كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
{ إِلاَّ الذين تَابُواْ } [ البقرة : 160 ] .
الثاني : رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير ، ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه ، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ ، فلما بُعثَ ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً .
الثالث : نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته ، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا : هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية ، فأقبل إلى المدينة ، وتاب ، وقبل الرسولُ صلى الله عليه وسلم توبته . قال القفال : للناس في هذه الآية قولان :
منهم من قال : إنَّ قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا } [ آل عمران : 85 ] وما بعده إلى قوله { وأولئك هُمُ الضآلون } [ آل عمران : 90 ] نزل جميعه في قصة واحدة ، ومنهم من قال : ابتداء القصة من قوله « إلا الذين تابوا » إلى « إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار » على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان :
أحدهما : أنها في أهل الكتاب .
والثاني : أنها في قوم مرتدين عن الإسلام ، آمنوا ثم ارتدوا .
فصل
قالت المعتزلةُ : أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى : التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف ، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً ، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل ، ثم ذكروا فيه وجوهاً :
الأول : أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم ، كقوله : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] وقوله : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] وقوله : { يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه } [ المائدة : 16 ] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى .
الثاني : أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة ، قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم } [ النساء : 168-169 ] وقال : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } [ يونس : 9 ] .
والثالث : أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً ، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً ، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر ، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم ، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر ، وكونهم فاعلين للكفر ، فإنه قال : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } ؟ فأضاف الكفر إليهم ، وذمَّهم عليه .
وقال أهل السنة : المرادُ من الهداية خلق المعرفة ، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله ، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد ، فكأنه - تعالى - قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل : قال - في أول الآية- : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ } وقوله في آخرها : « والله لا يهدي القوم الظالمين » يقتضي التكرار .
فالجواب : أن الأولَ مخصوص بالمرتد ، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي ، وسمي الكافر ظالماً؛ لقوله : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب؛ بسبب ذلك الكفر ، فكان ظالماً لنفسه .
قال القرطبي : « فإن قيل : ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله ، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم .
فالجواب : أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على طُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام ، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك » .
أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
وفي قوله : { جَزَآؤُهُمْ } وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ ثانياً ، و { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } في محل رفع؛ خبراً ل « جَزَاؤُهُمْ » والجملة خبر ل « أولئك » .
والثاني : أن يكون « جَزَاؤُهُمْ » بدلاً من « أولَئِكَ » بدل اشتمال ، و { أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } خبر « أولئك » .
وقال هنا : { جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله } وقال - هناك- : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله } [ البقرة : 161 ] دون « جزاؤهم » قيل : لأن هناك وقع الإخْبار عمن توفِّيَ على الكُفْر ، فمن ثَمَّ حتم الله عليه اللعنة ، بخلافه هنا ، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام ، ومعنى : « جَزَاؤُهُمْ » أي : جزاء كفرهم وارتدادهم ، وتقدم القول في قراءة الحسن « النَّاس أجمعون » وتخريجها .
قوله : « خالدين » حال من المضير في « عَلَيْهِمْ » والعامل فيها الاستقرار؛ أو الجارّ؛ لقيامه مقام الفعلِ ، والضمير في « فِيهَا » للَّعنة ، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان :
الأول : أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكةُ والمؤمنون ، ومَنْ معهم في النار ، ولا يخلو حالٌ من أحوالهم من اللعنة .
الثاني : أن اللَّعْنَ يوجب العقابَ ، فعبَّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعنِ ، ونظيره قوله : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ } [ طه : 100-101 ] وقال ابن عباس : قوله : « خالدين فيها » أي في « جهنم » ، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور . و { لاَ يُخَفَّفُ } جملة حالية أو مستأنفة ، و { إِلاَّ الذين } استثناء متصل .
فصل
اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة ، وإنزال العذاب ، واللعنة من الملائكة ، ومن الناس هي بالقول ، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم .
فإن قيل : لم عَمَّ جَمِيع النَّاس ، ومَنْ يُوافِقهُ لا يَلْعَنُهُ؟ فَالجوابُ مِن وُجوهٍ :
أحدها : قال أبو مُسْلِمٍ : لَهُ ان يَلْعَنَهُ ، وَإن كَانَ لاَ يَلْعَنُهُ .
الثاني : أنَّهُم فِي الآخرةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً ، لِقَوْلِهِ تَعالَى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ } [ الأعراف : 38 ] وقال : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا } [ العنكبوت : 25 ] وعلى هَذا فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ للكفارِ ومن يوافقهم .
الثالث : كأن الناسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ، والْكُفَّار لَيْسُوا مِن النَّاس .
الرابع : وهو الأصح - أنَّ جميعَ الْخَلقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكَافِرَ ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بمُبْطِلٍ وَلا بكافرٍ فَإذا لَعَن الكافِرَ - وَكَانَ هُو فِي عِلم اللهِ كَافراً - فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَه ، وَهُوَ لا يَعْلَم ذَلكَ .
قوله : « لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون » مَعْنَى الإنْظَار : التَّأخِيْرُ ، قَالَ تَعالى : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَة } [ البقرة : 280 ] والمَعْنَى : لاَ يُخَفَّفُ ، وَلا يُؤخَّر من وَعتٍ إلى وَقْتٍ ، ثُم قَال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ } ثمَ بَيَّن أن التوبة وحدَها لا تَكْفِي ، حَتَّى يُضافَ إليها العملُ الصالحُ ، فَقالَ : { وَأَصْلَحُواْ } أي : أصلحوا باطنهم مع الحق بِالمُراقَباتِ ، وَمَعَ الْخَلْقِ بالعِبَادَاتِ ، وَذَلِكَ أنَّ الحَارثَ بن سُويد لَمَّا لَحِق بالكُفَّار نَدِم ، وأرسل إلى قومه أن سَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا فَأنْزَلَ اللهُ { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فَحَمَلَهَا إليه رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، وَقَرأها عَلَيهِ ، فَقَالَ الْحَارثُ : إنك واللهِ ما عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك؛ وإنَّ اللهَ - عَزَّ وجل - لأصْدَقُ الثلاثة ، فرجع الحارثُ إلى المَدِينَةِ ، وَأسْلَمَ ، وحسن إسلامه .
وفي قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وجهان :
الأول : أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر ، رحيم في الآخرة بالعفو .
الثاني : غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب ، ونظيره قوله : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَف } [ الأنفال : 38 ] . ودخلت الفاء في قوله : « فإن الله » لشبه الجزاء؛ إذ الكلام قد تضمَّن معنى : إن تابوا فإن الله يغفر لهم .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
قوله : « كفراً » تمييز منقول من الفاعلية ، والأصل : ثم ازداد كفرُهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال؛ لوقوعها بعد الزاي ، كذا أعربه أبو حيان ، وفيه نظر؛ إذ المعنى على أنه مفعول به ، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاص نقص مفعولاً ، وهذا من ذاك؛ لأن الأصل : زدت زيداً خيراً فازداده ، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ : زادهم الله كُفراً فازدادوه ، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على « لَنْ » وأتي بها في « لَنْ » الثانية ، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر ، بخلاف « لَنِ » الأولى ، فإنه لم يُصَرِّحْ ممعها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء .
قال ابن الخطيب : دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء ، وعند « عدم » الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطاً وجزاء ، تقول : الذي جاءني له درهم ، فهذا لا يُفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء ، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر .
وقرأ عكرمة « لن نَقْبَلَ » بنون العظمة ، ونصب « توبَتَهم » وكذلك قرأ « فلن نقبل من أحدهم ملء » بالنصب .
فصل
قال القرطبي : قال قتادة والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، كفروا بعيسى عليه السلام ، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن .
وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ، ثم ازدادوا كفراً يعني : ذنوباً ، يعني : في حال كفرهم .
وقال مجاهد : نزلت في جميع الكفار؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقُهم ، ثم ازدادوا كُفْراً ، أي : أقاموا على كُفْرهم حتى هلكوا عليه .
وقيل : ازدادوا كُفْراً كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كُفْراً .
وقيل : ازدادوا بقولهم : نتربص بمحمد ريب النون .
وقال الكلبي : نزلت في الأحد عشر أصحاب الحَرْث بن سُوَيْد ، لما رجع إلى الإسلام ، أقاموا هم على الكفر بمكة ، وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا ، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحَرْث ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكةَ ، فمن دخل منهم في الإسلام قُبِلَت توبته ، ونزلت فيمن مات منهم كافراً : { إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار } [ البقرة : 161 ] الآية .
فإن قيل : قد وعد اللهُ بقبول توبة مَنْ تاب ، فما معنى قوله : « فلن تقبل توبتهم » ؟
قيل : لن تقبل توبتُهم إذا وقعوا في الحشرجة ، كما قال : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن }
[ النساء : 18 ] قاله الحسنُ وقتادة وعطاء .
وقيل : هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سُويد حين أمسكوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربَّص بمحمد ، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ، لن يقبل ذلك منهم .
وقال القاضي والقفال وابنُ الأنباري : إنه - تعالى - لما قدَّم ذِكْر مَنْ كفر بعد الإيمان ، وبيَّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ، ذكر في هذه أنه لو كفر مرةً أخْرَى بعد تلك التوبة الأولى ، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة ، وتصير كأنها لم تكن .
قال : وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه ، لأن تقدير الآية : إلا الَّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ، فإن كانوا كذلك ، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم .
وقال الزمخشري : قوله : « لن تقبل توبتهم » كناية عن الموت على الكفر؛ لأن الذي لا تُقْبَل توبتُه من الكفار هو الذي يموت على الكفر ، كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا ، ميتون على الكفر داخلون في جملة من لا تُقْبَل توبتهم .
وقيل : لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة ، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل .
قال ابن الخطيب : « وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله : » إن الذين كفروا ثم ازدادوا كفراً « على المعهود السابق ، لا على الاستغراق ، وإلا فكم من مرتد تابَ عن ارتداده توبةً صحيحةً ، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف ، فأما جواب القفال والقاضي ، فهو جواب مطرد ، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق ، أو على الاستغراق » .
قوله : « وأولئك هم الضالون » في هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون في محل رفع؛ عَطْفاً على خبر « إنَّ » ، أي : إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم ، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون .
الثاني : أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة ب « إنَّ » ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب ، لعَطْفِها على ما لا محل له .
الثالث : هو إعرابها بأن تكون الواو للحال ، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب ، والحال أنهم ضالُّون ، فالتوبة والضلال متنافيان ، لا يجتمعان ، قاله الراغب .
وهو بعيد في التركيب ، وإن كان قريب المعنى .
قال أبو حيان : « وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة » .
فإن قيل : قوله : « وأولئك هم الضالون » ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالاً ، وليس الأمر كذلك؛ بل كل كافر ضال ، سواء كفر بعد الإيمان ، أو كان كافراً في الأصل ، فالجواب : هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال .
فإن قيل : إنه وصفهم - أولاً - بالكفر والغُلُوِّ فيه ، ثم وصفهم - ثانياً - بالضلال ، والكفر أقبح أنواع الضلالة ، والوصف إنما يراد للمبالغة ، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالاً ، لا بما هو أضعف حالاً منه .
فالجواب : قد ذكرنا أن المراد منه : أنهم هم الضالُّون على سبيل الكمال ، وحينئذ تحصل المبالغة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام :
الأول : الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً ، وهو المراد بقوله : « إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا » .
الثاني : الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً ، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ ، وقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم } .
الثالث : الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ ، وهو المذكور في هذه الآية ، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء :
أحدها : قوله : « فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً » قد تقدم أن عكرمة يقرأ : « نقبل ملء » بالنون مفعولاً به
وقرأ بعضهم « فلن يقبل » - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى ، « مِلْءَ » بالنصب كما تقدم .
وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال « مل الأرض » بطرح همزة « ملء » ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها .
وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام « ملء » في لام « الأرضِ » - بعروض التقائهما .
والملء : مقدار ما يُمْلأ الوعاء ، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر ، يقال : ملأت القدر ، أملؤها ، مَلأ ، والملاءة بضم الميم والمد : الملحَفة .
و « ذهباً » العامة على نصبه ، تمييزاً .
وقال الكسائي : على إسقاط الخافض ، وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر ب « من » واحتاجت « ملء » إلى تفسير؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع- .
وقرأ الأعمش : « ذهب » - بالرفع - .
قال الزمخشريُّ : ردًّا على « مِلْءُ » كما يقال : عندي عشرون نَفْساً رجال ، يعني الردّ البدل ، ويكون بدل نكرة من معرفة . قال أبو حيان : ولذلك ضبط الحذّاق قوله : « لك الحمد ملء السموات » بالرفع ، على أنه نعت لِ « الْحَمْد » . واستضعفوا نصبه على الحال ، لكونه معرفة .
قال شهاب الدين : « يتعين نصبه على الحال ، حتى يلزم ما ذكره من الضعف ، بل هو منصوب على الظرف ، أي : إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض » .
فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً ، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه ، فما فائدة ذكره؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنهم إذا ماتوا على الكُفْر ، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر _ أموالاً ، فإنها لا تكون مقبولة .
الثاني : أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير ، فالذهب كناية عن أعز الأشياء ، والتقدير : لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة ، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب ، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب .
روى أنس - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ ، فَيَقُولُ : أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ : أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً ، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي »
قوله : « ولو افتدى به » الجمهور على ثبوت الواو ، وهي واو الحال .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف موقع قوله : « ولو افتدى به » ؟
قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . انتهى .
والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه : أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها ، ولو في حال افتدائه من العذاب ، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي .
قال أبو حيان : وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن « لَوْ » تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ » وقوله : « رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق » كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه ، فلا يناسب أن يُعْطَى ، وكذلك الظلف المحرق ، لا غناء فيه ، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل .
قيل : الواو - هنا - زائدة ، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أب يعبلة طلو افتدى به « - دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول ، فلم يتعمم النفي وجود القبول .
و » لو « قيل : هي - هنا - شرطية؛ بمعنى » إن « لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل ، وهو قوله : » فلن تقبل « ، وتلك متعلّقة بالماضي .
قال الزجاج : إنها للعطف ، والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه ، ولو افتدى به لم تقبل منه ، وهذا اختيار ابن الأنباري ، قال : وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه . وقيل : دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية .
وقال ابن الخطيب : إن مَنْ غضب على بعض عبيده ، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة ، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية ، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب ، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية ، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً ، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى .
وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى ، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى ، نحو : شَوَى ، واشْتَوَى ، ومفعوله محذوف ، تقديره : افْتدَى نفسه . والهاء في « به » - فيها أقوال :
أحدها : - وهو الأظهر - عودها على « ملء » ؛ لأنه مقدار يملأها ، أي : ولو افتدى بملء الأرض .
الثاني : أن يعوج على « ذَهَباً » ، قاله أبو البقاء .
قال أبو حيان : ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء ، أو على الذهب ، فقوله : « أو على الذهب » غلط .
قال شهاب الدين : « كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه ، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره ، فضلة » .
الثالث : أن يعود على « مِثْل » محذوف .
قال الزمخشريُّ : « ويجوز أن يُراد : ولو افتدى بمثله ، كقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه } [ الرعد : 18 ] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً ، كقولك : ضربت ضرب زيد - تريد : مثل ضربه - وقولك : أبو يوسف أبو حنيفة - أي : مثله- .
وقوله : [ الرجز ]
1537- لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ
و » قضية ولا أبا حسن لها « يريد : لا مثل هيثم ، ولا مثل أبي حسن ، كما أنه يزاد قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، يريدون : أنت لا تفعل كذا ، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد » .
قال أبو حيان : « ولا حاجةَ إلى تقدير » مثل « في قوله : » ولو افتدى به « ، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به ، فاحتاج إلى إضمار : » مثل « حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً ، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير » مثل « ؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في اللفظ ، ولا في المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر .
وأما ما مثل به - من نحو : ضربت ضربَ زيدٍ ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد ، وذات أبي يوسف ، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة .
وأما « لا هيثم الليلة للمطي » ، فدل على حذف « مثل » ما تقرر في اللغة العربية أن « لا » التي لنفي الجنس ، لا تدخل على الأعلام ، فتؤثر فيها ، فاحتيج إلى إضمار : « مثل » لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس .
وأما قوله : كما يزاد في : مثلك لا يفعل - تريد : أنت - فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد « .
قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه - [ لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً ، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً ] .
قوله : » أولئك لم عذاب أليم « هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به . ويجوز أن يكون » لهم « : خبراً لاسم الإشارة ، و » عَذَابٌ « فاعل به ، وعمل لاعتماده على ذي خبره ، أي : أولئك استقر لهم عذاب . وأن يكون » لَهُمْ « خبراً مقدَّماًن و » عَذَابٌ « مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر عن اسم الإشارة ، والأول أحسن؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة ، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد .
قوله : { وما لهم من ناصرين } هذا هو النوع الثالث من الوعيد ، ويجوز في إعرابه وجهان :
أحدهما : أن يكون { مِّن نَّاصِرِينَ } : فاعلاً ، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي ، أي : وما استقر لهم من ناصرين .
والثاني : أنه خبر مقدَّم ، و { مِّن نَّاصِرِينَ } : مبتدأ مؤخر ، و » مِنْ « مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها .
وأتى ب » ناصرين « جمعاً؛ لتوافق الفواصل .
واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة ، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
النيل : إدراك الشيء ولحوقه .
وقيل : هو العطية .
وقيل : هو تناول الشيء باليد ، يقال : نِلْتُه ، أناله ، نَيْلاً ، قال تعالى : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا } [ التوبة : 120 ] .
وأما النول - بالواو - فمعناه التناول ، يقال : نِلتُه ، أنوله ، أي تناولته ، وأنلْته زيداً ، وأنوله إياه ، أي ناولته إياه ، كقولك : عطوته ، أعطوه ، بمعنى : تناولته ، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه .
قوله : « حتى تنفقوا » بمعنى إلى أن ، و « مِن » في « مما تحبون » تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله : بعض ما تحبون .
قال شهاب الدين : « وهذه - عندي - ليست قراءة ، بل تفسير معنى » .
وقال آخرون : « إنها للتبيين » .
[ وجوز أبو البقاء ذلك فقال : « أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية؛ لأن المحبة لا تتفق ، فإن جعلت المحبة بمعنى : المفعول ، جاز على رأي أبي علي » يعني يَبْقى التقدير : من الشيء المحبوب ، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف ] .
فصل
لما بيَّن أن نفقتهم لا تنفع ذكَر - هنا - ما ينفع ، فإن من أنفق مما يُحِبُّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } [ الانفطار : 13 ] ، وغيرها .
قال ابن الخطيب : « وفي هذا لطيفة ، وهي أنه - تعالى - قال في سورة البقرة- : { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] وقال - هنا - { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } والمعنى : لو فعلتم ذلك المتقدم كله ، لا تفوزون بالبر حتى تُنْفقوا مما تُحِبُّون ، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات .
فإن قيل : » حتى « لانتهاء الغاية ، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب ، صار من جملة الأبرار ، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات .
فالجواب : أن المحبوب إنما يُنفق إذا طمع المنفِق فيما هو أشرف منه ، فلا ينفق المرءُ في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة ، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع ، وأنه يجب عليه الانقيادُ لأوامره وتكاليفه ، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين » .
فصل
قال ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسْعُودٍ ومُجَاهِدٌ : البرّ : الجنة .
وقال مقاتل بن حيان : البرّ التقوى .
كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } [ البقرة : 177 ] إلى قوله : { وأولئك هُمُ المتقون } [ البقرة : 177 ] .
وقيل : البر « الطاعة .
فالذين قالوا : إن البر هو الجنة قال بعضهم : معناه لن تنالوا ثواب البر .
ومنهم من قال : المراد بر الله أولياءه ، وإكرامه إياهم ، وتفضله عليهم ، من قولهم : بَرَّني فلان بكذا أو بِرُّ فلان لا ينقطع عني .
وقوله : » مما تحبون « قال بعضهم : إنه نفس المال .
وقال آخرون : أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُون } [ البقرة : 267 ] .
وقال آخرون : ما يكون محتاجاً إليه القوم؛ قال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّه } [ الإنسان : 8 ] - في أحد تفاسير الحُبِّ - وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة } [ الحشر : 9 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : « أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأنْتَ صَحِيحٌ ، شَحِيحٌ ، تَأمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ » .
روى الضحاك عن ابن عباس : أن المراد به : الزكاة .
قال ابْنُ الخَطِيبِ : لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أوْلَى؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحَبّ ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكِّي أن يُخرج أشرف أموال ، أو أكرمها ، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النَّدْب .
ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي ، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة ، وهذا في غاية البُعْد؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بَذْل المحبوب لوجه الله .
قوله : { وما تنفقوا من شيء } تقدم نظيره في البقرة .
فإن قيل : لِمَ قيل : { فإن الله به عليم } على جهة جواب الشرط ، مع أن الله يعلمه على كل حال؟
فالجواب م نوجهين :
الأول : أن فيه معنى الجزاء ، تقديره : وما تُنْفِقُوا من شيء فإن الله مجازيكم به - قَلَّ أم كَثر- ، لأنه عليم به ، لا يَخْفَى عليه شيء منه ، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب ، والتعريض - في مثل هذا الموضع - يكون أبلغ من التصريح .
الثاني : أنه - تعالى - يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه ، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء ، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُه } [ البقرة : 270 ] أي : يبينه ويجازيكم على قدره .
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
الحِلّ بمعنى : الحَلالَ ، وهو - في الأصل - مصدر لِ « حَلَّ يَحِلُّ » ، كقولك : عز يعز عزًّا ، ثم يطلق على الأشخاص ، مبالغة ، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ ، والمذكَّرُ والمؤنثُ ، كقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ، وفي الحديث عن عائشة : « كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ » ، أي لإحلاله ولإحرامه ، وهو كالحرم واللبس - بمعنى : الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم - : هي حِلٌّ وبِلٌّ . رواه سفيان بن عُيَيْنَة ، فسئل سفيان ، ما حِلّ؟ فقال : محَلَّل . و « لِبَني » : متعلق ب « حِلاًّ » .
قوله : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ } مستثنى من اسم « كَانَ » .
وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في « حِلاًّ » فقال لأنه استثناء من اسم « كَانَ » والعامل فيه : « كان » ، ويجوز أن يعمل فيه « حِلاًّ » ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح .
وفي هذا الاستثناء قولان :
أحدهما : أنه متَّصل ، والتقدير : إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه ، فحرم عليهم في التوراة ، فليس فيها ما زادوه من محرمات ، وادَّعَوْا صحةَ ذلك .
والثاني : أنه مُنْقَطِع ، والتقدير : لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً ، ولم يحرمه عليهم ، والأول هو الصحيح .
قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } فيه وجهان :
أحدهما : انه متعلق ب « حَرَّم » أي : إلا ما حرَّم من قبل ، قاله أبو البقاء .
قال أبو حيان : « ويبعد ذلك؛ إذ هو من الإخبار بالواضح؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه ، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة » .
والثاني : أنه يتعلق بقوله : { كَانَ حِلاًّ } .
قال أبو حيان : « ويظهر أنه متعلّق بقوله : { كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } ، أي : من قبل أن تُنَزًّل التوراة ، وفصل بالاستثناء؛ إذْ هو فَصْل جائز ، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن ، في جواز أن يعمل ما قبل » إلا « فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك ، ما أوَى إلا عمرو إليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً .
وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً ، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع ، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن ، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله ، تقديره - هنا - جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة » .
وقرئ : { تُنَزَّلَ التوراة } بتخفيف الزاي وتشديدها ، وكلاهما بمعنى واحد ، وهذا يرد قولَ من قال بأن « تنَزَّل » - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين .
فصل
لما تقدمت الآيات الدالة ُ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب ، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم ، وهي تحتمل وجوهاً :
روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل ، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه ، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً ، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده ، فحصل النسخُ ، وبطل قولكم : النسخ غير جائز ، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه ، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم ، فعند هذا طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم أن يُحْضِروا التوراةَ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه ، فخافوا من الفضيحة ، وامتنعوا من إحضار التوراة ، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
منها : أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه ، وهم يُنْكِرُونه .
ومنها : ظهور كذبهم للناس ، فيما نسبوه إلى التوراة .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم كان أمِّيًّا ، لا يقرأ ولا يكتب ، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى .
الوجه الثاني : أن اليهود قالوا له : إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم ، فلست أنت على ملة إبراهيم ، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه ، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الشبهة وقال : إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه ، لسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده ، فأنكر اليهودُ ذلك ، وقالوا : ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإحضار التوراةِ ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم ، فعجزوا عن ذلك ، وافتضحوا ، فظهر كذبُهم .
الوجه الثالث : أنه - تعالى - لما أنزل قوله : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] ، قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً ، غير الذي حرا إسرائيل على نفسه ، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين :
أحدهما : أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة ، وذلك يقتضي النسخ ، وهم ينكرونه .
والثاني : أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال ، فلما شَقَّ ذلك عليهم من هذين الوجهين ، أنكروا كَوْنَ حُرْمَةِ هذه الأشياء متجدِّدَةً ، وزعموا أنها كانت مُحَرَّمَةً أبداً ، فطالبهم النبيُّ بآية من التوراة تدل على صِحَّةِ قولِهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول .
فصل
قال الزمخشري : « كُلُّ الطَّعَامِ » كل المطعومات ، أو كل أنواع الطعام .
واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلَّى بالألف واللام ، هل يفيد العموم أم لا؟
فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه :
الأول : أنه - تعالى - أدْخل لفظ « كُلّ » على لفظ « الطَّعَامِ » فلولا أن لفظ الطَّعَامِ « قائم مقام المطعومات ، وإلا لما جاز ذلك .
والثاني : أنه استثنى ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، والاستثناء يُخْرِج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ : » الطَّعَام « ، وإلا لم يَصِحْ الاستثناء ويؤيده قوله تعالى : { والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 1-3 ] .
الثالث : أنه - تعالى - وصف هذا اللفظ المفرد بما يُوصف به لفظ الجمع ، فقال { والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريُّ .
ومن قال : إنه لا يفيد العمومَ ، يحتاج إلى الإضمار .
فصل
الطعام : اسم لكل ما يُؤكَل ويُطْعَم .
وزعم بعض الحنفيَّة : أنه اسم للبُرِّ خاصَّةً ، وهذه الآية حُجَّة عليهم؛ لأنه استثنى من لفظ » الطَّعَامِ « : ما حرم إسرائيل على نفسه ، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرَّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يُتَّخَذ منها ، ويؤكد ذلك قوله - في صفة الماء- : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] ، وقوله : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } [ المائدة : 5 ] ، وأراد الذبائح ، وقالت عائشة : » مَا لَنَا طَعَامٌ إلاَّ الأسودان « والمراد : التمر والماء .
فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه
اختلفوا في الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه :
قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيُّ : روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إنَّ يعقوبَ مَرِضَ مَرَضاً شديداً ، فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ ليُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطعامِ والشَّرَابِ إلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لُحْمَانَ الإبلِ وألبانها « .
قال ابن عباس ومجاهد وقتادةُ والسُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ : هي العروق ، وكان السبب فيه ، أنه اشتكى عرق النسا ، وكان أصل وجعه - فيما روى جويبر ومقاتلٌ عن الضحاك - أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثْنَي عشر وَلداً ، وأتَى بيتَ لمقدس صحيحاً ، أن يذبح آخرَهم ، فتلقاه ملَكٌ من الملائكة ، فقال : يا يعقوبُ ، إنك رجل قويٌّ ، فهل لك في الصِّراع؟ فصارعه فلم يصرع واحدٌ منهما صاحبه ، فغمزه الملك غمزةً ، فعرض له عرق النسا من ذلك ، ثم قال له الملك : أما إني لو شئتُ أن أصرعك لفعلت ، ولكن غمزتك هذه الغمزة؛ [ لأنك كنتَ نذرتَ إن أتيتَ بيتَ المقدس صحيحاً أن تذبح آخر ولدِك ، فجعل الله له بهذه الغمزة ] مخرجاً ، فلما قدم يعقوب بيت المقدسِ أراد ذَبْحَ ولده ، ونَسِي قولَ المَلَك ، فأتاه الملك ، وقال : إنما غمزتم للمخرج ، وقد وفى نذرك ، فلا سبيل لك إلى ولدِك .
وقال عباسٍ ومُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ : أقبل يعقوب من : « حَرَّان » يريد بيت المقدس ، حين هرب من أخيه عيصو ، وكان رجلاً بطيشاً ، قويًّا ، فلقيه ملك ، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب ، ثم صعد إلى السماء ، ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النسا ، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً ، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء : أي صياح ، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق ، فحرَّمه على نفسه ، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق ، ويخرجونها من اللحم .
وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس : لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا ، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل ، فحرَّمها يعقوب على نفسه .
وقال الحسن : حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور ، تعبُّداً لله تعالى ، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك ، ومنعها الله على وَلَدِهِ .
فإن قيل : التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه ، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه ، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق ، ويحرم جاريته بالعِتْق ، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى : إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك .
الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد ، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم ، فقال بتحريمه ، والاجتهاد جائز من الأنبياء؛ لعموم قوله : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] ، ولقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ } [ النساء : 83 ] ، ولقوله - لمحمد صلى الله عليه وسلم - : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، فدل على أنه كان بالاجتهاد .
وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال : إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل .
الثالث : يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا ، فكما يجب علينا الوفاةُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم .
الرابع : قال الأصم : لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها ، فامتنع من أكلها؛ قَهْراً للنَّفْس ، وطَلَباً لمرضاة الله ، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ .
فصل
ترجم ابنُ ماجه في سننه « دواء عرقِ النساء » وروى بسنده عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ ، [ أعرابية ] تُذابُ ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا » .
وفي رواية عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في عرق النسا - : « تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً ، فتُخْرَجُ إهَالتُه ، فتقسَّم ثلاثة أقسام ، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ » قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة ، فبرئوا - بإذن الله عز وجل - ، وروى شعبة قال : حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا ، يمسح على ذلك الموضع ، ويقول أقسم لك بالله الأعلى ، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى .
قال شعبة : قد جرَّبته ، لقوله : وتمسح على ذلك الموضع .
فصل
دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم ، فهم أولى؛ لأنهم أكمل من غيرهم ، ومنع بعضُهم ذلك؛ لأنهم متمكنون من الوحي ، وقال تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } [ التحريم : 1 ] .
فصل
ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه ، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ؛ لقوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } ، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه ، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز
فصل
ومعنى قوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } أي : قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه ، أما بعد نزول التوراة ، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة .
وقال السدي : حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها .
قال ابن عطية : إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل؛ فإنه كان قد قال : إن عافاني الله لا يأكله لي ولد ، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة .
وقال الكلبي : لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة ، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، وقال : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم ، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام ، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ .
وقال الضحاكُ : لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم ، ولا حَرَّمه الله في التوراة ، وإنما حرموه على أنفسهم؛ اتباعاً لأبيهم ، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - عز وجل - فكذبهم الله ، فقال : « قُلْ » : يا محمد { فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها } حتى يتبين أنه كما قلتم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، فلم يأتوا بها ، فقال - الله عز وجل- : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } ، « مَنْ » يجوز أن تكون شرطيَّةً ، أو موصولة ، وحمل على لفظها في قوله : « افْتَرَى » فوحَّد الضمير ، وعلى معناها فجمع في قوله : { فأولئك هُمُ الظالمون } ، والافتراء مأخوذ من الفَرْي ، وهو القطع ، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه .
وقوله : { مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ظهور الحجة ، { فأولئك هُمُ الظالمون } المستحقون لعذاب الله .
قوله : { مِنْ بَعْدِ } فيه وجهان :
أحدهما : - وهو الظاهر- : أن يتعلق ب « افْتَرَى » .
الثاني : قال أبو البقاء : يجوز أن يتعلق بالكذب ، يعني : الكذب الواقع من بعد ذلك .
وفي المشار إليه ثلاثة أوجه :
أحدها : استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم؛ إذ المعنى : إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه ، ثم حرم في التوراة؛ عقوبةً لهم .
الثاني : التلاوة ، وجاز تذكير اسم الإشارة؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم .
الثالث : الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه ، وهذه الجملة - أعني : قوله : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب } - يجوز أن تكون استئنافيةً ، فلا محل لها من الإعراب ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل؛ نسقاً على قوله : { فَأْتُواْ بالتوراة } ، فتندرج في المقول .
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
أي قل لهم .
والعامة على إظهار لام « قُلْ » مع الصاد .
وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها ، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله : { قُلْ سِيرُواْ } [ الأنعام : 11 ] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشاماً أدْغموا اللام في السين في قوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ } [ يوسف : 18 ] .
قال أبو الفتح : « عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم ، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما » ، وهو مأخوذ من كلام سيبويه ، فإن سيبويه قال : « والإدغام ، يعني : إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما ، جائز ، وليس ككثرته مع الراء؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها ، وهن من الثنايا؛ قال : وجواز الإدغام أنّ ىخر مخرج اللام قريب من مخرجها » . انتهى .
قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم ، وهي : « لأن الصاد فيها انبساط ، وفي اللام انبساط ، بحيث يتلاقى طرفاهما ، فصارا متقاربين » . وقد تقدم إعراب قوله : ملة إبراهيم حنيفاً .
فصل
{ قُلْ صَدَقَ الله } يحتمل وجوهاً :
أحدها : قل : صدق اللهُ في أن ذلك النوعَ من الطعام ، صار حراماً على بني إسرائيلَ ، وأولادِه بعد أن كان حلالاً لهم ، فصحَّ القولُ بالنسخ ، وبطلت شُبْهَةُ اليهود .
وثانيها : قل : صدق اللهُ في أن لحوم الإبل ، وألبانها كانت مُحَلَّلَةً لإبراهيمَ ، وإنما حُرِّمَتْ على بني إسرائيلَ؛ لأن إسرائيلَ حَرَّمها على نفسه ، فثبت أن محمداً لما أفتى بِحلِّ لحوم الإبل ، وألبانِها ، فقد أفتى بملة إبراهيمَ .
وثالثها : صدق الله في أن سائرَ الأطعمة ، كانت مُحَلَّلَةً لبني إسرائيلَ ، وإنما حُرِّمَتْ على اليهود؛ جزاءً على قبائح أفعالهم .
وقوله : { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي : اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم من ملة إبراهيمَ .
وسواء قال : { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أو قال : « ملة إبراهيم الحنيف » ؛ لأن الحال والصفة في المعنى سواء .
وقوله : { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } أي : لم يدْعُ مع الله إلهاً آخرَ ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، أو كما فعله اليهودُ من أن عُزَيراً ابن الله ، أو كما فعله النصارى من ادِّعاء أن المسيح ابن الله .
والمعنى : إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكنْ من الطائفة المشركةِ في وقت من الأوقاتِ ، والغرض منه بيان أن محمداً صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم في الفروع والأصول؛ لأن مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم لا يدعو إلا إلى التوحيدِ ، والبراءة عن كل معبودٍ سوى اللهِ تعالى .
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :
الأول : أن المرادَ منه : الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ ، وقالوا : إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة ، وهو أرضُ المحشَر ، وقبلةُ جُملة الأنبياء ، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل ، وأجابهم الله بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } هو الكعبة ، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى .
الثاني : أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ ، هل يجوز أم لا؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه ، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها ، والقوم نازعوه فيه ، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخه هو القبلة ، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة ، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها .
الثالث : أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ : { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 95 ] ، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ .
الرابع : أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى ، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم ، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ ، وهم لا يَحُجُّون ، فدل ذلك على كذِبهم .
قوله : { وُضِعَ لِلنَّاسِ } هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة ل « بَيْتٍ » .
وقرأ العامة « وُضِعَ » مبنيًّا للمفعول . وعكرمة وابن السميفع « وضَعَ » مبنيًّا للفاعل .
وفي فاعله قولان :
أحدهما : - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته .
والثاني : أنه ضمير الباري تعالى ، و « لِلنَّاسٍ » متعلق بالفعل قبله ، واللام فيه للعلة .
و « للذي » بِبَكَّة « خبر » إنَّ « وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - وهو » أول بَيْتٍ « - لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة ، والوصف بالجملة بعده ، وهو جائز في باب » إن « ، ومن عبارة سيبويه : إن قريباً منك زيدٌ ، لما تخصص » قريباً « بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه ، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل » إنَّ « ، وقد جاءت النكرة اسماً ل » إنَّ « - وإن لم يكن تخصيص - كقوله : [ الطويل ]
1538- وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
وببكة صلة ، و الباء فيه ظرفية ، أي : في مكة .
وبكة فيها اربعة أوجه :
أحدها : أنها مرادفة ل » مكة « فأبدلت ميمها باءً ، قالوا : والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع ، قالوا : هذا على ضربة لازم ، ولازب ، وهذا أمر راتب ، وراتم ، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها ، وأغبطت الحمى ، وأغمطت .
وقيل : إنها اسم لبطن مكة ، ومكة اسم لكل البلد .
وقيل : إنها اسم لمكان البيت .
وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه ، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف ، يقال : تباكَّ الناسُ - أي : ازْدَحموا ، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه ، كذا قال بعضهم ، وهو فاسد ، لأن البيت في المسجد حقيقةً .
وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف ، ومكة : اسم البلد ، لقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } فدل على أن البيت مظروف في بكة ، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له .
وسميت بكة؛ لازدحام الناس ، قاله مجاهد وقتادة ، وهو قول محمد بن علي الباقر .
وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي ، فمرت امرأة بين يديه ، فذهبت أدْفَعها ، فقال : دعها ، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي ، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ، ولا بأس بذلك هنا .
وقيل : لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي : تدقها .
قال قطرب : تقول العرب : بَكَكْتهُ ، أبُكُّهُ ، بَكًّا ، إذا وضعت منه .
وسميت مكة - من قولهم : مَكَكْتُ المخ من العظم ، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً .
ومنه : مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً ، ورُويَ أنه قال : « لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ » .
وقيل : لأنها تَمُكُّ الذنوبَ ، أي : تُزيلها كلَّها .
قال ابن الأنباري : وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها ، وقلة خِصْبها ، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم ، إذا لم تترك فيه شيئاً .
وقيل : لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ ، أي : استقصاه بالهلاك .
وقيل : سُمِّيت بذلك؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض ، كما يقال : امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع .
وقال الخليل : لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم .
وقيل : لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة ، فالأرض كلها تمك من ماء مكة ، والمكوك : كأس يشرب به ، ويُكال به - ك « الصُّوَاع » .
قال القفال : لها أسماء كثيرة ، مكة ، وبكة ، وأمّ رُحْم ، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد : لأن الناس يتراحمون فيها ، ويتوادَعُون - والباسَّة؛ قال الماوَرْدِي : لأنها تبس من الْحَد فيها ، أي : تُحَطِّمه وتُهْلكه ، قال تعالى : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } [ الواقعة : 5 ] .
ويروى : الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع : ويقال : الناسَّة - بالنون- . قال الماوَرْدِيُّ : لأنها تنس من ألحد فيها - أي : تطرده وتَنْفِيه .
ونقل الجوهري - عن الأصمعي- : النَّسّ : اليبس ، يُقال : جاءنا بخُبْزَة ناسَّة ، ومنه قيل لمكةَ : الناسَّة؛ لقلة مائها .
والرأس ، والعرش ، والقادس ، و المقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ ، والبلد ، والحاطمة؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها ، وأم القرى؛ لأنها أصل كل بلدة ، ومنها دحيت الأرض ، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض .
فصل
الأوَّلُ : هو الفرد السابق ، فإذا قال : أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما؛ لأن الأول هو الفرد ، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ .
إذا عُرِفَ هذا ، فقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى ، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض ، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس ، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس ، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس ، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات ، وقِبْلَةً للخلق ، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات ، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات ، وموضِعاً للحجِّ .
فإن قيل : كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات ، التي منها وجوبُ حَجِّه ، ومعلوم أنه ليس كذلك .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن لفظ « الأوًّل » - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً ، سواء حصل بعده شيء آخرُ ، أو لم يحصل ، يقال : هذا أول قدومي مكة ، وهذا أول مال أصَبْتُه ، ولو قال : أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا .
الثاني : أن المراد منه : أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم ، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ : المَسْجِد الْحَرَامِ ، والمسْجِدِ الأقْصَى ، ومَسْجِدِي هَذَا » ، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس ، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور ، حتى في وجوبِ الحَجِّ ، فهذا غير لازم .
فصل
قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ } يحتمل أن يكون المراد : أنه أول في الموضع والبناء ، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى ، وفيه قولان للمفسرين .
فعلى الأول فيه أقوال :
أحدها : روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال : خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين .
وفي رواية : « خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى » .
وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال : إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً ، في كل سماء بيتٌ ، وفي كل أرض بيت ، بعضهن مقابل بعض .
وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - عن النبي صلى الله عليه وسلم - عن الله - تعالى - قال : « إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً ، فَقَالَ : ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ ، فبنوا له بيتاً على مثالِه ، واسْمُه الضُّرَاح ، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ : بَرَّ حَجُّك ، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ » ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد و السُّدِّيّ : أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء ، عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام ، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء ، ثم دُحِيَت الأرض من تحته .
قال القفال في تفسيره : روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس ، قال ، وُجِدَ في كتاب - في المقام ، أو تحت المقام - أنا الله ، ذو بكَّةَ ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء .
روي : أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة ، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك ، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه ، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم ، ودلَّه على مكان البيت ، وأمره بعمارته .
قال القاضي : القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة ، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء ، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام ، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها ، وإذا كان كذلك ، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء .
انتهى .
فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة ، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء ، لقوله : { أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] .
ولما كانوا يسجدون لله ، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ .
القول الثاني : أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ : كونه مباركاً وهدًى ، قالوا : لأنه رُوِي أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس ، فقال : « المَسْجِدُ الحَرَامُ ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ ، فَقِيلَ : كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال : أرْبَعُونَ سَنَةً ، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ » .
وعن علي : أن رجلاً قال له : هو أول بيتٍ؟ قال : لا ، كان قبلَه بيوتٌ ، أول بيت وُضِعَ للناس ، مباركاً ، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ ، أول مَنْ بناه إبراهيم ، ثم بتاه قوم من العرب من جُرْهُم ، ثم هُدِم ، فبنته العمالقةُ ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح ، ثم هدم فبناه قريش . ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس ، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء .
فصل في بيان فضيلته
اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه ، تكون الكعبة أشرف ، فكان الآمر بالعمارة هو الله ، والمبلغُ والمهندسُ جبريل ، والبانِي هو الخليلَ ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل؛ فلهذا قيل : ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة .
وأيضاً مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه ، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين ، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر ، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله ، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء ، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه ، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى ، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام ، فهذه أنواع من الآيات العجيبة ، والمعجزات الباهرةِ .
وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه ، فإنه منذ آلاف السنين ، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً ، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير ، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء ، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ ، وقد جاء في الأثر : أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ .
وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه .
وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة ، بدعاء إبراهيمَ وقوله :
{ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } [ إبراهيم : 35 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، وقال : { رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3-4 ] .
وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة ، وعجز قريش عن مقاومته ، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة ، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ ، ترميهم بحجاةٍ ، والأبابيل : هم الجماعة من الطير بعد الجماعة ، وكانت صِغَاراً ، تحمل أحجاراً ترميهم بها ، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة .
فإن قيل : ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع؟
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه ، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى .
وثانيها : أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة ، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا ، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا .
وثالثها : أنه فعل ذلك؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة ، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة .
ورابعها : أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر ، حيث وَضَعَ أشرف البيوت ، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا ، فكأنه قال : جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين ، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن ، وفي الآخرة دارُ الأمْن .
فسل
للكعبة أسماء كثيرة :
أحدها : الكعبة ، قال تعالى : { جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ } [ المائدة : 97 ] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع ، وسمي الكعب كعباً؛ لإشرافه على الرسغ ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها ، فلما كان هذا البيت أشرف بيوت الأرض ، وأقدمها زماناً ، سُمي بهذا الاسم .
وثانيها : البيت العتيق ، قال تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] وسُمي العتيقَ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض .
وقيل : لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء؛ وقيل : لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق .
وقيل : لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم : عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه .
وقيل : لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار .
وثالثها : المسجد الحرام ، قال تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى } [ الإسراء : 1 ] وسُمِّيَ بذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته - يوم فتح مكة - : « ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها ، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها » .
فإن قيل : كيف الجمع بين قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 96 ] فهناك أضافه إلى نفسه ، وهنا أسندَه إلى الناس؟
فالجواب : كأنه قال : البيت لي ، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس .
قوله : { مُبَارَكاً وَهُدًى } حالان ، إما من الضمير في « وُضِعَ » كذا أعربه أبو البقاء وغيره ، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ - وهو خبر « إنَّ » - وذلك غير جائز؛ لأن الخبر معمول ل « إنَّ » فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً ، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال .
وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في « بِبَكَّةَ » أي استقر ببكة في حال بركته ، وهو وجه ظاهر الجواز . والظاهر أن قوله : « وَهُدًى » معطوف على « مُبَارَكاً » والمعطوف على الحال حال .
وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً ، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي : وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار .
والبركة : الزيادة ، يقال : بارك الله لك ، أي : زادك خيراً ، وهو مُتَعَدٍّ ، ويدل عليه قوله تعالى : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } [ النمل : 8 ] و « تبارك » لا يتَصَرف ، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى ، ومعناه - في حقه تعالى- : تزايد خيرُه وإحسانه .
وقيل : البركة ثبوت الخير ، مأخوذ من مَبْرَك البعير .
وإما من الضمير المستكن في الجار وهو « ببكة » لوقوعه صلة ، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص ، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك . و « للعالمين » كقوله : « للمتقين » أول البقرة .
فصل
البركة لها معنيان .
أحدهما : النمو والتزايُد .
والثاني : البقاء والدوام ، يقال : تبارك الله؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال .
والبركة : شبه الحوض؛ لثبوت الماء فيها ، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد ، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه :
أحدها : أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ » ، ثُمَّ قال : « صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ » هذا في الصلاة ، وأمَّا في الحج فقد قال صلى الله عليه وسلم : « مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ ، ولَمْ يَرْفُثْ ، ولم يَفْسُق ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ » ، وفي حديث آخر : « الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ » ، ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة .
ثانيها : قال القَفَّالُ : ويجوز أن يكون بركته ، ما ذكر في قوله تعالى :
{ يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } [ القصص : 57 ] فيكون كقوله : { إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] .
وثالثها : أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة ، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة ، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة ، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية ، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه ، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه ، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه ، وهذا بَحْرٌ عظيم ، ومقام شريف ، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً . وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين . وأيضاً فالأرض كرة ، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم ، وظهر لآخرين ، وعَصر لثالث ، ومغرب لرابع ، وعشاء لخامس ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من طرَفٍ من أطراف العالم؛ لأداء فرض الصلاة ، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة ، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً - .
وأما كونه هدًى للعالمين ، فقيل : لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم .
وقيل : هُدًى ، أي : دلالة على وجود الصانع المختار ، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها .
وقيل : هُدًى للعالمين إلى الجنة؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة .
قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، إما من ضمير « وُضِعَ » وفيه ما تقدم من الإشكال .
وأمَّا من الضمير في « بِبَكَّةَ » وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ .
وإما من الضمير في « للعالمِينَ » ، وإما من « هُدًى » ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « مُبَارَكاً » .
ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتاً لِ « هُدًى » بعد نعته بالجار قبله . ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه ، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و « آياتٌ » مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل ، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة ، فما قَرُب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدَّكم المفردُ ، ثم الظرفُ ، ثم الجملة فيما ذكرنا ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى :
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] ، فقدم الوصف بالمفرد « مُؤمِنٌ » ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] ، وثلَّث بالجملة وهي { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله : { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ } [ المائدة : 45 ] .
قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فيه أوْجُه :
أحدها : أن « مَقَام » : بدل من « آيَاتٌ » وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع ، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة ، فإن لم يُوَفِّ ، قالوا : وجب القطع عن البدلية ، إما إلى النصب بإضمار فِعْل ، وإما إلى الرفع ، على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً ، أي : أعني زيداً وعمراً ، أو زيد وعمرو ، أي : منهم زيد وعمرو .
ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني : [ الطويل ]
1539- تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ ... وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ
على القطع المتقدم ، أي : فمنها رمادٌ ونؤي ، وكذا قوله تعالى : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [ البروج : 17-18 ] أي : أعني فرعون وثمود ، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ ، على أنه قد يُقال : إن المراد بفرعون وثمودَ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما ، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ .
وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقام ، وأمن داخله ، فكيف يكون بَدَلاً؟
وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هي مقام إبراهيم ، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟
وفيه أجوبة :
أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم .
قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع ، كالثلاثة والأربعة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ » .
قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين ، قال تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .
وقال بعضهم : تمام الثلاة قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } وتقدير الكلام : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حَجَّ البيت ، ثم حذف « أن » اختصاراً ، كما في قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] أي : أمر ربي أن اقسطوا .
الثاني : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ ، بمعنيين :
أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية ، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية ، قال معناه الزمخشري .
وثانيهما : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } بمنزلة آيات كثيرة؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً ، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة كان بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } [ النحل : 120 ] ، قاله ابنُ الخطيب .
الثالث : أن يكون هذا من باب الطَّيّ ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ ، ثم يُؤتَى ببعضه ، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم ، ويُسَمَّى طَيًّا .
وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [ البسيط ]
1540- كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا
وأورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : « حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ : الطيبُ والنِّسَاءُ ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة » ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة .
لا يقال إن الثالثة قوله صلى الله عليه وسلم : « جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ » لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية .
وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما .
وقال ابنُ عطية : « والأرجح - عندي - أن الماقم ، وأمن الداخل ، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات ، وخُصَّا بالذِّكْر؛ لِعِظَمِهِمَا ، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم » .
الوجه الثاني : أن يكون { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } عطف بيان ، قاله الزمخشري .
ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيُتْبعون النكرة نكرة ، و المعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما البصريون ، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً ، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } [ إبراهيم : 16 ] وقوله : { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } [ النور : 35 ] ، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم ، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردةِ؟ فقال : « فإن قلتَ : كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات . وقوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } جملة مستأنفة ، إما ابتدائية وإما شرطية؟
قلت : أجَزْت ذلك من حيث المعنى؛ لأن قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } دل على أمْن مَنْ دخله ، وكأنه قيل : فيه ىيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن مَنْ دخله » .
قال أبو حيان : « وليس بواضح؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع ، عطفاً على » مَقَام إبراهيم « وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف ، يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى ، لا تفسير الإعراب » .
