كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وزعم الكوفيون أنها بمعنى « ما » النافية ، وأن « اللام » بمعنى « إلا » ، والمعنى : ما كانت إلا كبيرة ، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رحمه الله [ وفيه نظر . واعلم أن « إن » المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه :
جزاء ، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن جئتني أكرمتك .
ومخففة من الثقيلة ، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة ، كقولك : إن زيداً لقائم ، قال تعالى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] ، { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] .
وللجحد ، لقوله تعالى : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } [ الأنعام : 57 ] { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } [ الأنعام : 148 ] { وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا } [ فاطر : 41 ] . أي : ما يمسكهما . وزائدة كقوله : ما إن رأيت زيداً ] ، والقراءة المشهورة نصب « كبيرة » على خبر « كان » ، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية ، أو الصلاة ، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام .
وقرأ اليزيدي عن أبي عمرو : برفعها .
وفيه تأويلان :
أحدهما - وذكره الزمخشري - : أن « كان » زائدة ، وفي زيادتها عاملةً نظر لا يخفى؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله : [ الوافر ] .
825 - فَكَيْفَ إذَا مَرَرْتَ بِدَارِ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ
فإن قوله : « كرام » صفة ل « جيران » ، وزاد بينهما « كانوا » ، وهي رافعة للضمير ، ومن منع ذلك تأول « لنا » خبراً مقدماً ، وجملة الكون صفة ل « جيران » .
والثاني : أن « كان » غير زائدة ، بل يكون « كبيرة » خبراً لمبتدأ محذوف ، والتقدير : وإن كانت لهي كبيرة ، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبراً لكانت ، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبراً ، وهو توجيه ضعيفٌ ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشَّاذة بأكثر من ذلك .
[ والضمير في « كانت » فيه وجهان :
الأول : أنه يعود على القبلة؛ لأن المذكور السابق هو القبلة .
والثاني : يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق ، وهو مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية أي : وإن كانت التولية؛ لأن قوله تعالى : « ما ولاهم » يدل على القولية ، ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة نظيره « فبها ونعمت » .
ومعنى « كبيرة » ثقيلة شاقّة مُسْتنكرة .
وقوله تعال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } [ الكهف : 5 ] ] .
قوله : « إلاَّ عَلَى الَّذِينَ » متعلق ب « كبيرة » ، وهو استثناء مفرغ .
فإن قيل : لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة ، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك .
فالجواب : أن الكلام وإن كان موجباً لفظاً فغنه في معنى النفي؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين ، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله :
{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] .
وقال أبو حيان : [ هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره : وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين ] وليس استثناء مفرغاً؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة ، وقد تقدم جواب ذلك [ واستدل الأصحاب رحمهم الله - تعالى - بهذه الآية على خلق العمال ] .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ } في هذا التركيب وما أشبهه [ مما ورد في القرآن وغيره ] نحو : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } [ آل عمران : 179 ] ، { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ } [ آل عمران : 179 ] قولان :
أحدهما : قول البصريين؛ وهو أن خبر « كان » محذوف ، وهذه اللام تسمى لام الجُحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار « أن » وجوباً ، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه « اللام » ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف .
والتقدير : وما كان الله مريداً لإضاعة أعمالكم ، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي .
[ واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كوناً ماضياً ، ويفرق بينها وبين « لام » ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون مَنْفي ] ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله : [ الوافر ] .
826 - سَمَوْتَ وَلَمْ تَكْنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... والقول الثاني للكوفيين : وهو أن « اللام » وما بعدها في محلّ الجر ، ولا يقدرون شيئاً محذوفاً ، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار « أن » ، وأن « اللام » للتأكيد ، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال : وهو بعيد ، لأن « اللام » لام الجر ، و « أن » بعدها مرادة ، فيصير التقدير على قولهم : وما كان لله إضاعة إيمانكم ، وهذا الرد غير لازم لهم ، فإنهم لم يقولوا بإضمار « أن » بعد اللام كما قدمت نقله عنهم ، بل يزعمون النصب بها ، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا .
واعلم أن قولك : « ما كان زيد ليقوم » ب « لام » الجحود أبلغ من : « ما كان زيد يقوم » .
أما على مذهب البصريين فواضح ، وذلك أن مع « لام » الجحود نفي الإرادة للقيام والتَّهيئة ، ودونها نفي للقيام فقط ، ونفي التَّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل؛ إذ لا يلزم من نفي الفِعْلِ نفي إرادته .
وأما على مذهب الكوفيين فلأن « اللام » عندهم للتوكيد ، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد .
وقرأ الضحاك : « لِيُضَيِّعَ » بالتشديد ، وذلك أن : أَضَاعَ وَضيَّعَ بالهمزة ، والتضعيف للنقل من « ضاع » القاصر ، يقال : ضَاعَ الشيء يَضيعُ ، وأَضَعْتُه أي : أهملته ، فلم أحفظه .
وأما ضَاعَ المِسْكُ يَضُوعُ أي : فاح ، فمادة أخرى .
فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها
وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجلاً من المسلمين كأبي أمامة ، وسعد ابن زُرَارة ، والبراء بن عازب ، والبراء بن مَعْرُور ، وغيرهم ماتوا على القبلة .
قال عشائرهم : يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى ، فكيف حالهم؟
فأنزل الله - تعالى هذه الآية .
[ واعلم أنه لا بد من هذا السبب ، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض ، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّوزوا النسخ إلا مع البَدَاء يقولون : إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة ] فبين أن النسخ نقل من مَصْلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين ، وأن من هذا احاله ، فإنه لا يضيع أجره .
ونظيره : ما سألوا بعد تحريم الخَمْر عمن مات ، وكان يشربها ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ } [ المائدة : 93 ] فعرفهم الله - تعالى - أنه لا جُنَاحَ عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى
فإن قيل : إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البَدَاء على الله - تعالى - فكيف يليق ذلك بالصحابة؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن ذلك الشّك وقع لمنافق ، فذكر الله - تعالى - ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق .
وثانيها : لعلهم اعتقدوا أن الصَّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا : ليت إخواننا ممن مات أدرك ، فذكر الله - تعالى - هذا الكلام جواباً عن ذلك .
وثالثها : لعله - تعالى - ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك اسؤال لو خَطَر ببالهم .
ورابعها : لعلهم توهموا أن ذلك لما نُسِخَ وبطل ، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كَفّارة لما سلف ، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل ، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا ، ولم يأتاو بما يكفر ما سلف؛ قال : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ، والمراد : أهل ملّتكم ، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عيله وسلم : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً } [ البقرة : 72 ] ، { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً ، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم ، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين ، فقيل : إيمانكم للأحياء والأموات ، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب ، فيقولوا : كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم .
وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب ، والمراد بالإيمان صلاتهم ، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ .
وإنما اختار ابو مسلم هذا القول ، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا .
قال القرطبي : « وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيّة وقول وعمل » .
استدلت المعتزلة بقوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات ، فإنه - تعالى - أراد بالإيمان ها هنا الصلاة .
والجواب : لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاةن بل المراد منه التَّصديق ، والإقرار ، فكأنه - تعالى - قال : إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة .
سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة ، ولكن الصلاة أعظم الإيمان ، وأشرف نتائجه وفوائده ، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاسْتِعَارة من هذه الجهة .
فصل في الكلام على الآية .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي : لا يضيع ثواب إيمانكم؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني ، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته ، إلاّ أنَّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه ، فصح حفظه وإضاعته ، وهو كقوله تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ } [ آل عمران : 195 ] .
قوله : { لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : « لَرَؤُفٌ » على وزن : « نَدُس » و « رَعُف » مهموزاً غير مُشْبَع ، وهي لغة فاشيةٌ ، كقول : [ الوافر ] .
728 - وَشَرُّ الظَّالِمين فَلا َتَكُنْهُ ... يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّؤُفَ الرَّحِيمَا
وقال آخر : [ الوافر ] .
828 - يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقّاً ... كَحَقِّ الوَلِدِ الرِّؤُفِ الرَّحِيمِ
وقرأ الباقون : « لرؤوفٌ » مثقلاً مهموزاً مشبعاً على زنة « شكور » .
وقرأ أبو جعفر « لروف » من غير هَمْزٍ ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة .
و « الرأفة » : أشد الرحمة ، فهي أخص منها ، [ وقيل بينهما عموم وخصوص ، فلا ترى فيه اكمل من الرحمة بالكيفية ، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء ] .
وفي « رءوف » لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما : « رئِف » على وزن « فَخِذ » ، و « رأف » على وزن « ضَعْف » .
وإنم قدم على « رحيم » لأجل الفواصل ، والله أعلم .
فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا : لأنه - تعالى - بين أنه بالنَّاس لرءوف رحيم ، فوجب أن يكون رءوفاً رحيماً بهم ، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكُفْر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم ، والعذاب السَّرمَدِي ، ولو لم يُكَلّفهم ما لا يُطِيقون ، فإنه - تعالى - لَوْ كان مع مثل هذا الإضرار رءوفاً رحيماً ، فعلى أيّ طريقٍ يتصور ألاَّ يكون رَءُوفاً رَحيماً .
واعلم أنَّ الكلامَ عليه قد تَقَدَّم مِرَاراً ، والله أعلمُ .
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قال العلماء : هذه الآيةُ متقدِّمةٌ في النزول على قَوْلِهِ تَعَالى : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس } [ البقرة : 143 ] .
ومَعْنَى « » : تحرُك وَجْهِكَ إلى السَّمَاءِ .
اعلم أنَّ « قَدْ » هذه قال فيها بعضُهم : إنها تَصْرفُ المضارعَ إلى مَعْنى المُضِيّ ، وجَعَلَ مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها ، وقوْلَ الشاعِرِ : [ الطويل ]
829 - لِقَوْمٍ لَعَمْرِي قَدْ نَرَى أَمْسِ فِيهُمُ ... مَرَابِطَ للأَمْهَارِ وَالعَكَرِ الدَّثِرْ
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : « قَدْ نَرَى » : رُبَّما نَرَى ، ومعناه كثرةُ الرؤية؛ كقوله : [ البسيط ]
830 - قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُضفَرّاً أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ
قال أَبُو حَيَّان : وشرحه هذا على التحقيق مُتَضَادّ؛ لأنه شرح « قَدْ نَرَى » ب « رُبَّمَا نَرَى » ، و « ربّ » على مَذْهب المحققين إنما تكون لِتَقْلِيل الشَّيْءِ في نَفْسِه ، أو لتقليل نَظِيره .
ثُمَّ قال : « ومعناه كثرةُ الرُّؤْيةِ » فهو مضادٌّ لمدلولِ « رُبّ » على مذهب الجمهور .
ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ ، لأنه لم توضع للكثرة « قد » مع المضارع ، سواء أريد به المضي أم لا ، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرة من متعلّق الرؤية ، وهو التقلب .
قوله : « في السَّمَاءِ » في متعلّق الجار ثلاثةُ أَقْوالٍ :
أحدهما : أنه المصدرُ ، وهو « تَقَلُّب » ، وفي « في » حينئذٍ وَجْهَان :
أحدهما : أنها على بَابِهَا من الظرفية ، وهو الواضِحُ .
والثَّاني : أنها بمعنى « إلَى » أي : إلى السَّمَاءِ ولا حاجةَ لذلك ، فإنَّ هذا المصْدَرَ قد ثَبَت تعديه ب « في » ، قال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد } [ آل عمران : 196 ] .
والثاني من الأقوال : أنه « نَرَى » ، وحينئذٍ تَكُون « فِي » بمعنى « مِنْ » أي : قد نرى من السَّماءِ ، وذِكْرُ السماءِ وإن كان تَعَالى لا يتحيّز في جِهَةٍ على سَبيل التشريفِ .
والثالث : أنه محل نَصْب على الحَال من « وَجْهِكَ » ذكره أَبُوا البَقَاءِ ، فيتعلّق حينئذ بمحذُوفٍ ، والمصدرُ هنا مضافٌ على فَاعِله ، ولا يجوزُ أنْ يكُونَ مُضَافاً إلى مَنْصُوبه؛ لأنه مصدرُ ذلك التقلِيبِ ، ولا حَاجَةَ إلى حَذْفٍ ، ومِنْ قَوْلِه : « وَجْهَكَ » وهو بَصَر وَجْهِك ، لأن ذلك لا يكاد يستعمل ، بل ذكر الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء ، وهو الذي يقبله السَّائل في حاجته ، وقيل : كنى بالوجه عن البصر؛ لأنه محلّه .
قوله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً } « الفَاء » هنا للِتَّسَبُّب وهو وَاضِحٌ ، وهذا جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ ، أيْ : فواله لنولّينَّكَ ، و « نُولِّي » يتعدّى لاثْنين : الأولُ الكَافُ ، والثَّانِي « قِبْلَةُ » و « تَرْضَاهَا » الجملة في محلّ نَصْبٍ صفةً ل « قبلة » .
قال أَبُو حَيَّان : وهذا؛ يعني : « فَلَنولّينك » يدلّ على أن الجملةَ السابقةَ محذوفة تقديرهُ : قَدْ نَرَى تقلّ وَجْهِكَ في السَّماء طَالِباً قبلة غير التي أَنْت مُسْتقبلها .
فصل في الكلام على الآية
في الآية قَوْلاَنِ :
القولُ الأولُ : وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من « بيتِ المقْدِس » إلى الكَعْبة ، وذكروا في ذلك وجوهاً :
أحدها : أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس ، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة ، إلاّ أنه ما كان يتلكَّم بذلك ، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى .
رُوي عن عباس أنه [ صلى الله عليه وسلم ] قال : « يَا جِبريلُ وَدِدْتُ أنَّ اللَّهَ - تَعَالى - صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُود ، إلَى عَيْنِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا »
فقال جبريلُ عليه الصلاة والسلام « أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ ربَّكَ ذَلِكَ » .
فجَعَلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُدِيمُ النَّظرَ إلى السماء؛ رجاء مجيء جِبْرِيلَ بما سأَلَ ، فأَنْزل الله تعالى هذه الآية ، وهؤلاءِ ذكروا في سببِ هذه المِحْنة أموراً :
الأولُ : أنَّ اليَهُودَ كانوا يَقُولُونَ : إنه يُخَالِفُنَا ، ثم إنه يتبع قِبْلَتَنَا ، ولولا نحْنُ لم يدر أَيْن يستقبل . فعند ذلك كَرِهَ أن يتوجّه إلى قِبْلتهم .
الثَّاني : أنَّ الكَعْبة كانتِ قِبْلة إبْراهيم عليه الصلاة والسلام .
[ الثَّالث : أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يقدِّرُ أن يَصِير ذلك سبباً لاسْتمالة العرب ، ولدخولهم في الإسلامِ .
الرَّابع : أنه - عليه الصلاة والسلام - أَحَبَّ ] أن يحصل هذا الشرفُ للمسجدِ الذي في بلْدَتِهِ ومَنْشَئه لا في مسجدٍ آخر .
واعترض القَاضِي على هذا الوجْهِ ، وقال : إنه لا يَلِيقُ به - عليه الصلاة والسلام - أن يكره قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّي إليها ، ويحبّ أن يحوله ربُّه عنها إلى قِبْلَةٍ يَهْوَاها بطبْعِه ، ويميلُ إِلَيْها بحسب شَهْوتِه؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - علم أنَّ الصَّلاحَ في خلاف الطَّبْعِ والمَيْلِ .
قال ابنُ الخَطِيب : وهذا قليلُ التحْصِيل؛ لأنَّ المُسْتنكَرَ من الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يعرض عما أمره الله - تعالى - به ، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه .
فأما أن يميل قلبه إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، فذلك مما لا إنكار عليه ، لا سيما إذا لم ينطق به ، [ أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء ، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه ، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه ] .
الوجهُ الثاني : أنه - عليه الصلاةُ والسلامُ - قد استأذَنَ جبريل - عليه السلام - في أن يدعو الله - تعالى - بذلك ، فأخبره جبريل - عليه الصلاة والسلام - بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء ، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه ، لئلا يسألون ما لا صَلاَحَ فيهن فلا يجابوا إليه ، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم ، فلما أذن الله - تعالى - له في الإجابة ، علم أنه يستجاب إليه ، فكان يقلّب وجهه في السَّماء ينتظر مجيء جبريل - عليه السلام - بالوَحْيِ في الإجابة .
الوجه الثالث : قال الحسن : إن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن الله - تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى ، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها ، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - من الكَعْبة ، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي؛ لأنه - عليه السلام - على أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة ، فأتاه جبريل عليه السلام ، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة .
والقائلون بهذا الوجه اختلفوا ، فمنهم نم قال : إنه - عليه السلام - منع من استقبال « بيت المقدس » ولم يعين له القِبْلة ، فكان يخاف أن يرد وق الصلاة ، ولم تظهر القبلة ، فتتأخر صلاته ، فلذلك كان يقلّب وجهه . عن الأصم .
وقال آخرون : بل وعد بذلك ، وقِبْلة بيت المقدس باقية ، بحيث تجوز الصلاة إليها ، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك ، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن « بيت المقدس » إلى « الكعبة » وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية :
نحو : رغبة العرب في الإسلام ، والمُبَاينة عن اليهود ، وتَمْيِيز المُوافق من المُنَافِق ، لهذا كان يقلّب وجهه ، وهذا الوجه أولى ، وإلاّ لما كانت القِبْلَة الثانية ناسخة للأُولى ، [ بل كانت مبتدأه .
والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى ] ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلاَّ مع بيان موضع التوجّه .
الرابع : أن تقلب وجهه في السَّماء هو الدعاء .
القول الثاني : وهو قول أبي مسلم الأَصْفَهَاني ، قال : لولا الأخبار التي دلّت على هذا القول ، وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر ، وهو أنه يحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما كان يقلّب وجهه في أول مقدمة « المدينة » .
فقد روي أنه - عليه السلام - كان إذا صلّى ب « مكة » جعل الكعبة بينه وبين « بيت المقدس » ، وهذه صلاة إلى الكعبة ، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه ، فانتظر أمر الله - تعالى - حتى نزل قوله : { } .
فصل اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدسن فقال قوم : كان ب « مكة » يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [ إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً .
وقال قوم : بل كان ب « مكة » يصلي إلى بيت المقدس ، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها .
وقال قوم : بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب « المدينة » أولاً سبعة عشر شهراً ، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح .
واختلفوا في توجه النبي صلى الله عليه وسلم ] إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره ، أو كان مخيراً في التوجه إليه وإلى غيره ، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيراً في ذلك . وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضاً .
وعلى كلا الوجهين صار منسوخاً ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر .
أما القرآن فقوله تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] .
وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء .
وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب « أحكام القرآن » : أن نَفَراً قصدوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - من « المدينة » إلى « مكة » للبيعة قبل الهِجْرَةِ ، وكان فيها البراء بن معرور ، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه ، وأبى الآخرو ، وقالوا : إنه - عليه الصلاة والسلام - يتوجّه إلى بيت المقدس ، فلما قدموا « مكة » سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثَبَتَّ عليها أجزأك ، ولم يأمره باستئناف الصلاة ، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين .
واحتجّ الذاهبون إلى القول الثَّاني بأنه - تعالى - قال : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } فدلّ على أنه - عليه السلام - ما كان يرتضي القبلة الأولى ، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها ، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكَعْبة .
فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس
المشهور أن التوجّه إلى « بيت المقدس » إنما صار منسوخاً [ بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة .
ومن الناس من قال : التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
واحتجوا عليه بالقرآن والأثر .
أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } ] ثم ذكر بعده : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ثم ذكر بعده : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجذه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
فلزم أن يكون قوله تعالى : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس } [ متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل ، فثبت ما قلناه .
وأما الأثر فما ] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القُرْآن ، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن ، إنما المذكور في القرآن { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } فوجب أن يكون قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } ناسخاً لذلك ، لا للأمر بالتوجذه إلى « بيت المقدس » .
قوله : « فَلَنُوَلِّيَنَكَ » : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك : ولّيته كذا ، إذ جعلته والياً له ، أو فلنجعلنّك تَلِي سَمْتها دون سَمْت بيت المقدس .
قوله : « تَرْضَاهَا » فيه وجوه :
أحدها : ترضاها : تحبّها وتميل إليها؛ لأن الكعبة كانت أحبّ غليه من غيرها بحسب ميل الطبع ، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه .
وثانيها : « قِبْلَةً تَرْضَاهَا » أي : تحبها بسبب اشتمالها على المَصَالح الدينة .
وثالثها : قال الأصم : أي : كل جهة وجّهك الله إليهان فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا .
ورابعها : « تَرْضَاهَا » أي : ترضى عاقبتها؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام ، مما يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها ، أو مال يكتسبه .
قوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } « ولّى » يتعدى لاثنين :
أحدهما : « وجهك » .
والثاني : « شطر » .
ويجوز أن ينتصب « شَطْرَ » على الظرف المكاني ، فيتعدى الفعل لواحد ، وهو قول النحاس ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
والأول : أوضح ، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب « إلى » . [ والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط ، والوجه قد يُراد به العضو ، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه .
قال أهل اللغة : « الشطر » اسم مشترك يقع على معنيين .
أحدهما : النصف من الشيء والجزء منه ، يقال : شطرت الشيء ، أي : جعلته نصفين ، ويقال في المَثَل : اجلب جلباً لك شطره ، أي : نصفه .
ومنه الحديث : « الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ »
وتكون من الأضداد .
ويقال : شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه ، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض ، ويكون بمعنى الجهة والنحو ، واستشهد الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب « الرسالة » في هذا لأربعة أبيات ] قال : [ الوافر ]
831 - أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولاً ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو
وقال : [ الوافر ]
832 - أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي ... صُدُورُ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ
وقال : [ البسيط ]
833 - وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا
وقال ابْنُ أَحْمَر : [ البسيط ]
834 - تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا
وقال : [ المتقارب ]
835 - وَأَظْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو ... كِ
وقال : [ البسيط ]
836 - إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُوهَا ... وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
كل ذلك بمعنى : « نحو » و « تلقاء » [ فعلى هذا المراد الجهة ، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين ، واختار الشافعي - رضي الله عنه - أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه .
وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام .
قال القرطبي : وهو في حرف ابن مسعود : « تِلْقَاء المسجد الحرام » ، وقال الجبائي : المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد ، ومنتصفه؛ لأن الشطر هو النصف ، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } يعني : النصف من كل جهة ، كأنه عبارة عن بُقْعة الكعبة ، وهذا اختيار القاضي ، ويدل عليه وجهان :
الأول : أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته .
الثاني : لو فسرنا الشرط بالجانب لم يَبْق لذكر الشطر مزيد فائدة؛ لأنك لو قلت : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } لحصلت الفائدة المطلوبة .
وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة ] .
ويقال : شَطر : بعد ، ومنه : الشّاطر ، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله ، ويقال : شَطَر شُطُوراً .
والشَّطِيرُ : البعيد ، ومنه : منزل شَطِيرٌ ، وشطر إليه أي : أقبل .
وقال الراغب : وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد ، وجمعه : شُطُرٌ ، والشاطر أيضاً لمن يتباعد من الحق ، وجمعه شُطَّارٌ .
[ فصل في الكلام على المسجد الحرام
قال الأزرقي : ذرع المسجد الحرام مقصراً مائة ألف وعشرون ألف ذِرَاع ، وعدد أساطينه من شقّه الشَّرْقي : مائة وثلاث أُسْطُوَانات . ومن شقّه الغربي : مائة وخمس أُسْطُوانات ، ومن شقّه الشّامي : مائة وخمس وثلاثون أسطوانة ، ومن شقّه اليمنى : مائة وإحدى وأربعون أسطوانة .
وذرع ما بين كل أُسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً .
وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون باباً ، وعدد شُرُفاته مائتا شرفه واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة ، ويطلب المسجد الحرام ، وَيُرَاد به الكعبة .
قال تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
ويطلب ويراد به المسجد معها .
وقال عليه الصلاة والسلام : « لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِدِ الحَرَامِ » إلى آخره ، ويطلق ويراد به « مَكّة » كلها ، وقال سبحانه وتعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] قال المفسرون : كان الإسراء من بيت أُمِّ هانئ بنت أبي طالب .
ويطلق ويراد به « مكة » كلها ، قال سبحانه وتعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } [ البقرة : 196 ] .
قال البعض : حاضروا المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر .
وقال تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] ، هل تعتبر هذه المسافة من نفس « مكة » أو من طرف الحرم؟ والأصح أنها من طرف الحرم ] .
فصل في المراد بالمسجد الحرام
اختلفوا في المراد من المسجد الحرام .
روي عن ابن عباس ، أنه قال : البيت قِبْلة لأهل المسجد ، والمسجد قِبْلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وهذا قول مالك رضي الله عنه .
وقال آخرون : القِبْلة هي الكعبة ، والدليل عليه ما أخرج في « الصحيحين » عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، قال : إنه لمّا دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نَوَاحيه كلها ، ولم يصلِّ حتى خرج منه ، فلما خرج صلى ركعتين في قُبُل الكعبة ، وقال : هذه القبلة .
قال القفال : وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القِبْلة إلى الكعبة .
وفي خبر البراء بن عازب : ثم صرف إلى الكعبة ، وكان يحبّ أن يتوجذه إلى الكعبة .
وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء : فأتاهم أتٍ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حول إلى الكعبة .
وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس : جاء منادي رسول الله ، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة . هكذا عامة الروايات .
وقال آخرون : بل المراد المسجد الحرام الحرمُ كلّه ، قالوا : لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه ، إلاّ إذا منع منه مانع .
وقال آخرون : المراد من المسجد الحرام الحرمُ كلّه ، والدليل عليه قوله تعالى { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام } [ الإسراء : 1 ] وهو - عليه الصلاة والسلام - إنما أسري به خارج المسجد ، فدلّ هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام .
وقوله تعالى : { وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ } هنا وجهان :
أظهرهما : أنها شرطية ، وشرط كونها كذلك زيادة « ما » بعدها خلافاً للقراء ف « كنتم » في محلّ جزم بها ، و « فولُّوا » جوابها ، وتكون هي منصوبة على الظرفية ب « كنتم » فتكون هي عاملة فيه الجزم ، وهو عامل فيها النصب نحو : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] .
واعلم أن « حَيْثُ » من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها ، ولكن منع من ذلك مانع ، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال .
قال أبو حيان : وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة ، فهي مقتضية للخفض بعدها ، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال والإضافة موضحة لما أضيف ، كما أن الصلة موضحة ، فينافي اسم الشرط؛ لأن اسم الشرط مبهم ، فإذا وصلت ب « ما » زال منها معنى الإضافة ، وضمنت معنى الشرط وجُوزِيَ بها ، وصارت من عوامل الأفعال .
والثاني : أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط ، والناصب له قوله : « فولّوا » قاله أبو البقاء ، وليس بشيء ، لأنه متى زيدت عليها « ما » وجب تضمّنها معنى الشرط . وأصل « ولّوا » : وليوا ، فاستثقلت الضمة على الياء ، فحذفت ، فالتقى ساكنان فحذف أولهما ، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير ، فوزنه « فعوا » .
وقوله : « شَطْرَهُ » فيه القولان ، وهما : إما المفعول به ، وإما الظرفية كما تقدم .
فصل في الصلاة في المسجد الحرام
قال صاحب التهذيب : الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يتسحب أن يقف الإمام خلف المقام ، والقوم يقفون مستدبرين البيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتدّ الصف في المسجد ، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن مُحاذاة الكعبة .
وعند أبي حنيفة تصحّ؛ لأن عنده الجهة كافية . وحجة الشّافعي رضي الله عنه :
القرآن والخبر والقياس .
أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية ، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه ، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له ، وواقعاً في سَمْته ، والدليل عليه أنه لو كان كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخرن لا يقال : إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو ، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب .
وأما الخبر فما روينا أنه - عليه الصلاة والسلام - لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قِبْلة الكعبة ، وقال : « هَذِهِ القِبْلَةُ »
وهذه الكلمة تفيد الحصر ، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة ، وكذلك سائر الأخبار التي رَوَيْنَاها في أن القبلة هي الكعبة .
وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صلى الله عليه وسلم في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر ، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعاً ، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر مَشْكُوك ، والأَوْلَى رعاية الاحتياط في الصلاة ، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة .
واحتج ابو حنيفة بظاهر الآية؛ لأنه - تعالى - أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه ، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيهن فقد أتى بما أمر به .
سواء كان مستقبلاً الكعبة أم لا ، فوجب أن يخرج على العهدة .
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : « مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ »
قال أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى : ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة؛ لأن جانب القُطب الشمالي يصدق عليه ذلك ، وهو بالاتفاق ليس بقبلة ، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ، وغرب معين قبلة ، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي ، وبين المغرب الصيفي ، فإن ذلك قبلة ، وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل ، والذي بينهما هو سَمْت « مكة » .
قالوا : فهذا الحديث بان يدلعلى مذهبنا أَوْلى بالدلالة على مذهبكم ، أما فعل الضحابة فمن وجهين :
الأول : ان أهل مسجد « قبال » كانوا في صلاة الصبح ب « المدينة » مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين للكعبة؛ لأن « المدينة » بينهما .
فقيل لهم : ألا إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصَّلاة من غير طَلَبِ دلالةلة ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ، وسمى مسجدهم ب « ذي القبلتين » ومقابلة العين من المدينة إلى « مكة » لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل؟
الثاني : أن الناس من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة .
وأما القياس فمن وجوه :
الأول : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً ، إما علماً أو ظنّاً ، وجب ألاّ تصح صلاة أحد قط؛ لأنه إذا كان مُحَاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً ، فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في مُحَاذات هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في مُحَاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير .
ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب ألاَّ تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في مُحَاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في مُحَاذاتها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة .
فإن قيل : الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة ، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائئرة إلا أن الدائرة إذا صَغُرت صغر التَّقَوُّس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها ، بل نلى كل قطعة منها شبيهاً بالخطّ المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولاه على أضعاف البيت ، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة .
قلنا : هَبْ أن الأمر على ما ذكرتموه ، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة ، وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في احس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنيةً في نفسها؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدَّائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتّصف بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّاً مستقيماً ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم ، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلاَّ أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة ، لا يمكن أن يكون في محلّ التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أو لا؟
فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي الشَّك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّاً في صحة صلاته ، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العُهْدَة ألبتة .
وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظنّاً ، وهذا كلام بيّن .
الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لا سبيل إليه إلاّ بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل واحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب .
فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّاً لا يقيناً ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظنّاً .
قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين ، لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية ، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب .
الثالث : لو كان استقبال العين واجباً إام علماً أو ظنّاً ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدّى الواجب إلاَّ به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عَيْن على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أان استقبال العين غير واجب .
فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة
دلّ قوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : « خَيْرُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ » خرج منه الصلاة حال المُسَايفة ، والخوف ، والمطلوب والخائف والهارب من العدود ، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل .
فإن قيل : قوله تعالى : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه } تكرار لقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } .
فالجواب : أن هذا ليس بتَكْرَار ، وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن قوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } خطاب مع الرسول - عليه السلام - لا مع الأمة .
وقوله : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه } خطاب مع الكل .
وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم ، وهم ب « المدينة » خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل « المدينة » خاصة ، فبيّن الله تعالى أنهم أينما صلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة .
[ قوله تعالى : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب } .
قال السُّدٍّي : هم اليهود خاصة ، والكتاب : التوراة .
وقال غيره : أحبار اليهود ، وعلماء النصارى؛ لعموم اللفظ ، والكتاب التوراة والإنجيل .
فلا بد أن يكون عدداً قليلاً؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان ] .
قوله تعالى : « أَنَّهُ الحَقُّ » يحتمل أن تكون « أن » واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل « يعلمون » عند الجمهور ، ومسدّ أحدهما عند الأخفش ، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين ، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العِرْفان ، وفي الضمير ثلاثة أقوال :
أحدها : يعود على التولّي المدلول عليه بقوله : « فولّوا » .
والثاني : على الشطر .
والثالث : على النبي صلى الله عليه وسلم ، [ أي : يعلمون أن الرسول مع شرعه وبنوّته حقّ ] ويكون على هذا التفاتاً من خطابه بقوله : « فلنولِّينَّك » إلى الغيبة .
[ قوله تعالى : « من ربهم » متعلب بمحذوف على أنه حال من الحق ، أي كائناً من ربهم ] .
فصل في كيفية معرفة أهل الكتاب
اختلفوا في كيفية معرفتهم فذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول ، وخبر القبلة ، وأنه يصلي إلى القبلتين .
وثانيها : أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله - تعالى - قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام .
وثالثها : أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ظهر عليه من المعجزات ، ومتى علموا نبوته ، فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق ، فكان هذا التحويل حقّاً .
قوله تعالى : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } تقدم معناه .
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي « تعملون » بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو ل « للذين » على الالتفات تحريكاً لهم وتنشيطاً ، والباقون بالغيبة ردّاً على الذين أوتوا الكتاب ، أو ردّاً على المؤمنين ، ويكون التفاتاً من خطابهم بقوله : « وجوهكم - كنتم » فإن جعلناه خطاباً للمسلمين ، فهو وعد لهم ، وبشارة أي : لا يخفى عليَّ جدّكم واجتهادكم في قَبُول الدين ، فلا أخل بثوابكم .
وإن جعلناه كلاماً مع اليهود ، فهو وعيد وتهديد لهم ، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم ، وإن لم يعجلها لهم ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] .
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قوله تعالى : { وَلِئَنْ أَتَيْتَ } فيه قولان :
أحدهما : قول سيبويه وهو أن « اللام » هي الموطّئة للقسم المحذوف ، و « إن » شرطية ، فقد اجتمع شرط وقسم ، وسبق القسمن فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر .
فلذلك جاء الجواب للقسم ب « ما » النافية وما بعدها ، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده ، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة ، و « تَبِعُوا » وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى أي : ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل ، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي .
الثاني : وهو قول الفراء ، وينقل أيضاً عن الأخفش والزجاج أن « إن » بمعنى « لو » ، ولذلك كان « ما » في الجواب ، وجعل « ما تَبِعُوا » جواباً ل « إن » لأنها بمعنى « لو » .
أما إذا لم تكن بمعناها ، فلا تجاب ب « ما » وحدها ، بل لا بد من الفاء ، تقول : إن تزرني فما أزورك .
ولا يجيز الفراء : « ما أزورك » بغير فاء
وقال ابن عطية : وجاء جواب « لئن » كجواب « لو » ، وهي ضدها في أنَّ « لو » تطلب المضي والوقوع ، و « إنْ » تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم ، فالجواب إنما هو للقسم؛ لأن أحد الحرفين يقع موضع الآخر هذا قول سيبويه .
قال أبو حيان : هذا فيه تثبيج ، وعدم نصّ على المراد؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب ل « إن » ، وقوله بعد : الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل « إن » ، وتعليله بقوله : لأن أحد الحرين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون « ما تَبِعُوا » جواباً للقسم ، بل لكونه جواباً ل « إن » .
وقوله : « قول سيبويه » ليس في كتاب سيبويه ذلك ، إنما فيه أن « ما تبعوا » جواب القَسَم ، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل .
قال سيبويه وقالوا : لئن فعلت ما فعل ، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل .
وتلّخص مما تقدم أن قوله : « مَا تَبِعُوا » فيه قولان :
أحدهما : أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، ولذلك لم يقترن بالفاء .
والثاني : أنه جواب ل « إن » إجراء لها مجرى « لو » .
وقال أبو البقاء : « ما تَبِعُوا » أي : لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل ، ودخلت « ما » حملاً على لفظ الماضي ، وحذفت الفاء في الجواب؛ لأن فعل الشرط ماض .
وقال الفراء : « إِنْ » هنا بمعنى « لو » .
وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضياً ، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المَقَالَة .
فصل في المراد بالآية .
قال الأصم : المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 144 ] ؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام ، ولو كان المراد الكل لامتنع الكِتْمان؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكِتْمَان ، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً؛ لان كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد - عليه الصلاة والسلام - وتبع قبلته .
وقال آخرون : بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم ، فيتناول الكل .
فصل في لفظ « آية »
« الآية » : وزنها « فَعَلَة » أصلها : أَيَيَة « ، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها .
والآية : الحُجّة والعلامة ، وآية الرجل : شخصه ، وخرج القول بآيتهم أي : جماعتهم .
وسميت آية القرآن بذلك؛ لأنها جماعة حروف . وقيل : لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها .
وقيل : لانها دالة على انقطاعها عن المخلوقين ، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى .
فصل في سبب نزول هذه الآية
روي أن يهود » المدينة « ، ونصارى » نجران « قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم : ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال ابن الخطيب : » والأقرب أان هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة ، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة « .
قوله : { وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ } .
» ما « تحتمل الوجهين أعني : كونها حجازية ، أو تميمية : فعلى الأول يكون » أنت « مرفوعاً بها ، و » بتابع « في محلّ نصب .
وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداء ، و » بتابع « في محلّ رفع ، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط ، وجوابه لا على الجواب وحده ، إذ لا يحل محله؛ لأن نفس تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم ، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله : { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } من وجوه :
أحدها : كونها اسمية متكررة فيها الاسم ، مؤكد نفيها بالباء .
ووحّد القبلة وإن كانت مثناة : لأن لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين :
إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة ، وإما لأجل المقابلة في اللفظ؛ لأن قبله : { مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ } .
وقرئ : { بِتَابِعٍ قِبْلَتِهِمْ } بالإضافة تخفيفاً؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان .
واختلف في هذه الجملة : هل المراد بها النهي أي : لا تتبع قبلتهم ، ومعناه : الدوام على ما أنت عليه؛ لأن معصوم من اتباع قبلتهم ، أو الإخبار المَحْض بنفي الأتبّاع ، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير مَنْسوخة ، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟ قولان مشهوران .
قوله : { وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } .
قال القفال : هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال .
أما على الحال فمن وجوه :
الأول : أنهم ليسوا مجتمعين على قِبْلَةٍ واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها .
الثاني : أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة ، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك ، مع أنهم فيما بينهما مختلفون .
الثالث : أن هذا إبطال لقولهم : إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث .
وما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : { وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ } ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر ، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان ، فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم تبع قبلة الآخر ، فالخلف غير لازم .
وإن حملناه على الكل قلنا : إنه عاّ دخله التخصيص .
قوله تعالى : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ } [ البقرة : 120 ] كقوله : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ } .
وقوله : « إِنَّكَ » جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره .
قال أبو حيان : لا يقال : غنه يكون جواباً لهما لاتمناع ذلك لفظاً ومعنى .
أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف ، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه؛ لأن القَسَم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها ، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً ، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه ، فتكون الجملة في موضع جزم ، وعمل الشرط لقوة طلبه له .
وأام اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط ، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء ، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها ، فلذلك امتنع أن تكون جواباً لهما معاً .
فصل في الهوى
الهوى المقصور : هو ما يميل إليه الطبع [ وقيل : هو شهوة نتجت عن شبهة ، والممدود هو الجو ] . ؟
اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب .
قال بعضهم : الرسول .
وقال بعضهم : الرسول وغيره .
وقال آخرون : بل غيره؛ لأنه - تعالى - عرف أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - لا يفعل ذلك ، فلا يجوزأن يخصّه بهذا الخطاب ، وهذا خطأ من وجوه :
أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه ، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به ، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأموراً بشيء ، ولا منهيّاً عن شيء ، وإنه بالاتفاق باطل .
وثانيها : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير ، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير .
وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل ، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا .
ورابعها : قوله تعالى في حق الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] مع أنه - تعالى - أخبر عن عصمتهم في قوله : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] .
والإجماع على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك ، وما مال إليه ، وقال { ياا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] وقال : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] ، وقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] .
فثبت بما قلنا أنه - عليه الصلاة والسلام - مَنْهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عليه الصلاة والسلام .
بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره؟
فنقول فيه وجوه :
أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، فكان أَوْلَى بالتخصيص .
وثانيها : أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير .
وثالها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم ، فزجره عن أمر بحضرة جماعه أولاده ، فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية .
القول الثاني : أن قوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ } [ البقرة : 120 ] ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور ، فلعله - عليه الصلاة والسلام - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم ، مثل ترك المُخَاشنة في القول والغِلْظَة في الكلام ، طمعاً منه - عليه الصلاة والسلام - في استمالتهم ، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك القدر أيضاً ، وآيَسَهُ منهم بالكلية على ما قال : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } [ الإسراء : 74 ] .
القول الثالث : أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا ان المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت [ إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له : لو فعلت مرة أخرى مثل ] هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً ، فكان الغرض منه زجر العبد .
قوله تعالى : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } .
إنه - تعالى - لم يرد بذلك أنه نفس العلم ، بل المراد الدَّلائل والآيات والمعجزات؛ لأن ذلك من طرق العلم ، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر ، والغرض من هذا الاستعارة هو المبالغة [ والتعظيم في ] أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاه باسم العلم ، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة ، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجّهه على غيرهم .
[ قوله تعالى : { إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين } أي إِنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم ، وظلمهم أنفسهم ] .
و « إذاً » حرف جواب وجزاء بنص سييبويه ، وتنصب المضارع بثلاثة شروط :
أن تكون صدراً ، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم ، وألا يكون الفعل حالاً ، ودخلت هنا بين اسم « إن » وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر ، فلم تتقدم ، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم ، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف ، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي .
قال أبو حيان : وتحرير معنى « إذاً » صعب اضطرب الناس في معناها ، وفي فهم كلام سيبويه فيها ، وهو أن معناها الجواب والجزاء .
قال : والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام ، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً ، وما بعدها في اللفظ أو التقدير ، وإن كان متسبباً عما قبلاه فهي في ذلك على وجهين :
أحدهما : أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط ، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها ، مثال ذلك : أزورك فتقول : إذاً أزورك ، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك ، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب ، وبالفعلية في زمان مستقبل ، وفي هذا الوجه تكون عاملة ، ولعملها شروط مذكورة في النحو .
الوجه الثاني : أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم ، أو مبّهة على مسبب حصل في الحال ، وهي في الحالين غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عيله ، وذلك ، نحو : « إن تأتني إِذَاً آتك » ، و « والله إِذاً لأفعلن » فلو أسقطت « إِذاً » لفهم الارتباط ، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو : « أزورك » فتقول : « إِذاً أنا أكرمك » ، وجاز توسطها نحو : « أنا إِذاً أكرمك » وتأخرها ، وإذا تقرر هذا فجاءت « إذاً » في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم ، وإنما قررت معناها هنا؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن ، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه .
واعلم أ ، ها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها ، وهو الأكثر ، وهي مركبة من « همزة وذال ونون » ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفاً ، وكتبوها في الكتاب على ذلك ، وهذا نهاية القول فيها .
وجاء في هذا المكان « مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ » وقال قبل هذا : { بَعْدَ الذي جَآءَكَ } [ البقرة : 120 ] وفي « الرعد » : { بَعْدَ مَا جَآءَكَ } [ الرعد : 37 ] فلم يأت ب « من » الجارة إلا هنا ، واختص موضعاً ب « الذين » ، وموضعين ب « ما » ، فما الحكمة في ذلك؟
والجواب : ما ذكره بعضهم وهو أن « الذي » أخص و « ما » أشد إبهاماً ، فحيث أتي ب « الذي » أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه؛ لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث أتي بلفظ « ما » أشير به إلى العلم [ بركنين ] من أركان الدين ، أحدهما : القبلة ، والأخر : بعض الكتاب؛ لأنه أشار إلى قوله : { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } [ الرعد : 36 ] .
قال : وأما دخول « : من » ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - عليه السلام - أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا : إنه من باب التنوع من البلاغة .
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
في « الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ » : ستة أوجه :
ظهرها : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر قوله : « يعرفونه » .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين آتيناهم .
الثالث : النصب بإضمار « أعني » .
الرابع : الجر على البدل من « الظَّالمين » .
الخامس : على الصفة للظالمين .
السادس : النصب على البدل من « الَّذين أوتوا الكتاب » في الآية قبلها .
قوله تعالى : « يَعْرِفُونَهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر « الذين آتيناهم » كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في « الَّذِينَ آتيناهم » .
الثاني : أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة .
وفي صاحب الحال وجهان :
أحدهما : المفعول الأول ل « آتيناهم » .
والثاني : المفعول الثاني وهو الكتاب؛ لأن في « يعرفونه » ضميرين يعودان عليهما ، والضمير في « يعرفونه » فيه أقوال :
أحدها : أنه يعود على « الحق » الذي هو التحول ، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - وقتادة والربيع وابن زيد .
الثاني : على النبي صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل وعظّم؛ أي : يعرفونه معرفة جليّة كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم .
روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل عبد الله بن سلام - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : أنا أعلم به مني بابني ، قال : ولم؟ قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي ، وأما ولدي فلعل والدته خانت . فقبَّل عمر رأسه .
وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن الكلام يدل عليه ، ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام .
قالوا : وهذا القول أولى من وجوه :
أحدها : أن الضمير إنام يرجع إلى مذكور سابق ، وأقرب المذكورات العلم في قوله : { مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } [ البقرة : 145 ] .
والمراد من ذلك العلم : النبوة ، فكأنه تعالى قال : إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم ، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة .
وثانيها : أن الله - تعالى - ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القِبْلة مذكور في التوراة والإنجيل ، واخبر فيه ان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أَوْلى .
وثالثها : أن المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى .
وعلى هذا القول أسئلة .
السؤال الأول : أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من امر القبلة .
والجواب : أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - عن اتْباع اليهود والنصارى بقوله تعالى : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين } [ البقرة : 145 ] أخبر المؤمنين بحاله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه الآية فقال : العلماء يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً ، وما جاء به وصدقه ودعوته وقِبْلَتَه لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم .
السؤال الثاني : هذه الآية نظيرها قوله تعالى : { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] وقال : { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] إلا أنّا نقول : من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم ، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل : إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام ، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخِلْقة والنَّسَب والقبيلة ، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل ، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين ، من البلد المعين ، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب ، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك .
وأما القسم الثاني : فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنا نقول : هَبْ أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبيّاً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حَدّ اليقين ، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم .
والجواب : أن هذا الإشكال إنما يتوجذه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه ، ونحن لا نقول به ، بل نقول : إنه ادّعى النبوة ، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً ، فهذا برهان ، والبرهان يفيد اليقين ، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - أقوى وأظهر من العلم ببنوّة الأبناء ، وأبوة الآباء .
السؤال الثالث : فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - علماً برهانياً ، غير محتمل للغَلَطِ .
أما العلم بأن هذا ابْني فذلك ليس علماً يقينياً ، بل ظن ومحتمل للغلط ، فلم شبه اليقين بالظن؟
والجواب : ليس المراد أن العلم بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - يشبه العلم ببنوّة الأبناء ، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم ، فكما أن الأب يعرض شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا ، وعند هذا يستقيم التشبيه ، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري ، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة .
السؤال الرابع : لم خص الأبناء بالذكر دون البنات .
الجواب : لأن الذكور أعرف وأشهر ، وهم بصحبة الآباء ألزم ، وبقلوبهم ألصق .
والضمير في « يَعْرِفُونَه » يعود على القرآن الكريم .
وقيل : على العلم .
وقيل : على البيت الحرام .
[ ويعود الضمير إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم . وهو رأي الزمخشري ، واختاره الزَّجاج وغيره ، وقال أبو حيان : هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله : « فَوَلِّ وَجْهَكَ » إلى الغيبة ] .
قوله : « كَمَا يَعْرِفُونَ » « الكاف » في محل نصب إما على كونها نَعْتاً لمصدر محذوف أي : معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم ، أو في موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف ، التقدير : يعرفونه معرفة مُمَاثلة لعرفانهم ، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا . و « ما » مصدرية لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه .
قوله تعالى : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 146 ] .
اعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول ، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه ، ومنهم من بقي على كفره ، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق ، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره ، لا جرم قال الله تعالى : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فوصف البعض بذلك ، ودلّ بقوله ] : « » على سبيل الذّم ، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا أمكن إظهاره ، واختلفوا في المَكْتُوم ، فقيل : أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل : أمر القبلة كما تقدم .
قوله تعالى : « وَهُمْ يَعْلَمُونَ » جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل « يكتمون » ، والأقرب فيها أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن لفظ « يَكْتُمون الحَقّ » يدل على علمه ، إذ الكتم إخفاء ما يعلم وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي : وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فتكون إذ ذاك حالاً مبينة ، وهذا ظاهر في أن كفرهم كان عِنَاداً ، ومثله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .
قوله تعالى : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، وفي الألف واللام حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول - عليه السلام - أو إلى الحق الذي في قوله : « يَكْتُمُونَ الْحَقَّ » أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق من ربك ، والضمير يعود على الحق المكتوم أي : ما كتموه هو الحق .
الثالث : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه ، والجار والمجرور على هَذَين القولين في محلّ نصب على الحال من « الحَقّ » ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر في الوجه الثاني .
وقرأ علي بن أبي طالب : « » نصباً ، وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب على البدل من الحق المكتوم ، قاله الزمخشري .
الثاني : أن يكون منصوباً بإضمار « الذم » ، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله : « لَلاَ تَكُونَنَّ » .
الثالث : أنه يكون منصوباً ب « يعلمون » قبله ، وذكر هذين الوجهين ابن عطية ، وعلى هذا الوجه الأخير يكون مما وقع فيه الظاهر موضع المضمر ، أي : وهم يعلمونه كائناً من ربك ، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو : [ الخفيف ]
737 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ ..
والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة ، فلذلك جاء التنزيل عليه : نحو { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] دُونَ : لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله : « لا تكن ظالماً » نهي عن الكون بهذه الصفة ، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة؛ إذ النهي عن الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة ، والمعنى لا تظلم في كل أكوانك ، أي : في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم ، فيصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان ، بخلاف : لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان ، وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و « الامتراء » : افتعال من المِرْيَة وهي الشك ، ومنه المراء . قال : [ الطويل ]
838 - فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمِرَاءَ فَإِنَّهُ ... إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ
و « ماريته » : جادلته وشاكلته فيما يدعيه ، و « افتعل » فيه بمعنى « تفاعل » ، يقال : تماروا في كذا ، وامتروا فيه نحو : تجاوروا ، واجتوروا .
وقال الراغب : المِرْيَة : التردّد في الأمر ، وهي أخَصُّ من الشَّك ، والامتراء والمماراة المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية ، وأصله من مَرَيْتُ النَّاقة إذا مَسحتَ ضَرْعَها للحَلْب .
ففرق بين المِرْية والشَّك كما ترى ، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشَّك ، وانشد الطبري قول الأعشى : [ الطويل ]
839 - تَدُرُّ عَلى أَسْؤُقِ المُمْتَرِي ... نَ رَكَضاً إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ
شاهداً على أن الممترين الشاكون .
قال : ووهم في ذلك؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا : الممترون في البيت هم الذين يمرُّون الخيل بأرجلهم هَمْزاً لتجري كأنهم يَتَحلبون الجري منها .
[ فصل فيمن نزلت فيه الآية
قوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } قال الحسن : من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم .
وقيل : بل يرجع إلى أمر القبلة .
وقيل : بل يرجع إلى صحة نبوته وشرعه ، وهو أقرب؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله : « من ربك » ؛ وظاهره يقتضي النبوة ، فوجب أن يرجع إليه ، ونهيه عن الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكاً فيه كما تقدم القول في هذه المسألة ] .
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
جمهور القراء على تنوين « كلّ » ، وتنوينهُ للعوض من المضاف إيله ، والجار خبر مقدم ، و « وِجْهَة » مبتدأ مؤخر .
واختلف في المضاف إليه « كل » المحذوف .
فقيل : تقديره : ولكل طائفة من أهل الأديان [ يعني : أن الله يفعل ما يعلمه صلاحاً ، فالجهات من الله تعالى وهو الذي ولَّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى ، فإن انقيادكم خيرات لكم ، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء ، وقولهم : « ما ولاّهم عن قبلتهم أي التي كانوا عليها » فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة ] .
وقيل : ولكل أهل موضع من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراء وقدّام [ فهي كجهة واحدة ، ولا يخفى على الله نيّاتهم؛ فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم ] . وفي « وجهة » قولان :
أحدهما : ويعزى للمبرد ، والفارسي ، والمازني في أحد قوليه : أنها اسم المكان المتوجه إليه ، وعلى هذا يكون إثبات « الواو » قياساً إذ هي غير مصدر .
قال سيبويه ولو بنيت « فِعْلَة » من الوعد لقلت : وعدة ، ولو بنيت مصدراً لقلت : عدة .
والثاني : أنه مصدر ، ويعزى للمازني ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، فإنه قال بعد ذكر حذف « الواو » من المصادر : « وقد أثبتوا فقالوا : وجهة في الجهة » وعلى هذا يكون إثبات « الواو » شاذَاً مَنْبَهَةٌ على ذلك الأصل المتروك في « عدة » ونحوها ، والظاهر أن الذي سوغ إثبات « الواو » وإن كانت مصدراً أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة تَوَجَّه واتَّجَهَ ، ومصدرهما التوجه والاتجاه ، ولم يسمع في فعله : « وَجَهَ يَجِهُ » ك « وعد يَعِدُ » ، وكان الموجب لحذف « الواو » من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة ، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه ، فلذلك قلت : إن « وِجْهَة » مصدر على حذف الزوائد ل « توجه » أو « اتجه » ، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا .
قال القرطبي : الوِجْهَة وزنها فِعْلَة من المُوَاجهة .
والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد ، والمراد القِبْلة ، أي : أنهم لا يتبعون قبلتك ، وأنت لا تتبع قبلتهم ، ولك وجهة : إما بحق ، وإما بهوى .
فصل في لفظ الوجه
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب : الأول : بمعنى الملّة ، قال تبارك وتعالى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } أي : ملّة .
الثاني : بمعنى الإخلاص في العمل ، قال تعالى : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } [ الأنعام : 79 ] أي : أخلصت عملي ، ومثله : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } [ النساء : 122 ] أي : أخلص عمله لله .
الثالث : بمعنى الرِّضَا ، قال تعالى :
{ وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] أي : رضاه ، ومثله : { واصبر نَفْسَكَ } [ الكهف : 28 ] الآية الكريمة ، ومثله : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله } [ الروم : 29 ] أي : رضاه .
الرابع : الوجه هو الله تعالى كقوله تعالى : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] ، ومثله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } [ الإنسان : 9 ] ، وقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] أي : إلاّ إياه .
قوله تعالى : « هُوَ مُوَلِّيهَا » جملة مبتدأ وخبر في محلّ رفع؛ لأنها صفة ل « وجهة » [ وهي قراءة الجمهور ] واختلف في « هو » على قولين :
أحدهما : أنه يعود على لفظ « كلّ » لا على معناها ، ولذلك أفرد [ قال القرطبي : ولو كان على المعنى لقال : هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول ] . والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره : هو موليها وجهه أو نفسه ، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر : « مُوَلاَّها » على ما لم يسم فاعله .
والثاني : أنه يعود على الله - تعالى - أي : الله مولّي القبلة إياه ، أي ذلك الفريق .
وقرأ الجمهور : « مُوَليها » على اسم فاعل ، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه ، وقرأ ابن عامر - ويعزى لابن عباس - « مُوَلاَّها » على اسم المفعول ، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني : هو الضمير المتصل به وهو « ها » العائد على الوجهة .
وقيل : على التولية ذكره أبو البقاء ، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود « هو » إلى الفريق؛ إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى . [ ولقراءة ابن عامر معنيان :
أحدهما : ما وليته فقد ولاّك؛ لأن معنى وليته أي : جعلته بحيث يليه ، وإذا صار بحيث يلي ذاك ، فذاك أيضاً يلي هذا ، فإذاً قد يفيد كل واحد منهما الآخر .
فهو كقوله تعالى : { فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } [ البقرة : 37 ] فهذا قول الفراء .
الثاني : « هُوَ مُوَلِّيها » أي : قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها ] .
وقرأ بعضهم : « وَلَكُلِّ وجهة » بالإضافة ، ويعزى لابن عامر ، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال :
أحدها ، وهو قول الطبري : أنها خطأ ، وهذا ليس بشيء؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل .
[ قال ابن عطية : وخطأها الطبري وهي متّجهة أي : فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه أي : إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله : « ولكلٍّ وجهةٌ » على الأمر في قوله : « فَاسْتَبقوا الخيرات » للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول .
وذكر أبو عمرو الدَّاني هذه القراءة عن ابن عَبَّاس ] .
والثاني : وهو قول الزمخشري وأبي البقاء أن « اللام » زائدة في الأصل .
قال الزمخشري : المعنى وكلّ وجهة اللَّهُ مولّيها ، فزيدت « اللام » لتقدم المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه .
قال أبو حيان : وهذا فاسد؛ لأن العامل إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور ب « اللام » لا تقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه ، لئلا يلزم أحد محذورين ، وهما : إما لأنه يكون العامل قوياً ضعيفاً . [ وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّاً ومن حيثُ تعدى للظاهر ب « اللام » يكون ضعيفاً ] ، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعدياً لاثنين ، ولذلك تأويل النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله : [ البسيط ] .
840 - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ
على أن الضمير في « يدرسه » للمصدر أي : يدرس الدرس لا للقرآن؛ لأن الفعل قد تعدى غليه .
وأام تمثيله بقوله : « لزيد ضربت » ، فليس نظير الآية؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميرهن ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال ، فتقدر عاملاً في : « لكل وجهة » يفسره « موليها » ؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى ، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف تقول : زيداً مررت به ، أي : لابست زيداً مررت به ، ولا يجوز : لزيد مررت به .
قال تعالى : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 31 ] ، وقال :
841 - أَثَعْلَبَةَ الْفَوارِسِ أَمْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا
فأتى بالمشتغل عنه منصوباً ، وأما تمثيله بقوله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي .
الثالث : أن « لكلّ وجهة » متعلق بقوله : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } أي : فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ، وإنما قدم على العامل للاهتمام به ، كما تقدم المفعول ، كا ذكره ابن عطية .
ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن « لكل وجهة » في موضع المفعول الثاني ل « مولّيها » ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو « مولّ » ، وهو « ها » ، وتكون عائدة على الطوائف ، ويكون التقدير : وكلَّ وجهة اللَّهُ مولِّي الطوائف أصحاب القِبْلاَت ، وزيدت « اللام » في المفعول لتقدمه ، ويكون العامل فرعاً؛ لأن النحويين نصُّوا على أنه لا يجوز زيادة « اللام » للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط ، و « مولّ » مما يتعدّى لاثنين ، فامتنع ذلك فيه ، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر ، فلا يتعدى لضميره ، وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل ب « مول » ليس بضمير المفعول ، بل ضمير المصدر وهو التَّولية ، يكون المفعول الأول محذوفاً والتقدير : الله مولي التولية كلَّ وجهةٍ أَصْحَابَها ، فلما قدم المفعول على العامل قوي ب « اللام » لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة .
قوله تعالى : « فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ » « الخيرات » منصوبة على إسقطا حرف الجر ، التقدير : إلى الخيرات ، كقوله الراعي : [ الطويل ]
842 - ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ ... سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيرُ مَائلِ
أي : إلى سواكم ، وذلك لأن « استبق » : إما بمعنى سبق المجرد ، أو بمعنى : تسابق [ لا جائز أن يكون بمعنى : سبق؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات ، فبقي أن يكون بمعنى : تسابق ] ولا يتعدى بنفسه .
و « الخيرات » جمع : خيرة ، وفيها احتمالان .
أحدهما : أن تكون مخففة من « خَيِّرة » بالتشديد بوزن « فَيْعِلة » نحو : مَيْت في مَيِّت .
والثاني : أن تكون غير مخففة ، بل تثبت على « فَعْلَة » بوزن « جفْنَة » ، يقال : رجل خير وامرأة خير ، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل .
والسبق : الوصول إلى الشيء أولاً ، وأصله التقدم في السير ، ثم تجوز به في كل ما تقدم
فضل في المسابقة إلى الصلاة
من قال : إنَّ الصلاة في أول الوقت أفضل استدل بقوله : « فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ » ؛ قال : لأن الصلاة خير لقوله عليه الصلاة والسلام « خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ » وظاهر الأمر بالسبق للوجوب ، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب .
وأيضاً قوله تعالى : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الحديد : 21 ] ومعناه : إلى ما يوجب المغفرة ، والصلاة مما يوجب المغفرة ، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة .
وأيضاً قوله تعالى : { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : 10 - 11 ] .
والمراد منه : السابقون في الطاعات ، والصلاة من الطاعات ، وأيضاً أنه مدح الأنبياء المقدمين بقوله تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } [ الأنبياء : 90 ] ، والصلاة من الخيرات ، كما بَيّنا .
وأيضاً أنه تعالى ذم إبْليس في ترك المُسَارعة فقال : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 12 ] .
وأيضاً قوله تعالى : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات } [ البقرة : 238 ] والمحافظة لا تحصل إلا بالتَّعْجيل ، ليأمن الفوت بالنسيان .
وأيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] فثبت أن الاستعجال أولى .
وأيضاً قوله تعالى : { } [ الحديد : 10 ] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة ، وأيضاً ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الصَّلاَةُ في أَوَّلِ الوَقْتِ رَضْوَانُ اللَّهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ » .
قال الصديق رضي الله عنه : رضوان الله أحب إلينا من عَفْوه .
قال الشافعي رضي الله عنه : رضوان الله إنما يكون للمحسنين ، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين .
فإن قيل : هذا الاحتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير ، وأجمعنا على أنه لا يأثم ، فلم يبق إلا أن يكون معناه : أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة ، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله ، فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان ، فكان التأخير أوْلى .
فالجواب : أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل ، وذلك لم يقله أحد ، وأيضاً عدم المُسَارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات ، وذلك يقتضي العقاب ، إلاّ أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء ، وأيضاً أن تفسير أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يبطل هذا التأويل ، [ وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - أي الأعمال أفضل؟ قال : « الصَّلاَةُ لِمِيقَاتِهَا الأَوَّلِ »
وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام : « إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ »
وأيضاً إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصَّحابه المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشَّديد بين أهل السُّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم عليّاً رضي الله عنهما ، وما ذاك إلا لاتفاهم على ان المُسَابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل .
[ وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة له : « بَادِرُوا بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا » والصَّلاة من الأعمال الصالحة ] .
وأيضاً تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها ، فوجب أن يكون [ الحال في أداء ] حقوق الله - تعالى - كذلك لرعاية التعظيم .
وأيضاً المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحصر على الطاعة ، والولوع بها ، والرغبة فيها وفي التأخير كَسَلٌ عنها ، فيكون الأول أَوْلى .
[ وأيضاً فإن المبادرة احتياط ، لأنه إذا أدَّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته ، وإذا أخّرها ربما حصل له شغل ، فمنعه من أدائها ، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى .
فإن قيل : تنتقض هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر ، وبما إذا حصل له إدْرَاك الجماعة ، أو وجود الماء .
قلنا : التأخير في هذه المواضع لأمور عارضة ، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل ] .
فصل في التغليس في صلاة الفجر
قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - التَّغْليس في صلاة الفجر أفضل ، وهو مذهب أبي بكر وعمر ، وقول مالك وأحمد رضي الله عنهم .
وقال أبو محمد : يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس .
واحتج الأولون بما تقدم من الآية ، وبما روت عائشة رضي الله عنها قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح ، فينصرف والنساء متلفّعات بِمُرُوطِهِنّ ما يعرفهنّ أحد من الغَلَس .
فإن قيل : كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرون الجماعات ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالغَلًس كيلا يعرفن .
وهكذا كان عمر رضي الله عنه يصلي بالغَلَس ، ثم لما نُهِين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك .
قلنا : الأصل عدم النسخ ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة .
وروى أنس عن زيد بن ثابت قال : تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - ثم قمنا إلى الصلاة ، قال أنس : قلت لزيد كم كان قدر ذلك؟ قال : قدر خمسين آية ، وهذا يدلّ أيضاً لى التَّغْليس ، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غَلَّسَ بالصبح ، ثم أسفر مرة ، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى .
وأيضاً فإن النوم في ذلك الوقت أَطْيب ، فيكون تركه أشقّ ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر ، لقوله عليه السلام : « أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا » أي : أشقّها .
واحتج أبو حنيفة بوجوه :
أحدها : قوله عليه السلام : « أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ »
وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر ب « المزدلفة » فغلس ، ثم قال ابن مسعود : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر .
ويروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه صلى الفجر ، فقرأ « آل عمران » ، فقالوا : كادت الشمس أن تطلع ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين .
وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس ، فقال : لو طلعت لم تجدنا غافلين .
وأيضاً فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار .
وقال عليه السلام : « المُنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ كَمَنْ هُوَ في الصَّلاَةِ » ، فمن [ أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً ، ثم بها ثانياً ] ، ومن صلاّها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار .
وأيضاً : فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أَوْلى .
والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [ يتفجر به ظلام ] المشرق ، فالفجر إنما يكون ضجْراً لوكانت الظلمة باقية في الهواء .
فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً .
وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور ، يقال : أسفرت المرأة عن وجهها إذا [ كشفت عنه ] ، إذا ثبت هذا فنقول : ظهر الفَجْر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء ، فإن الظالم كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد .
فقوله : « أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ » يجب أن يكون محمولاً على التَّغْليس ، أي : كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [ أظهر كان ] أكثر ثواباً .
وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر ، وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه عنه : إن الإسفار المذكور في الحديث مَحْمُول على تيقُّن طلوع الفجر ، وزوال الشك عنه ، والذي يدل على ما قلنا : أن الصلاة في ذلك الوقت أشق ، فوجب أن يكون أكثر ثواباً .
وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير ، فهو عادة أهل الكسل ، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضاً وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه .
قوله : « أَيْنَمَا تَكُونُوا » « أين » اسم شرط تجزم فعلين ك « إن » ، و « ما » مزيدة عليها على سبيل الجواز ، وهي ظرف مكان ، وهي هنا في محلّ نصب خبراً ل « كان » ، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام .
و « تكونوا » أيضاً مجزوم بها على الشرط ، وهو الناصب لها ، و « يأت » جوابها ، وتكون أيضاً استفهاماً فلا تعمل شيئاً ، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام .
[ ودلت الآية على أنه قادر على جميع الممكنات ، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة؛ لأنها ممكنة ، وهذا وَعْدٌ لأهل الطاعة ، ووعيد ] لأهل المعصية .
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
« مِنْ حَيْثُ » متعلق بقوله : « فولّ وَجْهَكَ » و « خرجت » في محلّ جر بإضافة « حيث » إليها ، وقرأ عبد الله بالفتح ، وقد تقدم أنها إحدى اللغات ، ولا تكون هنا شرطية ، لعدم زيادة « ما » ، والهاء في قوله : { وَإِنَّهُ للحَقُّ } الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم .
فصل في الكلام على الآية
أعلم أنه - تبارك وتعالى - قال أولاً : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى : { } .
ثم ذكر ثالثاً قوله : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال :
أحدها : أن الأحوال ثلاثة :
أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام .
وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد .
وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض .
فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة؛ لأنه قد يتهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله - تعالى - هذه الآيات .
والجواب : أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة ، ففي الأولى بين أن أهل الكتاي يعلمون أن أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر هذه القبلة حقّ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل .
وفي الثانية بين أنه - تعالى - يشهد أن ذلك حقّ ، وشهادة الله بكونه حقّاً مغايرة لعلم أهل الكتاب [ حقّاً ] .
وفي الثالثة بين [ فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة ] ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } [ البقرة : 79 ] .
وثالثها : لما قال في الأولى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] أي : إن التحويل ليس لمجرد رضان ، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل .
ثم قال تعالى ثالثاً : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً .
ورابعها : أنه قرن كل آية بمعنى ، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها ، وهي قبلة إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وقرن الآية الثانية بقوله :
{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } [ البقرة : 148 ] أي : لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه غليها ، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله انها حقٌّ ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة .
نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : { وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ثم يقال : الزم هذه القبلة ، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلااء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 16 ] وكذلك ما كرر في قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 8 ] .
وخامسها : أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا ، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير ، وإزالة الشبهة ، وإيضاح البينات .
أما قوله سبحانه وتعالى : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } يعني : ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق ، وهم يعرفونه ، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] وبأنه قد اشتاق إلى مولده ، ودين آبائه ، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله . [ وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم ] .
قوله تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ } هذه لام « كي » بعدها « أن » المصدرية الناصبة للمضارع ، و « لا » نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه ، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ } [ الأنفال : 73 ] و « أن » هنا واجبة الإظهار ، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين ، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى : { فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } .
وقال أبو البقاء : متعلّقة بمحذوف تقديره : فعلنا ذلك لئلا ، ولا حاجة إلى ذلك ، و « للناس » خبر ل « يكون » مقدّم على اسمها ، وهو « حجّة » ، و « عليكم » في محل نصب على الحال؛ لأنه في الأصل صفة النكرة ، فلما تقدم عليها انتصب حالاً ، ولا يتعلق ب « حجة » لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه ، وهو ممتنع؛ لأنه في تأويل صلة وموصول ، وقد قال بعضهم : يتعلّق ب « حجة » وهو ضعيف ، ويجوز أن يكون « عليكم » خبراً ل « يكون » ويتعلق « للناس » ب « يكون » على رأي من يرى أن « كان » الناقصة تعمل في الظرف وشبهه ، وذكر الفعل في قوله « يكون » ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي ، وحسن ذلك الفصل أيضاً . [ وقال أبو روق : المراد ب « النَّاس » : أهل الكتاب .
ونقل عن قتادة والربيع : أنهم وجدوا في كتابهم أنه - عليه الصلاة والسلام - تحوّل إلى القبلة ، فلما حوّلت بطلت حجّتهم .
« إلا الذين ظلموا » ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا .
وقيل : لام أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة ، بناءً على معتقدهم ، أو لعله - تعالى - سمّاها حجّة تهكُّماً بهم .
وقيل : أراد بالحجة المحاجّة ، فقال : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } فإنهم يحاجونكم بالباطل ] .
قوله تعالى : « إلاَّ الَّذِينَ » قرأ الجمهور « إلاَّ » بكسر « الهمزة » وتشديد « اللام » .
وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، وابن زيد بفتحها ، وتخفيف « اللام » على أنها للاستفتاح .
فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال :
أظهرها : وهو اختيار الطبري ، وبدأ به ابن عطية ، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل .
قال الزمخشري : معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين : ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلاً لدين قومه ، وحبّاً لهم ، وأطلق على قولهم : « حجّة » ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة .
والحجّة كما أنها تكون صحيحة ، فقد تكون أيضاً باطلة ، قال الله تعالى : { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } [ الشوى : 16 ] .
وقال تعالى : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } [ آل عمران : 61 ] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة ، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة ، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه ، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة .
وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجّة الطريق ، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة .
وقال ابن عطية : المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة ، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم .
الثاني : أنه استثناء منقطع ، فيقدر ب « لكن » عند البصريين ، وب « بل » عند الكوفيين؛ لأنه استثناء من غير الأول ، والتقدير : لكن الذين ظلموا ، فإنهم يتعلقون عليكم بالشبهة يضعوناه موضع الحجة [ نظيره قوله : { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ } النمل : 10 - 11 ] .
وقال : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] .
ويقال : ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي ، أي : لكنه يتعدى ] .
ومثار الخلاف هو : هل الحجّة هي الدليل الصحيح ، أن الاحتجاج صحيحاً كان أو فاسداً؟
فعلى الأولى يكون منقطعاً ، وعلى الثاني يكون متصلاً .
الثالث : وهو قول أبي عبيدة أن « إلا » بمعنى « الواو » العاطفة وجعل من ذلك قوله : [ الوافر ]
843 - وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ
يَعْني : والفرقدان .
وقول الآخر : [ البسيط ]
844 - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا
تقدير ذلك عنده : « ولا الذين ظلموا ، والفرقدان ، ودار مروان » وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره .
الرابع : أن « إلا بمعنى بعد ، أي : بعد الذين ظلموا ، وجعل منه قول الله تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] .
وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] تقديره : بعد الموتة ، وبعد ما قد سلف ، هذا من أَفْسَد الأقوال ، وأنكرها ، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه .
و » الذين « في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالاً وانقطاعاً ، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلاً من ضمير الخطاب في » عليكم « ، والتقدير : لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم ، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة .
ونقل عنه أنه كان يقرأ : » إلاَّ على الذين « كأنه يكرر العامل في البدل على حَدْ قوله : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [ الأعراف : 75 ] .
