر : [ الطويل ]
828 - هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نَزَلَتْ إِحْدَى البَلاَياَ بِمُفْضَلِ
[ وقال آخر : [ الراجز ] .
822 - كُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعاً وَسَطَا ] ... وقال تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [ القلم : 28 ] أي أعدلهم .
[ وروى القفال عن الثورى عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وبجل وعظم وكرم « أمّة وَسَطاً » ؛ قال : « عَدْلاً » .
وقال عليه صلوات الله وسلام : « خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا » ؛ أي : أعدلها . وقيل : كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - أوسط قريش نَسَباً .
وقال عليه أفضل الصلاة والسلام : « عَلَيْكُمْ بالنَّمطِ الأَوْسَطِ »
قال الجوهري في الصحاح : « أمة وسطاً » أي : عدلاً ، وهو الذي قاله الأخفش ، والخليل ، وقطرب ، فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوَسَط : خيار الشيء ] .
وأما المعنى فمن وجوه .
أحدها : أن الوسط حقيقة في البُعْد عن الطرفين ، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان ، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين ، فكان معتدلاً فاضلاً .
وثانيها : إنما سمي العدل وسطاً؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين ، [ والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين ] .
وثالثها : أن المراد بقوله : { جُعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } طريقة المدح لهم؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله - تعالى - وصفاً ، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول ، وذلك مدح ، فثبت أن المراد بقوله : « وَسَطاً » ما يتعلّق بالمدح في باب الدين ، ولا يجوز أن يمدح الله الشُّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً لا بكونهم عدولاً؛ فوجب أن يكون المراد من الوَسَط العدالة .
ورابعها : أن الأوساط محمية بالأطراف ، وحكمها مع الأطراف على حَدّ سواء ، والأطراف يتسارع إليها الخَلَل والفساد ، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جِهَةٍ دون جهة .
وقال بعضهم : تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [ أوْلى من تفسيره بالعدالة؛ لأن العدالة لا تطلق على الجمادات ، فكان أَوْلَى ، والمراد من الآية : أنهم لم يغلوا؛ كما غلت النصارى ، فجعلوه ابناً وإلهاً ، ولا قصَّروا؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء ، وتبديل الكُتُبِ وغير ذلك ] . وفرق بَعْضهم بين « وَسَط » بالتفح و « وَسْط » بالتسكين .
فقال : كلُّ موضع صَلَحَ فيه لفظ « بَيْن » يقال بالسكون ، وإلا فبالتحريك .
فقتلو : جلست وَسْطَ القومِ ، بالسكون .
وقال الراغب : وسط الشيء ما له طرفان متساويان القَدْر ، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد ، فتقول : وسطه صلب ، ووسْط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة؛ كشيء يفصل بين جسمين نحو : « وَسْط القوم » كذا .
وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مَصْدَرٌ ، ولذلك استوى في الوصف به الواحدُ وغيره ، والمؤنَّث والمذكَّر ، والسَّاكن ظَرْفٌ ، والغاب فيه عدم التصرُّف ، وقد جاء متمكِّناً في قول الفرزدق : [ الطويل ] .
824 - أَتَتْهُ بِمَجْلُومٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ ... صَلاَءَةُ وَرْسٍ وَسْطُهَا قَدْ تَفَلَّقَا
روي برفع الطَّاء ، والضمير ل « صلاءة » ، وبتفحها والضمير للجائية .
فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى
احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه ، وهذا صريح في المذهب .
وقالت المعتزلة : المراد من هذا الجعل فعل الألطاف .
أجيب عنه بوجوده :
الأول : أن هذا ترك للظاهر ، وذلك محال لا يصار ليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها ، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المَدْح والذم والثواب والعقاب ، وقد بيّنا أن هذه الطريقة منتقضةٌ على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي :
والثاني : أنه تعالى - قال قبل هذه الآية
{ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ البقرة : 142 ] .
وقد بيذنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض ، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى .
والثالث : أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله ، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة .
فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع عجّة
احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا : أخبر الله - تعالى - عن عدالة هذه الأمة ، وعن خيريتهم ، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة ، فإن قيل : الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها ، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، فلا بد من حملها على البعض ، فنحن نحملها على الائمة المعصومين .
فالجواب : أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره ، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين :
الأول : أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات ، واجتناب المحرمات ، وهذا من فعل العبد ، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً ، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً ، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال .
الثاني : أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك ، وهو خلاف الأصل .
سلّمنا اتصافهم بالخيرية ، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط ، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ ، لكنه من الصَّغائر ، فلا يقدح ذلك في خيريتهم ، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس ، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة .
سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر ، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس ، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة ، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك ، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّثلن وذلك لا نزاع فيه؛ لأن الأمة تصير عصومة في الآخرة .