قال شهاب الدين : « وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها ، ولا تدافع فيما ذكر؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه » .
الوجه الثالث : قال المبرد : « مَقَامُ » مصدر ، فلم يُجْمَع ، كما قال : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] والمراد : مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج ، وأعمال المناسك ، ولا شك أنها كثيرة ، وعلى هذا ، فالمراد بالآيات : شعائر الحج ، كما قال تعالى : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } [ الحج : 32 ] .
الوجه الرابع : أن قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : أحدها ، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : منها ، أي : من الآيات البيِّنات « مقام إبراهيم » .
وقال بعضهم : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } لا تعلُّقَ له بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ، فكأنه - تعالى - قال : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ومع ذلك فهو { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } ومَقَرُّه ، والموضع الذي اختاره ، وعَبَدَ الله فيه؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم .
وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد ، وتخريج « مَقَامُ » - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل ، من كونه بدلاً ، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها ، وقد وُصِفَتْ .
فصل
قال المفسرون : الآيات منها مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت قدميه ، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة ، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة ، قام على هذا الحجر ، فغاصت فيه قدماه .
وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع ، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر ، فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ ، فبقي أثرُ قدميه عليه ، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي .
وقيل : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج .
قال القفّال : « ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها » .
وقيل : مقام إبراهيم؛ هو جميع الحرم ، كما تقدم عن المبرد .
ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود ، وزمزم ، والحطيم ، والمشاعر كلها .
ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد ، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون ، والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيه ، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف .
والمقام هو في المسجد الحرام ، قُبالَة باب البيت .
وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : الحجر الأسود ، والمقام من الجنة .
قال الأزرقي : ذرع المقام ذراع ، وسعة أهلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب ، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز ، لا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع ، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً ، وعرض حجر المقام من نواحيه ، إحدى وعشرون إصبعاً ، ووسطه مربع ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، ودخولهما منحرفتان ، وبين القدمين من الحجر أصبعان ، ووسطه قد استدق من التمسُّح به ، والمقام في حوض من ساج مربع ، حوله رصاص ، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض ، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق ، فيقفل عليهما قفلان ، وهذا الموضع فيه المقام اليوم ، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية ، ثم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، ولم يُغَيَّر موضعه ، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له : سيل أم نهشل؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة ، فماتت ، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا ، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به ، فربطوه في أستار الكعبة - في وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأقبل عمر من المدينة فزعاً ، فدخل بعمرة في شهر رمضان ، وقد غُبِّيَ موضعُه ، وعفاه السيل ، فجمع عمر الناس ، وسألهم عن موضعه ، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه ، فجعله فيه ، وعمل عمر الردم ، لمنع السيل ، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن .
ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين ، فهو الذهب الذي عليه اليوم ، وهو فوق الذي عمله المهدي .
فصل
قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .
قال الحسن وقتادة : كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً ، ويُغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة ، وهذا قول أكثر المفسرين ، لقوله تعالى { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .
وقيل : أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمِناً ، كما قال تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] .
وقال الضَّحَّاكُ : من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك .
وقيل : معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له ، متقرِّباً إلى الله - عز وجل - كان آمناً يوم القيامة من العذاب .
وقيل : هو خبر بمعنى الأمر ، تقديره : ومن دخله فأمِّنوه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } [ البقرة : 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا .
فصل
قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } موجودة في جميع الحرم ، ثم قال : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم ، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم ، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم؟
فقال الشافعي : يستوفى .
وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام ، والشراب ، والبيع والشراء ، والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفى منه القصاصُ ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً ، ولا يُمكن حمله على الخبر؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم ، وفي القصاص فيما دون النفس ، فوجب حمله على الأمر ، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل ، وفي القصاص بالجناية في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية .
وأجي ببأنَّ قوله : { كَانَ آمِناً } إثبات لمُسَمَّى الآية ، ويكفي في العمل به ، في إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه :
الأول : أن من دخله للنُّسُكِ ، تقرُّباً إلى الله تعالى ، كان آمِناً من النار يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم « مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ » ، وقال صلى الله عليه وسلم « مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه » .
الثاني : يحتمل أن يكونَ المراد : ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه ، ودفع المكروه عنه ، ولما كان المر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً ، وهذا أولى مما قالوه ، لوجهين :
الأول : أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر ، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر .
الثاني : أنه - تعالى - إنما ذكر هذا ، لبيان فضيلةِ البيتِ ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة .
الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء .
الرابع : ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها .
وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ ، وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النَّصّ ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم ، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه ، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص ، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك ، فكان قولُنا أوْلَى .
قوله : « ولله على الناس حج البيت » لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه .
وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : « حِجّ البيت » - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل ، وبَذْر وبِذْر ، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ .
وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح المصدر .
وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم .
فصل
الحج أحد أركان الإسلام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، وإقَامِ الصَّلاةِ ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رمضانَ ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً » .
ويشترط لوجوبه خمسة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحُرِّيَّة ، والاستطاعة .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخطبون بفروع الإسلام؛ لأن ظاهر قوله تعالى { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعم المؤمنَ والكافرَ ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ، ومخصِّصاً ، لهذا العموم؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، غير حاصل ، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة ، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة ، غير حصل ، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط .
فكذا هاهنا .
فصل
قال القرطُبي : دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي ، وهو أحد قولي مالك ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يوسف في رواية عنه ، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر ، وهو قول داود ، والصحيح الأول؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج- : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] ، وسورة الحج مكيّة ، وقال هاهنا : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة ، سنة ثلاثٍ من الهجرة ، ولم يحجّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر ، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج ، إذا أخَّرَهُ عامداً .
فصل
روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل : يا رسولَ اللهِ ، أكتبَ علينا الحَدُّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثاً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال في الرابعة : « لَوْ قُلتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها ، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ » .
فصل
احتج العلماء بهذا الخبر ، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين :
الأول : أن الأمر ورد بالحج ، ولم يُفِد التكرار .
والثاني : أن الصحابة استفهموا ، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة .
قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فيه ستة أوجُه :
أحدها : أن « مَنْ » بدل من « النَّاس » بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه ، نحو : أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه ، وسُلِب زيدٌ ثوبُه ، وهنا ليس من ضمير . فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم .
الثاني : أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصٌّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامٌّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي .
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هم من استطاع .
الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع . وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفاً . الخامس : أن « مَنْ » فاعل بالمصدر وهو « حَدُّ » ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت .
وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث الصناعة؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال : يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً ، ولو قلتَ : ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ ، لم يجزْ إلا في ضرورة ، كقوله : [ البسيط ]
1541- أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ
يروى بنصب « أفواه » على إضافة المصدر - وهو « قَرْع » - إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله . وقد جوَّزَ ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمَّا من حيث المعنى؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب . و « مَنْ » - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى : الذي .
السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على « النَّاسِ » ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه .
ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
وقوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } جملة من مبتدأ - وهو { حِجُّ البيت } - وخبر - وهو قوله : « لله » - و « عَلَى النَّاسِ » متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و « للهِ » متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في « عَلَى النَّاسِ » وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم- .
والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً ، أو حرف جر ، والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل . وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة .
منها قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } يعني : أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم ، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته .
ومنها : أنه ذكر « النَّاسَ » ، ثم أبدل منهم { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وفيه ضربان من التأكيد .
أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له .
والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال ، والإيضاح بعد الإبهام ، إيراد له في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري ، على عادة فصاحته ، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ ، والألف واللام في « البَيْتِ » للعهد؛ لتقدم ذكره ، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد . فإذا قيل : زار البيتَ ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1542- لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ ... وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ
أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض .
قال شهابُ الدين : « وفيه نظر ، إذْ ليس في الظاهر الكعبة » .
الضمير في : « إلَيْهِ » الظاهر عوده على الحَجِّ؛ لأنه محدَّث عنه .
قال الفراء : إن نويت الاستئناف ب « مَنْ » كانت شرطاً ، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : من استطاع إلى الحج سبيلاً ، فللَّه عليه حجُّ البيت .
وقيل : يعود على « الْبَيْتِ » ، و « إلَيْهِ » متعلق ب « اسْتَطَاعَ » ، و « سَبِيلاً » مفعول به؛ لأن استطاع متعدٍّ ، ومنه قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } [ الأعراف : 197 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فصل
قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن :
الأول : سَعَةِ المال ، قال تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] أي : سعة في المال ومنه قوله تعالى : { لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] أي : لو وجدنا سعة في المال .
الثاني : بمعنى الإطاقة ، قال تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء } [ النساء : 129 ] ، وقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] .
فصل
استطاعة السبيل إلى الشيء : عبارة عن إمكان الوصول إليه ، قال تعالى : { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 1 ] ، وقال : { هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] .
قال عبد الله بن عمر : سأل رجلٌ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يُوجب الحَجَّ؟ فقال : « الزاد والراحلة ، قال : يا رسول الله ، فما الحاجّ؟ قال : الشعث ، التَّفِل .
فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أيُّ الحج أفضل؟ فقال : الحج والثج ، فقام آخر فقال : يا رسول ما السبيلُ؟ فقال : » زادٌ ورَاحِلةٌ « .
ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خَوف التلف من سبع ، أو عدو ، أو فُقْدان الطعام والشراب ، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد ، والراحلة ، ويقضي جميع الديون التي عليه ، ويَرُدّ ما عنده من الودائع ، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال ، ما يكفيه لذهابه ومجيئه ، هذا قول الأكثرين .
وروى القفال : عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، فقال له قائل : أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حجّ البيت .
وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال : الاستطاعة هي : صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه؛ لأن الصحيح البدن ، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية ، فلا بد من دليل منفصل ، والأخبار المروية أخبار آحاد ، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب ، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه :
الأول : من جهة السند .
الثاني : أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي ، فلا بد من اعتبار صحة البدن ، وعدم الخوف ، وهذا ليس في الأخبار ، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً .
الوجه الثالث : اعتبار وفاء الدين ، ونفقة عياله ، ورد الودائع .
وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } [ البقرة : 185 ] . فصل
احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل ، فقالوا : لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية ، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية ، وذلك باطل .
وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل ، أو بعد حصولِه ، أما قبل حصول الداعي ، فمحال؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ ، وأما بعد حصولِ الداعي ، فالفعل يصيرُ واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين ، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ .
فصل
إذا كان عاجزاً بنفسه؛ لكونه زَمِناً ، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر ، لما روى عبد الله بن عباس ، قال : كان الفضل بن عباس ردف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم ، تستفتيه ، فجعل الفضلُ ينظر إليها ، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجُّ عنه؟ قال : نَعَم .
وقال مالك : لا يجب عليه ، وهذا هو المعضوب ، والعَضْب : القطع ، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً ، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه ، أو لا يقدر على شيء .
وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه ، أو أجنبي ، الطاعةَ في أن يحج عنه ، فهل يلزمه [ أن يأمره ] إذا كان يعتمد صدقه؟
وفي المسألة خلاف ، فالقائل بالوجوب قال : لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة ، وهذا مستطيع ، لأنه يقال - في العُرْف- : فلان مستطيع لبناء دارٍ ، وإن كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله ، وبأعوانه- .
وقال أبو حنيفة : لا يجب ببذل الطاعة ، قال : وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات؛ وإيصال البر للأموات ، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن؟ وبالإحماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين ، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً لوقُها : إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه ، وهذا تصريح بنفي الوجوب .
وقوله : { وَمَن كَفَرَ } يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين ، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه ، أو المبتدأ وخبره ، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : { غَنِيٌّ عَنِ العالمين } كأنه قال : غني عنهم .
فصل
في هذا الوعيد قولان :
الأول : قال مجاهد : هلا كلام مستقلٌّ بنفسه ، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه .
الثاني : قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء : مَنْ جَحَد فرض الحَج .
وقال آخرون : من ترك الحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا » وقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمنْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا » .
وقال سعيد بن جبير : إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه .
فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج؟
فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ ، أي : قد قارب الكُفْر ، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله : { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] أي : كادت تبلغ .
وكقوله عليه السلام- : « مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر » وقوله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر » .
وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج .
قال الضحاك : لما نزلت آية « الحج » ، جمع الرسولُ صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان الستة : المسلمين ، والنصارى ، واليهود ، والصابئين ، والمجوس ، والمشركين ، فخاطبهم ، وقال : « إن الله كتب عليكم الحج فحجوا » فآمن به المسلمون ، وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
في كيفية النظم وجهان : الأول : أنه - تعالى - لما أوْرَد الدلائلَ على نبوَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم ، مما ورد في التوراة ، والإنجيل ، عقَّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النَّسْخ ، واستقبال الكعبة في الصلاة ، ووجوب حَجِّها ، وأجاب عن هاتين الشُّبْهَتَيْن بقوله { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ } [ آل عمران : 93 ] وبقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ } [ آل عمران : 96 ] فلما تَمَّ الاستدلال خاطبهم - بعد ذلك - بالكلام اللَّيِّن ، وقال : « لم تكفرون بآيات الله » بعد ظهور البينات؟
الثاني : أنه - تعالى - لما بيَّن فضائلَ الكعبة ووجوبَ الحَجِّ - والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق - قال لهم : { لم تكفرون بآيات الله } بعد أن علمتم كونها حَقًّا صحيحةً؟
واعلم : أن المُبْطل قد يكون ضَالاً مفلاًّ فقط ، وقد يكون ضالاً مضلاً ، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً ، فبدأ - تعالى - بالإنكار على أهل الصفة الأولَى - على سبيل الرفق - فقال : { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } ؟
قال الحسن : هم العلماء من أهل الكتاب ، الذين علموا صحة نبوته؛ لقوله : « وأنتم شهداء » .
وقال آخرون : المراد : أهل الكتاب كلهم .
فإن قيل : لماذا خَصَّ أهْل الكتاب دون سائر الكفار؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أنا بَيَّنَّا أنه - تعالى - أورد الدليلَ عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم أجاب عن شُبْهتهم في ذلك ، فلمَّا تمَّ ذلك خاطبهم ، فقال : « يا أهل الكتاب » .
والثاني : أن معرفتهم بآيات الله أقْوَى؛ لتقدُّم اعترافهم بالتوحيد ، وأصل النبوة ، ولمعرفتهم بما في كُتُبِهم من الشهادة بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والبشارة بنبوته .
والمراد بآيات الله : الآيات التي نصبها الله - تعالى - على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بكُفْرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
فصل
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أن الكُفْرَ من قِبَلِهِم - حتى يَصِحْ هذا التوبيخُ ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم ، وصِحَّتِهم ، ومَرَضِهم .
وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي .
قوله : { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } الواو للحال ، والمعنى : لِمَ تكفرون بآيات الله التي دلَّتكم على صحة صدق محمد ، والحال أن الله شهيد على أعمالكم ، ومجازيكم عليها؟ ثم لما أنكر [ عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار ] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين ، فقال : { قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن } ؟
« لم » : متعلق بالفعل بعده ، و « من آمن » مفعوله والعامة على « تُصِدُّون » - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً .
وقرأ الحسن « تُصِدُّونَ » - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى « صَدَّ » اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة : [ الطويل ]
1543- أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ .. .
قال الفراء : يقال : صَدَدتُه ، أصُدُّه ، صَدًّا . وأصْدَدتهُ ، إصْداداً .
وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين ، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم .
قوله : { تَبْغُونَهَا } يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً ، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال ، وهو أظهر من الأول؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله : { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } . { وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } [ البقرة : 84 ] .
فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما ، ثم إذا قُلْنا بأنها حال ، ففي صاحبها احتمالان :
أحدهما : أنه فاعل « تَصُدُّونَ » .
والثاني : أنه { سَبِيلِ الله } .
وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما .
والضمير في { تَبْغُونَهَا } يعود على { سَبِيلِ } فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية ، وقوله : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] .
وقول الشاعر : [ الوافر ]
1544- فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ ... سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا
قوله ( عوجاً ) فيه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به ، وذلك أن يُراد ب « تَبْغُونَ » تطلبون .
قال الزجَّاج والطبريّ : تطلبون لها اعوجاجاً .
تقول العرب : ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي : أطْلُبه لي ، وأبْغِني كذا - بقطع ، الألف - أي : أعِنِّي على طلبه .
قال ابنُ الأنباري : البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام ، كقولك : بغيت المال والأجر والثواب .
وههنا أريد يبغون لها عوجاً ، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها ، كما قالوا وهبتك درهماً ، يريدون وهبت لك ، ومثله : صِدْتُك ظبياً ، أي : صدت لك .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
1545- فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى ... أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا
يريد : أصيد لكم ظليماً؟
ومثله : « جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا » ، والأصل جنيت لك ، فحذف ونصب « .
والثاني : أنه حال من فاعل » تَبْغُونََهَا « وذلك أن يُراد ب » تبغون « معنى تتعدّون ، والبغي : التَّعَدِّي .
والمعنى : تبغون عليها ، أو فيها .
قال الزجاج : كأنه قال تبغونها ضالين ، والعوج بالكسر ، والعوج بالفتح - المَيْل ، ولكن العرب فرَّقوا بينهما ، فخَصُّوا المكسور بالمعاني ، والمفتوح بالأعيان تقول : في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر ، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح .
قال أبو عبيدة : العِوَج - بالكسر . المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ ، وبالفتح في الحائط والجِذْع .
وقال أبو إسحاق : الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً ، وبالفتح فيما له شَخْصٌ .
وقال صاحب المُجْمَل : بالفتح في كل منتصب كالحائط ، والعوَج - يعني : بالكسر - ما كان في بساط ، أو دين ، أو أرض ، أو معاش ، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم .
وقال الراغب : العِوَجُ : العطف من حال الانتصاب ، يقال : عُجْتُ البعير بزمامه ، وفلان ما يعوج به - أي : يرجع ، والعَوَج - يعني : بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر كالخشب المتصِب ، ونحوه ، و العِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة ، كما يكون في أرض بسيطة عوج ، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة ، وكالدين والمعاش ، وهذا قريب من قول ابن فارس؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه .
وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 107 ] - سؤالاً ، حاصله : أنه كيف قيل : عوج - بالكسر - في الأعيان ، وإنما يقال في المعاني؟
وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله .
والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم ، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد ، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر : [ الوافر ]
1546- تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ
وقول امرئ القيس : [ الكامل ]
1547- عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ
أي : ولم تميلوا ، ومِيلاَ .
وأما قولهم : ما يَعوج زيد بالدواء - أي : ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر .
والعاجُ : العَظْم ، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ؟ وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لثوبان : « اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج » .
قال القتيبي : العاجُ الذَّبْل؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة : [ الطويل ]
1548- فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً ... وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ
قال الأصْمَعِيّ : العاجة : الذبلة ، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً .
وقوله : كَخَاصِي العير ، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ ، فيقال : جاء كخاصي العير .
والعير : الحمار ، يعنون جاء مستحياً . ويقال : عاج بالمكان ، وعوَّج به - أي : أقام وقَطَن ، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام- : « ها أنتم عائجون » أي مقيمون .
وأنشدوا للفرزدق : [ الوافر ]
1549- هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ؟
كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب « عائجون » في البيت : سائلون ومُلْتفتون .
وفي الحديث : « ثم عاج رأسه إليها » أي : التفت إليها .
والرجل الأعوج : السيّئ الخُلُق ، وهو بَيِّن العَوَج . والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب . والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً ، ويقال : فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ ، وهو مَدْح ويقال : الحنبة : اعوجاج .
قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ } حال ، إما من فاعل « تَصُدُّونَ » ، وإما من فاعل « تَبْغُونهَا » ، وإما مستأنف وليس بظاهر و « شهداء » جمع شهيد أو شاهد كما تقدم .
فصل
ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم : النسخ يدل على البداء ، وقولهم : إن في التوراة : أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد .
وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله ، وهذا على أنَّ « عِوَجاً » في موضع الحال والمعنى : يبغونها ضَالينَ .
قوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } قال ابن عباس : أي : شهداء أن في التوراة : أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام . وقيل : وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صلى الله عليه وسلم .
وقيل : وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ .
وقيل : { وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ } عُدول بين أهل دينكم ، يثقون بأقوالكم ، ويُعوّلون على شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك ، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ ، والضلالِ والإضلالِ؟
ثم قال : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } والمراد منه : التهديد ، وختم الآية الأولى بقوله : { والله شَهِيدٌ } ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين ، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره : { والله شَهِيدٌ } ، وختم هذه الآيةَ بقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير .
وكرر في الآيتين قوله : { قل يا أهل الكتاب } ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه ، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال ، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم ، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم .
رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحَسَد ، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون ، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض ، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ ، فقال : قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله ، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج ، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل : فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة ، من الأوس وجبار بن صَخْر ، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة ، فغضب الفريقان جميعاً ، وقالا : قد فعلنا ، السلاحَ السلاحَ ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها ، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال : « يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً؟ اللهَ الله » فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان ، وكيدٌ من عدوِّهم ، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم ، وبَكَوْا ، وعانق بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، فأنزل الله هذه الآية ، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم .
واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها : جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة ، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً ، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة ، وسفك الدماء ، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم .
قوله : { يَرُدُّوكُم } رَدَّ ، يجوز أن يُضَمَّن معنى : « صَيَّر » فينصب مفعولَيْن .
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
1550- رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً
فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا
ويجوز ألا يتضمن ، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً .
قوله : { بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } يجوز أن يكون منصوباً ب « يَرُدُّوكُمْ » ، وأن يتعلق ب « كَافِرِينَ » ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله : { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } [ آل عمران : 86 ] .
قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } « كَيْفَ » كلمة تعجُّب ، وهو على الله - تعالى - محال ، والمراد منه التغليظ والمنع؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم ، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم - تُزيل الشُّبَه ، وتُقَرِّر الحُجج ، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر ، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه .
قال زيد من أرقم : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : « أمَّا بَعْدُ ، أيُّهَا النَّاسِ ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه ، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ : أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ ، فِيهِ الهُدَى والنُّور ، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال : وَاهْل بَيْتِي ، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي » .
قوله : { وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله } جملة حالية ، من فاعل : « تَكْفُرُونَ » .
وكذلك قوله : { وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } أي : كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين؟
والاعتصام : الامتناع ، يقال : اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً ، أي : هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به .
وقيل : الاعتصام : الاستمساك ، واستعصم بكذا ، أي : استمسك به .
ومعنى الآية : ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ . وقيل : ومن يؤمن بالله . وقيل : ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن .
والعِصام : ما يُشدُّ به القربة ، وبه يسمَّى الأشخاص ، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار ، والمِعْصَم : موضع العِصْمَة ، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة؛ تشبيهاً بها ، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً ، وأصل العُصْمة : البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول ، والأعْصَم من الوعول : ما في معاصمها بياضٌ ، وهي أشدُّها عَدْواً .
قال : [ الكامل ]
1551- لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ ... سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا
وعصمه الطعام : منع الجوع منه ، تقول العرب : عَصَمَ فلاناً الطعامُ ، أي : منعه من الجوع .
وقال أحمد بن يحيى : العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً ، وجابراً .
قال : [ الرجز ]
1552- فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا ... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا
ويسمونه عامراً ، وأنشد : [ الطويل ]
1553- أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر ... يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ
وأبو مالك كنية الجوع .
وفي الحديث - في النساء : « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ » وهو الأبيض الرجلين .
وقيل : الأبيض الجناحَين .
قال صلى الله عليه وسلم : « المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ » .
قيل : يا رسولَ الله ، وما الغراب الأعصم؟ قال « الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ » .
وفي الحديث : كنا مع عمرو بن العاص ، فدخلنا شِعْباً ، فإذا نحن بغربان ، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين ، فقال عَمرو : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ » والمراد منه : التقليل .
قوله : « فقد هدي » جواب الشرط ، وجيء ف يالجواب ب « قد » دلالةً على التوقُّع؛ لأن المعتصم متوقع الهداية .
والمعنى : ومن يمتنع بدينِ الله ، ويتمسك بدينه ، وطاعتهِ ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح . وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي : يؤمن بالله .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى ، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً :
أحدها : أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، كقوله تعالى : { يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام } [ المائدة : 16 ] وهذا اختيار القفال .
الثاني : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم ، ليفعل ذلك .
الثالث : أن التقدير : ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة .
الرابع : قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « فقد هدي » أي : فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول : إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ ، كأن الهدى قد حصل ، فهو يخبر عنه حاصِلاً؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات ، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله ، وثانياً - بالاعتصاب بحبل الله ، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف ، ورابعاً - بالترغيب بقوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } .
والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان ، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة ، وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع ، فقوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } إشارة إلى التخويف من عقاب الله ، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله ، ثم أرْدَفَه بالرغبة ، فقال : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } فكأنه قال : خَوْف الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك ، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى ، ووجوب طاعتكم لحكمه .
فصل
قال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين ، وأن يُشْكَر فلا يُكفر ، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فنزل : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] ، فنسخت أول هذه الآيةِ ، ولم ينسخ آخرها ، وهو قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } وقال جمهور المحقِّقين : إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال : « أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله » ؟ فقلت : اللهُ ورسولُه أعْلَمُ . قال : « حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً » قلت : يا رسول الله ، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال : « لا تبشرهم فيتَّكلوا » وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله : { اتقوا الله حق تقاته } أي : كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه ، ÷ ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة ، ونظير هذه الآية قوله : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } [ الحج : 78 ] .
فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] ؟
فالجواب : أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن ، وكلها في صفة الكفار ، لا في صفة المسلمين ، وأما الذين قالوا : إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح ، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً ، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال ، وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا يُنْسَى ، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة ، وكل ذلك مما يطاق ، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ .
وقوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : كما يجب أن يُتَّقَى ، والتقى اسم للفعل - من قولك : اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك : اهتديت .
قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة ، والمراد : دوامهم على الإسلام؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه ، فكأنه قال : دوموا على الإسلام غلى الموت ، وقريب منه ما حَكَى سيبويه : لا أرَيَنَّكَ هَهُنا ، أي : لا تكن بالحضرة ، فتقع عليك رؤيتي ، والجملة من قوله : { وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } في محل نصب على الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة ، أي : لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ ، وجاء بها جملةً اسميةً؛ لأنها أبلغ وآكد؛ إذْ فيها ضمير متكرر ، ولو قيل : إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى : { إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً .
قوله : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } الحبل - في الأصل - هو : السبب ، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل ، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز . ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة ، ويجوز أن يكون من باب التمثيل ، ومن كلام الأنصار رضي الله عنهم : يا رسولَ الله ، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف .
قال الأعشى : [ الكامل ]
1554- وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا
يعني العهود .
قيل : والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف ، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى ، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً ، ويكون معه كالعلامة ، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك ، وهذا المعنى غير طائل ، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض .
وقال آخر : [ الكامل ]
1555- مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ ... مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا
قال القرطبي : العِصْمة : المَنَعَة ، ومنه يقال للبَذْرَقة : عصمة ، والبذرقة : الخفارة للقافلة ، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها ، قال ابنُ خالويه : « البذرقة ليست بعربيةٍ ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب ، يقال : بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة » . والحبل لفظ مشترك ، وأصله - في اللغة : السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة ، والحبل : المستطيل من الرمل ، ومنه الحديث : « واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ » ؟ والحبل : الرَّسَن ، والحبل : الداهية .
قال كثير : [ الطويل ]
1556- فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي ... بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ
والحبالة : حبالة الصائد ، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد .
والمراد بالحبل - هنا - : القرآن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم - في الحديث الطويل- : « هو حَبْلُ الله المتين » .
وقال ابن عباس : هو العهد المذكور في قوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] لقوله تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } [ آل عمران : 112 ] أي : بعهد ، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف .
وقيل : دين الله .
وقيل : طاعة الله ، وقيل : هو الإخلاص .
وقيل : الجماعة؛ لأنه عقبه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } .
وتحقيقه : أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل ، تحرُّزاً من السقوط فيها ، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته ، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله ، وأمروا بالاعتصام به .
وقوله : { جَمِيعًا } أي : مجتمعين عليه ، فهو حال من الفاعل .
قوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله « ولا تيمموا » والباقون بتخفيفها على الحذف .
فصل
في التأويل وجوه :
الأول : أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما عداه جهلٌ وضلال ، قال تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } [ يونس : 32 ] .
الثاني : أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك ، فنهوا عنه .
الثالث : أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة ، ويزيل الألفة ، قال صلى الله عليه وسلم « سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ » قيل : ومن هي يا رسول الله؟ قال : « الجَمَاعَةَ » .
وروي : « السواد الأعظم » .
ويروى : « مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي » .
واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف ، والأمر بالاتفاق ، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً .
فصل
استدلت نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : الأحكام الشرعية إما أن يقال : إن الله سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية ، أو ظنية ، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس الذي يفيد الظن؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين ، وإن كانت ظنيّة أدى الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُوا } [ آل عمران : 103 ] وقوله : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } [ الأنفال : 46 ] .
والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس .
قال القرطبي : وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافاً؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع ، وأما حكم مسائل الاجتهاد ، فإن الاختلاف فيها بسبب اتسخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع ، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث ، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صلى الله عليه وسلم : « اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ »
وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد ، قال صلى الله عليه وسلم : « تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً » .
قوله : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } .
{ نِعْمَةَ الله } مصدر مضاف لفاعله؛ إذ هو المُنْعِم ، { عَلَيْكُمْ } ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس { نِعْمَتَ } ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب « على » قال تعالى : { وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 37 ] .
ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من « نِعْمَةَ » ، فيتعلق بمحذوف ، أي : مستقرة ، وكائنة عليكم .
قوله : { إِذْ كُنْتُمْ } « إذْ » منصوبة - ب « نِعْمَةَ » ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه { عَلَيْكُمْ } إذا قلنا : إن « عَلَيْكُمْ » حال من النعمة ، وأما إذا علقنا « عَلَيْكُمْ » ب « نِعْمَةَ » تعيَّن الوجه الأول .
وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب « اذْكُروا » يعني : مفعولاً به ، لا أنه ظرف له؛ لفساد المعنى؛ إذْ « اذْكُرُوا » مستقبل ، و « إذْ » ماضٍ .
فصل
{ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } .
قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار : كان الوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة ، إلى أن أطفأ الله تعالى ، ذلك بالإسلام ، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً ، تُسمِّيه قومه : الكامل ، لجلده ونسبه ، قدم « مكة » حاجًّا أو معتمراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة ، فتصدَّى له حين سمع به ، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام ، فقال له سُوَيْدٌ : فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قال : حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أعْرِضْهَا عَلِيَّ « فعرضها عليه ، فقال : إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى ، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام ، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ ، وقال : إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث » فإن قومه يقولون : قد قتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزر ، فلما سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أاهم ، فجلس إليهم ، فقال : « هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ؟ قالوا : ومَا ذَاكَ؟ قال : أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام »
، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء ، فضرب بها وجه إياس ، وقال : دَعْنا منك؛ فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ثم انصرفوا إلى « المدينة » ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عز وجل - إظْهارَ دينهِ ، وإعزازَ نبيه ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار ، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة ، وعقبة بن عامر ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ أنْتُمْ؟ قالوا : نفر من الخزرج فقال : أمِنْ مَوَالِي يَهُود؟ قالوا : نعم ، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ » ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعِلْم ، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك ، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون : إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه ، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ ، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود ، فلا تسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه ، وأسلموا ، وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم ، وندعوهم إلى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك ، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا « المدينة » ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم ، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً : أسعد بن زرارة ، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء ، ورافع بن مالك بن العجلاني ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في « العقبة » - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً ، ولا يسرقوا ولا يزنوا . .
إلى آخر الآية ، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة ، وإن غشيتم شيئاً من ذلك ، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له ، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم ، وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويُفقههم في الدين ، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب ، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحَائِطِ ، واجتمع إليهما رجال من أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا ، فإن أسعد ابن خالتي ، ولولا ذلك لكفيتك ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه .
قال مصعب : إن يجلس أكَلِّمْهُ ، فوقف عليهما متشتماً ، فقال : ما جاء بكما إلينا ، تسفِّهان ضعفاءَنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة .
فقال مصعب : أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته ، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت .
قال : أنصفت ، ثم ركز حريته وجلس إليهما ، فكلَّمه مصعب بالإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، فقالا : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّهله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله ، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟
قال : تغتسل ، وتُطهِّر ثوبك ، ثم تشهد شهادةَ الحق ، ثم تصلي ركعتين .
فقالم واغتسل ، وغسل ثوبه ، وتشهد شهادة الحق ، وصلى ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ ، وانصرف إلى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف على النَّادي قال له سعد : ما فعلت؟
قال : كلمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأساً ، وقد نهيتهما ، فقالا : تفعل ما أحببت ، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة ، ليقتلوه ، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ، ليخفروك .
فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً ، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما ، فوقف عليهما متشتماً ، فقال لأسعد بن زرارة : والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة ، ما رمت هذا مني ، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟
فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير : أي مصعب ، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه ، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد .
فقال له مصعب : أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمراً ، ورغبت فيه ، قبلته ، وإن كرهته ، عَزَلْنَا عنك ما تكره .
قال سعد : أنْصَفْتَ ، ثم ركز الحَرْبَةَ ، فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن .
قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به ، ثم قال : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟
قالا : تغتسل وتطهر ثوبك ، ثم تشهد شهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته ، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير .
فلما رآه قومه مُقْبِلاً ، قالوا : نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم ، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم .
فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل ، كيف تعلمون أمري فيكم؟
قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً ، وأيمننا نقيبة .
قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله .
قال : فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام ، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون ، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد ، وخطمة ، ووائل ، وواقف؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر ، وكانوا يسمعونه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى « المدينة » ومضى بدر وأحد والخندق . قال : ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى « مكة » وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا « مطة » ، فواعدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، وهي بيعة العقبة الثانية .
قال كَعْبُ بْنُ مَالِك : فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه ، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين أمرنا - وكلمناه ، وقلنا له ، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا ، شريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام ، فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا ، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند « العقبة » ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا ، نسيبة بنت كعب ، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار ، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ ، أم منيع ، إحدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ، ويتوثّق له ، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب .
فقال : يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عِزٍّ من قومه ، ومَنَعَةٍ في بلده ، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه ، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه ، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ .
قال : فقلنا : قد سمعنا ما قلتَ ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله ، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ .
قال : فتكلَّم رسولُ الله ، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عز وجل - ورَغَّبَ في الإسلام ، ثم قال : أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ- .
فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده ، ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيًّا ، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا ، فبايِعْنا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب ، وأهل الحلقة ، ورثناها كابراً عن كابرٍ ، قال : فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم - أبو الهيثم بن التَّيْهان .
فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك الله ، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسَّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : « لا ، بل الأبدَ الأبدَ ، الدَّمَ الدَّمَ ، الهدمَ الهدمَ ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ » ثم قال صلى الله عليه وسلم : « أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً ، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، فأخرجوا تسعة من الخزرج ، وثلاثة من الأوس » .
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ : يا معشرَ الخزرج ، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ أموالكم مصيبةً ، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن ، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال ، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه ، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة .
قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال ، وَقَتْل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا؟
قال : « الجَنَّةُ » .
قالوا : ابْسُطْ يدك ، فبسط يده ، فبايعوه ، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده : البَرَاءُ بن معرور ، ثم بايع القومُ .
قال : فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط : يا أهل الجباجب ، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه ، قد اجتمعوا على حَرْبكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هَذَا عَدُوُّ اللهِ ، أزَبُّ العَقَبَة ، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ . ثم قال صلى الله عليه وسلم : ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ » .
فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة : والذي بعثك بالحق ، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « لَمْ نُؤْمَرْ بذلك ، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ » فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها ، حتى أصبحنا ، فلما أصبحنا ، غدت علينا جُلَّةُ قريش ، حتى جاءونا في منازلنا ، فقالوا : يا معشرَ الخزرج ، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا ، تستخرجونه من بين أظْهُرنا ، وتبايعونه على حَرْبِنَا ، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم .
قال : فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا ، يحلفون لهم بالله ، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا ، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ ، وقام القوم ، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر ، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش؟ قال فسمعها الحارثُ ، فخلعهما من رِجْلَيْه ، ثم رمى بهما إليَّ ، وقال : والله لتنتعلنّهما .
قال : فقال أبو جابر : مَهْ والله لقد أحفظت الفتى ، فاردد إليه نعليه ، قال : والله لا أردُّهما ، قال : والله يا أبا صالحٍ ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه .
قال : ثم انصرف الأنصار إلى « المدينة » - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً ، فآذوا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
« إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها » ، فأمرهم بالهجرة إلى « المدينة » ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، فأول من هاجر إلى « المدينة » : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ ، ثم عامر بن ربيعة ، ثُم عبد الله بن جحش ، ثم تابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرْسَالاً إلى « المدينة » ، فجمع الله أهْلَ « المدينة » - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام ، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا معنى قوله تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } [ آل عمران : 103 ] يا معشر الأنصار قبل الإسلام { فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام { فَأَصْبَحْتُمْ } أي : فصرتم . و « أصبح » من أخوات « كان » فإذا كانت ناقصة ، كانت مثل « كان » في رفع الاسم ونَصْب الخبر ، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً ، واستغنت به ، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال ، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح ، تقول : أصبح زيد ، أي دخل في الصباح ، ومثلها - في ذلك - « أمسى » قال تعالى { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقال : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] .
وفي أمثالهم : « إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح » ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب ، فيقول : أنا غداً مسافر ، فيأتيه الناس بحوائجهم ، ويقيم ، ويترك السفر ، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه . والمعنى : فاعلم أنه مقيم في الصباح . ويكون بمعنى « صار » عملاً ومعنًى . كقوله : [ الخفيف ]
1557- فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ ... فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ
أي : صاروا .
و « إخواناً » خبرها ، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح ، وتكون بمعنى : « صار » - وأن تكون تامة ، أي : دخلتم في الصباح ، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون « إخْناناً » خبرها ، و « بنعمته » متعلق به لما فيه من معنى الفعل ، أي : تآخيتم بنعمته ، والباء للسببية .
وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب « أصْبَحْتم » ، وقد عُرف ما فيه من خلاف . وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل « أصْبَحْتُمْ » ، أي : فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته ، أو حال من « إخواناً » ؛ لأنه في الأصل - صفة له .
وجوَّزوا أن تكون « بِنِعْمَتِهِ » هو الخبر ، و « إخواناً » حال والباء بمعنى الظرفية ، وإذا كانت بمعنى : « صار » جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه ، وإذا كانت تامة ، فإخواناً حال ، و « بِنِعْمَتِهِ » فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية .
قال ابن عطية : « فأصْبَحْتُمْ » عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار ، وفيه مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب .
ومنه قول الربيع بن ضَبع : [ المنسرح ]
1558- أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ... أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا
قال أبو حيان : وهذا الذي ذكره - من أن « أصبح » للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما .
قال شهاب الدين : وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام ، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً .
والإخوان : جمع أخ ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه ، وعند غيره هي جمع .
وقال بعضهم : إن الأخ في النسب - يُجْمَع على : « إخوة » ، وفي الدين يُجْمَع على : « إخوان » ، هذا أغلب استعمالهم ، وقال تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة .
قال أبو حاتم : قال أهل البصرة : الإخوة في النسب ، والإخوان في الصداقة ، قال : وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء : إخوة ، وإخوان ، قال تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] ولم يَعْنِ النسب ، وقال تعالى : { أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ } [ النور : 61 ] وهذا في النسب .
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق ، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال .
قال الزجاج : أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه ، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه ، ولا يُخْفِي عنه شيئاً .
قوله : { وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ } شَفَا الشيء : طرفه وحرفه ، وهو مقصور من ذوات الواو ، ويُثَنَّى بالواو نحو : شَفَوَيْن ويكتب بالألف ، ويُجْمَع على أشفاء ، ويُسْتَعْمَل مضافاً إلى أعلى الشيء وإلى أسفله ، فمن الأول : { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] ومن الثاني : هذه الآية .
وأشْفَى على كذا : قاربه ، ومنه : أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته ، وللقمر عند محاقه ، وللشمس عند غروبها : ما بقي منه ، أو منها ، إلا شَفاً ، أي : إلا قليل . وقال بعضهم : يقال لما بين الليل والنهار ، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها : شَفاً .
وأنشد : [ الرجز ]
1559- أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً ، أوْ بِشَفَا ... وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا
قوله بلا بشفا : أي : غابت الشمسُ ، وقوله : أو بشفا ، أي : بقيت منه بقية .
قال الراغب : والشفاء من المرض : موافاة شفا السلامة ، وصار اسماً للبُرْء والشفاء .
قال البخاري : قال النحاس : « الأصل في شفا - شَفَوٌ ، ولهذا يُكْتَب بالألف ، ولا يمال » .
وقال الأخفش : « لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو » ؛ لأن الإمالةَ من الياء .
قال المهدويّ : « وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان » .
قوله : { فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا } في عَود هذا الضمير وجوه :
أحدها : أنه عائد على « حُفْرَةٍ » .
والثاني : أنه عائد على « النَّارِ » .
قال الطبريّ : إن بعض الناس يُعيده على الشفا ، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، كما قال جرير : [ الوافر ]
1560- أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
قال ابن عطية : « وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة ، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا ، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه ، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة » .
قال أبو حيان : « وأقول : لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه ، وأما ذِكْرُ الحفرة ، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر ، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه ، وليس أحد جُزْأي الإسناد ، وكذا لو قلتَ : زيد ضرب غلامَ هند ، لم تُحَدِّث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه ، وأما ذكر : » النَّارِ « فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة ، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد ، وليست أيضاً محدَّثاً عنها ، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا ، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى » .
قال الزجَّاج : « وقوله : » مِنْهَأ « الكناية راجعة إلى النار ، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة » .
وقال غيره : « الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها » .
قال الواحديّ : على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه ، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف ، كقول جرير : [ الوافر ]
1561- أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ
كذلك قول العجاج : [ الرجز ]
1562- طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي
قال : وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه ، فإن مَرَّ السنين هو المسنون ، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة ، فذكَّر الشَّفَا ، وعادت الكناية إلى الحفرة .
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان ، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة ، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح .
قال بعضهم : « شَفَا الحُفْرة ، وشفتها : طرفها ، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث » .
والإنقاذ : التخليص والتنحِية .
قال الأزهَريُّ : « يقال : أنقذته ، ونقذته ، واستنقذته ، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال : فرس نقيذ ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم » .
والحفرة : فُعْلَة بمعنى : مفعولة ، كغُرْفة بمعنى : مغروفة .
فصل
قيل معناه : إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار ، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم ، كالإشراف منهم على النار ، والمصير منهم إلى حَرْفها ، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة ، بعد أن قربوا من الوقوع فيها .
قالت المعتزلة : ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وسائر ألطافه حتى آمنوا .
وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار ، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد .
قوله تعالى : { كذلك يُبَيِّنُ الله } نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضميره ، أي : يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة ، لكي تهتدوا بها .
قال الجبائي : « الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء » .
قال الواحدي : إن المعنى : لتكونوا على رَجاء هدايته . وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء ، وعلى مذهبنا قد لا يريده .
وأجاب غيره بأن كلمة « لَعَلَّ » للترجي ، والمعنى : أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك .
قوله : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به ، فقال : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله } ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة ، فقال : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ } يجوز أن تكون التامة ، أي : ولتوجد منكم أمة ، فتكون « أمَّةٌ » : فاعلاً ، و « يَدْعُونَ » : جملة في محل رفع صفة ل « أمة » ، و « مِنْكُمْ » متعلق ب « تكن » على أنها تبعيضية .
ويجوز أن يكون : « مِنْكُمْ » متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من « أمَّةٌ » إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها . ويجوز أن تكون « مِنْ » للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة .
ويجوز أن تكون الناقصة ، ف « أمةٌ » اسمها ، و « يَدْعُونَ » خبرها ، و « مِنْكُمْ » متعلق إمَّا بالكون ، وإمَّا بمحذوف على الحال من « أمةٌ » .
ويجوز أن يكون « مِنْكُمْ » هو الخبر ، و « يَدْعُونَ » صفة ل « أمة » ، وفيه بُعد .
وقرأ العامة : « وَلْتَكُنْ » بسكون اللام .
وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها ، وهو الأصل .
وقوله : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اعتناء به - كقوله : { وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [ البقرة : 98 ] -؛ لأن اسم « الْخَيْر » يقع عليهما ، بل هما أعظم الخيور .
فصل
قال بعض العلماء : « مِنْ » - هنا - ليست للتبعيض ، لوجهين :
الأول : أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة .
الثاني : أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده ، أو لسانه ، أو بقلبه - فيكون معنى الآية : كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر .
وكلمة : « مِنْ » : إنما هي للتبيين ، كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ويقال : لفلان من أولاده جند ، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر ، والمراد : جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا . ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ ، فيسقط بفعل البعض ، كقوله تعالى : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] ، وقوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] فالأمر عامٌّ ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي ، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين :
أحدهما : أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين .
الثاني : أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم ، ونظيره قوله تعالى : { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة } [ الحج : 41 ] وليس كل الناس يُمَكنون .
وقوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ } [ التوبة : 122 ] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية ، وإذا كان كذلك كان المعنى : ليقُمْ بذلك بعضُكم .
وقال الضَّحَّاك : المراد بهذه الآية : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعلّمون الناس .
قال القُرْطُبِيُّ : « وقرأ ابنُ الزبير : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم » .
قال ابن الأنباري : « هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه ، غلط فيه بعض الناقلين ، فألحقه بألفاظ القرآن ، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ : ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم .
فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين « .
فصل
قال المفسرون : الدعوة إلى الخير - أي : إلا الإسلام - والأمر بالمعروف ، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي ، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي ، { وأولئك هُمُ المفلحون } أي : العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون ، وقد تقدم تفسيره .
قال - عليه السلام- : » مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ « وقال - أيضاً - : » وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ « .
قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } .
قال أكثر المفسرين : هم اليهود والنصارى ، وقال بعضهم : هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة .
وقال أبو أمامةُ : هم الحرورية بالشام .
وقال عبد الله بن شداد : وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال : كلاب النار كانوا مؤمنين ، فكفروا بعد إيمانهم ، ثُمَّ قرأ : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا } الآية .
وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ « .
وذكر الفعلَ في قوله : { وجَآءَهُمُ البينات } للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ؛ لأنه بمعنى الدلائل .
وقيل : لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً .
والتفرق والافتراق واحد ، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس- ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا « فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ ، وهو أعلم بلغة الصحابة ، وبكلام النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال القرطبي : وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً ، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام ، وبالتثقيل في الأبدان » .
قال ثعلب : « أخبَرَني ابن الأعرابيّ ، قال : يقال : فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا ، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا » . فجعل الافتراق في القول ، والتفرق في الأبدان ، وكلام أبي برزة يرد هذا .
وقال بعضهم : { تَفَرَّقُواْ واختلفوا } معناهما مختلف .
فقيل : تفرقوا بالعداوة ، واختلفوا في الدين .
وقيل : تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ .
وقيل : تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ .
قوله : { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني : بسبب تفرُّقهم .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
في ناصب « يَوْمَ » أوجه :
أحدها : أنه الاستقرار الذي تضمنه « لَهُمْ » والتقدير : وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه .
وقيل : إن العامل فيه مضمر ، تدل عليه الجملة السابقة ، والتقدير : يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه .
وقيل : اعاملَ فيه « عَظِيمٌ » وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم .
وهذا التضعيف ضعيف؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى .
قال شهابُ الدين : « وهذا غير لازم » ، قال : « وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم » .
وقيل : إن العامل « عَذَابٌ » . وهذا ممتنع؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه .
وقيل : إنه منصوب بإضمار « اذكر » .
وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو نُهَيك ، وأبو رُزَيْن العقيليّ : « تِبْيَضُّ » و « تِسْوَدُّ » - بكسر التاء - وهي لغة تميم .
وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن ، وأبُو الجَوْزَاءِ : تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف ، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ .
فصل
نظير هذه الآية قوله تعالى : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } [ الزمر : 60 ] ، وقوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] ، وقوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 22-25 ] ، وإذا عرفت هذا ، ففي هذا البياض والسواد وجهان :
الأول : قال أبو مسلم : إن البياض عبارة عن الاستبشار ، و السواد عبارة عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } [ النحل : 58 ] . ويقال : لفلان عندي يَدٌ بيضاء .
وقال بعضهم في الشيب : [ الخفيف ]
1563- يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُون
فَلَعَمْرِي لأخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عَيَانِي ، وعَنْ عَيَانِ الْعُيُونِ
بِسَوَادِ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ
وتقول العرب - لمن نال بغيته ، وفاز بمطلوبه- : ابيضَّ وجهه ، ومعناه : الاستبشار والتهلل ، ويقال - لمن وصل إليه مكروه- : ارْبَدَّ وجهه ، واغبرَّ لونُه ، وتغيرت صورته ، فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن مستبشر بحسناته ، وبنعيم الله ، والكافر على ضد ذلك .
الثاني : أن البياض والسواد يحصلان حقيقة؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يصرفه ، فوجب المصير إليه ، ولأبي مسلم أن يقول : بل معنا دليل يصرفه ، وهو قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 38-41 ] ، فجعل الغَبَرةَ والقَتَرَة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له .
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن المكلَّف إما مؤمن ، وإما كافر ، وليس - هنا - قسم ثالث كما قاله المعتزلة - فلو كان ثَمَّ ثالث لذكره ، قالوا : ويؤيده قوله تعالى :
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 38-42 ] .
وأجاب القاضي : بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه؛ لأنه تعالى قال : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } ، فذكرهما منكرين ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم ، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار ، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم ، فكذلك الفساق . وأجيب بوجهين :
الأول : أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم ، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل الكل فيه .
الثاني : أنه قال : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، فجعل موجب العذاب هو الكفر ، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا .
قال الزمخشري : هم المنافقون ، آمنوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم .
وقال عكرمة : هم أهل الكتاب ، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يُبْعَث ، فلما بُعِثَ كفروا به .
قوله : { أكَفَرْتُمْ } هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب « أما » ، وحذف الفاء مع القول مطرد ، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً ، كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] .
وقوله : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ } [ الزمر : 3 ] ، وقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ } [ البقرة : 127 ] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة .
كقوله : [ الطويل ]
1564- فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ ... وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ
أي : فلا قتال .