وهذا عند جمهور البصريين ممتنع؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل ، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش ، وتأول غيره ما ورد من ذلك .
وأما قراءة ابن عباس ب » ألا « للاستفتاح ، ففي محل » الذين « حينئذ ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مبتدأ ، وخبره قوله : » فَلاَ تَخْشَوْهُمْ « ، وإنما دخلت » الفاء « في الخبر؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط ، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل : من يظلم الناس فلا تخشوهمن ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال ، أي : لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم .
الثاني : أن يكون منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش ، فإنه يجيز زيادة الفاء .
الثالث : نقله ابن عطية أن يكون منصوباً على الإغراء .
ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ : » إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا « وجعل » إلى « حرف جر متأولاً لذلك بأنها بمعنى » مع « ، والتقدير : لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين ، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه » إلا الذين « بتخفيف » إلاَ « فاعتقد ذلك فيها ، وله نظائر مذكورة عندهم .
و » فم « في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف ، ويحتمل أن تكون » من « للتبعيض ، وأن تكون للبيان .
فصل في الكلام على هذه الحجة
اعلم ان هذا الكلام يوهم حِجَاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القِبْلَةِ عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة .
وفي كيفية تلك الحجة روايات :
إحداها : أن اليهود قالوا : تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا .
وثانيها : قالوا : ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه؟
وثالثها : أن العرب قالوا : إنه كان يقول : أنا على دين إبراهيم ، والآن ترك التوجه إلى الكعبة ، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة ، فقد ترك دين إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فصارت هذه الوجوه وَسَائِلَ لهم إلى الطعن في شرعه عليه الصلاة والسلام ، إلاّ أن الله - تعالى - لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه المصلح في الدين؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح ، وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تمييز من اتبعه ب » مكة « ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة تغيرت المصلحة ، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة ، فلهذا قال الله تعالى : » لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل ، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى ، وهو قول بعض العرب : إن محمداً عليه الصلاة والسلام - عاد إلى ديننا في الكَعْبة وسيعود إلى ديننا بالكلية ، وكان التمسك بهذه الشبهة ، والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر ، وذلك ظلم [ للنفس ] على ما قال تعالى :
{ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] فلا جرم ، قال الله تعالى { فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَوْنِ } .
أي : لا تخشوا من يتعنّت ويجادل ، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم ، فإنهم يضرونكم ، واخشوني ، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم ، وفرضت عليكم .
و « الخَشْية » : أصلها : طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف و « الخوف » : فزع في القلب تخف له الأعضاء ، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفاً ، ومعه التحقير لك من سوى الله تعالى ، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى .
قال بعضهم : الخوف أوّل المراتب ، وهو الفزع ، ثم بعده الوَجَل ، ثم الخَشْية ، ثم الرَّهْبة ] .
قوله : « وَلأُتِمَّ » فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه معطوف على قوله : « لِئَلاَّ يَكُونَ » كأن المعنى : عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم ، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم ، ولإتمام النعمة ، فيكون التعريف معلّلاً بهاتين العلّتين :
[ إحداهما : لانقطاع حجّتهم عنه .
والثانية : لإتمام النعمة . وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون ، فلما حُوِّل - عليه الصلاة والسلام - إلى « بيت المقدس » لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يحب التحوّل إلى الكعبة ، لما فيها من شرف البُقْعة ، فهذا موضع النعمة ] ، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى .
الثاني : أنه معطوف على علّة محذوفة ، وكلاهما [ معلولها ] الخشية السابقة فكأنه قيل : واخشوني [ لأوفقكم ] ولأتم نعمتي عليكم .
الثالث : أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره : وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم « .
الرابع : وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها ، و « الواو » زائدة ، تقديره : واخشوني لأتم نعمتي .
وهذه لام « كي » و « أن » مضمرة بعدها ناصبة للمضارع ، فينسبك منهما مصر مجرور باللام وتقدم تحقيقه ، و « عليكم » فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب « أتمّ » .
الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أ ، ه حال من « نعمتي » ، أي : كائنة عليكم .
فإن قيل : إنه - تعالى - أنزل عند قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } ؟!
فالجواب : أنا قلنا تمام النعمة اللاَّئقة في كل وقت هو الذي خص به .
وعن عليّ رضي الله عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام .
وقوله : « لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » فيه سؤال ، وهو أن لَفْظَه التَّرَجِّي ، وهو في حق الله - تعالى - مُحَال؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه .
وأجيب عن ذلك بوجهين :
الأول : أن الترجي في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي : بإتمام النعمة ترجون الثَّواب والاهتداء إلى دلائل التوحيد .
الثاني : قال بعض المفسرين : كل لفظ « لعلّ » في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب منه حاجة وأراد ذلك قضاها ، فنقول لطالب الحاجة : لعلّ حاجتك تقضى .
والاهتداء يطلق ، ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] الآية ، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق .
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
قوله تعالى : « كَمَآ أَرْسَلْنَا » : الكاف من قوله : « كما » فيها قولان :
أظهرها : أنها للتشبيه .
والثاني : أنها للتعليل ، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف .
واختفوا في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه :
أحدها : أنها متعلقة بقوله : « ولأتم » تقديره : ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام الرسول فيكم ، ومتعلّق الإتمامين مختلف ، فالأول بالثواب في الآخرة ، والثاني بإرسال الرسول في الدنيا ، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أَمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 138 ]
والثاني بإجابة الدعوى الثانية في قوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] [ قاله ابن جرير ] ، ورجحه مكي؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى : ولأتم نعمتي عليكم ببيانه ملة أبيكم إبراهيم ، كما أجبنا دعوته فيكم ، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم .
والثاني : أنها متعلّقة ب « تهتدون » ، تقديره : يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً ، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي : اهتداء متحققاً كتحقيق إرسالنا .
الثالث : وهو قول أبي مسلم : أنها متعلقة بقوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] ، أي : جعلاً مثل إرسالنا .
وهذا بعيد داً؛ لطول الفصل المؤذن بالانقطاع .
الرابع : أنها متعلقة بما بعدها وهو « اذكروني » [ قال مجاهد وعطاء والكلبي : وروي عن علي رضي الله عنه ، واختاره الزَّجاج : كما أرلنا فيكم رسولاً تعرفونه بالمصدق فاكروني بالتوحيد والتصديق به ، وعلى هذا فالوقف على « تهتدون » جائز ] .
قال الزمخشري : كما ذكرتكم بإرسال الرسل ، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب ، فيكون على تقدير مصدر محذوف ، وعلى تقدير مضاف أي : اذكروني ذكراً من ذكرنا لكم بالإرسال ، ثم صار : مثل ذكر إرسالنا ، ثم حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وهذا كما تقول : كما أتاك فلان فإنه يكرمك ، و « الفاء » غير مانعة من ذلك .
قال أبو البقاء : « كما » لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها .
وقد ردّ مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه و « اذكروني » قد أجيب بقوله : « أذكركم » فلا يتعلق به ما قبله .
قال : ولا يجوز ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين ، نحو : إذا أتاك فلان فأكرمه تَرْضَهْ ، فيكون « كما » ، و « فأذكركم » جوابين للأمر ، والاول أفصح وأشهر ، وتقول : « كما أحسنت إليك فأكرمني » فيصح أن تجعل الكاف متعلقة ب « أكرمني » إذ لا جواب له .
وهذا الشرط منعه مكّي قال أبو حيان : « لا نعلم خلافاً في جوازه » .
وأما قوله : إلا أن يشبه بالشرط ، وجعله « كما » جواباً للأمر ، فليس بتشبيه صحيح ، ولا يتعقل ، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب .
قال أبو حيان : وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء ، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها . انتهى .
وقد تقدم [ قول ] أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك .
الخامس : أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من « نعمتي » والتقدير : ولأتم نعمتي مُشبِهَةً إرسالنا فيكم رسولاً ، أي : مشبهة نعمة الإرْسَال ، فيكون على حذف مضاف . [ وقال مكي : في « إعراب المشكل » : فإن شئت جعلت « الكاف » في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في « عليكم » ] .
وأما على القول بأنها للتعليل ، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله : « فاذكروني » أي : اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولاً ، وكون « الكاف » للتعليل واضح ، وجعل بعضهم منه : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وقول الآخر : [ الراجز ]
845 - لاَ تَشْتُمِ النَّاس كَمَا لاَ تُشْتَم ... أي : لا تَشتم لامتناع النَّاس من شَتمك .
وفي « ما » المتّصلة بهذه « الكاف » ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها مصدرية ، وقد تقدم تحريره .
والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائد محذوف ، و « رسولاً » بدل منه ، والتقدير : كالذي أرسلناه رسولاً ، وهذا بعيد جداً .
وأيضاً فإن فيه قوع « ما » على آحاد العقلاء ، وهو قول مرجوح .
الثالث : أنها كافة « للكاف » كهي في قوله : [ الوافر ]
846 - لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدِ ... كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الحَلِيمُ
ولا حاجة إلى هذا ، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاّ حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر ، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم .
و « منكم » في محلّ نصب؛ لأنه صفة ل « رسولاً » ، وكذلك ما بعده من الجمل ، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالاً لتخصيص النكرة بوصفها بقوله : « منكم » ، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث ، وهو مقصود هاهنا ، بخلاف كون « منهم » ، فإنه وصف ثابت له ، [ وقوله : « فيكم » و « منكم » ، أي : من العرب ، وفي إرساله فيهم رسولاً ، ومنهم نِعَمٌ عليهم عظيمة؛ لما لهم فيه من الشَّرَفِ ، وأن المشهور من حال العرب الأَنَفَةُ الشديدة من الانقياد إلى الغير ، فبعثه الله - تعالى - من واسطتهم ليقرب قبولهم .
وقوله : « يَتْلُو عَلَيْكُمْ » فيه نِعَمٌ عليكم عظيمة؛ لأنه معجزة باقية تتأذى به العبادات ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة .
واعلم أنه إن كان المراد بالآيات القرآن ، فالتلاوة فيه ظاهرة .
وإن كان المراد بالآيات المعجزات ، فمعنى التلاوة لها تتابعها؛ لأنَّ الأصل في التلاوة التتابع ، يقال : جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً أي بعضهم إثْرَ بعض ] ، وهنا قدم التزكية على التعليم ، وفي دعاء إبراهيم بالعكس .
والفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر ، وكذلك فسروه .
وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها . [ وقال الحسن : « يزكّيكم » يعلّمكم ما إذا تمسّكتم به صرتم أزكياء .
وقال أبو مسلم : « التزكية » عبارة عن التَّنمية ، كأنه قال : يكثركم؛ كقوله تعالى { إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } [ الأعراف : 86 ] ، وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا ] .
وقوله : { يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } بعد قوله : { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } باب ذكر العام بعد الخاص ، وهو قليل بخلاف عكسه . [ وقوله عز وجل : { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب } بعد قوله : { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم .
وأما الحكمة فهي العلم بسائر الشرائع التي لم يشتمل القرآن على تفصيلها .
وقال الشافعي رضي الله عنه : الحكمة هي سُنّة الرسول صلوات الله وسلامه عليه .
وفي قوله تعالى : { وَيَعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } تَنْبِيهٌ على انه - تعالى - أرسله على حين فَتْرَةٍ من الرسل ، وجهالة الأمم ] .
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
اعلم أن الله - تعالى - كلفنا في هذه الآي بأمرين : الذكر ، والشكر .
أما الذكر فقد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح .
فذكر اللسان الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتابه .
وذكر القلب التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ، والتفكر في الجواب على الشبهة العارضة في تلك الدلائل ، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا كيفية التَّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم ، والتفكر في أسرار مخلوقاته .
وأما الذكر بالجوارح ، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها ، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكراً ، بقوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] فقوله : « اذْكُرُوني » يتضمن الطاعات ، ولهذا روي عن سيعد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه .
فصل في وروده الذكر في القرآن
الذكر ورد على ثمانية أوجه :
الأول : بمعنى الطاعة كهذه الآية أي : أطيعوني أغفر لكم .
الثاني : العمل ، قال تعالى : { خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ } [ البقرة : 63 ] أي : اعملوا بما فيه .
الثالث : العِظَة ، قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] أي العِظَة ، ومثله { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } [ الأنعام : 44 ] أي : ما وعظوا به .
الرابع : الشَّرف قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] ومثله : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } [ المؤمنين : 71 ] أي : بشرفهم ، وقوله : { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } [ الأنبياء : 24 ] أي : شرف .
الخامس : القرآن قال تعالى : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] أي : القرآن ، ومثله : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } [ الأنبياء : 50 ] .
السادس : التوراة قال تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } [ النحل : 43 ] أي : التوراة .
السابع : البيان ، قال تعالى : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 63 ] .
الثامن : الصلاة ، قال تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] .
قوله : « أَذْكُرْكُمْ » هذا خطاب لأهل « مكة » والعرب .
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي .
وقيل : اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء .
بيانه قوله سبحانه وتعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143 - 144 ] .
وقيل : اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة .
قال تبارك وتعالى : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قاله أبو مسلم .
وقيل : اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، وقيل : اذكروني بمَحَامدي أذكركم بهدَايتي .
روى الحسن عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله - تَعَالَى - يقول : يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي ، وَإنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإنْ دَنَوْتَ مِنِّ شِبْراً دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعاً ، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعاً دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعاً ، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ ، وإِنْ هَرْوَلْتَ إِلَيَّ سَعَيْتُ إِلَيْكَ ، وإِنْ سَأَلْتَنِي أَعْطَيْتُكَ ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْنِي غَضِبْتُ عَلَيْكَ »
وقال أبو عثمان النهدي : إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها .
قيل : ومن أين تعلمها؟ قال : اتقوا الله عز وجل : { فَاذْكُرُونِي أّذْكُرْكُمْ } .
قوله : { واشكروا لِي } .
تقدم أن « شَكَر » يتعدّى تارة بنفسه ، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح .
وقال بعضهم : إذا قلت : شكرت لزيد ، فمعناه شكرت لزيد صَنِيْعَهُ ، فجعلوه متعدياً لاثنين .
أحدهما : بنفسه ، والآخر بحرف الجر ، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله : « واشكروا لي ما أنعمت به عليكم » .
وقال ابن عطية : « واشكروا لي ، واشكروني بمعنى واحد » .
و « لي » أفصح وأشهر مع الشّكر ، ومعناه : نعمتي وَأَيَادِيَّ ، وكذلك إذا قلت شكرتك . فالمعنى شكرت لك صنيعك وذكرته ، فحذف المضاف؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد ، وذكر مُسْدِيها معاً ، فما حذف من ذلك ، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف .
وأصل الشكر في اللغة : الظهور ، فشكر العبد لله - تعالى - ثناؤه عليه بذكر إحسانه ، وشكر الله سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له ، إلا أن شكر العبد نُطق باللسان ، وإقْرَار بالقلب بإنعام الرب .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَكْفُرُونِ } نهي ولذلك حذفتع منه نون الجماعة ، وهذه نون المتكلم ، وحذفت الياءح أنها رأس آية إثباتها أحسن في غير القرآن ، أي : لا تكفروا نعمتي ، فالكفر هنا سَتْر النعمة لا التكذيب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
أعلم أنه - تعالى - لما أوجب بقوله « فاذكروني » جميع العبادات ، وبقوله : { واشكروا لِي } ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما ، فقال : { استعينوا بالصبر والصلاة } وإنما خصّهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات .
أما الصبر فهو قَهْر النفس على احتمال المَكَاره في ذات الله - تعالى - وتوطينها على تحمُّل المشاقّ ، ومن كان كذلك سهل عليه فعل الطاعات ، وتحمل مشاق العبادات ، وتجنّب المحظورات .
وأما الصلاة فلقوله تعالى : { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ النعكبوت : 45 ] .
ومن الناس من حمل الصبر على الصوم .
ومنهم من حمله على الجهاد ، لقوله تعالى بعده : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } [ البقرة : 154 ] ولأنه - تعالى - أمره بالتثبت في الجهاد ، فقال تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } [ الأنفال : 45 ] وبالتثبُّت في الصلاة وفي الدعاء ، فقال تعالى : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ آل عمران : 147 ] .
فصل في أقسام الصبر وذكر الاستعانة
والقول الأول أولى لعموم اللفظ وعدم تقيّده الاستعانة ، ذكر الاستعانة بالصلاة ولم يذكر فيماذا يُسْتعان .
فظاهره يدل على أن الاستعانة في كل الأمور ، وذكر الصبر ، وهو ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : الصبر على الطاعات .
والثاني : الصبر على الشدائد فهو يشملها وتقدم الكلام على المراد بالصلاة .
قوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } .
فالمعيّة على قسمين :
أحدهما : معيّة عامة ، وهي المعيذة بالعلم والقدرة ، وهذه عامة في حق كل أحد .
والثاني : معيّة خاصة وهي المعيّة بالعَوْن والنصر ، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين ، ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] وقال هاهنا : { إِنَّ الله مَعَ الصابرين } أي : بالعون والصبر .
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت الآية في قَتْلِى « بدر » ، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة شعر رجلاً : ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار .
فمن المهاجرين : عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب ، وعمر بن أبي وقاص ، وذو الشمالين ، وعمرو بن نفيلة ، وعامر بن بكر ، ومهجع بن عبد الله ، ومن الأنصار : سعيد بن خيثمة ، وقيس بن عبد المنذر ، وزيد بن الحرث ، وتميم بن الهمام ، ورافع بن المعلى ، وحارثة بن سراقة ، ومعوذ بن عفراء ، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون : مات فلان ومات فلان ، فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم : إنهم ماتوا . وقال بعضهم : إن الكفار والمنافقين قالوا : إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمَرْضَاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية .
فصل في المراد بحياء الشهداء
اختلفوا في هذه الحياة .
فقال أكثر المفسرين : إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم ، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهو في القبور .
فإن قيل : نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور ، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟
فالجواب : قال ابن الخطيب : أما عندما فالبنية ليست شرطاً في الحياة ، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف .
وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي ، ولا يعتبر بالأطراف .
ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا .
وقال الأصم : يعني لا تسمّوهم بالموتى ، وقولوا لهم : الشهداء الأحياء ، ويحتمل أن المشركين قالوا : هم أموات في الدين كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] فقال : ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون ، ولكن قولوا : هم أحياء في الدين ، ولكن لا يشعرون [ يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه عليه حيٌّ في الدين ] وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني : إن المشركين كانوا يقولون : إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - يقتلون أنفسهم ، ويخسرون حياتهم ، فيخرجون من الدنيا بلا فائدة ، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء . وهؤلاء الذين قالوا ذلك ، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد’ ، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم منكرين لنبوة محمد - عليه الصلاة والسلام - فلذلك قالوا هذا الكلام ، فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون : إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدّنيا ، ولكن اعلموا أنهم أحياء ، أي : سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة ، وتفسير قوله : « أحياء » بأنهم سيحيون غير بعيد ، قال الله تعالى :
{ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 13 - 14 ] ، وقال : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } [ الكهف : 29 ] .
وقال : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] وقال { افالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي جَنَّاتِ النعيم } [ الحج : 56 ] .
والقول الأول هو المشهور ويدل عليه وجوه :
أحدها : الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] ، [ والموتتان لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر ] وقال الله تعالى : { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } [ نوح : 25 ] و « الفاء » للتعقيب .
وقال : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً؛ لأن العذاب حقّ الله - تعالى - على العبد ، والثواب حق للعبد على الله تعالى .
وثانيها : أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ « معنى؛ لأن الخطاب للمؤمنين ، وقد [ كانوا يعلمون أنهم ماتوا على هدى وكون أنهم ] كانوا لا يعلمون؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة .
وثالثها : أن قوله تعالى : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } [ آل عمران : 170 ] دليل على حصول الحياة في البَرْزَخِ قبل البعث .
ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام » أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب القَبْرِ « وقوله : » القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النيران «
وخامسها : أنه لو كان المراد من قوله : » إنهم أحياء « أنهم سيحيون ، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة .
قال القرطبي : والشهداء أحياء كما قال الله تعالى : وليس معناه أنهم سيحيون ، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سَيَحْيَا .
ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى : { وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ } والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون .
وأجاب عنه أبو مسلم بأنه - تعالى - إنما خصهم بالذكر؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع ، ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } [ النساء : 69 ] فأرادهم بالذكر تعظيما .
قال ابن الخطيب : هذا الجواب ضعيف؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله - تعالى - ما خصهم بالذكر .
وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين ، إنما هي في الشهداء .
واحتج أبو مسلم بأنه - تعالى - ذكر هذه الآية في » آل عمران « فقال : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] وهذه العندية ليست بالمكان ، بل بالكون في الجنة ، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة .
وقال ابن الخطيب : لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة ، بل بإعلاء الدرجات ، وإيصال البشارات إليه ، وهو في القبر ، أو في موضع آخر .
وقال بعضهم : ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب ، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان .
[ قال الحسن : إن الشهداء هم أحياء عند الله - تعالى - تُعْرض أرزاقهم على أرواحهم ، فيصل إليهم الروح والفرج ، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية ، فيصل إليهم الوَجَعُ ] .
قوله تعالى : « أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } خبر مبتدأ محذوف أي : لا تقولوا : هم أموات ، وكذلك » أحياء « خبر مبتدأ محذوف أي : بل هم أحياء .
[ وقد راعى لفظ » من « مرة فأفرد في قوله : » يقتل « ، ومعناها أخرى ، فجمع في قوله : » أموات بل أحياء « ] و » اللام « هنا للعلة ، ولا تكون للتبليغ؛ لأنهم لم يُبَلِّغُوا الشهداء قوله هذا .
والجملة من قوله : » هم أموات « في محلّ نصب بالقول؛ لأنها محكية به .
وأما » بل هم أحياء « فيحتمل وجهين :
أحدهما : ألا يكون له محل من الإعراب ، بل هو إخبار من الله - تعالى - بأنهم أحياء ، ويرجحه قوله : { وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ } ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم .
والثاني : أن يكون محلّه النصب بقول محذوف تقديره ، بل قولوا : هم أحياء ، ولا يجوز أن ينتصب بالقول الأول لفساد المعنى ، وحذف مفعول » يشعرون « لفهم المعنى : أي بحياتهم ، والله أعلم .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
قال القفال [ رحمه الله : ] هذا متعلق بقوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] فإنما نبلوكم بالخَوْفِ وبكذا ، وفيه مسائِلُ .
فإن قيل : إنه تعالى قال : { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] والشكرُ يوجب المزيدّ ، لقوله : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] فكيف أردَفهُ بقوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف } ؟ .
[ قال ابن الخطيب ] : والجواب من وَجْهَيْنِ :
الأولُ : أنه - تعالى - أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن ، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر .
الثاني : أنه - تبارك وتعالى - أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر ، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ ، لينال [ الرجل ] درجةَ الشاكرين وَالصَّابِرينَ مَعاً ، فيكمل إيمانُهُ على ما قال عليه الصلاة والسلام : « الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ »
قال بعضَهم : الخطابُ لجميع أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم .
وقال عَطاءٌ والرَّبِيعُ بنُ أَنس : المرادُ بهذه المخاطبةِ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهِجْرة وهذا الابتلاءُ لإِظْهَارِ المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً ، ولم يَكُنْ عَالِماً به ، وقد يُطْلق الابتلاءُ على الأَمانةِ؛ كهذه الآية الكريمةِ ، والمعنى : وليصيبنكُم اللَّهُ بشيْءٍ من الخوف ، وقد تقدَّم الكلامُ فِيه ، في قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [ البقرة : 124 ] .
وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه :
أَحَدُهما : ليوطِّنُوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكُونُ ذلك أبعدَ لهم من الجَزَعِ ، وأَسْهَل عليهم بعد الورُود .
وثَانِيهَا : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المِحَن ، اشتَدَّ خَوْفُهم فيصير ذلك الخوفُ تَعْجِيلاً للابتلاءِن ، فيستحِقُّون به مزيدّ الثَّوابِ .
وثَالِثُهما : أن الكفارَ إذا شاهدوا محمداً وأصحَابَهُ مقِيمينَ على دينهم مُسْتقرّين عليه ، مع ما كانوا عليه منْ نِهَاية الضر والمِحْنَةِ والجُوع ، يَعْلَمُونَ أن القومَ إِنَّما اختاروا هذا الدِّينَ لقطْعِهم بصحّته ، فيدعُوهم ذلك إِلى مَزِيد التأمَّل في دَلاَئِله .
ومن المعلُوم الظَّاهِر أَنَّ التَّبَعَ إذا عَرَفُوا أن المتبوعَ في أَعْظَم المِحنَ بسبب المذهب الذي ينصرُه ، ثم رأوه مع ذلك مُصِرّاً على ذلك المذهب كان ذلَك أَدْعَى لهم إلى اتَّباعِه مما إذا رأوه مُرَفّه الحَالِ ، لا كُلْفة عليه في ذلك المذهب .
ورَابِعُهَا : أنه تعالى أخبر بوقوُع ذلك الابتلاءِ قَبْل وقُوعِه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه ، فكان ذلك إْباراً عن الغَيْب ، فكان معجزاً .
وخَامِسُها : أَنَّ من المُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعاً منه في المال ، وسعة الرزق ، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق؛ لأنَّ المنافِقَ إِذَا سَمِعَ ذلكن نَفَر منه ، وتركَ دِينَه ، فكانَ في هَذَا الاختبارِ هَذِهِ الفَائِدَةُ .
وسَادِسُها : أن إخلاص الإنسان حالة [ البلاء ، ورجوعه إلى باب الله تعالى ] أكثر من أخلاصه حال إقبال الدنيا عليه .
قوله تعالى : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ » هذا جواب قسم محذوف ، ومتى كان جوابه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً ، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا يُجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة ، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون ، وقد تقدم تحقق ذلك وما فيه من الخلاف .
[ قال القُرْطِبيُّ : وهذه « الوَاوُ » مفتوحَةٌ عِنْد سِيبَوَيْه؛ لالتِقَاءِ السّاكِنَين . وقال غيرُه : لَمَّا ضُمَّتَا إلى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الفِعْلُ مُضَارِعاً بمنزِلَةِ عَشَر ، والبَلاَءُ يَكُون حَسَناً وَيَكُونُ سَيِّئاً ، وأَصْلَهُ : المِحْنَةُ ، وقدم تقدَّمَ ] .
قوله تعالى : « بِشَيء » متعلق بقوله : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ » و « الباء » معناها الإلصاق ، وقراءة الجمهور على إفراد « شيء » ، ومعناها الدلالة على التقليل؛ إذ لوجمعه لاحتمل أن يكون ضرباً من كل واحد .
وقرأ الضحاك بن مزاحم : « بأشياء » على الجمع .
وقراءة الجمهول لا بد فيها من حذف تقديره : وبشيء من الجوع؛ وبشيء من النقص .
وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا .
وقوله : « مِنَ الْخَوْفِ » في مَحَلّ جَرِّ صفة لشيء ، فيتعلّق بمحذوف .
فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره
أعْلَم أَنَّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب ، فينقسم إلى موجود في الحال ، وإلى ما كان موجوداً في الماضي ، وإلى ما سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبل .
فإذا خَطَر بالبالِ [ وجود شيء ] فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً ، وإن كان مَوْجُوداً في الحَال يُسَمى ذوقاً ووجداً ، وإنما سمي وَجْداً؛ لأنها حالةٌ تجدها مِنْ نَفْسِك .
وإن خطر بالبالِ وُجُودُ شَيْءٍ في الاستقبال وغلب ذلك على القَلْبِ سُمِّيً انتظاراً وتوقّعاً .
فإن كان المنتظر مكروهاً يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً في القلب .
فصل في الفرق بين الخوْف والجُوع والنَّقْص
قال ابنُ عباسٍ رَضي الله عنهما : الخوفُ خوفُ العَدُوِّ والجُوع القَحْط ، والنقصُ مِنَ الأَمْوَالِ بالخُسْرَانِ والهَلاَكِ والأنفس بمعنى القتل .
وقيل : بالمرض والسبي .
وقال القفال رحمه الله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين ، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم ، وقد كان من الخوف وقعة « الأحزاب » ما كان ، قال الله تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ] .
وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى « المدينة » لقلّة أموالهم ، حتى أنه عليه الصلاة والسلام [ كان يشدّ الحجر على بطنه .
وروى أبو الهيثم من التّيهان أنه - عليه السلام ] - لما خرج التقى بأبي بكر قال مَا أَخْرَجَكَ؟ قال : الجُوعُ ، قال : أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ [ وأما نَقْصُ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ ، فقد يَحْصُلُ ذلك عند مُحَاربة العَدُوِّ ، بأَنْ ينفق مَالَهُ في الاسْتِعْدادِ والجهَادِ ، وقد يُقْتَلُ؛ فهناك يحصلُ النَّقْصُ في المال والنفس ] وقال اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [ التوبة : 41 ] وقد يحصلُ الجُوعُ في سفر الجِهَادِ عند فَنَاءِ الزَّادِ؛ قال الله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله } [ التوبة : 120 ] .
وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجَدْب ، وقد يكون بترك عِمَارة الضِّيَاع للاشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون ذلك بالإنْفَاق على من كان يَرِدُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوفود .
قال الشافعي رضي الله عنه : الخوف : خوف الله عز وجل ، والجوع : صيام شهر رَمَضان ، والنقص من الأموال : بالزكوات والصدقات ، ومن الأنفس بالأمراض ، ومن الثمرات ، موت الأولاد .
قولهُ تَعَالى : « وَنَقْصٍ » فِيه وَجْهان :
أَحدُهُما : أَنْ يكُونَ معطوفاً على « شَيْءٍ » ، والمعنى : بشيءٍ من الخَوْفِ وبنقص .
والثَّانِي : أن يكون مَعْطوفاً على الخَوْفِ ، أَيْ : شيءٌ من نقص الأموال .
والأول أَوْلَى؛ لاشتراكهما في التنكير .
قَوْلَهُ : « مِنَ الأَمْوَالِ » فيه خَمْسة أَوْجُه :
أَحدها : أَنْ يكونَ مُتعَلقاً ب « نقص » ؛ لأنه مصدر « نقص » ، وهو يتعدَّى إلى واحدٍ ، وقد حُذِف ، أَيْ : ونقص شيء مِنْ كَذا .
الثَّانِي ، أَنْ يَكُونَ في محلّ جَرٍّ صفة لذلك المحذوف ، فيتعلّق بمحذوف ، أي ونقص شيء كائن من كذا .
الثَّالِثُ : أَنْ يكونَ في محلِّ نَصْبٍ صفَةً لمفعول مَحْذُوفٍ نصب بهذا المصدر المنون ، والتقديرُ : ونقصُ شيء كَائِنٌ من كذا ، ذكره أَبُوا الْبَقَاء .
ويكونُ مَعنى « منْ » على هذين الوجهين التَّبْعِيضُ .
الرَّابعُ : أَنْ يكون في محل جرِّ صِفَةً ل « نَقص » ، فيتعلق بمحذوف أيضاً ، أَيْ : نقص كائن من كذا ، وتكونُ « مِنْ » لابتداء الغَايَةِ .
الخِامِسُ : أن تكون « مِنْ » زائدةً عن الأَخْفَشِ ، وحينئذ لا تعلّق لها بِشَيْءٍ .
قوله تعالى : « وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ » الخِطَابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولمن أتَى بَعْدَهُ من أمته ، أي : الصابرين على ابَلاَءِ والرَّزَايا ، أي بشرهم بالثواب على الصبر ، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر ، ولكن لاَ يكُون ذلك إلا بالصَّبْر عند الصَّدْمَة الأولى [ لقوله عليه الصلاةُ والسَّلامُ : « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى » ] أي الشاقة على النفس الذي يَعْظُمُ الثوابُ عليه ، إنما هو عند هُجُوم المُصيبة ومَرَارتها .
والصَّبْرُ صَبْرانِ؛ صَبْرٌ عن معصية الله تعالى فهذا مُجَاهِدٌ ، والصبرُ عَلَى طَاعَةِ الله فهذا عَابِدٌ .
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
في قوله : « الَّذِينَ » أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ .
أحدُها : أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين ، وهو الأَصُحّ .
الثَّانِي : أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ .
الثَّالِثُ : أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف ، أَيْ هُمُ الذينَ ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع ، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ .
الرَّابُعُ : أَنْ يَكُون مُبْتَدأً ، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ « إِذا » وَجَوابِهَا صلةٌ ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ } .
قولُه تعالى : { أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } .
والمصيبةُ : [ كُلُّ ما يُذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ ] ، يقالُ : أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً .
والمصيبةُ : وَاحِدُ المَصَائب .
والمَصُوبَةُ « بضم الصَّادِ » مِثْلُ المصيبَةِ .
وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب ، وأَصْلُهُ « الواو » ، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على « مصاوب » ، وهو الأصْلُ ، والمُصَابُ الإِصَابةُ ، قال الشاعر : [ الكامل ]
847 - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً ... أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ
وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ .
والمُصِيبَةُ : النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ ، وتستعمل في الشر .
قولهُ تعالى : « إِنَّا لِلَّهِ » إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول ، والأصلُ : إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من « إِنَّ » لا الأُولَى ، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها ، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ ، لا يُقالُ : إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً ، والمخففةُ لا تعمل على [ الأَفْصَح ] فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى ، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه ، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في « إن » وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ ، ومثله : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] { وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] .
فصل في الكلام على الآية .
قال بَعْضُهُم : « إِنَّا لِلَّهِ » إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ ، « وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ » إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك ، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على اللَّه مُحَال ، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه ، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً ، وما دَامُوا في الدنيا ، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللَّهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر ، فجعل اللَّهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى ، كما يُقالُ : إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة ، وترك المُنَازَعةِ .
وقال بعضهم : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ } في الآخرة .
[ رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قَالَ : « مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتُهُ ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ ، وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه »
وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقال : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ } .
فقال : « إنا لله وإنّا إليه راجعون » ، فقيل : مُصِيبَةٌ هِيَ؟ قال : « نَعَمْ ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ »
وقالت أُمُّ سَلَمَةَ : حدثني أَبُو سَلَمَةَ ، أنه عليه الصلاةُ والسلام قال : « مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، اللَّهُمَّ أُجْرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي ، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها » قالت : فملا توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ ، وقلتُ هذا القولَ ، فأخلف اللَّهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وشرف ، وكرم ، ومجد وبجل ، وعظم .
وقال ابنُ عَبَّاس : أخبر اللَّهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللَّهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ : الصَّلاة من الله ، والرحمة ، وتحقيق سبيل الهدى .
وقال ابنُ مَسْعُودٍ : لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللَّهُ : لَيْتَهُ لَمْ يَكُن ] .
قال أَبُو بَكْرٍ الرازي : اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل .
أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى ، والرِّضَا بِقَضَائِهِ ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه ، لا يصرف عنها مصائب الدنيا .
وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .
[ ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ .
منها : الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق .
ومنها : أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ ، وتقلّلُ حُزْنَه .
ومنها : تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ .
ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به .
ومنها : أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن ، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره ] .
فإن في إظهاره فوائد جزيلة :
مناه أن غيره يقتدي به إذا سمعه .
ومنها غبط الكفار ، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله ، والثبات عليه وعلى طاعته .
وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال : الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا ، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله ، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً .
قولهُ تعالى : « أُولَئِكَ » مبتدأٌ ، و « صَلَوَاتٌ » مبتدأٌ ثان ، و « عَلَيْهِمْ » خبرهُ مُقَدَّمٌ عليه ، والجملةُ خبر قوله : « أُولَئِكَ » .
ويجوز أن تكون « صلوات » فاعلاً بقوله : « عليهم » .
قال أبو البقاء : لأنه قد قوي بوقوعه خبراً .
والجملة من قوله « أولئك » وما بعده خبر « الذين » على أحد الأوجه المتقدمة ، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه .
و « قالوا » هو العامل في « إذا » ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟
قولهُ تعالى : « وَرَحْمَةٌ » عطف على الصلاة ، وإن كانت بمعناها ، فإن الصلاة من الله رحمة؛ لاختلف اللفظين كقوله : [ الوافر ]
848 - وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ... وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِباً وَمَيْنَا
وقوله : [ الطويل ]
849 - أَلاَ حَبَّذَا هِندُ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
قولُه تعالى : « مِنْ رَبِّهِمْ » فيه وَجْهَانِ :
أَحدُهما : أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صَفةٌ ل « صلوات » و « من » للابتداءِ ، فهو في مَحَلِّ رفع ، أيْ : صلوات كائنة مِنْ رَبِّهم .