فلم قلت : إنهم في الدنيا كذلك؟
سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا ، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [ هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية ، لأن الخطاب ] مع مَنْ لم يوجد مُحَال ، وإذا كان كذلك ، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم ، فدلّت الآية على أن إجماع [ أولئك } حق ، يجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه .
لكن ذلك لا يمكن [ إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم ، وعلمنا بقاء كل واحد ] منهم إلى ما بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع ، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع .
والجواب عن قولهم : الآية متروكة الظاهر .
قلنا : لا نُسلّم فإن قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة .
وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه ، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر ، بل إذا اختلفوا ، فعند ذلك قد يفعلون القبيح ، وإنما قلنا : إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع ، لأن قوله : « جَعَلْنَاكُمْ » خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده ، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً ، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه ، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي ، وهذا معنى ما قاله العلماء : ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك ، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة ، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم .
مثاله : أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا قال : إن واحداً من أولاد فلان لا بد وأن يكون مصيباً في الرأي ، فإذا لم نعلمه بعينه ، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق .
فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً ، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف .
ولهذا قال العلماء : إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [ بقول المخطئ .
قوله : لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى .
قلنا : هذا مذهبنا . فإن قيل ] قولهم : لم قلتم : إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر؟
قلنا : خبر الله - تعالى - صدق ، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه ، وفعل الصغيرة ليس بخبر ، فالجمع بينهما متناقض .
ولقائل أن يقول : الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [ الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور ، أو في بعض الأمور ، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى ] هذين القسمين ، فيقال : الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض ، أو في كل الأمور ، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين ، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير ، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور ، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر ، [ وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم ، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها ، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الية ، ومن جاء بعدهم إلى [ قيام الساعة ] ، كما أن قوله
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص } [ البقرة : 178 ] ، { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } [ البقرة : 183 ] يتناول الكل ، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت ، [ وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة ] فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة ، فإنما حكم جماعتهم بالعدالة ، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم؟
قلنا : لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الإنسان فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة ، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه .
فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر ، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة ، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة ، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك ، ولأنه - تعالى - قال : « أُمَّةً وَسَطاً » فعبر عنهم بلفظ النكرة ، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر .
[ قال النووي - رحمه الله تعالى - في « التهذيب » : الأُمّة تطلق على معانٍ :
منها من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن بما جاءه ، واتبعه فيه ، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى : { كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } و { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] .
وقوله صلوات الله وسلام عليه : « شَفَاعَتِي لأُمَّتِي » و « تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ » وغير ذلك .
ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر .
ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام : « وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ » رواه مسلم .
ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر « النحل » إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] إلى قوله : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } [ البقرة : 213 ] .
فصل في الكلام على قوله : لتكونوا
قوله تعالى : « لِتَكُونُوا » يجوز في هذه اللام وجهانِ :
أحدهما : أن تكون لام « كي » فتفيد العلة .
والثاني : أن تكون لام الصيرورة ، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر ، وبعدها « أن » مضمرة ، وهي وما بعدها في محلّ جر ، وأتى ب « شهداء » جمع « شهيد » الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جميع « شاهد » .
وفي « على » قولان :
أحدها : أنها على بابها ، وهو الظاهر .
والثاني : أنها بمعنى « اللام » ، بمعنى : أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي والدين ، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في « على » الأخيرة ، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم .
وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً ، وقدم أولاً لوجهين :
أحدهما : وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم .
والثاني : أن « شهيداً » أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من « عليكم » ، فكان قوله « شهيداً » تمام الجملة ، ومقطعها دون « عليكم » ، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص ، وقد تقدم ذلك .
فصل في الكلام على الشهادة .
اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان :
الأول : أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم .
روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم ، فيؤتى بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيشهدون فتقول الأمم : من أين عرفتم فيقولون : علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق ، فيؤتى بمحمد - عليه الصلاة والسلام - فيسأل عن حال أمته ، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم ، وذلك قوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقد طعن القاضي رحمه الله تعالى في هذ الرواية من وجوه :
أحدها : أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم ، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون .
وهذا باطل عند القاضي ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة « الأنعام » عند قوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الأنعام : 23 - 24 ] .
وثانيها : أن شهادة الأمة ، وشهادة الرسول - عليه الصلاة والسلام - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء ، وإذا كان كذلك ، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء؟
والجوا : الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء ، والإيمان بهم جميعاً ، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق .
وثالثها : أن مثل هذه الأخبار لا تسمّى شهادة ، وهذا ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْس فاشْهَدْ » والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس ، فوجب جواز الشَّهَادة عليه .
والثاني : قالوا معنى الآية : لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها ، قال ابن زيد رحمه الله تعالى : الأشهاد الأربعة : الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد ، قال تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] .
وقال : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وقال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10 - 12 ] .