وقال صاحب « أسرار التنزيل » : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم : لما حذف يقال : حُذِفت الفاء؛ بقوله تعالى : { وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ } [ الجاثية : 31 ] ، فحذف يقال ، ولم يحذف الفاء ، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : { أَكَفَرْتُم } ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ، ثم يجعلون له جواباً واحداً ، كما في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] ، فقوله : { فلا خوف عليهم } جواب للشرطين معاً ، وليس « أفلم تكن آياتي » جواب « إما » بل الفاء عاطفة على مقدَّر ، والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي؟
قال أبو حيان : وهو كلام أديب لا كلام نحويّ ، أما قوله : قد اعترض على النحاة ، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار : فيُقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فَحْوَى الخطابِ ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه .
وأما ما اعترض به من قوله : { وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي } [ الجاثية : 31 ] وأنهم قدروه : فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في « أفَلَمْ » ليست فاء « فيقال » التي هي جواب « أما » - حتى يقال : حذف « يقال » وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب « أما » و « يقال » بعدها - محذوف ، وفاء « أفلم » يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون زائدة .
وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر : [ الطويل ]
1565- يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ ... وَيَحْدُثُ نَاسٌ ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ
أي : صغير يكبر ، وقول الآخر : [ الكامل ]
1566- لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِزمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْضَبُ
أي : تركت ، وقول زُهير : [ الطويل ]
1567- أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا
يريد ثم إذا .
وقال الأخفش : « وزعموا أنهم يقولون : أخوك فوجد ، يريدون : أخوك وجد » .
والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، والتقدير : فيقال لهم ما يسوؤهم ، « أفلم » تكن آياتي ، ثم اعتني بحرف الاستفهام ، فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } [ يوسف : 109 ] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية ، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه . . إلى آخر أفعال الوضوء ، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة ، وإنما هي مفسِّرة للوضوء ، كذلك تكون في { أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } مفسرة للقول الذي يسوؤهم .
وقوله : فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : « تذوقوا » ، أي : تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون ، من قوله : « فيقال لهم » ؛ لوجود هذه الفاء في « أفلم تكن » ، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل؛ وأنه سواء في الآيتين ، وإذا كان كذلك فجواب : « أما » هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه ، وأما تقديره : أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو ، و « ثم » إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة ، لكن اعتني بالاستفهام ، فقدم على حرف العطف - كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك ، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي ، لا بدّ من إذمار القول ، وتقديره : فيقال : أاهملتكم؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب « أما » ، وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة .
وقول هذا الرجل : فوعق ذلك جواباً له ولقوله : « أكفرتم » يعني : أن « فذوقوا العذاب » جواب ل « أما » ولقوله : « أكفرتم » والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم .
وأما قول هذا الرجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً .
وأما دعواه ذلك في قوله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [ البقرة : 38 ] وزعمه أن قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . انتهى .
والهمزة في « أكَفَرْتُمْ » للإنكار عليهم ، والتوبيخ لهم ، والتعجُّب من حالهم .
وفي قوله : « أكَفَرْتُمْ » نوع من الالتفات ، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب ، وذلك أن قوله : { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ } في حكم الغيبة ، وقوله - بعد ذلك « أكَفَرْتُمْ » خطاب مواجهة .
قوله : { فَذُوقُوا } من باب الاستعارة ، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل ، والذوق؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق .
وقوله : { بِمَا كُنْتُمْ } الباء سببية ، و « ما » مصدرية ، ولا تكون بمعنى : الذي؛ لاحتياجها إلى العائد ، وتقديره غير جائز ، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه .
فإن قيل : إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان .
فالجواب : أن الواو للجمع لا للترتيب ، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة ، لا ابتداء العذاب ، فابتدأ بذكر أهل الثواب ، لأنهم أشرف ، ثم ختم بذكرهم ، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب ، كما قال : { سبقت رحمتي غضبي } ، وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا : يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب ، وختم بذكرهم . قوله : { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
قال ابنُ عباس : هي الجنة .
قال المحققون : هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل ، والترك سواء ، يمتنع منه الفعل ، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة ، لم تحصل منه الطاعة ، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد ، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته ، وبكرمه ، لا باستحقاقنا .
قرأ أبو الجزاء ، وابنُ يَعْمُرَ : اسْوَادَّتْ ، وابياضَّتْ - بألف - وقد تقدمت قراءتهما : تبياض ، وتسوادُّ ، وهذا قياسها ، وأصْل « افْعَلَّ » هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك « اعورَّ واسود واحْمَرَّ » - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ ، ولا معتل اللام كألْمَى ، وأن يكون للمطاوعة ، وندر نحو انقضَّ الحائط ، وابْهَارَّ الليل ، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ ، ولا لون ، وندر - أيضاً - ارْعَوَى ، فإنه معتل اللام ، مطاوع لرعوته - بمعنى ، كففته - وليس دالاًّ على عيب ، ولا لون ، وأما دخول الألف في « افْعَلَّ » هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى ، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره ، فإذا قلتَ : اسوادَّ وجْهُه ، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه ، وإذا قلت : اسوادَّ ، دل على حدوثه ، هذا هو الغالب ، وقد يُعْكَس ، قال تعالى : { مُدْهَامَّتَانِ } [ الرحمن : 64 ] - فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال : { تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] القصد به العروض لازورار الشمس ، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة .
فصل
قال بعض المفسرين : بياض الوجوه وسوادها ، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث ، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة .
وقيل : عند الميزان ، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه .
قيل : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذ قرأ المؤمن كتابه ، فرأى حسناته استبشر ، ابيضَّ وجْهُه ، وإذا قرأ الكافر كتابَه ، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه .
وقيل : إن ذلك عند قوله تعالى : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] .
قيل : يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ .
قوله : { فَفِي رَحْمَةِ الله } فيها وجهان :
أحدهما : أن الجارَّ متعلق ب « خالِدُونَ » ، و « فِيهَا » تأكيد لفظي للحرف ، و التقدير : فهم خالدون في رحمة الله فيها . وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً ، إلا بإعادة ما دخل عليه ، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ .
كقوله : [ الرجز ]
1568- حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ ... أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ
كذا ينشدون هذا البيت .
وأصرح منه في الباب - قول الشاعر : [ الوافر ]
1569- فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي ... وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ
ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما .
كقوله : [ الطويل ]
1570- فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ ... أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا
للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة ، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب ، مثل : نَعَمْ نَعَمْ ، وبلى بلى ، ولا لا .
والثاني : أن قوله : { فَفِي رَحْمَةِ الله } : خبر لمبتدأ مُضْمَر ، والجملة - بأسْرها - جواب : « أما » والتقدير : فهم مستقرون في رحمة الله ، وتكون الجملة - بعده - من قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود ، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب .
قال الزمخشريُّ : فإن قلتَ : كيف موقع قوله : { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } بعد قوله : { فَفِي رَحْمَةِ الله } ؟
قلت : موقع الاستئناف ، كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظنعون عها ، ولا يموتون .
فإن قيل : الكُفَّار مخلَّدون في النار ، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة ، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين؟
فالجواب : أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة ، وختم بهم ، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه ، بل قال : { فَذُوقُواْ العذاب } ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ الله } ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود ، ونصَّ عليه في جانب الرحمة ، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ، فقال : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته ، فقال : { فَفِي رَحْمَةِ الله } ثم قال - في آخر الآية- : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
قوله : « تلْكَ » مبتدأ ، { آيَاتُ الله } خبره ، و « نَْلُوهَا » جملة حالية .
وقيل : { آيَاتُ الله } بدل من « تِلْكَ » ، و « نَتْلُوها » جملة واقعة خبر المتبدأ ، و « بِالحَقِّ » حال من فاعل « نتلُوهَا » ، أو مفعولة ، وهي حال مؤكدة؛ لأنه - تعالى - لا ينزلها إلا على هذه الصفة .
وقال الزَّجَّاج : « في الكلام حذف ، تقديره : تلك آيات القرآن حُجَجُ الله ودلائله » .
قال أبو حيان : فعلى هذا الذي قدَّره يكون خبر المبتدأ محذوفاً؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية ، وهذا التقدير لا حاجة إليه؛ [ إذ الكلام مُسْتَغْنٍ عنه ، تامٌّ بنفسه ] .
والإشارة ب « تِلْكَ » إلى الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار ، وتنعيم الأبرار ، وإنما جاز إقامة « تلك » مقام هذه؛ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر ، فصارت كأنها بعدت ، فقيل فيها : « تلك » .
وقيل : لأن الله - تعالى - وعده أن يُنزل عليه كتاباً مشتملاً على ما لا بدّ منه في الدين ، فلما أنزل هذه الآيات قال : تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك .
وقرأ العامة « نَتْلُوها » - بنون العظمة - وفيه التفات من الغيبة إلى التكلَّم .
وقرأ أبو نُهَيْك : « يتلوها » بالياء - من تحت - وفيه احتمالان :
أحدهما : أن يكون الفاعل ضمير الباري - تعالى - لتقدُّم ذكره في قوله : { آيَاتُ الله } ولا التفات في هذا التقدير ، بخلاف قراءة العامة .
الثاني : أن يكون الفاعل ضمير جبريل .
قوله : { بالحق } فيه وجهان :
لأول : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه .
الثاني : بالحق ، أي : بالمعنى الحق؛ لأن معنى المتلُوِّ حَقّ .
قوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } اللام - في « لِلْعَالَمِينَ » - زائدة - لا تعلُّق لها بشيء ، زيدت في مفعول المصدر وهو ظلم والفاعل محذوف ، وهو - في التقدير - ضمير الباري ، و التقدير : وما الله يريد أن يظلم العالمين ، فزيدت اللام ، تقوية للعامل؛ لكونه فرعاً ، كقوله : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] .
فصل
وقيل : معنى الكلام : وما الله يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض ، ورُدَّ هذا بأنه لو كان المراد هذا لكان التركيب ب « من » أولى منه باللام ، فكان يقال : ظلماً من العالمين ، فهذا معنى ينبو عنه اللفظ . ونكر « ظلماً » ؛ لأنه في سياق النفي ، فهو يعم كل أنواع الظلم ، وحسن ذكر الظلم - هنا- ، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة ، وهو تعالى أكرم الأكرمين ، فكأنه - تعالى يعتذر عن ذلك ، فقال : إنهم إنما وقعوا في هذا العذاب بسبب أفعالهم .
فصل
قال الجبائي : هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لا يريد شيئاً من القبائح ، لا من أفعاله ، ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك ، لأن الظلم إما أن يُفْرَض صدوره من الله - تعالى - أو من العبد ، وصدوره من العبد إما أن يظلم العبد نفسه بعصيانه - أو يظلم غيره ، فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الظلم ، وقوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } نكرة في سياق النفي ، فوجب ألا يريد شيئاً يكون ظلماً ، سواء كان منه أو من غيره ، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يفعل الظلم أصلاً - ويلزم منه أن يكون فاعلاً لأعمال العباد؛ لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم ، وظلم بعضهم لبعض ، فثبت بهذه الآية أنه - تعالى - غير فاعل للظلم ، وغير فاعل لأعمال العباد ، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد ، قالوا : ويؤيده قوله - بعد ذلك- : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ آل عمران : 109 ] وإنما ذكر هذه الآية - عقيب ما تقدم - لوجهين :
الأول : نه لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح ، استدل عليه بأن فاعل القبيح ، إنما يفعل القبيح إما للجهل ، أو للعجز ، أو للحاجة ، وكل ذلك - على الله - محال؛ لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي العَجْزَ والجَهْلَ والحاجة ، فامتنع كونه فاعلاً للقبيح .
الثاني : أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجهٍ من الوجوه ، كان لقائل أن يقولَ : إنا نشاهد وجودَ الظلم في العالم ، فإذا لم يكن وقوعه بإرادة الله - تعالى - ك ان على خلاف إرادته ، فيلزم منه كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً ، وذلك محال .
فأجاب الله - تعالى - بقوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي : أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلم عن الظالم - على سبيل الإلجاء والقَهْر - وإذا كان قادراً على ذلك لا يكون عاجزاً ، ضعيفاً؛ إلا أنه - تعالى - أراد منهم ترك المعصية - اختياراً - ليستحقوا الثواب ، فلو قهرهم على الترك لبطلت هذه الفائدة .
وأجيب بأن المراد من الآية أنه - تعالى - لا يريد أن يظلم أحداً من عباده .
وقوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } يدل على كونه خالقاً لأفعالِ العبادِ؛ لأن أفعالَ العبادِ من جملة ما في السموات وما في الأرض .
وأجاب الجبائي : بأن قوله : « ولله » إضافة ملك ، لا إضافة فعل ، ألا ترى أنه يقال : هذا البناء لفلان . ويريدون أنه مملوكه ، لا أنه مفعوله ، وأيضاً فالمقصود من الآية تعظيم الله - تعالى - لنفسه ، وتَمدُّحه لإلهية نفسه ، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب غلى نفسه الأفعال القبيحة ، وأيضاً فقوله : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ، إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض ، وذلك من صفات الأجسام ، لا مِنْ صفات الأفعال التي هي أعراض .
وأجيب بأن هذه إضافة الفعل؛ لأن القادر على الحَسَن والقبيح ، لا يرجح الحَسَن على القبيح إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى الفعل الحَسَن ، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله - تعالى - دَفْعاً للتسلسل ، ولمَّا كان المؤثِّر في حصول فعل العبد هي مجموع القدرة والداعية بخلق الله - تعالى - ثبت أن فعل العبد مخلوق لله تعالى .
وقوله : { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } المراد منه رجوع الخلق إلى حُكمه وقضائه ، لا لحكم غيره .
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
في « كان » هذه - ستة أقوال :
أحدها : أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك ، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع ، بل تصلح للانقطاع نحو : كان زيدٌ قائماً ، وتصلح للدوام ، كقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ، وقوله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] ، فهي - هنا - بمنزلة : لم يزل ، وهذا بحسب القرائن .
وقال الزمخشري : « كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ ، على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ، وقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] . كأنه قيل : وُجِدتم خيرَ أمة » .
قال أبو حيان : قوله : « لم يدل على عدم سابق » ، هذا إذا لم يكن بمعنى : « صار » ، فإذا كان بمعنى : « صار » دلت على عدم سابق ، فإذا قلتَ : كان زيدٌ عالماً - بمعنى : صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم .
وقوله : ؛ « ولا على انقطاع طارئ » ، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال ، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع ، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع ، وفرق بين الدلالة والاستعمال؛ ألا ترى أنك تقول : « هذا اللفظ يدل على العموم » ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم ، بل يراد الخصوص .
وقوله : كأنه قيل : « وجتم خير أمة » ، هذا يعارض قوله : إنها مثل قوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ؛ لأن تقديره : وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة ، وأن { خَيْرَ أُمَّةٍ } حال ، وقوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } لا شك أنها - هنا - الناقصة ، فتعارضا .
قال شهابُ الدين : « لا تعرُضَ؛ لأن هذا تفسير معنًى ، لا إعراب » .
الثاني : أنها بمعنى : « صرتم » ، و « كان » تأتي بمعنى : « صار » كثيراً .
كقوله : [ الطويل ]
1571- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي : صارت فراخاً .
الثالث : أنها تامة ، بمعنى : « وجدتم » ، و { خَيْرَ أُمَّةٍ } - على هذا منصوب على الحال ، أي : وجدتم على هذه الحال .
الرابع : ؛ أنها زائدة ، والتقدير : أنتم خير أمة ، وهذا قول مرجوح ، أو غلط ، لوجهين :
أحدهما : أنها لا تزاد أولاً ، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك .
الثاني : أنها لا تعمل في « خير » مع زيادتها .
وفي الثاني نظر ، إذ الزيادة لا تنافي العمل ، لما تقدم عند قوله : « وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله » ؟
الخامس : أنها على بابها ، و المراد : كنتم في علم الله ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الأمم السالفة ، مذكورين بأنكم خير أمة .
السادس : أن هذه الجملة متصلة بقوله : « ففي رحمة الله » ، أي : فيقال لهم يوم القيامة : « كنتم خير أمة » ، وهو بعيد جِدًّا .
قوله : { أُخْرِجَتْ } يجوز في هذه الجملة أن تكون في مَحَلِّ جَرٍّ؛ نعتاً ل « أمةٍ » - وهو الظاهر - وأن تكون في محل نصب؛ نعتاً ل « خَيْر » ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب ، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزاً - أيضاً - وذلك أنه إذا تقدم ضميرُ حاضرٍ - متكلِّماً كان أو غائباً أو ماطباً - ثم جاء بعده خبره اسماً ظاهراً ، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفاً له كان للعرب فيه طريقان :
أحدهما : مراعاة ذلك الضمير السابق ، فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر .
الثانية : مراعاة ذلك الاسم الظاهر ، فيبعد الضمير عليه منها غائباً ، وذلك كقولك : أنت رجل يأمر بالمعروف ، بالخطاب ، مراعاة ل « أنت » ، وبالغيبة ، مراعاة للفظ « رجل » ، وأنا امرؤ أقول الحق - بالمتكلم؛ مراعاة ل « أنا » ويقول الحقّ ، مراعاة لمرئٍ ، وبالغيبة مراعة للفظ امرئ ، ومن مراعاة الضمير قوله تعالى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ النمل : 55 ] ، وقوله : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } [ النمل : 47 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ » .
وقول الشاعر : [ الطويل ]
1572- وَأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَّأتْ لَكَ لِحْيَةٌ ... كَأنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ في جُوَالِقِ
ولو قيل : - في الآية الكريمة- : أخْرِجْتُمْ؛ مراعاة ل « كُنْتُمْ » لكان جائزاً - من حيث اللفظ - ولكن لا يجوز أن يُقْرأ به؛ لأن القراءةَ سنَّة مُتَّبَعَةٌ ، فالأولَى أن تُجْعَل الجملة صفة ل « أمَّةٍ » ، لا ل « خَيْرَ » ن لتناسب الخطاب في قوله : { تَاْمُرُونَ } .
قوله : { لِلنَّاسِ } فيه أوجه :
أحدها : أن تتعلق ب { أُخْرِجَتْ } ومعناه : ما أخرج الله أمة خيراً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي الحديث : « ألا وَإنَّ هَذِه الأمة تُوفِّي سبعين أمة ، أنتم خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى » .
الثاني : أنه متعلق ب « خَيْرَ » أي : أنتم خير الناس للناس .
قال أبو هريرة : معناه : ؛ كنتم خير الناس للناس؛ تجيئون بهم في السلاسل ، فتُدْخلونهم في الإسلام .
وقال قتادة : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبيٌّ قبله بالقتال ، فهم يقاتلون الكفار ، فيُدْخلونهم في الإسلام ، فهم خير أمةٍ للناس .
والفرق بينهما - من حيث المعنى - أنه لا يلزم أن يكونوا أفضلَ الأمم - في الوجه الثاني - من هذا اللفظ بل من موضع آخرَ .
الثالث : أنه متعلِّق - من حيث المعنى ، لا من حيث الإعراب ، ب « تَأمُرُونَ » على أن مجرورَها مفعول به ، فلما تقدم ضَعُفَ العامل ، فَقُوِّيَ بزيادة اللام ، كقوله : { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] أي : إن كنتم تعبرون الرؤيا .
قوله : { تَأْمُرُونَ } في هذه الجملة أوجُهٌ :
الأول : أنها خبر ثان لِ « كُنْتُمْ » ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في « كُنْتُمْ » ، ولو راعى الخبر لقال : يأمرون - بالغيبة ، وقد تقدم تحقيقه .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال ، قاله الراغب وابن عطية .
الثالث : أنها في محل نصب؛ نعتاً لِ { خَيْرَ أُمَّةٍ } ، وأتى بالخطاب لما تقدم ، قاله الحوفي .
الرابع : أنها مستأنفة ، بيَّن بها كونهم خير أمة ، كأنه قيل : السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة ، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك : زيد كريم؛ يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف ، ونَهْيَهُم عن المنكر ، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب ، وهذا أغرب الأوجه .
فصل
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه لما حذَّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب - في التفرُّق والاختلاف ، وذكر ثواب المطيعين ، وعقاب الكافرين ، وكان الغرض من ذلك حَمْلَ المؤمنين على الانقياد والطاعة ، أرْدَفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة ، فقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، فاللائق بكم ألا تُبْطِلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة ، وإن كنتم منقادين للطاعات .
الثاني : أنه - تعالى - لما ذكر وعيدَ الأشقياء ، وتسويد وجوههم - ونبَّه على السبب بقوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } [ آل عمران : 108 ] يعني : أنهم إنما استحقُّوا ذلك بأفعالهم القبيحةِ؛ نبَّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } يعني : أن تلك السعدات التي فازوا بها في الآخرة؛ لأنهم كانوا خير أمةٍ أخْرِجَتْ للناس .
قال عكرمة ، ومُقَاتِلٌ : نزلت في ابن مسعود ، وأبَي بن كعب ، ومُعَاذِ بن جبلٍ ، وسالم مولي أبي حذيفة ، وذلك أن مالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا اليهوديَّيْن قالا لهم : نحن أفضل منكم ، وديننا خير مما تدعوننا إليه . [ فأنزل الله هذه الآية ] .
وروى الترمذيُّ - عن بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده - أنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول - في قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } قال : « أنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أمَّةً ، أنْتُمْ خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى » قال : هذا حديث حسن . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة .
وقال جويبر - عن الضَّحَّاك- : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصَّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم .
وروي عن عمر بن الخطاب ، قال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } تكون لأولنا ، ولا تكون لآخرنا .
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خَيْرُكم قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قال عمران بن حصين : لا أدري ، أذَكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعد قرنه قرنين أم ثلاثة؟ - ثم إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمَنُون ، ويَشهدون ولا يُستشهَدون ، ويَنْذِرون ولا يُوفون ، ويظهر فيهم السمن » .
فصل
قال القفال : أصل الأمة : الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد ، فأمة نبينا صلى الله عليه وسلم ، هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به ، والإقرار بنبوته ، وقد يُقال - لكل من جمعته الدعوة - إنهم أمته ، إلا أن لفظ : « الأمة » إذا أطْلِقَت وَحْدَها ، وقع على الأول ، إلا أنه إذا قيل : أجمعت الأمة على كذا ، فهم منه الأول ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ » وروي أنه صلى الله عليه وسلم يقول - يوم القيامة- : « أمتي ، أمَّتِي » ، فلفظ « الأمة » في هذه المواضع وأشباهها - يُفْهَم منه المُقِرُّون بنبوته ، فأما أهل دعوته فإنهم إنما يُقال لهم : أمَّة الدعوة ، ولا يطلق عليهم لفظ « الأمة » إلا بهذا الشرط .
فصل
احتج بعض العلماء بهذه الآية على أن إجماعَ الأمة حجة من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - قال : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ثم قال - في هذه الآية : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } ، فوجب أن تكون - بحكم هذه الآية - هذه الأمة أفضل من تلك الأمة ، الذين يهدون بالحق من قوم موسى ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق ، إذْ لو جاز - في هذه الأمة - أن تحكم بما ليس بحَقٍّ ، لامتنع كونهم أفضل من الأمة التي تهدي بالحق؛ لأن المبطل لا يكون خيراً من الحَقِّ ، وإذا ثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق كان إجماعهم حجة .
الثاني : أن الألف واللام في لفظ : « املعروف » ، و « المنكر » ، يفيدان الاستقرار ، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف ، وناهين عن كل منكرٍ ، ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقًّا ، وصدقاً - لا محالة - فكان حُجَّةً .
فإن قيل : الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، والإيمان بالله ، هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم ، فمن أي وَجْهٍ كانت هذه الأمة خير الأمم؟
والجواب : قال القفال : إن تفضيلهم على سائر الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر بآكد الوجوه - وهو القتال- : لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان ، واليد ، وأقواها القتال؛ لأنه إلقاء للنفس في خطر القتل ، وأعرف المعروفات الدين الحق ، والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، فلما كان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ؛ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع ، وتخليصه من أعظم المضار ، وجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات ، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل العبادات ، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل هذه الأمة على سائر الأمم .
وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويُقِرُّوا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، و « لا إله إلا الله » أعظم المعروف ، والتكذيب هو أنكر المنكر .
ثم قال القفال : فائدة : القتال على الدين لا يُنكره مُنْصف ، لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة ، ولا يتأملون في الدلائل الواردة عليهم ، فإذا أكره - بالتخويف بالقتل - على الدخول في الدين ، دخل فيه ، ثم لا يزال يَضْعُف في قلبه ما كان من حب الباطل ، ويقوى حُبُّ الدين الحقِّ في قلبه إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحقّ ، ومن استحقاق العذاب الأليم إلى استحقاقِ الثوابِ الدائم ، والنعيم المقيم .
فإن قيل : لم قدم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله ، في الذكر - مع أن الإيمان بالله - لا بد وأن يكون مُقَدَّماً على كل الطاعات .
فالجواب : أن الإيمان بالله مشترك فيه بين جميع الأمم المُحِقَّةِ ، ثم إنه - تعالى - ذكر أن فَضْل هذه الأمَّة أقوى حالاً - في الأمر بالمعروف ، والنَّهْيِ عن المنكر - من سائر الأمم ، فالمؤثر - إذَنْ - في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات وصْفاً من صفات الخيرية .
فإن قيل : لم اكتفى بذكر الإيمان بالله ، ولم يذكر الإيمان بالنبوة ، مع أنه لا بُدَّ منه؟
فالجواب : أنّ الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة ، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً ، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر المعجزة ، على وفق دعواه صادقاً؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول ، فلما شاهد ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صلى الله عليه وسلم كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم فكان الاقتصار على ذِكْر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة .
قوله : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } فيه وجهان :
أحدهما : لو آمن أهل الكتاب بهذا الذي حصلت به صفة الخيريَّةِ لأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، لحصلت هذه الخيرية - أيضاً - لهم .
الثاني : أن أه لالكتاب إنما آثروا دينهم ، حُبًّا للرياسة ، واستتباع العوام ، ولو آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة ، فكان ذلك خيراً مما قَنِعُوا به .
قوله : { لَكَانَ خَيْرًا } اسم « كان » ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله ، والتقدير لكان الإيمان خيراً لهم كقولهم : « من كذب كان شراً له » أي : كان الكذب شراً له ، كقوله تعالى : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] .
وقول الشاعر : [ الوافر ]
1573- إذَا نُهِيَ السَّفِيةُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالفَ ، وَالسَّفِيةُ إلى خِلاَفِ
أي : جرى إليه السفه .
والمفضل عليه محذوف ، أي : خيراً لهم من كُفْرهم ، وبقائهم على جَهْلهم .
وقال ابن عطية : ولفظة « خير » صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كُفْرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظه « خير » من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة « أفضل » ، و « أحب » وما جرى مجراها .
قال أبو حيان : « وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أوْلَى - إذا أمكن ذلك - وقد أمكن ذلك؛ إذ الخيرية مطلقة ، فتحصل بأدْنى مشاركة » .
قوله : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } جملة مستأنفة ، سِيقت للإخبار بذلك .
قال الزمخشريّ : « هما كلامان واردان على طريق الاستطراد ، عند إجراء ذِكْر أهل الكتاب ، كما يقول القائل - إذا ذكر فلاناً - من شأنه كيت وكيت - ولذلك جاء من غير عاطف » .
الألف واللام في قوله : { الْمُؤْمِنُونَ } للعهد ، لا للاستغراق ، والمراد عبد الله بن سلام ورهطه من « الليهود » ، والنجاشي ورَهْطه من « النصارى » .
فإن قيل : الوصْف إنما يُذْكَر للمبالغة ، فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟
فالجواب : أن الكافر قد يكون عَدْلاً في دينه ، وفاسقاً في دينه ، فالفاسق في دينه يكون مردوداً عند جميع الطوائف؛ لأن المسلمين لا يقبلونه لكفْره ، والكفّار لا يقبلونه لفِسْقِه عندهم ، فكأنه قيل : أهل الكتاب فريقان : منهم مَنْ آمن ، والذين لم يؤمنوا فهم فاسقون في أديانهم ، فليسوا ممن يُقْتَدَى بهم ألبتة عند أحدٍ من العقلاء .
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عمران : 110 ] ، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر ، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين ، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به ، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار ، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم .
قال مقاتل : إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم ، فنزلت هذه الآية .
قوله : { إِلاَّ أَذًى } فيه وجهان :
أحدهما : أنه متصل ، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام ، كأنه قيل : لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم : عيسى ابنُ الله ، وعُزَيْر ابن الله ، وإن الله ثالث ثلاثة ، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل ، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين .
الثاني : أنه منقطع ، أي : لن يضروكم بقتال وغَلَبَة ، لكن بكلمة أذًى ونحوها .
قال بعض العلماء : وهذا بعيد ، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين ، والغم ضرر . فالتقدير : لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى ، فهو استثناء صحيح ، والمعنى : لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً .
قوله : { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار } هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا ، وخُذلوا ، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي : إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة ، ولا قوة - ألبتة- ، ونظيره قوله تعالى : { وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار } [ الحشر : 12 ] ، وقوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 12 ] ، وقوله : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 44-45 ] ، وكل ذلك وَعْد بالفتح ، والنصر ، والظفر ، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة .
منها : أن المؤمنين آمنون من ضررهم .
ومنها : أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا .
ومنها : أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام .
وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها ، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا ، وما أقدموا على محاربة ، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا ، وكل ذلك إخبار عن الغيب ، فيكون معجزاً .
فإن قيل : هَبْ أن اليهودَ كذلك ، لكن النصارى ليسوا كذلك ، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات .
فالجواب : أنها مخصوصة باليهود ، لما رُوِيَ في سبب النزول .
وقوله : { ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ } كلام مستأنف .
فإن قيل : لِمَ كان قوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } مستأنفاً ، ولم يُجْزَم ، عطفاً على جواب الشرط؟
فالجواب : أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا ، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا ، أو لم يقاتلوا .
وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب « ثم » لا يجوز جزمه ألبتة ، قال : لأن المعطوف على الجواب جواب ، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه ، و « ثم » يقتضي التراخي ، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع « ثم » .
وهذا فاسد جدًّا؛ لقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، ف « لا يكونوا » مجزوم نسقاً على « يستبدل » الواقع جواباً للشرط ، والعاطف « ثُمَّ » .
و « الأدبار » مفعول ثان لِ « يُوَلُّوكُمْ » ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ .
فإن قيل : ما الذي عطف عليه قوله : { لاَ يُنصَرُونَ } ؟
فالجواب : هو جملة الشرط والجزاء ، كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون . وإنما ذكر لفظ « ثُمَّ » ، لإفادة معنى التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار .
قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } يعني : أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة ، بهم ، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به ، ومنه قولهم : ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة . والذلة : هي الذل ، وفي المراد بها أقوال .
فقيل : إنها الجزية؛ وذلك؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار .
وقيل : أن يُحارَبُوا ، ويقْتَلوا ، وتقسَّم أموالُهم ، وتُسْبَى ذَراريهم ، وتُملك أراضيهم - كقوله : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] ، ثم قال تعالى : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله } والمراد : إلاَّ بعهد من الله ، وعِصْمة ، وذمام من الله ومن المؤمنين؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام .
وقيل : إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً ، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد ، ذليلون ، مهينون .
قوله : { أَيْنَ مَا ثُقِفُوا } ، « أيْنَمَا » اسم شرط ، وهي ظرف مكان ، و « ما » مزيدة فيها ، ف « ثُقِفُوا » في محل جزم بها ، وجواب الشرط إما محذوف - أي : أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا ، دلَّ عليه قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } ، وإما نفس « ضُرِبَتْ » ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه ، ف { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ } لا محل له - على الأول ، ومحله جزم على الثاني .
قوله : { إلاَّ بِحَبْلٍ } هذا الجار في محل نَصْب على الحال ، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة .
قال الزمخشري : « وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال ، والمعنى : ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال ، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله ، وحبل الناس ، فهو استثناء متصل » .
قال الزجّاج والفرَّاء : هو استثناء منقطع ، فقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، فحذف ما يتعلق به الجار .
كقول حميد بن ثور الهلالي : [ الطويل ]
1574- رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا ، فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ ، فَرُوقُ
أراد : أقبلت بحبليها ، فحذف الفعل؛ للدلالة عليه .
ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً } [ النساء : 92 ] قال : « لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنَّما في الكلام محذوف ، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل » .
قال أبو حيان : « وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة ، وهي : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل ، والأسر ، وسَبي الذراري ، واستئصال أموالهم؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة- : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ البقرة : 61 ] ، فلم يستثنِ هناك » .
قال محمد بن جرير الطبري : « قد ضُرِبَت الذلة على اليهود ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا ، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله } تقديره : لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس » .
قال ابن الخطيب : « وهذا ضعيف؛ لأن حَمْلَ لفظ » إلاَّ « على » لكن « خلاف الظاهر ، وأيضاً : إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله ، وحبل من الناس ، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه ، والإشمار خلاف الأصل ، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة ، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك ، كان المصير إليه غير جائز ، بل هاهنا وجه آخر ، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني : القتل ، والأسْر ، وسَبْي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم » .
وقال بعضهم الباء - في قوله : « بحبل » - بمعنى : « مع » ، كقولك : اخرج بنا نفعل كذا - أي : معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله .
فصل
تقدم الكلام في أن المراد بالحبل : العهد .
فإن قيل : إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس ، وذلك يقتضي المغيرة .
فالجواب : قال بعضهم : حبل الله هو الإسلام ، وحبل الناس هو العهد والذمة ، وهذا بعيد؛ لأنه لو كان المراد ذلك ، لكان ينبغي أن يقال : أو حبل من الناس .
وقال آخرون : المراد بكلا الحبلين : العهد والذمة والأمان ، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين ، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى .
قال ابن الخطيب : وهذا عندي - أيضاً - شعيف ، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان :
أحدهما : الذي نصَّ الله عليه ، وهو أخْذ الجزية .
الثاني : الذي فُوض إلى رَأي الإمام ، فيزيد فيه تارة ، وينقص بحسب الاجتهاد ، فالأول : هو المُسَمَّى بحبل الله ، والثاني : هو المسمى بحبل المؤمنين .
قوله : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } تقدم أن معناه : مَكَثُوا ، ولبثوا ، وداموا في غضب الله ، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه : تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار } [ الحشر : 9 ] .
قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ } .
قال الحسن ، وأكثر المفسرين : المسكنة : الجزية؛ لأنه لم يستثنها ، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم ، والباقي عليهم ليس إلا الجزية .
وقال آخرون : المسكنة : هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر ، وإن كان موسراً .
وقال آخرون : هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين ، فيصيروا مساكين .
قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم ، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة .
فإن قيل : فما الحكمة في قوله : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } ، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن علة الذلة ، والغضب ، والمسكنة ، هي : الكُفر ، وقتل الأنبياء ، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي : المعصية؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب ، وتزايدت ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً ، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان ، وحصلت ظلمة الكُفْر ، وإليه أشار بقوله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] ، فقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } إشارة إلى العلة .
ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن ، هل تُقْبَل شهادته؟ - قال : ذلك رجل سوء؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض ، وإذ وقع في تَرْك الفرائض ، وقع في استحقار الشريعة ، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر .
الثاني : أن يُحْمَل قوله : { كانوا يكفرون بآيات الله } على أسلافهم ، وقوله : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ } في الحاضرين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلا يلزم التكرار ، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم ، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته ، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم ، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين .
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
الظاهر في هذه أنّ الوقف على « سَوَاءٌ » تام؛ فإن الواو اسم « ليس » و « سواء » خبر ، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم .
ولامعنى : أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله : { مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } [ آل عمران : 110 ] ، فانتفى استواؤهم .
و « سواء » - في الأصل - مصدر ، ولذلك وُحِّدَ ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة .
قال أبو عبيدة : الواو في « لَيْسُوا » علامة جمع ، وليست ضميراً ، واسم « ليس » - على هذا - « أمة » و « قَائِمَةٌ » صفتها ، وكذا « يَتْلُونَ » ، وهذا على لغة « أكلوني البراغيث » .
كقول الآخر : [ المتقارب ]
1575- يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي ... لِ أهْلِي ، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ
قالوا : وهي لغة ضعيفة ، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً ، ونسبها بعضُهم إلى شنوءة ، وكثيراً ما جاء عليها الحديث ، وفي القرآن مثلُها . وسيأتي تحقيقها في المائدة .
قال ابنُ عطية : وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم « ليس » هو { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } فقط ، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها . والتقدير الذي يصح به المعنى : أي : ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِرَ ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ .
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على « سَوَاءً » فجعل الواو اسم « ليس » ، و « سَوَاءً » خبرها - كما قال الجمهور - و « أمَّةٌ » مرتفعة ب « سَوَاءً » ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ .
وقال الفرَّاءُ : إن الوقفَ لا يتم على « سَوَاءً » فجعل الواو اسم « ليس » ، و « سَوَاءً » خبرها - كما قال الجمهور - و « أمَّةٌ » مرتفعة ب « سَوَاءً » ارتفاع الفاعل ، أي : ليس أهل الكتاب مستوياً ، من أهل الكتاب أمة قائمة ، موصوفة بما ذُكِر ، وأمة كافرة ، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة؛ لدلالة القسم الأول عليها؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين ، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر .
قال أبو ذُؤيب : [ الطويل ]
1576- دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا ... سَمِيعٌ ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها؟
والتقدير : أم غي ، فحذف الغَيّ؛ لدلالة ضِدِّه عليه .
ومثله قول الآخر : [ الطويل ]
1577- أرَاكَ ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ ... وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ
أي أهم هممته أم غيره؟ فحذف؛ للدلالة ، وهو كثير .
قال الفراء : « لأن المساواة تقتضي شيئين » ، كقوله : { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } [ الحج : 25 ] ، وقوله : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } [ الجاثية : 21 ] .
وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف ، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر؛ إذ الأصل : منهم أمة قائمة ، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر .
والوجه أن يكون { لَيْسُواْ سَوَآءً } جملة تامة ، وقوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ } جملة برأسها ، وقوله : { يَتْلُونَ } جملة أخرى ، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } [ آل عمران : 110 ] مبيِّنة للخيريَّةِ .
ويجوز أن يكون { يَتْلُونَ } في محل رفع ، صفة ل « أمَّةٌ » .
ويجوز أن يكون حالاً من « أمَّةٌ » ؛ لتخصُّصِها بالنعت .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « قَائِمة » ، وعلى كونها حالاً من « أمَّةٌ » يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار .
ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار ، لوقوعه خبراً ل « أمَّة » .
فصل
قال جمهور العلماء : المراد بأهل الكتاب : مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام . اليهود : ما آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا شِرارُنا ، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم ، لقد كفروا ، وخسروا ، فأنزل الله هذه الآية؛ لبيان فضلهم .
وقيل : لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة ، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك ، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية .
قال الثوريّ : بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء .
وعن عطاء ، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثلاثة من الروم ، كانوا على دين عيسى ، وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور ، ومحمد بن مسلمة ، وأبو قيس صِرْمة بن أنس ، كانوا موحِّدين ، يغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية ، حتى بعث الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم فصدَّقوه ، ونصروه .
وقال آخرون : المراد بأهل الكتاب : كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] ، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : « أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ » وقرأ هذه الآية .
قال القفال : ولا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا .
ولا يبعد - أيضاً - أن يقال : المراد : كلّ مَنْ آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسمَّاهم الله بأهل الكتاب ، كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا ، فكيف يستويان؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام ، تأكيداً لما تقدم من قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ونظيره قوله : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } [ السجدة : 18 ] ، منهم { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله } قيل : قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله ، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم .
وقال ابن عباس : مهتدية ، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه ، ولم يتركوه .
قال الحسن : ثابتة على التمسُّك بالدين الحق ، ملازمة له ، غير مضطربة ، كقوله تعالى : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } [ آل عمران : 75 ] .
قال مجاهد : « قَائِمَةٌ » أي : مستقيمة ، عادلة - من قولك : أقمت العود - فقام بمعنى : استقام .
وقيل : الأمَّة : الطريقة ، ومعنى الآية : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ } أي : ذو أمة ، ومعناه : ذو طريقة مستقيمة ، والمراد ب { آيَاتِ الله } : القرآن ، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته ، وصفاته ، والمراد هاهنا : الأول .
قوله : { آنَآءَ الليل } ظرف ل « يتلون » ، والآناء : الساعات ، واحده : أنَى - بفتح الهمزة والنون ، بزنة عصا -أو إنَى بكسر الهمزة ، وفتح النون ، بزنة مِعًى ، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي ، أو إنْي - بالكسر والسكون ، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو ، بزنة جرو - فالهمزة في « آناء » منقلبة عن ياء ، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير ، نحو كساء .
قال القفال : كأن التأنِّيَ مأخوذ منه ، لأنه انتظار الساعات والأوقات ، وفي الحديث أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة- : « آذيت وآنيت » أي : دافعت الأوقات . وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها .
ولا يجوز أن يكون « آناء الليل » ظرفاً لِ « قَائِمَةٌ » .
قال أبو القباءِ : « لأن » قَائِمَةٌ « قد وُصِفَتْ ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة » ، وهذا على تقدير أن يكون « يَتْلُونَ » وَصْفاً لِ « قائمة » ، وفيه نظر؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها ، بل على الاستئناف للبيان المتقدم ، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها ، فهي صفة ل « أمَّةٌ » ، لا لِ « قَائِمَةٌ » ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها ، نحو : مررت برجل ناطقٍ فصيح ، ففصيح صفة لناطق؛ لأن معناه لائق به ، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل .
وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف ب « قَائِمَةٌ » ما ذكرناه من استئناف جملته .
قوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } يجوز أن يكون حالاً من فاعل « يَتْلُونَ » أي : يَتْلُونَ القرآن ، وهم ساجدون ، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا ، قال عليه السلام « ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً ، أو سَاجِداً » ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في « قَائِمَةٌ » قاله أبو البقاء .
وفيه ضعف؛ للاستئناف المذكور .
وقيل : المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } : أنهم يصلون ، والصلاة تسمى سجوداً ، وركوعاً ، وتسبيحاً ، قال تعالى : { واركعي مَعَ الراكعين } [ آل عمران : 43 ] ، وقال : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] ، والمراد : الصلاة .
وقيل : { يَسْجُدُونَ } أي : يخضعون لله؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ النحل : 49 ] .
ويجوز أن تكون مستأنفة ، والمعنى : أنهم يقومون تارةً ، ويسجدون تارةً ، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله ، ونظيره قوله : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } [ الفرقان : 64 ] .
قوله : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } إمَّا استئناف ، وإما أحوال ، وجيء بالجملة الأولى اسميةً؛ دلالةً على الاستقرار ، وصُدِّرَتْ بضميرٍ ، وثَنَّى عليه جملة فعلية ، ليتكرر الضمير ، فيزداد بتكراره توكيداً .
وجيء بالخبر مضارعاً؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت ، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة .
ويحتمل أن يكون { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } خبراً ثانياً ، لقوله : « هُمْ » ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً .
فصل
اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد ، وقراءة التوراة ، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله : { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } ، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي ، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله ، ولا يحترزون عن معاصي الله ، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد .
قوله : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } .
قال ابن عباس : يؤمنون بتوحيد الله ، ونبوة صلى الله عليه وسلم ، وينهون عن الكفر .
وقيل : يأمرون بما ينبغي ، وينهون عَمَّا لا ينبغي .
وقوله : { وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات } فيه وجهان :
أحدهما : يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ .
فإن قيل : أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صلى الله عليه وسلم : « الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ » فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة؟
فالجواب : أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه ، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين ، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي ، قال تعالى :
{ وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 133 ] ، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق؛ لقوله تعالى : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } [ طه : 84 ] .
الوجه الثاني : يعملونها غَيْرَ متثاقلين .
قوله : { وأولئك مِنَ الصالحين } أي : الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين ، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم ، وهذا غاية المدح من وجهين :
الأول : أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء ، فقال - بعد ذكر إسماعيل ، وإدريس ، وذي الكفل وغيرهم : { وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين } [ الأنبياء : 86 ] ، وقال : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] .
الثاني : أن الصلاح ضِدُّ الفساد ، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد ، سواء كان ذلك في العقائد ، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً ، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات .
قوله : { مِنَ الصالحين } يجوز في « من » أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر- .
وجعلها ابن عطية لبيان الجنس ، وفيه نظر؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ ، فتبينه هذه .
قوله : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } .
قرأ الأخوان وحَفْص : « يَفْعَلُوا » و « يُكْفروهُ » - بالغيبة- .
والباقون بالخطاب .
الغيب مراعاة لقوله : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } ، فجرى على لفظ الغيبة ، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } .
ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } إلى آخره؛ إلى خطابهم ، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب ، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر؛ ليزيد في التأنيس . ويدل على ذلك قراءة الأخوين؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله : { أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } .
فصل
اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه : إنكم خسرتم بسبب إيمانكم ، قال الله تعالى : بل فازوا بالدرجات العُظْمَى ، فالمقصود تعظيمهم؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال ، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب ، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة .
أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] ، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } [ البقرة : 272 ] ، وقوله : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } [ المزمل : 20 ] ، ونقل عن أبي عمرو : أنه كان يقرأها بالقراءتين .
وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين :
الأول : أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً ، فقال : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 158 ] ، وسمى منعه كفراً .
الثاني : أن الكفر - في اللغة- : الستر . فسمي منع الجزاء كُفْراً؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر .
فإن قيل : « شكر » و « كفر » لا يتعديان إلا إلى واحد ، يقال : شكر النعمة ، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل ، والثاني : الهاء في « يكفروه » ؟ .
فقيل : إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع ، فكأنه قيل : فلن يُحْرَموه ، ولن يُمْنَعُوا جزاءه .
ثم قال : { والله عَلِيمٌ بالمتقين } واسم « الله » يدل على عدم العجز ، والبخل ، والحاجة؛ لأنه إله جميع المحدثات ، وقوله : « عَلِيمٌ » يدل على عدم الجَهْل ، وإذا انتفت هذه الصفاتُ ، امتنع المنع من الجزاء؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور .
وقوله : { بِالمُتَّقِينَ } - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
لمَّا وصف المؤمنين بالصفاتِ الحَسَنة ، أتبعه بوعيد الكُفَّار ، ليجمع بين الوعدُ والْوَعيد ، والترغيب والترهيب .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : يريد قريظة والنضير؛ لأن معاندتهم كانت لأجل المال ، لقوله تعالى : في سورة البقرة { تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ البقرة : 41 ] .
وقيل : نزلت في مشركي قريش؛ فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله .
وقيل : نزلت في أبي سفيان؛ فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بَدر وأحد .
وقيل : إنها عامة في جميع الكفار؛ لأنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ، ويعيرُون الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ، ويقولون : لو كان محمد على الحق ، لما تركه ربه في الفقر والشدة .
فالأولون قالوا : إن الآية مخصوصة ، وهؤلاء قالوا : إن اللفظ عام ، ولا دليلَ يوجب التخصيص ، وخص الأولاد ، لأنهم أقرب أنساباً إليهم .
واحتجَّ أهلُ السنة بقوله : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } عَلَى أن فُسَّاق أهل الصلاة لا يَبقون في النار أبداً؛ لأن هذه الكلمة تفيد الحصر ، فيقال : أولئك أصحاب زيد ، لا غيرهم ، ولما أفادت معنى : « الحصر » ثبت أن الخلودَ في النار ليس إلاَّ ل « الكفار » .
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
لمَّا بيَّن أن أموالهم لا تغني عنهم شيئاً ، فربما أنفقوها في وجوه الخير ، فيخطر ببالهم أنهم يبتغون بذلك وجه الله ، فأزال الله تعالى - بهذه الآية - ذلك الخاطر ، وبَيَّن أنهم لا ينتفعون بشيء من تلك النفقات .
والمثل : الشبه الذي يصير كالعلم؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به . و « ما » يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي « ينفقونه » . وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم ، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع .
قوله : { كَمَثَلِ رِيحٍ } خبر المبتدأ ، وعلى هذا الظاهر - أعني : تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي : الزرع - لا بالريح ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه :
أحدها : أنه من باب التشبيه المركب ، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة ، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ } وهذا اختيار الزمخشري .
ثانيها : أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين ، فذكر أحد المشبَّهين ، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به ، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره ، كما مر في قوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ } [ البقرة : 171 ] ، وهو اختيار ابن عطية ، قال : « وهذا غاية البلاغة والإعجاز » .
وثالثها : أنه على حذف مضاف ، إمَّا من الأول ، تقديره : مثل مهلك ما ينفقونه ، وإما من الثاني ، تقديره : كمثل مهلك ريح ، وهذا الثاني أظهر؛ لأنه يؤدِّي - في الأول - إلى تشبيه الشيء المُنْفَق - المُهْلَك - بالريح ، وليس المعنى عليه ، ففيه عَوْدٌ لما فُرَّ منه .
وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه ، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد ب « مهلك » اسم مصدر ، أي : مثل إهلاك ما ينفقون ، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف - أيضاً - قبل « رِيح » تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح .
وقيل : التقدير : مثل الكفر - في إهلاك ما ينفقون - كمثل الريح المهلكة للحرث .
وقال ابن الخطيب : « لعل الإشارة في قوله : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ } إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صلى الله عليه وسلم في جَمْع العساكر عليه ، فكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتَوْا به من أعمال البر والخير ، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار ، وتقديم وتأخير ، والتقدير : مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به - قبل ذلك - من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث » .
وهذا فيه نظر؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عملُ برٍّ ، حتى تحبطه النفقة المذكورة ، قالتعالى :
{ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا : أهل الكتاب ، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن كان المراد : المشركين ، فلا يُحْكَم عليهم إلا بعد البعثة ، قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] .
ويجوز في « ما » أن تكون موصولة اسمية ، وعائدها محذوف - أي : مثل ما ينفقونه - وأن تكون ما مصدرية ، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم - في عدم نفعه - بالريح الموصوفة بهذه الصفة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس .
فصل
اختلفوا في هذا الإنفاق - هاهنا - فقيل : هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة ، قال تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] والمراد به : جميع أعمال الخير .
وقيل : المراد به : إنفاق الأموال ، للآية المتقدمة .
فصل
وقيل : المراد به : إنفاق الأموال ، للآية المتقدمة .
فصل
اختلفوا هل المراد - بهذه الآية - جميع الكفار ، أو بعضهم؟ .
فقيل : جميع الكفار؛ وذلك لأن إنفاقهم إن كان لمنافع الدنيا ، لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر ، وإن كان لمنافع الآخرة - كبناء الرباطات ، والقناطر ، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل ، ووجوه البر - يرجو بذلك الإنفاق خيراً ، لم ينتفع به في الآخرة؛ لأن كفره يبطله ، فكان كمن زرع زرعاً ، وتوقع منه تقطعاً كثيراً ، فأصابته الريح ، فأحرقته ، فلا يبقى معه غير الأسف والحزن ، قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] .