والثَّانِي : أنه يتعلق بما تضمنه قولُه « عَلَيْهِمْ » من الفعل إذَا جعلناه رَافعاً ل « صلوات » رفع الفاعل ، فعلى الأول ، يكون قد حذف الصفة بعد « رَحْمة » أَيْ : ورحمة منه .
وعلى الثَّانِي : لاَ يَحْتَاجُ إلى ذلك .
وقولُه : « وأُولَئِكُ هُمْ الْمُهْتَدُونَ » نَظيرُ : { وأولئك هُمُ المفلحون } [ البقرة : 5 ] وفيه وجوهٌ :
أَحَدُهَا : أ ، هم هم المهتدون لهذه الطَّرِيقَةِ المُوصّلَةِ بصاحبها إلى كل خير .
وثَانِيهَا : المُهْتدُونَ إلى الجنَّةِ الفائزون بالثواب .
وثَالِثُها : المُهْتدُونَ لسائِر ما لزمهم .
فَصْلٌ في الكلام في الآية
قال أَبُوا الْبَقَاءِ : « هُمُ المُهْتَدُونَ » هُمْ : مُبْتَدأٌ أو توكيد أو فصل .
فإن قِيلَ : لِمَ أَفْرَدَ الرحْمَةَ وجَمَعَ الصَّلَواتِ؟
فالجوابُ : قال بعضُهم : إن الرحمَةَ مصدرٌ بمعنى التعطُّف والتحنُّن ، ولا يجمعُ و « التَّاءُ » فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّةِ والرأْفَةِ ، والرحمةُ ليست للتحذيرِ ، بل مَنْزِلتُها في مرية وثمرة ، فكما لا يُقالُ : رقات ولا خلات ولا رأفات ، ولا يُقال : رَحَمات ، ودخول الجمعُ يُشْعرُ بالتحذِيرِ والتقييد بعده ، والإفْرَادُ مُطْلقاً مِنْ غَيْر تَحْدِيدٍ ، فالإفْرَادُ - هنا - أَكْملُ وأكرُ مَعْنًى مع الجمع؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر مِنْ مدلولِ الجَمْعِ ، ولهذا كان قولُه تَعَالى : { فَلِلَّهِ الحجة البالغة } [ الأنعام : 149 ] أَعَمَّ وأَتَمَّ مَعْنًى مِنْ أَنْ يُقالَ : لِلَّهِ الحُجَجُ البَوالِغُ ، وكذا قولُه : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] أتمُّ مَعْنًى مِنْ أنْ يُقالَ : وإنْ تَعَدُّوا نِعَمَ الله لا تُحْصُوها ، وقولُه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] أتمُّ مَعْنًى مِنْ قوله : حَسَناتٍ ، وقولُه : { بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } [ آل عمران : 174 ] ، أتَمُّ معنى من قوله : بنعمٍ ، ونظائِرهُ كَثِيرةٌ .
وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثَّوَاب ، وهي إنما تحصل شيئاً بَعْدَ شَيْءٍ ، فكأنه دلّ على الصِّفَةِ المقصوُدَةِ .
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ .
أحدُهَا : أَنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى بَيَّنّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّل القبْلةَ إلى الكعبة؛ ليتُمَّ إِنْعامَه علَى محمَّد [ صلواتُ البَرِّ الرِّحيم وسلامُهُ علَيْه ] وأمّتِهِ بإِحْيَاءِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهيم - علَيه الصَّلاةُ والسلام - لقوله تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] ، وكان السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا والمَرْوَة مِنْ شَرِيعَة إِبْرَاهِيمَ [ علَيْه الصَّلاةُ والسَّلاَمُ ] فذكَرَ هذا الحُكْمَ عَقبَ تلْكَ الآيَةِ .
وقِيلَ : إنَّه تبارك وتَعالَى [ لَمَّا ] أَمَرَ بالذِّكْر مُطْلَقاً في قَوْله تعالى : « فَاذكرُونِي » بيّن الأَحوالَ الَّتي يذكر فيها وإحداها الذِّكْر مُطْلقاً .
والثَّانية : الذكْرُ في حَال النِّعْمَةِ ، وهو المرادُ بقوله تعالى : { واشكروا لِي } [ البقرة : 152 ] .
الثالثةُ : الذّكْر في حَال الضَّرَّاءِ ، فقال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع } [ البقرة : 155 ] إلى قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الصابرين } [ البقرة : 155 ] ثم بَيَّنَ في هذه الآيةِ المَوَاضِع الَّتِي يُذْكَرُ فيها ، ومِنْ جُمْلَتِها عنْد الصَّفَا والمَرْوَةِ ، وبَقِيَّة المشَاعِر .
وثانيها : أَنَّهُ لمّا قال سبْحَانه : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع } [ الآية ] إلى قوله سبحانَهُ : { وَبَشِّرِ الصابرين } ، ثم قَالَ [ عَزَّ وَجَلَّ ] : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ } ، وإنما جَعَلَهَا كذلك ، لأنَّها مِن أثار « هَاجَرَ ، وإسْمَاعِيل » ، وما جَرَى [ عليْهمَا ] من البَلْوَى ويُستَدَلُّ بِذلك عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى البَلْوَى ، لا بُدَّ وأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ .
وثالثها : أنَّ [ أقسام ] التَّكْليفِ ثَلاثَةٌ :
أحدها : ما يَحْكُمُ العاقلُ [ بِحُسْنِهِ ] في أَوْلِ الأَمْرِ ، فَذَكَرَهُ أَوَّلاً ، وهو قوله تعالى : { فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] ؛ فَإنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أنَّ ذِكْرَ المُنْعِمِ بالمَدْحِ ، والشُّكْرِ ، أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ .
وثانيها : ما يَحْكُمُ العَقْلُ [ بقُبْحِهِ ] في أوَّل الأَمْر ، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به ، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ ، [ وهي ] الابْتِلاءُ ، والامْتِحَانُ؛ عَلى ما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات } [ البقرة : 155 ] ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً .
[ وثالثها ] : ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ ، وَلاَ إلى [ قُبْحِه ] ، بَل [ يراها ] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ .
قوله [ تعالى ] : « إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ » : [ الصَّفَا : ] اسمُ « إنَّ » ، و « مِنْ شَعَائِر الله » خَبَرُهَا .
قال أبُوا البَقَاءِ - رحمه الله تعالى - : وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ ، تقديره « طَوَافُ الصَّفَا ، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا » . وألفُ « الصَّفَا » [ مُنْقَلِبَةٌ ] عن وَاوٍ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً؛ قالوا : صَفَوَانِ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو ، وهو الخُلُوصُ ، [ والصَّفَا : الحَجَرُ الأمْلَسُ ] .
وقال القُرْطُبِي : « والصَّفَا مقصورٌ » جمع صَفَاة ، وهي الحِجَارة المُلْسُ .
وقيل : الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ؛ وجمعه « صُفِيٌّ » - بِضَمِّ الصاد - [ وَأصْفَاء ] ؛ على [ وزن ] أَرْجَاء .
قال [ الرَّاجِزُ ] : [ الرجز ]
850 - كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
وقيل : مِنْ شُرُوط الصَّفَا : البَيَاضُ والصَّلاَبَةُ ، واشتقاقُهُ مِنْ : « صَفَا يَصْفُو » ، أيْ : [ أُخْلِصَ مِن ] التُّرابِ والطِّينِ ، والصَّفَا : الحَجَرُ الأَمْلَسُ .
وفي كتاب الخَلِيل : الصَّفَا : الحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الأَمْلَسُ ، وإذا [ نَعتُوا ] الصَّخْرةَ ، قالوا : صَفَاةٌ صَفْوَاءُ ، وإذَا ذَكَّرُوا ، قالوا : « صَفاً صَفْوَان » ، فجعلوا الصَّفَا [ والصَّفَاة ] كَأَنَّهما في معنى واحد .
قال المُبَرِّدُ : « الصَّفَا » : كُلُّ حَجَرٍ أَمْلَسَ لا يُخالِطُهُ غَيْرُهُ؛ مِنْ طِين أو تُرَابٍ ، وَيَتَّصِلُ به ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ تَاءُ التأنيث؛ نحْوُ : صَفاً كَثِيرٌ ، وَصَفَاةٌ وَاحِدَةٌ ، وقد يُجْمَعُ الصَّفَا على : فُعُولٍ ، وأَفْعَال؛ قالوا : صُفِيٌّن بِكَسْر الصاد ، وضَمِّها؛ كُعِصيٍّ ، [ وأصْفَاء ] ، والأصلُ صُفووٌ ، وأضْفَاوٌ ، وقُلِبَتِ الواوُ في « صُفُووٌ » يَاءَين ، والواوُ في « أَصْفَاء » هَمْزةً؛ ك « كِسَاء » وبابه ] .
والمَرْوَةُ : الحجارةُ الصِّغَارُ ، فقيل : اللَّيِّنَة .
وقال الخَلِيلُ : البيضُ الصُّلْبَة ، الشَّدِيدَةُ [ الصَّلاَبة ] .
وقِيل : المُرْهَفةُ الأَطْرافِ . وقِيل : البيضُ .
وَقِيلَ : السُّودُ . وهُمَا في الآية عَلَمَان لِجَبَلَينِ مَعْرُوفَيْنِ ، والألِفُ واللاَّمُ فيهما لِلْغَلَبَةِ؛ كهما في البيت ، والنَّجْم ، وجَمْعُها مَرْوٌ؛ كقوله [ في ذلك ] : [ الرمل ]
851 - وَتَرَى المَرْوَ إذَا ما هَجَّرَتْ ... عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ المُشْفَتِرْ
وقال بعضهم : جَمْعُه في القَليلِ : مَرَواتٌ ، وفي الكثير : مرو . قال أبو ذُؤَيْب : [ الكامل ]
852 - حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوِادِثِ مَرْوَةٌ ... [ بِصَفَا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَع ]
فصل في حد الصفا والمروة
قال الأَزْرَقِيّ : [ ذَرْعُ ] ما بَيْن الصَّفا والمَرْوَة : [ سَبْعمائة ذراع وسِتَّةٌ وَسِتُّون ذِرَاعاً ] وَنِصْفُ ذِرَاع .
قال القُرْطُبِيُّ : وَذَكَرَ الصَّفَا؛ لأنَّ آدَمَ [ المُصْطَفى - [ صلواتُ الله ، وسلامه عليه ] - وَقَفَ عَلَيْهِ ، فسُمِّيَ به؛ وَوَقَفَتْ حضوَّاءُ عَلَى المَرْوَةِ ، فَسُمِّيَتْ بِاسم المَرْأة ، فأنثت لذلك ، والله أعلم ] .
قَالَ الشَّعْبِيُّ : كان عَلَى الصَّفَا صنمٌ يُدْعَى « إسَافاً » ، وعلى المَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ ، فاطّرد ذلك في [ التذكير والتأنيث ] ، وقُدّم المُذَكَّرُ ، وما كان كَرَاهةُ مَنْ كَرِهَ الطَّوَافَ بينهما إلاَّ مِنْ أَجْلِ هذا ، حتَّى رفع الله الحَرَجَ من ذلك ، وزعَمَ أَهْلُ الكِتَابِ : أَنَّهما كانا آدميّين زنيا في الكَعْبَة ، فمسَخَهُما اللَّهُ حَجَرَين ، فوضَعَهُما على الصَّفَا ، والمَرْوَة؛ ليُعتبر بهما؛ فلمَّا طالبت المُدَّةُ ، عُبدا مِن دُون الله ، والله - تعالى - أعلم .
فصل في معنى « الشعائر »
و « الشَّعَائرُ » : جَمْهُ شَعِيرَةٍ ، وهي العلامة ، فَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَماً مِنْ أعلام طاعةِ الله ، فهو من شَعَائِر الله تعالى . قال تبارك وتعالى : { والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله } [ الحج : 36 ] ، أي : عَلامَةً [ للقُرْبَةٍ ، ومنه : إشعارُ السَّنَام [ وَهُو أن تُعْلَمَ بالمُدْيَة ] وَمِنْهُ : الشِّعارُ في الحَرْب ، [ وهي العلامةُ الَّتي يتبيَّن بها إحدى الفئَتَين من الأخْرَى ] ومنه قولُهُمْ : شَعَرْتُ بِكَذَا ، أي : عَلِمْتُ به ، وقيل : الشَّعَائِرُ جمع [ شَعِيرَةٍ ] ، والمرادُ بها في الآية الكريمة مَنَاسِكُ الحَجِّ ، ونقل الجَوْهَرِيُّ أنَّ الشَّعَائِرَ هي العباداتُ ، والمَشَاعِرَ أماكنُ العبَادَاتِ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّعَائِرِ وَالمَشَاعِرِ .
وقال الهَرَوِيٌّ : الأجْوَدُ : لا فَرْقَ بينهما ، والأَجْوَدُ شَعَائرُ بالهَمْز؛ لزيادة حَرْفِ المَدِّ ، وهو عكسُ « مَعَايش » و « مصايب » .
فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات
الشَّعَائِرُ : إمَّا أنْ نَحْمِلَهَا على العبادات ، أو النُّسُك ، أو نَحْمِلَهَا على مَوْضِع العبادات والنُّسُكِ؟!
[ فإن قُلْنَا بالأَوَّلِ ، حَصَلَ في الكَلاَم حَذْفٌ؛ لأنَّ نَفْسَ الجَبَلين لا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بأنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ؛ فالمرادُ بِهِ أنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا أو السَّعْيَ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى .
وإنْ قُلنا بالثاني : اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الكلام؛ لأنَّ هَذَين الجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَةِ والنُّسُكِ ] .
وكيف كان؛ فالسَّعْيُ بينهما من شعائر الله ، ومن أعلام دِينهِ ، وقد شَرَعَهُ الله [ تَعَالى ] لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - [ لإبْرَاهِيمَ عليه الصلاة والسلام ] ، قبل ذلك ، وهو من المَنَاسِكِ الَّتي عَلَّمها الله [ تَعَالى ] لإبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسلام - إجابةً لِدَعْوَتِهِ في [ قولِهِ تَعَالى ] : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } [ البقرة : 128 ] . وَاعْلَمْ أنَّ [ السَّعْيَ ليْسَ ] عبادَةٌ تامَّةٌ في نَفْسِهِ ، بل إنما يَصِيرُ عبادة إذا صار بعضهاً من أبْعاضِ الحجِّ والعُمْرَةِ ، فلهذا بَيَّنَ الله تبارك وتعالى المَوْضِعَ الَّذِي يَصِيرُ فيه السَّعْيُ عبادةً ، فقال [ سبحانه ] : { فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
والحكمةُ في شَرْعِ هذا السّعي : ما حُكِيَ أن هَاجَرَ حينَ ضاق بها الأَمْرُ في عَطَشها ، وعطشِ ابْنها إسْمَاعيلَ ، سَعَتْ في هذا المكانِ إلى أن صَعِدَتِ الجَبَلَ ، ودَعَتْ ، فأَنْبَعَ اللَّه لَهَا زَمْزَمَ ، وأجاب دُعَاءَها ، وجعل فِعْلَها طاعةً لجميع المكلَّفين إلى يَوْم القيَامَة .
قوله [ تعالَى ] : « فَمنْ حَجَّ البَيْتَ » .
« مَنْ » : شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء و « حَجَّ » : في مَوْضِع جزمٍ بالشرط و [ البيت « نصبٌ على المفعول به ، لا على الظَّرْف ، والجوابُ قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ } .
و » الحَجُّ « : قال القَفَّال - رحمه الله - فِيه أَقْوَالٌ :
أحدها : أنَّ الحَجَّ في اللغةِ كَثْرَةُ الاخْتِلافِ إلى الشَّيءِ والتردُّد إليه ، فإنَّ الحاجَّ يأتيه أوّلاً؛ لِيَزُورَهُ ، ثُمَّ يعودُ إلَيْه للطَّوَاف ، ثم ينصرفُ إلى مِنَى ، ثم يَعُودُ إليه؛ لطَوَافِ الزِّيارة ، [ ثم يَعُودُ لطَوافِ الصَّدر ] .
وثانيها : قال قُطْرُبٌ [ الحَجُّ ] الحَلْقُ ، يقال : احْجُجْ شَجَّتَكَ ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشَّجَّة؛ ليدخل القدحُ في الشَّجَّة .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
853 - وَأشْهَد مِنْ عوفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا
» السِّبُّ « : لفظٌ مشتَرَكٌ ، قال أبُو عُبَيْدَةَ : السِّبُ ، بالكَسْرِ : السِّبَابُ ، وَسِبُّكَ أيضاً : الذي يُسَابُّكَ؛ قال الشاعر : [ الخفيف ]
854 - لاَ تَسُبَّنَّني فَلَسْتَ بِسِبِّي ... [ إنَّ سِبِّي ] مِنَ الرِّجَالِ الكَرِيم
والسِّبُّ أيضاً : الخِمَارُ والعِمَامَةُ .
قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ : [ الطويل ]
855 - ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا
والسِّبُّ أيضاً : الحَبْلُ في لغة هُذَيل؛ قال أبُو ذُؤَيْبٍ : [ الطويل ]
856 - تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ... بِجَرْدَاءَ مِثْل الوكْفِ يَكْبُوا غُرابُهَا
وبُ : الحِبَالُ ، والسِّبُّ : شُقّة كتان رقية والسُّبية مثله ، والجَمْعُ : السُّبُوب والسَّبَائب ، قال الجَوْهَرِيُّ؛ فيكون المَعنَى : حَجَّ فلانٌ ، أي : حَلَّقَ .
قال القَفَّالُ - رحِمَهُ الله تعالى - : وهذا مُحْتَملٌ؛ كقوله تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } [ الفتح : 27 ] ، أي : حُجَّاجاً وعُمَّاراً؛ فَعَبَّرَ عَنْ ذلك بالحَلْق ، فلا يَبْعُدُ أن يكون الحَجُّ مُسَمَّى بهذا الاسمِ لمعنى الحَلْقِ .
وثالثها : الحَجُّ : القَصْدُ .
ورابعها : الحَجُّ في اللغة : القَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى .
قال الشاعر : [ البسيط ]
857 - يَحُجَّ مَأْمُومَةً في قَعْرِهَا لَجَفٌ .. . .
اللَّجَفُ : الخَسْفُ أسْفَلَ البئرِ ، نقله القُرْطُبيُّ .
يُقَالُ : رَجُلٌّ مَحْجُوجٌ ، أي : مَقْصُودٌ ، بمعنى : أنَّه يُخْتَلَفُ إِلَيْه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى .
قال الراغبُ : [ الرجز ]
858 - لِرَاهِبٍ يَحُجُّ بَيْتَ المَقْدِسِ ... في مِنْقَلٍ وَبُرْجُدٍ وَبُرْنُسِ
وكذلك مَحَجَّةُ الطَّريقِ : وهي التي كَثُر فيها السَّيْرُ ، وهذا شَبِيهٌ بالقَوْل الأوَّل .
قال القَفَّالُ : « والأول أشْبَهُ بالصَّوَاب » .
والاعْتِمَارُ : الزِّيَارَةُ .
وقِيلَ : مُطْلَقُ القَصْدِ ، ثم صارا عَلَمَين بالغَلَبَةِ في المعاني؛ كالَبْبيت [ والنَّجْم ] في الأعيان .
وقال قُطْرُبٌ : العُمْرَةُ في لُغَةِ [ عَبْد ] القَيْسِ : المَسْجِدُ والبِيعَةَ والكَنِيسَةُ .
قال القَفَّالُ : والأشْبَهُ بالعُمَرَةِ إذا أُضِيفَتْ إلى البيت أن تَكُون بمعنى الزِّيَارةِ؛ لأنَّ المُعْتَمِرَ يَطُوف بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، ثم ينصرف كالزَّائر .
قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ ] الظاهرُ : أنَّ « عَلَيْه » خَبَرُ « لاَ » ن و « أن يَطَّوَّفَ » : أَصْلُهُ [ « في أنْ يَطَّوَّفَ » ] ، فحذف حَرْفَ الجَرِّ ، فيَجيءُ في محلِّها القولان النصبُ ، أو الجَرُّ ، والوقْفُ في هذا الوجه على قوله « بهما » ، وأجازوا بَعْدَ ذلك أوجُهاً ضَعِيفةً .
منها : انْ يَكُونُ الكلامُ قَدْ تَمَّ عند قوله : « فَلاَ جُنَاحَ » ؛ على أن يكون خبر « لا » محذوفاً ، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ « فلا جناح في الحج » ، ويُبْتَدأُ بقوله « عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوفَ » فيكون « عَلَيْهِ » خبراً مقدماً وان يطوف في تأويل مصْدرٍ مَرْفُوعٍ بالابْتِدَاء؛ فإنَّ الطوافَ وَاجبٌ .
قَالَ أبُو البَقَاءِ - رحمه الله - : والجيدُ أَنْ يَكُونَ « عَلَيْهِ » في هذا الوجه خَبَراً ، و « أَنْ يَطَّوَّفَ » مُبْتَدأ .
وَمِنْهَا : « أَنْ يكُون » عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ « مِنْ بِابِ الإِغْرِاء؛ فيكونَ » أَنْ يَطَّوَّفَ « في محلْ النصْب؛ كقولك : » عَلَيْكَ زَيْداً « أي : » الْزَمْهُ « ، إلاَّ أنَّ إغرار الغَائِب ضَعِيفٌ ، حكى سيبَوَيْهِ : » عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي « قال : وهو شاذٌ .
ومنها : أنَّ » أنْ يَطَّوَّفَ « في مَحَلَّ رفع خبراً ثانياً ل » لا « ، [ والتقديرُ : فَلاَ جُنَاحَ عليه في الطَّوَاف بِهِمَا .
ومنها : » أنْ يَطَّوَّفَ « : في محلّ نصبٍ على الحال من الهَاءِ في » عَلَيْهِ « ، والعامل في الحالِ العَامِلُ في الخَبَرِ ] .
والتقديرُ : { فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ في حالِ طَوَافِهِ بهما } وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهُما تنبيهاً على غلطهما .
وقراءةُ الجمهور : « أنَّ يَطَّوَّفَ » بغير « لا » وقرأ أنس ، وابن عباس - رضي الله عنهما - وابنُ سيرين ، وشهر بن حوشب : « أنْ لاَ يَطَّوَّفَ » ، قَالُوا : وكذلك في مُصْحَفَيْ أَبَيٍّ ، وعبد الله ، وفي هذه القراءة احتمالان :
أحدهما : أنها زائدةٌ؛ كهي في قوله : { أَلاَ تَسْجُدَ } أعراف : 12 ] ، وقوله [ الرجز ]
859 - وَمَا أُلُومُ البِيضَ أَلاَّ تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا
وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتَينِ .
والثَّاني : أنَّها غيرُ زائدةٍ : بمعنى : أنَّ رفع الجُنَاح في فعل الشيء ، وهو رفعٌ في تركه؛ إذ هو تمييزٌ بَيْنَ الفعلِ والتَّرْك؛ نحو : « فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا » فتكون قراءة الجُمْهُور فيها رفعُ الجُنَاحِ في فِعْلِ الطَّوافِ نَصًّا ، وفي هذِهِ رَفْعُ الجُنَاح في التَّرك نصًّا ، والجُنَاحُ : أصْلُه من المَيْل؛ من قولهم : جَنَحَ إلى كذا ، أي : مال إليه؛ قال سبحانه وتعالى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] وجَنَحَتِ السَّفينةُ : إذَا لَزِمَت المَاءَ ، فلم تَمْضِ .
وقيل للأضْلاَعِ ، « جَوَانِحُ » ؛ لاعوجَاجِها ، وجَنَاحُ الطَّائِر مِن هذا؛ لأنَّه يَمِيلُ في أَحَدِ شِقَّيْهِ ، ولا يطيرُ على مستوى خلقته .
قال بعضهم : وكذلك أيضاً عُرْفُ القرآنِ الكَرِيمِ ، فمعناه : لا جُنَاحَ عليه : أي : لا مَيْلَ لأَحدٍ عليه بمطالبَةِ شَيءٍ من الأشياء .
ومنهم من قال : بَلْ هو مختصٌّ بالمَيْل إلى البَاطلِ ، وإل ما يؤْلَمُ به .
و « أنْ يَطَّوَّفَ » أي : « يَتَطَوَّفَ » ، فأُدْغِمَت التَّاءُ في الطاء؛ كقوله : { ياأيها المزمل } [ المزمل : 1 ] ، { ياأيها المدثر } [ المدثر : 1 ] ويقال : طَافَ ، وأَطَافَ : بمعنىَ واحدس .
وقرأ الجُمْهُور « يَطَّوَّفَ » بتشديد الطاء ، والواو ، والأصل « يَتَطَوَّفَ » ، وماضيه كان أًله « تَطَوَّفَ » ، فلما أرد الإدغام تخفيفاً ، قُلِبَتِ التاء طاء ، وأُدْغِمَتْ في الطاء ، فاحتيجَ إلى هَمزةِ وصْلٍ؛ لِسُكُونِ أوَّله؛ لأجل الإدغامن فأتى بها فجاء مضارعُهُ عليه « يَطَّوَّفَ » ، فانحذفت همزة الوصل؛ لتحصُّنِ الحرفِ المُدْغَم بحرف المضارعة ومصْدَره على « التَّطَوُّف » ؛ رجوعاً إلى أصل « تَطَوَّفَ » . وقرأ أبو السَّمَّال : « يَطُوفَ » مخفَّفاً من : طَافَ يَطُوفُ ، وهي سهل ، وقرأ ابن عباس : « يَطَّافَ » بتشديد الطاء ، [ مع الألِفِ ، وأصله « يَطتَوف » على وزن « يَفْتَعِل » ، وماضيه على « اطْتَوَف » افْتَعَلَ ، تحرَّكَتِ الواوُ ، وانفتح ما قبلها ، فقلبت ألفاً ، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء؛ فوجب قلبها طاء ، وإدغام الطاء ] فيها؛ كما قالوا : اطَّلَبَ يَطَّلِبُ ، والأصل : « اطْتَلَبَ ، يَطْتَلِبُ » ، فصار « اطَّافَ » ، وجاء مضارعُهُ عيله : « يَطَّافُ » هذا هو تصريفُ هذه اللفْظَة من كون تاء الافْتِعَالِ تُقَلَبُ طاءَ ، وتُدْغَمُ فيها الطاءُ الأولى .
وقال ابن عَطِيَّة : فجاء « يَطْتَافُ » أُدْغِمَتِ [ التاءُ بعد الإسكان في الطاء على مَذْهَبِ مَنْ أجاز إدْغَام الثَّاني ] في الأوَّل ، كما جاء في « مُدَّكِرٍ » ومن لم يُجِزْ ذَلِكَ ، قال : قُلِبَتِ التاءُ طاءً ، ثم أدغمت الطاء في الظَّاء ، وفي هذا نَظَرٌ ، لأنَّ الأصْلِيَّ أُدْغِمَ في الزائدِ ، وذلك ضعيفٌ . وقول ابنِ عَطيَّة فيه خطأٌ من وجهين :
أحدهما : كونُهُ يَدَّعِي إدْغَامَ الثَّاني في الأوَّل ، وذلك لا نَظِيرَ له ، إنَّمَا يُدْغَمْ الأَوَّل في الثَّاني .
والثاني : قوله : كَمَا جَاءَ في « مُدَّكر » ؛ لأنَّه كان يَنْبَغِي على قوله : أن يُقَالَ : « مُذَّكر » بالذَّال المُعَجَمة ، لا الدَّال المهملة [ وهذه لغةَ رَدِيئةٌ ، إنَّما اللُّغة الجيِّدة بالمهملة؛ لأنَّا قَلَبْنَا تَاءَ الافتعالِ بَعَدَ الذَّال المعجمةِ دَالاً مهملةً ] ، فاجتمع متقاربَان ، فقلَبْنَا أوَّلَهُما لجنْسِ الثَّاني ، وأدغَمْنَا ، وسيأتي تحقيقُ ذلك .
ومصدر « أطَّافَ » على « الأطِّيَافِ » بوزن « الافْتِعَالِ » ، والأصلُ « اطِّوَافِ » فكسر ما قبل الواو ، فقُلِبَتْ ياءً ، وإنَّمَا عادَتِ الواوُ إلى أصْلها؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبها ألفاً؛ ويوضِّح ذلك قولهم : اعْتَادَ اعْتِيَاداً والأصل : « اعْتِوَادٌ » ففُعِلَ به ما ذكرتُ [ لك ] :
قوله تعالى : { « وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً » قرأ حَمْزَةُ والكِسَائيُّ « يَطَّوَّعْ » هنا وفي الآية الَّتي بعدها بالياء وجزم العين فعلاً مضارعاً .
قال ابن الخَطِيبِ - رحمه الله - : وهذا أحْسَنُ أيضاً؛ لأنَّ المعنى على الاسْتقْبَال والشرط ، والجزاء ، والأحْسَنُ فيهما الاستقبال ، وإن كان يَجُوز أن يقال : « مَنْ أتَانِي أَكْرَمْتُهُ » .
وقراها الباقُونَ بالتاء فعلاً ماضياً ، فأما قراة حَمْزَة ، فتكون « مَنْ » شرطيَّةً ، فتعمل الجَزْمَ ، وافق يَعْقُوبُ في الأُوْلَى ، وأصل « يَطَّوَّعُ » « يَتَطَوَّعُ » فأدغمَ على ما تقدَّم في « تَطَوَّفَ » ، و « مَنْ » في محل رفع بالابتداء ، والخَبَر فعْلُ الشَّرْطِ؛ على ما هو الصحيح كما تقدَّم تحقيقُهُ .
وقوله : « فإنَّ اللَّه » جملةٌ في محلِّ جَزْمٍ ، لأنَّها جوابُ الشَّرط ، ولا بُدَّ مِن عائِد مقدَّر ، أي : فإنَّ الله شاكِرٌ له .
فصل
قال أبو البَقَاءِ : وإذا جُعِلَتْ « مَنْ » شَرْطاً ، لم يَكُنْ في الكلام حَذْفُ ضمير؛ لأنَّ ضمير « مَنْ » في « تَطَوَّعَ » وهذا يخالفُ ما تقدَّم عن النُّحَاةِ؛ من أنَّ إذَا كَانَ أدَاةُ الشَّرطِ اسماً ، لَزِمَ أن يكون في الجواب ضميرٌ يَعُودُ عليه ، وتقدَّم تحقيقه .
وأما قراءةُ الجُمْهُور ، فتحملُ وجْهَيْن :
أحدهما : أن تكون شرطيَّةً ، والكلام فيها كما تَقَدَّمَ .
والثاني : أن تكون موصولةً ، و « تَطَوَّعَ » صلتها ، فلا محَلَّ لها من الإعراب حينئذٍ ، وتكون في مَحَلِّ رفْع بالابتداء أيضاً ، و « فإِنَّ الله » خبَرُهُ ، ودَخلَتِ الفاءُ؛ لما تضمَّن « مَنْ » مَعْنى الشَّرط ، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم ، أي : شَاكِرٌ لَهُ .
وانتصاب « خَيْراً » على أحَدِ أوْجُهٍ :
أحدها : إمَّا على إسْقَاط حَرْفِ الجَرِّ ، أي : تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ ، فلمَّا حذف الحَرْف ، انتصب؛ نَحْو قوله : [ الوافر ]
860 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تعُوجُوا .. .
وهو غير مقِيسٍ .
والثاني : أن يكونهَ نعْتَك مصْدرٍ محذوفٍ ، أي : « تَطَوُّعاً خَيْراً » .
والثالث : أن يكونَ حالاً مِنْ ذلك المَصْدرَ المقدَّر معرفةً .
وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ ، وقد تقدَّم { غَيْرَ مرَّة ] ، أو على تضمين « تَطَوَّعَ » فعلاً يتعدَّى ، أي : من فَعَلَ خَيْراً مُتَطَوَّعاً به .
وقد تَلَخَّصَ مما تقدَّم أنَّ في قولِهِ : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } وجْهَين :
أحدهما : الجزمُ على القَوْل بكَوْن « مَنْ » شرطيَّةً .
والثاني : الرَّفْعُ؛ عَلَى القَوْلِ بِكَوْنها موصولةً .
فصل في ظاهر قوله : « لا جُنَاحَ عَلَيْهِ »
ظاهرُ قَوْله - تبارك وتعالى - : « لاَ جَنَاحَ عَلَيْهِ » : أنه لا إثْم عليهِ ، [ وأن الذي يَصْدُقُ عليه : أنَّه لا إثْمَ عليه ] في فعله يَدْخُلُ تحته الواجبُ والمَنْدُوبُ ، والمُبَاحُ ، فلا يتميَّز أحدُهُما ، إلاَّ بقِيْدٍ زائدٍ ، فإذَنْ : ظاهرُ الآية لا يدلُّ على أنَّ السَّعْيَ بين الصَّفاء والمَرْوة واجبٌ ، أو مسنونٌ؛ لأنَّ اللَّفظ الدَّالَّ على القَدْرِ المُشْتَرَكِ بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيَّة كلِّ واحدٍ من تلك الأقسام ، فإذَنْ ، لا بُدَّ من دليل خارجيٍّ ، يدلُّ على وجوب السَّعْي ، أو مسنونِيَّتِهِ ، فذهب بعضهم إلى أنه ركْنٌ ، ولاَ يقومُ الدَّمُ مَقَامه .
وعند أبي حنيفَة - رضي الله عنه - : أنه ليس بركنٍ ، ويُجْبَرُ بالدم ، وعن ابن الزُّبَيْرِ ، ومجاهدٍ ، وعَطَاءٍ : أنَّ مَنْ تركه ، فلا شيء عليه .
احتجَّ الأَوَّلُون بقوله عليه [ أفْضَلُ ] الصَّلاة والسَّلام - « إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ ، فَاسْعَوا »
فإن قيل : هذا متروك الظَّاهر ، لأنَّه يقتضي وجُوبَ السَّعْي ، وهو العدوُ ، وذلك غير واجبٍ .
قلنا : لا نسلِّم أنَّ السَّعْيَ عبارةٌ عن العدو؛ [ بدليل قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 39 ] والعَدْوُ فيه غَيْرُ واجبٍ ] وقال - تبارك وتعالى - : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] وليس المراد منه العَدْوَ ، بل الجِدَّ ، والاجتهاد ، سلَّمنا أنه العَدْوُ ، ولكنَّ العدو مشتملٌ على صفة تُرك العملُ به في هذا الصِّفات ، فيبقى أصل المشي واجباً :
واحتجُّوا أيضاً : بأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما دنا من الصَّفا ، قال : « إنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِنْ شَعَائِر اللَّهِ ، ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ به » فبدأ بالصَّفَا فرقي عليه ، ثم سعى ، وقال صلى الله عليه وسلم : « خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ » ، وقال تعالى : { واتبعوه } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] وقالوا : إنه أشواطٌ شُرعت في بقعة من بِقَاعِ الحَرَمِ ويُؤْتَى به في إحرام كاملٍ ، فكان جِنْسُهَا رُكناً؛ كطَوَافِ الزَّيَارة ، ولا يلْزَمُ طَوَافُ الصَّدرِ ، لأنَّ الكلامَ للجنسِ؛ لوجوبه مرة .
واحتجَّ أبو حنيفة - رضي الله عنه - بوجوهٍ :
منها : قوله تعالى : { لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وهذا لا يقال في الواجبات ، وأكَّد ذلك بقوله : « وَمَنْ تَطَوَّعَ » فبيَّن أنه تطوُّع ولَيْسَ بواجبٍ .
ومنها : [ قوله ] : « الحَجُّ عَرَفَةُ فمن أدرك عرفة ، فقد تمَّ حَجُّهُ » ، وهذا يقتضي التمام من [ جميع ] الوجوه؛ ترك العمل به في بعض الأشياء؛ فيبقى معمولاً به في السَّعْي .
والجوابُ عن الأوَّل من وجوه :
الأوَّل : ما بيَّنَّا [ أن قوله ] : « لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ » [ ليس فيه إلاَّ أنه لا إثم على فاعله ] وهذا القدر مشتركٌ بين الواجب ، وغيره؛ فلا يكون فيه دلالةٌ على نفي الوجوب ، وتحقيق ذلك قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] والقصر عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - واجبٌ ، مع أنَّه قال فيه : « فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ » كذا ههنا .
الثاني : انه رفع الجَنَاحُ عن الطَّوَاف [ بهما لا عن الطَّوَاف بينهما ] .
والأوَّل عندنا غير واجب ، والثاني هو الواجب .