وثانيها : شهادة الأنبياء ، وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عليه الصلاة والسلام : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] .
وقال تعالى في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته في هذه الآية : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } .
وقال في حق - محمد صلى الله عليه وسلم : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] .
وثالثها : شهادة أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - قال تعالى : { وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] .
وقال تعالى : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } [ غافر : 51 ] .
ورابعها : شهادة الجَوَارح ، وهي بمنزلة الإقرار ، بل أعجب منه .
قال تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } [ النور : 24 ] . الآية ، وقال : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ } [ يس : 65 ] الآية .
القول الثاني : أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا ، وتقديره أن الشهاة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال : شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته .
ولما كان بين الإبصار بالعَيْن وبين المعرفة بالقَلْب مناسبة شديدة ، لا جَرَمَ قد تسمى المعرفة التي في القلب : مشاهدة وشهوداً ، والعارف بالشيء : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلائل على الشيء : شاهداً على الشيء ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً ، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً ، ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة . إذا ثبت هذا فنقول : إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه ، والله سحبانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة ، فهذه الشهادة : إما أن تكون في الآخرة ، أو الدنيا ، ولا جائز أن تكون في الآخرة؛ لأن الله - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء ، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا ] .
فإن قيل : تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً ، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة .
وإنما قلنا : إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا؛ لأنه - تعالى - [ قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وَسطاً } وهذا إخبار عن الماضي ، فلا أقل من حصوله في الحال ، وإنما قلنا : إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا؛ لأنه تعالى ] قال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط ، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [ وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا ] .
وفإن قيل : تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا ، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً ، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة .
قلنا : الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل ، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة ، والشهادة التي تعتبر فيها العدالة ، هي الأداء لا التحمّل ، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا ، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة ، ولا معنى لقولنا : الإجماع حجة إلا هذا ، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [ من هذا الوجه أيضاً ] .
واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } يعني مؤدياً ومبيناً ، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة ، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل ، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [ القابل ومن الراد ] ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [ على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم ، والذي لم يتم ، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم .
قال القرطبي رحمه الله : معنى قوله تعالى : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } أي : بأعمالكم يوم القيامة
وقيل : « عليكم » بمعنى لكم أي : يشهد لكم بالإيمان .
وقيل : يشهد عليكم بالتبليغ لكم ] .
وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ . . . } في هذه الآية خمسة أوجه :
أحدها : أن « القبلة » مفعول أول ، و « التي كنت عليها » مفعول ثان ، فإن الجعل بمعنى التصيير ، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال : { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل ، يريد : وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها ، وهي الكَعْبَة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ب « مكة » إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس ، ثم حول إلى الكعبة .
الثاني : أن « القِبْلَة » هي المفعول الثاني ، وإنما قدم ، و « التي كنت عليها » هو الأول ، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني ، ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً ، والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى « بيت المقدس » قبلتك الآن إلا لنعلم .
ونسب الزمخشري في جعله « القِبْلَة » مفعولاً أول إلى الوهم .
الأصح : أن « القِبْلَة » مفعول أول ، و « التي كنت » صفتها ، والمفعول الثَّاني محذوف تقديره : وما جعلنا القِبْلة التي كنت عليها منسوخة .
ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة ، ولا طائل تحته .
الرابع : أن « القبلة » مفعول أول ، و « إلاَّ لنعلم » هو المفعول الثَّاني ، وذلك على حذف مضاف تقديره : وما جعلنا صرف القِبْلَة التي كنت عليها إلا لنعلم ، نحو قولك : ضرب زيد للتأديب ، أي : كائن ، أو ثابت للتأديب .
الخامس : أن « القبلة » مفعول أول ، والثاني محذوف ، و { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } صفة لذلك المحذوف ، والتقدير : وما جعلنا القِبْلة القبلة التي ، ذكره أبو البقاء ، وهو ضعيف .
وفي قوله : « كُنْتَ » وجهان :
أحدهما : أنها زائدة ، ويروى عن ابن عباس أي : أنت عليها ، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب ، وهو كقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابلة نحو : الجِلْسَة ، وفي التعاريف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة .
وقال قطرب رحمه الله تعالى : يقولون : ليس له قِبْلَة أي جهة يتوجه إليها .
وقال غيره : إذا تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر .
فصل في الكلام على الآية .
في هذا الكلام وجهان :
الأول : أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل الكعبة قِبْلة ، وذلك لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى « بيت المقدس » بعد الهجرة تأليفاً لليهود ، ثم حول إلى الكعبة فقال : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة } الجهة { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } أولاً يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس .
الثاني : يجوز أن يكون قوله : { التي كُنتَ عَلَيْهَآ } لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة ، وأن استقبالك « بيت المقدس » كان أمراً عارضاً لغرض ، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذان وهي « بيت المقدس » لنمتحن الناس ، وننظر من يتبع الرسول ، ومن لا يتبعه وينفر عنه .