وقيل : المراد : بعض الكفار .
فقيل : أراد نفقات أبي سفيان ، وأصحابه يوم بدر وأحُد - على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقال مقاتل : أراد نفقات اليهود على علمائهم؛ لأجل التحريف .
وقيل : إن المنافقين كانوا يُنفقون أموالَهم في سبيلِ الله ، لكن على سبيل التَّقِيَّة ، والخوف من المسلمين ، مداراةً لهم .
قوله : { فِيهَا صِرٌّ } في محل جر ، نعتاً ل « ريح » ، ويجوز أن يكون { فِيهَا صِرٌّ } : جملة من مبتدأ وخبر ، ويجوز أن يكون « فيها » - وحده - هو الصفة ، و « صِرٌّ » فاعل له - وجاز ذلك؛ لاعتماد الجار على الموصوف - وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف : الإفراد ، وهذا قريب منه .
والصِّرّ : قال ابْنُ عبَّاسٍ ، وقَتَادَةُ ، والسُّدِّيُّ ، وابْنُ زَيْدٍ ، وأكثر أهل اللغة : إنه البرد الشديد ، المحْرِق .
قال الشاعر : [ البسيط ]
1578- لا تَعْدِلِينَ أتَاوِيِّينَ تَضْربُهُمْ ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأصْحَابِ الْمُحِلاَّتِ
وقيل : الصِّرُّ بمعنى : الصرصر - وهو البرد- .
قالت ليلى الأخيلية : [ الطويل ]
1579- وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلأ الْ ... جِفَانَ سَرِيعاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ
مأخوذ من الشد والتعقيد ، ومنه الصُّرَّة - للعُقْدة - وأصَرَّ على كذا : لَزِمَه .
وقال أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ ، وابْنُ الأنْبَارِي : هي السَّمُومُ الحَارَّة .
وقال الزجاج : الصَّرْصَر : صوت لهيب النار - في الريح - من صَرَّ الشيءُ ، يَصِرُّ ، صَريراً - أي : صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروف ، ومنه صرير الباب ، والصرة : الصيحة ، قال تعالى : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] .
وروى ابْنُ الأنْبَارِيِّ - بإسناده - عن ابْنِ عَبَّاسٍ ، في قوله : { فِيهَا صِرٌّ } قال : فيها نار . وعلى القولين ، فالمقصود من التشبيه حاصل؛ لأنه - سواء كان بَرْداً مُهْلِكاً ، أو حَرًّا مُحْرِقاً - يبطل الحرث والزرع ، وإذا عُرِف هذا ، فإن قلنا : الصِّرّ : البَرْد الشديد ، أو هو صوت النار ، أو هو صوت الريح ، فَظَرْفِيَّة الريح له واضحة ، وإن كان الصِّرُّ صفة الريح - كالصرصر - فالمعنى : فيها قِرَّة صر - كما تقول : برد بارد - وحُذِفَ الوصوف ، وقامت الصفة مقامه ، أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة .
كقوله : [ الوافر ]
1580- .. وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي
ومنه قوله : إن ضيعني فلان ، ففي الله كافٍ ، المعنى : الرحمن كافٍ ، الله كافٍ ، وهذا فيه بُعْد .
قوله : « أصَابَتْ » هذه الجملة في محل جَرّ - أيضاً - صفة ل « رِيح » .
ولا يجوز أن يكون صفة ل « صر » ؛ لأنه مذكَّر ، وبدأ أولاً بالوَصْف بالجار؛ لأنه قريب من المفرد ، ثم بالجملة ، هذا إن أعربنا « فِيهَا » - وحده - صفة ، ورفعنا به « صِرٌّ » ، أما إذا أعربناه خبراً مقدماً ، أو « صِرٌّ » مبتدأ ، فهما جملة - أيضاً- .
قوله : { ظَلَمُوا } صفة ل « قوم » ، والضمير في { ظَلَمَهُمُ } يعود على القوم ذوي الحرث ، أي : ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سبباً في إهلاكهم؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع ، أو في غير وقته؛ لأن الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، وبهذا يتأكد وَجْه الشبه؛ لأن الزرع - لا في موضعه ، ولا في وقته - يضيع ، ثم أصابته الريح الباردة ، فكان أولى بالضياع ، وكذا - هاهنا - الكفار لما أتَوْا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤمُ كُفْرِهم ، فصار ضائعاً ، والله أعلم .
وجوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره : أن يعود الضمير على المنفقين ، وإليه نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للرد عليهم ، ولا لتبيين ظلمهم ، بل لمجرد التشبيه .
وقوله : { ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } العامَّة على تخفيف « لكن » ، وهي استدراكية ، و « أنْفُسَهُمْ » مفعول مقدَّم ، قُدِّم للاختصاص ، أي : لم يقع وبالُ ظلمهم إلاَّ بأنفسهم خاصَّة ، لا يتخطاهم ، ولأجل الفواصل - أيضاً - .
وقرأها بعضُهم مشدَّدة ، ووجهها أن تكون « أنْفُسَهُمْ » اسمها ، و « يَظْلِمُونَ » الخبر ، والعائد من الجملة الخبريَّة على الاسم محذوف ، تقديره : ولكن أنفسهم يظلمونها ، فحذف ، وحسَّنَ حذفَه كَوْنُ الفعلِ فاصلة ، فلو ذكر مفعوله ، لفات هذا الغرض .
وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة - حُذِفَ للعلم به ، و « أنْفُسَهُمْ » مفعول مقدم ل « يَظْلِمُونَ » كما تقدم والجملة خبر لها .
وقد رُدَّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة .
كقوله : [ الخفيف ]
1581- إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الْكَنِيسَةَ يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءَ
على أن بعضهم لا يُقصره على الضرورة ، مستشهداً بقوله - عليه السلام- : « إنَّ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرون » .
قال : تقديره : إنه ، ويعزى هذا للكسائي .
وقد ردَّه بعضُهم ، وخرَّج الحديثَ على زيادة « من » والتقدير : إن أشد الناس .
والبصريون لا يُجِيزون زيادة « من » في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يُجيزها الأخفش .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين ، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين ، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار ، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 100 ] .
قوله : { مِّن دُونِكُمْ } يجوز أن يكون صفةً ل « بِطَانَةً » ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة من غيركم .
وقدره الزمخشريّ : من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون .
ويجوز أن يتعلق بفعل النهي ، وجوَّز بعضُهم أن تكون « من » زائدة ، والمعنى : دونكم في العمل والإيمان .
وبطانة الرجل : خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور ، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها ، مشتقة من البطن ، والباطن دون الظاهر ، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : « النَّاسُ دثار ، والأنْصَارُ شِعَار » .
والشعَارُ : ما يلي الجسد من الثياب . ويقال : بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ ، بُطُوناً ، وبِطَانة .
قال الشاعر : [ الطويل ] .
1582- أولَئِكَ خُلْصَانِي ، نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ
فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع ، وأصله من البطن ، ومنه : بطانة الثوب غير ظهارته .
فإن قيل : قوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً } نكرة في سياق النفي ، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار ، وقد قال تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } [ الممتحنة : 8 ] فكيف الجمع فيهما .
فالجواب : أن الخاص مقدَّم على العام .
قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ } لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي ، وهي أمور :
أحدها : قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } يقال : ألا في الأمر ، يَألُو فيه ، أي : قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى . واختلف في نصب « خَبَالاً » على وجوه :
أحدها : أنه مفعول ثانٍ ، وإنما تعدَّى لاثنين؛ للتضمين .
قال الزمخشري : يقال : ألا في الأمر ، يألو فيه - أي : قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نُصْحاً ، ولا آلوك جُهْداً ، على التضمين ، والمعنى : لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ .
الثاني : أنه منصوب على إسقاط الخافض ، والأصل : لا يألونكم في خبال ، أو في تخبيلكم ، أو بالخبال ، كما يقال : أوجعته ضرباً ، وهذا غير منقاسٍ ، بخلاف التضمين؛ فإنه ينقاس ، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ .
الثالث : أن ينتصب على التمييز ، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية ، والأصل : لا يألون خبالكم ، أي : في خبالكم ، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً ، ومثله قوله : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] على أن « عُيُوناً » بدل بعض من كل ، وفيه حذف العائد ، أي : عيوناً منها ، وعلى هذا التخريج ، يجوز أن يكون « خَبَالاً » يدل اشتمال من « كم » والضمي ر أيضاً محذوف أي : « خبالاً منكم » وهذا وَجْه رابع .
الخامس : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : متخبلين .
السادس : قال ابْنُ عَطِيَّةَ : معناه : لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم .
فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر ، و « خَبَالاً » منصوبين على إسقاط الخافض ، وهو اللام ، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها جُمْلة استئنافية ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيءَ بها ، وبالجُمَل التي بعدها ، لبيان حال الطائفة الكافرة ، حتى ينفروا منها ، فلا يتخذوها بطانة ، وهو وجه حسن .
الثاني : أنها جملة في موضع نصب؛ حال من الضمير المستكن في « دُونِكُمْ » على أن الجار صفة لبطانة .
الثالث : أنها في محل نصب؛ نعتاً ل « بِطَانةً » - أيضاً- .
والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم- .
قال زهير : [ الطويل ]
1583- سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ ... فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَلَم يُليمُوا ، وَلَمْ يَأْلُوا
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1584- وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُذْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي
يقال : آلَى ، يُولِي - بزنة أكرم ، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً .
وأنشدوا : [ الوافر ]
1585- .. فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا
ويقال : ائتلَى ، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب- .
قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1586- ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي
فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر ، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء ، ومن معنى التقصير واو .
قال الراغب : وألَوْتُ فلاناً ، أي : أوْليته تقصيراً - نحو كسبته ، أي : أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً ، أي : ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد ، فقولك : جهداً ، تمييز .
وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] أي : لا يُقَصِّرون في طلب الخبال ، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } [ النور : 22 ] .
قيل : هو « يفتعل » من ألوت .
وقيل : هو من آليت ، أي : حلفت .
والخبال : الفساد ، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض ، وفتور ، فيورثه فساداً واضطراباً ، يقال منه : خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد ، فهو خابل ، ومُخَبَّل ، ومخبول ، والمخبل : الناقص العقل ، قال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] ، ويقال : خَبْل ، وخَبَل ، وخَبَال وفي الحديث : « مَنْ شَرِبَ الَْمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ » .
وقال زهير بن أبي سُلْمى : [ الطويل ]
1587- هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا ... وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا ، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا
والمعنى في هذا البيت : أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه ، وهذا كناية عن كرمهم .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ : كان رِجَالٌ من المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ اليَهُودَ؛ لما بينهم من القَرَابةِ ، والصداقة ، والحِلْف ، والجوار ، والرضاع ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم .
قال مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا يواصلون المنافقين ، فنهاهم الله عن ذلك ، ويؤيِّد هذا القولَ ما ذكره بعد في قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] وهذه صفة المنافقين .
وقيل : أراد جميع الكفار .
والعنت : شدة الضرر والمشقة ، قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } [ البقرة : 220 ] ، وقد تقدم اشتقاقه .
قوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } هذه العلة الثانية ، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه :
أحدها : وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة ، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها .
والثاني : أنها نعت ل « بِطَانَةً » فمحلُّها نصب .
قال الواحدي : « ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، ولو كان هذا صفة - أيضاً- ، لوجب إدخال حرف العطف بينهما » .
والثالث : أنها حال من الضمير في « يَألونَكُمْ » ، و « ما » مصدرية ، و « عَنِتُّمْ » صلتها ، وهي وصلتها مفعول الودادة ، أي : عنتكم ، أي : مقتكم .
وقال الراغب : « المعاندة ، والمعانتة ، يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة : أن يتحرى مع الممانعة المشقة » .
والفرق بين قوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } ، وقوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } ، في المعنى من وجوه :
الأول : لا يقصرون في إفساد دينكم ، فإن عجزوا عنه ، ودُّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر .
الثاني : لا يقصرون عن إفساد أموركم ، فإن لم يفعلوا ذلك؛ لمانعٍ ، فحُبّه في قلوبهم .
الثالث : لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا ، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم .
قال القُرْطُبِيُّ : « وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَةً وأمَنَاءَ ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء » .
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ : بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، وتَحُضُّهُ عَلَيهِ ، وبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالشَّرِ ، وَتَحُضُّهُ عَلَيهِ ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى » .
وروى أنس بن مالك قال : قال صلى الله عليه وسلم : « لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ المُشْرِكِينَ ، وَلاَ تَنْقُشُوا فِي خَواتِيمكُمْ غريباً » .
وفسره الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ ، فقال : أراد صلى الله عليه وسلم لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم ، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً .
قال الحَسَنُ : وتصديق ذلك في كتاب الله - عز وجل- : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } الآية .
العلة الثالثة : قوله : { قَدْ بَدَتِ البغضآء } هذه الجملة كالتي قبلها ، وقرأ عبد الله « بَدَا » - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ؛ ولأنها في معنى البغض ، والبغضاء : مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه : بَغُضَ الرجل ، فهو بغيض ، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ .
قوله : { مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } متعلق ب « بَدَتْ » و « مِنْ » لابتداء الغاية ، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً ، أي : خارجة من أفواههم ، والأفواه : جمع فَم ، وأصله فوه ، فلامه هاء ، يدل على ذلك جمعه على أفواه ، وتصغيره على « فُوَيْه » ، والنسب إليه على فوهي ، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين- أو « فَعَل » - بفتح العين-؟ خلاف للنحويين ، ثم حذفوا لامه تخفيفاً ، فبقي آخرهُ حرف علة ، فأبدلوه ميماً؛ لقُرْبهِ منها؛ لأنهما من الشفة ، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو .
وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة ، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة .
كقوله : [ البسيط ]
1588- فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ ... أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ
عكس الأمر في الطرفين ، فأتى بالميم في حال الإضافة ، وبحرف العلة في القطع عنها . فمن الأول قوله : [ الرجز ]
1589- يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة ، وغيرهم جوَّزه سعة ، وجعل منه قوله : « لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك » .
ومن الثاني قوله : [ الرجز ]
1590- خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا ... أي : وفاها ، وإنما جاز ذلك؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها .
وقالت العرب : رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه : إذا كان واسعَ الفم .
قال لبيد : [ الوافر ]
1591- . . ... وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ
وفي الفم تسع لغات ، وله أربع مواد : ف م ه . ف م و . ف م ي . ف م م؛ بدليل أفواه ، وفموين ، وفميين ، وأفمام .
فصل
{ قَدْ بَدَتِ البغضآء } أي : ظهرت علامة العداوة من أفواههم .
فإن حملناه على المنافقين ، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه ، وعدم الود والنصيحة ، كقوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } [ محمد : 30 ] ، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين ، والكفَّار ، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك .
وإن حملناه على اليهود فمعناه : أنهم يُظهرون تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب ، وينسبونه إلى الجهل . وإن حَمَلْناه على الكُفَّار ، فمعنى البغضاء الشتيمة و الوقيعة في المسلمين .
فصل
قال القُرْطُبِيُّ : « وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز ، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز ، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك .
وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال : أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء ، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة ، فكيف بعداوة الكافر » .
قوله : { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } يجوز أن تكون « ما » بمعنى : الذي ، والعائد محذوف - أي : تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي : وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين ، ف « ما » مبتدأ و « أكبر » خبره ، والمفضَّل عليه محذوف ، أي : أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم .
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } شرط ، حذف جوابه ، لدلالة ما تقدم عليه ، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه- .
والمعنى : إن كنتم من أهل العقل ، والفهم ، والدراية .
وقيل : إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ ، والمقصود منه : استعمال العقل في تأمل هذه الآيات ، وتدبُّر هذه البينات .
قوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أولااء تُحِبُّونَهُمْ } قد تقدم نظيره .
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : « ها » للتنبيه ، و « أنْتُمْ » مبتدأ و « أولاءِ » خبره ، و « تُحِبُّونَهُمْ » في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة .
ويجوز أن يكون « أولاء » بمعنى : الذي ، و « تُحِبُّونَهُمْ » صلة له ، والموصول مع الصلة خبر .
قال الفرَّاء : « أولاَءِ » خبر ، و « يحبونهم » خبر بعد خبر .
ويجوز أن يكون « أولاء » في موضع نصب بفعل محذوف ، فتكون المسالة من باب الاشتغال ، نحو : أنا زيداً ضربته .
قوله : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } يحتمل أن يكون استئناف إخبار ، وأن يكون جملة حالية .
فصل
قال المُفَضَّل : « تحبّونهم » تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، و { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر ، وهو يوجب الهلاك .
وقيل : { يُحِبُّونَهُمْ } بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة ، والرضاع ، و المصاهرة ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لأجل الإسلام .
وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب إظهارهم لكم الإسلام { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم .
وقال أبُو العَالِيَةِ ، ومُقَاتِلٌ : المحبة - هاهنا - بمعنى : المصافاة ، أي : أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم ، ولا يصافونكم؛ لنفاقهم .
وقال الأصمّ : { تُحِبُّونَهُمْ } بمعنى : أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات ، والمحن ، { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } بمعنى : أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن ، ويتربصون بكم الدوائر .
وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يبغضون الرسول ، ومحب المبغوض مبغوض .
وقيل : { تُحِبُّونَهُمْ } أي : تخالطونهم ، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يفعلون ذلك بكم .
قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس ، والمعنى : بالكتب كلها ، فاكتفى بالواحد .
وقيل : أفرد الكتاب؛ لأنه مصدر ، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع .
وقيل : إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل ، فلهذا لم يَقُل : الكتب - بدلاً من الكتاب- ، وإن كان لو قاله لجاز ، توسعاً .
ويجوز أن يكون للعهد ، والمراد به : كتاب مخصوص .
وهنا جملة محذوفة ، يدل عليها السياق ، والتقدير : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } ، وهم لا يؤمنون بكتابكم ، وحَسُنَ العطفُ ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر ، وتقدير الكلام : أنكم تؤمنون بكتبهم كلها ، وهم - ممع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ .
وفيه تنبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم .
قوله : { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } ومعناه : إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة ، وشدة الغيظ على المؤمنين ، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل ، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه ، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه ، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب ، وإن لم يكن هناك عض .
قوله : { عَلَيْكُمْ } متعلق ب « عَضُّوا » ، وكذلك { مِنَ الغيظ } و « مِنْ » فيه لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون بمعنى اللام ، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي : من أجل الغيظ- .
وجوز أبو البقاء - في « عَلَيْكُمْ » ، وفي { مِنَ الغيظ } - أن يكونا حالين ، فقال : « ويجوز أن يكون حالاً ، أي : حنقين عليكم من الغيظ . { و مِنَ الغيظ } متعلق ب » عَضُّوا « أيضاً ، و » مِنْ « لابتداء الغاية ، أي : من أجل الغيظ ، ويجوز أن يكون حالاً ، أي : مغتاظين » . انتهى .
وقوله : و « من » لابتداء الغاية - أي : من أجل الغيظ كلام متنافر؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى : « من أجل » ، فإنه معنى العلة ، والعلة والابتداء متغايران ، وعلى الجملة ، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها ، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة .
والعَضّ : الأزم بالأسنان ، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض ، يقال : عَضِضْتُ قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
1592- . ... كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ
جعل الباء زائدة في المفعول؛ إذ الأصل : يعضون خلفنا الأنامل .
وقال آخر : [ المتقارب ]
1594- قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ ... فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا
وقال الحارث بن ظالم المري : [ الطويل ]
1595- وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعُذُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ
وقال آخر : [ البسيط ]
1596- إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ ... عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ
والعَضّ كله بالضاد ، إلا في قولهم : عَظَّ الزمان - أي : اشتد - وعظت الحرب ، فإنهما بالظاء - أخت الطاء- .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1597- وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ
قال شهاب الدين : « وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء : وعضُّ زمان - بالضاد » .
والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره ، ومنه : بَعير عُضَاضِيّ - أي : سمين - كأنه منسوب إليه ، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك ، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية ، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته .
وزمن عضوض - أي : جدب ، والتَّعْضوض : نوع من التمر ، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته .
والأنامل : جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع .
قال الرُّماني : واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها ، وسرعة تصرفها وحركتها ، ومنه قالوا للنمام : « نمل ومنمل » لذلك .
قال الشاعر : [ المتقارب ]
1598- وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ
وفي ميمها الضم والفتح .
والغيظ : مصدر غاظه ، يغيظه- أي : أغضبه - . وفسره الراغب بأنه أشد الغضب ، قال : وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه . وإذا وصف به الله تعالى ، فإنما يراد به الانتقام . والتغيظ : إظهار الغيظ ، وقد يكون مع ذلك صوت ، قال تعالى : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 12 ] ، والجملة من قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } معطوفة على { تُحِبُّونَهُمْ } ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة .
قال الزمخشري : والواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي : لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله ، وهم - مع ذلك - يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم .
قال أبو حيان : « وهو حسن ، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو أنه جعل الواو في { وَتُؤْمِنُونَ } للحال ، وانتصابها من { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال ، تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز : ويضحك ، فأما قولهم : قمت وأصُكُّ عينه ، ففي غاية الشذوذ ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ ، أي : وأنا أصُكّ عينه ، فتصير الجملة اسمية ، ويحتمل هذا التأويل هنا : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله ، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف » .
يعني : فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف ، بخلاف تقديره مبتدأ ، فإنه على خلاف الأصل .
قوله : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } يجوز أن تكون الباء للحال ، أي : موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم ، وهو كناية عن كثرة افسلام وفُشوِّه؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم ، ويجوز أن تكون للسببية أي : بسبب غَيْظكم ، وليس بالقويّ .
وقوله : { مُوتُواْ } صورته أمر ومعناه الدعاء ، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم ، حتى يهلكوا به ، والمراد من ازدياد الغيظ : ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام ، وعِزِّ أهْلِه ، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ ، والخِزْي ، والعار .
وقيل : معناه الخبر ، أي : أن الأمر كذلك .
وقد قال بعضهم : إنه لا يجوز أن يكون بمعنى : الدعاء؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة؛ فإنَّ دعوته لا ترد ، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ ، [ وليس بخبر ] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره ، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ ، والتهديد ، كقوله تعالى : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] و « إذَا لَمْ تَسءتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ » .
وهذا - الذي قاله - ليس بشيء؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر ، إن قُصِد به الإخبار .
قوله : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم ، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد ، ويحتمل أن يكون من جملة المقول ، أي : قُلْ لهم : كذا ، وكذا ، فيكون في محل نصب بالقول ، ومعنى قوله : { بِذَاتِ } أي : باملُضْمَرات ، ذوات الصدور ، ف « ذَات » - هنا - تأنيث « ذي » بمعنى صاحب؛ فحُذِف الموصوف ، وأقيمت صفته مقامه ، أي : عَلِيمٌ بالمضمرات صاحبة الصدُور ، و « ذو » جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها ، وعدم انفكاكها عنها ، نحو أصحاب النار ، وأصحاب الجنة .
والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بالقلب من الدواعهي ، و الصوارف الموجودة فيه .
واختلفوا ف يالوقف على هذه اللفظة ، هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء؟ .
فقال الأخفش ، والفَرَّاءُ ، وابن كيسان : الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف .
وقال الكسائي ، والجَرْمِيّ : يوقف عليها بالهاء ، لأنها تاء تأنيث ، كهي في صاحبة ، وموافقة الرسم أوْلَى؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء ، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء ، وافقنا تلك اللغة ، والرسم ، بخلاف عكسه .
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
قرأ العامة { تَسُؤْهُمْ } ، بالتأنيث؛ مراعاةً للفظ « حَسَنَةٌ » .
وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ ، وقياسه أن يقرأ « وَإن يصبكم سَيئةٌ » بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء .
والمس : أصله باليد ، ثم يُسَمَّى كل ما يصل غلى الشيء ماسًّا ، على سبيل التشبيه ، يقال : فلان مسَّه العصب والنصب ، قال تعالى : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [ ق : 38 ] .
وقال الزمخشري : المسّ مستعار هاهنا بمعنى : الإصابة ، قال تعالى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ } [ التوبة : 50 ] .
وقال : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [ النساء : 79 ] .
والمراد بالحسنة - هنا : منفعة الدنيا ، من صحة البدن ، وحصول الخِصْب والغنيمة ، والاستيلاء على الأعداء ، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين .
والمراد بالسيِّئَة : اضدادها ، والسيئة : من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ ، والأنْثَى سيئة - أي : قبح ، ومنه قوله تعالى { سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } [ المائدة : 66 ] ، و السوء ضد الحسن ، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين .
فصل
قال ابو العباس : وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه :
الأول : بمعنى : النصر والظفَر ، قال تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ آل عمران : 120 ] أي : نَصْر وَظفَر .
الثاني : بمعنى : التوحيد ، قال تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة } [ الأنعام : 160 ] أي : بالتوحيد .
الثالث : الرَّخَاء : قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] أي : رخاء .
الرابع : بمعنى : العاقبة ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } [ الرعد : 6 ] أي بالعذاب قبل العاقبةِ .
الخامس : القول بالمعروف ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ] أي : بالقول المعروف .
فصل
والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه :
الأول : بمعنى : الهزيمة - كما تقدم - كقوله : { وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } [ آل عمران : 120 ] أي : هزيمة .
الثاني : الشرك ، قال تعالى : { وَمَن جَآءَ بالسيئة } [ الأنعام : 160 ] أي : بالشرك .
الثالث : القحط ، قال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] أي : قحط ، ومثله قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] .
الرابع : العذاب ، قال تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة } [ الرعد : 6 ] .