الثالث : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - كان على الصَّفا صنمٌ ، [ وعلى المَرْوَة صنمٌ ، وكان الذي على الصَّفَا ] اسمُهُ : « إسَافٌ » ، والذي على المَرْوَة صنمٌ اسمه « نَائِلَة » وكان أهل الجاهليَّة يطوفون بهما ، فلمَّا جاء الإسلام ، كره المسلمون الطَّوَافِ بهما؛ لأجل الصنمي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة . إذا عرفت هذا ، فنقول : انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حالالطَّواف ، لا إلى نفس الطَّوَاف؛ كما لو كان في الثَّوب نجاسةٌ يسيرٌ عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جُنَاحَ عليكم أن تصلوا فيه ، فإنّ رفع الجُنَاحِ ينصرف إلى مكان النجاسة ، لا إلى نفس الصلاة .
الرابع : كما ان قوله : « لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ » لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب؛ ولا شكَّ في أنَّ السَّعْيَ مندوبٌ ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر ، والعمل بظاهرها ، وأما التمسُّك بقوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } [ البقرة : 184 ] فضعيفٌ ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع من الطَّوَافَ المذكور ، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئاً آخر؛ كقوله : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [ البقرة : 184 ] ثم قال : « فَمَن تَطَوَّعَ خيراً » فأوجب عليه الطَّعام ، ثم ندبهم إلى التَّطوُّع بالخيرِ ، فكان المعنى : فمن تَطَوَّعَ؛ فزاد على طعام مسكينٍ ، كان خيراً له ، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوُّع مصروفاً إلى شيء آخر؛ وهو من وجهين .
أحدهما : أنه يزيد في الطَّوَاف ، فيطُوفُ أكْثَرَ من الطَّوَافِ الواجبِ ، مثلُ أن يطُوفَ ثمانية أو أكثر .
والثاني : أن يتطوَّع بعد فرض الحجِّ وعمرته بالحجِّ والعمرة مرةً أخرى؛ حتى طاف بالصَّفَا والمَرْوَة تطوُّعاً .
وقال الحَسَنُ وغيره : أراد سائر الأعمال ، يعني : فعل غير الفرض؛ من صلاةٍ ، وزكاةٍ ، وطواف ، وغيرها من أنواع الطَّاعات .
وأصل الطاعة الانقيادُ .
وأما الحديث : فنقول فيه إنه عام ، وحديثنا خاص ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ .
قوله تعالى : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } .
قال ابنُ الخَطِيب : اعلَمْ أنَّ الشاكِرَ في اللُّغة هو المظهر للإنعام عليه ، وذلك في حقِّ الله محالٌ ، فالشاكر في حقِّه - تبارك وتعالى - مجازٌ ، ومعناه المجازيُّ على الطاعة ، وإنما سمى المجازاة على الطَّاعة ، شكراً؛ لوجوه :
الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطُّف للعبادة ، ومبالغة في الإحسان إليهم؛ كما قال تعالى { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض ، ولكنه تلطف في الاستدعاء؛ كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم .
الثاني : أنَّ الشُّكر لما كان مُقابلاً [ للإنعام أو الجزاء ] عليه ، سُمِّي كلُّ ما كان جزاء شكراً؛ على سبيل التشبيه .
الثالث : أن الشكر اسم لما يجازى به ، والله تعالى هو المجازي ، فسمِّي شاكراً ، فعلاقة المجازاة .
[ وقال غيره : ] بل هو حقيقةٌ؛ لأنَّ الشكر في اللُّغة : هو الإظهار؛ لأنَّ هه المادَّة ، وهي الشين ، والكاف ، والراء تدلُّ على الظُّهور ، ومنه : كَشَرَ البَعِيرُ عن نَابه ، إذا أظهره؛ فإنَّ الله تعالى يظهر ما خَفِيَ من أعمال العبد من الطَّاعة ، ويُجَازِي عليه .
وقيل : الشُّكْرُ : الثناء ، والله تعالى يُثْني على العبد ، فلا يبخس المستحقَّ حقَّه ، لأنَّه عالمٌ بقدره ، ويحتمل أنه يريد أنَّه عليمٌ بما يأتي العَبْدُ ، فيقوم بحقِّه من العبادة والإخلاص .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
في « الكاتِمِينَ » قولان :
أحدهما : أنه كلامٌ مستأنفٌ يتناولُ كلَّ من كتم شيئاً من الدين .
الثاني : عن ابن عبَّاس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة والرَّبيع ، والسُّدِّيِّ ، والأصَمِّ : أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى .
الثالث : نزلت في اليهود والَّذين كتموا ما في التَّوراة من صفة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - .
قال ابن الخَطِيبِ : والأوَّل أقرب إلى الصَّواب؛ لوجوه :
الأوَّل : أن اللفظ عامٌّ ، وثبت في « أُصُول الفقه » أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصص السَّبب .
الثاني : ثبت أيضاً في « أُصُول الفقه » أن العبرة بعموم اللَّفظ ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [ مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة ] ، وكتمانُ الدِّين يُناسبُ استحقاق اللَّعن؛ فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف .
الثالث : أن جماعةً من الصحابة - رضي الله عنهم - حملوا هذا اللَّفظ على العموم؛ كما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : « مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الوَحْي ، فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ على اللَّهِ تَعَالَى » ، واللَّهُ تَعَالَى يقول : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } [ البقرة : 159 ] « فحملت الآية على العموم .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال [ لَوْلاَ آية ] من كتاب الله ، ما حَدَّثْتُ حديثاً بعد أن قال النَّاس : أكْثَرَ أبو هُرَيْرَة ، وتَلاَ : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات } .
احتجَّ من خصَّ الآية بأهل الكتاب : أنَّ الكتمان لا يصحُّ إلاَّ منهم في شرع نبوَّة محمَّد - صلواتُ الله ، وسلامه عليه - وأمَّا القرآن ، فإنَّه متواترٌ ، فلا يصحُّ كتمانُهُ .
والجواب : أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواتراً يَصِحُّ كتمانُهُ ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه .
فصل في تفسير » الكتمان «
قال القاضي : الكتمانُ ترك إظهار الشَّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى أظهار؛ للأأنَّه متى لم يكن كذلك ، لا يُعَدُّ من الكتمان ، فدلَّت الآية على أنَّ ما يتَّصلُ ، بالدِّين ، ويحتاج المكلَّف إليه ، لا يجوز كتمانه .
ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 174 ] وقوله سبحانه وتعالى : { وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] فهذه كلُّها زواجرُ عن الكتمان .
ونظيرها في باين العلم ، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه ، قوله سبحانه : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] .
وروى أبو هريرة عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم قال : » مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَعْلَمُهُ جِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ «
واعلم أن العالم ، إذا قصد كتمان العلم ، عصى ، وإن لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره ، وأما من سئل ، فقد وجب عليه التبليغ؛ لهذه الآية ، وللحديث .
واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن ، ولا العلم؛ حتى يسلم ، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال ، والحجاج ، ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجَّةً ، ليقتطع بها ماله ، ولا السُّلطان تأويلاً يتطرَّق به على مكاره الرَّعيَّة ، ولا ينشر الرُّخص من السُّفهاء ، فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ، ونحو ذلك . وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : « لاَ تَمْنَعُوا الحِكْمَةَ أَهْلَهَا؛ فَتَظْلِمُوهُمْ ، وَلاَ تَضَغُوهَا في غَيْرِ أَهْلِهَا ، فَتَظْلِمُوهَا »
وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : « لاَ تُعَلِّقُوا الدُّرَّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ » يريد تعليم الفقه من ليس من أهله .
قوله تعالى : « مَا أَنْزَلْنَا » مفعول ب « يَكْتُمُونَ » ، و « أَنْزَلْنَا » صلته ، وعائده محذوف ، أي : أنزلناه ، و « مِنَ البَيِّنَاتِ » [ يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنها حالٌ من « ما » الموصولة ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : كائناً من البَيِّنَات .
الثاني : أن يتعلَّق ب « أَنْزَلْنَا » فيكون مفعولاً به ، قاله أَبُو البَقَاءِ ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّه إذا كان مفعولاً به ، لم يتعد الفعل إلى ضمير ، وإذا لم يتعدَّ ] إلى ضمير الموصول ، بقي الموصول بلا عائد .
الثالث : أن يكون حالاً من الضمير العائد على الموصول ، والعامل في « أَنْزَلْنَا » ؛ لأنه عامل في صاحبها .
فصل في المراد من « البيِّنات »
والمراد من « البَيِّنَاتِ » ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي ، دون أدلَّة العقل .
وقوله « والهُدى » يدخل فيه الدَّلالة العقليَّة ، والنَّقْليَّة؛ لما تقدَّم في دليل قوله { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 3 ] أنَّ الهدى عبارةٌ عن الدلائل ، فيعمُ الكُلَّ . فإن قيل : فقد قال : { والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ } فعاد إلى الوجه الأوَّل .
قلنا : الأوَّل : هو التنزيل ، والثاني : ما يقتضيه التنزيل من الفوائد .
وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدِّين بالدلائل العقليَّة لمن كان محتاجاً إليها ، ثم تركها ، أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع الحاجة إليه ، فقد لحقه هذا الوعيد .
قوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ } متعلِّق ب « يَكْتُمُونَ » ، ولا يتعلَّق ب « أَنْزَلْنَا » لفساد المعنى؛ لأنَّ الإنزال لم يكن بعد التَّبيين ، وأمَّا الكتمان فبعد التَّبيين ، والضمير في [ « بَيَّنَّاهُ » يعودُ على « ما » الموصولة .
وقرأ الجمهور « بَيَّنَّاهُ » ، وقرأ طلحة بنُ مُصَرِّف « بَيَّنَهُ » على ضمير الغائب ، وهو التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة ، و « للنَّاس » متعلِّق بالفعل قبله .
وقوله : « في الكِتَابِ » يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه متعلِّق بقوله : « بَيَّنَّاهُ » .
والثاني : أنه يتعلَّق بمحذوف؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المنصوب في ] « بَيَّنَّهُ » أي : بيَّنَّاهُ حال كونه مستقرّاً كائناً كائناً في الكتاب ، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة .
فصل في حكم هذا « البيان »
قال بعضهم : هذا الإظهار فرضٌ على الكفاية ، لأنَّه إذا أظهره البعض ، صار بحيث يتمكنَّ كلُّ أحدٍ من الوصول إليه ، فلم يبق مكتوماً ، وإذا خرج عن حد الكتمان ، لم يجب على البقاين إظهاره مرةً أخرى ، والله أعلم .
فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد
من الناس من يحتجُّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد ، لأنَّ أظهار هذه الأحكام واجبٌ ، [ ولو لم يجب العمل ] ، لم يكن إظهارها واجباً ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } [ البقرة : 160 ] فحكم بوقوع البيان بخبرهم .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّاً عن الكتمان ، ومأموراً بالبيان؛ [ ليكثر المخبرون ] ؛ فيتواتر الخبر .
فالجواب : هذا غلط؛ لأنَّهم ما نهوا عن الكتمان ، إلاَّ وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم التَّواطؤ على الكتمان ، جاز منهم التواطُؤُ على الوضع والافتراء ، فلا يكو خبرهم موجباً للعلم ، والمراد من [ الكتاب ] قيل : التَّوراة والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : أراد بالمُنْزَل الأوَّل ما فيه كتب المتقدَّمين ، والثَّاني ما في القرآن .
قوله تعالى : « أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ » يجوز في « أولَئِك » وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ ، و « يَلْعَنُهُم » الخبر؛ لان قوله تعالى : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } يحتمل أن يكون معطوفاً على ما قبله ، وهو { يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ } وأن يكون مستأنفاً ، وأتى بصلة « الَّذِينَ » فعلاً مضارعاً ، وكذلك بفعل اللَّعنة؛ دلالةً على التجدُّد والحدوث ، وأن هذا يتجدَّد وقتاً فوقتاً ، وكُرِّرَت اللعنة؛ تأكيداً في ذمِّهم . وفي قوله « يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ » التفاتٌ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام ، لقال : « نَلْعَنُهُمُ » ؛ لقوله : « أَنْزَلْنَا » ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير .
فصل في معنى اللعنة ، والمراد باللاعنين
اللَّعْنَةُ في أصْلِ اللُّغَة : هي الإبْعَادُ ، وفي عُرْف الشَّرْع ، الإبعادُ من الثَّوَاب ، واختلَفُوا في الَّلاعِنِينَ ، مَنْ هُمْ؟ فقيل : دوَابُّ الأرض وهوامُّها؛ فإنَّها تقول : مُنِعْنَا القَطْرَ بمعَاصِي بَنِي آدَمَ ، قنله مجاهدٌ ، عن عِكْرِمَة .
وقال : « اللاَّعِنُونَ » ، ولم يقل « اللاعِنَات » ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ؛ كقوله تعالى : { والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } [ فصلت : 21 ] .
و { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] وقيل : « كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ » قاله ابنُ عَبَّاس .
فإن قيل : كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ ، والجَمَادَاتِ؟
فالجواب مِنْ وجْهين :
الأول : على سبيلِ المُبَالغَةَ ، وهي أنَّها لو كانت [ عاقلةً ] ، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ .
الثاني : أنها في الآخِرَة ، إذا أُعِيدَت ، وجُعِلَتْ من العُقَلاء فإنَّها تَلْعَنُ مَنْ فَعَل ذلك في الدُّنْيا ، ومَاتَ عَلَيْهِ .
وقيل : إنَّ أهْلَ النَّار يَلْعَنُونَهُمْ وقيل يلْعَنُهُمُ الإنْسُ والجِنُّ .
وقال ابنُ مَسْعُود - رضي الله تعالَى عَنْه - : ما تَلاَعنَ اثْنَانِ من المُسْلِمِينَ إلاَّ رجَعَتْ تلْكَ اللَّعْنَةُ على اليَهُود والنَّصَارَى الَّذين كَتَمُوا أَمْرَ محمَّد - صلواتُ اللَّه وسلامهُ علَيْه - وصِفَتَهُ . وعن ابْنَ عَبَّاس : أنَّ لهم لعنتَيْنِ لعنة اللَّه ، ولَعْنَة الخَلاَئِقِ ، قال : وذلك إذَا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ ، فَيُسْأَلُ ما دِينُكَ؟ وما نَبِيُّكَ؟ وما رَبُّكَ؟ فيقول : لا أَدرِي فيُضْرَبُ ضربةً يسمعها كلُّ شَيْءٍ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ ، فلا يَسْمَعُ شيْء صَوْتَه إلاَّ لَعَنَهُ ، ويقول المَلَكُ : لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ ، كذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا .
وقال أَبُوا مُسْلِمٍ : « اللاَّعِنُون هم الَّذِين آمَنُوا به ، ومعْنَى اللَّعْنَة ، مباعدةُ المَلْعُون ، ومُشَاقَّتُه ، ومخالَفَتُه مع السَّخَط عليه .
وقيل : الملائكةُ ، والأنبياءُ ، والصالحُون؛ ويؤكِّده قولُهُ تعالَى : { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملاائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] .
وقال قتادة : » الملائكةُ « .
قال الزَّجَّاجُ : والصوابُ قَوْلُ مَنْ قال : » اللاَّعِنُونَ الملائكة والمؤمنونَ « ، فأمَّا أن يكون ذلك لدوَابِّ الأَرْضِ فلا يُوقَفُ على حقيقته إلاَّ بنَصٍّ أو خَبَرٍ لاَزِمٍ ، ولم يوجَدْ شيءٌ من ذذلك .
قال القرطبِيُّ : قد جَاءَ بذلك خَبَرٌ رَوَاهُ البَرَاء بن عَازِب ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلّى الله عليه وعلى آلِهِ ، وسَلَّم ، وشَرَّف ، وكَرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل ، وعَظَّم - في قوله تعالى : » يَلْعَنُهُمُ اللاَّعنُونَ « قال : » دوابُّ الأَرْض « أخْرَجَه ابْنُ ماجَةَ .
وقال الحَسَن : » جميعُ عبَادِ اللَّه « .
قال القاضِي : » دلَّتِ الآيةُ على أنَّ هذا الكِتْمَان من الكَبَائر لأنَّه تعالَى أَوْجبَبَ فيه اللَّعْن .
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
في الاستثناءِ وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون متَّصِلاً ، والمُسْتَثْنى منْه هو الضَّميرُ في « يلعنُهم » .
والثاني : أن يكُونَ منقطعاً؛ لأنَّ الَّذين كَتَمُوا ، لُعِنُوا قَبْل أَنْ يَتُوبُوا . وإنَّما جَاءَ الاستثناءُ؛ لبَيَانِ قَبْول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ قَوْماً من الكاتِمِينَ لَمْ يُلْعَنُوا ، نقل ذلك أبو البَقَاء .
قال بعضُهُمْ : « ولَيْسَ بشَيْءٍ » .
فَصْل
اعلَمْ أنَّه تعالى لَمَّا بيَّن عظيمَ الوَعِيدِ ، فكان يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الوعيدَ يلحقُهُمْ على كُلِّ حالٍ ، فبيَّن تعالَى أَنَّهُمْ إذا تابُوا ، تغيَّر حُكْمُهم ، ودَخَلُوا في أهْلِ الوعْدِ . والتَّوْبةُ عبارةٌ عن النَّدَم على فِعْلِ القبيح لقُبْحِهِ ، لا لِغَرَضٍ سِوَاه؛ لأنَّ مَنْ لم يَرُدَّ الوديعَة ، ثم ندمِ للَوْمِ الناس وذمِّهم ، أو لإِنَّ الحاكم رَدَّ شهادتَهُ لم يكُنْ تائباً ، وكَذَلِكَ ، لو عَزَمَ على رَدِّ الودائعِ والقيام بالواجِبَاتِ؛ لكي تُقْبَلَ شهادتُهُ أو يُمْدَحَ بالثَّنَاءِ علَيْه ، لم يكن تائِباً وهذا مَعْنَى الإِخْلاَّص في التوبة ثم بيَّن تعالى أنه لا بُدَّ له بَعْدَ التوبة مِنْ إصْلاح ما أفْسَدَهُ مثلاً ، لو أفْسَد على رجُلِ دِينَهُ بإيرادِ شُبْهَةٍ عَلْيه ، يلْزَمُه إزالَة تِلْكَ الشُّبْهَةِ ، ثمَّ بيَّن بأنه يجبُ علَيْه بعْدَ ذلك أَنْ يَفْعَلَ ضِدَّ الكِتْمَانِ ، وهُو البَيَانُ بقَوْله « وَبَيَّنُوا » فدلَّت الآيةُ على أنَّ التَّوْبة لا تَحْصُلُ إلاَّ بِتَرْكِ كُلِّ ما ينبغي .
وقيلَ : بَيَّنوا تَوْبَتَهُمْ وصَلاَحَهُم . قال ابْنُ الْخَطِيبِ : قالَتِ المُعْتَزِلةُ : الآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ التَّوْبة عن بَعْضٍ المعاصِي مع الإصْرَارا عَلى البَعْضِ لا تَصِحُّ؛ لأن قوله « وَأَصْلَحُوا » عامٌّ في الكلِّ .
والجوابُ : أَنَّ اللفْظ المُطْلَق يكْفِي في صِدْقه حُصُولُ فَرْدٍ واحدٍ مِنْ أفْراده .
وقولُه : « أَتُوبُ عَلَيْهِمْ » أَتَجَاوَرُ عنْهم ، وأَقْبَلُ تَوْبتهمْ . « وَأَنَا التَّوَّابُ » الرَّجَّاع بقُلُوبِ عبَادِي المنْصَرفة عَنِّي إلَيَّ ، القَابِلُ لِتَوْبة كلِّ ذي توبةٍ ، الرحيمُ بِهِمْ بَعْدَ إقْبَالهم عَلَيَّ .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
اعلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَة يَعْمُّ كُلَّ كافِرٍ ماتَ على كُفْره .
وقال أَبُو مُسْلِم : يجبُ حَمْلُه على الَّذِينَ تقدَّم ذكْرُهُمء ، وهُمُ الذينَ يكْتُمُون الآياتِ ، واحتجَّ بأنَّهُ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الَّذشين يكْتُمُون ، ثُمَّ ذكَرَ حالَ التَّائِبِين منْهم ، ذكَرَ أيْضاً حَالَ مَن يَمُوتُ منْهم منْ غَيْر تَوْبَةٍ ، وأيضاً : فإِنه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ أولئكَ الكاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حالَ الحياةِ ، بيَّن أَنَّهم ملْعُونُون بَعْد المَوْت . وجوابُهُ : إِنَّمَا يصحُّ هذا ، لو كان الَّذين يمُوتُون منْهُمْ مِنْ غير تَوْبة دخلُوا تَحْت الآيَةِ ، وإلاَّ لاسْتَغْنَى عن ذكْرِهم فوجَبَ حَمْلُ الكلامِ على أمْرٍ مستأْنفٍ .
فإنْ قيل : كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ ، وأهْلُ [ دينِهِ لا يلْعَنُونَه ] .
فجوابُهُ منْ وجُوهٍ :
أحدها : أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة؛ لقوله تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] قال أبو العَالِيَةِ : « يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ ، فيلْعَنُهُ اللَّهُ ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ » .
وثانيها : قال قَتَادَةُ ، والرَّبِيع : أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم ، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ .
وثالثها : أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ ، الظَّال؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه [ هو جاهلاً ، أو ظالماً ، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ ] كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ .
ورابعها : أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك .
فَصل فِي بَيضانِ جَوِازٍ لَعْنٍ مَنْ مَاتَ كَافِراً
قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ - رَضِيَ اللَّه عنه - : الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين لعن مَنْ مات كَافِراً ، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة؟ لأنَّ قوله تعالى : « وَالنَّاس أَجْمَعِينَ » أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر ، لَوْ جُنَّ ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح ، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [ جنونُهُ لا يغيِّر ] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به .
قوله تعالى : « وَمَاتُوا » الواو هذه واو الحال ، والجُمْلَة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال ، وإثباتُ الواو هُنَا أفْصَحُ؛ خلافاً للفَرَّاء ، والزَّمَخْشَريِّ ، حيثُ قالا : إنَّ حَذْفَها شاذٌ . وقوله { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله } : « أُولَئِكَ » : مبتدأٌ ، [ و { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ } : مبتدأ وخَبَرُه ، خَبَرٌ عَنْ « إِنَّ » ، ويجُوزُ في « لَعْنَةُ » الرفْعُ بالفاعليَّة بالجَار قَبْلَها؛ لاعتَمادهَا؛ فَإِنَّهُ وقع خَبَراً عن « أولئك » وتقدَّم تحريرُهُ في { عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 157 ] .
فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين
قال ابْنُ الْعَرَبيِّ : قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي : إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ ، وقَدْ شَرَط اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ : المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر .
وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلِهِ وسلَّم ، وشَرَّفَ وكَرَّمَ ، ومَجَّدَ ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أَنَّه لَعَنَ أَقْوَاماً بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار ، فَإِنما كان ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ .
قال ابْنُ العَرَبِيِّ : والصحيحُ عنْدِي : جوازُ لَعْنِهِ؛ لظاهر حَالِهِ ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ .
وقد رُويَ عَنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم وعَلَى آلِهِ وسلَّم ، وشَرَّفَ وكَرَّمَ ، ومَجَّدَ ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أنه قال : « اللَّهُمَّ ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي ، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ ، فَألْعَنْهُ ، وأَهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي » [ فَلَعَنَهُ ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ ، وانتصف بقوله « عَدَدَ مَا هَجانِي » ] ولم يَزِدْ؛ لتعليم العَدْلِ والإنصافِ ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى اللَّه تعالَى في باب الجَزَاءِ ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ ، تعالَى عَنْ ذلك .
قال القُرْطُبِيُّ : أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين ، فلا خِلاَفَ ، فيه؛ لِمَا روَى مَالِكٌ ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ : « مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ » .
قوله تعالى : « وَالمَلاَئِكَة » الجمهورُ على جرِّ الملائكة؛ [ نَسَفاً عَلَى اسم اللَّه تعالى ] ، وقرأ الحَسَنُ بالرَّفع ، { والمَلاَئِكَهُ وَالنَّاسُ أَجمَعُونَ } وخرَّجَها النحاةُ عَلَى العَطْف على مَوْضع اسْم اللَّه تعالَىن فإنه وِنْ كان مَجْرُوراً بإضافة المَصْدر ، فموضعُهُ رَفْعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ هذا المَصْدر يَنحَلُّ لحَرْفٍ مصدريٍّ ، وفِعْلٍ ، والتقديرُ : « أَنْ لَعَنَهُمْ » ، أوْ « أنْ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ » ، فعطف الملائِكَةَ على هذا التَّقْدير .
قال أبو حيان : وهذا لَيْسَ بجائزٍ على ما تقرَّر مِنَ العَطْفِ على الموضِع ، فإنَّ مِنْ شرْطِهِ : أن يكُونَ ثمَّ مُحْرِزٌ للموْضِعِ ، وطَالبٌ ، والطالبُ للرفع وجودُ التَّنْوِينِ في المَصْدَر ، هذا إِذَا سَلَّمْنَا أن « لَعْنَة » تنحلُّ لِحَرْفٍ مصدريٍّ ، وفعْلٍ؛ لأنَّ الانحلال لذلك شرطُهُ أنْ يُقْصَدَ به العلاجُ؛ ألا ترَى أنَّ قوله : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] لَيْسَ المعنَى على تقْدير : أنْ يلْعَنَ اللَّهُ على الظالمين ، بل المرادُ اللَّعْنَةُ المستقرَّة ، وأضيفتْ للَّه على سَبِيلِ التَّخْصِيص ، لا على سَبِيلِ الحُدُوث . ونقلَ عن سِيبَوَيْهِ : أنَّ قولك : هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ غَداً وَعَمْراً ، بنَصْب « عَمْراً » : أنَّ نَصْبَه بفعْل محذوفٍ ، وأبى أَنْ ينصبَهُ بالعَطْف على المَوْضِع ، ثم بعد تَسْليمه ذلك كلَّه ، قال : المَصْدرُ المُنَوَّن لم يُسْمَعْ بعده فاعِلٌ مرفعوعٌ ، ومفعولٌ منصوبٌ ، إِنَّمَا قاله البصريُّون قياساً على « أنْ والفِعْل » ومنَعَهُ الفَرَّاء ، وهو الصحيحُ ثم إِنَّه خَرَّجَ هذه القراءة الشَّاذَّة على أحَدِ ثلاثةِ أوجُهٍ :
الأول : أن تكونَ الملائكةُ مرفوعةً بفعلٍ محذُوفٍ ، أي : « وتَلَعَنُهُمُ المَلاَئِكَةُ » ؛ كما نصَبَ سِيبَوَيْهِ « عَمْراً » في قولِكَ « ضَارِبُ زَيْداً وَعَمْراً » بفعْلٍ محذوفٍ .
الثاني : أَنْ تكُونَ الملائكةُ عَطْفاً على « لَعْنَةُ » بتقدير حَذْف مضافٍ ، أي : « وَلَعْنَةُ المَلاَئِكَةِ » فَلَمَّا حذَفَا المضافَ ، أُقِيمَ المضافُ إلَيْه مُقَامَهُ .
الثالث : أنْ يكُونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرهُ تقْديرُهُ { وَالمَلاَئِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ تَلْعَنُهُمْ } وهذه أوجُهٌ متكلَّفةٌ ، وإِعْمَالُ المصدر المنوَّنِ ثابِتٌ؛ غايُةُ ما في الباب : أنه قد يُحْذَفُ فاعلُهُ؛ كقوله { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } [ البلد : 14 - 15 ] . وأيْضاً : فقد أَتْبَعَتِ العَرَبُ المجرورَ المَصْدر عَلَى رَفْعاً؛ قال : [ البسيط ] .
861 - ... مَشْيَ الهَلُوكِ عَلَيْهَا الخَيْعَلُ الْفَضُلُ
برفع « الفُضُلُ » وهي ل « الهَلُوكِ » على المَوْضِع؛ وإذَا ثَبَتَ ذلكَ في النَّعْتِ ، ثَبَتَ فِي العَطْفِ؛ لأنَّهما تابعانِ مِنَ التوابع الخمْسَةِ ، و « أَجْمَعِينَ » : من ألْفَاظِ التأْكِيد
المعنويِّ بمنزلةِ كُلٍّ .
قال ابنُ الخَطِيبِ : والآيةُ تَدُلُّ على جواز التَّخْصْيصِ معَ التَّوْكِيد؛ لأنَّه تعالى قال : « والنَّاسِ أَجْمَعِينَ » مع أنَّه مخصوصٌ على مَذْهَب مَنْ قال : المراد بالنَّاس بَعْضُهُمْ .
قوله تعالَى : « خِالِدِينَ » حالٌ من الضَّمير في « عَلَيْهِمْ » والعاملُ فيها الظرْفُ من قوله « عَلَيْهِمْ » ؛ لأنَّ فيه معنى الاسْتقْرَار لِلَّعْنة ، والخلودُ : اللُّزومُ الطَّويل ، ومنْه قوله تعالى : « أَخْلدَهُ » أي : لَزِمُهُ ، ورَكَنَ إلَيْه .
قال بعضُهُمْ : « خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَة » .
وقيلَ : في النَّار ، أُضْمِرَتْ؛ تفخيماً وتهويلاً؛ كقوله { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] .
والأول أولى؛ لوجوه :
الأول : أَنَّ ردَّ الضَّميرِ [ إلى المَذْكُور السَّابق أَوْلَى مِنْ رَدِّة ، إذَا لم يُذْكَر .
الثاني : أَنَّ حَمْلَ هذا الضَّمِير على اللَّعْنَة ] أَمكْثَرُ فائدةً؟ لأنَّ اللَّعْنَ هو الإبْعَادُ مِنَ الثَّوَاب بفِعْل العِقَاب في الآخِرَة ، وإيجادِهِ في الدُّنيا ، فيدخل في اللعن النَّار وزيادةٌ [ فكان حَملُ اللَّفظ عليهم أولى ] .
[ الثالث : أن حمل الضمير على اللَّعن يكون حاصلاً في الحال وبعده ، وحمله على النَّار لا يكون حالاً حاصلاً في الحال ، بل لا بدَّ من تأويلٍ ] .
قوله تعالى : « يُخَفَّفُ » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون مستأنفاً .
الثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير في « خَالِدِينَ » فيكون حالان متداخلان .
الثالث : أن يكون حالاً ثانية من الضَّمير في « عَلَيْهِمْ » ، وكذلك عند من يجيز تعدُّد الحال . وقد منع أبو البقاء هذا الوجه ، بناءً منه على مذهبه في ذلك .
وقوله : « وَلاَ هُمْ يَنْظَرُونَ » .
قال مَكِّيٌّ رحمه الله : هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحال من الضَّمير في « خالدين » أو من الضَّمير في « عَنْهُمْ » .
فصل في وصف العذاب
اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمورٍ :
أحدها : الخلود ، وهو المكث الطَّويل عِنْدنا ، أو المكث الدَّائم عند المعتزلة .
وثانيها : عدم التخفِيفِ ، ومعناه أنّ العذابَ في الأوقاتِ كلِّها متشابهٌ؛ لا يكون بعضُه أقَلَّ من بَعْضٍ .
فَإِن قيلّ : هذا التَّشْبيهُ مُمْتَنعٌ؛ لوجوهٍ :
أحدها : أَنَّه إذا تصوَّر حال غيره من شدَّة العذب ، كان ذلك كالتَّخفيف عنه .
وثانيها : أنَّه تعالى يزيد علَيْهِمْ في أقوات ، ثمَّ تنقطع تلْك الزِّيادةُ فيكونُ ذلك تَخفيفاً .
وثالثها : أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] لا نشكُّ أنَّه يزادُ عنْهم في ذلك الوَقْت .
فالجوابُ أَنَّ التفاوتُ في هذه الأمُورِ قليلٌ ، فالمستَغرِقُ في العَذَاب الشّدِيد لا ينْتبه لهذا القدْر القليل منَ التَّفاوتُ ، وهذه الآية تَدُلُّ على دوام العذاب ، وأبديتِه ، فإنَّ الواقعَ في [ محْنَةٍ ] عظيمةٍ [ وشدةٍ ] في الدُّنْيَا ، إذا بُشِّرَ بالخَلاَص ، وقيل له : إنَّك تَخلُصُ من هذه الشِّدَّة بعد أيَّامٍ ، فإنَّه يَفْرَح ويسْهُلُ عليه موقع هذه المحنة .
الصفة الثانية : قوله « وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ » والإنظارُ : هو التأْجيلُ والتأخيرُ؛ قال سُبحانه { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } [ البقرة : 280 ] والمعنى : أن عذابَهُمْ لا يُؤجَّل ، بل يكون حاضراً متَّصِلاً بعذاب مثله؛ ووجه اتِّصال هذه الآية بها قبلها : أنَّه تعالى لمَّا حّذَّر من كتْمَان الحقِّ بين أن أوَّل ما يجبُ إظهارُهُ ولا يجوزُ كتمانُهُ أمْرُ التوحيدِ ، ووَصَل ذلك بذكْر البُرْهان ، وعلَّم طريقَ النَّظَر ، وهو الفكْرُ في عجائِبِ الصُّنْع؛ ليعلم أنَّه لاَ بُدَّ منْ فاعل لا يشبهُه شَيْءٍ :
ويحتمل أن يكون من النَّظَرِ؛ كقوله : { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 77 ] .
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
قوله : « إلهٌ وَاحدٌ » خبر المبتدأ ، و « وَاحِدٌ » صفةٌ ، وهو الخبر في الحقيقة؛ لأنَّه مَحَطّ الفائدةَ ، ألاَ ترى أنَّه لو اقتصر [ على ما قَبْلَه ، لم يُفد ، وهذا يُشْبهُ الحالَ الموطِّئة؛ نحو : « مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً » ف « رَجُلاً » حالٌ ] وليستْ مقصودة ، إِنَّما المقصودُ وصْفُها .
قال أبو عليٍّ : قولُهُمْ واحدٌ : اسمٌ جَرَى على وَجْهَيْن في كلامِهِم .
أحدهما : أن يكونَ اسماً .
والآخَرُ : أن يكونَ وَصْفاً ، فالاسْمُ قولُهُمْ في العَدَد : واحد ، اثْنَانِ ، ثلاثةٌ ، فهذا اسمٌ لَيْسَ بوصف ، كما أنَّ سائر أسماء العَدد كذلك ، وأَمَّا كونُهُ صفةً؛ فقولُكَ : مَرَرْتُ برَجُلٍ وَاحِدٍ ، وهَذَا شَيءٌ وَاحِدٌ ، فإذا جرى هذا الاسمُ على الحَقِّ سُبْحانه وتعالى ، جاز أن يكون الذي هو الوصفُ كالعالِم والقادِرِ ، وَجَازَ أن يكون الذي هو الاسْمُ كقولكِ شَيْء ويقوِّي الأوَّل قوله تعالى : « وَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحدٌ » .
فصل في وجوه وصفه تعالى بأنه واحد
قال الجُبَّائِيُّ : وُصَفَ اللَّه بأنَّه واحدٌ منْ وجُوهٍ أربعة : لأنَّه ليس بذي أبْعَاضٍ ، ولا بذِي أَجْزَاء؛ ولأنَّه منفردٌ [ القِدَمِ؛ ولأنَّه مُنْفَردٌ ] بالإلهيَّة؛ ولأنه منفردٌ بصفات ذاتِهِ؛ نَحُو كوْنِهِ [ عَالِماً بنَفْسِه ، قَادِراً بنَفْسِهِ .
قوله تعالى : « إلا هُوَ » : رفع « هُوَ » على أنه ] بدلٌ من اسْم « لا » على المَحَلِّ؛ إذ محلُّه الرفْعُ على الابتداء ، أو هو بَدَلٌ من « لاَ » وما عملتْ فيه ، لأنَّها وما بعْدَها في مَحلِّ رفْعٍ بالابتداء ، وقد تَقدَّم تقريرُ ذلك ، ولا يجُوزُ أنْ يَكُون « هو » خبر « لاَ » التَّبْرِئَةِ ، لما تقرَّر من أنَّها لا تعملُ في المَعَارف ، بَلِ الخَبر مَحْذُوفٌ ، أي : « لاَ إِلهَ لَنَا » هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ « لاَ » المبنيَّ معها اسْمُها عاملةٌ في الخَبَرِ ، أمَّا إذا جعلْنَا الخَبَرَ مَرْفُوعا بما كان علَيْه قَبْل دخولِ « لاَ » ولَيْسَ لها فيه عَمَلٌ وهو مذهبُ سيبَوَيْهِ فكَان ينبغي أن يكون « هُوَ » خبراً إلاَّ أنَّه مَنَع منه كوْنُ المبتدأ نكرةً ، والخبَر معرفةً ، وهو ممنوعٌ إلاَّ في ضرائر الشِّعْر في بَعْض الأَبْوَاب .
واستَشكَلَ الشَّيْخُ أبو حَيَّان كَونَهُ بَدَلاً منْ « إِلَهَ » .
[ قال : لأنَّه لَمْ يمكنْ تكريرُ العَامِلِ؛ لا نقولُ : « لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ » والذي يظهر أنه لَيْسَ بدلاً من « إلَه » ] ولا مِنْ « رَجُل » في قولك : « لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ » ، غنما هو بَدَلٌ من الضَّمير المستكنِّ في الخبر [ المحْذُوفِ ، فإذا قلنا : لا رجل إلاّ زيَدٌ ، فالتقديرُ : « لاَ رَجُلَ كائنٌ ، أو مَوْجُودٌ إِلاَّ زَيْدٌ » ، ف « زَيْدٌ » بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر ] لا مِنْ « رَجُل » ، فليس بدلاً على مَوْضِع اسم « لا » ، وَإِنَّما هو بدلٌ مَرْفُوعٌ منْ ضمير مَرْفوعٍ ، وذلك الضَّميرُ هو عائدٌ على اسم « لا » ، ولولا تصريح النَّحويِّين : أنَّه بَدَلٌ على الموضِعِ مِنِ اسم « لاَ » ، لتأوَّلنا كلامَهُمْ على ما تقدَّم تأويلُهُ .
قال شهاب الدين : والَّذي قالُوهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لأنهم لم يقولُوا : هو بدَلٌ من اسْم « لاَ » على اللَّفظِ؛ حتى يلزمَهُمْ تكريرُ العامِلِ ، وإنَّما كان يشكلُ لو أجازُوا إبْدَالَهُ مِن اسْمِ « لاَ » على اللَّفظِ ، وهم لم يجيزوا ذلك لعَدَم تكير العَامِلِ ، ولذلك منعوا وجْهَ البَدَلِ في قولهمْ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ » وجعلُوهُ انتصاباً على الاستِثْناءِ ، وأَجَازُوهُ في قولك : « لا رَجُلَ في الدَّارِ إلاَّ صاحِباً لك » لأنَّه يُمْكِن فيه تكريرُ العَامِلِ .
قوله تعالى : « الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ » فيه أربعةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أن يكونَ بَدَلاً منْ « هُوَ » بدَلَ ظاهرٍ مِنْ مُضْمَرٍ ، إلا أن هذا يُؤَدِّي إلى البَدَلِ بالمُشْتقَّاتِ وهو قليلٌ؛ ويُمْكِنُ أنْ يجاب بأنَّ هاتَين الصفتَيْن جَرَتا مَجْرَى الجوامِدِ ولا سِيَّمَا عنْدَ من يَجْعل [ الرَّحْمن ] علماً ، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في « البَسْمَلَةِ » .
الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : هُو الرَّحْمَنُ ، وحسَّنَ حذْفَهُ توالي اللفْظِ ب « هُوَ » مرَّتَيْن .
الثالث : أن يكوم خبراً ثالثاً لقوله : « وَإلَهُكُمْ » أخبر عنْهُ بقوله : « إِلَهٌ وَاحِدٌ » وبقوله : « لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ » وبقوله : « الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ » ، وذلك عند مَنْ يَرَى تعدّدَ الخَبَرِ مُطْلقاً .
الرابع : أن يكون صفةً لقولِهِ « هُوَ » ، و [ ذلك ] عند الكِسَائِيِّ؛ فإنَّه يجيزُ وَصف الضَّمير الغائب بصفة المَدح ، فاشترط في وصف الضَّمير هذَين الشَّرْطَين : أن يكون غائباً ، وأن تكون الصفَةُ صفةَ مَدْحٍ؛ وإن كان ابنُ مالكٍ أطْلَقَ عَنْه جوازَ وَصْفِ ضمير الغائِب ، ولا يجوز أنْ يكُون خبراً ل « هُوَ » هذه المذكورةِ؛ لأنَّ المستثنى ليْسَ بجُملةٍ .
فصل في سبب النُّزُول
قال ابن عبَّاسِ : سَبَبُ نُزُول هذه الآية أَنَّ كُفَّار قُرَيش قالوا : يا مُحَمَّد ، صِفْ وانسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى سُورَةَ الإخْلاَصِ ، وهَذه الآيَة .
قال أبو الضُّحَى : لمَّا نزلَّتْ هذه الآيةُ ، قال المُشْرِكُون : إنَّ محمَّداً يقُولُ : إلَهكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ ، إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ، فَأَنْزل اللَّهُ - عَزَّ وَجَّل - : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } [ والمرادُ بالخَلْق هنا المخلُوقُ .
قال أبو مسلم : وأصْلُ الخَلْق التقديرُ؛ قالَ تعالى : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
ذكر ابن جرير في سَبَب نُزُول هذه الآيةِ عن عطاءٍ أيضاً ما ذكرْنَاه آنفاً .
وعن سعيد بن مَسْروق ، قال : سألت قُرَيشٌ اليَهودَ ، فقالوا : حدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُم به موسى - عليه السَّلام - من الآيَاتِ . فَحَدَّثوهُمْ بالعَصا وبالْيَدِ البَيْضاءِ ، فقالت قُرَيش عَمَّا جاءَهُمْ به عيسى ، فَحدَّثُوهُم بإبراءِ الأَكْمَه والأَبْرَصِ وإحياءِ المَوتَى؛ فقالت قُرَيش عِند ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - : ادْعُ اللَّهَ لَنَا أنْ يَجْعَلَ الصَّفا ذَهَباً ، فَنَزدَادَ يقيناً ، ونَتَقَوَّى على عدُوِّنَا [ فَسَأل ربَّهُ ذلك ] فأوحَى اللَّهُ تعالى إليه أنْ يعطيهم ، ولكن إن كذَّبُوا بَعْدَهُ ، عَذَّبْتُهُم عَذَاباً شدِيداً لا أعذِّبُهُ أحداً مِنَ العالمين فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام : - « ذَرْنِي وَقَوْمِي ، أدعُوهُمْ يَوماً فَيَوْماً » ، فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية مُبَيِّناً لهم أنهم إنْ كانوا يريدون أنْ أجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً؛ ليزدادوا يقيناً؛ فَخَلقُ السَّموات والأَرْض وسائِرُ ما ذكر أعظمُ وأكْبرُ .
وقيل : لمَّا نزل قوله : « وَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ » ، قالوا : هل مِنْ دليلٍ على ذلك فأنزل الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } ؛ فبيَّن لهم الدَّليل وقد تقدَّم في قوله تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء } [ البقرة : 22 ] .
قال البغويِ : ذكر « السموات » بلَفظ الجَمْع ، لأنَّ كُلَّ سماء من جِنسٍ آخَرَ ، وأفْرَد الأرْضَ؛ لأن الأرَضينَ كلَّها مِنْ جنْسٍ واحدٍ ، وهو الترابُ ، والآيةُ في السَّموات سُمْكُها وارتفاعُها مِنْ غير عَمدٍ ، ولا عَلاقَةَ ، وما يُرى فيها من الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجوم ، واختلافِ أحوالها مِنَ الطُّلُوع ، والغُرُوبُ ، وغير ذلك ، والآيةُ من الأَرْضِ : مَدُّها ، وبَسْطُها وسَعَتُها ، وما يُرَى فيها من الأشجار ، والاثمَار ، والنْهَار ، والجِبَالِ ، والبِحَار ، والجوةاهر ، والنبات ، وقد تقدّم طَرَفٌ من هذا .
قوله تعالى : وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار « ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ :
أحدهما : أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ : » خَلَفَهُ يَخْلَفُهُ « إذا ذهبَ الأوَّل ، وجاء الثَّاني ، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء؛ يقالُ : فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده ، فَذَاهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه ، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ ، فهو خِلْفَةُ ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً } [ الفرقان : 62 ] ؛ ومنه قول زهير : [ الطويل ]
862 - بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... َأَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
[ المديد ]
863 - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا
خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا
الثاني : اختلاف الليل والنهار ، في الطول والقِصَر ، والنور والظلمة ، والزيادة والنقصان .
قال الكسائي : » يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا : هُمَا خلَفَان « .
قال ابن الخطيبِ : وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ ، [ وهو ] أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول : إِنَّ الأرض كُرَةٌ ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها ، فتلْكَ الساعةُ في موضِع مِنَ الأرض صُبحٌ ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ ، وهلُمَّ جرّاً ، هذا إذا [ اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول ، أما البلادُ المختلفَةُ ] في العَرْضِ ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك ، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ .
وأيضاً : فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور ، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية ، هذا أيضاً من الآياتِ العَظِيمة .
وأيضاً : انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ ، ولاَ الكَدرُ الصافي ، وهو المرادُ بقوله : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] .
قال علماءُ الهَيْئَة : إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه [ سِتَّةَ أشهرٍ نهاراً ] وستَّةُ أشْهُرٍ ليلاً ، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج ، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة .
فصل في أصل الليل
اختلفُوا؛ قيل : الليلُ : اسم جنس ، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث؛ فيقال : لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ ، والصحيحُ : أنَّهُ مفْرَدٌ ، ولا يحفظ له جَمعٌ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ « الليالي » جَمْعُ « لَيْلٍ » ، بل الليالي جمعُ « لَيْلَة » وهو جمعٌ غريبٌ ، ولذلك قالُوا : هو جمعُ « لَيْلاَةٍ » تقديراً ، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر : [ السريع أو الرجز ]
864 - في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ ... حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَا رَآهْ ... يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ ... ويدلُّ على ذلك تصيغرُهُمْ لها على « ليُبْلَةٍ » ونظيرُ « لَيْلَةٍ » و « ولَيَالٍ » : « كَيْكَةٌ وكَيَاك » ؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّاها « كَيْكَاتٌ » في الأصْل ، والكَيْكَةُ : البَيْضَةُ .
وأمَّا النَّهار : فقال الرَّاغب : « هو في الشَّرْع : اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس » .
قال ابن فَارِس : « والنَّهارُ » : ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي : وهُوَ الصحيحُ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في « صحيح مُسْلِم » : عن عَدِيِّ بن حاتم ، قال : لَمَّا نَزلَتْ : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } [ البقرة : 187 ] قال له عَدِيٌّ : يا رسول اللَّهِ ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن؛ عِقَالاً أَبْيَضَ ، وعِقَالاً أَسْوَدَ ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَواتُ اللَّهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ - : « إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ » يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان ، وبه ترتبطُ الأحْكام .
وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار .
وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ : « هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس » زاد النَّضْرُ : ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار .
وقال الزَّجَّاج : « أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس » .
ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة؛ نحو : قَذالٍ ، وقُذُلٍ ، وأَقْذِلَة .
وقيل : لا يُجْمَعُ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر ، [ والصحيحُ : جمعُهُ على ما تقدَّم ] .
قال : [ الراجز ]
865 - لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ
وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة ، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ ، ومنه « النَّهَارُ » لا تِّسَاع ضَوْئه
عِنْد قوله : { مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ البقرة : 25 ] قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - : قال ابن فارس : ويقال : « إنَّ [ النَّهارِ ] فَرْخٌ الحَبَارَى » وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ؛
وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } [ يس : 37 ] وهذا أصحُّ القولَين .
وقيل : النُّورُ سابِقُ الظلمةِ ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ ، وهي أنَّ الليلة ، هَلْ هي تابعةُ لليوم [ قبْلَهَا ، أو لِلْيَومِ بَعْدها .
فعلى الصَّحيح : يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها ، فيكونُ اليَوْم تابعاً لها ، وعلى الثاني : تكونُ للْيَوْم قبْلَها ، فتكون اللَّيلة تابعةً لها ]
فيَوْمُ عَرَفَةَ؛ على الأوَّل : مستثنىً من الأصْلِ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده ، وعلى الثاني : جاء على الأصْلِ .
قال القرطبي : وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام :
قِسْماً جعَلَه لَيْلاً مَحْضاً؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر ، وقِسْماً جعَلَهُ نهاراً مَحضاً ، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها ، وقِسْماً جعَلَهُ مُشْترِكاً بين النَّهارِ واللَّيْلِ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل ، [ ومَبَادِئ ضَوء النَّهار ] .
قوله تعالى : « وَالفُلْك » عَطْفٌ على « خَلْقٍ » المجرورة ب « فِي » لا على « السَّمَواتِ » المجرورة بالإضافة ، و « الفُلْك » يكونُ واحداً؛ كقوله : { فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] ، وجَمْعاً كقَوْله : « في الفُلْكِ { فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ ، ففيه أقوالٌ :
أصحُّها - وهو قولُ سيبويه - : أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ ، وإنْ قيل : جمْعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تَغَيُّرٍ ما ، فالجَوَابُ : أنَّ تغييره مقدَّرُ ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعاً ، كالضمة في » حُمُرٍ « و » نُدُبٍ « وفي حال كون مفرداً ، كالضَّمَّة في » قُفْلٍ « ، وإنَّما حمل سيبيوه على هذا ، ولم يجعلهُ مشتركاً بين الواحد والجمع؛ نحو : » جُنُبٍ « و » شُلُلٍ « [ فلَمَّا ثَنَّوْهُ ، وقالوا : فُلْكَانٍ ، علمْنا ] أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في » جُنُبٍ « و » شُلُل « ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ ، ودرْعٌ دِلاَصٌ ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في » كِتَاب « وفي الجمع كالكسرة في » رِجَال « ؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة : هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ .
الثاني : مذهب الأخفش : أنَّه اسم جمع ، كصحبٍ ، وركبٍ .
الثالث : أنَّه جمع « فَلَكٍ » بفتحتين ، كأسدٍ وأُسدٍ ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين الواحد والجمع ، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية ، ولم يذكر لاختياره وجهاً ، وإذا أفرد « فلك » ن فهو مذكَّر؛ قال تعالى : { فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] . وقال جماعةٌ ، منهم أبو البقاء : يجوزُ تَأْنيثُهُ؛ مستدلِّين بقوله : { والفلك التي تَجْرِي فِي البحر } فوصفه بصفة التأنيث ، ولا دليل في ذلك؛ لاحتمال أن يراد به الجمع؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد .
قال الواحديُّ : وأصله من الدَّوَرَان ، فكل مستدير فلك ، ومنه « فَلَكُ السَّمَاءٍ » ؛ لدوران النُّجوم فيه ، و « فَلْكَةُ المِغْزَلِ » [ وفَلكَتِ الجَارِيَةُ : استدارَ نَهْدُها ] ، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ .
وجاء بصلة « الَّتِي » فعلاً مضارعاً؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث ، وإسناد الجري إليها مجازٌ ، وقوله : « فِي البَحْرِ » توكيدٌ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره؛ كقوله { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
فصل في عدد البحور
قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله - قيل : إنَّ البُحُورَ المَعْرُوفَةَ [ خَمْسَةٌ ] : بحرُ الهند : وهو بحرُ الصِّين ، وبحرُ المغرب ، وبحر الشَّام ، وبحر الرُّوم [ ومِصْر ] وبحر نيطش وبحر جُرْجان .
فالأوَّل يمتدُّ طوله [ من المغرب إلى المَشْرقِ ] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أٌصى أرض الهند ، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر ، يسمَّى البربريُّ ، وخليج بحر أيلة ، وهو بحر القلزم ، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة ، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران ، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة ، وخليج فارس الحجاز واليمن ، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أٌصى الهند يسمَّى الأخضر ، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها لثلاثة الآف ميل فيها جبالٌ وأنهارٌ ، ومنها يخرجُ الياقوتُ الأحمر .
وأمَّا بحر المغرب ، فهو المحيط ويسمِّيه اليونانيُّون : أوقيانوس ، ويتًّل به بحر الهند ، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذياً لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذياً لأرض السُّودان مارّاً على [ حدود السّوس ، وطنحة وتاهرت ] ، ثم الأندلس والجلالقة والصَّقالبة ، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق ، وهذا البحر لا تجري فيه السُّفن إلا بقرب ساحله ، وفيه ستُّ جزائر تسمى الخالدات ، تقابل أرض الحبشة ، ويخرج منه خليجٌ عظيمٌ يمتد إلى أرض بلغار .
وأما بحر الرُّوم وإفريقية [ ومصر والشَّام : ] فيخرج منه إلى أرض البربر ، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستُّون جزيرةً .
وأما بحر نيطش : فيمتدُّ من اللاذقيَّة إلى خلف قسطنطينيَّة ، وأرض الرُّوم والصَّقالبة .
وأمَّا بحر جرجان ، ويعرف ب « بحر السُّكون » فيمتدُّ إلى طبرستان والدَّيلم ، وباب الأبواب ، وليس يتصل ببحر آخر ، فهذه هي [ البُحُور ] العظامُ ، وأما غيرها : فهي بَطَائح؛ كبحيرة خوارزم ، وبحيرة طبريَّة .
فصل في سبب تسمية البحر بالبحر
قال اللَّيثُ : سمي البحر بحراً؛ لاستبحاره ، وهو سعته وانبساطه ، ويقال : استبحر فلانٌ [ في العلم ] ، إذا اتَّسَعَ فيه؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ ، وتبحَّر فلانٌ في المال .
وقال غيره : سُمِّيَ البحر بحراً؛ لأنَّه شقّ في الأرض ، والبحر الشَّقُّ ، ومنه البُحَيْرَة .
قوله تعالى : « بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ » . [ في « ما » قولان :
أحدها : أنها موصولة اسميَّةٌ؛ وعلى هذا : الباء للحال ، أي : تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس .
الثَّاني : أنها ] حرفيَّةٌ ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّببب ، أي : تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها .
فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع .
فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس :
فهو أنَّ السُّفُن ، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [ هو الَّذي ] خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن ، وتبحرُ بها الرياح ، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها ، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن ، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار ، ويخَّر البحر لحمل الفلك ، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج ، وعظُم هوله ، واضطربت أمواجه ، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلاه إلى ساحل السَّلامة ، وهذا أمرٌ لا بد له من مدَبِّر ، ومقتدر يحفظه ، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب ، والتِّجارة؛ قوله : « بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ » .
فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر
البحر إذا أرتج ، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الالب فيه السلامة - [ نقله القُرْطُبيُّ ] .
قوله تعالى : { وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ } [ البقرة : 164 ] [ « من » ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية ، أي : أنزل من جهة السماء ، واما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره .
والثاني : أن تكون للتَّبعيض؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ .
والثالث : أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله : « من السماء » بدل اشتمالٍ بتكرير العامل ، وكلاهما أعني « مِن » الأولى ، و « مِن » الثانية متعلِّقان ب « أَنْزَلَ » .
فالجوابُ : أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف ، ولا بدلٍ ، لا تقول : أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ ، وَأَمَّا الآية الكريمة : فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ « مِنَ » الثانية للبيان ، أو للتبعيض ، فظاهرٌ؛ لاختلاف معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء ، وإن جعلناها لابتداء الغاية ، فهي وما بعدها بدلٌ ، والبدلُ يجوز ذلك فيه ، كما تقدَّم ، ويجوز أن تتعلَّق « مِن » الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ؛ إمَّا من الموصول نفسه ، وهو « مَا » ، أو من ضميره المنصوب ب « أنْزَلَ » ، أي : وما أَنْزَلَ اللَّهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء .
فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالَّة على وجود الصانع
قيل : أراد بالسَّماء السَّحَابَ؛ فإنَّ كلَّ ما علاك يُسَمَّى سماءً ، ومنه قيل : سَقْفُ البيت سماؤُهُ ، وقيل : أراد السَّماء المعرفة ، وأنَّه ينزل من السَّماء إلى السَّحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ، وفي دلالة إنزالِ الماء من السَّماء على وجود الصَّانع : أنَّ جسم الماء ، وما قام به من صفات الرَّقَّة ، والرُّطوبة ، واللَّطَافة والعُذُوبة ، وجعله سبباً لحياة الإنسان ، ولأكثر [ منافعه ] ، وسبباً لرزقه ، وكونه من السحاب معلَّقاً في جَوِّ السَّماء ، وينزل عند التضرُّع ، واحتياج الخلق إليه - مقدار المنفعة ، وسوقه إلى بلد ميِّتئن فحيي به - من الآيات العظيمة الدَّالَّة على وجود الصانع المدبِّر القدير .
قوله تعالى : « فَأَحْيَا بِهِ » عطف « أحْيَا » على « أَنْزَلَ » الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب ، دلالة على سُرعة النبات ، و « بِهِ » متعلِّق ب « أَحْيَا » والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب ، وأن تكون باء الإله ، وكلُّ هذا مجازٌ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك ، والضميرُ في « به » يعود على الموصول .
فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع
اعلم أنَّ « أحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا » يدلُّ على وجود الصانع من وجوه :
[ فإنَّ نفس الزَّرع وخروجه على هذا الحدِّ ليس في مقدور أحدٍ .
واختلاف ألوانه على وجه ] [ لا يُحَدُّ ، ولا يُحْصَى ] ، واختلاف الطُّعُوم والروائح ، مع كونه يسقى بماء واحدٍ .
واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصةٍ ، فإنَّ ظهور النَّبات من الكلأ ، والعشب ، وغيرهما ، لولاه ما عاش دوابُّ الأرض ، ولما حصلت أقوات العباد [ وملابسهم ] .
وهذا لا بُدَّ له من [ مُدَبِّر ] ، حكيمٍ ، قادرٍ .
وووصف اأرض بالحاية بعد الموت مجازٌ؛ لأنَّ الحياة لا تصحُّ إلاَّ على من يدرك ، ويصحُّ أن يعلم ، وكذلك الموت؛ إلاَّ أنَّ الجسم ، إذا صار حيّاً ، حصل فيه أنواعٌ من الحسن ، ونضرة ، ونور ، ورونق ، وذلك لشبهه [ بالحياة ] ، وموتها [ يبسها ، وجدبها ] ، وهذا مجاز أيضاً؛ لشبهة بالموت .
قوله تعالى : « وَبَثَّ فِيهَا » يجوز في « بَثَّ » وجهان :
أظهرهما : أنَّهما عطفٌ على « أَنْزَلَ » داخلٌ تحت حُكم الصِّلة؛ لأنَّ قوله « فَأَحْيَا » عطفٌ على « أَنْزَلَ » فاتصل به ، وصارا جميعاً كالشَّيء الواحد ، وكأنه قيل : « وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ ، ويَعِيشُون بالحَيَا » : قاله الزمخشريُّ .
والثاني : أنه عطفٌ على « أَحْيَا » .
واستشكل أبو حيَّان عطفه [ عليها؛ لأنَّها صلةٌ للموصول ، فلا بُدَّ من ضمير يرجع من هذه الجملة إليه ، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ ] ؛ لأن « فيها » يعود على الأَرْض ، فبقي أن يكون محذوفاً ، تقديره : وبَثَّ به فيها ، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرورة بحرف إلا بشروطٍ :
أن يكون الموصول مجروراً بمثل ذلك الحرف .
وأن يتَّحِد متعلَّقهما .
وألاَّ يُحْصَرَ الضَّميرُ .
وأن يتعيَّن للرَّبط .
وألا يكون الجارُ قائماً مقام مرفوعٍ .
والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة ، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر ، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ؛ قال : وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم ، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه؛ وأنشد شَاهِداً عليه : [ الخفيف ]
866 - مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ
أي : والَّذي أَطَاعَ؛ وقوله : [ الوافر ]
867 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ
أي : ومن [ يَمْدَحُهُ ] وَيَنْصُرُهُ .
وقوله : [ الطويل ]
868 - فَوَاللَّهِ ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ ... بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ
أي : « مَا الَّذِي نِلْتُمْ » ، وقوله تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] ؛ ليطابق قوله : { والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] ، ثم قال : وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل - يعني : جواز الحذف - وإن لم يوجد شرطه . قال : وقد جاء ذلك في أشعارِهِم؛ وأنشد : [ الطويل ]
869 - وَإشنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَّ عَلَى مَْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ
أي : عَلْقَمٌ عَلَيْهِ ، وقوله : [ الطويل ]
870 - لَعَلَّ الًَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي ... إلى الأَرْضِ إشنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ
أي : أصْعَدتنِي بِهِ .
[ قوله تعالى : « مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ » يجوز في « كُلِّ » ثلاثة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون ي موضع المفعول به ] ، وتكون « مِنْ » تبعيضيَّةً .
الثاني : [ أن تكون « مِنْ » زائدةً على مذهب الأخفش ، و « كُلِّ دَابَّةٍ » مفعولٌ به ل « بَثَّ » أيضاً .
والثالث ] : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول « بَثَّ » المحذوف ، إذَا قلنا : إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً ، تقديره : وما بَثَّ حال كونه كائناً من كُلِّ دابَّةٍ؛ وفي « مِنْ » حينئذٍ وجهان :
أحدهما : { أن تكون للبيان .
والثاني ] : أن تكون للتبعيض .
وقال أبو البَقَاءِ رحمه الله : ومفعول « بَثَّ » محذوفٌ ، تقديره : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } وظاهرُ هذا أنَّ « مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ » : صفةٌ لذلك المحذوف ، { وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته ] .
والبَثُّ : نَشْرٌ وتفريقٌ .
قال : [ الطويل ]
871 - . ... وَفِي الأضرْضِ مَبْثُوثاً شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ
ومضارِعُه : يَبُثُّ ، بضم العين ، وهو قياسُ المُضَاعف [ المُتَعَدِّي ] ، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ؛ قالوا : « نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ » بالوجهين .
والدَّابَّةُ : اسمٌ لكلِّ حيوانٍ ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه ، ورُدَّ [ عليه ] بقول عَلْقَمَةَ : [ الطويل ]
872 - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
وبقول الأعْشَى : [ الطويل ]
873 - . . ... دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهِلِ
وبقوله سبحانه : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] ثمَّ فَصَّل : بمن يمشي على رجلين ، وهو الأإنسان والطَّير .
فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع
اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد ، وقد يكون بالتَّوَالد :
وعلى التقديرين : فلا بُدَّ فيهما من [ الافتقار إلى ] الصَّانع الحَكِيم؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه - : إنِّي لاأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاع ، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفِ مَرَّةٍ ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد ، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين - : ههنا ما هو أَعجيب منه ، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [ في شبرٍ ] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه؛ كالحاجبين ، والعينين ، والأنف ، [ والفم ] ، لا يتغيَّر ألبَتَّة ، ثم إنَّك لا ترى ضخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة ، وكذا اللَّون ، والألسنة ، والطِّباع ، والأمزجة ، والصَّوت ، والكثافة ، واللَّطَافة ، والرِّقَّة ، والغلظ ، والطُّول ، والقصر ، وبقيَّة الأعضاء ، والبَلاَدة ، وافِطنة ، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها!
ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - [ أنه قال ] : « سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ » .
واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع؛ قالوا : أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ ، ودونها في اللَّطافة : الهواء ، وهو حارٌّ رطبٌ ، ودونها : الماء؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ؛ لثقلها ، وكثافتها ، [ ويُبْسها ] ، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [ تركيب ] بَدنِ الإنسان؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف ، والعظم وهو باردٌ يابسٌ ، فطبيعته على طبيعة الأرض ، وتحته الدِّماغُ ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء ، وتحته النَّفَسُ ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء ، وتحت الكل : القلبُ ، وهو حارٌّ يابسٌ على طبع النَّار ، فسبحان من [ بيده قلبُ ] الطبائع ، وترتيبها كيف يشاء ، وتركيبها كيف أراد .
ومن هذا الباب : أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ ، فإنَّه يصونه عن التُّراب؛ لئلاَّ يكدِّره ، وعن النار؛ لئلاَّ تحرقه ، وعن الهواء؛ لئلاَّ يغيره ، وعن الماءِ؛ لئلا تذهب به ، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء؛ فقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال في النار { وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 15 ] وقال تعالى { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] وقال تعالى في الماءِ : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ } [ الأنبياء : 30 ] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ؛ وأيضاً : انظر إلى الطِّفل بعد افنصاله من أُمّشه ، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [ فانْقَطَع نَفَسُه ] ، لمات في الحَال ، ثمَّ إن بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [ مديدةً ] ، مع تعذُّر النَّفس هناك ، ولم يمُتْ ، [ ثم إنَّهُ ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء ، وأبعدها عن الفهم؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار ، وبين الأُم وغيرها ، وبعد استكماله يصير أكل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك ، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم ، هذا بعض ما في الإنسان .
وأمَّا الكلام على بقيَّة الحيوان ، فبَحْرٌ لا ساحل له .
قوله تعالى : « وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ » : « تَصْرِيفِ » : مصدرُ « صَرَّفَ » ، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب ، ويجوزُ أنْ يكون مضافاً للفاعل ، والمفعول محذوف ، تقديره : [ وتصريف الرِّياح السَّحَابَح فإنَّها تسوق السَّحاب ، وأن يكون مضافاً للمفعول ، والفاعل محذوفٌ ، أي : ] وتصريفُ الله الرِّياح ، والرِّياح : جمعُ « رِيح » ، جمع تكسير ، وياء الرِّيح ، والرِّياح عن واو ، والأصلُ « روحٌ » ؛ لأنَّه من : رَاحَ يَرُوحُ ، وإنَّما قُلِبَتْ في « ريح » ؛ لِسُكُونها ، وانكسار ما قَبْلها ، وفي « رِيِاح » ؛ لأنَّها عينٌ [ في جمع ] بعد كسرةٍ ، وبعدها ألفٌ ، وهي ساكنةٌ في المفرد ، وهي إبدالٌ مطَّردٌ؛ ولذلك لمَّا زال موجب [ قلبها ، رجعت إلى أصلها ] ؛ فقالوا : أرواحٌ؛ قال : [ الطويل ]
874 - أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ
ومثله : [ الوافر ]
875 - لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ
فصل في لحن من قال : الأرياح
وقد لَحَنَ عَمَارَةُ بْنُ بِلاَلٍ ، فقال « الأرْيَاحَ » في شعره ، فقال له أبو حَاتِم : « إنَّ الأرْيَاحَ لا تجُوزُ » فقال له عمارةُ : ألاَ تَسْمَعُ قولهم : رِيَاحٌ؟ فقال أبو حاتمِ : هذا خلاف ذلك ، فقال : صَدَقْتَ ، ورجع .
قال أبُو حَيَّان : وفي محفوطي قديماً؛ أنَّ « الأَرْيَاح » جاء في شعر بعض فُصَحَاءِ العَرَب المستَشْهَد بكلامهم ، كأنَّهم بنوه على المفرد ، وإن كانت علّضة القلب مفقودةً في الجمع ، كما قالوا : « عيدٌ وأعْيَادٌ » والأصلُ « أَعْوَاد » ؛ لأنَّه من : « عَادَ يَعُودُ » ، لكنه لما ترك البَدَل ، جعل كالحرف الأصليِّ .
قال شِهِابُ الدِّيِن : ويؤيد ما قاله الشَّيْخُ أن التزامَهُمُ « الياء » في « الأَرْيَاحِ » ؛ لأجل اللَّبس [ بينه ، وبين « أَرْوَاح » جمع « رُوح » ، كام قالوا : التُزمت الياء في « أعْيَاد؛ فَرْقاً ] بينه وبين » أعْوَاد « جمع عود الحطب؛ كما قالوا في التصغير : » عُيَيْد « دون » عُوَيْد « ؛ وعلَّلوه باللَّبْس المذكور .
وقال أبو عليٍّ : [ يجمع ] في القليل » أرْوَاح « وفي الكثير » رِيَاح « .
قال ابن الخطيب وابن عطِيَّة : » وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرَّحمة ، مفردةً مع العذابِ ، إلاَّ في قوله تعالى : { وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ }
[ يونس : 22 ] وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : « اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً ، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً » ؛ لأنَّ رِيحَ العذَابِ شديدةٌ ملتئمةُ الأجْزاءِ ، كأنَّهَا جسْمٌ واحدٌ ، وريح الرَّحْمَة ليِّنَةٌ متقطِّعَةٌ ، وإنما أُفْرِدَتْ مع الفُلْكِ - يعني في يونس - لأنَّها لإجراء السُّفُن ، وهي واحدةٌ متَّصِلَةٌ؛ ثمَّ وصفت بالطَّيِّبَةِ ، فزال الاشتراك بينها ، وبين ريح العذاب « . انتهى .
وردَّ بعضهم هذا؛ باختلاف القُرَّاء في اثْنِي عَشَرَ موضعاً في القرآن ، وهذا لا يَرُدُّه لأنَّ من جمع في الرَّحمة ، فقد أتى بالأصل المُشِار إليه ، ومن أفرد في الرّحمة ، فقد أراد الجنس ، [ وأما الجمع في العذاب ، فلم يأتِ أصلاً ] ، وإما الإفراد فإن وصف ، كما في يونس من قوله : » بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ « فإنَّه مزيلٌ للَّبس ، وإن أطْلَقَ ، كان للعذَابِ ، كما في الحديث ، وقد تختصُّ اللفظة في القرآن بشيءٍ ، فيكون أمارةً له ، فمن ذلك : ان عامَّة ما في القرآن من قوله : { يُدْرِيكَ } [ الشورى : 17 ] مبهمٌ غير مبيَّن ، قال تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ » أَدْرَاك « فإنَّه مفسَّر؛ كقوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 10 - 11 ] .
وقرأ حَمْزَةُ ، والكسائيُّ هنا » الرِّيح « بالإفراد ، والباقون بالجَمع ، فالجمع لاختلاف أناوعها : جَنُوباً ودَبُوراً وصَباً وغير ذلك ، وإفرادها على إرادة الجنس ، وكلُّ ريح في القرآن ليس فيها ألفٌ ولامٌ ، اتفق القرَّاء على توحيدها ، وما فيها ألف ولام ، اختلفوا في جمعها ، وتوحيدها ، إلاَّ الرِّيح العقيم في سورة الذَّاريات [ 41 ] ، اتفقوا على توحيدها ، والحرف الأوَّل من سورة الروم { الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] اتفقوا على جمعها ، والرِّياح : تذكَّر ، تؤنَّث .
فصل في بيان تصريف الرياح
وأمَّا تصريفها : فإنها تُصرَّفُ إلى الشَّمال والجنوب والقبول والدَّبور ، وما بين كلِّ واحدٍ من هذه المهابِّ ، فهي نكباء ، وقيل في تصريفها : إنها تارةً تكون ليِّنة ، وتارةً تكون عاصفةٌ ، [ وتارةً حارَّةً ] ، وتارة باردةً .
قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - : أعظم جنود الله تعالى الرِّيح ، والماء ، وسمِّيت الرِّيح ريحاً؛ لأنها تريح النفوس .
قال القاضي شريح : ما هبَّت ريحٌ إلاَّ لشفاء سقيم ، ولسقيم صحيحٍ . والبشارة في ثلاثة من الرِّياح ، في الصَّبا ، والشَّمال ، والجنوب ، وأمَّا الدَّبور ، فهي : الرِّيح العقيم ، لا بشارة فيها .
وقيل : الرِّياح ثمانيةٌ : أربعةٌ للرَّحمة : المبشرات ، والنَّاشرات ، والذَّاريات ، والمرسلات ، وأربعة للعذاب : العقيم ، والصَّرصر في البرِّ ، والعاصف والقاصف في البحر .
روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - : فروح الله سبحانه وتعالى ] تأتي بالرَّحمة ، وتأتي بالعذاب ، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها واسألوا الله من خيرها ، واستعيذوا بالله من شرِّها .
قال ابن الأعرابيِّ : النَّسيم أوَّل هبوب الريح .
فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية
فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيَّة الله تعالى الصَّانع ، فإنَّه صرَّفها على وجه النَّفع العظيم في الحيوان ، فإنَّها مادَّة النَّفس الَّذي لو انقطع ساعةً في الحيوان ، لمات .
قيل : إنَّ كلَّ ما كانت الحاجة إليه أشدَّ ، كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات؛ حتى لو انقطع عنه لحظة ، لمات؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ .
وبعد الهواء الماء؛ لأنَّ الحاجة إلى الماء أيضاً شديدةٌ؛ فلا جرم أيضاً سهل وجدان الماء ، ولكنَّ وجدان الهواء أسهل؛ لأنَّ الماء لا بُدَّ من تكلُّف الاغتراف ، بخلاف الهواء؛ فإنَّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرةٌ أبداً .
ثم بعد الماء : الحاجة إلى الطَّعام شديدةٌ ، ولكن دون الحاجة إلى الماء؛ فلا جرم كان تحصيل الطَّعام أصعب من تحصيل الماء؛ لأنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ أكثر ، والمعاجين والأدوية تقلُّ الحاجة غليها؛ فلا جرم عسرت وقلَّت ، ولمَّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى ، ننرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ ، ولولا تحرُّك الرياح ، لما جرت الفلك ، وذلك ممَّا لا يقدر عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى ، فلو أراد كلُّ من في العالم ان يقلب الرياح من الشَّمال إلى الجنوب ، او إذا كان الهواء ساكناً ، أن يحركه ، لم يقدر على ذلك .
قوله تعالى : « والسَّحَابِ » اسم جنس ، واحدته « سَحَابَةٌ » [ سُمِّي بذلك ] ؛ لانسحابه في الهواء؛ كما قيل له « حَباً » لأنَّه يحبو ، ذكره أبو عليٍّ .
قال القرطبيُّ : ويقال : سَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْباً ، وتَسَحَّبَ فُلاَنٌ على فُلاَنٍ؛ والسَّحْبُ شدة الأكل والشُّرب؛ وباعتبار كونه اسم جنس ، وصفه بوصف الواحد المنكِّر في قوله : « المُسَخَّرِ » كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] ولما اعتبر معناه تارةً أخرى ، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله : « سَحَاباً ثِقَالاً » ويجوز أن يوصف به المؤنَّثة الواحدة؛ كقوله : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهكذا : كلُّ اسم جنسٍ فيه لغتان : التذكير باعتبار اللّفظ ، والتأنيث باعتبار المعنى .
والتَّسخير : التذليل ، وجعل الشَّيء داخلاً تحت الطَّوْع ، وقال الرَّاغب : هو القهر على الفعل ، وهو أبلغ من الإكراه .
قوله تعالى : « بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ » في « بَيْنَ » قولان :
أحدهما : أنه منصوبٌ بقوله : « المُسَخَّرِ » فيكون ظرفاً للتَّسخير .
ولاثاني : أن يكون حالاً من الضَّمير المستتر [ في اسم المفعول ] ؛ فيتعلَّق بمحذوف ، أي : كائناً بين السَّماء والأرض ، و « لآيَاتٍ » اسم « إنَّ » ، والجارُ خبرٌ مقدَّمٌ ، ودخلت اللاَّم على الاسم؛ لتأخُّره عن الخبر ، ولو كان موضعه ، لما جاز ذلك فيه .
وقوله : « لِقَوْمٍ » : في محلِّ نصبٍ ، لأنَّه صفةٌ ل « آياتٍ » ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، وقوله : « يَعْقِلُونَ » : الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ ل « قَوْمٍ » ، والله أعلم .
فصل في تفسير « السَّحَاب » روى ابن عبَّاس عن كعب الأحبار - رضي الله عنه - قال : « السَّحَابُ غِرْبَالُ المَطَرِ ، لَوْلاَ السَّحَابُ حِينَ ينزل المَاء مِنَ السَّمَاءِ ، لأَفْسَدَ مَا يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ » .
وقال ابن عَبَاسِ - رضي الله عنهما - : سَمِعْتُ كَعْباً ، يَقُولُ : إنَّ الأرْضَ تُنْبِتُ العام نباتاً ، وتُنْبِتُ نَبَاتاً عَاماً قَابِلاً غَيْرَهُ ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : إنَّ البَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ المَطَرِ ، فَيَخْرُجُ في الأَرْضِ .
فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله
في الاستدلال بتسخير السَّحاب على وحدانيَّة الصَّاع : أنَّ طبع الماء ثقيلٌ يقتضي النُّزول فكان بقاؤه في جوِّ الهواء على خلاف الطَّبع ، فلا بُدَّ من قادرٍ قاهرٍ ، يقهر على ذلك ، فلذلك سمّضاه بالمسخَّر ، وأيضاً : فإنَّه لو دام ، لعظم ضرره من حيث إنَّه يستر ضوء الشَّمس ، ويكثر [ الأمطار ، والابتلال ] ، ولو انقطع ، لعظم ضرره؛ لأنَّه يفضي إلى القحط وعدم العشب ، والزراعة؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة ، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدِّرٍ قاهرٍ أيضاً؛ فإنَّه لا يقف في موضع معيَّن ، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرِّياح إلى حيث شاء وأراد ، وذلك هو التَّسخير .
روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال : « بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ ، فَسَمِعَ صَوْتاً مِنَ سَحَابَةٍ : اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ ، فَتنَحَّى ذلك السَّحَابُ ، فأفرغ ماءَهُ في جرَّةٍ ، فإذا بشرجةٍ من تلك الشِّراج ، وقد استوعتب ذلك الماء كلَّه ، فتتبَّع الماء ، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته ، فقال له : يا عبد الله ، ما اسمك؟ قال : فلان؛ للاسم الذي سمع من السَّحاب ، فقال له : يا عبد الله ، لم تَسْأَلُني عن اسمي؟ فقال : إني سمعت صوتاً من السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول : اسق حديقة فلان لاسمك ، فماذا تصنع؟ قال : أمَّا إذا قلت هذا ، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدَّق بثلثه ، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأردُ فيها ثلثه . »
وفي روايةٍ : « وأجعل ثلثه للمساكين ، والسَّائلين ، وابن السَّبيل »
قوله : « يَعْقِلُونَ » ، أي : يعلمون لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً .
قال القاضي : دلت الآية على أنَّه لو كان الحقُّ يدرك بالتقليد ، واتباع الآباء ، الجري على الإلف والعادة ، لما صَحَّ قوله : « لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » ، وأيضاً : لو كانت المعارفُ ضروريَّةً ، وحاصلةً بالإلهام ، لما صَحَّ وصفُ هذه الأمُور بأنَّها آياتٌ؛ لأنَّ المعلومَ بالضَّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات .
قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : ثلاثة لا يدرى من أين يَجِيء : الرَّعد ، والبرق ، والسَّحاب .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
اعلم : أنه ، سبحانه وتعالى ، لمَّا قرَّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة ، أردفه بتقبيح ما يضاده؛ لأنَّ تقبيح ضد الشيء مما يوكِّد حسن الشَّيء .
قال الشاعر : [ الكامل ]
876 - . ... وَبِضِدِّهَا تَتَبَيِّنُ الأَشْيَاءُ
وقالوا أرضاً : النِّعمة مجهولةٌ ، فإذا فقدت عرفت ، والنَّاس لا يعرفون قدر الصِّحَّة ، فإذا مرضوا ، ثم عادت الصحَّة إليهم ، عرفوا قدرها ، وكذا القول في جميع النِّعم ، فلهذا السَّبب أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدَّالَّة على التَّوحيد بهذه الآية الكريمة .
قوله تعالى : « مَنْ يَتَّخِذُ » « مَنْ » : في محلِّ رفع بالابتداء ، وخبره الجارُّ قبله ، ويجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون موصولةً .
والثاني : أن تكون موصوفةً .
فعلى الأوَّل : لا محلَّ للجملة بعدها . وعلى الثاني : محلُّها الرَّفع ، أي : فريقٌ ، أو شخصٌ متَّخذٌ ، وأفرد الضمير في « يَتَّخِذُ » ؛ حملاً على لفظ « مَنْ » و « يَتَّخِذُ » : يفتعل ، من « الأَخْذ » ، وهي متعدِّية إلى واحد ، وهو « أنداداً » .
قوله تعالى : « مِنْ دُونِ اللَّهِ » : متعلِّق ب « يَتَّخِدُ » ، والمرابد ب « دُونِ » [ هنا « غَيْرَ » ] . وأصلها إذا قلت : « اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقاً » ، أصله : اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك ، ومكانك صديقاً ، فهو ظرف مجازيٌّ ، وأذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه ، ودونه؟ لزم أن يكون غيراً ، [ لأنه ليس إيَّاه ، ثم حُذِف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، مع كونه غيراً ] ، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق ، لا بطريق الوضع لغةً ، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة .
فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد
اختلفوا في « الأَنْدَاد » ، فقال أكثر المفسِّرين : هي الأوثان التي اتَّخذوها آلهةً ، ورجعوا من عندها النف والضُّرَّ ، وقصدوها بالمسائل ، وقرَّبوا لها القرابين؛ فعلى هذا : الأصنام بعضها لبعضٍ أندادٌ أي أمثالٌ ، والمعنى : أنَّها أندادٌ لله تعالى؛ بحسب ظنونهم الفاسدة .
وقال السُّدِّيُّ : إنَّها السَّادة الَّذين كانوا يطيعونهم ، فيحلون لمكان طاعتهم في أنَّهم يحلُّون ما حرّم الله ، ويحرِّمون ما أحلَّ الله؛ ويدلُّ على هذا القول وجوه :
الأوَّل : ضمير العقلاء في « يُحِبُّونَهُمْ » .
والثاني : يبعد أنَّهم كانوا يحبُّون الأصنام كحبِّ الله تعالى ، مع علمهم بأنها لا تضر ، ولا تنفع .
الثالث : قوله بعد هذه الآية : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] ؛ وذلك لا يليق إلاَّ بالعقلاء .
وقال الصُّوفية : كلُّ شيءٍ شغلت قلبك به سوى الله تعالى ، فقد جعلته في قلبك ندّاً لله تعالى؛ ويدلُّ عليه قوله تبارك وتعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] .
قوله تعالى : « يُحِبُّونَهُمْ » في هذ الجلمة ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن تكون في محلِّ رفع؛ صفة ل « مِنْ » في أحد وجهيها ، والضمير المرفوع يعود عليها؛ باعتبار المعنى ، بعد باعتبار اللَّفظ في « يَتَّخِذُ » .
والثاني : أن تكون في محلِّ نصبٍ؛ صفةً ل « أَنْدَاداً » ، والضمير المنصوب يعود عليهم ، والمراد بهم الأصنام؛ وإنَّما جمعوا جمع العقلاء؛ [ لمعاملتهم له معاملة العقلاء ، أو يكون المراد بهم : من عبد من دون الله من العقلاء ] وغيره ، ثم غلب العقلاء على غيرهم .
قال ابْنُ كَيْسَانَ ، والزَّجَّاجُ : معناه : كَحُبِّ اللَّه ، أي : يسوُّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبَّة .
قال أبو إسْحَاقَ : وهذا القول الصحيح؛ ويدلُّ عليه قوله : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } نقله القرطبيُّ .
الثالث : أن تكون في محل نصب على الحال مِنَ الضَّمير في « يَتَّخِذُ » ، والضمير المرفُوع عائدٌ على ما عاد عليه الضَّمير في « يَتَّخِذُ » ، وجُمِعَ حملاً على المعنى؛ كما تقدَّم .
قال ابن الخطيب رحمه الله تعالى : في الآية حَذْفٌ ، أي : يُحبُّونَ عبادَتَهُمْ ، والانقياد إليهم .
قوله تعالى : « كَحُبِّ الله » الكاف في محلِّ نصبٍ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : يحبُّونَهُمْ حُبّاً كَحُبِّ اللَّه ، وأمَّا عل الحال من المَصدر المعرَّف؛ كما تقرَّر غير مَرَّة ، والحُبُّ : إرادة ما تَاهُ وتظنُّه خيراً ، وأصله من : حَبَبْتُ فُلانَاً : أصبحتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ؛ نحو : كَبِدتُهُ ، وأَحْبَبْتُهُ : جعلت قَلْبِي مُعرَّضاً بأنْ يُحِبَّهُ ، لكن أكثر الاستعمال أنْ يقال : أَحْبَبْتُهُ ، فهو مَحْبُوبٌ ، وَمُحَبٌّ قليلٌ؛ كقول القائل : [ الكامل ]
877 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بمَنزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ
والحُبُّ في الأصل : مصدرُ « حَبَّهُ » وكان قياسه فتح الحاء ، ومضارعُهُ يَحُبُّ بالضم ، وهو قياس فعل المضعَّف ، وشَذَّ كسره ، و « مَحْبُوب » أكثر مِنْ « مُحَبٍّ » ، و « مُحَبٌّ » أكثر من « حَابٍّ » وقد جمع الحُبُّ؛ لاختلاف أنواعه؛ قال : [ الطويل ]
878 - ثَلاًثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبٌّ عَلاَقَةٌ ... وَحُبٌّ تِمِلاَّقٌ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ
والحُبُّ مصدرٌ لمنصُوبِهِ ، والفاعلُ محذوفٌ ، تقديرُه ، كحُبِّهِمْ الله أو كَحُبِّ المؤمنين اللَّهِ؛ بمعنى : أنَّهم سَوَّوا بين الحُبَّيْن : حبِّ الأنداد ، وحُبِّ الله .
وقال ابن عطيَّة : « حُبّ » : مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللَّفْظ ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعل المُضمرِ ، يريدُ به : أنَّ ذلك تقديرُه : كَحُبِّكُمُ اللَّهَ أو كَحُبِّهِمُ اللَّهَ ، حَسبما قدَّرَ كُلَّ وَجهٍ منهما فرقَةٌ انتهى .
وقوله : « للفاعل المُضْمر » يريدُ به أنَّ ذلك الفاعل منْ جنس الضمائرِ ، وهو « كمْ » أو « هُمْ » أو يُسَمَّى الحذف إضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ولا يريد أنَّ الفاعل مُضْمر في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعال؛ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضهم؛ مردُودٌ بأن المصدر اسم جنسٍ واسمُ الجنس لا يُضمرُ فيه لجمودِهِ .
وقال الزمخشريُّ : « كَحُبِّ اللَّهِ » كتعظيم الله ، والخُضُوع ، أي : كا يُحَبُّ اللَّهُ؛ عليه أنه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعول ، وإنما استُغنِيَ عن ذكرِ من يُحِبُّهُ؛ لأنه غير مُلتبسٍ انتهى .
أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول ، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة؛ أعني : الجوازَ مُطْلَقاً .
والثاني : المَنْعُ مُطْلَقاً : وهو الصحيحُ .
والثالث : [ التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول ، فيجوز؛ نحو : عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ ] زيد بالعلم ، ومنه الآية الكريمةُ؛ فإنَّ الغالب من « حُبّ » أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها ، فلا يجوزُ ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقاً بقَول عائشة - رضي الله تعالى عنها - نَهَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، وكرَّم ، ومَجَّد ، وبَجَّل وَعَظَّم - عن قَتْل الأبتر ، وَذُوا الطُّفيتين برفع « ذُو » ؛ عَطْفاً على محل « الأبتر » لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديراً ، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ ، ولتَقرير هذه الأقوال موضعٌ غير هذا .
وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر « المُؤْمنِينَ » أو ضميرهم .
وقال « لَيْسَ بشَيْءٍ » والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين ، أي : يحبُّون الأصنام ، كما يُحبُّون الله؛ لأنَّهم اشركوها مع الله ، فَسَوَّوْا بين الله تعالى ، وبين أوثانهم في المَحَبَّة ، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم ، وبن محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي قوله { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة . وقرأ أبو رجاء : « يَحُبُّونَهُمْ » بفتح الياء من « حَبَّ » ثلاثيّاً ، و « أَحَبَّ » أكثر ، وفي المَثَل : « مَنْ حَبَّ طَبَّ » .
فصل في المراد من قوله كحب الله
في قوله : كَحُبِّ الله قولان :
الأول : كَحُبِّهِم للَّهِ .
والثاني : كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ .
فإِن قيل : العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع ، ولا تعقلُ ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً؛ كما قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] فمع هذا الاعتقادِ ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى ، وقال تعالى؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ؟
والجواب : كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها ، والتَّعْظِيمِ ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه .
قوله تعالى : « أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ » : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [ الأندادَ ، أي : أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين ] الأنْدادَ لأوثانهم؛ وقال أبو البقاء : ما يتعلَّق به « أَشَدُّ » محذوفٌ ، تقديره : أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد ، والمعنى : أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [ أوثَانَهُمْ ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء ] المتَّخذون الأنداد؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره ، وأتى ب « أشَدُّ » موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة « الحُبِّ » ؛ لأنَّ « حُبَّ » مبنيٌّ للمفعول ، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه ، ولا يبنى منه « أَفْعَل » للتَّفضيلِ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك .
[ فأمَّا قوله : « مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ » فساذٌّ على خلافٍ في ذلك ، و « حُبّاً » تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ ، تقديره : حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ ] .
فصل في معنى قوله أشد حبّاً لله
معنى « أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ » ، أي : أثبتُ وأدْوَمُ على حُبِّهِ؛ لأنَّهم لا يختارون على الله ما سواه ، والمشركون إذا اتَّخذوا صَنَماً ، ثم رأوا أحسن منه ، طرحوا الأوَّل ، واختاروا الثَّاني قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما .
وقال قتادة : إن الكافِرَ يُعْرِضُ عن معبودِهِ في وقت البَلاء ، ويُقبل على الله تعالى [ كما أخبر الله تعالى عنهم ، فقال : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ } [ العنبكوت : 65 ] والمؤمن لا يُعْرِضُ عن الله ] في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء ، والشِّدَّة والرَّخاء؛ وقال سعيد بن جُبير : إِنَّ الله - عزَّ وجلّ - يأمُر يَوْم القيامةِ من أحرق نفسه في الدُّنيا على رُؤية الأصنام : أنْ يَدْخُلُوا جهنَّمَ مع أصنامِهِم ، فلا يَدْخُلُون؛ لعلمهم أن عذابَ جَهَنَّم على الدوام ، ثم يقول للمؤمنين ، وهم بين أَيدِي الكفَّار : إنْ كُنْتُم أحِبَّائي فادْخُلُوا جَهَنَّم فيقتحمون فيها ، فيُنادي مُنادٍ منْ تحت العرش { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } .
وقيل : وإنَّما قال : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ؛ لأنَّ الله تبارك تعالى أحَبَّهم أوَّلاً ، ثم أحبُّوه ، ومَنْ شهد له المعبود بالمحبّة ، كانت محبته أتمَّ؛ قال الله تعالى : « يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه » .
فإن قيل : كيف يمكن أن تكون محبَّةُ المؤمن لله أشَدَّ مع أنَّا نَرَى اليهود يأتُون بطاعاتٍ شاقَّة ، لا يأتي بمثلها أحَدٌ من المُؤمنين ، ولا يأتُون بها إلا الله تعالى ، ثم يقتلون أنفُسهم حبّاً لله؟ والجوابُ من وجوه :
أحدها : ما تَقَدَّم من قول ابن عَبَّاس ، وقتادة ، وسعيد بن جبير .
وثانيها : أنَّ مَنْ أحب غيره رضي بقضائه ، فلا يتصرف في مُلْكه ، فأولئك الجُهَّال [ قَتَلُوا أنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إذْنه ، إنَّما المُؤمنون الذي يقتلُون أنْفُسَهم بإذْنِه ، وذلك في الجهاد ] .
وثالثها : أنَّ الإنسَانَ ، إذا ابتلي بالعَذَاب الشَّديد لا يمكنُهُ الاشتغال بمعرفة الرَّبِّ ، فالذي فعلوه باطلٌ .
ورابعها : أنَّ المؤمنين يوحِّدون ربَّهم ، فمحبتهم مجتمعةٌ لواحدٍ ، والكفَّارُ يعبدون مع الصنم أصناماً ، فتنقص مبحَّة الواحد منهم ، أما الأإله الواحد فتنضم محَّبة الجمع إليه .
قوله تعالى : { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا } جواب « لَوْ » محذوفٌ ، واختلف في تقديره ، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة . قرأ عامر ونافعٌ : « وَلَو تَرَى » بتاء الخطاب ، « أنَّ القُوَّة » و « أَنَّ اللَّهَ » بفتحهما .
وقرأ ابن عامر : « إِذْ يُرَوْنَ » بضم الياء ، والباقون بفتحها .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو والكوفيون : « وَلَوَ يَرَى » بياء الغَيْبَة ، « أنَّ القُوَّة » ، « أَنَّ اللَّهَ » بفتحهما . وقرأ الحسن ، وقتادة وشيبة ، ويعقوب ، وأبو جعفر : « وَلَوْ تَرَى » بتاء الخطاب ، « أَنَّ القُوَّةَ » ، و « إِنَّ اللَّهِ » بكسرهما . وقرا طائفةٌ : « وَلَوْ يَرَى » بياء الغيبة « إِنَّ القُوَّة » و « إِنَّ اللَّهِ » بكسرهما . إذا تقرَّر ذلك ، فقد اختلفوا في تقدير جواب « لَوْ » .
فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قوله : « أَنَّ القُوَّةَ » ومنهم مَنْ قَدَّره بعد قوله : { وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } هو قول أبي الحسن الأخفش . [ المُبرِّد .
أمَّا مَنْ قدَّره قبل : « أَنَّ القوَّة » فيكون « أَنَّ الْقوةَ » معمولاً لذلك الجواب ] وتقديره على قراءة « تَرَى » بالخطاب وفَتح « أنَّ » و « أنَّ » : « لَعَلِمْتَ ، أَيها السَّامعُ ، أنَّ القُوَّةَ للَّهِ جميعاً » والمراد بهذا الخطاب : إِمَّا النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وإمَّا : كُلُّ سامع ، فيكون معناه : ولو تَرَى يا محمَّدُ ، أو يا أيُّها السَّامعُ ، الَّذين ظَلَمُوا ، يعني : أشركوا ، في شدَّة العذاب لرأيت أمراً عظيماً [ وقيل : معناه : قُلْ ، يا محمَّد ، أيُّها الظالم ، لو تَرَى الَّذِين ظَلَمُوا من شدَّةِ العذابِ ، لرأيتَ أمراً فظيعاً ] .
وعلى قراءة الكَسرَ في « إِنَّ » يَكُونُ التقديرُ : لَقُلْتَ إِنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ، والخلافُ في المراد من الخطاب كما تقدَّم ، أو يكون التقدير : « لاَسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ » ، وإنما كُسِرَتُ « إِنَّ » ؛ لأنَّ فيها معنى التلعيل؛ نحو قولك : « لو قَدِمْتَ على زيدٍ ، لأَحْسَن إلَيك؛ إنَّه مُكْرِمٌ لِلضِّيفَانِ » فقولُك : « إِنَّهُ مُكْرمُ لِلضِّيفَانِ » علَّةٌ لقولك : « أَحْسَنَ إِلَيْكَ » وقال ابن عطيَّة : تقديره : « وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ في حَال رُؤيتِهِم العذابَ وفَزَعهمْ منْه ، واسْتِعْظَامِهِمْ له ، لأقَرُّوا أنَّ لِلَّهِ جمِيعاً » .
وناقشه أبو حَيَّان ، فقال : كانَ يَنْبغي أنْ يقول : « فِي وقْتِ رُؤْتهم العذابَ » فيأتي بمرادف « إِذْ » وهو الوَقْت لا الحَالُ وأيضاً : فتقديرُه لجَوابِ « لو » غيْر مُرتَّبٍ على ما يلي « لَوْ » ؛ لأن رؤية السَّامع أو النبيِّ - علَيْه الصَّلاة والسَّلام - الظَّالمين في وقت رُؤيتهِمْ [ لا يترتَّب عليها إقْرَارُهُمْ بأنَّ القوَّة لله جميعاً؛ وهو نظيرُ قولك : يَا زيَدُ ، لَوْ تَرَى عَمْراً فِي وَقْتِ ] ضَرْبِهِ ، لأَقرَّ أَنَّ الله - تعالى - قادِرٌ عَلَيْهِ . فإقرارُهُ بقُدْرة اله تعالى ليسَ مترتِّباً على رؤية زيدٍ . انتهى .
وتقديره على قراءة « يَرَى » بالغيبة : « لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ » [ إن كان فاعلُ « يَرَى » : الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وإنء كان ضميراً يَعْودُ على السَّامع ، فيقدَّر : « لَعَلِمَ أنَّ القُوَّة » ] وأمَّا مَنْ قدَّره بعد قوله « شَدِيد العَذَابِ » ، فتقديره على قراءة « تَرَى » بالخطاب : « لاَسْتَعْظَمْتَ مَا حَل بِهِمْ » ويكون فَتْح أَنَّ على أَنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجله ، أي : « لأَنَّ القوَّةَ للَّهِ جميعاً » وكسْرُها على معنى التلعيل؛ نحو : « أَكْرِمْ زيْداً؛ إنَّه عالمٌ ، وأَهِنْ عَمْراً؛ إِنَّهُ جَاهِلٌ » أو تكون جملة فاعلُ « يَرَى » ضمير السَّامع : « لاَسْتَعْظَمَ ذَلِكَ » وإِنْ كان فاعلُهُ الَّذينَ ، كان التقديرُ « لاَسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ » ويكون فتح « أَنَّ على أَنَّها معمولةٌ ل » يَرَى « على أن يكون الفاعل » الَّذِينَ ظَلَمُوا « والرؤية هنا تحتملُ أنْ تكُونَ من رُؤية القَلْب ، فتسُدَّ » أَنَّ « مَسَدَّ مفعوليها ، وأنْ تكُون مِنْ رؤية البَصَر ، فتكون في موضع مفعول واحدٍ .
واَمَّا قراءة « يَرَى » [ الَّذِينَ ] بالغيبة ، وكَسْر « إِنَّ » و « إِنَّ » فيكون الجواب قولاً محذوفاً ، وكُسرَتَا لوقوعهما بعد القَوْل ، فتقديرُه على كون الفاعل ضمير الرَّأي ، لَقَالَ : « إِنَّ القُوَّةَ » وعلى كَونه « الَّذِينَ » : « لَقَالُوا » ويكون مفعول « يَرَى » محذوفاً ، أي : « لَوْ يَرَى حَالَهُمْ » ويحتمل أنْ يكون الجواب : « لاَسْتَعْظَمَ ، أو لاسْتَعْظَمُوا » على حسب القولين : وقدَّر بعضهم : { مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً } وإنَّما كُسِرَتَا؛ استئنافاً ، وحَذُفُ جواب « لَوْ » شائعٌ مستفيضٌ كثيرٌ في التنزيل ، قال تبارك وتعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت } [ الأنعام : 93 ] { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } [ الرعد : 31 ] ويقولون : « لَوْ رَأَيْتَ فُلاَناً ، والسِّيَاطُ تَأخُذُ مِنْهُ » قالوا : وهذا الحَذفُ أفخم وأشَدُ كلَّ مَذْهَب فيه؛ بخلاف ما لو ذكر فإنَّ السامع يقصُرُ همَّه عليه ، وقد وَرَد في أَشْعَارِهمْ ونَثْرِهِمْ كثيراً؛ قال امرُؤُ القَيْسِ : [ الطويل ]
879 - وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
وقال النَّابغة : [ الطويل ]
880 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُوا حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
ودخلت « إِذْ » ، وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناء هذه المستقبلات تقريباً للأمر ، وتصحيحاً لوقوعه؛ كما وقعت صيغة المُضِيِّ موضع المستقبلِ لذلك؛ كقوله : { ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة } [ الأعراف : 50 ] . وكما قال الأشتر : [ الكامل ]
881 - بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنْ العُلاَ ... وَلَقيْتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبوسِ
إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ
فأوقع « بَقَّيْتُ » و « انْحَرَفْتُ » - وهما بصيغة المضيِّ - موقع المستقبل ، لتعليقهما على مستقبلٍ ، وهو قوله : إنْ لم أشنَّ « .
وجاء في التنزيل كثيرُ مِنْ هذا الباب قال تبارك وتعالى :
{ وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار } [ الأنعام : 27 ] { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } [ سبأ : 51 ] ولما كان وقوعُ السَّاعةَ قريباً ، أجْرَاه مجرَى ما حَصَل ووضع ، مِنْ ذلك قولُ المُؤَذِّن : قَدْ قَامَتِ الصَّلاَة ، يقوله قبل إيقَاعِ التَّحْريم بالصَّلاَة؛ لقرب ذلك .
وقيل : أَوْقَعَ « إِذْ » موقع « إِذَا » ؛ [ وقيل : زمن الآخر متصلٌ بزمن الدنيا ، فقام أحدهما مقام الآخر؛ لأنَّ المجاور للشَّيء يقوم مَقَامه ، وهكذا كُلُّ موضع وقع مثْلَ هذا ، وهو في القرآن كثير ] .
وقرأ ابن عامر « يَرَوْنَ الْعَذَابَ » مبنيّاً للمفعول من « أَرَيْتُ » المنقولة مِنْ « رَأَيْتُ » بمعنى « أبْصَرْتُ » فتعدَّى لاثنين :
أولهما : قام مقام الفاعِلِ ، وهو الواو .
والثاني : هو العذاب .
وقراءُ الباقين واضحة .
وقال الراغب : قوله : أَنْ القُوَّةَ « بدلٌ من » الَّذِينَ « قال : » وهو ضعيفٌ « .
قال أبو حيَّان رحمه الله - ويَصيرُ المَعْنَى : » ولو تَرَى قُوَّة اللَّهِ وقُدْرَتَهُ على الَّذين ظَلَمُوا « وقال في المُنْتَخَب : قراءة الياء عند بعضهم أَوْلى من قراءة التَّاء؛ قال : » لأَنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - والمؤمِنِينَ قَدْ علِمُوا قدْرَ ما يُشَاهِدُه الكُفَّار ، وأما الكُفَّار ، فلم يعلَمُوه؛ فوجَبَ إسْنادُ الفِعل إِلَيْهِم « وهذا أمر مردودٌ؛ فإن القراءتَيْن متواترتَانِ .
قوله تعالى : » جميعاً « حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور ، والواقعِ خَبَراً ، لأنَّ تقديره : » أّنَّ القُوَّة كائنةٌ لله جميعاً « ، ولا جائزٌ أنْ يكونَ حالاً منَ القُوَّة؛ فإن العامل في الحال ، هو العامل في صاحبها ، وأَنَّ لا تعمَلُ في الحال ، وهذا مشكل؛ فإنهم أجازوا في » ليت « أن تعمل في الحال ، وكذا » كأنَّ « ؛ لِمَا فيها من معنى الفعل - وهو التمنِّي والتَّشْبيهُ - فكان ينبغي أن يجوز ذلك في » أَنَّ « لما فيها مَعْنَى التَأْكِيد .
و » جَمِيعُ « في الأصل : » فَعِيلٌ « من الجمع ، وكأنه اسم جمع؛ فلذلك يتبع تارةً بالمُفرد؛ قال تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] وتارة بالجَمع؛ قال تعالى : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] وينتصب حالاً ، ويؤكَّد به؛ بمعنى : » كُلّ « ويدلُّ على الشمول؛ كدلالة » كُلِّ « ، ولا دلالة له على الاجتماع في الزَّمان ، تقول : » جاءَ القَوْمُ جَمِيعُهُمْ « لا يلزمُ أنْ يكُونَ مجئيهم في زمن واحدٍ ، وقد تقدَّم ذلك في الفَرْق بينهما وبين » جاءُوا معاً « .
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
اعْلَم أنَّه لما بَيَّن حال مِنْ يَتَّخذُ مِنْ دُون الله أنْداداً بقوله : وَلَوْ يَرَى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ على طَرِيقِ التهْدِيد زادَ في هَذَا الوَعِيد بهذه الآية الكريمة ، وبَيَّنَ أنَّ الذين أفْنَوْا عُمْرهم في عِبَادَتِهِمْ ، واعتقَدُوا أنَّهم سَبَبُ نجاتِهِمْ ، فإنَّهم يتبَّرءُون منْهُمْ؛ ونظيره قوله تعالى : { يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] وقولُهُ - عزَّ وجلَّ سبحانَهُ - { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] وقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] وقول إبليس لعنه الله { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } [ إبراهيم : 22 ] .
وهل هذا التبرُّؤ يقع منهم بالقَوْل ، أو بظُهُور النَّدَم على ما فرَطَ منهم من الكُفْر والإِعْرَاض؟ قوْلاَن : أظهرها الأوَّل .
واختلفوا في خؤلاء المَتْبُوعِينَ ، فقال قتادَةُ ، والرَّبيع وعَطَاءٌ : السَّادة والرُّؤساء مِنْ مشركي الإنس إلاَّ أنَّهم الذين يصحُّ منهم الأَمر؛ والنَّهْيُ؛ حتى يمكن أن يتبعوا
وقال السُّدِّيُّ : هُمْ شَيَاطينُ الجِنِّ .
وقيلَ : شَيَاطين الإنْسِ والجِنِّ .
وقيلَ : الأوْثَان الَّتي كانُوا يسمُّونها بالآلهة؛ ويؤيد الأوَّل قولُهُ تعالى : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] .
قولُهُ تعالى : « إِذْ تَبَرَّأَ » في « إِذْ » ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدُها : أنها بدل مِنْ « إِذْ يَرَوْنَ » .
الثاني : أنها منصوبةٌ بقوله : « شَدِيدُ العَذَابِ » .
الثالث - وهو أضْعَفُها - أنها معمولةٌ ل « اذكُرْ » مقدَّراً ، و « تَبَرَّأَ » في محلِّ خفْضٍ بإضافةِ الظَّرْف إلَيْه ، والتبرُّؤ : الخُلُوص والانفصالُ ، ومنه : « بَرِئْتُ مِنَ الَّذِينَ » وتقدم تحقيقُ ذلك عند قوله : { إلى بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] والجمور على تقديم : « اتُّبِعُوا » مبنياً للمفعول على « اتَّبَعُوا » مبنياً للفاعل .
وقرأ مجاهدٌ بالعَكْس ، وهما واضحتَانِ ، إلاَّ أن قراءة الجُمْهُور واردةٌ في القُرْآنِ أَكْثَرَ .
قوله تعالى : « وَرَأَوا العَذَابَ » في هذه الجملة وجْهان :
أظْهَرُهما : أنَّها عطْفٌ على ما قبْلَها؛ فتكُون داخلةٌ في خَبَر الظَّرْف ، تقديرُهُ : « إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا » ، و « إِذْ رَأَوا » .
والثانيك أنَّ الواو للحالِ ، والجملة بعدها حاليَّةٌ ، و « قَدْ » معها مُضْمَرَةٌ ، والعاملُ في هذه الحالِ ، « تَبَرَّأَ » أي : « تَبَرَّءُوا » في حال رُؤْيتهم العَذَابَ .
قوله تعالى : « وتَقَطَّعَتْ » يجوزُ أنْ تكُون الواوُ للعَطْف ، وأن تكون للحالِ ، وإذا كانت للعطف ، فهل عطفت « تَقَطَّعَتْ » على « تَبَرَّأَ » ويكون قوله : « وَرَأَوا » حالاً ، وهو اختيارُ الزمخشري أو عطفت على « رَأَوْا » ؟ وإذا كانت للحال ، فهل هي حالٌ ثانيةٌ ل « الَّذِينَ » أو حالٌ للضَّمير في « رَأَوا » وتكونُ حالاً متداخلةً ، إذا جعْلنَا « ورَأوا » حالاً .
والباءُ في « بهم » فيها أربعةُ أوْجُه :
أحدها : أَنَّها للحالِ ، أي : تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب؛ نحو : « خَرَجَ بِثِيَابِهِ » .
الثَّانِي : أن تكُونَ للتعديَة ، اي : قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ؛ كما تقول : تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ ، أي : فَرَّقَتْهُمْ .
الثالث : أن تكون للسببيّة ، أي : تقطَّعت [ بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ ] .
الرابع : أن تكون بمعنى « عَنْ » [ أي : تقطَّعت عنْهُم ، كقوله { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ، أي : عنهُ ] وكقول علْقَمَةَ في ذلك : [ الطويل ]
882 - فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ
أي : عن النِّسَاء .
فصلٌ في المراد ب « الأسباب »
والأَسْبَابُ : الوَصْلاَتُ التي كانت بينهم ، قاله مجاهدٌ ، وقتادةُ ، والرَّبيعُ .
وقال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عَنْهما - وابن جُرَيْجٍ : الأَرْحَام الَّتِي يتعاطَفُونَ بها؛ كقوله تعالى : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } [ المؤمنون : 101 ] .
وقال ابنُ زَيْدٍ ، والسُّدِّيُّ : الأعمالُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها .
وقال ابنُ عَبَّاسٍ : العُهُودُ والحَلِفُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها .
وقال الضَّحَّاكُ ، والرَّبيع بنُ أَنَسٍ : المنازلُ التي كانَتْ لهم في الدُّنيَا .
وقال السُّدِّيُّ : الأعْمَالُ الَّتي كانوا يلزمونها في الدنيا؛ كقوله تبارك وتعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وقيل : أسبابُ النجاةِ تقطَعَّت عنهم .
قال ابنُ الخَطِيبِ - رضي الله عنه - والأظْهَرُ دخولُ الكُلِّ فيه ولأن ذلك كالنَّفي ، فيعمّ الكلَّ؛ فكأنَّه قال : وزالَ كلُّ سببٍ يمكنُ أن يتعلَّق به ، وأنهم لا ينتفعونُ بالأَسْباب على اختلافِهَا من منزلةٍ ، وسببٍ ونسَبٍ ، وعَهْدٍ ، وعَقْدٍ وذلك نهاية اليأس .
وهذه الأسبابُ مجازٌ فإِنَّ السَّبب في الأصْل : الحَبْل؛ قالوا : ولا يُدْعى الحَبْلُ سبباً؛ حتى يُنْزَلَ فيه ويُصْعَدَ به ، ومنْه قوله تبارك وتعالى : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء } [ الحج : 15 ] ثم أطلق على كلِّ ما يُتَوَصَّلُ به إلى شَيْءٍ ، عَيْناً كان أو معنى ، وقيل للطَّريق : سَبَبٌ؛ لأنَّك بسُلُوكِهِ تَصِلُ إلى المَوْضع الذي تريدُهُ؛ قال تعالى : { فَأَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 85 ] أي : طريقاً ، وأسبابُ السَّموات : أَبوابُها؛ قال تعالى مُخْبِراً عن فِرْعُونَ :
{ لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات } [ غافر : 36 - 37 ] وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ؛ قال زُهَيْرٌ : [ الطويل ]
883 - وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وقد يُطْلَق السَّبَب على العِلْمِ؛ قال سُبحَانهُ وتعالى : { مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ الكهف : 84 ] أي؛ عِلماً ، وقد وجد هنا نَوعٌ منْ أنواع البَدِيع ، وهو التَّرْصِيع ، وهو عبارةٌ عن تسجيع الكلامِ ، وهو هنا في موضعين .
أحدهما : { اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } ؛ ولذلك حذف عائد المَوْصُول الأوَّل ، فلم يَقُلْ { منالذين اتبعوهم } ؛ لفواتِ ذلك .
والثَّاني : { وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } ، وكقوله { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [ البقرة : 276 ] .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين اتبعوا } ، يعني : الأَتْبَاع : { لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً } أي : رجعةً إلى الدُّنيا ، والكرَّةُ : العودَة ، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً؛ قال القائل في ذلك : [ الوافر ]
884 - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سَوَاهَا
قوله تعالى : « فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ » منصوبٌ بعد الفاءِ ب « أنْ » مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ « لَوْ » ولذلك أجيب بجواب « لَيْتَ » الذي في قوله :
{ ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [ النساء : 73 ] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي ، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ .
الصحيحُ : أنها تحتاجُ إلى جوابٍ ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك ، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ « لَو » الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر : [ الوافر ]
885 - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ
وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده ، وهو قوله [ الوافر ]
886 - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين ، لَقَرَّ عَيْناً ... وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ
واستدلَّ أيضاً بأنَّ « أَنْ » تُفْتَحُ بعْد « لَوْ » ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [ الرجز ]
887 - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ ... حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ
وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها ، وهيَ : أَنَّ النُّحاة قالُوا : كلُّ موضعٍ نُصبَ فيه المضارعُ بإضمار « أنْ بعد الفَاءِ [ إذا سقَطَتِ الفاءُ ، جزم إلاَّ في النَّفسِ ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً؛ فيقال : و » إلاَّ « في جواب التَّمَنِّي ب » لَوْ « ؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار » أَنْ « بعد الفاء الواقعة جواباً له ، ومع ذلك ، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ ] لم يُجزم .
قال أَبُوا حَيَّانَ والسَّبب في ذلك : أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي ، وهو » لَيْتَ « والجزمُ في جواب » لَيْتَ « إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط ، أو لدلالَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن؛ فصارت » لَوْ « فَرَعَ الفَرْعِ ، فضَعُفَ ذلك فيها .
وقيلَ : » لَوْ « في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره ، وليس فيها معنى التمنِّي ، والفعلُ منصوب ب » أَنْ « مضمرَة؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ ، وهو » كَرَّة « والتقديرُ : » لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً ، فنتبرَّأَ « فهو مِنْ باب قوله : [ الوافر ]
888 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ..
ويكون جواب » لَوْ « محذوفاً أيضاً؛ كما تقدَّم .
وقال أبو البقاء رحمه الله تعالى : » فَنَتَبَرَّأَ « منصوبٌ بإضمارِ » أَنْ « ، تقديره : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ } فحلَّ » كرَّة « إلى قوله : » أَنْ نَرْجِعَ « ؛ لأنَّه بمعناه ، وهو قريبٌ ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله ، ويتركُون الاسم على حالِهِ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر؛ نحو » لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج ، لأَكْرَمْتُكَ « فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ .
قولُهُ تعالى : » كَمَا « الكافُ في موضعها نصبٌ : إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف ، أي : » تَبَرُّؤاً « وإِمَّا على الحاف مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي » نتبرّأهُ ، أي : التَّبَرُّؤَ ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ « ؛ كما تقرَّر غير مرَّة .
وقال ابن عطيَّة : الكاف في قوله : « كَمَا » في موضع نصب على النَّعت : إمّا لِمَصدرٍ : أو لحال ، تقديره : مُتَبَرِّئِينَ ، كما قال أبو حَيَّان . أمَّا قوله « لِحَالِ » تقديرُهُ : « مُتَبَرِّئِينَ كما » فغيرُ واضحٍ ، لأنَّ « ما » مصدرية ، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأفَفعال و « مُتَبرِّئين » : من صفات الأَعْيَان ، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال .
قال : وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال ، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة ، وهي خلافٌ الأَصل ، وأيضاً : فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه ، فالحَذْفُ يناقضه .
فصل في معنى التبرؤ
قال ابن الخطيب - رحمه الله - قولهم : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا ، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام : أَنَّهُمْ تمنُّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ ، فيتبرّءُونَ منهم ، ولا يخلصونهم ، كما فعلوا بهم يومَ القيامة ، وتقديرُه : فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم ، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب ، كما تبرءوا منَّا ، والحالُ هذه؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم ، مع سلامةٍ ، فأيُّ فائدة؟ .
قال القُرطبي : التبرُّؤُ : الانفصال .
قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله } في هذه « الكافِ » قولان :
أحدهما : أنَّ موضعها نصبٌ : إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أو حالً من المَصدر المعرَّفِ ، أي : يُريهمْ رؤية كذلك ، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ ، أوْ يَجزظِيهم جَزَاءً كذلك ، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا .
الثاني : أن يكون في موضع فرع ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك ، أو حَشْرُهُمْ كذلك ، قاله أبو البقاء .
قال أبو حيَّان : وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف ، وحذف مبتدأ ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ : مثل إراءتهم الأهوال ، يريهمُ اللَّهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ .
وقيل : الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ : كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض ، يريهمُ اللَّهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهمح وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ .
أحدهما : أن تكون بَصَريَّة ، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ ، والثاني « أَعْمَالَهُمْ » و « حَسَرَاتٍ » على هذا حالٌ مِنْ « أَعْمَالَهُمْ » .
والثاني : أَنْ تكونُ قلبيَّةً؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ؛ ثالثُهما « حَسَرَاتٍ » و « عَلَيْهِمْ » يجوزُ فيه وجْهَان :
أن يتعلَّق ب « حَسَرَاتٍ » ؛ لأنَّ « يحْسَرُ » يُعدَّى ب « عَلَى » ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ . أي : على تَفْرِيطهِمْ .
والثاني : أنْ يتعلَّق بمحذوف؛ لأنّضها صفةٌ ل « حَسَرَاتٍ » ، فهي في محلّ نصْبٍ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ .
فصل في المراد ب « الأعمال » في الآية
اختلفوا في المراد بالأَعمال .
فقال السُّدِّيُّ : الطاعاتُ ، لِمَ ضَيَّعُوها؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها؟
وقال الأَصَمُّ : ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها ، فأحْبضطُوها بالكُفْرِ ، قال السُّدِّيُّ : تُرفع لهم الجَنَّة ، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها ، لو أطاعُوا الله ، فيقال لهم : تِلْكَ مساكنُكمْ ، لو أطعتُمُ الله تعالى ، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين ، فذلك حين يتحسَّرُونَ .
وقيل : أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم ، قال ابن كَيْسَان : إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان ، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى ، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه ، تحسَّروا ونَدِمُوا .
قال ابن الخطيب : والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة ، وهو كُفْرُهُم . ومعاصِيهِمْ ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها ، وكان يمكنُهُمْ تركُها ، والعدولُ إلى الطَّاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني : مجازٌ بمعنى لزومِهِم ، فَلَمْ يَقُومُوا بها . و « الحَسْرَة » واحدةُ الحَسَرَاتِ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهَوَاتٍ .
هذا إذا كان اسماً . [ فإنْْ نَعتَّهُ سكَّنت؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي رحمه الله تعالى قال الزَّجَّاج : هي شِدَّة الندامة ، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم : بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء ، وقال تبارك وتعالى : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] أو من الحسر وهو الكشف يقال : حسر عن ذراعيه ، والحسرة : انشكافٌ عن حالة النَّدَامة؛ [ والمحسرة ] المنكسة؛ لأنها تكشف عن الأرض؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش .
قوله تعالى : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } .
احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار ، فقالوا :
لأنَّ قوله : « وَمَا هُمْ » تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصًوصاً بهم ، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله : { وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } [ الأنفطار : 14 - 16 ] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
لَمَا بيَّن التوحيد ودلائلهُ وما للموحِّدين مِنَ الثواب وأتبعه بذكر الشِّرك ، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنَّ معصية مَنْ عَصَاه ، وكُفْر من كَفَر به ، لم تُؤَثِّر في قطع نعمه وإحسَانه إِلَيهمْ .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : هذه الآية نزلت في قومٍ من ثقيف ، وبني عامر بن صَعْصعَة ، وخُزَاعة ، وبني مُدْلجٍ ، حَرَّموا على أنفسُهم مِنَ الحَرثِ ، والبحائِرِ ، والسَّوائِب ، والوَصَائِلَ والحَامِ .
قوله تعالى « { مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } حَلالاً فيه خَمْسَة أوجُهٍ :
أحدها : أن يكون مفعولاً ب » كُلُوا « و » مِنْ « على هذا فيها وجهان :
أحدهما : أنْ تتعلَّق ب » كُلُوا « ويكون معناها ابتداء الغاية .
الثاني : أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من » حلالاً « [ وكانت في الأصلِ صفةً له ، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه ، انتصَبَتْ حالاً ] ويكون معنى » مِن « التَّبْعِيضَ .
الثاني : أنْ يكون انتصابُ » حَلاَلاً « على أنَّه نعتُ لمفعولٍ محذوف ، تقديرُهُ : شيئاً أو رِزْقاً حَلاَلاً ، ذكَرَه مَكِّيٌّ واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده ، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ » حَلاَلاً « ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة ، لا يجوز حذف الموصول .
الثالث : أن ينتصب » حلالاً « على أنَّه حالٌ من » مَا « بمعنى : » الَّذي « ، أي : كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالاً .
الرابع : أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، [ أي : أكلاً حلالاً ، ويكون مفعول » كُلُوا « محذوفاً ، و » ما في الأرض « صفةً لذلك المفعول المحذوف ] ، ذكره أبو البقاء وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍِّ ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفاً ، بل تكون » مِنْ « مزيدةً على مذهب الأخفش ، تقديره ، » كُلثوا مَا في الأَرْضِ أكْلاً حَلاَلاً « .
الخامس : أن يكون حالاً من الضَّمير العائد على » ما « قاله ابن عطيَّة ، يعني ب » الضَّمير « الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور ، الواقع صلة .
و » طَيِّباً « فيه ثلاثة أوجه .
أحدها : أن تكون صفة ل » حَلاَل « أمَّا على القول بأنَّ » مِنْ « للابتداء ، متعلِّقةٌ ب » كُلُوا « فهو واضحٌ؛ وأمَّا على القول بأن » مِمَّا في الأَرْضِ « حال من » حَلاَلاً « ، فقال أبُوا البَقَاءِ - رحمه الله تعالى- : ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور ، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال . وهذا القول ضعيفٌ ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ؛ تقول » جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ [ راكِباً « ، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة ، فقلت : » جاءَنِي زَيْدٌ راكباً الطَّوِيلٌ « ] - كان في جوازه نظر .
الثاني : أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً من المصدر المعرفة المحذوف : أي أكلاً طَيِّباً .
الثالث : أن يكون حالاً من الضَّمير في « كُلُوا » تقديره : مستطيبين - قال ابن عطيَّة .
قال أبُو حَيَّان : وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ « الطَّيِّبَ » اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع؛ لتطابق صاحبها؛ فيقال : طيِّبين ، وليس « طَيِّب » مصدراً؛ فيقال : إنَّما لم يجمع لذلك ، وأمَّا المعنى؛ فلأنَّ « طَيِّباً » مغايرٌ لمعنى مستطيبين ، لأنَّ « الطَّيِّب » من صفات المأكول ، و « المستطيب » من صفات الآكلين ، تقول : « طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ » ولا تقول : « طَابَ زَيْدُ الطَّعَامَ » بمعنى استطابه .
و « الحَلاَلُ » : المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه ، حلَّ يحلُّ ، بكسر العين في المضارع ، وهو القياس ، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ ، يقال : حَلاَلٌ ، وحِلٌّ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌن ويقال : « حِلٌّ بِلٌّ » على سبيل الإتباع؛ ك « حَسَنٌ بَسَنٌ » ، وحَلٌ بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ : { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي } [ طه : 81 ] بالوجهين ، وأصله من « الحضلِّ » الذي هو : نقيض العقد ، ومنه : حلَّ بالمكان ، اذا نزل به؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُزول ، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به ، لانحلال العقد بانقضاء المُدَّة ، وحَلَّ من إحرامه ، لأنه حَلَّ عقد الإحرام ، وحلَّت عليه العقوبة ، أي : وجبت لانحلال العقدة [ المانعة من العذاب ] ومن هذا : « تَحِلَّةُ اليمين » : لأن عقد اليمين تنحلُّ به .
والطَّيِّبُ [ في اللغة : يكون بمعنى الطَّاهر ، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌح قال تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب } [ المائدة : 100 ] والطَّيِّب في ] الأصل : هو ما يستلدُّ به ويستطاب ، ووصف به الطَّاهر ، والحلال؛ على وجهة التشبيه؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس؛ فلا تستلذُّه ، والحرام غير مستلذٍّ ، لأنَّ الشرع يزجر عنه .
وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان :
الأول : أنه المستلذُّ؛ لأنا لو حملناه على الحلال ، لزم التكرار؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً ، إذا كان من جنس ما يشتهى؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه ، عاد حراماً ، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة .
والثاني : أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً ، وقوله : « طَيِّباً » المراد منه : ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير؛ فإنَّ أكل الحرام ، وإن استطابه الآكل ، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب : يصير مضرَّةً ، ولا يكون مستطاباً؛ كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] .
قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } : قرأ ابنُ عامِرٍ ، والكسَائيُّ ، وقُنْبُلٌ ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ ، ويَعْقُوبُ : « خُطُوَاتِ » بضم الخاء ، اولطاء ، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء .
أمّا من ضمَّ العين؛ فلأنَّ الواحدة « خُطْوَة » فإذا جمعت ، حرِّكت العين؛ للجمع ، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن؛ نحو : غُرْفَةٍ وغَرَفاتٍ ، وتحريك العين على هذا الجمع؛ للفصل بين الاسم والصِّفة؛ لأن كلَّ ما كان اسماً ، جمعته بتحريك العين؛ نحو : « تَمْرَة وتَمَرَات ، وغَرْفَةٍ وغَرَفاتٍ ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ » وما كان نعتاً ، جمع بسكون العين؛ نحو : « ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ » ، والخُطْوَة : من الأسماء ، لا من الصفات ، فتجمع بتحريك العين .
وقرأ أبو السَّمَّال « خُطَوَات » بفتحها ، ونقل ابن عطيَّة ، وغيره عنه : أنه قرأ : « خَطَوَات » ، بفتح الخاء ، والطاء ، وقرأ عليٌّ وقتادة ، والأعمش بضمِّها ، والهمز
فأما قراءة الجمهور ، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال ، فلأن « فُعْلَة » الساكنة العين ، السَّالِمَتَهَا ، إذا كان اسماً ، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب : السُّكون ، وهو الأصل ، والإتباع ، والفتح في العين ، تخفيفاً .
وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة ، فهي جمع « خَطْوَة » بفتح الخاء ، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ ، والفتح : أنَّ المفتوح : مصدر دالًّ على المرَّة ، من : خَطَا يَخْطُوا ، إذا مشى ، والمضموم : اسمٌ لما بين القدمين؛ كأنَّه اسم للمسافة؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف .
وقيل : إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ .
وأمَّا قراءةُ عليٍّ ، ففيها تأويلان :
أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ - : أنَّ الهمزة أصلٌ ، وأنَّه من « الخَطَأ » ، و « خُطُؤَات » جمع « خِطْأَة » إن سمع ، وإلاَّ فتقديراً ، وتفسير مجاهد إياه ب « الخَطَايَا » يؤيِّد هذا ، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف .
والثاني : أنه قلب الهمزة عن الواو؛ لأنَّها جاورة الضمّة قبلها؛ فكأنها عليها؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح ، لا عليه .
فصل
قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة بمعنى واحدٍ ، وحكى على الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين؛ كما يقال : حَثَوْتُ حُثْوَةً ، والحُثْوَة : اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةًن والغُرْفَة : هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ ، فيكون المعنى : لا تتَّبعوا سبيله ، ولا تسلكوا طريقه؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان .
قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة : خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ ، وإن جعلت الخطوة مصدراً ، فالتقدير : لا تَأَتَمُّوا به ، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ ، والمعنى : أن الله تعالى ، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام ، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير ، وهو كونه عدوّاً مبيناً ، أي : متظاهراً بالعداوة؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة :
أربعة منها في قوله تعالى : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } [ النساء : 119 ] .
وثلاثة منها في قوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }
[ الأعراف : 16 - 17 ] فلمَّا التزم هذه الأمور ، كان عدواً متظاهراً بالعداوة ، وقد أظهر عداوته بإبائه السُّجود لآدم ، وغروره إيّاه؛ حتَّى أخرجه من الجنَّة .
قوله : « إِنَّهُ لَكُمْ » قال أبُو البَقَاءِ : إنَّما كسر الهمزة؛ لأنَّه أراد الإعلام بحاله ، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه إذا فتح الهمزة ، صار التقدير : لا تتَّبعوه؛ لأنَّه عدوٌّ لكم ، واتباعه ممنوعٌ ، وإن لم يكن عدوّاً لنا ، مثله : [ منهوك الرجز ]
889أ - لَبَّيكَ ، إنَّ الحَمْدُ لَكْ ... كسر الهمزة أجود؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلِّ حال ، وكذلك التلبية . انتهى
يعني أن الكسر استئنافٌ محض فهو إخبار بذلك ، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيَّن؛ لأنَّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة؛ فإنَّهم نصُّوا على أنَّ « إنَّ » المكسورة تفيد العلَّة أيضاً ، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها؛ كما تقدم أنفاً ، فينبغي أن يقال : قراءة الكسر أولى؛ لأنَّها محتملة للإخبار المحض بحاله ، وللعلَّيِّة؛ وممَّا يدلُّ على أنَّ المكسورة تفيد العلَّيَّة قوله - عليه السلام - في الرَّوثة « إنَّها رجسٌ » وقوله في الهرَّة :
« إنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ »
وقوله : « لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إضّا فَعَلْتُمْ ذلك ، قَطَّعْتُمْ أرْحَامَكُمْ »
وأما المفتوحة : فهي نصٌّ في العلِّيَّة ، لأنَّ الكلام على تقدير لام العلَّة .
قوله : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ :
أولها : السُّوء ، وهو : متناول جميع المعاصي ، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح ، أو من أفعال القلوب .
وسُمِّي السُّوء سوءاً؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه ، وهو مصدر : « سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً » إذا أحزنه ، و « سُؤْتُهُ ، فَسِيءَ » إذا أحزنته ، فحزن؛ قال تعالى : { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] ؛ قال الشَّاعر : [ السريع ]
889ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي ... فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ
أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ ... لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ
وثانيها : الفحشاء : وهو مصدر من الفحش؛ كالبأساء من البأس ، والفحش : قبح المنظر .
قال امْرُؤ القَيْسِ : [ الطويل ]
890 - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وتوسِّع فيه ، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً .
والفَحْشَاءُ : نوعٌ من السُّوء ، كأنَّها أقبح أنواعه ، وهي : ما يستعظم ، ويستفحش من المعاصي .
وثالثها : { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فكأنَّه أقبح الأشياء؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } .
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر ، والكفر ، والجهل بالله .
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّه قال : « الفَحْشَاءُ » من المعاصي : ما فيه حَدٌّ ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه .
وقال السُّدِّيُّ : هي الزِّنا .
وقيل : هي البخل ، { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من تحريم الحرث والأنعام .
وقال مُقَاتِلٌ : كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء ، فإنَّه الزِّنا ، إلاَّ قوله : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } [ البقرة : 368 ] فإنه منع الزكاة .
وقوله : « وَأَنْ تَقُولُوا » عطفٌ على قوله : « بالسُّوء » ، تقديره : « وبِأَنْ تَقُولُوا » فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب؛ بحسب قول الخليل ، وسيبويه .
قال الطَّبَرِيُّ : يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما ، مما جعلوه شرعاً .
فصل في بيان أن الشطان لا يأمر إلا بالقبائح .
دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة « إنَّمَا » وهي للحصر .
وقد قال بعضهم : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ؛ وذلك على أنواع : إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل ، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقِّح ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة .
وتناولت الآية الكريمة جمع المذاهب الفاسدة ، بل تناولت مقلِّد الحقِّ؛ لأنَّ!ه قال مالا يعلمه؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ؛ لاندراجاه تحتهذا الذَّمِّ .
وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس ، [ وجوابهم : أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ ، كان العمل بالقياس ] قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
الضمير في « لَهُمْ » فيه أربعة أقوال :
أحدها : أنه يعود على « مَنْ في قوله { مَن يَتَّخِذُ } [ البقرة : 165 ] .
الثاني : قال بعض المفسِّرين : نزلت في مشركي العرب ، فعلى هذا : الآية متَّصلة بما قبلها ، ويعود الضمير عليهم؛ لأنَّ هذا حالهم .
الثالث : أنه يعود على اليهود؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافهم .
روي عن ابن عبَّاس قال : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال رافع بن خارجة ، ومالك بن عوفٍ : » بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ فهم كانوا خيراً منَّا ، وأَعْلَمُ منَّا « فأنزل الله هذه الآية الكريمة .
وقال بعضهم : هذه قصَّةٌ مستأنفةٌ ، والهاء والميم في » لَهُمْ « كناية عن غير مذكور .
الرابع : أنه يعود على » النَّاس « في قوله » يَأَيُّهَا النَّاسُ « قاله الطبريُّ ، وهو ظاهرٌ إلاَّ أن ذلك من باب الالفتات من الخطاب إلى الغيبة ، وحكمته : أنَّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجَّب من فعله ، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنُّور والهدى ، فأجاب باتِّباع شريعة أبيه .
قوله : » بَلْ نَتَّبعُ « » بَلْ « ههنا : عاطفةٌ هذه الجملة على جملة محذوفةٍ قبلها ، تقديره :
» لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ، بل نَتَّبعُ كذا « ولا يجوز أن تكون معطوفةً على قوله : » اتَّبعوا « لفساده ، وقال أبُو البَقَاءِ : » بل « هنا للإضراب [ عن الأوَّل ، أي : » لاَ نَتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ « ، وليس بخروج من قصَّة إلى قصَّة ، يعني بذلك : أنه إضراب إبطال ] ، لا إضراب النتقالٍ؛ وعلى هذا ، فيقال : كلُّ إضرابٍ في القرآن الكريم ، فالمراد به الانتقال من قصًّةٍ إلى قصَّةٍ إلاَّ في هذه الآية ، وإلاَّ في قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق } [ السجدة : 3 ] ، كان إضراب انتقالٍ ، وإذا اعتبرت » افْتَرَاهُ « وحده ، كان إضراب إبطالٍ .
والكسائيُّ يدغم لام » هُلْ « و » بَلْ « في ثمانية أحرفٍ :
التاء؛ كقوله : { بَلْ تُؤْثِرُونَ } [ الأعلى : 16 ] والنُّون : » بَلْ نَتَّبعُ « والثَّاء » { هَلْ ثُوِّبَ } [ المطففين : 36 ] والسِّين : { بَلْ سَوَّلَتْ } [ يوسف : 18 ] ، والزَّاي : { بَلْ زُيِّنَ } [ الرعد : 33 ] ، والضَّاد : { بَلْ ضَلُّواْ } [ الأحقاف : 28 ] والظَّاء : { بَلْ ظَنَنتُمْ } [ الفتح : 12 ] والطَّاء : { بَلْ طَبَعَ الله } [ النساء : 155 ] ، وأكثر القرَّاء على الإظهار ، ووافقه حمزة في التاء والسين ، والإظهار هوالأصل .
قوله : « أَلْفَيْنَا » في « أَلْفَى » هنا قولان :
أحدهما : أنَّها متعدِّية إلى مفعولٍ واحدٍ ، لأنها بمعنى « وَجَدَ » التي بمعنى « أَصَابَ » ؛ بدليل قوله في آية أخرى : { بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } [ لقمان : 21 ] وقوله : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب } [ يوسف : 35 ] وقولهم : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } [ الصافات : 69 ] ، فعلى هذا : يكون « عَلَيْهِ » متعلِّقاً بقوله : « أَلْفَيْنَا » .
أولهما : « آبَاءَنَا » ، والثاني : « عَلَيهِ » ، فقُدِّم على الأول .
وقال أبو البقاء - رحمه الله - : [ « هي محتملةٌ للأمرين - أعني كونها متعدِّية لواحد أو لاثنين » -؛ قال أبو البقاء : ] و « لامُ » أَلْفَيْنَا « واوٌ؛ لأن الأصل فيما جُهل من اللاَّمات أن تكون واواً ، يعني : فإنه أوسع وأكثر؛ فالرَّدُّ إليه أولى .
ومعنى الآية : أنَّ الله - تبارك وتعالى - أمرهم بأن يتَّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من الحرث ، والأنعام ، اولبحيرة ، والسَّائبة . أو ما أنزل الله من الدَّلائل الباهرة ، قالوا : لا نتَّبع ذلك ، وإنما نتبع آباءنا ، وأسلافنا ، فعارضوه بالتَّقليد ، فأجابهم الله تعالى بقوله : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } ، فالهمزة في » أَوَلَوْ « للإنكار ، وأما الواو ، [ ففيها قولان :
أحدهما - قاله الزمخشريُّ - : أنَّها واو الحال .
والثاني - قال به أبو البقاء ، وابن عطيَّة - : أنَّاه للعطف ، وقد تقدَّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل » الواو « و » الفاء « و » ثُمَّ « ، هل ] بعدها جملة مقدَّرةٌ ، وهو رأي الزمخشري؛ ولذلك قدَّر ههنا : » أَيَتَّبِعُونَهُمْ ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ ، وَلاَ يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟ « أو النية بها التأخير عن حرف العطف؟
وقد جمع أبو حيَّان بين قول الزمخشريِّ ، وقول ابْنِ عَطيَّة ، فقال : والجمع بينهما : أنَّ هذه الجملة المصحوبة ب » لَوْ « في مثل هذا السِّياق جملةٌ شرطيةٌ ، فإذا قال : » اضْرِبْ زَيْداً ، وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكض « ، فالمعنى : » وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ « وكذلك : » أَعْطُوا السَّائِلَ ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَس « » رُدُّوا السَّائِلَ ، وَلَوْ بِشِقَّ تَمْرَةٍ « ، المعنى فيهما » وإِنْ « وتجيء » لَوْ « هنا؛ [ تنبيهاً ] على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها ، لكنَّها جازت لاستقصاء الأَحوال التي يقع فيها الفعل ، ولتدلَّ على أن المراد بذلك وجود الفعلفي كلِّ حالٍ؛ حتَّى في هذه الحال الَّتي لا تناسب الفعل؛ ولذلك لا يجوز : » اضْرِبْ زَيْداً ، وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ « ، ولا » أَعْطُوا السَّائِلَ ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجاً « فإذا تقرَّر هذا ، فالواو في » وَلَوْ « في الأمثلة التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدَّرة ، والمعطوف على الحال حالٌ؛ فصحَّ أن يقال : إنَّها للحال من حيث عطفها جملةً حاليَّةً على حالٍ مقدَّرةٍ ، وَصَحَّ أن يقال : إنَّها للعطف من حيث ذلك العطف ، فالمعنى - والله أعلم - : أنها إنكارُ اتِّبَاعِ آبائهم في كلِّ حالٍ؛ حتى في الحالة الَّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها ، وهي تلبُّسهم بعدم العقل والهداية؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على » لَوْ « إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها ، وإن كانت الجملة الحاليَّةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحال؛ لأنَّ مجيئها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييد الجملة السَّابقة بهذه الحال ، فهو ينافي استغراق الأحوال؛ حتى هذه الحال ، فهما معنيان مختلفان؛ ولذلك ظهر الفرق بين : » أَكْرِمْ زَيْداً ، لَوْ جَفَاكَ « ، وبين : » أَكْرِمْ زَيْداً ، وَلَوْ جَفَاكَ « .
انتهى . وهو كلامٌ حسنٌ .
وجواب « لو » محذوفٌ ، تقديره : « لاَتَبَعُوهُمْ » وقدره أبو البَقَاءِ : « أفكَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ؟ » وهي تفسير معنًى لأن « لَوْ » لا تجاب بهمزة الاستفهام ، قال بعضهم : ويقال لهذه الواو أيضاً واو التَّعَجُّب دخلت عليها ألأف الاستفهام للتوبيخ .
فصل في بيان « معنى التقليد »
قال القرطبيُّ : التقليد عند العلماء : « حقيقةُ قَبُولِ قَوْلٍ بلا حُجَّةٍ » ؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم من غير نظرٍ في معجزته ، يكون مقلِّداً ، وأمَّا من نظر فيها ، فلا يكون مقلِّداً .
وقيل : « هو اعتقادُ صٍحَّة فُتْيَا مَنْ لا يَعْلَم صحَّة قوله » ، وهو في اللُّغة مأخوذٌ من قلادة البعير ، تقول العرب : قلَّدت البعير؛ إذا جعلت في عنقه حبلاً يقاد به؛ فكأنَّ المقلِّد يجعل أمره كلَّه لمن يقوده حيث شاء؛ ولذلك قال شاعرهم : [ البسط ]
891 - وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ... ثَبْتَ الجَنَانِ بَأَمْرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا
فصل في المراد بالآية
والمعنى : « أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً » ، لفظه عامٌّ ، ومعناه الخصوص؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين ، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه .
وقوله « شيئاً » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به؛ فيعمُّ جميع المعقولات؛ لأنَّها نكرةٌ في سياق النفي ، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة ، فيكون المعنى : لا يعقلون شيئاً « بَلْ أَشْيَاءً من العَقْلِ » وقدَّم نفي العقل على نفي الهداية؛ لأنَّه يصدرعنه جميع التصرُّفات .
الثاني : أن ينتصب على المصدريَّة ، أي : « لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً » .
فصل في تقرير هذا الجواب
في تقرير هذا الجواب وجوه :
الأوَّل : أنه يقال للمقلِّد : هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان : أن يعلم كونه مُحِقَّا ، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده ، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً ، فكيف عرفت أنه محقٌّ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر ، لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل ، فذاك كافٍ ، ولا حاجة إلى التَّقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده : أن يعلم كونه محقّاً ، فإذن : قد جوَّزت تقليده ، وإن كان مبطلاً ، فإذن : انت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ ، أم مبطل .
وثانيها : هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً ، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم ، [ ولا مذهبه ، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا .
وثالثها : أنك إذا قلَّدت من قبلك ، فذلك المتقدِّم ] : إن كان عرفه بالتقليد ، لزم إما الدَّور ، وإمَّا التسلسل ، وإن عرفه بالدليل ، وجب أن تطلب اعلم بالدليل ، لا بالتَّقليد ، لأنَّك لو طلبته بالتقليد ، لا بالدَّليل ، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد ، كنت مخالفاً له ، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نيه ، فيكون باطلاً ، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الرجز عن اتباع خطوات الشَّيطان؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان ، وبين متابعة التَّقليد ، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر ، والاستدلال ، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل .
فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد
قال القرطبيُّ : ذمَّ الله تعالى الكفَّار؛ باتباعهم لآبائهم في [ الباطل ] واقتدائهم بهم في الكفر ، والمعصية ، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ ، وأما التقليد في الحقِّ ، فأصل من « أصول الدِّين » ، وعصمة من عصم المسلمين ، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر ، واختلف العلماء - رضي الله عنهم - في جوازه في مسائل الأصول ، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع ، فصحيحٌ .
فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي
قال القرطبيُّ - رضي الله عنه - : فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها ، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده؛ فيسأله عن نازلته ، فيتمثَّل فيها فتواه؛ لقوله تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه ، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم عند الدُّعاء إلى اتِّباع ما أنزل الله تعالى ، تركوا النَّظر ، وأخلدوا إلى التَّقليد ، وقالوا : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ } [ البقرة : 170 ] - ضَرَبَ لهم هذا المثل؛ تنبيهاً للسَّامعين لهم : أنهم إنما وقعوا فيه؛ بسبب ترك الإصغان وقلة الاهتمام بالدِّين ، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام ، وضر بمثل هذا المثل يزيد السَّامع اجتهاداً في معرفة أحوال نفسه ، ويحقِّر إلى الكافر نفسه ، إذا سمع ذلك ، فيكون كسراً لقلبه ، وتضييقاً لصدره؛ حيث صيَّره كالبهيمة ، فكان ذلك ي نهاية الرَّدع والزَّجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة التقليد .
وقد اختلف النَّاس في هذه الآية اختلافاً كثيراً ، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلاَّ بعد معرفتة المعنى المذكور في الآية الكريمة ، وقد اختلفوا في ذلك :
فمنهم من قال : معناها : أنَّ المثل مضروبٌ بتشبيه الكافر بالنَّاعق ، ومنهم من قال : هو مضروبٌ بتَشْبيه الكافر بالمَنْعوق به ، ومنهم مَنْ قال : هو مضْروبٌ بتشبيه داعي الكفر بالنَّاعق ، ومنهم مَنْ قال : هو مضروب بتشبيه الدَّاعي والكافر بالنَّاعق ، والمنعوق به ، فهذه أربعة أقوالٍ .
فعلى القول الأول : يكون التقدير : « وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا في قِلَّة فَهْمِهِمْ ، كَمَثَلِ الرُّعَاة يُكَلِّمُون البُهْمَ والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً » .
وقيل : يكون التقدير : « وَمَثَلُ الَّذين كَفَروا في دُعائهم آلِهَتَهُمْ التي لا تَفْقَهُ دُعَاءَهُم ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ؛ لا ينتفع من نَعِيقِهِ بشَيءٍ غير أنَّه في عناءٍ » ؛ وكذلك الكافرُ ليس له من دعائه آلهته إلاَّ العناء؛ كما قال تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ لمَّا ذكر هذا القول : « إلاَّ أنَّ قوله : » إلاَّ دُعاءً وَنِدَاءً « ، لا يساعد عليه؛ لأنَّ الأصنام لا تَسْمَعُ شيئاً » .
قال أبُو حَيَّان - رحمه الله- : « ولحظ الزمخشريُّ في هذا القول تمام التشبيه من كُلِّ جهة ، فكما أنَّ المنعوق به لا يَسْمَعُ إلاَّ دعاءً ونداءً ، فكذلك مدعُوُّ الكافِرِ مِنَ الصَّنم ، والصَّنَم لا يَسْمَعُ ، فضَعُف عنده هذا القوْلُ » قال : « ونحْنُ نقولُ : التشْبيهُ وقَعَ في مُطْلَق الدُّعاء في خُصوصيَّات المدعُوِّ ، فتَشْبِيهُ الكَافِر في دعائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بالبهيمة ، لا في خصوصيَّات المنعُوق به » ، وقال ابنُ زَيْدٍ في هذا القَوْلِ - أعني : قولَ مَنْ قال : التقديرُ : ومَثَلُ الذين كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ آلهتَهُم - : إنَّ الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم ، وإنَّما المراد به الصائح في جوف الجبل ، فيجيبه الصَّدى ، فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعقُ إلاَّ دعاء نفسه ، ونداءها ، فعلى هذا القول : يكون فاعل « يَسْمَعُ » ضميراً عائداً على « الَّذِي يَنْعِقُ » ويكون العائد على « مَا » الرابط للصِّلة بالموصُول محذوفاً؛ لفَهْم المعنى ، تقديره : « بِمَا لاَ يَسْمَعُ مِنْهُ » وليس فيه شرط جوازِ الحَذْف؛ فإنه جُرَّ بحرف غير ما جُرَّ به لموصول ، وأيضاً : فقد اختلف متعلَّقاهما إلاَّ أنه قد ورد ذلك في كلامهم ، وأمَّا على القولين الأوَّلين ، فيكون فاعل « يَسْمَعُ » ضميراً يعود على « ما » الموصولة ، وهو المنعوقُ به .