وذكر أبو مسلم وجهاً ثالثاً فقال : لولا الروايات لم تدلّ على قبلة من قبل الرسول - عليه الصلاة والسلام - لأنه قد يقال : كنت بمعنى : صرت ، كقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } وقد يقال : كان في معنى لم يزل كقوله تعالى :
{ وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 158 ] فلا يمتنع أن يراد بقوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ } أي : التي لم تزل عليها ، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا .
قوله : « إلاَّ لِنَعْلَمَ » قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً .
وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام ، أي : ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا . وقوله : « لِنَعْلَمَ » ليس على ظاهره ، فإن علمه قديم ، ونظره في الإشكال قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } [ محمد : 31 ] .
وقوله : { 1649;لآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] ، وقوله : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 42 ] ، وقوله : { فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } [ العنكبوت : 3 ] .
وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة } [ سبأ : 21 ] ، فلا بد من التأويل وهو من أوجه :
أحدها : لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب ، وإرادة للمسبّب .
وقيل : على حذف مضاف أي : لنعلم رسولنا فحذف ، كما يقول الملك : فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى : فتحها أولياؤنا .
ومنه يقال : فتح عمر السّواد .
ومنه قوله عليه الصلاة والسلام فيما يحكيه عن ربه : « اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول : وادهراه وأنا الدهر »
وفي الحديث : « مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي »
وقيل : معناه : إلا لنرى .
فصل
قال القرطبي رحمه الله : وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب ، تضع العلم مكان الرؤية ، والرؤية مكان العلم ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } [ الفيل : 1 ] بمعنى ألم تعلم ، وعلمت ، وشهدت ، ورأيت ، ألفاظ تتعاقب .
وقيل : حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين ، معناه : لتعلموا .
والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى } [ سبأ : 24 ] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب ، ورفقاً بالمخاطب .
وقيل : يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم .
وقيل : العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين ، وانقلاب المنقلبين .
ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك : ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني ، والمعنى : أنه لو كان لعلمه الله .
قوله : { مَنْ يَتَّبع } في « من » وجهان :
أحدهما : أنها موصولة ، و « يتبع » صلتها ، والموصول في محلّ المفعول ل « نعلم » ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد .
والثاني : أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء ، و « يتبع » خبره ، والجملة في محلّ نصب؛ لأنها معلقة للعلم ، والعلم على بابه ، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه .
وقد رد أبو البقاء هذا الوجه ، فقال : لأن ذلك يوجب تعلّق « نعلم » عن العمل ، وإذا علقت عنه لم يبق ل « من » ما تتعلّق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله ، ولا يصحّ تعلها ب « يتبع » ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة ، وليس المعنى : أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى .
وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على أن يتعلق « مِمَّنْ يَنْقَلِبُ » ب « نعلم » نحو : علمت من أحسن إليك مِمّن أساء ، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز ، فإن العلم لا يتعدى ب « من » إلا إذا أريد به التمييز .
ورأ الزهري : « إلاَّ لِيُعْلم » على البناء للمفعول ، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل ، لأنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى .
قوله : « عَلَى عَقِبَيْهِ » في محلّ نصب على الحال ، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه ، وهذا مجاز ، [ ووجه الاستعارة أن : المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه ، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه ، فوصفوا بذلك لما قال تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر } [ المدثر : 23 ] وقوله تعالى : { كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] .
وقرئ « عَلَى عَقْبَيْهِ » بسكون القاف ، وهي لغة « تميم » .
فصل
اختلفوا في هذه المحنة ، هل حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم : إنما حصلت بسبب تعيين القبلة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يصلّي غلى الكعبة ، فلما جاء « المدينة » صلى إلى « بيت المقدس » ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم .
قال القرطبي رحمه الله : والآية جوا لقريش في قولهم : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] وكانت قريش تألف الكعبة ، فأراد الله - عز وجل - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه .
وقال الأكثرون : حصلت بسبب التحويل قالوا : إن محمداً صلى الله عليه وسلم لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه .
روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال : بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا ، فقالوا : مرة ههنا ومرة ههنا .
وقال السدي رحمه الله تعالى : لما توجه النبي - عليه الصلاة والسلام - نحو المسجد الحرام واختلف الناس ، فقال المنافقون : ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟
وقال المسلمون : ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس .
وقال آخرون : اشتاق إلى بلد أبيه ومولده .
وقال المشركون : تحيّر في دينه .
قال ابن الخطيب : وهذا القول أولى؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [ وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال عز وجل : { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } فكان حمله عليه أولى ] .
قوله : « وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً » « إنْ » هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر ، وهو أغلب أحوالها ، و « اللام » للفرق بينها وبين « إن » النافية ، وهل هي لام الابتداء ، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف مشهور .