الخامس : القول الرديء ، قال تعالى : { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } [ الرعد : 22 ] .
قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ } أي : على طاعة الله ، وعلى ما ينالكم فيها من شدة ، وغَمٍّ ، { وَتَتَّقُواْ } كلَّ ما نهاكم عنه ، { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } .
قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو : « يَضُرْكُمْ » بكسر الضاد ، وجزم الراء في جواب الشرط ، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً - : ضاره يضوره ، ففي العين لغتان ، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً ، فهو ضائر ، وهو مضير ، نحو : قلته أقوله ، فأنا قائل ، وهو مقول .
وقرأ الباقون : { يَضُرُّكُمْ } بضم الضاد ، وتشديد الراء مرفوعة ، وفي هذه القراءة أوجه :
الأول : أن الفعل مرتفع ، وليس بجواب للشرط ، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط ، وذلك أنه على نية التقديم؛ إذ التقدير : لا يضركم إن تصبروا وتتقوا ، فلا يضركم ، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب ، لدلالة ما تقدم عليه ، ثم أخر ما هو دليل على الجواب ، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه ، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك ، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم ، ومثله قول الراجز :
1599- يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ
برفع « تصرع » الأخير- .
وكذلك قوله : [ البسيط ]
1600- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ ... يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ
برفع « يقول » - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد ، بخلاف ما قبله - أعني : كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه ، وأتباعه وجوب الجزم ، إلا في ضرورة .
كقوله : [ الرجز ]
1601- .. إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورةز
الوجه الثاني : أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة ، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة ، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] .
والتقدير : فلا يضركم ، والفاء حذفت في غير محل النزاع .
كقوله : [ البسيط ]
1602- مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ
أي : فالله يشكرها ، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد ، وفيه نظر؛ من حيث إنهم ، لما أنشدوا البيت المذكور ، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة ، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول : إنما الرواية في هذا البيت : [ البسيط ]
1603- مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ ... وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ ، فلا يقدح فيها غيرُها ، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي ، وهذا أقرب .
الوجه الثالث : أن الحركة حركة إتباع؛ وذلك أن الأصل : « لاَ يَضْرُرْكُمْ » . بالفك وسكون الثاني جَزْماً ، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً ، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان :
الجزم : وهو لغة تميم .
والفك : وهو لغة الحجاز .
لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك ، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني ، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه ، وهي الضمة التي على الحرف قبله ، فحرَّكناه بها ، وأدْغمنا ما قبله فيه ، فهو مجزوم تقديراً ، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع ، لا حركة إعراب ، بخلافها في الوجهين السابقين ، فإنها حركة إعراب .
واعلم أنه متى أدغم هذا النوع ، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً ، أو مفتوحةً ، أو مكسورةً ، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة .
وقولهم : مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام :
الضم للإتباع ، والفتح للتخفيف ، والكسر على أصل التقاء الساكنين ، فتقول : مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ .
وينشدون على ذلك قول الشاعر : [ الوافر ]
1604- فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
بضم الضاد ، وفتحها ، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ .
وإن كانت فاؤه مفتوحةً ، نحو عَضَّ ، أو مكسورة ، نحو فِرَّ ، كان في اللام وجهان : الفتح ، والكسر؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول : الكسر من وجهين : إما الإتباع ، وإما التقاء الساكنين ، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً- : إما الإتباع ، وإمَّا التخفيف .
هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب ، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها .
وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل- : بضم الضاد ، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء .
وقرأ الضحاك بن مزاحم : « لا يَضُرِّكُمْ » بضم الضاد ، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين . وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً؛ فإنه قال : فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً .
وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة .
وقرأ أبيّ : « لا يَضْرُرْكُمْ » بالفكّ ، وهي لغة الحجاز .
والكيد : المكر والاحتيال .
وقال الراغب : هو نوع من الاحتيال ، وقد يكون ممدوحاً ، وقد يكون مذموماً ، وإن كان استعماله في المذموم أكثر .
قال ابْنُ قُتَيْبَةَ : وأصله من المشقة ، من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي : يجود بها في غمرات الموت ، ومشقاته .
ويقال : كِدْتُ فلاناً ، أكيده - كبعته أبيعُه .
قال الشاعر : [ الخفيف ]
1605- مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ
و « شَيْئاً » منصوب نصب المصادر ، أي : شيئاً من الضرر ، وقد تقدم نظيره .
ومعنى الآية : أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى ، واتقى عما نهى الله عنه ، كان في حِفْظ الله ، فلا يضره كيد الكائدين ، ولا حِيَلُ المحتالين .
قوله : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قراءة العامة { يَعْمَلُونَ } - بالغيبة ، وهي واضحة .
وقرأ الحسن بالخطاب ، إما على الالتفات ، والتقدير : إنه عالم ، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى ، فيفعل بكم ما أنتم أهله ، وإما على إضمار : قُل لهم يا محمد .
وإنما قال : { إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ولم يقل : إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم ، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى ، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً ، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ، ومجازيهم عليها ، فلا جرم قدّم ذكر العمل .
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
العامل في « إذْ » مضمَر ، تقديره : واذكر إذْ غدوت ، فينتصب المفعول به لا على الظرف ، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على { فِئَتَيْنِ } في قوله : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ } [ آل عمران : 13 ] أي : قد كان لكم آية في فئتين ، وفي إذْ غَدَوْتَ ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه .
وقال بعضهم : العامل في « إذْ » « محيط » تقديره : بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ .
قال بعضهم : وهذا لا يَصحّ؛ لأن الواو في ( وَإِذْ ) يمنع في عمل ( مُحِيطٌ ) فيها .
والغُدوّ : الخروج أول النهار ، يقال : غدا يغدو ، أي : خرج غدوة ، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة .
ويُسْتَعْمَل بمعنى : « صار » عند بعضهم ، فيكون ناقصاً ، يرفع الاسم ، وينصب الخبر ، وعليه قوله صلى الله عليه وسلم : « لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً ، وتَرُوحُ بِطَاناً » .
قوله : « من أهلك » متعلق ب « غَدَوْتَ » ، وفي « مِنْ » وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية ، أي : من بين أهلك .
قال أبو البقاء : « وموضعه نصب ، تقديره فارقت أهلَك » .
قال شهابُ الدِّيْنِ : « وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب ، ولا تفسير معنى؛ فإن المعنى على غير ما ذكر » .
الثاني : أنها بمعنى : « مع » أي : مع أهْلك ، وهذا لا يساعده لفظ ، ولا معنى .
قوله : « تبوئ » يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل : « غَدَوْتَ » ، وهي حال مقدرة ، أي : قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة ، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن الزمان متسع .
و « تبوئ » أي تُنزل ، فهو يتعدى لمفعولين ، إلى أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } [ الحج : 26 ] وأصله من المباءة - وهي المرجع- .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1606- وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً ... بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ
وقال آخر : [ مجزوء الكامل ]
1607- كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ ... بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وقد تقدم اشتقاقه .
وقيل : اللام في قوله « لإبراهيم » مزيدة ، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه .
و « مقَاعِدَ » جمع مَقْعَد ، والمراد به - هنا - مكان القعود ، و « قعد » قد يكون بمعنى : « صار » في المثل خاصة .
قال الزمخشري : « وقد اتُّسِعَ في قَامَ ، وقَعَدَ ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار » .
قال أبو حيان : أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار ، فقال بعض أصحابنا : إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم : شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى :
{ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً } [ الإسراء : 22 ] بمعنى تصير؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار .
قال شهابُ الدين : « وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح ، من كون قَعَد بمعنى : صار في غير ما أشار إليه هذا القائل؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول : قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً ، أي : صار » .
ثم قال أبو حيان : وأما إجراء قام مُجْرَى صار ، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ « كان » ، ولا جعلها بمعنى « صار » إلا ابن هشام الخَضْراوي ، فإنه ذكر - في قول الشاعر : [ الوافر ]
1608- عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ
أنها من أفعال المقاربة .
قال شهابُ الدين : « وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً ، وهو شاذٌّ ، أيضاً » .
وقرأ العامة : « تبوّئ » بعدَّوْه بالتضعيف ، وقرأ عبد الله : « تُبْوِئ » ، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة ، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم .
وقرأ يحيى بن وثَّاب « تُبْوِي » كقراءة عبد الله ، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً ، فصار لفظه كلفظ : يُحيي .
وقرأ عبد الله : للمؤمنين - بلام الجر - كقوله : « وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت » وقد تقدم أن في هذه اللام قولين ، والظاهر أنها معدية؛ لأنه قبل التضعيف ، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه . ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ ، وترتِّب .
وقرأ الأشهب « مقاعد القتال » - بإضافتها للقتال - واللام في « لِلْقِتَالِ » - في قراءة الجمهور - فيها وجهان :
أوّلهما : - وهو أظهر - : أنها متعلقة ب « تبوئ » على أنها لام العلة .
والثاني : أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لِ « مَقَاعِدَ » أي : مقاعد كائنة ، ومُهَيَّأة للقتال ، ولا يجوز تعلقها ب « مقاعد » ، وإن كانت مشتقة؛ لأنها مكان ، والأمكنة لا تعمل .
فصل
كيفية النظم أنه - تعالى - لما قال : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } [ آل عمران : 120 ] أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النُّصْرة ، والمعونة ، ودَفْع ضرر العدو ، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك ، فقال : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } يعني : يوم أُحُد ، كانوا كثيرين ، مستعدِّين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين ، غير مستعدين للقتال ، فلما أطاعوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم غَلَبُوا .
وفيه وجه آخر ، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة ، بيَّن - هنا - العلة في ذلك ، وهي أن انكسارَكم يوم أحُد ، إنما حصل بسبب تخلُّف عبد الله بن أبَيِّ ابْن سَلُول ، المنافق .
فصل
اختلفوا في هذا اليوم .
فقال ابن عباس ، والسُّدِّيّ ، وابنُ إسْحَاقَ ، والرَّبِيعُ ، والأصم ، وأبو مسلم ، وأكثر المفسرين : إنه يوم أُحُد .
وقال الحسنُ : هو يوم بدر .
وقال مجاهد ومقاتل : هو يوم الأحزاب ، واحتج الأولون بوجوه :
الأول : أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحُد .
والثاني : أنه - تعالى - قال بعد هذه الآية : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } [ آل عمران : 123 ] ، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم ، وحقُّ المعطوف أن يغاير المعطوفَ عليه ، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يوم أحُد ، لا يوم الأحزاب ، فكانت قصة أحُد ألْيَقَ بهذا الكلام ، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ } [ آل عمران : 120 ] .
الثالث : أن الانكسار كان في يوم أُحُد أكثر منه في يوم الأحزاب ، لأن في يوم أُحُد قَتَلُا جَمْعاً كثيراً من أكابر الصحابة ، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب ، فكان حمل الآية على يوم أحُد أوْلَى .
الرابع : أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد .
فصل
قال مُجَاهِدٌ ، والكَلْبِيُّ ، والوَاقِدِي : غَدَا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة ، فمشى على رجليه إلى أحد ، يَصُفُّ أصحابَه للقتال ، كما يقوم القداح ، وروي أن المشركين نزلوا بأحُد يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولهم ، استشار أصحابه ، ودعا عبدَ الله ابْن أبيّ ابْنَ سلول - ولم يدعه قط قبلها- ، فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبَيّ ، وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ، لا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل عدو علينا إلا أصبْنَا منه ، فدعهم ، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ موضع ، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، فأعْجَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأيُ .
وقال آخرون : اخرج بنا إلى هؤلاء الأكْلُب؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إنِّي رَأيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرَةً تُذْبَحُ حَوْلِي ، فأوَّلْتُها خَيْراً ، وَرَأيْتُ فِي ذُبَابَةِ سَيْفِي ثَلْماً ، فَأوَّلْتُه هَزِيمَةً ورايت كأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْع حَصِينَة ، فأوَّلْتُها المَدِينَةَ ، فَإنْ رَأيْتُمْ أن تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ ، وتدعوهُمْ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ ، فِيُقَاتَلُوا في الأزقَّة - فَقَالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلمين فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ ، وأكْرَمَهُمُ اللهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أحُدٍ : اخْرُجْ بِنَا إلَى أعْدائِنَا ، فَلَمْ يَزَالُوا برسول اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى دَخَلَ ، فَلَبَس لأمَتهُ ، فَلَمَّا رَأوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاَحَ نَدِمُوا ، وَقَالُوا : بِئْسَ ما صنعنا ، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والوَحْيُ يَأتِيهِ!!! فَقُامُوا ، واعْتَذَرُوا إلَيْهِ ، وَقَالُوا : اصْنَعْ ما رأيت ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لأمَتَهُ ، فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ - وَكَانَ قَدْ أقَامَ المُشرِكُون بأحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ - فَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَمَا صَلى بِأصْحَابِهِ الجمعة ، وقد مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ ، فَأصْبَحَ بالشِّعْب من أحُد يوم السَّبْتِ للنصف من شَوَّال سنة ثلاثٍ من الهجرة ، فَمَشَى عَلَى رجْلَيْهِ ، وَجَعَلَ يصُفُّ أصحابَه لِلْقِتَالِ كَمَا تُقَوَّمُ القِدَاحُ ، إنْ رَأى صدْراً بَارِزاً تأخَّر ، وكان نزوله في جانب الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرُّماة ، وقال : ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا ، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : اثْبُتُوا فِي هَذَا المَقَامِ ، فَإذَا عاينوكم وَلَّوْكم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ، ولا تخرجوا من هذا المقام » .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه ، وقال : أطاع الولدان وعصاني ، ثم قال لأصحابه : إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم ، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا ، فيتبعوكم ، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين ، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً ، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة ، وبقيت سبعمائة ، فذلك قوله تعالى : « إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ » [ آل عمران : 122 ] .
أي : أن تضعفا ، وتجبُنا ، وتتخلفا .
والطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر ، وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل ، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش ، وقال : نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السُّلمِي ، وقال : أنشدكم الله في نبيكم ، وفي أنفسكم ، فقال عبد الله بن أبَيّ : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } [ آل عمران : 167 ] ، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ ، فعصمهم الله ، فلم ينصرفوا ، فذكرهم الله عظيم نعمته . فقال - عز وجل - { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا } [ آل عمران : 122 ] ناصرهما ، وحافظهما ، ثم قواهم الله ، حتى هزموا المشركين ، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم ، طلبوا المدبرين ، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وليعلموا أن نصرهم غنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم ، فنزع الله الرُّعب من قلوب المشركين ، فكَرَّ عليهم المشركون ، وتفرق العسكر ن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } [ آل عمران : 153 ] ، وشُجَّ وَجْه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكُس~رَت رَبَاعِيَتهُ ، وشَلَّتْ يد طلحة دونه ، ولم يَبْقَ معه إلا أبو بكر ، وعليّ ، والعباسُ ، وطلحة وسعد ، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قُتِل ، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله ، فرجع إليه المهاجرون والأنصار ، وكان قد قُتِل منهم سبعون ، وأكْثر فيهم الجراح ، فقال صلى الله عليه وسلم :
« رحم الله رجلاً ذَبَّ عن إخوانه ، وشدَّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى » ، وكان الكفار ثلاثة آلاف ، والمسلمون ألفاً - أو أقل - رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة ، وبقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم سبعمائة ، وأعانهم الله حتى هزموا الكفارَ ، ثم لمَّا خالفوا أمرَ الرسول صلى الله عليه وسلم ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم ، وانهزموا .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع لأقوالكم ، « عليم » بضمائركم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما شاور أصحابه في تلك الحرب ، فقال بعضهم : أقم بالمدينة ، وقال آخرون : اخرج إليهم ، فكان لكل أحد غرض في نفسه ، فمن موافق ومن منافق ، فقال تعالى : { أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون } .
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
قوله : { إِذْ هَمَّتْ } في هذا الظرف أوجه :
أحدها : أنه ظَرْف ل { غَدَوْتَ } .
الثاني : أنه بدل من { وَإِذْ غَدَوْتَ } ، فالعامل ، فيه هو العامل في المُبْدَل منه .
الثالث : أنه ظرف ل { تُبَوِّىءُ } .
وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين .
الرابع : أن الناصب له « عَليمٌ » وحده - ذكره أبو البقاء .
الخامس : أن العامل فيه إما « سَمِيعٌ » ، وإما « عَلِيمٌ » على سبيل التنازع ، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني ، إذ لو أعمل الأول ، لأضمر في الثاني .
قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
قال أبو حيان : « وهذا غير محرَّر؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقال : عمل فيه معنى سميع ، أو عليم ، وتكون المسألة من التنازع » .
قال شهاب الدين : « لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع ، ويصدق أن يقول : عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور؛ لا أنهما عملا فيه معاً ، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً؛ إذ الفراء يرى ذلك ، ويقول - في نحو : ضربتُ وأكرمتُ زيداً : إن زيداً منصوب بهما ، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً » .
فإن قيل : إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل ، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال : { والله وَلِيُّهُمَا } ؟
فالجواب : أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر ، وقد يراد به : حديث النفس ، وقد يراد به : ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده ، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل ، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب ، وإذا كان كذلك ، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما ، وبتقدير أن يقال ذلك ، فيكون من باب الصغائر؛ لقوله : { والله وَلِيُّهُمَا } .
وقيل : الهَمّ دون العزّم ، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى : خاطراً ، فإذا قويَ سُمِّيَ : حديث نفسٍ ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ : هَمًّا ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ : عزماً ، ثم بعده إما قول ، أو فعل .
وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة ، تقول العرب : هممت بكذا ، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال : همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً ، كما قالوا : مِسْت وظلت ، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِنْتُ - وهو غير مقيس .
والهم - أيضاً- : الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه ، وهو مأخوذ من قولهم : همت الشحم - أي : أذبته ، والهم الذي في النفس قريب منه ، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان ، كما يؤثر الحُزْن .
ولذلك قال الشاعر : [ الطويل ]
1609- وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ ...
أي : إنك إذا هممت بشيء ، ولم تفعله ، وجال في نفسك ، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه .
قوله : { أن تَفْشَلاَ } متعلق ب « هَمَّتْ » ؛ لأنه يتعدى بالباء ، والأصل : بأن تفشلا ، فيجري في محل « أن » الوجهان المشهوران .
والفشل : الجبن والخَوَر .
وقال بعضهم : الفشل في الرأي : العجز ، وفي البدن : الإعياء ، وعدم النهوض ، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر ، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال - .
وقرأ عبد الله : والله وليهم ، كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
قوله : { وَعَلى الله } متعلق بقوله : { فَلْيَتَوَكَّلِ } ، قدم للاختصاص ، ولتناسب رؤوس الآي . وتقدم القول في نحو هذه الفاء .
قال أبو البقاء : « دخلت الفاء فمعنى الشرط ، والمعنى : إن فشلوا فتوكلوا أنتم ، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا » .
قال جابر : نزلت هذه الآية - { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } - فينا - بني سلمة ، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول : { والله وَلِيُّهُمَا } .
قال ابنُ الخَطِيبِ : « ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأن تلك الهمَّة ، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى » .
والتوكُّل : تفعُّل ، إمَّا من الوكالة - وهي : تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن تدبيره ، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان ، إذا عجز عنه .
قال ابنُ فارس : « هو إظهار العَجْز ، والاعتماد على غيرك » ، يقال : فلان وكله يَكِلُه ، أي : عاجز يكلُ أمره إلى غيره ، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو ، كتخمة وتجاه وتراث .
فصل
اختلف العلماء في حقيقة التوكل ، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله ، فقال : قالت فرقة : هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين .
وقال قوم : التَّوكُّل : ترك الأسباب ، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب ، فإذا شغله السبب عن المسبب ، زال عنه اسم التوكُّل .
قال سهل : من قال : التوكل يكون بتَرك السبب ، فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله يقول : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبا } [ الأنفال : 69 ] ، والغنيمة اكتساب ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ » .
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127)
في كيفية النظم وجهان :
أحدهما : أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة ، ثم سلط المسلمين عليهم ، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله ، ويكون ذلك تأكيداً لقوله : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا } [ آل عمران : 120 ] ، وقوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] .
الثاني : أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل ، ثم قال : { والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] .
ثعني : من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف ، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم ، فازوا بمطلوبهم ، وقهروا خصومهم ، فهذا وجه النظم . والنصر : العون ، نصرهم الله يوم بدر ، وقتل فيه صناديد المشركين ، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام ، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : { بِبَدْرٍ } متعلق ب { نَصَرَكُمُ } ، وفي الباء - حينئذ - قولان :
أحدهما : - وهو الأظهر - : أنها ظرفية ، أي : في بدر ، كقولك : زيد بمكة ، أي : في مكة .
الثاني : أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة ، فمحلُّها النصب على الحال ، أي : مصاحبين لبدر ، و « بدر » : اسم لماء بين مكة والميدنة ، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر .
وقيل : لاستدارته وقيل : اسم بئر لرجل يقال له : بدر ، وهو بدر بن كلدة ، قاله الشعبي ، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل : إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه . قاله الواقدي وشيوخه .
وقيل : اسم وادٍن وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة ، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة .
قوله : { وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } في محل نصب على الحال من مفعول : { نَصَرَكُمُ } و { أَذِلَّةٌ } جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة ، و « فعيل » الوصف - قياس جمعه على فعلاء ، كظريف وظرفاء ، وشريف وشرفاء ، غلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين } [ المنافقون : 8 ] فما معنى قوله : { وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : أنه بمعنى : القلة وضعف الحال ، وقلة السلاح والمال ، وعدم القدرة على مقاومة العدو ، وأن نقيضه العِز ، وهو القوة والغلبة .
رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد ، وأكثرهم رَجَّالة ، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً ، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل ، ومعهم مائة فرس ، مع الأسلحة الكثيرة ، والعُدَّة الكاملة .
قال القرطبيُّ : واسم الذل في هذا الموضع مستعار ، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزَّة ، لكن نسبتهم إلى عدوهم ، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض ، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ ، وأنهم يغلبون .
الثاني : لعل المراد : أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين ، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم ، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] .
الثالث : أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم ، وثروتهم ، وثروتهم ، إلى ذلك الوقت ، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء ، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم ، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم .
ثم قال : { فاتقوا الله } أي : في الثَّباتِ مع رسوله .
{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } بتقواكم ما أنعم الله به عليكم ممن نصرته ، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها ، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له .
قوله : { إذْ تَقُولُ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه منصوب بإضمار اذكر .
الثاني : إن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر ، فالعامل في « إذْ » قوله : { نَصَرَكُمُ الله } والتقدير : إذ نصركم الله ببدر ، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين .
وإن قلنا : إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد ، فيكون بَدَلاً من قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ } [ آل عمران : 122 ] ، فهذه ثلاثة أوجه .
فصل
رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ : أنه يوم أُحُد ، لوجوه :
أحدها : أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صلى الله عليه وسلم بألف من الملائكة لقوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة } [ الأنفال : 9 ] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف ، وخمسة آلاف؟
وثانيها : أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً ، وما يقرب منه ، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة ، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين ، فلا جرم ، وقعة الهزيمة على الكفار ، فكذلك يوم اُحُد ، كان عدد المسلمين ألفاً ، وعدد الكفار ثلاثة آلاف ، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم ، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ ، مع زيادة عدد المسلمين ، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم ، كما هزموهم يوم بدر ، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم .
وثالثها : أنه قال في هذه الآية : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ } [ آل عمران : 125 ] .
والمراد : ويأتيكم أعداؤكم من فورهم ، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء ، فأما يوم بدر ، فإنهم لم يأتوهم ، بل هم ذهبوا إلى الأعداء .
فإن قيل : إنه صلى الله عليه وسلم وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد ، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن إنزال الآلاف الخمسة ، كان مشروطاً بأن يصبروا ، ويتَّقوا في المغانم ، فَخَالَفُوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فلما فات الشرط ، فات المشروط ، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة ، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال .
الثاني : أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت .
روى الواقدي عن مجاهد قال : حضرت الملائكة يومَ أُحُد ، ولكنهم لم يقاتلوا ، ورُوِيَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر ، فقُتِل مُصْعَبٌ ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تقدم يا مصعب » ، فقال الملك : لستُ بمُصعَب ، فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مَلَك أمِدَّ به .
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أرمي السهمَ يومئذٍ ، فيرد علي رجل أبيض ، حسن الوجه ، وما كنت أعرفه ، وظننت أنه مَلَك .
فعلى هذا القول يكون قوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } مُعْتَرِضاً بين الكلامين .
وقال قتادة : أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة ، على ما قال : { فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة } [ الأنفال : 9 ] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسةَ آلاف ، كما قال هاهنا : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف } [ آل عمران : 125 ] ، فصبروا يوم بدر واتقوا ، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد ، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر ، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - في ذلك اليوم - أكثرَ ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً ، غير مشورط بشرطٍ ، فوجب أن يحصل ، وإنَّما حصل يوم بدر ، لا يوم أُحُد ، وليس لأحد أن يقول : إنهم نزلوا ، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد ، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد ، بل لا بدّ من الإعانة ، والإعانة حصلت يوم بدر ، لا يوم أُحُد .
وأما الجواب عن أدلة الأولين ، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف ، فالجواب من وجهين :
الأول : أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بألف ، ثم زاد فيهم ألفين ، فصاروا ثلاثةَ آلاف ، ثم زاد ألفين آخرين ، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لهم : « ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى فقال لهم : إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ » .
الثاني : أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير ، فخافوا ، وشَقَّ عليهم ذلك ، لقِلَّة عددهم ، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد ، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة ، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف .