كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُم } ذلكم مبتدأ و « الله » خبره و « ربكم » خبر ثانٍ أو نعت لله . وقال الزخشري : ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسمالله صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و « ربكم » خبر لولا أن المعنى يأباه وردهُ أبو حيان بأن « اللَّهَ » علم لا جنس فلا يُوصَفُ به . ورد قوله إنّ المعنى يأباه قال : لأنه يكون قد أخبر عن المُشِار إليه بتلك الصفات أنه مَالِكُكُمْ ومُصْلِحُكُمْ .
فصل
المعنى ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فَطْرِ السَّمَواتِ والأرض وإرْسَالِ الأرواح وخَلْقِ الإنسان من ترابٍ وغيرذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها . ثم بين ما ينافي صفة الإلهية فقال : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } يعني الأصنام { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير }
قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } العامة على الخطاب في « تَدْعُونَ » لقوله : « رَبُّكُمْ » وعيسى وسَلاَّم ويعقوبُ - وتُرْوَى عن أبي عمرو - بياء الغيبة إمَّا على الالتفات وإمَّا على الانتقال إلى الإخبار . والفرق بينهما أن يكون في الالتفات المراد بالضميرين واحداً بخلاف الثاني فإنهما غَيْرَانِ و « يَمْلِكُونَ » هو خبر الموصول و « مِنْ قِطْمِير » مفعول به؟ و « مِنْ » فيه مزيدة والقطمير المشهور فيه أنه لُفَافَهُ النَّواة . وهو مَثَلٌ في القِلَّةِ كقوله :
4157- وَأبُوكَ يخْصِفُ نَعْلهُ مُتَوَرِّكاً ... مَا يَمْلِكُ المِسْكِينُ مِنْ قِطْمِير
وقيل : هو القُمْعُ وقيل : ما بين القُمْع والنَّواة وقد تقدم أن النَواةَ أربعة أشياء يضرب بها المثل في القِلَّة : الفتيل وهو ما في شقِّ النَّواة ، والقطمير وهو اللفافة والنَّفيرُ والثفروقُ وهو ما بين القُمْعِ والنَّواةِ .
قوله : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } يعني الأصنام « وَلَو سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ » وهذا إبضال لما كانوا يقولون : إن في عبادة الأصنام عزّة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقلا مجيباً لهم : إن هؤلاء لا يسمعون كما تظنون فإنهم كانوا يقولون : إن الأصنام تسمع وتعلم ولكن لا يمكنهم أن يقولون بأنها تجيب لأن ذلك إنكار للمحسوس فقال : { َلَوْ سَمِعُواْ } كما تظنون « مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ » .
قوله : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي يَتَبرءُون منكم ومن عبادتكم إيَّاها ويقولون « مَا كُنْتُم إيَّانا تَعْبُدُونَ » واعلم أنه لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع فيهم في الآخرة ووجود الضرر منهم في القيامة بقوله : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم } أي بإشراككم بالله غيره وهذا مصدر مضاف لفاعله ثم قال : { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } يعني نَفْسَهُ أي لا ينبئك أحدٌ مثل خبير عالم بالأشياء وهذا الخطاب يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون خطاباً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووجه أن الله تعالى لما أخبر أن الخَشَبَ والحَجَرَ يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك ما لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخْبَار الله تعالى عنه بقوله : « إنهم يكفرون بهم يوم القيامة » فهذا القول مع كون المُخْبَر عنه أمراً عجيباً قال إن المخبر عنهَ خبير .
والثاني : أن ذلك الخطاب غير مختص بأحد أي هذا الذي ذكر هو كما ذكر ولا يُنْبئُك أَيُّها السَّامِعُ كائناً من كنت مثْلَ خبير .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
قوله : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } ( أي ) إلى فضل الله . والفقير هو المحتاج « وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ » عن خلقه « الحَمِيدُ » أي المحمود في إحسانه إليهم . واعمل أنه لما كثر الدعاء من النبي - عليه السلام- والإصرار من الكفار قالوا إن اللَّهَ لعله محتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمراً بالغاً ويهددنا على تركها مبالغاً فقال الله . { أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني } فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم .
فصل
التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر يعلمه المخبر أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به ثم إنَّ المبتدأ لا بدّ وأن يكون معلماً عند السامع حتى يقول له : أيها السامع الأمر الذي تعرفه ثَبَتَ له قيامٌ لا علم عندك به فإن الخبرَ معلوم عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر تنبيهاً لا تفهيماً فإنه يحسن تعريف الخبر كقول القائل : « اللَّهُ رَبُّنَا ومُحَمَّدٌ نَبِيُّنَا » حيث عرف كون الله ربنا وكون محمد نبينا وههنا لما كان الناس فقراء أمراً ظاهراً لا يخفى على أحد قال : « أَنْتُم الفُقراء » وقوله : « إلى الله » إعلام بأنه لا افتقارَ إليه ولا اتِّكال إلا عليه . وهذا يوجب عبادته لكونه مُفْتَقَراً إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره ثم قال : { والله هُوَ الغني } أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم مع احتياجكم لا تجيبونه .
قوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } وهذا بيان لِغناه وفيه بلاغة كاملة لأن قوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إنْ شَاءَ فُلاَنٌ هَدَمَ دَارَهُ وإنما يقال : لَوْلاَ حَاجَةُ السُّكْنَى على الجار لِبعْتُها ، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } يعني إن كان يتوهم متوهم أنَّ هذا الملك كمال وعظمه فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا ( وأجْمَلَ ) .
{ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } أي الإذهاب والإتيان . واعمل أن لفظة « العزيز » استعمله الله تارة في القائم بنفسه فقال في حق نفسه : { وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } [ الأحزاب : 25 ] وقال في هذه السورة : « عَزِيزٌ غَفُورٌ » واستعملة تارة في القائم بغيره فقال : { وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } وقال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين؟ فنقول : العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخصٌ يقال : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله : « وما ذلك على الله بعزيز » أي ذلك الفِعل لا يغلبه بل هو هَيِّنٌ على الله وقوله :
{ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } [ التوبة : 128 ] أي يحزنه ويؤذيه كالشُّغْل ( الشَّاغِل ) الغَالِبِ .
قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } أي نَفْسٌ وازة بحذف الموصوف للعمل به . ومعنى « تَزِرُ » تحمل ، أي لا تحمل نَفْسٌ حاملةٌ حِمْلَ نَفْسٍ أخرى .
قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي نفس مثقلة بالذنبو نفساً إلى حملها فحذف المفعول به للعلم به . والعامة « لا يُحْمَلُ » مبنياَ للمفعول و « شَيْءٌ » قائم مقام الفاعل ، وأبو السَّمَّال وطلحةُ- وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاء من فوق وكسر الميم أسند الفعل إلى ضمر النفس المحذوفة التي هي مفعولة « لِتَدْعُ » أي لا تَحْمِلُ تلك النفسُ الدَّعْوَة ( و ) شيئاً مفعول « بلاَ تَحْمِلْ » .
قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي ولو كان المَدْعو ذَا قُرْبَى ، وقيل التقدير ولو كان الدَّاعِي ذَا قربى ، والمعنيان حَسَنَان ، وقرئ : « ذُو » بالرفع على أنها التامة أي ولو حَضَرَ ذُو قُربى نحوك قَدْ كان من مَطَرْ ، { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] قال الزمخشري : ونظم الكلام أحسن ملاءمةً للنَّاقِصَةِ لأن المعنى على أن المثقلة إذا دعت أحداً إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان مَدْعُوهَا ذا قربى وهو ملتئم ولو قلت : ولو وُجِدَ ذو قربى لخرج عن التئامه ، قال أبو حيان : وهو ملتئم على المعنى الذي ذكرناه قال شهاب الدين : والذي قال هو ولو حضر إذْ ذاكَ ذُو قربى ثم قال : وتفسيره « كان » وهو مبني للفاعل ب « وُجِدَ » وهو مبني للمفعول تفسير معنى والذي يفسر النَّحْويُّ به كان التامة نحو : حَدَثَ وحَضَرَ ووَقَعَ .
فصل
المعنى وإنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ بذنوبها غيرَها إلى حِمْلها أي يَحَمِلُ ما عليه من الذنوب لا يُحْمَل منْه شَيْءٌ ولو كان المَدْعو ذا قَرَابة له ابنَة أو أبَاه أو أمَّة أو أَخَاه . قال ابن عباس : يَلْقَى الأبُ أو الأمُّ ابنه فيقول يا بني احْمِلْ عني بَعْضَ ذُونُوبي فيقول لا أستطعي حَسْبِي ما عَلَيَّ .
قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } ولم يروه . قال الأخفش : تأويله إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم بالغيب .
قوله : « بالغيب » حال من الفاعل أي يَخْشَوْنَه غائبين عنه . أو من المفعول أي غائباً عنهم وقوله : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة } في المعنى .
قوله : { وَمَن تزكى } قرأ العامة « تَزَكَّى » تَفَعَّلَ « فَإنما يَتَزَكَّى » يتفعل . وعن أبي عمرو « ومَنْ يَزَّكَّى فَإنَّما يَزَّكَّى » والأصل فيهما يَتَزَكَّى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في الدال نحو « يَذَّكَّرُونَ » في « يتَذَكَّرُونَ » وابن مسعود وطلحة : « وَمَن ازَّكَّى » والأصل تَزَكَّى فأُدغِمَ ( باجْتلابِ همزة الوصل « فَإنَّمَا يَزَّكَّى » أصله « يَتَزكَّى فأُدْغِمَ » كأبي عمرو في غير المشهور عنه .
فصل
معنى « ومَنْ تزكَّى » صلى وعمل خيراً « فإنَّما يَتَزكَّى لِنَفْسِهِ » لها ثوابه « وَإلَى اللَّهِ المَصِيرُ » أي التزكي إن لم تظهر فائدته عاجلاً فالمصيرُ إلى الله يظهر عنده يوم القيامة في دار البقاء . والوازرُ إنْ لم تظخر تبعةُ وِزْرِهِ في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصيرُ إلى الله . ثم لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر وهدى الله المؤمن ضرب له مثلاً بالبصير والأعمى فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعْمَى .
قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } استوى من الأفعال التي لا يكتفي فيها بواحد لو قلت : اسْتَوَى زيدٌ لم يصح فمن ثَمَّ لزم العطف على الفاعل أو تعدده و « لا » في قوله : { وَلاَ الظلمات } إلى آخره مكررة لتأكيد النفي وقلا ابن عطية : دخول « لا » إنما هو على نية التكرار كأنه قال : ولا الظلمات والنور والظلمات فاستغنى بذكر الأوائل عن الثَّوَانِي ودل مذكور الكلام على متروكه؟ قال أبو حيان : وهذا غير محتاج إليه لأنه إذا نفي استؤاءهما أولاً فأي فائدة في نفي استوئهما ثانياً؟ وهو كلام حسن إلا أن أبا حيان هنا قال : فدخول « لا » في النفي لتأكيد معناه كقوله : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } [ فصلت : 34 ] وللناس في هذه الآية قولان :
أحدهما : ما ذكر .
والثاني : أنها غير مؤكدة إذ يراد بالحسنة الجنس وكذلك السَّيِّئة فكل واحد منهما متفاوت في جنسه لأن الحسان درجات متفاوتة وكذلك السيئات وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى . فعلى هذا يمكن أن يقال بهذا هنا في الظاهر؛ إذ المراد مقابلة هذه الأجناس بعضها ببعض لا مقابلة بعض أفراد كل جنس على حدته ويرجح هذا الظاهر التصريح بهذا في قوله أولاً : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } حيث لم يكررها وهذا من المواضع الحسنة المفيدة . « والْحَرُورُ » شدة حر الشمس وقال الزمخشري : الحرور السَّمُوم إلا أنّ السًّمُومَ بالنهار والحرور فيه وفي الليل قال شهاب الدِّين : وهذا مذهب الفراء وغيره . وقيل السموم بالهار والحرور بالليل خاصة . نقله ابن عطية عن رؤبة . وقال : ليس بصحيح بل الصحيح ما قال الفراء . وهذا عجيب منه كيف يرد على أصحاب اللِّسان بقول من يأخذ عنهم؟ وقرأ الكسائي - في رواية زَاذَانَ - عنه « وَمَا تَسْتَوِي الأَحْيَاُْ » بالتأنيث على معنى الجماعة . وهذا الأشياء جيء بها على سَبيل الاستعارة والتمثيل فالأعمى والبصير الكافر والمؤمن والظلمات والنور الكفر والإيمان والظَّلُّ والحَرُورُ الحقُّ والباطل والأحياء والأموات لم دخل في الإسلام ولمن لم يدخل فيه . وجاء ترتيب هذه المَنْفِيَّات على أحسن الوجوه فإنه تعالى لما ضرب الأعمى والبصير وإن كان حديد النظر لا بدّ له من ضوء يبصر فيه وقدم الأعمى؛ لأن البصير فاصلة فحسن تأخيره ولما تقدم الأعمى في الذكر ناسب تقديم ما هو فيه فلذلك قدمت الظلمة على النور ولأن النور فاصل .
ثم ذكر ما لكلّ منهما فللمؤمن الظل وللكافر الحرور ، وأخّر الحرور لأجل الفاصلة كما تقدم . وقولنا : لأجل الفاصلة هنا وفي غيره من الأماكن أحسن من قيل بعضهم لأجل السجع لأن القرآن يُنَزّه عن ذلك . وقد منع الجمهور أن يقال في القرآن سجع ، وإنما كرر الفعل في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء } مبالغة في ذلك لأن المنافَاةَ بين الحياة والموت أتم من المنافاة المتقدمة وقدم الأحياء لشرف الحياة ول يُعِد « لا » تأكيداً في قوله الأعمى والبصير وكررها في غيره لأن منافة ما بعده أتمّ فإن الشخص الواحد قد يكون بصيراً ثم أعمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف يخلاف الظِّلِّ والحَرُور والظلمات والنور فإنها متنافية أبداً لا تجتمع اثنان منهما في مَحَلِّ فالمنافاة بين الظل والحرور وبين الظلمة والنور دائمةٌ .
فإن قيل : الحياةُ والموت بمنزلة العَمَى والبَصَر فإن الجسم قد يكون متصفاً بالحياة ثم يتصف بالموت!
فالجواب : أن المنافة بينهما أتم من لامافة بين الأعمى والبصير لأن الأعمى والبصير يشتركان في إدراكات كثيرة ولا كذلك الحي والميت فالمنافة بينهما أتمّ . وأفرد « الأعمى والبصير » لأنه قابل الجِنْسَ بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العُمْيَان ما يساوي بعض أفراد البُصَراء كأعمى ذكي له بصيرة يساوي بصيراً بليداً فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأَفْرَادِ .
وجمع الظلمات لأنها عبارة عن الكفر والضلال وَطُرُقُهُمَا كثيرة متشعبة . ووحد النور لأنه عبارة عن التوحيد وهو واحد فالتفاوت بين كل فرد من أفراد الظلمة وبين هذا الفرد الواحد والمعنى الظلمات كلها لا تجد فيها ما يساوي هذا الواحد قال شهاب الدين : كذا قيل . وعندي ( أنه ) ينبغي أنْ يقال : إن هذا الجمع لا يساوي هذا الواحد فنعلم انتفاء مساواة ( فردٍ منه ) ( لِ ) هذا الواحد بطريق أولى وإنما جمع الأحْيَاءَ والأموات لأن التفاوت بينهما أكثر إذ ما من ميِّتٍ يساوي في الإدراك حيًّا فذكر أن الأَحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس أم الفرد بالفرد .
فصل
قال ابن الخطيب : قدم الأشْرَف في مثلين وهو الظّل والحيّ وأخّره في مثلين وهو البصر والنور في مثل هذا يقول المفسرون : إنه لتواخر الآيات . وهذا ضعيف لأن تواخي الأواخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بلغة المعنى فيه ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملاً له على تغيير المعنى وأما القرآن فحكمة بالغة المعنى فيه صحيح واللفظ يصح فلا يقدم ويؤخر اللفظ بلا معنى فنقول : الكفار قبل النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام- وبين الحق واهندى به منهم قوم فصاروا بَصِيرينَ وطريقتم كالنُّور فقالك « لاَ يَسْتَوِي » من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- والكافر قبل المؤمن قدم المقدم .
ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله - عليه ( الصلاة و ) السلام- في الإلهيات : « سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي » ثم إن الكافر المصر بعد البعث صار أضلَّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء } أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تُلِيَتْ عليهم تُلِيَتْ عليهم الآياتُ البينات ولم نتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد الإيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين . وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الصالِّين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بها .
فصل
قال المفسرون : « وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِرُ » ( يعني ) الجاهل والعالم . وقيل الأعمى عن الهدى والبصير بالهدى أي المؤمن والمشرك « وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ » يعني الكفر والإيمان « وَلاَ الظِّلُّ ولا الحَرُورُ » يعني الجنة والنار « ومَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ » يعني المؤمنين والكفار . وقيل : العملاء الجهال . « إنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ » حتى يتعظ ويجيب « ومَا أَنْتَ إلاَّ نَذِيرٌ » ما أنت إلا منذر فخوِّفْهُم بالنار .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
قوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً } لما قال : إن أنت إلا نذير بين أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله تعالى وإرساله .
قوله : { بالحق } يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أنه حال من الفاعل أيْ أَرْسَلْنَاكَ مُحِقِّين . أو من المفعول أي مُحِقًّا أو نعت لمصدر محذوف أي إرسالاً ملتبساً بالحق . و متعلقٌ بِبَشِيرٍ ونذير ، قال الزمخشري : بشيراً بالوعد ونذيراً بالوعيد الحق .
قال أبو حيان : ولا يمكن أن يتعلق « بالحق » هذا ببشيراً ونذيراً معاً بل ينبغي أن يتأول كلامه على أنه أراد أَنَّ ثَمَّ محذوفاً والتقدير : بشيراً بالوَعْدِ الحَقِّ ونذيراً بالوَعِيدِ الحَقِّ ، قال شهاب الدين : قد صرح الرجلُ بهذا .
قوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ } أي وما مِنْ أُمَّة فيما مضى . وقوله : { إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ومعنى « خَلاَ » أي سلف فيها نذير نبي منذر . وحذف من هذا ما أثبته في الأول ، إذ التقدير : إلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ .
قوله : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر } أي الكتب « وبالْكِتَابِ المُنِير » أي الواضح . وكرر ذلك الكتاب بعد ذكر الزبر على طريق التأكيد . وقيل : البينات المعجزات ، والزبر : هي الكتب الموافقة للحكمة الإليهة وهي المحتملة للنسخ . وهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث يعلم أن غيره كان مثلَه مُحْتَمِلاً لأذى القوم وأن غيره أيضاً أتاهم بمثل ذلك فكذبوه وآذَوهُ وصبروا على تكذيبهم « ثُمَّ أَخذتُ الِّذِين كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِير » ؟ وهذا سؤال تقرير فإنهم علموا شدة إ ، كار الله عليهم واستئصالهم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } قيل : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه حمكة وهي أن اله تعالى لما ذكر الدلائل ولم ينتفعوا قطع الكلام منهم والنعت إلى غيرهم كما أن السيد إذا نصح بعض عبيده ولم ينزجر يقول لغيره : اسمع ولا تكمن مثل هذا . ويكرر معه ما ذكره للأول ويكون فيه إشْعار بأنه الأول فيه نقيصه لا يصلح للخطاب فينبّه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة وأيضاً فلا يخرج إلى كلام أجنبيِّ عن الأول بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاماً آخر فيترك التفكر فيهما كان من النصيحة .
قوله : { فَأَخْرَجْنَا } هذا التفات من الغيبة إلى التكلم وإنما كان كذلك لأن المنة بالإخراج أبلغ من إنزال الماء و « مُخْتلِفاً » نعت « لَثَمَرَاتٍ » و « ألوانها » فاعل به ولولا لأنَّث « مختلفاً » ولكنه لما أسند إلى جميع تكسير غير عاقل جاز تذكيره ولو أنت فقيل مختلفة كما يقول اختلفتْ ألوانُها لجاز . وبه قرأ زيدُ بن علي .
قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } العامة على ضم الجيم وفتح الدال جمع « جُدَّةٍ » وهي الطريقة قال ابن بحر : قِطَعٌ من قولك : جَدَدْتُ الشَّيْءَ قَطَعْتُهُ وقال أبو الفضل الرازي : هي ما يخالق من الطرائق لون ما يليها ومنه جُدّة الحمار للخط الذي في ظهره وقرأ الزُّهْرِيُّ جُدُد بضم الجيم والدال جمع جَدِيدَةٍ يقال : جَدِيدَة وجُدُد وجَدَائِدُ ، قال أبو ذؤيب :
4158- ... جَوْنُ السَّرْاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ
نحو : سِفِينةٍ وسُفُنٍ وسَفَائِنَ . وقال أبو الفضل : جمع جديد بمعنى : آثار جديدة واضحة الألوان وعنه أيضاً جَدَدٌ بفتحهما ، ورد أبو حاتم هذه القراءة من حيث الأثَرِ والمعنى وقد صححها غيره وقال : الجَدد الطريق الواضح البيِّن ، إلا نه وضع المفرد موضع الجمع إذ المراد الطرائق والخطوط .
قوله : { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } مختلف صفة « لجُدَد » أيضاً ، « ألوانها » فاعل به كما تقدم في نظيره ولا جائز أن يكون « مُخْتَلِفٌ » خبراً مقدماً و « ألوانها » مبتدأ مؤخر والجملة صفة؛ إذ كان يجب أن يقال مختلفة لِتَحَمُّلِهَا ضمير المبتدأ وقوله : { أَلْوَانُهَا } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن البياض والحمرة يتفاوتان بالشدة والضعف فرُبَّ أبْيَضَ أشدَّ من أبْيَضَ وأحْمَرَ أشدَّ من أحْمَرَ فنفيس البياض مختلف وكذلك الحمرة فلذلك جمع ألوانها فيكون من باب المُشْكِل .
والثاني : أن الجُدَد كلها على لونين بياض وحرمة فالبياض والحرمة وإن كان لونين إلا أنهما جمعا باعتبار مَحَالِّهِمَا .
قوله : { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه معطوف على « حُمْرٌ » عطفُ ذِي لَوْنٍ على ذِي لَوْنٍ .
والثاني : أنه معطوف على « بيض » .
الثالث : أنه معطوف على « جدد » ، قال الزمخشري : معطوف على بيض ( أَ ) وعلى « جدد » كأنه قيل : ومن الجبال مُخَطّط ذُو ومنها ما هو على لون واحدٍ . ثم قال : ولا بد من تقدير حذف مضاف في قوله : « ومن الجبال جدد » بمعنى ومن الجبال ذُو جُدَد بيضٌ وحمرٌ وسودٌ حتى يؤول إلى قول : وَمِنَ الْجِبَالِ مختلف ألوانها « كما قال { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } ولم يذكر بعد غرابيب سود ( مختلفاً ألوانها ) كما ذكر ذلك بعد » بيض وحمر « لأن الغِرْبِيبَ هو البَالِغُ في السواد فصار لوناً واحداً غير متفاوت بخلاف ما تقدم .
وغرابيب : جمع غِرْبيب وهو الأسود المتناهي في السواد .
فهو تابع للأسود كقانٍ وناصع وناضر ويَقَقٍ ، فمن ثم زعم بعضهم أنه في نية التأخير ومن مذهب هؤلاء أنه يجوز تقديم الصة على موصوفها وأَنْشَدُوا :
4159- والْمُؤْمِنِ العَائِذَاتِ الطَّيْرِ يَمْسَحُهَا .. . . .
يريد : والمؤمن الطيْرَ العَائِذَاتِ ، وقول الآخر :
4160- وبالطَّوِيل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا .. .
يريد : وبالعمر الطويل . والبصريون لا يرون ذلك ويخرجون هذا وأمثاله على أن الثَّاني بدلٌ من الأول » فسودٌ والطيرُ والعمرُ « أبدالٌ مما قبلها وخرَّجها الزَّمَخْشَريُّ وغيرهُ على أنه حذف الموصوف وقامت صفته مَقَامه وأن المذكور بعد الوصف دال على الموصوف قال الزمخشري : الغِرْبيبُ تأكيد للأسود ومن حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك أصفرُ فاقعٌ وأبيضُ يَقَق ، ووجهه أن يضمر المؤكد قبله فيكون الذي بعده تفسيراً لما أضمر كقوله : » والْمؤْمِن العَائِذَات الطَّير « وإنما يفعل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار ، يعني فيكون الأصلُ وسودٌ غرابيبُ سود والمؤمن الطير العائذات الطير . قال أبو حيان : وهذا لا يصح إلا على مذهب من يُجَوِّز حذفَ المؤكد ومن النحويين من منعه وهو اختيار ابن مالك قال شهاب الدين : ليس هذا هو التوكيد المختلف في حذف مؤكده لأن هذا من باب الصّفة والموصوف ومعنى تسمية الزمخشري لها تأكيداً من حيث إنَّهَا لا تفيد معنى زائداً إنما تفيد المبالغة والتوكيد في ذلك اللون والنحويون قد سموا الوصف إذا لم يفد غير الأول تأكيداً فقالوا وقد يجيء لمجرد التوكيد نحو : { نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } [ ص : 23 ] و { إلهين اثنين } [ النحل : 5 ] والتوكيد المختلف في حذف مؤكده إنما هو في باب التوكيد الصَّنَاعِيّ .
ومذهب سيبويه جوازه ، أجاز : » مَرَرْتُ بأَخْوَيْك أَنْفُسُهَما « بالنصب والرفع على تقدير أَعْيُنِهِما أنْفُسِهما أو هُمَا أَنْفُسُهُمَا فأين هذا من ذاك إلا أنه يشكل على الزمخشري هذا المذكور بعد » غرابيب « ونحوه بالنسبة إلى أنه جملة مفسراً لذلك المحذوف وهذا إنما عهد في الجمل لا في المفردات إلا في باب البدل وعطف البيان فبأي شيء يسميه؟ والأولى فيه أن يسمى توكيداً لفظياً إذ الأصل سود غرابيب سود .
قوله : « مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ » « مُخْتَلِف » نعت لمنعوت محذوف هو مبتدأ والجار قبله خبره أي ومِنَ النَّاس صِنْفٌ أو نَوْغٌ مختلف ولذلك عمل اسم الفاعل كقوله :
4161- كَناطحٍ صَخْرَةً لِيَفْلِقَهَا .. .
وقرأ ابن السَّمَيْقَع ألوانها وهو ظاهر وقرأ الزهري « وَالدَّوَابِ » خفيفة الباء هرباً من التقاء ساكنين كما حرك أولهما في الضّالين وجانَّ .
فصل
قال ابن الخطيب في الآية لطائف الأولى : قوله : « أَنْزَلَ » وقال : « أَخْرَجْنَا » وفائدته أن قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } فإن كان جاهلاً يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله فلما كان ذلك أظهره أسنده إلى المتكلم . وأيضاً فإن الله تعالى لما قال إن الله أنزل علم الله بالدليل وقرب التفكير فيه إلى الله فصار من الحاضرين فقال : أخْرَجْنَا ، لقربه وأيضاً فالإخراج أتم نعمة من الإنزال ، لأن الإنزال لفائدة الإخارج فأسْنَدَ ( تعالى ) الأتمَّ إلى نفسه بصيغة المتلكم وما دونه بصيغة المخاطب الغائب . الثانية : قال تعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } كأَنَّ قائلاً قال : اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع ألا ترى أن بعض النباتات لا تَنْبُتُ ببعض البلاد كالزَّغْفَرَانِ فقال تعالى : اختلاف البِقاع ليس إلا بإرادة الله ( تعالى ) وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمرٌ ومواضع بيضٌ .
فإن قيل : الواو في « وَمِنَ الْجِبَالِ » ما تقديرها؟ هي تحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون للاستئناف كأنه تعالى قال : « أخْرَجْنَا بالماء ثمراتٍ مختلفة الألوان وفي الجبال جدد بيض دالة على القدرة الرادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار .
ثانيهما : أن تكون للعطف والتقدير وخُلِقَ مِن الجبال جددٌ » بِيضٌ « .
قال الزمخشري : أراد ذُو جُدَدٍ .
الثالثة : ذكر الجبال ولم يذكر الآية في ( الأرض ) كما قال في موضع آخر : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } [ الرعد : 4 ] مع أن هذا الدليل مثل ذلك وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ } كان نفس إخراج الثِّمار دليلاً على القدر ثمر زاد عليه بيناناً وقال : » مختلفاً « كذلك في الجبال في نفسها دليل القدرة والإرادة لكن كون الجبل في بعض نواحي الأرض دون بعضها وكون بعضها أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار . ثم زاد بياناً وقال : » جُدَدٌ بِيضٌ « أي دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف ألوانها دليل .
الرابع : قوله : » مُخْتَلِفاً ألوانها « الظاهر أن الاختلاف راجعٌ إلى كل لون أي بيض مختلف أولانها وحمر مخلتف ألوانها لأن الأبيض قد يكون على لون الجِصّ وقد يكون على لون التُّراب الأبيض وبالجلمة فالأبيض تتفاوت درجاته في البياض وكذلك الأحمر تتفاوت درجاته في الحمرة ولو كان المراد البيض والحُمْر مختلف الألوان لكان لمجرد التأكيد والأول أولى .
وعلى هذا ذكر « مختلفٌ ألوانها » في البيض والحمر وأخر « السود الغرابيب » لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغِرْبيب يكون بالغاً غايةَ السواد فلا يكون فيه اختلافٌ .
قوله : { وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام } استدلال آخر على قدرة الله إرادته فكان تعالى قسم الدلائل دلائل الخلق في هذا العالم وهو عالم المركبات قسمين حيوان وغير حيوان وهو إما نبات وإما معدِن والنبات أشر فأشار إليه بقوله : { فَأخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ } ثم ذكر المعدن بقوله : { وَمِنَ الجبال } ثم ذكرالحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال : « ومن الناس » ثم ذكر الدواب ، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها أو لأن الدابة في العرف تُطْلَقُ على الفَرَس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره . وقوله : « مختلف ألوانه » القول فيه كما تقدم أنها في أنفسها دلائل كذلك باختلافها دلائل . وقوله : « مختلف ألوانه » مذكراً؛ لكون الإنسان من جملة المذكرو فكان التذكير أولى .
قوله : { كَذَلِكَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بما قبله أي مُخْتَلِفٌ اخْتِلاَفاً مِثْلَ الاختلاف في الثَّمرات والجُدَد والوقف على « كَذَلِكَ » .
والثاني : أنه متعلق بما بعده والمعنى مثل ذلك المطر والاعتبار بمَخْلُوقات الله واختلاف ألوانها يخشى اللَّهَ العلماءُ . وإلى هذا نحا ابنُ عَطِيَّةَ . وهو فاسد من حيث إن ما بعد « إنَّمَا » مانع من العمل فيها قبلها وقد نَصَّ أبو عمرو الدَّانِيُّ على أن الوقف على « كذلك » تام . ولم يحك فيه خِلاَفاً .
قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله } العامة على نصب الجلالهِ ورفع « العلماء » وهي واضحة . وقرأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزَ وأَبُو حَنِيفَةَ - فيما نقله الزمخشريّ - وأبو حيوة - فيما نقله الهذلي في كامله - بالعكس . وتُؤُوِّلَتْ على معنى التعظيم أي إنما يعظم اللَّهُ من عباده العلماء وهذا القراءة شبيهة بقراءة : « وإذا ابْتَلَى إبْرَاهِيمُ رَبَّهُ » برفع إبْرَاهِيمَ ونصب « رَبَّهُ » .
فصل
قال ابن عباس : إنما يخافُني مِنْ خَلْقي من عَلِمَ جَبَرُوتِي وعِزَّتِي وسُلْطَاني . واعلم أنَّ الخشيبة بقدرمعرفة المخشي والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه . وهذا دليل على أنَّ العالمَ أعلى درجةً من العابد؛ لقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] بين أن الكرامة بقدر التقوى والتقوى بقدر العلم لا بقدر العلم قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « وَاللَّهِ إنِّي لأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً » وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً » وقال مسروق : كفى بخشية عِلماً وكفى بالاغترار بالله جهلاً . ثم قال : { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } أي عزيز في ملكه غفور لذنوب عباده فذكر ما يوجب الخوف والرجاء فكونه عزيزاً يوجب الخوف ورفع الجلالة تقدَّم معناه .
قوله : { إِنَّ الذين يَتْلُونَ } في خبر « إن » وجهان :
أحدهما : الجملة من قوله : { يَرْجُون } أي ( إنَّ ) التالِينَ يَرْجُونَ و « لَنْ تَبُورَ » صفة « تِجَارةً » و « لِيُوفِّيَهُمْ » متعلق « بِيَرْجُونَ » أوْ « بتَبُور » أو بمحذوف أي فَعَلُوا ذلك لِيَوفِّيَهم ، وعلى الوجهين الأولين يجوز أن تكون لام العاقبة .
والثاني : أن الخبر « إنَّه غَفُورٌ شَكُورٌ » ( و ) جوزه الزمخشري على حذف العائد أي غفور لهم وعلى هذا « فَيرجُونَ » حال من « أنْفَقُوا » أي أنْفَقَوا ذلك راجينَ .
فصل
المراد بالذين يتلون كتابا لله أي قراء القرآن لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه فقوله : { يَتْلُونَ كِتَابَ الله } إشارة إلى الذكر وقوله : { وَأَقَامُواْ الصلاة } إشارة إلى العل البدنيّ وقوله : { وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } إشارة إلى العمل الماليّ . وفي الآية حكمة بالغة وهي قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ } إشارة إلى عمل القلب . وقوله : { الذين يَتْلُونَ } إشارة إلى عَمَل اللِّسِّانِ وقوله : { وَأَقَامُواْ الصلاة } إشارة إلى علم الجوارح . ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقةٌ بجانب تعظيم الله وقوله : { وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } يعني الشفقة على خلقه . وقوله : { سِرّاً وَعَلاَنِيَة } حَثٌّ على الإنفاق كَيْفَما تهيأ فإن تهيأ سراً فذاك وإلاَّ فَعَلاَنِيَة ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء فإن ترك الخير مخافة ذلك هو عين الرياء ويمكن أن يكون المرار بالسِّرِّ الصدقة المطلقة وبالعلانية الزكاة فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب . « يرْجُونَ تِجَارةً » هي ما وعد الله من الثواب لَنْ تَبُورَ « لن تفسدّ ولن تَهْلِكَ » لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورهم « جزاء أعمالهم بالثواب » وَيزِيَدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ « قال ابن عباس : يني سوى الثواب ما لم تَرَ عَيْنٌ ولم تسمعْ أذن . ويحتمل أن يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة » إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ « قال ابن عباس : يغفر الذنب العظيم من ذنوبهم ويشكر اليَسَير من أعمالهم وقيل : غفور عند الإبطاء شكور عند إعطاء الزيادة .
قوله : { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } يعني القرآن وقيل : اللَّوح المحفوظ لما بين الأصل ( الأول ) وهو وجود الله الواحد بالدلائل في قوله : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح } [ الروم : 48 ] وقوله : { واللَّهُ ( الذي ) خَلَقَكُمْ } وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة فقال : { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الكتاب هُوَ الحق } .
قوله : { مِنَ الكِتَابِ } يجوز أن تكون للبيان كما يقال : » أَرْسَلَ إلَيَّ فُلاَنٌ مِنَ الثِّيَاب جُملَةً « وأن تكون للجنس وأن تكون لابتداء الغاية كما يقال : » جَاءَانِي كِتَابٌ مَنَ الأمير « وعلى هذا فاكتاب يمكن أن يراد به اللوح يعني الذي أوحينا إليك من اللوح المحفوظ إليك حق ، ويمكن أن يراد به القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليه من القرآن ويمكن أن تكون للتبعيض و » هُو « فصل أو مبتدأ و » مُصَدِّقاً « حال .
فصل
« هُوَ الحَقُّ » آكد من قول القائل : « الَّذِي أوْحَيْنَاحَقٌّ إلَيْكَ » من وجهين :
أحدهما : أن التعريف للخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكون نكرةً .
الثاني : أن الإخبار في الغالب يكون إعلاماً بثبوت أمر لا يعرفه السامع كقولنا : « زيد قاَمَ » فإن السامع ينبغي أن يكون عارفاً بزيد ولا يعرف قيامه فيخبره به فإذا كان الخبر معلوماً فيكون الإخبار للتنبيه فيعرِّفان باللاَّمِ كقولنا : « إنَّ زيداً الْعَالِمُ في هذه المدينة » إذا كان علمه مشهوراً وقوله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } من الكتب وهذا تقرير لكونه وحياً لأن النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام - لم يكون قارئاً كاتباً وأتَى ببيان ما في كتاب الله ولا يكون ذلك إلا بوحي من الله تعالى . أو يقال : إن هذا الوحي مصدِّقٌ لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن موجوداً لكذب موسى وعيسَى - عليهما ( الصلاة و ) السلام- علم جوازه وصدق ما تقدم في إنزال التوراة . وفي هذه لطيفة وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدِّقاً لما مضى ، لأن ما مضى أيضاً مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- ولم يجعل ما تقدم مصدقاً للقرآن لأن القرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي وأما ما تقدم فلا بدّ فيه من معجزة تُصَدَّقه ثم قال : « إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ » خبير بالبواطن بصير بالظواهر فلا يكون الوحي من الله باطلاً لا في الباطن ولا في الظاهر ويمكن أن يكون جواباً لقولهم إنّ القرآن لو ينزل على رجل من القريتين عظيم فقال : { إنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ خِبِيرٌ } يعمل بواطنهم وبصير يرى ظواهِرَهم فاختار مُحَمَّداً ولم يختر غيره كقوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } « الكتاب الذين اصطفينا » مفولا أوْرَثْنَا و « الكتابَ » هو الثاني قدم لشرفه إذ لا لبس وأكثر المفسرين على أن المراد بالكتاب القرآن . وقيل : المراد جنس الكتاب ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا وتجويز أن يكون ثم بمعنى الواو وأورثنا كقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] ومعنى أورثنا أعطينا لأن المثراث عطاء . قال مجاهد . وقيل : أورثنا : أخرنا ومنه الميراث لأنه أخر عن الميِّت ومعناه : أخرنا القرآن من الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهلناكم له .
قوله : { مِنْ عِبَادِنَا } يجوز أن يكون للبيان على معنى إنَّ المُصْطَفينَ هم عبادنا وأن يكون للتبعيض أي إنَّ المصطفين بعضُ عبادنا لا كلهم .
وقرأ أبو عِمْرَان الجَوْنِي ويعقوبُ وأبو عمرو - في رواية - سَبَّاق مثال مبالغة .
فصل
قال ابن عباس : يريد بالعباد أمة محمد- صلى الله عليه وسلم - ثم قسَّمهم ورتَّبهم فقال : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } وروى أسامةُ بن زيد في هذه الآية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم من هذه الأمة وروى أبو عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر « ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عنبادنا » الآية فقال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالمنا مَغْفُورٌ لَهُ .
وروى أبو الدَّرْداء قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية « ثُمَّ أُوْرَثنا الْكِتَاب » الآية وقال « أما السابق بالخيرات فيدخُلُ الجنةَ بغير حساب وأما المقتصد فيُحاسَبُ حساباً يسيراً وأما الظالم لنفسه فيجلسُ في المَقام حتى يدخله اللهم ثم يَدْخل الجنة ثم قرأ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أذْهِبَ عَنَّا الْحَزَنَ إنَّ لَغَفُورٌ شكُورٌ .
وقال عقبة بن صهبان : سألت عائشة عن قول الله - عزّ وجلّ - : أورثنا الكتاب الذين اصطفينا الآية . فقالت : يا بُنّيِّ كلُّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهد له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالخير وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحِقَ به وأما الظالم فمثلِي ومثلُكم . فجعلت نفسها معنا وقال مجاهد والحسن وقتادة : فمنهم ظالم لنفسه هم أصحاب المَشْأمة ، ومنهم مقتصد أصحاب المَيْمنَة ومنهم سابق بالخيرات السابقون المقربون من الناس كلهم . وعن ابن عباس قال : السابقُ المؤمن المخلص والمقتصد المرائي والظالم الكافر نعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة . وقيل : الظالم هو الرَّاجِحُ السيئات والمقتصد هم الذي تساوت سَيِّئَاتُهُ وحسناتُهُ والسبق هو الذي رَجَحَتْ حسناته . وقيل : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه والسابق من باطه خير من ظاهره . وقيل الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد هو الموحِّد الذي يمنع جوراحه من المخالفة بالتكليف والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد . وقيل : الظالم صاحب الكبيرة والمقتصد المتعلم والسابق العالم وقال جعفر الصادق : بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وأن الظالم لا يؤثر في الاصطفاء ، ثم ثنى بالمُقْتَصدِ لأنه بين الخوف ولارجاء ثم ختم بالسابق لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة . وقالأبو بكر الوراق : ربتهم على مقامات الناس لأن أحْوالَ العبدِ ثلاثةٌ معصيةٌ وغلفةٌ ثم توبةٌ ثم قرب فإذا عصى دخل في حَيِّز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين فإذا صحت له التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عِدَاد السابقين .
قويل غير ذلك وأما من قال : المراد بالكتاب جنس الكتاب كقوله : { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير } [ فاطر : 25 ] فالمعنى أنا أعطيناك الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء لأن لفظ المصفطى إنما يطلق في الأكثر على الأنبياء لا على غيرهم ولأن قوله : { مِنْ عِبَادِنَا } يدل على أن العباد أكابر مكرَّمون لأنه أضافهم إليه ثم المصطفين ( منهم ) أشرف ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالماً مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمى الشرك ظلماً .
فإن قيل : كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى ظالم مع أن الظالم يطلق على الكافر في كثير من المواضع؟
فالجواب : أن المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية قال- عليه ( الصلاة و ) السلام - : « لاَ يَزْنِي الزَّانِي حين يَزْني وَهُوَ مُؤْمِنٌ » الحديث . وقال آدمُ- عليه ( الصلاة و ) السلام- مع كونه مصطفى : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وأما الكافر فيضع قبله الذي به اعتماد الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق وأما قلب المؤمن فمطْمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكير في آلاَءِ الله ووجه آخر وهو أن قوله : « منهم » غيرُ راجع إلى الأنبياء المصطفين بل المعنى : إنّ الذي أويحنا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا وآتيناهم كتباً « ومنهم » أي ومن قومكم « ظالم » كَفَر بك وبما أنزل إليك ومقتصد أمر به ولم يأت بجميع ما أمر به المراد منه المنافق وعلى هذا لا يدخل الظالم في قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } وحمل هذا القائل الاصطفاء على أن الاصْطِفَاء في الخِلقة وإرسال الرسول إليهم وأنزل الكتاب . والذي عليه عامة أهل العلم أن المراد من جميعهم المُؤْمِنُونَ .
فصل
معنى سابق بالخيرات أي الجنة وإلى رحمة الله بالخيرات أي بالأعمال الصالحة بإذن الله أي بأمر الله وإرادته « ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبيرُ » يعني إيراثهم الكتابَ ، ثم أخبر بثوابهم فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } يعين الأصناف الثلاثة .
قوله : « جنات عدن » يجوز أن يكون مبتدأ والجملة بعدها الخبر ، وأن يكون بدلاً من « الفَضْلُ » قال الزمخشري وابن عيطة إلاَّ أنَّ الزمخشري اعرتض وأجاب فقال : فإن قلت : فكيف جعلت « جنات عدن » بدلاً من « الفضل » الذي هو السبق بالخيرات ( المشار إليه بذلك؟ قلت : لما كان السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب كأنه هو الثواب ) فأبدل عنه « جنات عدن » وقرأ زِرّ والزّهري جَنَّةٌ مفرداً والجَحْدَريُّ جناتِ بالنصب على الاشتغال وهي تؤيد رفعها بالابتداء وجوز أبو البقاء أن كون « جنات » بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإشارة وأن يكون خبر مبتدأ محذفو وتقدمت قراءة يَدْخُلُونَهَا للفاعل أو المعفول وباقي الآية في الحَجِّ .
فصل
قيل : المراد بالداخلين الأقسام الثلاثة . وهذا على قولنا بأنهم أقسام المؤمنين . وقيل : الذين يتلون كتاب الله وقيل : هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله : { يُحَلَّوْنَ } والمكرم هو السابق .
فإن قيل : تقديم الفالع على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقياً كقولنا : اللَّهُ الِّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ وقول القائل : زَيْدٌ بَنَى الجِدَارَ ، فإن الله موجود قبل كل شيء ثم له فعل هو الخلق ثم حصل به المفعول وهو السّموات وكذا زيد ثم البناء ثم الجدار من البناء وإذا لم يكن المفعول حقيقاً كقولنا : دخل الداخلُ الدار ، وضرب عمراً فإن « الدار » في الحقيقة ليس مفعولاً للداخل وإنما فعله متحقق بالنسبة إلى الدار وكذلك عمرو فعل ( من أفعال ) زيد تعلق به فسمي مفعولاً ولكن الأصل تقديم الفعل على المفعول ولهذا يعاد الفعلُ المقدّم بالضمير تقول : عَمْراً ضَرَبَهُ زَيْدٌ فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة فما الفائدة في تقديم « الجنات » على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكرها بالهاء في « يدخلونها » وما الفرق بني هذا و « بَيْنَ » قوله القائل : يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ؟
فالجواب : أن السامعَ إذا علم له مدخلاً من المداخل وله دخول ولم يعلم غير المدخل فإذا قيل له : أنت تَدْخُلُ مال إلى أن يسمع الدار والسوق فيبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون . فإذا قيل : « الدّارَ تَدْخُلُهَا » فيذكر الدار يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق بأنه له دخولاً يعلم الدخول فلا يبقى متعلق القلب ولا سيما الجنة والنار فإن بين المُدْخَلِين بوناً بعيداً .
قوله : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجاً لكان فيه تأخير المدخول فقال : { يَدْحُلُونَها } وفيها يقع تَحْلِيَتُهُمْ ، وقوله : « مِنْ أَسَاورَ » بجمع الجمع فإنه جمع « أسْوِرَة » وهي جمع « سِوَار » « مِنْ ذَهَبٍ ولُؤلؤاً » وقوله : { وَلِبَاسُهُمْ } أي ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس يدل على حاجة مَنْ دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل ( إلا ) على الغِنَى ، وذكر الأساور من بين سائر الحُلِيِّ في مواضع كثيرةٍ كقوله تعالى : { وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [ الإنسان : 21 ] وذلك لأن التحلي بمعنيّيْن :
أحدهما : إظهار كون المتحلّي غير مبتذل في الأشْغال لأن التحَلِّي لا يكون ( حَالُهُ ) حَالَةَ الطبخِ والغُسْلِ .
وثانيهما : إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء لأن التحلي إما بالآلِئَ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلِّي بالجواهر واللآلىء يدل على أن المُتَحَلِّي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكثيرة عند الحاجة حيث لم يعجز عن الوصول إلى الأشياء العزيزة الوجود لا لحاجة والتحلِّي بالذهب والفضة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع حاجَتِهِ وإذا عرف هذا فنقول : الأساوِرُ محلّها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور عُلِمَ الفراغُ من الأعمال .
قوله تعالى : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } قرأ العامة « الْحَزَنَ » يفتحتين وجَنَاحُ بني حُبَيْشٍ بضم الحاء وسكون الزاي . وتقدم من ذلك أول القصص والمعنى يقولون إذا دخلوا لجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن والحَزَنُ والحُزْنُ واحد كالبَخَلِ والبُخْلِ ، قال ابن عباس : حزن النار . وقال قتادة : حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنعن بهم . وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف ردِّ الطاعات وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة . وقيل : حزن أهوال يوم القيامة . وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة ، وقال سعيد بن جبير : الخبر في الدنيا . وقيل : هم المعيشة ، وقال الزجاج : أَذْهَبَ الله عن أهل الجنة كُلَّ الأحزان ما كان منها لمعاشٍ أوم معادٍ . وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام ) لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إليه إلاّ اللَّه وَحْشَةٌ في قُبُورِهمْ وَلاَ مَنْشَرِهِمْ وَكَأَنِّي بأَهِلِ لاَ إلَه إلاَّ اللَّهُ يَنْفُضُونَ التُّرابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقولُون : الْحَمْدُ لِلَّهِ الِّذِي أَذْهَبَ عنّا الْحَزَنَ ثُمَّ قَالُوا : إنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . ذكرالله عنهم أموراً كلها تفيد الكرامة : الأول ( أن ) الحمد لله فإن الحامد مثاب . الثاني : قولهم : رَبَّنَا فإن اللَّهَ ( تعالى ) إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادى اللّهم إلا أن يكون لامادي يطلب ما لا يجوزُ . الثالث : قوله : غفور شكور . والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحَمْدهم في الدنيا ، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة .
قوله : { الذي أَحَلَّنَا } أي أنزلنا « دارَ المُقَامَةِ » مفعول ثانٍ « لأَحَلَّنَا » ولا يكون ظرفاً لأنه مختص فلو كان ظرفاً لتعدي إليه الفعل بفِي والمُقَامَةُ الإقامة . والمفعول قد يجيء بالمصدر يقال : ما له مَعْقُول أي عَقْل . قال تعالى : { مُدْخَلَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] وكذلك المستخرج للإخراج لأن المصدر هو المفعول في الحقية فإنه هو الذي فعل ( فجاز إقامة المفعول مُقَامَهُ ) .
فصل
في قوله : { دَارَ المقامة } إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومن القبور إلى منزلة العَرَصَات التي فيها الجَمْع ومنها التفريق وقد يكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار البقاء وكذا النار لأهلها .
قوله : { مِن فَضْلِهِ } متعلق « بأَحَلَّنَا » و « من » إما لِلْعِلَّة وإما لابتداء الغاية ومعنى فضله أي يحكم وعدد لا بإيجاب من عنده .
قوله : { لاَ يَمَسُّنَا } حال من مفعول « أَحَلَّنَا » الأول والثاني ، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما وإن كان الحال من الأول أظهر والنَّصْبُ التَّعَبُ والمشقَّة ، واللُّغُوبُ الفُتُورُ النَّاشِيءُ عنه وعلى هذا فيقال إذا انتفى السَّبَبُ فإذا قيل : لم آكل فيعلم انتفاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل و ( في ) الآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب فما فائدته؟ وقد أجاب ابن الخطيب : بأنه بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن أماكنها على قسمين موضع يمس فيه المشاق كالبَرَاري وموضع يمس فيه الإعباء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار فقيل : لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ لأنها ليست مظانَّ المتاعب كدار الدنيا ولا يَمَسُّنَا فيها لغوب أي لا يخرج منها إلى مواضع يتعب ويرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وهذا الجواب ليس بذالك والذي يقال : إن النصب هو تعب البدن واللغوب تعب النفس . وقيل : اللغوب الوجع وعلى هذين فالسؤال زائل وقرأ عليُّ والسُّلَمِيُّ بفتح لام لغوب وفيه أوجه :
أحدهما : أنه مصدر على فَعُول كالقَبُول .
والثاني : أنه اسم لما يغلب به كالفَطُورِ والسَّحُور . قاله الفراء .
الثالث : أنه صفة لمصدر مقدر أي لا يَمَسُّنَا لُغُزبٌ لَغُوبٌ نحو : شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ وقيل : صفة لشيء غير مقدار أي أمرٌ لَغُوب .
قوله : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } عطف على قوله : { إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله } [ فاطر : 29 ] وما بينهما كلام يتعلق { بالَّذين يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } على ما تقدم .
قوله : { فَيَمُوتُوا } العامة على نصبه لحذف النوف جواباً للنفي وهو على أحد مَعْنَيين نَصْبِ : « مَا تَأتِينا فَتُحَدِّثَنَا » أي ما يكون منك إتيان ولا حديثٌ . انتفى السبب وهو الإتيان فانتفى مسببه وهو الحديث . والمعنى الثاني : إثابت الإتيان ونفي الحديث أي ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ محدث . وهو لا يجوز في الآية البتّة وقرأ عيسى والحسن « فَيَموتُونَ » بإثبات النون قال ابن عطية : وهي ضعيفة قال شهاب الدين وقد وَجَّهَهَا المَازِنيُّ على العطف على « لاَ يُقْضَى » أي لا يُقْضَى عليهم فلا يموتون . وهو أحد الوجهين في معنى الرفع في قولك : مَا تَأتِيناً فَتُحَدِّثُنَا أو انتفاء الأمرين معاً كقوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المراسلات : 36 ] أي فَلاَ يَعْتَذِرُونَ . و « عَلَيْهِمْ » قائمٌ مَقَامَ الفالع وكذلك « عَنْهُمْ » بعدَ « يُخَفِّفُ » ويجوز أن يكون القائم « مِنْ عَذَابِهَا » و « عَنْهُمْ » منصوب المحل ، ويجوز أن يكون « مِنْ » مزيدةً عند الأخفش فيتعين قيامه مقام الفاعل لأنه هو المفعول به وقرأ أبو عمرو - في روايةٍ- ولا يُخَفِّفْ بسكون الفاء شبه المنفصل بعَضْدٍ كقوله :
4162- فَالْيوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ..
فصل
{ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } أي لا يَهْلِكُون فيستريحوا كقوله : { فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } [ القصص : 15 ] أي قَتَله . لاَ يَقْضِي عليهم الموت فيموتوا كقوله : { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] أي الموت فنستريح بل العذاب دائم « ولا يخفف عنهم من عذابها أي من عذاب النار . وفي الآية لطائف :
الأولى : أن العذاب في الدنيا إن دام قتل وإن لم يَقْتُلْ يَعْتَادُهُ البدن ويصير مِزَاجاً فاسداً لا يحسّ به المعذب فقال عذاب نار الآرخرة ليس كعذاب الدنيا إما أن يفني وإما أن يألَفَهُ البَدّنُ بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم .
الثانية : دقيق العذاب بأنه لا يفتر ولا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنوه ولا يُجَابُون كما قال تعالى : { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] أي بالموت .
الثالث : ذكر في المعذبين الأشقياء بأنه لا ينقصُ عذابهم ولم يقل : يزيدهم ، وفي المثابين قال : { يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } .
قوله : { كَذلِكَ } إما مرفوع المحل أي الأمر كذلك ، وإما منصوبة أي مِثْلُ ذلِكَ الجَزَاءِ يُجْزَى وقرأ أبو عمرو » يُجْزَى « مبنياً للمعفول كُلُّ رفع به والباقون نَجْزِي بنون العظمة مبنياً للفاعل كُلَّ مفعول به . والكَفُور الكافر .
قوله : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ } يستغيثون ويصيحون » فِيهَا « وهو يَفْتَعِلُون من الصَّراخ وهو الصِّياح . وأبدلت الفاء صاداً لوقوعها قبل الطاء ، » يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرجْنَا مِنْهَا « من النار فقوله : » ربنا « على إضمار القول وذلك القول إن شئت قدرته فعلاً مفسراً ليَصْطَرِخُونَ أي يقولون في صراخهم كما تقدم وإن شئت قدرته حالاً من فالع » يصطرخون « أي قَائِلينَ ربَّنا .
قوله : { صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَل } يجوز أن يكونا نَعْتَيْ مصدر محذوف أي عملاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكونا نعتي مفعول به محذوف أي نعمل شيئاً صالحاً غير الذي كنا نعمل وأن يكون » صالحاً « نعتاً لمصدر و » غيرا لذي كنا نعمل « هو المفعول به . وقال الزمخشريُّ : فإن قلت : فهلا اكتفي بصالِحاً كما اكتفي به في قوله : فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً؟ وما فائدة زيادة غير الذي كنا نعمل؟ على أنه يوهم أنهم يعملون صلاحاً آخر غير الصالح الذي عملوه؟ قلتُ : فائدته زيادة التحسرّ على ما عملوه من غير الصالح مع الاعتراف به وأما الوهم فزائل بظهور حالهم في الكفر وظهور المعاصي ولأنهم كانوا يحسبون أنهم على سيرة صالحة كما قال تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] فقالوا : أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِجاً غَيْرَ الِّذي كُنَا نَحْسَبُهُ صَالِحاً قوله : » أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ « ( أي فيقول لهم توبيخاً : أو لم نعمركم أي عَمَّرْنَاكُمْ مِقْداراً يمكن التذكرُ فيه .
قوله : { مَّا يَتَذَكَّرُ } جوزوا في » ما « هذه وجهين :
أحدهما : ولم يحك أبو حيان غيره- : أنها مصدرية طرفية قال : أي مُدَّةَ تَذَكُّر ، وهذه غلط لأن الضمير ( في ) يمنع ذلك لعوده على » ما « ولم يَقُلْ باسمية ما المصدرية إلا الأخْفَشُ وابنُ السِّرِّاجِ .
والثاني : أنها نكرة موصوفة أي تَعَمُّراً يُتّذَكَّرُ فيه أو زماناً يُتَذَكَّرُ فيه . وقرأ الأعمش ما يذَّكَّرُ بالإدغام من « اذَّكَّر » قال أبو حيان : بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظاً بها في الدَّرج وهذا غريب حيث أثبت همزة الوصل مع الاستغناء عنها إلاَّ أَنْ يكون حافَظَ على سكون « من » وبيَان ما بعدها .
فصل
معنى قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } قيل : هو البلوغ . وقال قتادة وعطاء والكلبي : ثماني عشرة سنة وقال الحسن : أربعون سنة . وقال ابن عباس : ستون سنة . رُويَ ذلك عن عَلِيِّ وهو العمر الذي أَعْذَرَ الله إلى ابن آدم . قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « أعْذَرَ اللَّهُ إلَى آدَم امْرىءٍ أخَّر أَجَلَهُ حَتَّى بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً » وقال عليه ( الصَّلاَةُ و ) السلام- : « أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوز ذَلِكَ » .
قوله : { وَجَآءَكُمُ } عطف على « أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ » ؛ لأنه في معنى قَدْ عَمَّرناكُمْ كقوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ } [ الشعراء : 18 ] ثم قال : وَلَبِثْتَ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [ الشرح : 1 ] ثم قال : { وَوَضَعْنَا } [ الشرح : 2 ] إذْ هما في معنى رَبَّيْنَاك وشَرَحْنا ، والمراد بالنَّذير محمد - صلى الله عليه وسلم - في قول أكثر المفسرين . قويل : القرآن . وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع : هو الشيب والمعنى أو لم نعركم حتى شِبْتُم . ويقال : الشَّيْبُ نذير الموت . وفي الأثر : مَا مِنْ شَعْرَةٍ تَبْيَضُّ إلاَّ قَالَتْ لأُخْتِهَا : اسْتَعِدِّ ] فَقَدْ قَرُبَ الْمَوتُ وقرئ : النّذُر جمعاً .
قوله : { فَذُوقُواْ } أمر إهانة « فَمَا » لِلظّالِمينَ « الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها . » مِنْ نَصيرٍ « في وقت الحاجة ينصرهم ، و » من نصير « يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ مخبراً عنه بالجار قبله .
قوله : { إِنَّ الله عَالِمُ غَيْبِ السماوات والأرض } قرأ العامة عَالِمُ غَيْبِ على الإضافة تخفيفاً وجَنَاحُ بْنُ جبيش بتنوين عالم ونصبب ( غيب ) إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور . وهذا تقرير لدوامهم في العذاب وذلك من حيث إن الله تعالى لما أعلم أنّ جزاءَ السِّيئة سيئة مثلها ولا يزاد عليها فلو قال ( قائل ) : الكافر ما كفر بالله إلا أياماً معدودة فينبغي أن لا يعذَّب إلا مثل تلك الأيام فقال : غن اله لا يخفى عليه غيب السموات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تَمَكُّنَ الكُفْرِ لو دام إلى الإبد لما أطاع الله .
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قوله : { هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض } أي خلف بعضكم بضعاً وقيل : جعلكم أمة واحدة خلت من قبلها ما ينبغي أن يعتبر به فجعلكم خلائف في الأرض أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وترضون بحالهم ، فمن كفر بعد هذا كله « فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ » أي وبالُ كُفْرِهِ « وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرِهُمْ عِنْدَ رَبِّهْم إلاَّ مَقْتاً » أي عضباً لأن الكافر ( و ) السابق كان ممقُوتاً « وَلاَ يَزِيدُ الكَافِرينَ كُفْرُهُمْ إلاَّ خَسَاراً » أي الكفر لا ينفع عن الله حيث لاي يزد إلا المقت ولا ينفهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسار لأنه العمر كرأسِ ( مالٍ ) من اشترى به رضى اللَّهَ رِبحَ ومن اشترى به سخطه خَسِرَ .
قوله : { أَرَأَيْتُم } فيها وجهان :
أحدهما : أنها ألف استفهام على بابها ولم تتضمن هذه الكملة معنى أَخْبِرُوني بل هو استفهام حقيقي وقوله : « أَرُوني » أمر تعجيز .
والثاني : أَنَّ الاستفهام غير مراد وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبرُونِي . فعلى هذا يتعدى لاثنين :
أحدهم : شُرَكَاءَكُمْ
والثاني : الجملة الاستفهامية من قوله « مَاذَا خَلَقُوا » وَ « أَرُوِين » يحتمل أن تكون جملة اعتراضية .
والثاني : أن تكون المسألة من باب الإعمال فَإنَّ « أَرَأَيتُمْ » يطلب « مَاذَا خَلَقُوا » مفعولاً ثانياً و « أَ رُونِي » أيضاً يطلبه معلقاً له وتكون المسألة من باب إعمال الثاني على مُخْتَارِ البَصْرِيِّن ، و « أَرُوني » هنا بصريَّة تعدت للثاني بهمزة النقل والبصرية قبل النقل تعلق بالاستفهام كقولهم : « أَمَا تَرَى أيّ بَرْق هَهُنا » وقد تقدم الكلام على ( أن ) « أَرأَيْتُمْ » هذه في الأنعام وقال ابن عطية هنا : « أرأيتم » ينزل عند سيبويه منزلة أخبروني ولذلك لا يحتاج إلى مفعولين . وهو غلط بل يحتاج كما تقدم تقريره . وجعل الزمخشري الجملة من قوله « أَرُوني » بدلاً من قوله : « أرَأيتُمْ » قال : لأن المعنى أرأيتم أخبروني وردَّهُ أبو حيان بأن البدل إذا دخلت عليه أداة الاستفهام ( لا ) يلزم إعادتها في المبدل ولم تعد هنا وأيضاً فإبدال جملة من جملة لم يعهد في لسانهم قال شهاب الدين : والجواب عن الأول أن الاستفهام فيه غير مراد قطعاً فلم تعد أداته ، وأما قوله : لم يوجد في لسانهم فقد وجد ومنه :
4163- مَتَى تَأتِنَا تُلْمِمْ بِنَا . . . .
( و ) :
4416- إنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أنْ تُبَايِعَا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً وَتُجِيبَ طَائِعاً
وقد نص النحويون على أنه متى كانت الجملة في معنى الأول ومبينة لها أبدلت منها .
فصل
هذه الآية تقرير للتوحيد وإبطال للإشراك والمعنى جَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَائي بزعمكم يعني الأصنام « أرُوني » أخبروني « ماذا خلقوا من الأرض » فقال : « شركاءكم » فأضافهم إليهم من حيث إنَّ الأصنامَ في الحقيقة لم تكن شركاء لله وإنما هم الذين جعلوها شركاء فقال شركاءكم أي الشركاء بجعلكم .
ويحتمل أن يقال : معنى شركاءكم أي { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ويحتمل أن يكون معنى « أرأيتم » أي أعلمتم هذه الأصنام التي تدعونها هل لها قدرة أم لا؟ فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كنتم تعلمن أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء أهي في الأرض قال بعضهم : إن الله إله المساء وهؤلاء آلهة الأرض وهم الذين قالوا : أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها أم هي في السموات كما قال بعضهم : إن السموات خلقت باستعانة الملائكة شكراء في خلق السموات وهذه الأصنام صورها أم قدرتها في الشفاعة لكم كما قال بعضهم : « إنما نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إلى اللَّهِ زُلْفَى » فهل معهم كتاب من الله؟ قال مقاتل : هل أعطينا كفار مكة كتاباً فهم على بينة منه؟
قوله : { آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ } الأحسن في هذا الضمير أن يعود على « الشُّرَكَاء » ليتناسق الضمائر وقيل : يعود على المشركين كقول مقاتل فيكون التفاتاً من خطاب إلى غيبة وقرأ أبُو عمرو وحمزةُ وابنُ كثير وحفصٌ بيِّنة بالإفراد والباقون بيِّنَات بالجمع أي دلائل واضحة منه مِمَّا في ذلك الكتاب من ضُرُوبِ البَيَانِ .
قوله : { بَلْ إِن يَعِدُ } « إن » نافية والمعنى مايعد الظالمون { بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام . والغرورو ما يغر الإنسان ما لا أصل له ، قال مقاتل : يعين ما يَعِدُ الشيطان كفار بني آدم من شفاعة الآلهة في الآخرة غرور باطل .
قوله تعالى : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها بين أن الله قادر بقوله : إن الله يمسك السموات والأرض . ويحتمل أن يقال : لما بين شركهم قال : مقتضى شركهم زوال السموات والأرض كقوله تعالى : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90-91 ] ويؤيد هذا قوله في آخر الآية « إنَّ اللَّهَ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً » حليماً ما ترك تعذيبهم إلا حلماً منه وإلا كانوا يستحقون إسْقَاط السّماء وانطباق الأرض عليهم . وإنما أَخَّر إزالة السموات لقيام الساعة حكماً . ويحتمل أن يقال : إن ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب كأنه تعالى قال : شُرَكَاؤُكم مَا خَلَقُوا من الأرض شيئاً ولا من السماء جزءاً لا قدرة لهم على الشفاعة فلا عِبَادة لهم وهَبْ أنهم فعلوا شيئاً من الأشياء فهل يقدرون على إمْسَاكِ السموات والأرض ولا يمكنهم القول بأنهم يَقْدِرُون لأنهم ما كانوا يقولون ذلك كما قال تعالى عنهم : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] ويؤيد هذا قوله : { وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } فإذن تبين أن لا معبودّ إلاَّ الله من حيث إن غيره لم يخلق شيئاً من الأشياء وإن قال كافرٌ بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك .
قوله : { أَن تَزُولاَ } يجوز أن يكون مفعولاً من أجله أي كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولاَ وقيل : لئلا تزولا ويجوز أن يكون معفولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا كذا قدره أبو إسحاق ويجو أن يكون مفعولاً ثانياً على إسقاط الخافض أي يمنعهما من أن تزولا . كذا قدره أبو إسحاق ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي يمنع زَوَالَهُمَا .
قوله : { إِنْ أَمْسَكَهُمَا } جواب القسم الموطأ له بلام القسم وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم ولذلك كان فعل الشرط ماضياً . وقول الزمخشري : إنه سدّ مسد الجوابين يعني أنه دال على جواب الشرط .
قال أبو حيان؛ وإن أُخذ كلامه على ظاهر لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب من حيث إنه سد مسدّ جواب الشرط ولا موضع له من حيث إنه سد مسد جواب القسم ، والشيء الواحد لا يكون معمولاً غير معمول و « مِنْ أَحَدٍ » من مزيدة لتأكيد الاستغراق و « مِنْ بَعْدِهِ » من لابتداء الغاية والمعنى أَحَدٌ سواه « إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غفوراً » ، « حليماً » حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم « غفوراً » لمن تاب ويرحمه وإن إستحق العِقَابَ .
فإن قيل : ما معنى ذكر الحليم هَهُنَا؟ قيل : لأن السموات والأرض همت بما همت من عقوبة الكفار فأمسكهما الله - عزّ وجلّ- عن الزوال لحلمه وغفرانه أن يعاجلهم بالعقُوبة .
قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله } يعني كفار مكة لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قَالُوا لَعَنَ اللَّهُ اليهودَ والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم وأقسموا بالله وقالوا : « لو أتانا رسول لَنَكُونَنَّ أَهْدَى » ديناً منهم وذلك قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث محمد كذبوه فأنزل الله - عزّ وجلّ - « وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ » رسول « لَيكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إحْدى الأمم » يعني اليهود والنصارى وقيل : المعنى أهدى مما نحن عليه . وعلى هذا فقوله : { مِنْ إِحْدَى الأمم } للتبيين كما يقال : زَيْدٌ مِنَ المسلمين ، ويؤيده قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أي صاروا أضل مما كانوا يقولون : نكون أهدى وقيل : المراد أهدى من إحدى الأمم كقولك : زَيْدٌ أَوْلَى مِنْ عَمْرو . وقيل : المراد بإحدى الأمم العموم أي إن إحْدَى الأمم يفرض واعلم أنه لما بين إنكارهم للتوحيد من تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه يحث كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلاً وقالوا إنما نكذب محمداً - عليه ( الصلاة و ) السلام - لكونه كاذباً ولو تبني لنا كونُه رسولاً لآمنَّا كما قال تعالى :
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [ الأنعام : 109 ] وهذا مبالغة في التكذيب .
قوله : { لَّيَكُونُنّ } جواب القسم المقدر والكلام فيه كما تقدم وقوله : { لَئِن جَآءَهُم } حكاية لمعنى كلامهم لا للفظه إذ لو كان كذلك لكان التركيب لَئِنْ جَاءَنَا لَنَكُونَنَّ .
قوله : { مِنْ إِحْدَى الأمم } أي من الأمة التي يقال فيها : هي إحدى الأمم تفضيلاً لها كقولهم : هو إحْدَ ( ى ) الأَحَدَيْنِ قالَ :
4165- حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إحْدى الإحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً في سِلاَح مُعْتَدِ
قوله : « مَا زَادَهُمْ » جواب « لَمَّا » وفيه دليل على أنها حرف لا ظرف إذا لا يعملُ ما بعد « ما » النافية فميا قبلها ، وتقدمت له نظائر وإسناد الزيادة للنذير مجاز لأنه سبب في ذلك كقوله : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ]
فصل
معنى جاءهم أي صح لهم مجيئة بالمعجزة وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - « مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً » أي ما زادهم بمجيئة إلا تباعداً عن الهدى .
قوله : { اسْتِكْباراً } يجوز أن يكون مفعولاً له أي لأجل الاستكبار وأن يكون بدلاً من « نُفُوراً » وأن يكون حالاً أي كونهم مستكبرين قال الأخفش .
قوله : « ومكر السيّء » فيه وجهان :
أظهرهما : أنه عطف على « استكباراً »
والثاني : أنه عطف على « نُفُوراً » وهذا من إضافة الموصوف إلى صفته في الأصل إذ الأصل والمَكْر والسيِّئ وقرأ العامَّةُ بخفض همزة « السيّئ » وحمزة والأعمش بسكونها وصلاً وقد تجرأت النحاة وغيرهم على هذه القراءة ونسبوها لِلِّحْنِ ونزهوا الأعمش من أن يكون قرأ بها . قالوا : وإنما وقف مسكناً فظُنَّ أنه واصل فغلط عليه . وقد احتج لها قومٌ بأنه إجراء الوصل مُجْرى الوقف أو أجري المنفصل مُجْرى المتصل وحسَّنة كون الكسرة على حرف ثقيل بعد ياء مشددة مكسورة وقد تقدَّمَ أَنَّ أبا عمرو يقرأ : « إلى بارئْكُمْ » « عند بارِئْكُمْ » بسكون الهمزة . فهذا أولى لزيادة الثقل هنا . وقد تقدم هُنا ( كَ ) أمثلة وشواهد ، وروي عن ابن كثير « ومَكْرَ السّأي » بهمزة ساكنة بعد السين ثم ياء مكسورة ( و ) خرجت على أنها مقلوبة من السَّيْء ، والسَّيْءُ مخفف ( من السيّء ) كالمَيْتِ من الميِّت قال الحَمَاسِيُّ :
4166- وَلاَ يَجْزُونَ من حَسَنٍ بسَيْءٍ ... ولا يَجْزُونَ مِنْ غِلَظٍ بِلِينِ
وقد كثر في قراءة القلب نحو ضِيَاءٍ ، وتَأيَسُوا ولا يَأيَسُ ، كما تقدم تحقيقه وقرأ عبد الله : « وَمَكْراً سَيِّئاً » بالتنكير وهو موافق لما قبله وقرئ : ولا يُحِيقُ بضم الياء المَكْرَ السَّيِّئَ بالنصب على أن الفاعل ضمير الله تعالى؛ أي لا يُحِيطُ اللَّهُ الْمَكْرَ السَّيِّئَ إلاَّ بأهله .
فصل
المراد بالمكر السيّء أي القبيح أضيف المرك إلى صفته قال الكلبي : هو إجتماعهم على الشرك وقيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن الخطيب : هذا من إضافته الجنس إلى نوعه كما يقال : عِلْمُ الفِقْهِ وحِرْفَةُ الحِدَادَةِ ومعناه : ومكروا مكراً سيئاً ثم عُرِّف لظهور مكرهم ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيّئ لكون السر فيه أبين الأمور . ويحتمل أن يقال : بأن المكر استعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات } [ فاطر : 10 ] أي يعملون السيئات .
قوله : « ولا يحيق المكر السيّئ » أي لا يحل ولا يحيط ، وقوله : « يَحِيقُ » ينبئ عن الإحاضة التي هي فوق اللحوق .
فإن قيل : كثيراً ما نرى الماكر يمكُر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك .
فالجواب من جوه :
أحدهما : أن يكون المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم حيث قتلوه يوم بدر وغيره .
وثانيها : أن نقول : المكرُ عام وهو الأصح ، فإن النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام - نهى عن المكر وأخبر بقوله : « لا تَمْكُرُوا وَلاَ تُعِينُوا مَاكِراً فَإنَّ اللَّهِ يَقُولُ : وَلاَ يَحيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأهْلِهِ » وعلى هذا ( فذلك ) الرجل الماكر يكون أهلاً فلا يرد نفضاً .
وثالثها : أن الأعمال بعواقبها ومن مكر غيره ونفذ فيه المكر عاجلاً في الظاهر فهو في الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك كمثل راحة الكافر ومشقَة المسلم في الدنيا ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ } يعني إن كان لمكرهم في الحال رواجٌ فالعاقبة للتقوى والأمور بخَوَاتِيمها .
قوله : { سُنَّةَ آلأَوَّلِين } مصدر مضاف لمفعوله و « وسُنَّةَ اللَّهِ » مصدر مضاف لفاعله لأنه سنَّها بهم فصحت إضافتها إلى الفاعل والمفعول . وهذا جواب ( عن ) سؤال وهو أن الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله ف الأولين والجواب عن هذا السؤال من وجهين :
أحدهما : أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجهٍ دون وجه فيقال فيما إذا ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْراً : عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبِ عمرو وكيف ضرب مع ما له من الْقَوم والقُوة؟ وعجبتُ من ضَرْب عمرو وكيف ضرب مع ماله من العلم والحلم؟ فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها ( سنة ) سنت بهم وإضافتها إلى نفسه بعدها بقوله : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله } لأنها سنة من الله ، فعلى هذا نقول : أضافها في الأول إليهم حيث قال : سنة الأولين ، لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيتهما فإذا قال : سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظيماً وتبين أنها أمر واقعٌ ليس لها من دافع .
وثانيهما : أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنةٍ لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقِّها .
فإن قيل : ما الحكمة في تكرار التبديل والتحويل؟
فالجواب : أن المراد بقوله : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } حصول العلم بأن العذاب لا يبدل بغيره وبقوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } حصول العلم بأن العذاب مع أنه لا يتبدل بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المُسِيءِ .
فصل
المعنى فهل ينتظرون إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزر بمن مَضَى من الكفار والمخاطب بقوله : { فَلَن تَجِد } عام كأنه قال : لن تجد أيها السامع وقيل : الخطاب مع محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
قوله : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } لما ذكر الأولين وسنته في إهلاكهم نبههم بتذكير الأولين فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم وكانوا اطول أعماراً منهم وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مِثْلَ محمد وأنتم يا أهْلَ مكة كفرتم محمداً ومَنْ تَقَدَّمَهُ .
قوله : { وكانوا أَشَدّ } جملة في موضع نصب على الحال ونظيرتها في الروم : « كَانُوا » بلا « واو » على أنها مستأنفة فالمَقْصِدانِ مُخْتَلِفَان .
وقال ابن الخطيب : الفرق بينهما أن قول القائل : « أمَا رَأَيْتَ زَيْداً كَيْفَ أَكْرَمَنِي هُو أَعْظَمُ مِنْكَ » يفيد أن القائل يخبره بأن زيداً أعظمُ وإذا قال : مَا رَأَيته كَيْفَ أكْرَمَنِي وهُوَ أَعْظَمُ ( مِنْكَ ) يفيد أن يقرر أن المعنيين حاصلان عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكرم منه ( و ) لا شك في أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهرو مثل الأول بحيثُ لا يحتاج إلى اعلام من المتكلم ولا إخبار . وإذا علم هذا فنقول : المذكرو ههنا كونُهم أشدَّ منهم قوة لا غير ولعل ذلك كان ظاهراً عندهم فقال « بالواو » أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قولهم وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال : { أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ } [ الروم : 9 ] وفي موضع آخر قال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرض } [ غافر : 82 ] ولعل عملهم لم يحصل بإثارتهم في الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم كان معلوماً عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمها أنها أَقْوَى منها ولا تنازع فيه .
قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ } أي ليفوت عنه . وهذا يحتمل شيئين :
أحدهما : أن يكون المراد بيان أو الأولين مع شدة قوتهم ما عجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يُعْجزوه .
والثاني : أن يكون قطعاً لاعتاقده الجهال فإنَّ قائلاً لو قال : هب أن الأولين كانوا أشدَّ قوةً وأطْوَلَ أعماراً لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضيةٍ لها خواص أو كواكبُ سماوية لها أثارها فقال الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً } بأفعالهم وأقوالهم « قَدِيراً » على إهلاكهم واستئصالهم .
قوله : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ } من الجرائم « مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ »
يعني على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور وتقدم نظيرها في النحل ، إلاَّ أن هناك لم يجر للأرض ذكر بل عاد الضمير على ما فُهِمَ من السِّياق وهنا قد صرح بها في قوله : { فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } فيعود الضمير إليها لأنها أقرب ، وأيضاً فلقوله : { مِنْ دَابَّةٍ } والدب إنما يكون على ظهر الأرض وهنا قال : « عَلَى ظَهْرِهَا » استعارة من ظهر الدابة دللاة على التمكن والتقلب عليها والمقام هنا يناسب ذلك لأنه حيث على السير للنظر والاعتبار .
قوله : { مِن دَآبَّةٍ } أي كما في زمن نوح - عليه ( الصلاة و ) السلام ) أهلك الله ما على ظهر الأرض من كان في السفينة مع نُوحٍ .
فإن قيل : إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما ( بال ) الدوَابِّ يهلكون؟
فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن خلق الجواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدوابّ أقرب النعم ، لأن المفردَ ( أولاً ) ثم المركب والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً والحيوان إما إنساناً أو غير إنسان فالدوابّ أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان .
الثاني : أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقا ( ء الأشياء ) بالإنسان كما أنَّ بقاء الإنسان بالأشياء لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فإذا كان الهلاك عاماً لا يبقى من الإنسان من يُعَمِّر فلا يبقى الأبنية والزروع فما تبقى الخيرات الإلهية فإن بقاءها لحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك السَّقْي الْقَلْبِ .
الثالث : أن إنزال المطر إنعام من الله في حق العباد فإذا لم يستحقوا الأنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات .
فإن قيل : كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابلهُ الوجه فهو كالتضاد؟ فيقال : من حيث إنَّ الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن نم باب ووجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن .
قوله : { ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } هو يوم القيامة وقيل : يوم لا يوجد في الخلق مؤمن وقيل : لكل أمة أجل ، ولك أجل كتاب وأجل قوم محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام - أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره .
قوله : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } تسلية للؤمنين لأنه قال : ما ترك على ظهرها من دابة وقال { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } [ الأنفال : 25 ] فقالك فَإذَا جَاءَ الْهَلاَك فاللَّهُ بالعباد بصيرٌ قال ابن عباس : يريد أهل طاعنه وأهل معصيته ، ( و ) روى أبو أمامةَ عن أُبيِّ بْن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَلاَئِكَةِ دَعَتْهُ يَوْمَ الْقِيامَةَ ثَمَانِيةُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ أَنْ ادْخُلْ مِنْ أيّ الأبْوَابِ شِئْتَ » [ والله الموفّقُ للصّواب ، وإليه المرجعُ والمآبُ ] .
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
قوله : { يس } بسكون النون . وأدغم النون في الواو بعدها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بخلاف عنه . وكذلك النون من « نون والقلم » وأظهرهما الباقون فمن أدغم فاللخفّة ، ولأنه لما وصل والنفي متقاربان من كلمتين أولهما ساكن وجب الإدغام كالمِثْلَيْن . ومن أظهر فاللمبالغة في تفكيك هذه الحروف بعضها من بعض ، لأنه بنية الوقف وهذا أُجْرِيَ على القياس في لحروف المقطعة وكذلك التقى فيها الساكنان وصلاً ونقل إليهما حركة همزة الوصل على رأي نحو « الم . الله » كما تقدم تقريره .
( وأمال الياء من « يس » الأخَوَانِ ، وأبُو بكرٍ؛ لأنها اسم من الأسماء كما تقدم تقريره ) أَوَّلَ البقرة .
قال الفَارسيُّ : وإذا أمالوا « ياء » وهي حرف نداء فَلأَنْ يُمِيلُوا « يا » من « يس » أَجْدَرُ وقرأ عيسى وابن أبي إسْحَاقَ بفتح النون إمَّا على البناء على الفتح تخفيفاً ك « أَيْنَ وكَيْفَ » وإما على أنه مفعول ب « اتْلُ » وإما على أنه مجرور بحرف القسم ، وهو على الوجهين غير منصرف للعملية والتأنيث ويجوز أن يكون منصوباً على إسْقاطِ حرف القسم كقوله :
4167- . . ... أمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ
وقرأ الكلبي بضم النون ، فقيل : على أنها خبرُ مبْتَدأ مُضْمَر ، أي هذه يس ومُنِعَتْ من الصرف؛ لما تقدم .
وقيل : بل هي حركة بناء ك « حَيْثُ » فيجوز أن ( يكون ) خبراً كما تقدم وأن يكون مقسماً بها نحو : « عَهْدَ اللَّهِ لأَفْعَلَنَّ » .
وقيل : لأنها منادى فبنيت على الضم ، ولهذا فسَّرها الكلي القارئ لها ب « يَا إنْسَانُ » قال : وهي لغة طَيِّئ قال الزمخشري : إن صح مناه فوجهه أن يكون أصله يا أُنَيْسِينُ فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما قولا في القسم : « مُ اللَّهِ » في أَيْمُنُ اللَّهِ .
قال أبو حيان : الذي نقل عن العرب في تصغير إنسان أُنَيْسَان بياء بعدها ألف فدل أن أصله أُنْسِيَان؛ لأن التصغير يرد الأشياءَ إلى أصولها ، ولا نعلم أنهم قالوا في تصيغره : أُنَيْسِين . وعلى تقديره أنه يصغر كذلك فلا يجوز ذلك إلا أنْ يُبْنَى على الضم لأنه منادى مُقْبَلٌ عليه ، ومع ذلك فلا يجوز لأنه تحقير ويمتنع من ذلك في حق النُّبُوَّةِ .
قال شهاب الدين : أما الاعتراض الأخير فصحيح نصوا على أن التصغير لا يدخل في الأسماء المعظمة شرعاً ، ولذلك يحكى أن ابْن قُبَيْبَةً ( لمَّا قال ) في المهَيْمِن إنه مصغر من « مُؤْمن » والأصل : مُؤَيْمِنٌ فأبدلت الهمزةُ هاءً قيل له : هذا يَقْرُبُ من الكفر فلْيَتَّقِ اللَّهَ قَائِلُه .
وتقدمت هذه الحكايات في المائدة وما قيل فيها . وقد تقدم للزمخشري في « طه » ما يقرب من هذا البحث وتقدم كلام الشيخ معه .
وقرأ ابْن أَبِي إسْحَاقَ أيضاً وأبو السَّمَّا يس بكسر النون ، وذلك على أصل التقاء الساكنين ولا يجوز أن يكون حركة إعراب « وَالقُرْآنِ » إما قسم متسأنف إن لم تجعل ما تقدم قسماً وإما عطف على ما قبله إن كان مقسماً به وقد تقدم كلام عن الخليل في ذلك أوائلَ البقرة فاعتبرْهُ هنا فإنَّه حسنٌ جدَّا .
فصل
قد تقدمت في سورة العنكبوت ذكر حروف التهجي وأن كل سورة بدأ الله فيها يحروف التهجي كان في أوائله الذكر أو الكتاب أو القرآن . ولنذكر هَهُنا أن في ذكر الحروف أوائل السور أموراً تدل على أنها غير خالية عن الحكمة لكن علم الإنسان لا يصل إليها . والذي يدل على أن فيها حكمة من حيث الجملة هو أن الله تعالى ذلك من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفاً وهي نصفُ ثمانيةٍ وعشرينَ حرفاً هي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا : الهمزة ألف متحركة .
ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثَة أقسام تسعةَ أحرف من الألف إلى الذال والتسعة الأخيرة من الفاء إلى الياء وعشرةً في الوسط من الراء إلى الغَيْن ، وذكر من القسم الأول حرفين الألفَ والحاء وترك سبعةً ولم يترك فن القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحداً لم يذكره وهو الخاء ولم يذكر من القسم الأخير من حروف الشَّفَةِ إلا واحداً لم يتركه وهو الميم والعشر الأواسط ذكرمنه حرفاً وترك حرفاً ، فترك الزاي وذكر الراء وذكر السين وترك الشِّين ، وذكر الصاد وترك الضاد ، وذكر الطاء وترك الظّاء وذكر العين وترك الغيْن . ولي هذا أمراً يقع اتفاقاً بل هو ترتيب مقصود وهو لحكمة لكنها غير معلومة وهب أن واحداً يدعي فيه شيئاً فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسُورة « ن » و « ق » و « ص » وبعضها بحرفين كسورة « حم » و « يس » و « طه » وبعضها بثلاثة أحرف كسورة « الم » و « طسم » و « الر » وبعضها بأربعة أحرف كسروة « المر » و « المص » وبعضها بخمسة كسورة « حمعسق » و « كهيعص » وهب أنَّ قائلاً يقول : إن هذا إشارة بأن الكلام إما حرف ، وإما فعل ، وإما اسمٌ ، والحرف كثيراً ما جاء على حرف كواوِ العطف وفاء العقيب ، وهمزة الاستفهام ، وكاف التشبيه ، وياء الإلصاق وغيرها ، وجاء على حرفين كمِنْ للتبعيض و « أَوْ » للتخيير ، و « أم » للاستفهام المتوسط ، وإن للشرط وغيرها . والفعل والاسم والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعَلَى في الاسم وأَلا يألو وعَلاَ يعلو في الفعل ، والاسم والفعل جاءا على أربعة أحرف ، والاسم خاصة جاء على ثلاثة أحرف وأربعة وخمسة ك « عِجْل » وسنجل وجرَحْل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد ، والبعض بأكثر فلا يعلم ما السِّرُّ إلا الله من أعْلَمَهُ الله به وإذا علم هذا العبادة منها قلبية ومنها لسانية ومنها جاريحة ، وكل واحد منها قسمان :
قمس عُقِل معناه وحقيقته وقسم لم يُعْلَمْ .
أما القلبية مع أنها عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلاً وإنما وجب الإيمَانُ به والاعتقاد سمعاً كالصّراط الذي هو أرق من الشعر وأحدّ من السيف ، ويمر عليه المؤمن كالبَرْق الخاطبف ، والميزان الذي تزن به الأعمال الذي لا ثقل بها في نظر الناظر وكيفية الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم ( و ) مقطوع به بالمسع ومنها ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات والحكمة في ذلك أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعمل ما فيه من الفائدة لا يكون الإتيان إلا لمحض العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي بها لفائدة وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده : انقُل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في لانقل فنقها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك فإنه ينقلها وإن لم يؤمَر وإذا علم ها فكذلك في العبادات الِّسانية الذكرية يجب أن يكون ما لم يفهم معناه إذا تكلم به العبد علم أنه لا يعقل غير الانقياد لأمر المعبود الإلهيّ . فإذا قال : حم ، يس ، طس علم أنه لا يذكر ذلك لمعنى يفهمه بل يتلفظ به امتثالاً لما أمر به .
فصل
قال ابن عباس : يس قسم ، ووري عنه أن معناه يا إنسان بلغة طيئ . قيل : لأن تصغير إنسان أُنَيْسِين كما تقدم عن الزمخشري فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال : ياسين أي أُنَيْسِينُ .
قال أكثر المفسرين عين محمداً - صلى الله عليه وسلم - قال الحسن وسعيد بن جبير وجماعة . وقال أبو ( العالية : يا رَجُلُ . وقال أبو بكر الوراق : يا سيِّد البشر وقوله : { والقرآن الحكيم } أي ذي ) الحكمة ك { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أي ذات رضا ، أو أنه ناطق بالحكمة وهو كالحيِّ المتكلم .
قوله : { إنَّكَ } و { على صِرَاط } يجوز أن يكون متعلقاً ب « المُرْسَلِين » يقول : أَرْسَلْتُ عليه ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكنِّ في « لَمِنَ المُرْسَلِين » لوقوعه خبراً وأن يكون حالاً من « المُرْسَلِينَ » وأن يكون خبراً ثانياً ل « إنَّكَ » .
فصل
أقسم بالقرآن على أن محمداً من المرسلين . وهو رد على الكفار ، حيث قولوا : ( لَسْتَ مُرْسَلاً ) .
فإن قيل : المطلب ثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقْسَام؟! .
فالجواب من وجوه :
الأول : إن العرب كانوا يتقون الإيمان الفادرة وكانوا يقولون بأن الأيْمَان الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي - عليه الصلاة والسلام- ذلك بقوله : « اليَمينُ الكَاذِبَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ » ثم إنهم كانوا يقولون : إن النبي عليه - ( الصلاة و ( السلام - يصيبه عذاب آلهتهم ، وهي الكواكب والنبي عليه ( الصلاة و ) السلام يحلق بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة ، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرْفَعَ شَأْناً وأمْنَعَ مَكَاناً ، فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب .
الثاني : أن المُتَنَاظِرَ ( يْنِ ) إذا وقع بينهما كلام ، وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب : إنك قدرت هذا بقوة جدالك ، وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك ، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة ، وعجزت أنا عن القدح فيه وهذا كثير الوقوع بين المُتَناظِرَيْنِ فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول ، فلا يجد أمراً إلا باليمين فيقول : وَاللَّهِ إنِّي لَسْتُ مُكَابِراً ، وإنَّ الأمر على ما ذكرت ولم علمت خلافه لرَجَعْتُ إليه فههنا يتعين اليمين ، فكذلك النبي عليه ( الصلاة و ) السلام أقام البراهين ، وقالت الكفرة : { مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } [ سبأ : 43 ] وقالوا { لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأحقاف : 7 ] فالتمسك بالأيْمان لعدم فائدة .
الدليل الثالث : أن هذا ليس مجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين؛ لأن القرآن معجزة ودليل كَوْنه مُرْسَلاً هو المعجزة والقرآن كذلك .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يذكر في صورة الدليل . وما الحكمة في صورة اليمين؟
فالجواب : أن الدليل إذا ذكر لا في صورة اليمين ، قد لا يُقْبِلُ عليه السامع فلا يفيد فائدة ، فإذا ابتدأ به على صورة اليمين لا يقع ولا سيما من العظيم إلا على عظيم ، والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصْغاء إليه فلصروة اليمين تقبل عليه الأسماع لكونه دليلاً شافياً يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب .
قوله : { على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم . والمسقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصِد والدين كذلًك فإنه يوصل إلى الله وهو المقصد .
قوله : { تَنزِيلَ العزيز الرحيم } قرأ نافعٌ وابنُ كَثيروأبُو عمرو وأبو بكر برفع « تنزيلُ » على أنه خبر متبدأ مضمير أي هُو تنزيل . ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ إذا جعلت « يس » اسماً للسورة أي هذه السورة المسمّاة ب « يس » تنزيلٌ ، أو هذه الأحرف المقطعة تنزيلٌ .
والجملة القسمية على هذا اعتراض . والباقون بالنصب على المصدر كأنه قال : نَزَلَ تَنْزِلَ العَزِيزِ الرحيم لتنذر . أو على أنه معفول بفعل مَنْوِيِّ كأنه قال والقرآن الحكيم أعين تَنْزِيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر وهذا اختيار الزمخشري وهو المراد بقوله : « أو عَلَى المَدْح » وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداء مضمر و « تنزيل » مصدر مضاف لفاعله .
وقيل : هو بمعنى منزِّل وقرأ أبو حيوة واليزيدي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة تَنْزِيل بالجر على النعت للقرآن أو البدل منه ، كأن قال : والقُرْآن الحكيم تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين .
وقوله : { العزيز الرحيم } إشارة إلى أن الملك إذا أرسل فالمرسَلُ إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويُعِينُوا المُرْسَل ، وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزاً ، أو يخالفوا المُرْسِل ويكرموا المُرْسَل وحينئذ لا يقدر الملك . أو يقال : المُرْسَلُ يكون معه في رسالته مَنْعٌ عن أشياء وإطلاق لأشياء والمنع يؤكده العزة والإطلاق يدل على الرحمة .
قوله : { لِتُنْذِرَ } يجوز أن يتعلق ب « تَنْزِيلُ » أو بمعنى المرسلين يعني بإضمار فعل يدل عليه هذا اللفظ أي أرْسَلْنَاك لِتُنْذِرَ .
قوله : { قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } يجوز أن تكون « ما » هذه بمعنى الذي ، وأن تكون نكرة موصوفة والعائد على الوجهين مُقَّدرٌ .
أي ما أنذره آباؤهم فتكون ما وصلتها أو وصفتها في محل نصب مفعولاً ثانياً لقوله : { لِتُنذِر } كقوله : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] أو التقدير لِتُنْذِرَ قَوْماً الذي أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ من العذاب ، أو لتنذر قوماً عذاباً أُنْذِرَهُ آبَاؤُهُمْ .
ويجوز أن تكون مصدرية أي إنْذَار آبَائِهِم أي مثله . ويجوز أن تكون ما نافية ، وتكون الجملة المنفية صلة ل « قوماً » أي قوماً غير منذر آباؤهم . ويجوز أن تكون زاذدة أي قوماً أنذر آباؤهم . والجملة المثبتة أيضاً صفة ل « قوماً » قال أبو البقاء .
وهو مناف للوجه الذي قبله . فعلى قولنا ما نافية ، فالمعنى ما أنذر آبَاؤُهُم الأَدْنونَ وإن قلنا : ما للإثبات فالمعنى ليُنْذَرُوا بما أنذر آباؤهم الأولون . وقوله : { فَهُمْ غَافِلُونَ } أي عن الإيمان والرشد .
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
قوله : { لَقَدْ حَقَّ القول } وجب العذاب { على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } وهذا كقوله : { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] وفي الآية وجوه :
أشهرها : أن المراد من القول هو قوله تعالى : { ولكن حَقَّ القول مِنِّي } [ السجدة : 13 ] { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ } [ ص : 85 ] .
والثاني : أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي وُجِد وثَبَتَ بحيث لا يُبَدَّل بغيره . لا يبدل القول لدي .
الثالث : المراد لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبانَ بُرْهَانُهُ ، فإنهم لَمَّا لم يؤمنوا عندما ما حق القول واستمروا ، فإن كانوا يريدون شيئاً أوضح من البرهان فهو العِنَاد وعند العناد لا يُفيد الإيمان . وقوله : { على أَكْثَرِهِمْ } على هذا الوجه معناه أن من لم تَبْلُغْه الدعوة والبُرْهَانُ قليلُون فحق القَول على أكثرهم هو من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر ، لأن أكثر الكفار ماتوا على الكفر .
قوله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } نزلت في أبي جهل وصاحِبَيْهِ ، وذلك أن أبا جهل كان ( قد ) حلف لئن رأى محمداً يُصَلِّي ليَرْضَخَنَّ رأسه بالحجارة فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمَغَهُ به فلما رفعه انثنت يده إلى عنقه ، ولزق الحجرُ بيده ، فلما رَجَعَ إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بين مخزوم أنا أقتله بهذا الحجر ، فأتاه وهو يصلَّي لِيَرْمِيَهُ بالحَجَر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه فرجع إلى أصحابه فلم يَرَهُمْ حتى نادوه فقالوا له : ماذا صنعت؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت كلامه ، وحال بيني وبينه كهيئة الفحْل يخطر بِذَنبِهِ لو دنوتُ منه لأَكَلَنِي ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } .
ووجه المناسبة لما تقدم أنه لما قال : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } وتقدم أن المرادَ به البرهان قال بعده : بل عيانوا وأبصروا ما يقرب من الضّرورة حيث التزقت يده بعنقه ومُنع من إرسال الحَجَر ، وهو مضطر إلى الإيمان ولم يؤمن على أنه لا يؤمن أصلاً .
وقال الفراء : معناه حبسْنَاهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] معناه ولا تُمْسِكْها عن النفقة .
الرابع : قال ابن الخطيب وهو الأقوى وأنشد مناسبةً لما تقدم : إنّ ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وأما مناسبة قول الفراء لما تقدم أن قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُون } يدخل فيه أنهم لا يصلون كقوله تعالى : { لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } [ البقرة : 143 ] أي صلاتكم عند بعض المفسرين ، والزكاة مناسبة للصلاة فكأنه قال : لا يُصَلّون ولا يُزَكون .
قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } في هذا الضمير وجهان :
أشهرهما : أنه عائد على الأَغْلاَل ، لأنها هي المُحَدَّث عنها ، ومعنى هذا الترتيب بالفاء أن الغُلَّ لِغِلَظهِ وعَرْضِهِ يصل إلى الذقن ، لأنه يلبس العُنُقَ جَميعَهُ .
قال الزمخشري : والمعنى إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثِقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يَتَمَكَّن المَغلُول معنا من أن يُطَأْطِئَ رَأْسَهُ .
الثاني : أن الضمير يعود على « الأيدي » لأن الغُلَّ لا يكون إلاَّ في العنق ، واليدين ، ولذلك سمي جامعة ، ودَلَّ على الأيدي وإن لم تُذْكر للملازمة المفهومة من هذه الآلة أعني الغُلّ ، وإليه ذهب الطَّبَرِيُّ إلا أن الزمخشري قال : جعل الإقماح نتيجة قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التسبب في الإقماح ظاهراً ، على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف وترك للظاهر .
وفي هذا الكلام قولان :
أحدهما : أن جَعْل الأَغْلاَلِ حقيقة .
والثاني : أنه استعارة ، وعلى كل من القَوْلين جماعة من الصَّحَابة والتابعين .
وقال الزَّمْخَشَرِيُّ : ( مثل ) لتصميمهم على الكفر ، وأنَّه لا سبيل إلى ارْعِوَائِهِمْ بأن جعلهم كالمَغْلُولِينَ المُقْمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يُطَأْطِئُونَ رُؤُوسَهُمْ له ، وكالحاصلين بين سدّين لا يبصرون ما قدامهم ما خلفهم في أن لا تأمل لهم ولا تبصر وأنهم تعامون عن آيات الله . وقال غيره . هذا استعارة لمنع الله إيَّاهم من الإيمان وحولهم بينهم وبينه ( و ) قال ابن عطية : وهذا أرجح الأقوال؛ لأنه تعالى لما ذكر أنهم لا يُؤْمِنون لما سبق لهم في الأول عقب ذلك بأن جعل لهم من المنع وإحاطة الشَّقَاوة ما حالهم معه حال المغلوبين وتقدم تفسير الأّذْقان .
وقال ابن الخطيب : المانع إما أن يكون في النفس فهو الغُلّ وإما من الخارج فالسد ، فلم يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] وذلك لأن المُقْمَحَ لا يرى ( في ) نفسه ولا يقع بصره على بَدَنِهِ ، ولا يقع نظرهم على الآفاق فلا يتبين لهم الآيات التي في الآفاق . وعلى هذا فقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في ( الأنْفُسِ و ) الآفاق . « فَهُمْ مُقْمَحُونَ » هذا الفاء لأحسن ترتيب ، لأنه لما وصلت الأغلال إلى الأذقان لعرضها لزم عن ذلك ارتفاع رُؤُوسهم إلى فَوْق . أو ولما جمعت الأيدي إلى الأذقان وصارت تحتها لزم من ذلك رفعها إلى فوق فترتفعُ رُؤُوسُهُمْ .
والإقماح رفع الرأس إلى فوق كالإقناع ، وهو من قَمَحض البعيرُ رأسَه إذا رفعها بعد الشُّرْب ، إما لبرودة الماء وإما لكراهة طعمه قُمُوحاً وقِمَاحاً - بكسر القاف وضمها- وأقمحتُه أَنَا إقْمَاحاً ، والجَمْع قِماحٌ وأنشد :
4168- وَنَحْنُ عَلَى جَوَانِبِهَا قُعُودٌ ... نَغُضُّ الطَّف كَالإبِلِ القِمَاحِ
يصف نفسه وجماعة كانوا في سفينة ، فأصابهم المَيَدُ .
قال الزجاج قيل : الكَانُونَيْن شهراً قِماحٍ ، لأن الإبل إذا وَرَدْنَ الماء رفعت رُؤُوسَها ، لشِدة البرد وأنشد أبو زيد للهذلي :
4169- فَتًى مَا بْنُ الأَغَرِّ إِذَا شَتَوْنَا ... وَحُبَّ الزَّادِ فِي شَهْرَيْ قمَاحِ
كذا رواه بضم القَاف ، وابنُ السِّكِّيت بكسرها . وقال اللَّيْثُ القُمُوح رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكرية ثم يعود . وقال أبو عبيدة إذا رفع راسه عن الحوض ولم يشرب والمشهور أنه رفع الرأس إلى السماء كما قتدم تحريه .
وقال الحسن : القامح الطامح يبصره إلى موضع قدمه . وهذا ينبو عنه اللفظ والمعنى . وزاد بعضهم مع رفع الرأس غَضَّ البصر مستدلاً بالبيت المتقدم :
4170- .. نغض الطرف كالإبل القماح
وزاد مجاهد مع ذلك وضع اليد على الفم . وسأل الناس أمير المؤمنين ( علياً ) - كرم الله وجهه - عن هذه الآية فجلع يده تحت لِحْيَتِهِ ورفع رأسه وهذه الكيفية ترجّح قول الطَّبَريِّ في عود « فَهيَ » على الأيدي .
قوله : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } تقدم خلاف القراء في فتح السِّين وضمِّها والفرق بينهما مستوفًى آخرَ الكهف والحمد لله .
وأما فائدة السد من بين الأيدي فإنهم في الدنيا سالكُون فيبغي أن يَسْلُكُو الطّريقة المستقيةَ « مِنْ بَيْنِ أيْدِيهمْ سَدًّا » فلا يقدرون على السلوك وأما فائدة السد من خلفهم فهو أنَّ الإنسان له فِطْريَّة والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جَعَلْنَا من بين أيديهم سدًّا فلا يسلكون طريق الاهتداء الذي هو فطرية وجعلنا من خلفهم سداً فلا يرجعون إلى الهداية والجبلية التي هي فطرية ، وأيضاً فإن الإنسان مبدأه منا لله ومصيره إليه فعمي الكافر لا يبصر ما بين من المصير إلى الله ، وما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله وأيضاً فإنَّ السالك إذا لم يكن له بدّ من سلوك طريق ، فإن اشتدَّ الطريقُ الذي قدامه يفوته المقصد ولكمنه ريجع ، وإذا اشتد الطريق من خلفه ومن قدامه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة يهلك . فقوله { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } إشارة إلى هَلاَكِهِمْ فصاروا بمنزلة من يبنى عليه الحائط وهو واقفٌ .
قوله : { فأغشيناهم } العامة على الغين المعجمة أي غَطَّيْنَا أبْصَارَهُمْ وهو على حذف مضاف . وابن عباس وعمرُ بن عبد العزيز ، والحَسَنُ ، وابنُ يعْمُرَ ، وأبُو رَجَاءٍ في آخَرِينَ بالعين المهملة .
وهو ضعف البصر . يقال : عِشِيَ بَصَرُهُ ، وأَعْشَيْتُهُ أَنَا .
وهذا يحتمل الحقية والاسْتِعَارَة .
فصل
قوله : { فَأغْشَيْنَاهُمْ } بحرف الفاء يقتضي أن يكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فما وجهه؟ فيقال من وجهين :
أحدهما : أن ذلك بيان لأمور مرتبة لي بعضها سبباً في العبض فكأنه تعالى قال : إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَلاَ يُبْصِرُون أنفسهم لإقماحهم ، وجعلنا من بين أيديهم سداً ومِنْ خلفهم سداً فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يَروا السماء ما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله : جَعَلْنَا عَلَى أَبْصَارهم غشاوة فلا يبصرون شيئاً أصلاً .
والثاني : أن ذلك بيان لكون السدِّ قريباً منهم بحيث يصير ذلك كالغِشَاوة على أبصارهم ، فإن من جعل من خلف وقدّامِهِ سدين مُلْتَزِقَيْن به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما يبثى عينه على سطح السد فلا يُبْصِرُ شيئاً ، لأن شرط المرئيِّ أن يكون قريباً من العَيْن جِداً .
فَإنْ قيلَ : ذكر اسد من بين الأيدي ومن خَلْفٍ ، ولم يذكر من اليَمِين والشِّمالِ فما الحكمة فيه؟ .
فالجواب : إن قلنا : إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر . وأما على غير ذلك فيقال : إنه حصل العموم بما ذكر والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة ، لأنهم إذا قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا مُتَوَجِّهِينَ إلى شيء ، ومُؤَلِّين عن شيء فصار ما إليه توجُّهُهُمْ ما بين أيديهم فجعل الله السد هناك فمنعه من السوك فكيمفما توجه الكافر يجعل الله بين أيديه سداً وأيضاً ( فإنَّا ) لما بينا أن جعل السد سبباً لاستتار بصره فكان السد ملتزقاً به وهو ملتزق بالسدين ، فلا قدره له على الحركة يَمْنَةً ولا يَسْرَةً ، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشِّمال .
وقوله : { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا يبصرون شئياً ، أو لا يبصرون سبيلَ الحق؛ لأن الكافر مَصْدُورٌ عَنْ سبيل الهدى .
قوله : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ } تقدم الكلام عليه أول البقرة ، بين أن الإنذار لا نيفعهم مع ما فعل الله بهم ن الغُلِّ والسدِّ والإغشاء والإعماء بقوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أي الإنذارُ وعَدَمُهُ سيَّان بالنسبة إلى إيمانهم .
{ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِيَ الرحمن بالغيب } قال من قبل : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 6 ] وذلك يقتضي الإنذار العام وقال هنا : « إنَّما تنذر » وهو يقتضي التخصيص ، فكيف الجمع بينهما؟! وطريقة من وجوه :
الأول : أن قوله : « لتنذر » أي ( كَيْفَ ) ما كان سواء كان مفيداً أو لم يكن .
وقوله : { إِنَّما تُنْذِرُ } أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة لمن يتبع الذِّكْرَ وَيَخْشَى .
الثاني : ( هو ) أنّ الله تعالى لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار وذكر ( أن ) الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلأى أهل العناد قال نبيه : ليس إنذارك غيرَ مفيد من جمع الوجوه ، فأنِذرْ على سبل العموم وإنما يُنْذَرُ بذلك الإنذارِ العَام من يتبع الذكر كأنه يقول : يا محمد أنذر بإنذارك وتَتَبَّعْ بذكرك .
الثالث : أن يقول : لتنذر أولاً فإذا أنذرت وبالغت ( وبلغت ) واستهزأ البعض وتولى واستكبر فبعد ذلك إنما تُنْذِرُ الِّذِينَ اتَّبَعُوك والمراد بالذكر : القرآن لتعريف الذكر الألف واللام . وقد تقدم ذرك القرآن في قوله تعالى : { والقرآن الحكيم } [ يس : 2 ] وقيل : ما في القرآن من الآيات لقوله : { والقرآن ذِي الذكر } [ ص : 1 ] فما جعل القرآن نفس الذكر . والمعنى إنما تُنْذِرُ العلماءَ الِّذِين يخشون ربهم . وقوله : { وَخشِيَ الرحمن } أي عمل صالحاً لقوله : { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } وهذا جزاء العمل كقوله :
{ فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } [ الحج : 50 ] والمراد بالغيب : ما غاب وهو أحوال يوم القيامة . وقيل الوَحْدانية .
وقوله : { فَبَشِّره } إشارة إلى الرسالة ، فإنَّ النَّبِيِّ بشيرٌ ونذيرٌ .
وقوله : « بمغفرة » على التنكير أي بمغفرة واسعةٍ تسيرُ من جميع الجوانب « وَأجْرٍ كريمٍ » أي ذي كرم كقوله : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ « والمراد به الجنة .
قوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } عند البعث . لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بهم المكلف مؤمناً مسلماً ذكر أصلاً آخر وهو الحشر . ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله : { فَبَشِّرهم بمغفرة } ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال : إن لم يرد في الدنيا فاللَّه يحي الموتى وُيجْزَى المنذّرُونَ والمُبشرُونَ ووجه آخر وهو أن تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يكده وهو إحْيَاءُ الموتى .
فصل
» إنّا نحن « يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مبتدأ وخبراً كقوله :
4171- أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي ... ومثل هذا يقال عند الشُّهْرَة العظيمة ، وذلك لأنَّ من لا يُعْرَفُ يُقَال ( لَهُ ) : من أنت؟ فيقول : أنا ابنُ فُلاَنٍ فيُعْرَفُ ، ومن يكون مشهوراً إذا قيل له : مَنْ أَنْتَ ، يقول : أنا ولا معرفة لي أظهر من نفسي فيقال : إنَّا نَحْنُ معروفون بأوصاف الكمال ، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا ينكر قدرتنا على إحياء الموتى .
والثاني : أن الخبر » نُحْيِي « كأنه قال : » إِنَّا نُحِيي المَوْتَى « و » نحن « يكون تأكيداً .
وفي قوله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } إشارة إلى الوحيد؛ لأن الإشراك يوجب التمييز ، فإن » زيداً « إذا شاركه غيره في الاسم ، فلو قال : » أنا زيد « لا يحصل التعريف التام ، » لأن « للسامع أن يقول : أيُّمَا زيد؟ فيقول : ابنُ عمرو ، ( ولو كان هناك زيدٌ آخرُ أبو عمرو ولا يكفي قوله : ابن عمرو ) فلام قال الله : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } أي ليس غيرنا أحد يشركنا حتى يقول : أنا كذا فيمتاز ، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة : الرسالة والتوحيد والحشر .
قوله : { وَنَكْتُبُ } العمة على بنائه للفاعل ، فيكون » مَا قَدَّمُوا « مفعولاً به و » آثَارهُمْ « عطف عليه وزِرّ ومسروقٌ قَرَآهُ مبنياً للمفعول ، و » آثَارُهُم « بالرفع عطفاً على » مَا قَدَّمُوا لِقِيَامِهِ مَقَام الفَاعِل .
فصل
المعنى ماقدموا وأخروا ، فكتفى بأحدهما ، لدلالته على الآخر كقوله تعالى : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي وَالبَرْدَ . وقيل : المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحةً كانت أو فاسدةً ، كقوله تعالى : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [ البقرة : 95 ] أي بما قدمت في الوجود وأوجدته . وقيل : نكتب نِيَّاتِهِمْ فإنها قبل الأعمال و « آثَارَهُمْ » أي أعمالهم . وفي « آثارهم » وجوه :
أحدها : ما سنوا من سنة حسنة وسيئة .
فالحسنة كالكتب المصنّفة والقناظر المبنية ، والسيئة كالظّلامة المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة . قال- عليه ( الصلاة و ) السلام : « مَنْ سَنَّ فِي الإسلام سُنَّةً حَسَنَةً فَعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا ومِثْلُ أَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهمْ شَيْئاً ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فعَمِلَ بِهَا مَنْ بَعْدَه كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْر أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شَيْئاً » وقيل : نكتب آثارهم أي خُطاهم إلى المسجد لما روي أبو سعيد الخُدْرِي قال : شَكَتْ بنو سلمة بُعْدَ منازِلهم من المسجد فأنزل الله : { ونكتُبُ ما قدموا وآثارهم } فقال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « إنَّ اللَّه يَكْتُبُ خُطَوَاتِكُمْ وَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ » وقال - عَلَيْهِ ( الصَّلاَةُ وَ ) السَّلاَمُ- : « أَعْظَمُ النَّاس أَجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةً حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أَعْظَمُ أجْراً في الصَّلاَةِ أبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالِّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيهَا مَعَ الإمَام أعْظَمُ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ » فإن قيل : الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال : ( « نُحْي » ) و « نكتُبُ » ولم يقل : نكتب ما قَدَّمُوا وَنُحْيِيهمْ؟ .
فالجواب : أن الكتابة معظمة ، لا من الإيحاء ، لأن الإحياء إن لم يكن للحاسب لا يعظم ، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياءً وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً والإحياء هو المعتبر ، والكتابة مؤكدة معظمة لأمره فلهذا قدم الإحياء ( و ) لأنه تعالى قال : { إِنَّا نَحْنُ } وذلك يفيد العظمة والجَبَرُوتَ ، والإحياء العظيم يختص بالله ، والكتابة دونه تقرير العريق الأمر العظيم وذلك مما يعظم ذلك الأمر العظيم .
قوله : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامة على نصب « كل » على الاشتغال وأبو السِّمِّال قرأه مرفوعاً بالابتداء والأرجحُ قراءةُ العامة ، لعطف جملة الاشتغال على جملة فعليةٍ .
فصل
« أَحْصَيْنَاهُ » حفظناه وثبّتناه « فِي إمَامِ مُبينٍ » فقوله « أَحْصَيْنَاهُ » أبلغ من كتبناه ، لأن كتب شيئاً مفرقاً يحتاج إلى جمع عدد فقال يحصي فيه وإمامٌ جاء جمعاً في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بأئمتهم وحنيئذ ف « إمَام » إذا كان فرداً فهو ككِتَاب وحِجَاب ، وإذا كان جمعاً فهو كجِبَال . والمُبِينُ هو المظهر للأمور لكونه مُظْهراً ( للملائكة ما ) يفعلون وللناس ما يفعل بهم ، وهو الفارق بينهم أوحوال الخلق فيجعل فريقاً في الجنة وفريقاً في السعير . وسمي الكتاب إماماً ، لأن الملائكة يأتمون به ، وتيبعونه ، وهو اللوح المحفوظ . وهذا بيان لكونه ما قدموا وآثارهم أمراً مكتوباً عليهم لايُبدَّل ، فإن القَلَم جَفَّ بما هو كائن ، فلما قال « نَكْتُبُ مَا قَدًَّمُوا » بين أن قبل ذلك كتابةً أخرى ، فإن الله تعالى كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه . وقيل : إن ذلك مؤكّدا لمعنى قوله : « وَنَكْتُبُ » ؛ لأن من يكتب شيئاً في ارواق ويرميها وقد لا يجدها ، فكأنه لم يكتب فقالك نكتُبُ ونَحفَظُ ذلك في إمام مبين وهو كقوله تعالى :
{ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] وقيل : إنَّ ذلكَ تعميمٌ بعد التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم ، وليست الكتابة مقتصرةً عليه بل كل شيء مُحْصًى في إمام مبين ، وهذا يفيد أن شيئاً من الأفعال والأقوال لا يَعزُبُ عن ( علم ) الله ولا يفوته وهو قوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } [ القمر : 52-53 ] يعين ليس ما في الزبر منحصراً فيما فعلوه بل كل شيء مكتوب .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قوله تعالى : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية } تقدم الكلام على نظيره في البقرةِ والنحل والمعنى واضرب لأجلهم مثلاً ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلاً أي مثهم عند نفسك بأصحاب القرية . فعلى الأول لمَّا قال تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 3 ] وقال : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 6 ] قال : قل لهم ما أنا بدعاً من الرسل بل ( قبلي ) بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة . وعلى الثاني لما قال تعالى : إن الإنذار لا ينفع من أضله اللَّهُ وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه ( الصلاة و ) السلام : فلا بأس واضرب لنفسك ولقومك « مثلاً » أي مَثِّلْ لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية ، حيث جاءهم ثلاثةُ رُسُل فم يؤمنوا ، وصبر الرسل عل القتل والإيذاء وأنت جئتهم واحداً وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا قريةً وأنت بعثت إلى العالم .
قوله : { أَصْحَابَ القرية } أي واضرب لهم مثلاً ( مَثَلَ ) أصحاب القرية ، فترك « المَثَلَ » وأقيم « الأصحاب » مُقامة في الإعراب كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] .
قال الزمخشري : وقيل : لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً أو مثل أصحاب القرية بهم قال المفسرون : المراد بالقرية أنْطَاكية .
قوله : { إِذْ جَآءَهَا } بدل اشتمال . قال الزمخشري : « إذْ » منصوبة لأنها بدل أصْحَابِ القَرْيَة كأنه تعالى قال : واضْرِب لهم وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقتِ مُحَمَّد .
وقيل : منصوب بقوله : « اضْرِبْ » أي اجعل الضرب كأنه حين مجيئهم وواقع فيه والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مُرْسَلٍ أُرْسل إلى قوم إلى زمان محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- وهم ثلاثة .
قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } بدل من « إذ » الأولى ، كأنه قال : اضْرب لهم مثلاً إذ أرسلنا إلى اصحاب القرية اثنين . قال ابن الخطيب : والأصح الأوضح أن يكون « إذا » ظرفاً والفعل الواقع فيه « جَاءَها » أي جاءها المرسلون حينَ أرْسَلْنَاهُمْ إلَيْهِمْ .
وإنما جاءوهم حيث أمروا . وهذا فيه لطيفة أخرى وهي أن في القصة أن الرسلَ كانوا مبعوثين من جهة عيسى - عليه ( الصلاة و ) السلام- أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى : إرسال عيسى ( عليه السلام- ) هو إرسالنا رسول رسول الله بإذن الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا رُسُلَ الرسل وإنما هم رُسُلُ الله ، فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله : { إِذْ أَرْسَلْنَآ } ويؤيد هذا مسألة فِقْهِيَّةٌ وهي أن وَكيلَ الوكيل بإذن الموكل وَكيلُ المُوَكّل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل ( الأول ) وهذا على قولنا : « واضرب لهم مثلاً » ضرب المثل لأجل محمد - عليه الصلاة والسلام - ظاهر وقوله : « إذا أرسلنا إليهم اثنين » في بعثة الاثْنَيْنِ حكمةٌ بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى عليه ( الصلاة و ( السلام ) ( بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ) فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قَوْلُهُمَا على قومهما عند عيسى حجَّةً .
فصل
قال ابن كثير : وروى ابن إسحاق عن ابن عباس وكعب الأحْبار ووهب بن منبّه ورُوِيَ عن بُريدةَ بْنِ الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أن هذه القرية أنطاكية وكان اسم ملكها انطيخش ، وكان يعبد الأصنام فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل وهم صَادِق وصَدُوق وسلومُ فكذبهم وهذا ظاهر ( ه ) أنهم رسل الله - عز وجل - وزعم قتادة أنهم كانوا رسلاً من عند المسيح وكان اسم الرسولين الأولين شمْعون ويوحَنّا واسم الثالث بُولص والقرية أنطاكية . وهذا القول ضَعِيف جداً؛ لأن أهل أنطاكية لما بَعث إليهم المسيحُ ثلاثةً من الحواريين كانوا أول مدينة آمن بالمسيح في ذلك الوقت ، ولهذا كانت إحدى المدن الأربع التي تكون فيها مباركة النصارى وهي أنطاكية والقدس واسكندرية رومية ، ثم بعدها قسطنطينية ، ولم يهلكوا ( إذا ) أهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا لقول الله تعالى : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [ يس : 29 ] لكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورة في القرآن بعثوا لأهل أنطاكية قديماً فكذبوهم فأهلكهم الله ثم عُمِّرت بعد ذلك فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله فيجوز والله أعلم .
قوله : { فَعَزَّزْنَا } قرأ أبو بكر بتخفيف الزاي بمعنى غَلَبْنا ، ومنه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] ومنه قولهم : عَزَّ وبَزَّ أي ص له بَزّ .
والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنَا يقال : عَزَّز المَطَرُ الأَرْضَ أي قواها ولَبدها ، ويقال لِتِلْكَ الأرْضِ العَزاء وكذا كل أرض صُلْبَة . وتعَزَّزَ لَحْمُ النَّاقَة أي صلُبَ وقَوِيَ وعلى كلتا القراءتين المفعول محذوف أي فَقَوّيناهما ( أو فغلبناهما بثالث ) ؛ لأن المقصود من البعثة نُصرة الحق ، لا نصرتهما ، والكل كانوا مقوين للدين والبرهان .
وقرأ عبد الله « بالثُّالثِ » بألفٍ ولام .
قوله : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُون } جرد خبر « إنّ » هذه من لام التوكيد ، وأدخلها في خبر الثانية ، لأنهم في الأولى استكملوا مجرد الإنكار فقابلتهم الرسل بتوكيد واحد وهوا لإتيان ب « إنَّ » وفي الثانية بالَغُوا في الإنكار فقابلتهم ( الرسل ) بزيادة التأكيد ، فأتوا ب « إنَّ » وب « اللاَّم » .
قال أهل البيان : الأخبار ثلاثة أقسام : ابتداءٌ وطلبيُّ وإنكاريُّ .
فالأول : ( يقال ) لمن لك يتردد في نسبة أحد الطرفين إلا الآخر نحو : زَيْدٌ عَارَفٌ .
والثاني : لمن هو مترد في ذلك طالبٌ له منكِرٌ له بعض إنكار فيقال له : إنَّ زَيْداً عَارِفٌ .
والثالث : لم يبالغ في إنكاره فيقال له : إنَّ زَيْداً لَعاَرِفٌ ومن أحسن ما يحى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْديِّ فقال : يا أبا العباس : إني لأجدُ في كلام العرب حشواً قال : وما ذالك؟ قال : يقولون زُيْدٌ قَائِمٌ ، وإنَّ زَيْداً لَقَائمٌ ، فقال : كلاَّ ، بل المعاني مختلفة ، « فعبد الله قائم » إخبار بقيامة ، و « إنَّ عبد الله قائمٌ » جواب لسؤال سائل و « إنَّ عبد الله لقائمٌ » جواب عن إنكار مُنْكِر وهذا هوا لكندي الذي سئل أن يعارض القرآن ففتح المصحف فرأى سورة المائدة وقال أبو حيان : وجاء أولاً « مرسلون » بغير لام ، لأنه ابتداء إخْبار ، فلا يحتاج إلى توكيد ، وبعد المجاورة « لَمُرْسَلُونَ » بلام التوكيد ، لأنه جواب عن إنكارٍ .
قال شهاب الدين : « وهذا قصور عن فهم ما قاله أهل البيان ، فإنه جعل المقام الثاني - وهو الطلبي - مقام المقام الأول وهو الابتدائي » .
قوله : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } جعلوا كونهم بشراً مِثلهم دليلاً على عدم الإرسال . وهذا عام في المشركين قالوا في حق محمد عليه ( الصلاة و ) السلام : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] وإنما ظنُّوه دليلاً بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار وإنما قالوا : إنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن ( الرجحان ) فرد الله تعالى عليهم بقوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وبقوله : { الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [ الشورى : 13 ] إلى غير ذلك . ثم قالوا : « وَمَا أَنْزَل الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ » وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مُتمِّماً لما ذكرو ( ه ) فيكون الكل شبهةً واحدة ، والمعنى وما أنزل الله إليكم أحداً فكيف صرتم رسلاً؟!
والثاني : أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة وهي أنهم لما قالوا : أنتم بشر مثلنا ، فلا يجوز رُجْحَانُكم علينا . ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المُرْسَلِين ثم قولا شبهة أخرى من جهة المرسِل وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئاً في هذا العالم ، فإن تصرفه في العالم العلوي فاللَّهُ لم ينزل شيئاً من الأشياء في الدينا فكيف أنزل إليكم؟! .
وقوله تعالى : { الرحمن } إشارة إلى الرد عليهم ، لأن الله تعالى لما كان رَحْمنَ الدُّنْيَا ، والإرسال رحمة فيكف لا ينزل رحمته وهو رَحْمن؟! ثم قال : « إنْ أَنْتُمْ إلاَّ تَكْذِبُونَ » أي ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون « إذْ أَرْسَلْنَا إلَيْهِم اثْنَيْنِ » قال وهب : اسمهما يحيى وبولس « فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا » برسول « ثَالِثٍ » وهو شمعون وقال كعب : الرسولان صَادِق وصدوق والثالث سلوم . وإنما أضاف الله الإرسال إليه ، لأن عيسى عليه ( الصلاة و ) السلام - إنما بعثهم بأمرهم عز وجل- .
قوله : { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } وهذا إشارة إلى أنهم مجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا بل أعادوا ذلك لهم ، وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين { قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } وأكدوه باللام لأن علم الله يجري مَجْرَى القسم ، كقوله :
{ الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] أي هو عالم بالأمور « وَمَا عَلَيْنَا إلاَّ البَلاَغُ المُبِينُ » وذلك تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا عن عُهْدَةِ ما علينا هو البَلاَغ وقوله « المبين » أي المبين الحق عن الباطل وه والفارق بالمعجزة والبُرهان؛ إذ البلاغ المظهر لما ارسلنا إلى الكل أي لا يكفي أن يبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين . أو المظهر للحق بكل ما يمكن فإذا لم يقبلوا الحق فهنالك الهلاك فما كان جوابهم بعد ذلك إلا قولهم : « إنا تَطَيَّرْنا بِكُمْ » أي تَشَاءمنا بكُمْ وذلك أن المطر حُبِسَ عنهم فقالوا أصابنا هذا بشؤمِكُمْ « لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمنَّكُمْ » لنقتلنّكم قاله قتادة .
وقيل : لنشتمنّكم « وليمسنكم منا عذاب أليم » فإن فسرنا الرجم بالحجارة فيكون قولهم : « وليمسنكم منا عَذَابٌ أَلِيمٌ » كأنه قالوا : لا نكتفي برجمكم بحجر أو حجرين بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو العذاب الأليم أو يكون المراد : ولَيَمسَّنَّكُمْ بسبب الرجم منَّا عذاب أليم أي مُؤْلِم .
وإن قلنا : الرجم الشتم فكأنهم قولوا ولا يكفينا الشتم بل شتم يؤدي إلى الضرب والإيلام الحِسِّيِّ . إذا فسرنا « أليم » بمعنى مؤلم فالفَعِيلُ بمعنى مُفْعِل قليلٌ .
ويحتمل أن يقال : هو من باب قوله : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أي ذاتِ رِضَا أي عذابٌ ذُو ألَمٍ ، فيكون فعلي بمعنى فَاعِلٍ وهو كثيرٌ .
ثم أجابهم المرسلون فقالوا « طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ » أي شؤمكم معكم ، أي كُفْركُمْ .
قوله : « طائركم » العامة على « طائِر » اسم فاعل أي ما طَارَ لكم من الخير والشر ، فغبر به عن الحظ والنصيب وقرأ الحسن- فيما روى عنه الزمخشري « اطَّيْرُكُمْ » مصدر اطَّيَّرَ الذي أصله تَطَيَّرَ ، فلما أريد إدغامه أبدلت الفاء طاء وسكنت واجتلبت همزة الوصل وصار اطَّيَّر ، فيكون مصدره « اطَّيَّاراً » .
ولما ذكر أبو حيان هذا لم يرد عليه وكان ( هو ) في بعض ما رد به على ابن مالك في شرح التسهيل في باب المصادر أن مصدر « تَطَيَّر وتَدَارأ » إذا أدغما وصار « اطَّيَّر وادَّارأ » لا يجيء مصدرهما علهيما ، بل عل أصلهما ، فيقال : اطَّيَّر تَطَيُّراً ، وادَّارأَ تَدَرُءاً . ولكن هذه القراءة تَردُّه إنْ صحت وهو بعيدٌ .
وقد روى غيره طَيْرُكُمْ بياء ساكنة ويغلب على الظن أنها هذه وإنما تصحفت على الرواي فحسبها مصدراً وظن أن ألف « قالوا » همزةُ وَصْلٍ .
قوله : { أَإِن ذُكِّرْتُم } قرأ السبعة بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية وهم على أصولهم من التسهيل والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه في سورة ( البقرة ) واخْتَلَفَ سيبويه ويونسُ إذا اجتمع استفهام وشرط أَيُّهُما يُجَابُ؟ فذهب سيبويه إلى أجابة الاستفهام ، ويونُس إلى إجابة الشرط .
فالتقدير عند سيبويه أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ تَتَطَيُّرُون وعند يونس تَطَيُّرُوا مجزوماً فالجواب للشرط على القولين محذوف .
وقد تقدم هذا في سورة الأنبياء . وقرأ أبو جفعر وطلحة وزِرّ بهمزتين مفتوحتين ، إلاَّ أنَّ زِرّاً لم يسهل الثانية ، كقوله :
4172- أَإِنْ كُنْتَ بْنَ أَحْوَى مُرَحَّلاً ... فَلَسْتَ برَاعٍ لابْن عَمِّكَ مَحْرَمَا
وروي عن أبي عمرو وزرِّ أيضاً كذلك ، إلا أنها فصلاً بأَلِفٍ بني الهَمْزَتَين وقرأ المَاجَشُون ( بهمزة ) واحدة مفتوحة .
وتخرج هذه القراءات الثلاث على حذفلام العلة أي ( أَ ) لأَنْ ذُكّرْتُمْ تَطَيِّرْتُمْ ف « تطيرتم » هو المعلول ، وأن ذكرتم عليته . والاستفهام منسحب عليهما في قراءة الاستفهام . وفي غيرها يكون إخبار بذلك . وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسروة وهي شرط من غير استفهام ، وجوابه محذوف أيضاً . وقرأ الأعمش والهَمْدَانيُّ أين ذكرتم فطائركم معكم أو صُحْبَتُكُمْ طائركم ، لدلالة ما تقدم من قوله : { طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } ومن يجوز تقديم الجواب لا يحتاج إلى حذف .
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصْمَعِيُّ عن نافع ذُكِرْتُمْ بتخفيف الكاف .
فصل
قوله : « أئن ذكرتم » جواب عن قوله : { لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي أتفعلون بنا ذلك وإن ذكرتم أي وعظتم بالله وبين لكم الأمر بالمعجز والبُرْهان « بَلْ أَنْتُمْ قَومٌ مُسْرِفُونَ » مشركون مجاوزون حيث تجعلون ما يُتَبرَّكُ به يتشاءم بِهِ وتقصدون إيلام من يجب إكرامه ، أو مسرفون حيث تكفرون ثم تُصِرُّونَ بعد ظهور الحق بالمُعْجِزة والبُرهان .
فإن قيل : ( بل ) للإضراب فما ( الأمر ) المضروب عنه؟
فالجواب : يحتمل أن يقال قوله : أَئِنْ ذُكِّرتم واردة على تكذيبهم فإنهم قالوا : نحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان لا بل قوم مسرفون . ويحتمل أن يقال : أنحن مشؤومون وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه لا بل أنتم قوم مسرفون . ويحتمل أن يقال : أنحن مستحون الرجم والإيلام وإن بينا صحَّةَ ما أتينا به لا بل أنتم قوم مسرفون .
فصل
ذكر المفسرون أن عيى - عليه ( الصلاة و ) السلام - بعث رجلين إلى أهل أنطاكية فَدَعَوَا إلى توحيد الله وأظهرا المعجزة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى فحبسهم الملك فأرسل بعدهما شمْعُون ، فأتى الملك ، ولم يدع الرسالة وقرب نفسه من الملك بحسن التدبير ، ثم قال : إني أسْمَعُ ( أنَّ ) في الحبس رَجُلَيْنِ يَدِّعيَا ( نِ ) أمراً بديعاً أفلا يحضران نسمع كلامهما؟ فقال الملك : بلى فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقَّةَ فقال شمعون : وهل لكما بيِّنَةٌ؟ قالا : نعم فأبرءا الأكمه والأبرص وأَحْيَيا الموتى . فقال شمعون : يا أيها الملك : إن شئت أن تَغْلِبَهم فقل للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئاً من ذلك فقال له الملك أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعلم فقال شمعون : فَإذَنْ ظهر لي الحق من جانبهم فآمن الملك ( وقوم ) وكفر آخرون . وكانت الغلبة للمكذبِينَ .
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قوله : { وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى } في تعلقه بما قبله وجهان :
أحدهما : أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث أمن بهم الرجل الساعي . وعلى هذا فقوله : « مِنْ أَقْصَى المَدِينَة » فيه بلاغة باهرة لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل و ( هو ) قد آمن دل على ( أن ) إنذارهم وإبلاغهم بلغ إلى أقصى المدينة .
والثاني : أن ضرب المثل لما كان لتسلية قلب محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام- ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعي المؤمنين في تصديق أنبيائهم ، وصبرهم على ما أوذوا ، ووصول الجزاء الأوفر إليهم ليكون ذلك تسليةً لقلب أصحاب محمد - عليه الصلاة والسلام- .
قوله : { رجل يسعى } في تنكير « الرجل » مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان :
الأولى : أن يكون تعظيماً ( لشأنه ) أي رجل كامل في الرجولية .
الثانية : أن يكون مفيداً ليظهر من جانب المرسلين أمر رجل من الرجال لا معرفة لهم به ، فلا يقال : إنهم تواطئوا والرجل هو حبيب النَّجار كان ينحت الأصنام . وقال السدي : كان قصاراً وقال وهب : كان يعمل الحرير وكان سقياً قد أسرع فيه الجُذَامُ وكان منزلة عند أقصى باب المدينة وكان مؤمناً آمن بمحمدٍ- صلى الله عليه وسلم - قبل وجوده حين صار من العلماء بكتاب الله ، ورأى فيه نعت محمد وبعثته وقوله : « يسعى » تصيرٌ للمسلمين وهداية لهم ليبذلوا جَهْدَهم في النُّصْحِ .
قوله : { قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين } تقدم الكلام في فائدة قوله : « يا قوم » عند قوله موسى : { يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] .
فإن قيل : هذا مثل مؤمن آل فرعون { وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون } [ غافر : 38 ] وهذا قال : « اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ » فما الفرق؟ .
فالجواب : هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السَّبِيلَ وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال : « اتَّبِعُونِي في الإيمان بمُوسى وهَارُونَ - عليهما ( الصلاة و ) السلام - واعلموا أنه لو لم يكن خيراًلما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته » ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول : أنتم تعلمون اتّباعي لهم . واعلم أنه جمع بين إظهار النصيحة وإظهار إيمانه فقوله : « اتبعوا » نصيحة وقوله : « المرسلين » إظهار إيمانه وقدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعياً في النصيحة وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله : « يسعى » على إرادته النصح .
قوله : { مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } بدل من « المرسلين » بإعادة العامل إلا أن أبا حيان قال : النحاة لا يقولون ذلك إلا إذا كان العامل حرف ( جر ) وإلا فلا يسمونه بدلاً بل تابعاً وكأنه يريد التوكيد اللفظي بالنسبة إلى العامل .
فصل
هذا الكلام في غاية الحسن لأن لما قال اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونَهُمْ مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة الاستقامة والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه والامتناع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين إما لطالب الدليل الأجرة وإما عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريق المستقيمة الموصولة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين أليسوا بمهتدين فاتبعوهم .
قوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } أصل الكلام وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عليهم ليكون الكلام أسرع قبولاً ولذلك جاء قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } دون « وإليه أَرْجِعُ » وقوله { أَأَتَّخِذُ } مبني على كلام الأول وهذه الطريقة أحسن من ادِّعاء الالتفات وقرأ حمزةٌ ويعقوبُ ما لي بإسكان الياء والآخرون فتحها واعلم أن قوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ } أَيْ أيُّ مانع من جانبي وهذا إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه فمن يمنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جَرَمَ عبدته وفي العدول من مخاصمة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم « لم يكن في البيان مثل قوله : { وَمَا لِيَ } لأنه لو قال : » وَمَالِي « وأحد لا يخفى عليه ( حال ) نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعمل بحال نفسه فهو بين عدم المانع وأما لو قال : » وَمَا لَكُمْ « جاز أن يفهم ( منه ) أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه ، وقوله : { الذي فَطَرَنِي } إشارة إلى وجود المقتضي ، فإن قوله : » وَمَا لِي « إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضي فقوله : { الذي فَطَرَنِي } دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعمٌ بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته . وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه واختار من الآيات فطرة نفسه لأن خَالِقَ عَمْرو يجب على زيدٍ عبادتُه لأن من خلق عمراً ( لا يكون إلا ) كامل القدرة واجب فهو مستحق العبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على » زيد « بخلق » زيد « أظهر إيجاباً
فصل
أضافَ الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم كأن الفطرة أثر النعمة وكان عليه أظهر وفي الرجوع معنى الشكر وكان بهم أليق . روي أن لما قال : اتبعوا المرسلين أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له : » أَفَأَنْتَ تَتَّبِعُهُمْ « ؟ فقال : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي أي شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم .
ومعنى فطرني : خلفني اخترعاً ابتداء . وقيل جعلني على الفطرة كما قال تعالى : { فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] .
قوله : { أَأَتَّخِذُ } استفهام بمعنى الإنكار ، أي لا أتخذ من دونه آلهةً و « مِنْ دُونِهِ » يجوز أن يتعلق « بأَتِّخِذُ » على أنها متعدية لواحد وهو « آلهة » ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « آلهة » وأن يكون مفعولاً ثانياً قدم على أنها المتعدية لاثنين .
فصل
في قوله : « من دونه آلهة » لطيفة وهي أنه لما بين أنه يعبد الذي فطهر بين أن مَنْ دُونَهُ لا يجوز عبادة لأن الكل محتاجٌ مفتقرٌ حادثٌ وقوله : { أَأَتَّخِذُ } إشارة إلى أن غيره ليس بإلَهِ لأن المتخذ لا يكون إلهاً قوله : « إنْ يُرِدْنِي » شرط جوابه « لاَ تُغْنِ عَنِّ » والجملة الشرطية في محل نصب صفة « لآلهةٍ » وفتح طلحة السَّلْمَانِي - وقيل : بِضُمر بمعنى إن يُورِدْنِي ضُرًّا أي يجعله مَوْرداً للضر قال أبو حيان : وهذا والله اعلم رأى في كتب القراءات بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعدياً بالياء المعدية كالهمزة فلذلك دخل همزة التعدية فنصب به اثنين والذي في كتب القراءات الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطًّا ونطقاً لالتقاء الساكنين قال شهاب الدين : وهذا رجل ثِقَةٌ قد نقل هذا لاقراءة فتقبل منه .
فإن قيل : ما الحِكْمَةُ في قوله { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ } ولم يقل : إنْ يُرِد الرَّحْمَنُ بِي ضُرًّا وكذلك قوله تعالى : { إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } [ الزمر : 38 ] ولم يقل : إن أَرَادَ اللُّهُ بي ضُرًّا؟ .
فالجواب : أن الفعل إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بالحرف كالأمر تعدى بالحرف في قولهم : ذَهَبَ به وخَرَجَ به . ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولاً بحرف فإذا قال القائل مثلاً : كيف حال فلان؟ يقول : اختصه الملكُ بالكرامة والنعمة . فإذا قال : كيف كرامة الملك؟ يقول : اختصها بزيد فيقول المسؤول مفعولاً بغير حرف؛ لأنه هو المقصود وإذا تقرر هذا فالمقصود فيما نحن فيه : بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البُؤْسِ والرَّخاء وليس الضر مقصود بيانه كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله ويُؤَيِّد هذا قولُه مِنْ قَبْل : « الَّذِي فَطَرَنِي » حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فلذلك جعلها مفعول الإرادة ووقع الضر تبعاً وكذلك القول في قوله : « إنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بضُرِّ » المقصود بيان أنه يكون كما يريده الله ( وليس الضر ) لخصوصيته مقصوداً بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال الله تعالى :
{ سَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] يعني هو تحت إرادتِهِ .
فإن قيل : ما الحكمة في قوله هنا : « إن يُرِدْني الرحمن » بصيغة المضارع وقال في الزمر : { إِنْ أَرَادَنِيَ الله } [ الزمر : 38 ] بصيغ الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك اسم الله؟ .
فالجواب أن الماضي والمستقبل مع لاشرط يصير الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله : { أَأَتَّخِذُ } وقوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ } والمذكرو هناك من قبل بصيغة الماضي قوله : { أَفَرَأَيْتُم } [ الزمر : 38 ] .
قوله : { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئا } [ يس : 23 ] أي إن يَمْسَسْنِي اللَّهُ بضرِّ أي بسوء ومكروه لا تُغْنِ شفاعتهم شيئاً أي لا شفاعة لها فتغني « ولا يُنْقِذُونِ » من ذلك المكروه أو لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك . قوله تعالى : { إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي خطأ ظهار إن فعلت ذلك فأنا ضالٌّ ضلالاً بيناً . و « المُبِينُ » مُفْعِل بمعنى « فَعِيل » وعكسه « فَعِيلٌ » بمعى مُفْعِل في قوله « أليم » بمعنى مؤلم .
قوله : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } فيه وجوه :
أحدها : أنه خطاب المرسلين . قال المفسرون : أقبل القوم عليه يريدون قلته فأقبل هو للمرسلين وقال : إنِّي آمن بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُوا قولي واشهدوا لي .
والثاني : هم الكفار لمَّا نصحهم وما نفعهم قال آمنت فاسمعون .
الثالث : بركم أيها السامعون فاسمعوني على العموم كقول الواعظ : يا مِسْكينُ ما أَكْثَرَ أَمَلَك ( وما أتْرَرَ عَمَلَك « يريد كل سامع يسمعه وفي قوله » فَاسْمَعُونَ « فوائد منها : أنه كلام متفكر حيث قال : اسمعوا فإن المتكلم إذا كان يعمل أن لكلامه جماعةً سامعين يتفكر ، ومنها أن ينبه القوم ويقول : إن أخبرتكم بما فعلت حتى لا يقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرته لآمنا معك .
فإن قيل : قال من قبل : مَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الِّذي فطرني ، وقال ههنا : آمنتُ بربكم ولم يقل : آمن بربي!؟ فالجواب : إن قلنا : الخطاب مع الرسل فالأمر ظاهر لأنه لما قال : آمنتُ برَبِّكُمْ ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه وقال » بِرَبِّكُمْ « وإن قلنا : الخطابُ مع الكفار ففيه ( وجوه ) بيان للتوحيد لأنه لما قال : » أعبد الذي فطرني « ثم قال : » آمنت بربكم فاسمعون « فُهِمَ أنه يقول : ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم بخلاف ما لو قال : آمن بربي فيقول الكافر : وأنا أيضاً آمنت بربي .
قوله : { فاسمعون } العامة على كسر النون وهي نون الوقاية حذفت بعدها ياء الإضافة مُجتزءاً عنْهَا بكسرة النون وهي اللغة الغالية . وقرأ عِصْمَةُ عن عصم بفتحها وليست إلا غلط ( على عاصم ) ، إذ لا وجه ( لها ) وقد وقع لابن عطية وَهَمٌ فاحش في ذلك فقال : وقرأ الجمهور بفتح النون وقال أبو حاتم : هذا خطأ فلا يجوز لأنه أمر فإما حذف النون وإما كسرها على جهة الياء عين ياء المتكلم ، وقد يكون قوله : » الجمهور « سبقَ قلم منه أو من النساخ وكان الأصل : وقرأ غيرُ الجمهور فسقط لفظة » غيره « ( و ) قال ابن عطية حذف من الكلام ما تواترت الأخبار والروايات به وهو أنهم قتلوه فقيل له عند موته : ادْخُلِ الجَنَّة بَعْدَ القتل وقيل : قوله : ( قِيلَ ) ادخل الجنة عطف على قوله : { آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } فعلى الأول يكون قوله : { ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ } بعد موته والله أخبر بقوله ، وعلى الثاني قال ذلك في حياته وكان يسمع الرسل يقولون إنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقعطع به .
قوله : ( قَال ) يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ « كما علمت فيؤمنون كما آمنت وقال الحسن خرقوا خرقاً في حَلْقِهِ وعلقوه في سرو المدينة وقره بأنطاكية فأدخله الله الجنة وهو حي فيها يرزق ، فذلك قوله عز وجل : » قِيلَ ادْخُل الجَنَّة « فلما أقضى إلى الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي أي بغرانربي لي وجعلين من المكرمين . قوله : { بِمَا غَفَرَ لِي } يجوز في ( ما ) هذه ثلاثة أوجه : المصدرية كما تقدم والثاني : أنها بمعنى الذي والعائد محذوف أي بالذي غفره لي ربي واسْتُضْعِفَ هذا من حيث إنه يبقى معناه أنه تمنى أن يعمل قومه بذنبوه المغفورة . ولي المعنى على ذلك إنما المعنى على تَمَنِّي علمهم بغفران رَبِّه ذُنُوبَه والثالث : أنها استفهامية وإليْهِ ذَهَبَ الفرّاء ورده الكسائي بأنه كان ينبغي حذف ألها لكونها مجرورة وهو رد صحيح وقال الزمخشري الأجود وطرح الألف والمشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألها كقوله :
4173- ( عَلاَمَ يقُولُ الرُّمْحُ يُثْقِلُ عَاتِقِي ... إِذَا أَنَا لَمْ أَطْعُنْ إذَا الخَيْلُ كَرَّتِ
إلاَّ في ضرورة كقول الشاعر ) .
4174- عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئيمٌ ... كَخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادٍ
وقرئ من المكرمين بتشديد الراء .
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قوله ( تعالى ) : { وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء } لما تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه ليرغبوا في دين الرسل فلما قتل حبيب غضب الله وعجل لهم النَّقْمة وأمر جبريل - عليه ( الصلاة و ) السلام- فصاح بهم صيحةً واحدةً فماتوا عن آخرهم فذلك قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء } يعني الملائكة .
قوله : « وما كنا منولين » في ( ما ) هذه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنها ناقية كالتي قبلها فتكون الجملة الثانية جارية مَجْرى التأكيد للأولَى .
والثاني : أنها مزيدة قال أبو البقاء : اي وقد كنا منزلين وهذا لا يجوز البتة لفساده لفظاً ومعنى .
الثالث : أنها اسم معطوف على « جُنْدٍ » قال ابن عطية : أي من جند من الذين كُنَّا مُنْزِلينَ وردّه أبو حيان بأن « مِنْ » مزيدة ، وهذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب جار لمعرفة ومذهب البصريين غير الأخفش أن يكون الكلام غير موجب وأن يكون المجرور نكرة ، قال شهاب الدين : فالذي ينبغي عند من يقول بذلك ( أن ) يقدرها بنكرة أي : ومن عذاب كُنَّا مُنْزليه والجملة بعضها صفة لها وأما قوله إن هذا التقدير يؤدي إلى زيادتها في الموجب فليس بصحيح البتة وتعجَّبْتُ كَيْفَ يَلْزُم ذَلِكَ؟! .
فصل
قال ههنا « وما أنزلنا » بإسناد الفعل إلى النفس ، وقال في بيان حال المؤمن : « قِيلَ ادْخُل الجَنَّة » بإسناد القول إلى غير مذكور لأن العذاب من الهيئة فقال بلفظ التعظيم وأما إدخال الجنة فقال : قيل : ( ليكون كالمهنأ بقول الملائكة وبقول كل صلاح يراه ادخل الجنة خالداً كالتهنئة له ، وكثيراً ما ورد ) في القرآن قوله تعالى : « وقيل ادخلوا » إشارة إلى أن الدخول يكون دخولاً بإكْرَامِ . فإن قيل : لم أضاف القوم إليه مع أن الرسل أولى بكون الجمع قوماً لهم لأن الرسول لكونه مرسلاً يكون جميع الخلق أو جميع من أرسل إليهم قوماً لهم؟ .
فالجواب : تبين الفرق بينه وبنيهم لأنهما من قبيلة واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأُهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر ونسبهما نم قبلية واحدة وأيضاً فالعذاب كان مختصاً بهم وهم أقاربه لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يُصِبْهُم العذاب .
فإن قيل : لم خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جنداً قبله أيضاً فما فائدة التخصيص؟ .
فالجواب : أن استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الإهلاك .
فإن قيل : قال : « من السماء » وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جنداً من الأرض فما فائدة التقييد؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد ما أنزل عليهم جنداً بأمر من السماء فتكون للعموم .
والثاني : أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جنداً وإنما كان بصيحة أخذتهم وخربت ديارهم .
فإن قيل : أي فائدة في قوله : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } مع قوله : { وَمَآ أَنزَلْنَا } وهو يستلزم أن لا يكون من المنزلين؟ .
فالجواب : أنه قوله : « وما كنا » أي ما كان ينبغي أن ينزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك والمعنى وما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى الإنزال أو وما أنزلنا وما كمنا منزلين في مثل تلك الواقعة جنداً في غير تلك الواقعة أي وما أنزلنا على قومه من بعده أي على قوم حبيب من بعد قتله من جنده وما كنا منزلين ما ننزله على الأمم إذا أهلكناهم كالطُّوفَانِ والصَّاعِقَةِ والرِّيح .
فإن قيل : فكيف أنزل الله جنوداً في يوم « بدر » وفي غير ذلك حيث قال تعالى : { رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } [ الأحزاب : 9 ] .
فالجواب : أن ذلك تعظيماً لمحمد - عليه ( الصلاة والسلام ) وإلاَّ لكان تحريك رِيشَةٍ من جَنَاح ملكٍ كافياً في استئصالهم ولم تكن رسل ( عيسى ) عليه الصلاة والسلام في درجة محمد عليه السلام ثم بين الله تعالى عقوبتهم فقالك « إنْ كَانَتْ إلاَّ صَيْحَةً واحَدِةً » .
قوله : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً } العامة على النصب على أنَّ « كان » ناقصة واسمها ضمير الأَخْذ لدلالة السِّياق عليها و « صَيْحَةً » خبرها وقرأ أبو جعفر وشيبَةُ ومُعاذ القَارئ برفعها على أنها التامة أي إن وَقَعَ وحَدَثَ وكان ينبغي أن لا يلحق تاء التأنيث للفصل « بإلا » بل الواجب في غير ندور واضطرار حذف التاء نحو : مَا قَامَ إلاَّ هِنْدٌ وقد شذ الحسن وجماعة فقرأوا : { لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 25 ] كما سيأتي إن شاء الله تعالى وقوله :
4175- .. وَمَا بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلُوعُ الجَرَاشِعُ
وقوله :
4176- مَا بَرِئَت مِنْ رِيبَة وَذَمّ ... فِي حَرْبِنَا إلاَّ بَنَاتُ العَمّ
قال الزمخشري : أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر لكنه تعالى أنّث لما بعده من المفسر وهو الصيحة وقوله : « وَاحِدَةٌ » تأكيد لكون الأمر هيّناً عنده وقوله : { فَإِذَا هُمْ خَامِدُون } إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة في وقتها لم يتأخر ووصفهم بالخمود في غاية الحسن لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك أما الغضب .
فإنهم قتلوا مؤمناً كان ينصحهم وأما الشهوة فلأنهم احتلموا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الخالية فإذن كانوا كالنار الموقَدَة لأنهم كانوا جبارين ومستكبرين كالنار ومن خلق منها « فَإذَا هُمْ خَامِدُونَ » ميتِّون . قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ثم صح بهم صيحة واحدة فإذا هُمْ خامدن ميتون .
قوله : { ياحسرة } العامة على نصبها وفيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على المصدر والمنادى محذوف تقديره يا هؤلاء تَحسَّرُوا حَسْرَةً .
والثاني : أنها منونة لأنها منادى منكر فنصبت على أصلها كقوله :
4177- فَيَا رَاكِباً إمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغاً ... نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقِيَا
ومعنى النداء هنا على المجاز ، كأنه قيل : هذا أوانك فاحضري وقرأ قتادة وأبيّ - في أحد وجهيه- يا حسرة بالضم جَعَلها مقبلاً عليها وأبيّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحُسَيْن « يَا حَسْرَةً العِبادِ » بالإضافة فيجوز أن تكون مضافاً لفاعله أي تَتَحَسَّرُونَ على غيرهم لما يرون من عذابهم وأن يكون مضافاً لمفعوله أي يَتَحَسَّرُ عليهم ( من ) غيرهم . وقرأ أبو الزناد وابن هُرْمز وابن جُنْدُب « يا حَسْرَهْ » بالهاء ( المهملة ) المبدلة من تاء التأنيث وصلاً وكأنهم أَجْروا الوَصْل مُجْرَى الوقف وله نظائر مرت وقال صحب اللوامح وقفوا بالهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التَّاهَةِ بمعنى التأوه ثم وصلوا على تلك الحال وقرأ ابن عباس أيضاً : يا حَسْرَة بفتح التاء من غير تنوين ووجهها أن الأصل يا حسرتا فاجتزئ بالفتحة عن الألف كما اجتزئ بالكسرة عن الياء ومنه :
4178- وَلَسْتُ براجِعِ مَا فَاتض مِنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَانِّي
أي بلهفها بمعنى لهفي وقرئ : يا حَسْرتَا بالألف كالتي في الزمر وهي شاهدة لقراءة ابن عباس وتكون التاء لله تعالى ، وذلك على سبل المجاز دلالة على فرط هذه الحسرة وإلا فاللَّه تعالى لا يوصف بذلك قوله : « مَا يَأْتِيهِمْ » هذه الجملة لا محل لها لأنها مفسِّرة لسبب الحسرة عليهم وهذا الضمير يجوزأن يكون عائداً إلى قوم حبيب أي ما يأتيهم من رسول من الرّسلِ الثلاثة . ويجوز : أن يعود إلى الكفار المصرين وقوله : « إلاَّ كَانُوا » جملة حالية من مفعول « يَأْتِيهِمْ » .
فصل
الألف واللام في العبادة قيل : للعهدوهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك . وقيل : لتعريف الجنس أي جنس الكفار المكذبين وقيل : المراد بالعبادة الرسل الثلاثة كأنه الكافرين يقولون عند ظهور اليأس يا حسرةً عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين لنؤمن بهم ثانياً وهم قوم ( حبيب ) وفي التحسر وجوه :
الأول : لا متحسر أصلاً في الحقيقة إذا المقصودُ بيانُ ( أن ) ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عن تحقق العذاب وههنا بحث لغوي وهو أن المفعول قد يرفض كثيراً إذا كان الغرض غير متعلق به يقال : فلان يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء مُعْطًى ولا شخص معطى ، إذا المقصود أن له المنع والإعطاء ، ورفض المفعول كثير وما نحو فيه رفض الفاعل وهو قليل . والوجه فيه أن ذكر التحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في خلال الوقت .
الثاني : أن القائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيماً لللأمر وتهويلاً له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حقل اله كالضِّحِك والسُّخْرية والتعجيب والتّمنِّي .
أو يقال لي معنى قوله يا حسرة أو يا ندامة أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبرٌ عن الوقوع وقوع الندامة ولا يحتاج إلى التجوز في كونه تعالى قائلاً يا حسرة بل تجْريه على حقيقته إلا في الندامة فإن النداء مجاز والمراد الإخبار .
الثالث : أن المتلهفين من المسلمين والملائكة لما حكى عن حبيب أنه حين القتل كان يقوله اللَّهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال يا ليت قومي علمون فيجوز أن يتحسر المسلم لكافر ويندم له وعليه وقوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } هذا سبب الندامة .
فصل
قال الزهري الحسرة لا تدعى ، ودعاءها تنبيه للمخاطبين ، وقيل العرب تقول : يا حَسْرَتَا ويا عَجَبَا على طريق المبالغة . والنداء عندهم بمعنى التنبيه فكأنه يقول : أيها العجبُ هذا وقتُكَ وأيتها الحسرة هذا أوَانُكِ وحقيقة المعنى أن هذا زمان الحسرة والتَّعَجُّب قوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا } لما بين حال الأولين قال للحاضرين : ألَمْ يَرُوا الباقون ما جرى على من تقم منهم قوله : « كم أهلكنا » كم هنا خبرية فهي فعول بأهلكنا « تقديره كثيراً من القرون أهلكنا وهي مُعَلِّقة » ليَرَوْا « ذهاباً بالخبرية مذهب الاستفهامية ، وقيل : بل » يَرَوا « علمية » وكم « استفهامية كما سيأتي بيانه و » أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يرجعون « فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من » كم « قال ابن عطية و » كم « هنا خبرية و » أنهم « بدل منها ، والرؤية بصرية قال أبو حيان وهذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية ( كانت ) في موضع نصب » بأهلكنا « ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون » أنهم « بدلاً منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت » أهلكنا ( هم ) « على » أنهم « لم يصح ألا ترى أنك لو قلت : أهلكنا انتفى رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاماً لكنَّ ابْنَ عطية توهم أن ( يَرُوْا ) مفعولة » كم « فتوهم أن قوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدل منه لأنه لا يسوغ أن يسلط عليه فتقول : ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون . وهذا وأمثاله دليل إلى ضعفه في ( عِلْم ) العربية قال شهاب الدين : وهذا الإنحاءُ عليه تحامل عليه لأنه لقائل أن يقول : كم قد جعلها خبرية والخبرية يجوز أن تكون معمولة لما قبلها عند قوم فيقولون : » مَلَكْتُ كم عبدٍ « فلم يلزم الصدر فيجوز أن يكون بناء هذا التوجيه على هذه اللغة وجعل » كم « منصوبة » بيَرَوا « و » أنهم « بدل منها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذ .
الثاني : أن « أنَّهُمْ » بدل من الجملة قبله الزجاج وهو بدل من الجملة والمعنى ألم يروا أن القرون التي أهلكناهم أنهم لا يرجعون لأن عدم الرجوع والهلاك بمعنى قال أبو حيان ولي بشيء لأنه ليس بدلاً صناعياً وإنما فسر المعنى ولم يلحظ صناعة النحو قال شهاب الدين : بل هو بدل صناعي لأن الجملة في قوة المفسر إذ هي سادة مسد فعلوي « يروا » فإنها معلقة لها كما تقدم .
الثالث : قال الزمخشري : أَلَمْ يَرَوا الم يعلموا وهو معلَّقٌ عن العمل في « كَمْ » لأن « كم » لا يعمل فيها عامل قبلها سواه كانت للاستفهام ( أو للخبر ، لأن أصلها الاستفهام ) إلا أنَّ معناها نافد في الجملة كما نفذ في قولك : ( ألَمْ يَرَوْا ) إن زيداً لمُنْطَلِقٌ و « أن » لم يعمل في لفظه و « أنَّهُمْ إِلَيْهمْ لاَ يَرْجِعُون » بدل من « كَمْ أهلَكْنَا » على المعنى لا على اللفظ تقديره : ألم يروا كَثْرَة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم .
قال أبو حيان قوله « لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها كانت للاستفهام أو للخبر » ليس على إطلاقه لأن إذا كانَ حرف جر أو اسماً مضافاً جاز أن يعمل فيها نحو : عَلَى كَمْ جِذْع بَيْتُكَ؟ وأيْن كم رئيس صَحِبْتَ؟ كَمْ فَقير تَصَدَّقْت أرجو الثواب؟ وأين كم شهيد في سبل الله أحسنت إليه . وقوله أو الخبرية الخبرة فيها لغة الفصيحة كما ذكر لا يتقدمها عامل إلا ما ذكرنا من الجار ، واللغة الأخرى حكاها الأخفض يقولون : مَلَكْت كَمْ غُلاَم اي ملكت كثيراً من الغِلمان فكما يجوز تقدم العامل على كثيراً كذلك يجوز على « كم » لأنها بمعناها . وقوله : لأنها أصلها الاستفهام والخبرية ليس اصلها الاستفهام بل كل واحدة أصل ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر وقوله : لأن معناها نافذ في الجملة يعني معنى « يَرَوْا » نافذ في الجملة لأنه جعلها معلقة وشرح « يروا » بيعلموا ، وقوله : كما نفذ في قولك : « أَلمَمْ يَرَوا إِنًّ زيداً لَمُنْطلِقٌ » يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظ لامتنع دخول اللام ولفتحت « أن » فإن « إن » التي في خبرها اللام من الأدوات المعلقة لأفعال القلوب ، وقوله : { أَنَّهُمْ إلَيْهِمْ } إلى آخر كلامه لا يصح أن يكون بدلاً على اللفظ ولا على المعنى أما على اللفظ فإن زعم أن « يروا » معلقة فتكون كم استفهامية فيه معمولة « لأهْلَكْنَا » و « أهلكنا » لا يتسلط على « أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ » كما تقدم .
وأما على المعنى فلا يصح أيضاً لأنه قال تقديره : أي على ( هذا ) العنى ألميروا كثرة إهلاكنا القرونَ من قبلهم كَوْنَهم غيرَ راجعين إليهم . فكونهم غير كذا ليس كثرة الإهلاك فلا يكون بدل كل من كل وليس بعض الإهلاك فلا يكون ( بدل بعض من كل ولا يكون ) بدل اشتمال لأن بدل الاشتمال يصيح أنْ يُضَافَ إلى ما أبدل منه وكذلك بدل بعض من كل وهذا لا يصيح هنا لا نقول : ألم يروا انتفاء رجوع كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم وفي بدل الاشتمال نحو : أعجبتني الجارية ملاحتها وسُرقَ زيد ثوبُه يصح أعجبتني ملاحةُ الجارية وسُرق ثَوْبُ زَيْدٍ .
الرابع : أن يكون أنهم بدلاً من موضع « كم أهلكنا » والتقدير ألم يروا أنهم إليهم قاله أبو البقاء ورده أبو حيان بأن « كم أهلكنا » لي بمعمول « ليروا » قال شهاب الدين : وقد تقدم أنها معمولة لها على معنى أنه معلقة لَهَا .
الخامس : وهو قول الفراء : أن يكون « يروا » علاماً في الجملتين من غير إبدال ولم يبين كيفية العمل وقوله الجملتين يجوز لأن « أنهم » ليس بجملة لتأويله بالمفرد إلا أنه مشتمل على مُسْنَدٍ ومُسْنَدٍ إليه .
السادس : ( أن ) « أنَّهُم » معمول لفعل محذوف دل عليه السِّيَاق والمعنى تقديره : قَضَينَا وحَكَمْنَا أنَّهُمْ إليهم لا يرجعون ويدل على صحة هذا قول ابنِ عباس والحسن إنَّهُمْ بكسر الهمزة على الاستئنانف والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها فهما مقولان تكون معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها والضمير في « أنهم » عائد على معنى كم ، وفي « إليهم » عائد على ما عاد عليه واو « يَرَوا » ( وقيل : بل الأول عائد على ما عاد عليه واو يَرَوْا « والثاني عائد على المُهْلَكِينَ .
فصل
المعنى ألم يخبروا أهل مكة كم أهلكنا قبلهم من القرون والقرن أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ سموا بذلك لاقترانهم في الوجود أنَّهُمْ إلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ أي لا يعودون إلى الدنيا أفلا يعبترون وقيل : لا يرجعون أي الباقون لا يرجعون إلى المُهْلَكين بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم ولا شك أنَّ الإهلاك الذي يكون مع قطع النّيل أتم وأعم والأول أشه نقلاً والثاني أظهر عقلاً .
قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } تقدم فيهود تشديد » لمَّا « وتخفيفها والكلام في ذلك ، وقال ابن الخطيب في مناسبة وقع » لما « المشددة موقع » إلا « : إن لما كأنَّهَا حَرْفا نفي جمعاً وهما : » لَمْ « و » مَا « فتأكد النفي وإلا كأنها حرفا نفي : » إن ولاَ « فاستعمل أحدهما مكان الآخر انتهى وهذا يجوز أن يكون أخذه من قول الفراء في إلا في الاستثناء إنها مركبة من » إنْ ولاَ « إلا أنَّ الفراء جعل إنْ مخففة من الثقيلة وجعلها نافية وهو قول ركيك رَدَّهُ عليه النحويون وقال الفراء أيضاً إنّ لما هذه أصلها لَمْمَ فخففت بالحذف وتقديم هذا كله مُوَضِّحاً .
و « كل » مبتدأ و « جميع » خبره و « مُحْضَرُونَ » خبر ثاني لا يختلف ذلك سواء شددت « لما » أم خففتها ، لا يقال : إن جميعاً تأكيد لا خبر ( لأن ) « جميعها » هنا فَعِيل بعنى مفعول أي مجموعون فكل يدل على الإحاطة والشمول وجميع يدل على الاجتماع فمعناها حمل على لفظها كما في قوله : { جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] وقدم « جميع » في الموضعين لأجْل الفَوَاصِل و « لَدَيْنا » متعلق « بمُحْضَرُونَ » فمن شدد « فلما » بمعنى إلا وإنْ نافية كما تقدم والتقدير : ومَا كُلُّ إلاَّ جميعٌ ومن خفَّفَ « فَإنْ » مخففة ( من الثقيلة ) واللام فارقة وما مزيدة هذا قولا البصريين والكوفيون يقولون : إنَّ « إنْ » نافية واللام بمعنى إلا كما تقدم مراراً .
فصل
لما بين الإهلاك بين أن من أهْلَكَهُ ليس بتارك له بل بعده جمع وحبس وحساب وعقابٌ ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحةً ونعْمَ ما قال القائل :
4179- ولو أنّا إذا ما متْنَا تُرِكْنَا ... لَكَانَ المَوْتُ رَاحَة كُلِّ حَيِّ
وَلكِنَّا إِذا مِتْنا بُعِثْنا ... وَنُسْأَلُ بَعْدَهَا عَنْ كُلِّ شَيِّ
قال الزمخشري : إن قال قائل : « كل وجميع » بمعنى واحد فكيف جعل جميعاً خبراً ل « كلّ » حيث أدخل اللام عليه إذ التقدير وإن كل لجميعٌ؟ نقول معنى « جميع » مجموع ومعنى « كل » أي كل فرد مجمع مع الآخر مضموم إليه ويمكن أن يقال : « مُحْضَرُونَ » يعني كما ذكره وذلك لأنه لو قال : وإن جميع لجميع محضرون لكان كلاماً صحيحاً . قال ابن الخطيب : ولم يوجد ما ذكره من الجواب بل الصحيح أنَّ مُحْضَرُونَ كالصفة للجمع فكأنه قال جميعٌ جميعٌ محضرون كما نقُول : الرجلُ رجلٌ عالم والنبيُّ نبيُّ مرسل . والواو في « وَإنْ كُلّ » يعطف على الحكاية كأنه يقول : بَيَّنْتُ لك ما ذكرت وأبين أن كُلاًّ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ .
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
قوله : { وَآيَةٌ } خبر مقدم و « لَهُمْ » صفتها أو متعلقة « بآية » ؛ لأنها ( بمعنى ) علامة . و « الأرض » مبتدأ وتقدم تخفيف « الميتة » وتشديدها في أول ( آل ) عمران .
ومع أبو حيان أن يكون « لأهم » صفة لآية ولم يبين وَجْهَةُ ولا وجه له وأعرب أبو البقاء « آية » مبتدأ و « لهم » الخبر و « الأرض الميتة » مبتدأ وصفته و « أَحْيَيْنَا » خبره ، والجملة مفسرة « لآيةٍ » .
وبهذا بدأ ثم قال : وقيل؛ فذكر الوجه الأول وكذلك حكى مَكِّيٌّ أعني أن تكون « آية » ابتداء و « لهم » الخبر وجوز مكي أيضاً أن تكون « آية » متبدأ و « الأرض » خبره وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لأنه لا يُتْرَكُ المعرفة من الابتداء بها ويبتدأ بالنَّكِرَة إلاَّ في مَوَاضِعَ للضَّرُورَةِ .
قوله : « أحييناها » تقدم أنه يجوز أن يكون خبر « الأَرْضِ » ويجوز أيضاً أن يكون حالاً من « الأَرْضِ » إذا جعلناها مبتداً و « آية » خبر مقدم وجوز الزمخشري في « أَحْيَيْنَاهَا » وفي « نَسْلخُ » أن يكونا صفتين للأرض والليل وإن كانا معرفين بأل لأنه تعريف بأل الجنسيَّة فهما في قوة النكرة قال كقوله :
4180- وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي .. .
لأنه لم يقصد لئيماً بعينه ، ورده أبو حيان بأن فيه هدماً للقواعد من أنّه لا تنعت المعرفة بنكرة قال : وقد تبعه ابنُ مالك ثم خرج أبو حيان الحمل على الحال أي الأرض مُحْيَاةً والليل مُنْسَلِخاً منه النهار واللئيم شاتماً لي ، قال شهاب الدين : وقد اعتبر النحاة ذلك في مواضع فاعتبروا معنى المعرف بأل الجنسية دون لفظه فَوَصَفُوهُ بالنَّكرة الصَّرِيحَة ، نحو : يا لرجل خير منك على أحد الأوجه . وقوله : { إِلاَّ الذين } [ العصر : 3 ] بعد { إِنَّ الإنسان } [ العصر : 2 ] وقوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] و « أهْلَكَ النَّاسُ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ » كل هذا ما روعي فيه المعنى دون اللفظ ، وإن اختلف نوع المراعاة ، ويجوز أن يكون « أحْيَيْنَاهَا » استئنافاً بين به كونَها آيةً .
فصل
وجه التعلق بما قبله من وجهين :
أحدهما : أنه لما قال : كان ذلك ( إشارة ) إلى الحشر فذكر ما يدل على إمكانه قطعاً لإنكارهم واستعبادهم وإصرارهم وعنادهم فقال : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } كذلك يُحْيِي المَوْتَى .
وثانيهما : أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذِّبين وكان شُغْلُهم التوحيد ذكر ما يدل عليه وبدأ بالأرض لكونها مكانَهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون؟
فإن قيل : الأرض آية مطلقة فلم خصها بهم حيث قال : « وآيَةٌ لَهُمْ » ؟ .
فالجواب : الآية تعدد وتردد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه أما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له لدليل فالنبي - عليه ( الصلاة و ) السلام- وعباد الله المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء فليست الأرض معرفة لهم وهذا كما قال الله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ } [ فصلت : 53 ] وقال : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] يعني أنت كفاك الله معرفاً به عرفت كل شيء فهو شهيدٌ لك على كل شيء وأما هؤلاء نبين لهم الحق بالآفاق والنفس وكذلك ها هنا الأرض آية لهم ، فإن قيل : إن قُلْنا الآية مذكروة للاستدلال على جَوَاز إحياء المَوْتَى فيكفي قوله : « أحْيَنْنَاهَا » ولا حاجة إلى قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } وغير ذلك وإن قلنا : إنه للاستدلال على وجود الإله ووحدانيته فلا فائدة في قوله : { الأرض الميتة } فقوله : { الميتة أَحْيَيْنَاهَا } كافٍ في التوحيد فما فائدة قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً } ؟ فالجواب : هي مذكورة للاستدلال عليها ولكلّ ما ذكره الله تعالىً فائدة أما فائدة قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّا } فهو بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حباً كان ذلك إحياء تامًّا لأن الأرض المُخْضرَّة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحَبَّ دون ما تنبيه الحياةُ ، فكأنه تعالى قال : الذي أحيا الأرض إحياء كاملاً منبتاً للزّرع يحي الموتى إحياء كاملاً بحيث يدري الأمور وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تقرير النعمة ، كأنه يقول : آية لهم الأرضُ فإنها مكانُهم ومَهْدُهُم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها في نعمة ثم إحياؤها نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه ثم إخراج الحبِّ منها نعمة ثالثة فإن قوتهم تصير في مكانهم وكان يمكن أن يجعل رزقهم في السماء أو الهواء فلا يحصل لهم الوُثُوقُ ثم جعل الحياة منها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحَبَّ في كل سنة والأشجار بحيث يوجد منها الثِّمار فيكون بعد الحبِّ وجوداً ثم فجر منها العيون ليحصل لهم الاعتمال بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين ( يقع ) المطر .
فصل
المعنى « أَحْيَيْنَاها » بالمطر « وأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا » يعني الحِنْطَة والشعير وما أشبههما « فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ » أي من الحب « وَجَعَلْنَا فِيها جَنَّاتٍ » بساتين « مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وفَجَّرْنا فِيهَا » في الأرض « مِنَ العُيُونِ لِيَأْكُلُوا منْ ثَمَرِهِ » الحاصل بالماء .
قوله : { وَفَجَّرنَا « العامة على التشديد تكثيراً لأنها مخففة متعدّية ، وقرأ جَنَاحُ بْنُ حبيش بالتخفيف ، والمفعول محذوف على كلتا القراءتين أي يَنْبُوعاً كما في آية : » سًبْحَانَ « .
قوله : { مِن ثَمَرِهِ } قيل : الضمير عائد على النخيل؛ لأنه أقرب مذكور وكان من حق الضمير أن يثنى على هذا لتقدم شيئين وهما الأعْنَاب والنَّخِيل إلا أنه اكتفى بذكر أحدهما ، وقيل يعود على جنات وعاد بلفظ المفرد ذهاباً بالضمير مَذْهَبَ اسم الإشارة كقول رؤبة :
4181- فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبلَقْ ... كَأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ
فقيل له ، فقال : أردت كأن ذاك وتلك ، وقيل : عائد على الماء المدلول عليه بعيون وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدر أي من العيون . ويجوز أن يعود على العيون ويعتذر عن إفراده بما تقدم في عوده على جنات ، ويجوز أن يعود على الأعناب والنخيل معاً ويعتذر عنه بما تقدم أيضاً وقال الزمخشري وأصله من « ثَمَرِنَا » لقوله : « وفَجَّرْنَا » و « أَيْدِينَا » فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريق الالتفات . والمعنى ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر . فعلى هذا يكون الضمير عائداً على الله تعالى ولذلك فسر معناه بما ذكر ، وتقدمت هذه القراءات في هذه اللفظ في سورة الأَنْعَام .
قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } في « ما » هذه أربعة أوجه :
أحدها : أنها موصولة أي ومن الذي عملته أيديهم من الغَرْس والمُعَالَجَة . وفيه تجوز على هذا .
والثاني : أنها نافية أي لم يعلموه هم بل الفاعل له هو الله سبحانه وتعالى ، أي وجدها معمولة ولا صنع لهم فيها . وهو قول الضحاك ومقاتل . وقيل : أراد العيون والأنهار التي لم تعلمها يدُ خلقٍ مثل الدِّجْلة والفرات والنيل ونحوها . وقرأ الأخوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون : وما عملته بإثباتها . فإن كانت « ما » موصولة فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حذف العائد كما حذف في قوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] بالإجماع وعلى قراءة غيرهم جيء به على الأصل ، وإن كانت نافيةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر لا ضمير مقدر ولكن المفعول محذوف أي ما عَمِلَتْ أيْدِيهم شَيْئاً من ذلك وعلى قراءة غيرهم الضمر يعود على « ثَمَرِهِ » وهي مرسومة بالهاء في غير مصاحف الكوفة وبحذفها فيما عداها ، فالأخوان وأبو بكر وافقوا مصاحفهم والباقون غير حفص وافقوا ( ها ) أيضاً وحفص خالف مصحفه وهذا يدل على أن القراءة متلقاةٌ من أفواه الرجال فيكون عاصم قد أقرأها لأبي ( بكر ) بالهاء كالكلام في الموصولة .
والرابع : أنها مصدرية أي ومن عمل أيديهم والمصدر واقع موقع المفعول به فيعود المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة .
فصل
إذا قلنا : « ما » موصولة يحتمل أن يكون المعنى وما عملته أيديهم بالتِّجَارة كأنه ذكر نَوْعَيْ ما يأكل الإنسان وهما الزراعة والتجارة ( أ ) ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعِنَبِ والتَّمْر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخةأو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر قوله : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } وذكر بصيغة الاستفهام لما تقدم في فوائد الاستفهام قوله : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا } أيا لأصناف و « سبحان » عَلَمٌ دال على التسبيح تقديره : سُبِّح تَسْبِيحَ الِّذِي خلق الأزواج .
ومعنى ( سبح ) نَزَّهَ ( و ) وجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } وشكر الله بالعبادة وهم تركوها وعبدوا غيره فقال : سُبْحَانَ الذي خلق الأزواج كلها وغيره لم يخلق شيئاً . أو يقال : لما بين أنهم أنركروا الآيات ولم يشكروا ( بين ) ما ينبغي علهي أن يكون عليه العامل فقال { سُبْحَانَ الذي خَلَق } تَنَزَّهَ عن أن يكونَ له شَرِيكٌ أو يكون عاجزاً عن إِحياء الموتى .
قوله : { مِمَّا تُنبِتُ الأرض } من الثِّمار والحُبُوب والمعادن ونحوها ، « وَمِنْ أَنْفُسهِمْ » يعين الذكور والإناث والدلائل النفسية « وَمِمَّا » لاَ يَعْلَمُونَ « يدخل فيه ما في أقطار السموات وتخوم الأرض .
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل } كقوله : { نَسْلَخُ } و « نَسْلَخُ » استعارة بديعة شبه انكشاف ظُلْمَةِ الليل بكَشْطِ الجِلْد عن الشَّاة لم استدل تعالى بأحوال الأرض وهو المكان الكلِّيُّ استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكُلِّيُّ؛ فإن دلالة الزمان والمكان متناسبة؛ لأن المكانَ لا يستغني عنه الجواهر والزمان لا يستغني عنه الأعراض لأن كل عرض فهو في زمان .
فإن قيل : إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فَلِمَ خَصَّ الدليل؟! .
فالجواب : أنه لما استدل بالمكان المظلم وهو الأرض استدل بالزَّمَان المُظْلِم وهو الليل ووجه آخر وهو أن اللَّيْلَ فيه سكون ( الناس ) وهدوء الأصوات وفيه النَّوْم وهو الموت الأصغر فيكون بعد طلوع الفَجْرِ كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } [ يس : 33 ] وذكر من الزمان أشبههما بالموت كما ذكر في المكان أشْبَهَهُمَا بالموت .
فإن قيل : الليل بنفسه آية فأيُّ حاجة إلى قوله : { نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } .
فالجواب : أن الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها .
قوله : { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } أي داخلون في الظلام كقوله : « مُصْبِحِينَ » و « إذَا » للمفاجأة؛ أي ليس لهم بعد ذلك أمرٌ لا بد لهم من الدخول فيه .
قوله : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } يحتمل أن تكون الواو للعطف على « اللَّيْل » تقديره : « وآيَةٌ لَهُم اللَّيلُ نسلخ والشمسُ تَجْري والقمر قدرناه » فيه كلها آية ووقوله « والشمس تجري » إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها بأم الله فمغرِب الشمس سالخ النّهار فذكر السبب بين صحة الدعوة ويحتمل أن يقال بأن قوله : « والشمس تجري لمستقر لها » إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال : « وآية لهم الليل نسلخ منه النهار » ذك أن الشمس تجري فتطلع عن انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه .
قال المفسرون : إن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل فتظهر الظلمة .
قوله : « لمستقر » قيل : في الكلام حذف مضاف تقديره تَجْري لِمَجْرى مُسْتَقَرٍّ لها وعلى هذا فاللام للعلة أي لأجل جري مستقر لها . والصحيح أنه لا حذف وأن اللام بمعنى « إلى » ويدل على ذلك قراءة بعضهم « إلَى مُسْتَقَرٍّ » وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزيْن العابدين وابنُه الباقر والصَّادِق ابن الباقر : لاَ مُسْتَقَّر بلا النافية للجنس وبناء « مُسْتَقَر » على الفتح و « لها » الخبر وابن عبلة لا مُسْتَقَرٌّ بلا العاملة عمل ليس « فمستقر » اسمها و « لها » في محل نصب خبرها ، كقوله :
4182- تَعَزَّ فَلاَ شَيْءٌ عَلَى الأَرْضِ بَاقِيا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا
والمراد ( بذلك ) أنها لا تستقر في الدنيا بل هي دائمة الجَرَيان وذلك إشارة إلى جريها المذكور .
فصل
قيل : المراد بالمستقر يوم القيامة فعندها تستقر ولا يقى لها حركة وقيل : تَسِيرُ حتَّى تَنْتَهِيَ إلى أبعد مغاربها فلا تتجاوزه ثم ترجع وقيل : الليل وقيل : نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء « وروى أبو ذَرّ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر حين غربَتِ الشمس : » تدري أين تذهب « ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : فإنها تذهب حت تسجُدَ تحت العرش فتستأذنَ فيؤذَنَ لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل ( منها ) وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها : ارْجِعِي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله : » والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم « وروى عَمْرُو بن دِينَار عن ابن عباس والشمس ( تجري ) لا مستقرّ لها أي لا قرار لها ولا وقوف وهي جارية أبداً .
قوله : { ذَلِكَ } إشارة إلى جَرْي الشَّمْس أي ذلك الجري تقدير الله ، ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي ذلك المستقر تقدير الله العزيز الغالب والعليم الكامل العلم أي قادر على إجرائها على الوجه الأنفع وذلك من وجوه :
الأول : أن الشمس لو مرّت كل يوم على مُسَامَتَةٍ واحدة لاحترقت ( الأرض ) التي تُسَامِتُها بمرورها عليها لك يوم وبقي الجمود مستولياً على الأماكن الأُخَر فقدر الله لها بُعْداً لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والإسخان في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج ليخرج النبات والثمار من الأرض والشجر ويَنْضُجَ ويَجفَّ .
الثاني : قدر لها في كل يوم طُلُوعاً وفي كل ليلة غروباً ، لئلا تَكِلَّ القوى والأبصار بالسهر والتعب ولئلا يَخْرُبَ العالم بترك العِمَارة بسبب الظلمة الدائمة .
الثالث : جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زُحَلَ لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئةً السير لدامتْ زماناً كثيراً في مُسَامَتَةِ شيء واحد فتحرقه ولو كانت سريعة السير لما حصل لها لبث بقَدْر ما ينضج من الثمار في بُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ .
قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمور برفع » القمر « والباقون بنصبه فالرفع على الابتداء والنصب بإضمار فعل على الاشتغال والوجهان مستويان لتقدم جملةٍ ذاتِ وجهين وهي قوله : { والشَّمْسُ تجري } فإن راعيت صدرها رفعت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجُزَهَا نصبت لتعطف جملة اسمية على مثلها وإن راعيت عَجْزَهَا نصبت لتعطف فعلية على مثلها وبهذه الآية يبطل ( قول ) الأخفش : إنه لا يجوز النصب في الاسم إلا إذا كان في جملة الاشتغال ضمير يعود على الاسم الذي تضمنته جملةٌ ذات وجهين : قال : لأن المعطوف على الخبر خبر فلا بد من ضمير يعود على المبتدأ فيجوز : » أَزْيْدٌ قَامَ وعمراً أكْرَمْتُه فِي دَارِهِ « ولو لم يقل » في داره « لم يجز ووجه الردّ من هذه الآية أن أربعة من السبعة نصَبُوا وليس في جملة الاشتغال ضمير يعود على الشمس وقد أجمع على النصب في قوله تعالى :
{ والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] بعد قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] .
قوله : { مَنَازِلَ } فيه أَوْجُهٌ :
أحدها : أنه مفعول ثان لأن « قَدَّرْنَا » بمعنى صَيَّرْنَا .
الثاني : أنَّه حال ولا بد من حذف مضاف قبل منازل تقديره : ذَا مَنَازِلَ قال الزمخشري : لا بُدَّ من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام ، لأن القمر لم يجعل نفسه مَنَازلَ .
الثالث : أنه ظرف أي قدرنا مَسِيرَهُ فِي مَنَازِلَ وتقدم نحوه أول يونس .
قوله : { حتى عَادَ كالعرجون } العامة على ضم العين والجيم . وفي وزنه وجهان :
أحدهما : أنه فُعْلُولٌ . فنونه أصلية وهذا هو المرجح .
والثاني : وَهُو قول الزجاج : أن نونه مزيدة ووزنه فُعْلُونٌ مشتقاً من الانْعِرَاج وهو الانعطاف وقرأ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ بكسر العين وفتح الجيم وهما لغتان كالبُزيون والبِزْيُون والعرجون عُود العِذْق ما بين الشماريخ إلى مَنْبِتِهِ من النخلة وهو تشبيه بديع شبه به القمر في ثلاثة أشياء دقَّتِهِ واستقواسه واصْفِرَارِهِ لأن العِذق الذي عليه الشماريخ إذا قَدِمَ وعَتِقَ دَقَّ وتَقَوَّسَ واصْفَرَّ والقديم ما تَقَادَمُ عَهْدُهُ بحكم العادة ولا يشترط في جواز إطلاق لفظ القديم عليه مدةً بعينها بل إنما يعتبر العادة حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنةٍ أو سنتين لبنائها قديم أو هي مدينة قديمةٌ ويقال لبعض الأشياء : إنّه قديم وإن لم يكن له سنةٌ ( واحدة ) ولهذا جاز أن يقال : بَيْتٌ قديمٌ ولم يجز ( أن يقال ) في العالم : إنه قديم؛ لأن القِدَم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه وإطلاق القديم على العالم بِتَمَادِي الأزمنة عند من ( لا ) يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه .
قوله : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } أي لا يدخل على الليل قبل انقضائه ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه وهو معنى قوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } أي يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته . وقيل : لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر لا تطلع الشمس بالليل ولا ( يطلع ) القمر بالنهار وله ضوء فإذا اجتمعا وأدرك كلّ ( واحد ) منهما صحبه قامت القيامة . وقيل : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } لا تجتمع معه في فَلَك واحد { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } أي لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل .
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } بصيغة الفعل وقوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ } بصيغة اسم الفاعل ولم يقل ولا الليل « سَبَقَ » ولا قال : لاَ الشَّمْسُ مُدْرِكَةٌ لِلْقَمر؟ .
فالجواب : أن حركة الشمس التي لا تدرك بها القمر مختصة بالشمس فجعلها كالصادرة منها فذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال : يَخِيط ولا يكون تصدر منه الخِيَاطَةُ وأما حركة القمر فليست مختصةً بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشترك بسبب حركة فَلَكٍ لا يختص بكوكب فالحركة ليس كالصادرة منه فأطلق على اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال : فُلاَنٌ خَيَّاطٌ وإن لك يكن يَخِيط . فإن قيل : قوله : { يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] يدل على أن الليل سابق .
فالجواب : أن المراد من الليل ها هنا سلطان الليل وهو القمر ولا يسبق الشمس بالحركة اليَوْمِيَّةِ السريعة والمراد من الليل هاك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر فكأنه طَالبُهُ .
فإن قيل : قد ذكر ههنا سابق ( النهار ) وقال هناك يطلبه ولم يقل طالبه .
فالجواب : لما بينا ( من ) أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل وحركتها بحركة الفَلَكِ فكأنها لا حَرَكَةَ لها فلا سبق ولا من شأنها أنها سابقة والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زَمَانَانِ لا قرارَ لهما فهو يطلب حثياً لصدور المنقضي منه .
فإن قيل : ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر وماذا يكون لو قال : ولا القمرُ سابق الشَّمس .
فالجواب : لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم المناقض بأن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر فالقمر أسرع ظاهراً وإذا قال : ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع فقال اللَّيْل والنهار ليعمل أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في يوم وليلة مرة وأن جميع الكواكب لها طلوع وغروب في اللّيل والنهار .
قوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ النهار } قرأ عمارة بنصب « النَّهَار » حذف التنوين لالتقاء الساكنين .
قال المبرد : سمعته يقرؤها فقلت : ما هذا؟ فقال : أردت سَابِقٌ - يعني بالتنوين- فخففت .
قوله : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يَجْرُون . وهذا يحقق أن لكلِّ طلوع في يوم وليلة ولا يسبق بعضُها بالنسبة إلى هذه الحركة والتنوين في قوله : « كُلُّ » عوض عن الإضافة والمعنى كل واحدٍ . وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكيرُ في شيءٍ واحد فلما أسقط المضاف إليه لفظاً رد التنوين عليه لفظاً وفي المعنى معرف الإضَافَةِ .
فإن قيل : فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظاً وتركها؟ .
فالجواب : نعم ، لأن قول القائل : كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه ، فإذا قال : كُلّ كذا يدخل في الفهم عمومٌ أكثر من العموم عند الإضافة وهذا كما في : « قَبْل وبَعْد » إذا قلت : أفعلُ قَبْلَ كذا فإذا حذفت المضاف وقلت أفعل قبل أفاد الفعل قبل كُلِّ شَيْءٍ .
فإِنْ قِيلَ : فهل بين قولنا : « كُلٌّ منْهُمْ » وبين : « كُلّهم » وبين « كُلِّ » فرق؟ .
فالجواب : نعم فقولك : كلهم يثبت الأمر للاقتصار عليهم ، وقولك : كُلّ منهم يثبت الأمر أولاً للعموم ثم استدركه بالتخصيص فقال : منْهم وقولك : كلّ يثبت الأمر على العموم وتركت عليه فإن قيل : إذا كان « كُلّ » معناه كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيْفَ قال : يَسْبَحُونَ؟ .
فالجواب : أن قوله « كل » للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيَّاراً . وأيضاً فلفظ « كل » يجوز أن يوحَّد نظراً إلى كون لفظه مُوحِّداً غير مثنى ولا مجموع ويجوز أن يجمع لكونه معناه جمعاً ، وأما التثنيه فلا يدل عليه اللفظ ولا المعنى وعلى هذا يحسن أن يقال : « زَيْدٌ وعمرٌو كُلُّ جَاءَ » ولا يقال : ( كل ) جَاءَا بالتثنية . وجواب آخراً قوله : { وَلاَ الليل سَابِقُ } فالمراد من الليل الكواكب فقال : « يَسْبَحُونَ » .
المستديرة التي توضع على رأس العمود ، لئِلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة . فإن قيل : فعلى هذا تكون السماء مستديرةً وقد اتفق أكثر المفسرين ( على ) أنَّ السماءَ مبسوطةٌ لها أطراف على جبال وهي كالسَّقْقِ المُسْتَوِي ويدل عليه قوله تعالى : { والسقف المرفوع } [ الطور : 5 ] قال ابن الخطيب : ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة بل دل الدليل الحِسِّيُّ على كونها مستديرةً فوجب المصير إليه والسقف والمقَبَّب لا يخرج عن كونه سقفاً وكذلك كونه على جبال . وأما الدليل الحسي فوجوه :
الأول : أن من أمْعَنَ في النظر في جانب الجنوب تظهر له كواكب مثل سُهَيْل وغيره ظهوراً أبدياً ولو كان السماء سطحاً مستوياً لبان الكُلُّ للكلِّ بخلاف ما إذا كان مستديراً فإن بضعه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يُرَى .
الثاني : أن الشمس إذا كانت مقارنة للحَمَل مثلاً فإذا غربت ظهر لك كواكبُ في منطقة البروج من الحَمل إلى المِيزان ثم في كل قليل يستتر الكوكب الذي يكون طلوعه بعدَ طلوع الشمس وبالعكس وهذا دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير ( قَطْعيًّا ) .
الثالث : أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوؤها ويستنير نورُها وإلا لما كان كذا بل كان ( عن ) إعادتها إلى السماء يظهر لك أحد جِرْمُها ونورُها معاً لكون السماء مستوية ( حنيئذ مكشوفة كلها لكل أحد .
الرابع : لو كانت السماء مستويةً ) لكان القمرُ عندما يكون فوق رُؤُوسِنَا على المُسَامَتَةِ أقرب ما يكون إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العمودأصغرُ من القُطْرِ والوتر وكذلك في الشمس والكواكب وكان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلِكَ .
الخامس : لو كانت السماءُ مستويةً لكان ارتفاعها أَولَ النهار ووَسَطَهُ وآخِرَهُ مستوياً وليس كذلك . والوجوه كثيرة وفي هذا كفايةٌ .
فصل
قال المُنَجِّمُونَ قوله تعالى : { يَسْبَحُونَ } يدل على أنها أحياء لأن ذلك لا يطلق إلا على العاقل قال ابن الخطيب إن أرادوا القَدْرَ الذي يكون منها التسبيح فنقول به لأن كل شيء يسبح بحمده وإن أرادوا شيئاً آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كا في قوله تعالى في حق الأصنام : { مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } [ الصفات : 92 ] وقوله : { أَلا تَأْكُلُونَ } [ الصافات : 91 ] .
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } لما مَنَّ بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر عليه بل بين للإنسان طريقاً يتخذ من البحر ويسير فيها كما يسير في البر وهو كقوله تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر } [ الإسراء : 70 ] ويؤيد هذا قوله تعالى : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } إذا فسرناه بأن المراد منه الإبل فإنها سفُن البرِّ . ووجه آخر وهو أن الله تعالى لما بين سِبَاحَةَ الكواكب في الأفلاك ذكر ما هو مثله وهو سباحة الفُلْكِ في البحار ووجه آخر وهو أن الأمور التي أنعم الله ( تعالى ) بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة فالأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الله الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش الإنسان ، والليل والنهار في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل } [ يس : 37 ] أيضاً من القبيل الأول لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان والشمسُ والقمرُ وحركتُهُما لو لم تكن لما عاش الإنسان ، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول وآيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين :
إحداهما : الفُلْك التي تجري في البحر فتستخرج من البحر ما يُتَزَيَّنُ به كما قال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ } [ فاطر : 12 ] .
وثانيهما : الدَّوَابُّ التي هي البرّ كالفُلْك في البحر في قوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } فإن الدوابَّ زينة كما قال تعالى : { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } [ النحل : 8 ] .
قوله : { أَنَّا حَمَلْنَا } مبتدأ « وآية » خبر مقدم ، وجوز أبو البقاء أن يكون : « أَنَّا حَمَلْنَا » خبر مبتدأ محذوف بناء منه على أن « آية لهم » مبتدأ وخبر كلام مستقل بنفسه كما تقدم في نظيره والظاهر أن الضميرين في « لَهُمْ » و « ذُرِّيَّتهم » لشيء واحد ويراد بالذرية آباؤهم المحمولين في سفينة نوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- أو يكون الضميران مختلفين أي ذرية القرون الماضية ووجه الامتنان عليهم أنهم في ذلك مِثْلُ الذرية من حيث إنهم ينتفعون بها كانتفاع أولئلك . وقوله « مَا يَرْكَبُونَ » هذا يحتمل أن يكون من جنس الفُلْك إِن أريد بالفلك سفينة نوح - عليه ( الصلاة و ) السلام- خاصة وأن يكون من جنس آخر كالإبل ونحوه ولهذا سمتها العربُ سُفُنّ البرِّ فقوله : « مِنْ مِثْلِهِ » أي من مثل الفلك أو من مثل ما ذكر من خلق الأزواج ، ( في قوله « وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ » ) والضمير في « لهم » يحتمل أن يكون عائداً إلى الذرية أي حملنا ذريتهم وخَلَقْنَا للمحمولين ما يركبون ، ويحتمل أن يعود إلى العباد الذين عاد إليْهِمْ قَوْلُهُ : « وَآيَةٌ لَهُمْ » وهو الظاهر لعود الضمائر إلى شيء واحد و « مِنْ » يحتمل أن تكون صلة أي خلقنا لهم مِثْلَهُ وأن تكون لِلْبَيَانِ لأن المخلوق كان أشياء .
وقال مِنْ مِثْل الفلك للبيان وتقدم اشتقاق الذُّرِّيَّةِ في البقرة ، واختلاف القراء فيها في الأعراف .
فصل
قال المفسرون : المراد بالذُّرَّيَةِ الآباء والأجداد واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد أي حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ في الفلك ، والألف للتعريف أي فُلْكِ نُوِحِ وهو مذكور في قوله : { واصنع الفلك } [ هود : 37 ] وهو معلوم عند العرب . وقال الأكثرون : الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فالمراد إما أن يكون الفلك المعين الذي كان لنوح وإما أن يكون المراد الجنس كقوله تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } [ الزخرف : 12 ] وقوله : { وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ } [ فاطر : 12 ] وقوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك } [ العنكبوت : 65 ] إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس فإن كان المراد سفينةَ وح ففيه وجوه :
الأول : أن المراد : حملنا أولادهم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك ولولا ذلك لما بقي للأب نسلٌ ولا عَقِب وعلى هذا فقوله : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم } إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة وهذا قول الزمخشري ويحتمل أن يقال : إنه تعالى إنما خص الذريات بالذكر لأن الموجودين كانوا كفاراً لا فائدة في وجودهم فقال : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُم } أي لم يكن الحَمْلُ حَمْلاً لهم وإنَّما كان حملاً لما في أصلابهم من المؤمنين كمن حمل صُنْدُوقاً لا قيمة له وفيه جَوَاهِرُ ( ف ) قيل : إنه لم يحمل الصندوق إنما حمل ما فيه .
الثاني : أنّ المُرَادَ بالذُّرِّيَّة الجنس أي حملنا أجناسهم لأن ذلك الحيوانَ من جسنه ونوعه ، والذرية تطلق على الجنس ولذلك تطلق على النِّساء كنهي النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام ) عن قَتْلِ الذَّرَارِي أي النساء لأنَّ المرأة وإن كانت صِنْفاً غير صِنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال : ذَرَاينا أي أمثالنا .
الثالث : أن الضمير في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمْ } عائد على العَبِاد ، حيث قال : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] وقال بعد ذلك : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } ( وإذا عُلِمَ هذا فكأنه تعالى قال : « وآيةٌ للعبادِ أنا حملنا ذريات العباد » . ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصاً مُعَيَّنينَ كقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] وكذلك إذا تقاتل قومٌ ومات الكُلّ في القتال يقال : هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم . « فهم » في الموضعين يكون عائداً إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصاً مُعَيَّنِينَ بل المراد أن بعضَهم قتل بعضَهم فكذلك قوله تعالى : « آيةٌ لهم » أي آية لكل بعض منهم أ ، ا حلمنا ذرية كُلِّ ( بَعْض ) منهم ، أو ذرية بعض منهم .
وإن قلنا : المراد جنس الفلك فآية ظاهرة لكل أحد وقوله تعالى في سفينة نوح : { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 15 ] أي بوجود جنسها ومثلها . ويؤيده قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ لقمان : 31 ] وإن قيل : المراد سفينة نوح فوجه المناسبة أنه ذكرهم بحال نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يَهْلَكُوا . والأول أظهر وهو أن المراد بالفلك الموجودة في زمانهم ويؤيده قوله تعالى : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } .
فإن قيل : لم قال { حَمَلْنَا ذُرِّيّيتهُمْ } ولم يقل : « حملناهم » ليكون أعم كما قال : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ] ولم يقل : تَأْكُلُ ذُرِّيِّتهُم؟ .
فالجواب : قوله تعالى : « حملنا ذريتهم » أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم لأن سكون الأرض عام ( ل ) كلّ أحد يسكنها فقال : { وآيَةٌ لَهُم الأرض الميتة } إلى أن قال : { فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } لأن الأكل عام وأما الحمل في السفنية فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يُحْمَلُ فيها ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإنَّ فيهم من يحتاج إليها فيُحْمَلُ فيها .
فإن قيل : ما الحكمة في كونه جمع الفلك في قوله : { وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ } [ فاطر : 12 ] وأفرده في قوله : { فِي الفلك المشحون } .
فالجواب : أن فيه تدقيقاً مليحاً في علم اللغة وهو أن الفلك تكون حركتها مثلَ حركة تلك الكلمة في الصورة ، والحركتان مختلفنان في المعنى مثاله قولك : سَجَد يَسْجُدُ سُجُوداً للمصدر وهم قوم سُجُودٌ في جمع « سَاجِدٍ » يظن أنها كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك بل السجود عند كونه مصدراً حركته أصلية إذا قلنا : إن الفعل مشتق من المصدر وحركة السجود عند كونه للجمع حركة معتبرة من حيثُ إن الجمع مشتق مِنَ الواحد وينبغي أن يلحق الشمتق تغيير في حرف أو حركة أو في مجموعهما ، فساجد لما أردنا أن يشْتَقَّ منه لفظُ جمع غيّرناه وجئنا بلفظ السُّجُود فإذن السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين . وإذا عرف هذا فنقول « الفُلْك » عند كونه واحداً مثل : « قُفْل وبُرْد » وعند كونها جمعاً مثل خُشْبٍ أو بُرْدٍ أو غَيْرِهِما .
فإن قيل : فإذا جعلتَهُ جمعاً ما يكون واحدها؟ .
فالجواب : نقول جاز أن يكون واحدها فَلْكَة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النِّساء لم يستعمل وكذا القول في : « إمام مبين » إمَام كَزِمام وكتاب عند قوله تعالى : { كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بِأَئِمَّتِهِمْ إمَامٌ كَسِهام وحِفَانٍ ، وهذا من دقيق التَّصْرِيف . وأما من جهة المعنى ففيه سؤالات :
السؤال الأول : قال ههنا : « حَمَلْنا ذُرّيَّتّهُم » مَنَّ عليهم بحَمْلِ ذرّياتهم وقال تعالى :
{ إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] منَّ عليهم هناك بحمل أنفسهم .
فالجواب : أن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير ومن يدفع الضر عن المتعلّق بالغير لا يكون قد دفع الضر عن ذلك الغير بل يكون قد نفعه كمن أحسن إلى ولد إنسان وفرَّحَةُ فَرِحَ بفَرَحِهِ أبوه وإذا دفع الألم عن ولد إنسان يكون قد فَرَّح أباه ولا يكون في الحقيقة أزال الألم عن أبيه فعنْد طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال : دفعت وههنا عنكم الضّرر ولو قلا : دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بين دفع الضرر عنهم وههنا أراد بيان المنافع فقال : « حملنا ذرياتهم » لأنَّ النفع حاصل بنفع الذرية ، ويدل على هذا قوله : « فِي الفُلْكِ المشحون » فإن امتلأ الفلك من الأموال يحصل ( بذكره ) بيان المنفعة وإذا دفع المضرة فلا لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص بها أبطأ وهنالك السلامة فاختار هناك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشّحْن .
فإن قيل : قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر } [ الإسراء : 70 ] ولم يقل : وحملنا ذريتكم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة لا دفع النِّقْمة نقول : لما قال في البرّ والبحر عَمّ الخلق لأن ما من أحدٍ إلا وحمل في البر والبحر وأما الحمل في البحر فلم يَعُمّ فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء .
فصل
وفي قوله : « المشحون » فائدة أخرى وهي أن الآدمِيِّ يرسُب في الماء ويَغْرقُ فحمله في الفلك واقع بقدرته لكن من الطَّبِيعيِّنَ من يقول : الخفيف لا يرسب ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله .
فإن قيل : ما الحكمةُ في قوله : « وآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ ( و ) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ » ؟ ولم يقل : وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم؟ .
فالجواب : أن حملهم في الفلك هو العجيب . أما نفس الفلك فليس بعجيب لأنه كَبيْتٍ مَبْنِيِّ من خشب وأما نفس الأرض فعجيب ونفس الليل عجيب لا قدرة لأحد عليهما إلا الله .
قوله : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } قرأ الحسن بتشديد الراء وهذه الآية تدل على أن المراد بقوله : { مِنْ مِثْلِهِ } الفلك الموجود في زمانهم وليس المراد الإبل كما قاله بعض المفسرين بأن المراد الإبلُ لأنها سفنُ البرِّ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون قوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } فاصلاً بين متصلين . ويحتمل أن يقال : الضمي في مثله يعود إلى معلوم غير مذكور . وتقريره أن يقال : وخَلَقْنَا لهم من مثل ما ذكر من المخلوقات كما في قوله تعالى : { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } [ يس : 35 ] أن الهاء عائدة إلى ما ذكرنا أي من ثمرنا .
فصل
في قوله : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } فائدتان :
إحداهما : أن في حال النعمة ينبغي أن لا يُؤْمَنَ عذابُ الله .
والثانية : أن ذلك جواب عن سؤال مقدر وهو أن الطَّبيعيِّ يقول : السفينة تَحْمِلُ بمُقْتَضَى الطَّبِيعَة والمجوَّف لا يرسب ، فقال : ليس كذلك بل لو شاء الله إغراقهم لأغرقهم وليس كذلك بمُقْتَضى الطبيعة ولو صح كلامه الفاسد لكان لقائل أن يقول : ألست توافق أن من السفن ما ينقلب ونيكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء أغرقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو شيء من تلك الأسباب التي سلمتها أنت .
قوله : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } فَعِيلٌ بمعنى فاعل لا مغيث لهم وقيل : فلا مُسْتَغيث وقال الزمخشري : فلا إغاثة جعله مصدراً من « أصْرَخَ » قال أبو حيان « ويحتاج إلى نقل أن » صَرِيحاً يكون مصدراً بمعنى إصراخ « والعامة على فتح » صَرِيخَ « وحكى أبو البقاء أنه قرئ بالرفع والتنوين قال : ووجهة على ما في قوله : { خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 38 ] .
فصل
معناه : لا مُغيثَ لهم يمنع عنهم الغَرَقَ » وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ « إذا أدركهم الغرق لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون برفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال : » لاَ صَرِيْخ لَهُمْ « يدفع ولا هم يُنْقَذُونَ بعد الوقوع فيه وهو كقوله تعالى : { لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } [ يس : 23 ] وفيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال : لا صَرِيخ لهم ولم يقل : ولا منقذ لهم؛ لأ ( نَّ ) مَنْ لا يكون مِن شأنه أن ينصر لا يشرع في النصر مخافة أن يْغلَبَ ويذهبَ ماءُ وَجْهِهِ وإنما يَنْصُرُ ويغيث من كان من شأنه أن يُغِيثَ فقال : » لاَ صِرِيخَ لَهُمْ « وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا راى من يعين عليه في نصره يشرع في الإنقاذ وإن لم يثِقْ من نفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال : » ولا هم ينقذون « ولم يقل : ولا منقذ لهم ، ثم استثنى وقال : » إلا رَحْمَةَ مِنَّا وَمَتَاعاً إلى حِينٍ « وهو يفيد أمرين :
أحدهما : انقسام الإنقاذ إلى قسمين : الرحمة والمَتَاع أي فمن عَلِمَ أنه يؤمن فينقذه الله رحمة وفيمن علم أنه لا يؤمن فليمتنع زماناً ويزداد إثمه .
وثاينهما : أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزّوال في الدنيا لا بدَّ منه ، فينقذه رحمة ويمتعه إلى حين ثم يميته فإذن الزوال لازم أن يقع . قال ابن عباس المراد » بالحِينِ « انقضاء آجالهم يعني ( إلاَّ ) أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجالهم .
قوله : » إلاَّ رَحْمَةً « منصوب على المفعول له وهو استثناء مفرغ ، وقيل : استثناء منقعطع وقيل : على المصدر بفعل مقدَّر ، أو على إسقاط الخافض أي إلا برحمةٍ والفاء في قوله : » فَلاَ صَرِيخَ « رابطةٌ لهذه الجملة بما قبلها؛ فالضمير في » لَهُمْ « عائد على المُغْرَقينَ » وجوز ابن عطية هذا ووجهاً آخَر وجعله أحْسَنَ منه وهو أن يكون استئناف إخبار عن المُسَافِرينَ في البحر ناجينَ كانوا مُغْرَقِينَ هم بهذه الحالة لا نجاة لهم إلاَّ برَحْمَةِ الله وليس قوله : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } مربوطاً بالمغرقين انتهى .
وليس جعله هذا الأحسن بالحسن لئلا تخرج الفاء عن مَوْضُوعِهَا والكلام عن التئامِهِ .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا } جوابها محذوف أي أعرضوا يدل عليه بعده : « إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ » وعلى هذا فلفظ « كانوا » زائدٌ ، قال ابن عباس : ما بين أيديكم يعني الآخرة فاعملوا لها ، وما خلفكم يعني الدنيا فاحْذَرُوها ولا تغترّوا بها وقيل : ما بين أيدكم وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم وما خلفكم عذاب الآخرة قاله قتادة ومقاتل ، « لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » .
قوله : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي دلالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا كانوا عنها معرضين وهذا الاستئناف في محل ( نصب ) حال كما تقدم في نظائره ، وهذه الآية متعلقة بقوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] أي إذا جاءتهم الرسل كذبوا وإذا أتوا بالآيات أعْرَضُوا .
قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا } لما عدد الآيات بقوله : ( « وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ » ) ( و ) « آيةٌ لَهُمُ اللِّيْلُ » ( و ) ( آيةٌ لَهُمْ أنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ « وكانت الآيات تفيد اليقين والقطع ولم تفدهم اليَقينَ قال فلا أقلَّ من أن يَحْترزوا وقوع العذاب ، فإن من أخبر بوقوع العذاب يتقيه وإن مل يقطع بصدق المخبر احْتِيَاكاً فقال تعالى : إذا ذكرتم الدليل القاطع لا يعترفون به فإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة لا مثل العلماء الذين يبنون الأمر على الأحوط ويدل على ذلك قوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } بحرف التمنِّي أي أن يخفى عليه البرهان لا يترك الاحتراز والاحْتِيَاطَ .
قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } أي أعطاكم الله . وهذا إشاءة إلى أنهم بخلوا بجميع التكاليف لأن المكلف يجب عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم : اتَّقُوا ( فلم يَتَّقُوا ( وتركوا الشفة على خلق الله حيث قيل لهم : أَنْقِقُوا ولم ينفقوا فما الحكمة في حذف الجواب في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ } وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب ولو قال : » وإذا قيل لهم أنققوا قالوا أنْطْعِمُ مَنْ لو يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ « لكان كافياً فما الفائدة في قوله تعالى : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا } فالجواب : أن الكفار كانوا يقولون بأنَّ الإطعام من الصِّفات الحميدة وكانوا يفتخرون بطُعمةِ الأضياف فأوردوا في ذلك على المؤمنين معتقدين بأن أفعالنا مَنًّا ولولا إطعامنا مَنَّا لما اندفعت حاجة الضيف وأنتم تقولون : إنّ إلهكم يرزق من يشاء فَلِمَ تقولون لنا : أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين ، لا الامتناع من الإطعام قال تعالى عنهم : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا } إشارة إلى الرد .
وأما قوله : اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ « فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا فأعرض ( الله ) عن ذكر إعراضهم لحصول العِلْمِ به .
فصل
قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا لكفار مكة : أَنْفِقُوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم وهو ما جعلوا لله من حُرُوثهم وأَنْعَامهم » قَالوا أَنْطْعِمُ « أنرزق » مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللُّهُ « رزقه ثم لم يرزقه مع قدرته عليه فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله . وهذا مما يتمسك به البخلاء يقولون : لا نعطي من حرمه الله . وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله تعالى بالإنفاق لا حاجة إلى ماله ولكن ليبلو الغنيّ بالفقير فيما فرض له في مال الغني ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه .
فإن قيل : ما الفائدة من تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا : أننفق من لو يشاء الله رزقه وذلك أنهم أمروا بالإنفاق في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ } فكان جوابهم أن يقولوا : أننفقُ؛ فَلِمَ قالوا : أنطعم؟ .
فالجواب : أن في هذا بيانَ غاية مخالفتهم لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره فمل يأتوا بالإنفاق ولا بأقلَّ منه وهو الإطعام . وهذا كقول القائل لغيره : » أَعْطِ زَيْداً دِينَاراً « فيقول : لاَ أُعْطِيهِ دِرْهماً مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتمّ . فكذلك ههنا .
فإن قيل : قولهم : { لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } كلام حق فلماذا ذكر في معرض الذَّمِّ؟ .
فالجواب : لأن مرادهم كان الإنكارَ لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسدٌ فبيّن الله ذلك بقوله : { مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } فإنه يدل على قدرته ويصحِّح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزانته مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزانته وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ، ولا يجوز أن يقول من في يده مال : في خزانتك أكثير مما في يدي أعطه منه .
قوله : { مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } مفعول » أَنُطْعِمُ « و » أَطْعَمَهُ « جواب » لو « وجاء على أحد الجَائِزين ( و ) هو تجرده من اللام . والأفصح أن يكون بلام ، نحو : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] قوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } يقول الكفار للمؤمنين : ما أنت إلا في خطأ بيِّن في اتِّباعكم محمداً وترك ما نحن عليه وهذا إشارة إلى أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد .
فصل
اعمل أنَّ » إنْ « وردت للنفي بمعنى » ما « وكان الأصل في » إن « أنْ تكون للشرط والأصل في » مَا « أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتعارضا واستعمل » ما « في الشرط ، واستعمل » إن « في النفي .
أما وجه اشتراكهما فهو أن كل واحدة منها حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الأنف والميم من النون ولا بد أن يكون المعنى الذي يدخل عليه « ما » و « إنْ » لا يكون ثابتاً أما في « ما » فظاهر وأما في « إنْ » فلأنك إذا قلت : « إنْ جَاءَ زَيْدٌ أَكْرِمْه » ينبغي أن لا يكون منه في الحال ( مجيء ) فاستعمل إنْ مكان « ما » وقيل : « إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ » أي ما زيد بقائم . واستعمل ما في الشرط تقول : مَا تَصْنَعْ أَصْنَعْ والذي يدل على ما ذكرنا أن « ما » النافية تستعمل بحيث لا تستعمل إن ( وذلك ) لأنك تقول : « مَا إنْ جَلَسَ زَيْدٌ » فتجعل إنْ « صلة » ولا تقول : « إنْ جَلَسَ زَيْدٌ » ، بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول : إِمَّا ترين فتجعل « إنْ » أصلاً و « ما » صلة فدلنا هذا على أَنَّ « إنْ » في الشرط أصل و « ما » دخيل فيه و « ما » في النفي بالعَكْسِ .
فصل
قوله : { إنْ أَنْتُمْ } يفيد ما لا يفيد قوله : { أَنْتُمْ فِي ضَلاَلٍ } لأنه يوجب الحصر وأنه ليسُوا في غير الضَّلالِ ، ووصف الضلال بالمُبِين أي أنه لظِهوره تبين نفسه أنه ضلال أي في ضلالٍ لا يخفى على أحد أنه في ضَلالَ .
وقوله : « في ضلال » يفيد كونهم مَغْمُورينَ فيه غائصين ، فأما قوله في موضع آخر : « عَلَى بَيِّنَةٍ » و « عَلَى هُدى » فهو إشارة إلى كونهم راكبينَ متن الطريق المستقيم قَادِرينَ عليه .
فصل
إنما وصفوا المؤمنين بأنهم في ضَلالَ مبين لظنهم أن كلام المؤمنين متاقض ومن يتناقض كلامهُ يكون في غاية الضلال قال ابن الخطيب : ووجه ذلك أنهم قالوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه وهذا إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم فهو يطعمهم فكان الأمر بإطعامهم أمراً بتحصيل الحاصل وإن لم يشأ إطعامهم لا يقدر أحدٌ على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ فلا قدرة لنا على الإطعام فكيف تأمروننا بالإطعام؟! ووجه آخر وهو أنهم قالوا إن أراد الله تجويعهم فلو أطْعَمْنَاهُم يكون ذلك سعياً في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولولن أطعموهم فهو ضلال . واعلم أنه لم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر وذلك لأن العبد إذا أمره السِّيدُ بأمر لا ينبغي الإطِّلاَعُ على المقصود الذي لأجهل الذي أمره به مثاله إذا أراد الملك الركوب للهجوم على عَدُوَّه بحيث لا يَطَّلع عليه أحد وقال للعبد : أَحْضِر المركوبَ فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عوه على الحَذَرِ منه وكشف سره فالأدب في الطاعة هو اتباع الأمر لا تتبع المراد فاللَّه تعالى إذ ( ا ) قال : أنفقوا مما رزقكم الله لا يجوز أن يقال : لِمَ لَمْ يطعمهم ( الله ) مما في خزائنه؟ .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قوله : { وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد } أي القيامة والبعث « إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ » وهذا إشارة إلى ما اعتقدوا أن التقوى المأمور بها في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا } [ يس : 45 ] والإنفاق المذكور في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا } [ يس : 45 ] لا فائدة فيه لأن لا حقيقة له وقولهم : « مَتَى هَذَا الوَعْدُ » أي متى يقع المَوْعُودُ به .
فصل
« إنْ » للشرط وهي تستدعي جزاء و « متى » استفهام لا تصلح جواباً فيه فما الجواب؟ .
قيل : هو في صورة الآستفهام وهو في المعنى إنكار كأنهم قالوا : إن كنتم صادقين في قوع الحشر فَقُلُوا متى يكون .
فصل
الظاهر أن هذا الخطاب مع الأنبياء لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم أيها المُدَّعونَ للرسالة صادقين فأخبرونا متى يكون ما تَعِدُونَنَا به .
فإن قيل : ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله : « هَذَا الوَعْد » إلى أي وعد؟
فالجواب : هو ما في قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } [ يس : 45 ] من قيام الساعة ، أو نقول : هو معلوم وإن لم يكن مذكوراً لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب .
قوله : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } قال ابن عباس : ما ينتظرون إلاّ الصيحة المعلومة يريد النفخة الأولى والتنكير للتكثير .
فإن قيل : هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها .
فالجواب : المراد بالانتظار فعلهم لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله الهوان وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وعلمه بأنهم لا يفوتونه أو يقال : لما لم يكن قولهم « متى » استفهاماً حقيقياً قال ينتظرون انتظاراً غير حقيقي لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظر لقوله .
فصل
ذكر في الصيحة أموراً تدل على عظمتها :
أحدها : التنكير
وثانيها : قوله « واحدة » أي لا يحتاج معها إلى ثانية .
ثالثها : « تأخذهم » أي تَعْمُّهم بالأَخْذِ وتصلُ إلى مَنْ في الأرض مشارقِهَا ومَغَارِبها .
قوله : { وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } قرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خَصَم يَخْصِمُ . والمعنى بخصم بعضهم بعضاً فالمفعول محذوف ، وأبو عمرو وقالوا بإخفاء فتحة الخاء ، وتشديد الصاد . ونافع وابن كثير وهشام كذلك إلا أنه بإخلاص فتحة الخاء ، والباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد والأصل في القراءات الثلالث يَخطْتَصُمُونَ فأدغمت التاء في الصاد . فنافع وابن كثير وهشام نقولا فتحتها إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً ، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنْبِيهاً على أن الخاء أصلها السكون والباقون حذفوا حركتها فالتقى ساكنان كذلك فكسر ( وا ) أولهما . فهذه أربع قراءات قرئ بها في المشهور ، وروي عن أبي عمرو وقالون سكون الخاء وتشديد الصاد فالنحاة يستشكلونها للجمع بين ساكنين على غير حَدِّيْهمَا .
وقرأ جماعة « يخِصِّمُونَ » بكسر الياء والخاء وتشديد الصاد وكسروا الياء إتباعاً وقرأ أبيّ يَخْتَصِمُونَ على الأصل ، وقال أبو حيان وروي عنهما- أي عن أبي عمرو وقالون - سكون الخاء ، وتخفيف الصاد من خَصَم قال شهاب الدين : هذه هي قراءة حَمْزَةَ ولم يحكِها هو عنه ، وهذا يشبه قوله : { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } [ البقرة : 20 ] في البقرة و « لاَ يَهْدِّي » في يُونُس وقرأ ابن مُحَيْصِن « يرجعون » مبنيٍّا للمفعول .
فصل
قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرجُلاَنِ ثَوْبَهُمَا بَيْنَهُمَا فَلاَ يِبِيعانِهِ وَلاَ يَطْوِيَانِهِ وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ رَفَعَ الرَّجُلُ أَكْلَتَهُ إلَى فِيهِ فَلاَ يَطْعَمُها » .
قوله : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي لا يقدرون على الإيصاء قال مقاتل : أي أعجلوا عن الوصية فماتوا « وَ لاَ إلَى أَهْلِهِمْ يرْجِعُونَ » يَنْقَلِبُونَ . أي أنَّ الساعة لا تُمْهِلْهُم لشيء .
واعلم أن قول القائل : فلان في هذه الحالة لا يوصي دون قوله لايستطيع التوصية لأن ما من لايوصي قد يستطيعها والتوصية بالقول ، والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال : لا يتسطيعون كلمة ، فكيف الذي يحتاج إلى زمن طويل من أداء الواجبات ورد المظالم؟! واعتبار الوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى الوصية أمسّ . والتنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ( ما ) ولو كانت بِكَلِمةٍ يسيرة ، ولأن الوصية قد تحصل بالإشارة ، فالعاجز عنها عاجز عن غيرها . قوله : { إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } بيان لشدة الحاجة إلى التوصية ، ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال : { وَنُفِخَ فِي الصور } أي نفخ فيه أخرى كقوله تعالى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] وقرأ الأعرج ونفخ في الصور بتفح لاواو وهي القبور واحدها جَدَث ، وقرئ من الأجدافِ بالفاء ، وهو لغة في الأجداث يقال : جَدَث ، وجَدَف كثمَّ وفُمَّ ، وثُوم ، وفُوم .
فإن فيل : أين يكون ذلك الوقت وقد زلزت الصيحة الجبال؟ .
فالجواب : أن الله يجمع أجزاء كل ميت في الموضع الذي أقْرِرَ فيه من ذلك الموضع وهو جدثه .
قوله : { إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } أي يخرجون من القبور أحياء . وقرأ ابنُ أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية : يَنْسُلُونَ بضم السين ، يقال : نَسَلَ الثعلبُ يَنْسِلُ وَنْسُلُ إذا أسرع في عَدْوِهِ ، ومنه قيل للولد : نَسَل لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه .
فإن قيل : المسيء إذا توجه إلى من أحسن إليه يقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى والنَّسلاَن سرعة الشيء فكيف يوجد بينهم ذلك؟
فالجواب : ينسلون من غير اختيارهم والمعنى أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث نفخ في الصور فيكون في وقته جمع وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : « إذَا هُمْ يَنْسِلُونَ » أي في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب .
فإن قيل : قال في آية { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] وقال ههنا : { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } والقيام غير النسلان فقوله في الموضعين : « إذا هم » يقتضي أن يكونا معاً .
فالجواب من وجهين :
الأول : أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر .
الثاني : أن لسرعة الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :
4183- مِكَرِّ مِفَرِّ مُقْبِل مُدْبِرٍ مَعاً .. . . .
واعمل أن النفختين تورثان تزلزلاً وانقلاباً للأجرام فعند اجتماع الأجرامِ يُفَرِّقها وهو المراد بالنفخة الأولى وعند تفرق الأجرام يجمعها وهو النفخة الثانية .
قوله : { ياويلنا } العامة على الإضافة إلى ضمير المتكلمين دون تأنيث وهو « ويل » مضاف لما بعده . ونقل أبو البقاء أن « وَيْ » كلمة براسها عن الكوفيين و « لنا » جار ومجرور انتهى قال شهاب الدين : ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد وهو أن يكون يا غَجَب لنا ، لأن « وَيْ » تفسير بمعنى أعجب منا وابنُ أَبِي لَيْلَى يا ويلتنا بتاء التأنيث وعنه أيضاً يَا وَيْلَتِي بإبدال التاء ألفاً وتلأأويل هذه أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي .
قوله : { مَنْ بَعَثَنَا } العامة على فتح ميم « من » و « بعثنا » فعلاً ماضياً خبراً « لمنْ » الاستفهامية قبله ، وابن عباس والضحاك وأبو نُهَيْك بكسر الميم على أنها حرف جر ، و « بعثنا » مصدر مجرور « بمن » ف « من » الأولى تتعلق بالويل والثانية تتعلق بالبعث . والمَرْقَدُ يجوز أن يكون مصدراً أي من رُقَادِنَا وأن يكون مكاناً وهو مفرد أقيم مُقَام الجمع والأول أحسن؛ إذ المصدر يفرد مطقاً .
فصل
قال ابن عباس وأبيّ بن كعب وقتادة : إنما يقولون هذا لأن الله يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة ، دعوا بالويل . وقال ( أهل ) المعاني : الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم فقالوا : مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا .
فإن قيل : لو قيل : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا كان أليق قال ابن الخطيب : نقول : معاذ الله وذلك لأن قوله إذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون إشارة إلى أنهم تعالى باسرع زمان يجمع أجزاءهم وؤلفها ويحييها ويحركها بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ مع أن ذلك لا بدّ له من الجمع والتأليف فلو قال يقولون لكان ذلك مثل الحال لنيسلون أي نسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك فإن قولهم : يا ويلنا قبل أن ينسلوا وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفائدة .
فإن قيل : ما وجه تعلق « مَنْ بعَثنَا مِنْ مَرْقَدِنَا » بقولهم « يَا وَيْلَنَا » ؟
فالجواب : لما بعثوا تذكروا ما كانوا يمسعون من الرسل فقالوا : يَاوَيْلَنَا أبَعَث الله البَعْثَ الموعود به أم كنا نِيَاماً هنا كما إذا كان إنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لايطيقه ثم يَرَى رَجُلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول أهذا ذاك أم لا؟ .
ويدل على هذا قولهم : { مِنْ مَرْقَدِنَا } حيث جعلوا القبور موضع الرُّقَاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نيَاماً فنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من بعثنا إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به وقالوا من مرقدنما إشارة إلى توهمهم احتمال الانْتِبَاه .
قوله : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } في « هذا » وجهان :
أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقوف تامًّا على قوله : { مِن مَّرْقَدِنَا } وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان :
أحدهما : أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى ، أو من قول الملائكة ، أو من قول المؤمنين للكفار .
الثاني : أنها من كلام الكفار فيكون في محلّ نصب بالقَول .
والثاني من الوجهين الأولي : ( أن ) « هذا » صفة « لمرقدنا » و « مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ » منقطع عما قبله ثم في « ما » وجهان :
أحدهما : أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون حق عليكم وإليه ذهب الزجاج والزمخشري .
والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي هذا وعد الرحمن ، وقد تقدم في ألو الكهف أن حَفْصاً يقف على « مرقدنا » وقفلةً لطيفة دون قطع نفس لئلا يتوهم أن اسم الإشارة تباع ل « مَرْقَدِنَا » وهذا الوَجْهَانِ يقويان ذلك المعنى المذكور الذي تعمد الوقف لأجله ، و « ما » يصحّ أن تكون موصولة اسمية أو حرفية كما تقدم ومفعولاً الوعد والصدق محذفوفان أي وَعَدَنَاهُ الرَّحْمَنُ وصَدَقَنَاهُ المرسلون والأصل « صدقنا فيه » ويجوز حذف الخاضف وقد تقدم ذلك نحو : صَدَقَنِي سنَّ بكْرِ ( هِ ) أي في سنه .
قوله : { ِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } تقدمت قراءتا : { صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 53 ] نصباً ورفعاً أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة ، ويدل على النفخة قوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } ويحتمل أن يقال : إنها كانت الواقعة وقرئت الصيحة مرفوعة على أن « كان » هي التامة بمعنى « ما وقعتْ إلاَّ صَيْحَةٌ » قال الزمخشري : لو كان كذلك لكان الأحسن أن يقال : إن كان؛ لأن المعنى حينئذ ما وقع شيء إلى صيحة لكن التأنيث جائز إحالته على الظاهر ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع إن قوله : { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] تأنيث تهويل ومبالغة بدليل قوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } [ الواقعة : 2 ] فإنها للمبالغة فكذلك ههنا قالك « إنْ كانت إلا موتتنا الأولى » تأنيث تهويل ، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحَاقَة والصَّاخَّة إلى غيرها .
والزمخشري يقول : كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة . وقوله « محضرون » دليل على أنّ كونهم نسلون إجباريّ لا اختياريّ ثم بين ما يكون في ذلك اليوم فقال : { فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } فاليوم منصوب « بلاَ تُظْلَمُ » و « شيئاً » إما مفعول ثانٍ وإماغ مصدر .
فقوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } ( و ) { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ليَيْأسَ المجرمُ والكافر .
فإن قيل : ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى أمان المؤمن؟
فالجواب : أن قوله : { لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } يفيد العموم وهو كذلك فإنه لا يظلم أحداً وأما « لا تجزون » فيختص بالكافر لأن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن لله فضلاً مختصاً بالمؤمن وعدلاً عاماً فيه . وفيه بشارة .
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
ثم بيّن حال المحسن فقال : { إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } فقوله : { فِي شُغُلٍ } يجوز أن يكون خبراً ل « إنّ » و « فَاكِهُونَ » خبر ثانٍ وأن يكون « فاكهون » هو الخبر و « فِي شُغُلٍ » يتعلق به وأن يكون حالاً ، وقرأ الكوفيون وابنُ عامر « شُغُل » بضمتين الباقون بضم سكون وما لغتان للحاجزيين قاله الفراء ، ومجاهدٌ وأبو السَّمَّال بفتحتين ويزيد النحويّ وابنُ هُبَيْرَة بفتح وسكون وهما ( لغتان ) أيضاً والعامة على رفع « فاكهون » على ما تقدم والأعمشُ وطلحةُ « فاكهينَ » نصباً على الحال والجار الخبر . والعامة أيضاً وأبو حَيْوَة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد « فكهون » بغير ألف بمعنى طربون فرحون من الفُكَاهِةِ بالضم . وقيل : الفاكِهُ والفكه بمعنى المتلذذ والمتنعم لأن كلاًّ من الفاكهة والفكاهة مما يُتَلَذَّذُ بِهِ ويتنعم كحاذر وحذر وقرئ « فَكِهِينَ » بالقصر والياء على ما تقدم وفَكهُونَ بالقصر وضم الكاف ، يقال : رجل فَكِه وفكُه كرجل ندِس وندُس وحَذِر وحذُر .
فصل
اختفوا في الشغل فقال ابن عباس : في افتضاض الأبكار ، وقال وكيع بن الجراح : في السماع وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم . وقال ابن كيسان في زيارة بعضهم بعضاً .
وقيل : في ضيافةِ الله فاكوهون . وقيل : في شغل عن هَوْلِ اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب فما عندهم خير من عذاب ولا حساب وقوله « فَاكِهُونَ » متمّمٌ لبيان سلامتهم فإنه لو قال : في شُغُل جاز أن هم في شغل أعظم من التذكر في اليوم وأهواله فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخُسْران وقع في ماله يقول أنا مشغول عن هذا بأهمَّ منه فقال : فاكهونَ أي شغلوا عنه باللّذة والسُّرُور لا بالوَيْلِ والثُّبُور . وقال ابن عباس : فاكهون فَرِحُونَ .
قوله : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } يجوز في « هم » أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في : « فَاكِهُونَ » و « أَزْوَاجُهُمْ » عطف على المستكن ، ويجوز أن يكون تأكيداً للضمير المستكنِّ في « شُغُل » إذا جعلناه خبراً و « أزواجهم » عطف عليه ( مستكن ويجوز أن أيضاً ) كذا ذكره أبو حيان وفيه نظر من حيثُ الفصلُ بين المؤكد والمؤكد بخير « أن » ، ونظيره في قولك : « في الدار » ، وعلى هذين الوجهين يكون قوله : « مُتَّكِئُونَ » خبراً آخر ل « إنّ » و « فِي ظِلاَلِ » متعلق به أو حال ، و « عَلَى الأَرَائِكِ » متعلق به ، ويجوز أن يكون « هم » مبتدأ ومتكئون خبره والجاران على ما تقدم وجوز أبو البقاء أن يكون « فِي ظِلاَلٍ » هو الخبر قال « وعلى الأرائك » مستأنف وهي عبارة موهمة غير الصواب ويرد بذلك أن « مُتَّكِئُونَ » خبر مبتدأ مضمر و « على الأرائك » متعلق به ، فهذا وجه استئنافه لا أنه خبر مقدم و « متكئون » مبتدأ مؤخر إذا لا معنى له وقرأ عبد الله « مُتَّكِئِينَ » نصباً على الحال وقرأ الأخوان « في ظُلَلٍ » بضم الظاء والقصر وهو جمع ظُلَّة نحو غُرْفَةٍ وغُرَفٍ ، وحُلَّةٍ وحُلَلِ .
وهي عبارة عن الفرش والستور والباقون بكسر الظاء والألف جمع ظُلَّةٍ أيضاً كحلَّةٍ وحِلاَل وبُرْمة وَبِرام أو جمع « فِعْلَةٍ » بالكسر إذ يقال : ظُلَّةٌ وظِلَّةٌ بالضمر والكسر ، كلُقْحَةٍ ولِقَاحِ إلاَّ أن فِعَالاً لا ينقاس فيها أو جمع « فِعْل » نحو : ذِئْب وذِئَاب ورِيح ورِيَاحٍ .
فصل
الأَرَائِكُ هي السرر في الحِجال واحدها أًريكة . قال ثعلب : لا تكون أريكة ( جمع ) حتى يكون عَلَيْها حجْلة . « متكئون » ذَوْ ( و ) اتّكَاء وهو إشارةإلى الفراغ . وقوله « هُمْ وأَزْوَاجُهُمْ » إشارة إلى عدم الوحشة { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله : { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } إشارة إلى أن لا جوع هناك لأن التفكه لا يكون لدفع ألم الجوع .
قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } في « ما » هذه ثلاثة أوجه : موصولة اسمية ( أو ) نكرة موصوفة والعائد على هذين محذوف ( أو ) مصدرية و « يَدَّعُونَ » مضارع ادَّعى افْتَعَلَ من دَعَا يَدْعُو؛ وأُشْربَ التمني قال أبو عبيدة : العرب تقول : « ادَّع عليَّ ما شِئْتَ » أي تَمَنَّ ، و « فُلاَنٌ في خَيْر مَا يَدَّعِي » أي ما يتمنى وقال الزجاج : هو من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم من : دَعوتُ غلاميَ . فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال لمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل . وقيل : افتعل بمعنى تفاعل أي ما يتداعونه كقولهم : ارْتَمَوْا وَتَرَاموا ، و « ما » مبتدأ وفي خبرها وجهان :
أظهرهما : أنه الجار قبلها .
والثاني : أنه « سَلاَم » أي مسلم خالص أو ذو سَلاَمةٍ .
قوله : « سَلاَمٌ » العامة على رفعه وفيه أوجه :
أحدها : ما تقدم من كونه خبر « مَا يَدَّعُونَ »
الثاني : أنه بدل منها قاله الزمخشري قال أبو حيان : وإذا كان بدلاً كان « مَا يَدَّعُونَ » خصوصاً والظاهر أنه عموم في كل ما يدعونه وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه .
الثالث : أنه صفةٍ « لِمَا » وهذا إذا جعلتها نكرة موصوفة . أما إذا جعلتها بمعنى الذي أو مصدرية تعذر ذلك لتخلفهما تعريفاً وتنكيراً .
الرابع : أنه خبر مبتدأ مضمير أي هو سلام .
الخامس : أنه مبتدأ خبره الناصب لِ ( قوله ) « قَوْلاً » أي سَلامَ يُقَالُ لَهُمْ قَوْلاً .
وقيل : تقديره سَلاَمٌ عليكم .
السادس : أنه مبتدأ وخبره « مِنْ ربّ » و « قَوْلاً » مصدر مؤكد لمضمون الجملة وهو مع عامله معترض بين المبتدأ والخبر وقرأ أبيّ وعبدُ الله وعيسى سَلاَماً بالنصب وفيه وجهان :
أحدهما : أنه حال ، قال الزمخشري : أي لهم مرادهم خالصاً .
والثاني : أنه مصدر ( أي ) يُسَلمُونَ سَلاَماً إما من التحية وإما من السلامة .
و « قَوْلاً » إما مصدر مؤكد وإما منصوب على الاختصاص قال الزمخشري : وهو الأوجه و « منْ رَبِّ » إما صفة ل « قَوْلاً » وإما خبر « سلام » كما تقدم . وقرأ القُرَظِيُّ « سِلْمٌ » بالكسر السكون ، وتقدم الفرق بينهما في البقرة .
فصل
إذا قيل : بأن سلام بدل مِنْ « مَا يَدَّعُونَ » فكأنه تعالى قال لهم ما يدعون نبَّه ببدله فقال : لهم سلام فيكون مبتدأ وخبره الجار والمجررو كا يقال : « فِي الدَّارِ رَجُلٌ ولِزَيْدٍ مَالٌ » وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة م المعرفة جائز ، فتكون « ما » بمعنى الذي معرفة ، وسلام نكرة . ويحتمل على هذا أن يقال : « ما » في قوله تعالى : { مَّا يَدَّعُونَ } لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شَيْءٌ يَدَّعُونَ ، ثم بين بذكر البدل فقال : « سَلاَم » والأول أصحّ . وإن قيل : سلام خبر « ما » و « لهم » لبيان الجهة فتقديره ما يدعون سلام لهم أي خالص لهم . والسَّلاَمُ بمعنى السالم والسليم ، يقال : عَبْدٌ سَلاَم أي سليمٌ من العيوب كما يقال : لِزَيْدٍ الشَّرَفُ متوفر فالجَارّ والمجرور يكون لبيان من له ذلك ، « والشرف » هو المبتدأ « ومتوفر » خبره ، وإن قيل : « سلام » منقطع عما قبله وهو مبتدأ وخبره محذوف فتقديره : سَلاَمٌ عَلَيْهِمْ ويكون ذلك إخباراً من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : إنَّ أصحاب الجنة في شغل ، ثُمَّ لمَّا بين كمال حالهم قال : سلام عليهم كقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] و { وَسَلاَمٌ على المرسلين } [ الصافات : 81 ] فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين . أو يقال تقديره : سلام عليكم ويكون التفاتاً حيث قال لهم كذا وكذا ، ثم قال : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ]
فصل
إذا قيلَ : إنَّ « قَوْلاً » منصوب على المصدر فتقديره على قولنا إن المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سَلاَم يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلاً . أو تقول الملائكة قَوْلاً ، وعلى قولنا ما يدعون سلام لهم فتقديره قال الله ذلك قولاً ووعدهم أن لهم ما يدعون سلامٌ وعداً ، وعلى قولنا : سلام عليهم فتقديره أقُولُهُ قَوْلاً ، وقوله { مِنْ رَبِّ رَحِيم } يكون لبيان ( أن ) السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولاً ، ويحتمل أن يقال على هذا بأنه تمييز؛ لأن السلام قد يكون قولاً وقد يكون فِعلاً فإن من يدخل على الملك يطأطئُ رأسه يقال : سلمت على الملك فهو حينئذ كقول القائل : موجودة حُكْماً لا حِسًّا .
فصل
روى جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « بَيْنَا أَهْلُ الجَنَّةِ في نَعِيمِهمْ إذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ فَرَفَعُوا رُؤوسَهُمْ فَإذَا الرَّبُّ - عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوقهِمْ فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الجَنَّةِ؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ- : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلى شَيْءٍ من النَّعِيم مَا دَامُوا يَنْظُرُون إليْهِ حَتَّى يَحْتَجب عَنْهُمْ فَيَبْقَى نُورُهُ وبَرَكَتَهُ عَلَيْهِمْ في دِيارهمْ » وقيل : تسلم عليهم الملائكة من ربهم كقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أي يقولون سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم ، وقيل : يعطيهم السلامة .
قوله : { وامتازوا } عى إضار قول مقابل لما قيل للمؤمنين أي ويقال للمجرمين امتازوا أي انعزلوا من مَازَهُ يَمِيزُهُ .
قال المفسرون : إن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته ( ويرى ذَلَة نفسه ) فيتحسر فيقلا : امتازوا اليوم . وقيل : المعنى ادخلوا مساكنكم من النار ، وقال أبو العالية تميزوا ، وقال السدي : كونوا على حِدَة وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة . وقيل إن قوله وامتازوا أمر تكوين فحين يقول فيميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواد كما قال تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } [ الرحمن : 41 ] .
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } العامة على فتح الهمزة على الأصل في حرف المضارعة ، وطلحة والهُذَيْل بن شرحيبي الكوفي بكسرها وتقدم أن ذلك لغة في حروف المضارعة بشروط ذُكِرَتْ في الفاتحة ، وقرأ ابن وثاب « أَحَّدْ » بحَاءٍ مشدَّدة قال الزمخشري : وهي لغة تميم ومنه : « دَحَّا مَحَّا » أي دَعْهَا مَعَهَا فقلبت الهاء حاء ثم العين حَاءً حين أريدَ الإدغام ، والأحسن أن يقال : إن العين أبدلت حاء وهي لغة هذيل فلما أدغم قلب الثاني للأول وهو عكس باب الإدغام . وقد مضى تحقيقه آخر آل عمران ، وقال ابن خالويه وابن وثاب والهذيل : « ألم اعْهَدْ » بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي على لغة من كسر أول المضارع سوى الياء وروي عن ابن وثاب « أَعْهِدْ » بكسر الهاء يقال : عَهِدَ وَعَهَدَ ، انتهى يعني بكسر الميم والهمزة أن الأصل في هذه القراءة أن يكون كسر حرف المضارعة ثم نقل حركته إلى الميم فكسرت لا أن الكسر موجود في الميم وفي الهمزة لفظاً إذ يلزم من ذلك قطع همزة الوصل وتحريك الميم من غير سبب ، وأما كسر الهاء فلما ذكر من أنه سمع في الماضي « عَهَدَ » فتحها قوله : « سوى الياء » - وكذا قال الزمخشري- هو المشهور ، وقد نقل عن بَعْضِ كَلْبٍ أنهم يكسرون الياء فيقولون : يعْلَمُ وقال الزمخشري فيه : وقد جوز الزجاج أن يكون من باب : نَعِمَ يَنْعَمُ وضَرَبَ يَضْرِبُ يعني أن تخريجه على أحد وجهين إما بالشذوذ فيما اتّحد فيه فَعِلَ يَفْعِلُ بالكسر فيهما كَنِعَم يَنْعِمُ وحَسِبَ يَحْسبُ ، ويَئِسَ يَيْئسُ . وهي ألفاظ معدودة في البقرة وإما ( أنه ) سمع في ماضيه الفتح كضرب كما حكاه ابن خالويه وحكى الزمخشري أنه قرئ « أَحْهَدْ » بإبدَال العين حاء . وقد تقدم أنها لغة هذيل . وهذه تقوي أن أصل أحد أحهد فأدغم كما تقدم . قوله : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ } و { وَأَنِ اعبدوني } يجوز في « أن » أن تكون مفسرة فسرت العهد بنهي وأمر وأن تكون مصدرية ( أي ) ألم أعْهَدْ إليكم في عدم عبادة الشيطان وفي عبادتي .
فصل
في معنى هذا العهد وجوه : أقواها ألم أوصِ إليكم ، واختلفوا في هذا العهد فقيل : هو العهد الذي كان مع آدم في قوله : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ } [ طه : 115 ] وقيل : هو الذي كان مع ذرية آدم حين أخرجهم وقال : ألَسْتُ بربِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، وقيل : مع كل قوم على لسان رسولهم . وهو الأظهر ، وقوله { لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } أي لا تطيعوا الشيطان والطاعة قد تطلق على العبادة ثم قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهر العداوة ووجه عادوته أنه لما أكرم الله آدم- عليه ( الصلاة و ) السلام- عاداه إبليس .
فإن قيل : إذا كان الشيطان عدواً للإنسان فما بال الإنسان يقبل على ما يرضيه من الزِّنا والشّرب ويكره ما يسخطُه من المجاهدة والعبادة؟
فالجواب : استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله فيستعين بشهوته التي خلقها الله فيه لمصلاح بقائه وبقاء نوعه ويعلها سبباً لفساد حاله ويدعوه بها إلى مالك المهالك وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله فيه لدفع المفاسد عنه ويجعلها سبباً لوباله وفساد أحواله وميل الإنسان إلى المعاصي كميْل المريض إلى ( المصادر ) ، وذلك حيث ينحرف المِزاج عن الاعتدال فترى المحموم يريد الماء البارد وهو يزيد من مرضه ومن معدته فاسدة لا يهضم القليل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد فساد معدته وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه .
قوله : { وَأَنِ اعبدوني } أطيعوني ووحِّدوني { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ما منع من عبادة الشيطان بقوله { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } أي خَلْقاً كثيراً .
قوله : « جبلاًّ » قرأ نافع وعاصم بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وأبو عمرو وابن عامر بضمة وسكون والباقون بضمتين واللام مخففة في كِلْتَيْهِمَا وابنُ أبي إسْحَاقَ والزّهريّ وابنُ هُرْمُز بضمتين وتشديد اللام والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام والأشهب العُقَيْلي واليمانيّ وحماد بن سلمة بكسرة وسكون وهذه لغات في هذه اللفظة وتقدم معناها آخر الشعراء وقرئ جِبَلاً بكسر الجيم وفتح الباء جمع جِبْلَةٍ ، كفِطَرٍ جمع فِطرَة وقرأ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب بالياء من أسفل ( ثنتان ) وهي واضحة .
قال ابن الخطيب : الجيم والباء لا تخلو عن معنى الاجتماع ( و ) الجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب ، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعةَ اللبن الكثير ، ولا يقال : البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبيئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنَّا نقول : هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات فإن البلجة بمعنى . والبَلَدُ سمي بَلَداً للاجتماع ، لا لتفرق الجمع ( العظيم )
حتى قيل : ن دون العشر آلاف لا يكون بلداً وإن لم يكن صحيحاً قوله : { أَفَلَمْ تَكُونُواْ } قرأ العامة بالخطاب لبني آدم . وطلحةُ وعيسى بياء الغيبة والضمير للجبل ، ومن حقهما أن يقرءا : ا لتي كانوا يوعدون لولا أن يَعْتَذِرُوا بالالْتِفَاتِ .
فصل
في كيفية هذا الإضلال وجهان :
الأول : تولّية عن المقصد وخديعته فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو تولية فإن لم يقدر يحيد بأمر غير ذلك من رياسة وجاه وغيرهما وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية . ثم قال : « أفلم تكونوا تعقلون » ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس . ويقال لهم لما دَنَوْا من النار : { هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها في الدنيا « اصْلَوْهَا الْيَوْم » أي ادخلوها اليوم « بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحزنهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : قوله تعالى : { اصلوها اليوم } أمر تنكيل وإهانة كقوله :
{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] .
الثاني : قوله : « اليوم » يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وبقي اليوم العذاب .
الثالث : قوله تعالى : { بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } فَإن الكفر والكفاران ينبئ عن نعمة كانت فكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشدّ الآلام كما قيل : أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ لِذَي همَّة حَيَاء المُسِيءِ مِنَ الْمُحْسِنِ .
قوله : { اليوم نَخْتِمُ } اليوم ظرف لما بعده وفرئ يُخْتِمُ مبنياً للمفعول . والجار بعده قائم مَقَام فاعله وقرئ : « وَتتكَلَّم » بتاءين من فوق . وقرئ ولتَتَكَلَّمْ ولتشهدْ بلام الأمر . وقرأ طلحة ولِتُكَلِّمَنَا ولتَشْهَدَ بلام كي ناصبة للفعل ومتعلقها محذوف أي للتكلم وللشهادة خَتَمْنَا « وبِمَا كَانُوا » أي بالذي كانوا أو بكونهم كاسبين .
فصل
في الترتيب وجهان :
الأول : أنهم حين يسمعون قوله تعالى : { بِمَا كُنْتُم تَكْفُرُونَ } يريدون ينكرون كفرهم كا قال عنه : « مَا أَشْرَكْنَا » « وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ » فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار ويُنْطِقُ الله جوارحهم غير لسانهم فيعترفون بذنوبهم .
الثاني : لما أن قال الله تعالى لهم : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ } لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا تكلمت أعضاؤهم غير اللسان . وفي الختم على الأفواه وجوه أقواها : أن اللهتعالى يسكت ألسنتهم وينطق جوارحهم فيشهدون عليهم وأه في قدرة الله يسير ( و ) أما الإسكانُ فلا خفاء فيه وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة كما جاز تحرك غيره بمثلها والله قادر على كل الممكنات . والوجه الآخر : أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرُّؤُوس لا يجدون عُذْراً فيَعْتَذِرُونَ ولا مجال توبة فيستغفرون وتكلم الأيدي هو ظهرو الأمور بحيث لا يمع مع الإنكار كقول القائل : الحيطان تبكي على صاحب الدار إشارة إلى ظهور الحزن والصحيح الأول لما ثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً قال : فيمختم على فيه ، فيقلا لأركانه انطقي قال : فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعداً لكنَّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل وقال عليه ( الصلاة و ) السلام : « أول ما يسأل من أحدكم فخذه ولفه » .
فإن قيل : ما الحكمة في إسناده الختم إلى نفسه وقال « نختم » وأسند الكلام والشهادة إلى الأرجل والأيدي؟
فالجواب : أنه لو قال : نختم على أفواههم وتنطق أيديهم لاحتمل أن يكون ذلك جبراً منه وقهراً والإقرار والإجبار غير مقبول فقال : تكلمنا أيديهم وتشده أرجلهم أي باختيارها يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم .
فإن قيل : ما الحكمة في جعل الكلام للأيدي وجعل الشهادة للأرجل؟
فالجواب : لأن الأفعال تنسد إلى الأيدي قال تعالى : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 35 ] أيما عملوه وقال { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] أي لا تلقوا بأنفسكم ، فإذن الأيدي كالعاملة والشاهد على العامل نبيغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من الشهود لبعد إضافة الأفعال إليهم .
فإن قيل : إن يوم القيامة من تقبل شهادته من المقربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو غير مقبولة وإن كان عدلاً وغير الصدِّيقين من لكفار والفساق لا تقبل شهادتهم والأيدي والأرجل صدرت الذنوب ( منها ) فهي فاسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها .
فالجواب : أن الأيْدي والأرجلَ ليسوا من أهل التكليف ولا ينسب إلهيا عدالة ولا فسقٌ ، إنما المنسوب من ذلك إلى العبد المكلف لا إلى أعضائه ، ولا يقالك إن العين تزني إن الفَرْج يزني وأيضاً فإنا نقلو : في در شهادتها ( قبول شهادتها ) لأنها إن كَذَبَتْ في مثل ذلك اليوم مع ظهور الأمور لا بدّ أن يكون مذنباً في الدينا وإن صَدَقَتْ في مثل ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا وهذا كن قال لِفَاسِق : « إن كذبت في نهار هذا اليوم فعَبْدي حُرٌّ » فقال الفاسق : كَذَبْتُ في نهار هذا اليوم عُتِقَ العَبْدُ؛ لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار ذلك اليوم فوجد االشرط أيضاً بخلاف ما لو قال في لايوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتْق عبدك على كذا فيه .
قوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } أي أذهبنا أعينهم الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شِقٌّ وهو معنى الطَّمْس ، كقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } [ البقرة : 20 ] يقول : إذا أعمينا قلوبهم لو شئنا أغمينا أبصارهم الظاهرة .
قوله : { فاستبقوا } عطف على « لَطَمَسْنَا » وهذا على سبيل الفَرْض والتقدير وقرأ عيسى فَاسْتَبِقُوا أمراً وهو على إضمار القول أي فيُقَالُ لَهُمْ اسْتَبقُوا والصِّراط ظرف مكان مختص عند الجمهور فلذلك تأولوا وصول الفعل إليه إما بأنه مفعول ( به ) مجازاً جعله مستبقاً لا مُسْتَبَقاً إليه ويضمن استبقوا معنى بادروا وإما على حذف الجار أي إلى الصراط وقال الزمخشري : منصوب على الظرف وهو ماش على قول ابن الطرواوة فإن الصراطَ والطريق ونحوهما ليست عنده مختصة إلا أن سيبويه على أن قوله :
4184- لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
ضرورة لنصبه الطريق .
وقرأ أبو بكر مَكَانَاتِهِمْ جمعاً ، وتقدم في الأنعام . والعامة على « مُضِيًّا » بضم الميم وهو مصدر على فُعُولٍ أصله مُضُويٌ فأدغم وكُسِرَ ما قبل الياء ليصبح نحو « لُقِيًّا » وقرأ أبو حيوة ورُويَتْ عن الكِسائيِّ مِضِيًّا ( أي ) بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو { عِتِيّاً } و { صِلِيّاً } [ مريم : 69 - 70 ] وقرئ بفتحها وهو من المصارد التي وردت على فعِيلٍ كالرِّسيم والزَّمِيلِ .
فصل
المعنى كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة فاستبقوا الصراط فتبادروا إلى الطريق « فَأَنَّى يُبْصِرُونَ » كيف يبصرون وقد أعمينا أعينهم يعني لو نشاء لأضللناهم عن الهُدَى وتركناهم عُمْياً يترددون فكيف يبصرون الطريق حنيئذ؟ هذا قول الحسن ، وقتادة ، والسدي . وقال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة : معناه لو نشاء لَفَقَأنَا أعين ضلالتهم فأعميناهم من غيهم وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم فأنى بصرون ولم أفعل لك بهم « ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم » أي مكانهم أي لو نشاء جعلناهم قِرَدَةً وخنازيرَ في منازلهم لا أزواد لهم « فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلاَ يَرْجِعُونَ » إلى ما كانوا عليه وقيل : لا يقدرون على ذهاب ولا رُجُوع .
قوله : { وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق } قرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة من نَكَّسَهُ مبالغة والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانية وضم الكاف خفيفة من نَكَسَهُ . وهي محتملة للمبالغة وعدمها وقَدْ تقدم في الأنعام أن نافعاً وابْنَ ذكوان قرءا « تعقلون » زالباقون بالغَيْبَة .
فصل
معنى ننكسه نَرُدُّ إلى أرْذَلِ العمر شبْهَ الصَّبِيِّ في ألو الخلق ، وقلي : ننكسه في الخلق أي ضعف جوارحه بعد قوتها ونقصانها بد زيادتها « أفلا يعقلون » فيعتبرون ويعلمون أن الذي قَدرَ على تَصْريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت .
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمداً شاعر ، وما يقوله شِعر فأنزل الله تكذيباً لهم وما علمناه الشعر وما ينبغي له أي ما يتسهل له ذلك وما كان يتّزن له بيتُ شِعْرٍ حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً . روى الحسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمثل بهذا البيت :
كَفَى بالإسْلاَمِ وَالشَّيْبُ لِلْمَرْسِ نَاهِياً ... فقال أبو بكر : يا نبي الله إنما قال الشاعر : كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلاَمُ للْمَرْءِ ناهياً . فقال عمر : اشهد أنك رسول بقول الله - عزّ وجلّ- : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } وعن أبي شريح قال : قلت لعائشةَ : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتمثل من الشعر قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة قالت : وربما قال :
4185- وَيَأتِيْكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَود ... وفي رواية ( قالت ) : كان الشعر أبغضَ الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلى ببيت أخي بني قيس طرفة :
4186- سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً ... وَيَأِيكَ بالأَخْبَار مِنْ لَمْ تُزَوّدِ
فجعل يقول : ويأتيك من لم تزود بالأخبار . فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله فقال : إني لست بشاعر ولا ينبغي لي وقيل : معناه ما كان يتأتى له قال ابن الخطيب وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن والشارع يكون اللفظ منه تبعاً للمعنى والشاعر يكون المعنى منه تبعاً للفظ لأنه يقصد لفظاً به يصح وزن الشعر ( أ ) و قافيته فيحتاج إلى التخيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ . وعلى هذا فنقول : الشعر هُو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصداً أولياً وأما من يقصد المعنى فيصدر موزوناً لا يكون شاعراً ألا ترى أن قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] ليس بشعر والشاعر إذا صدر منه هذا الكلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطعيه بفعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن يكون شعراً لأنه قصد الإتيان بألفاظٍ حروفها متحركة وساكنة كذلك . والمعنى تبعه والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ وعلى هذا يحصل الجواب عن قول من يقول : إنَّ ذكر بيتَ شعرٍ وهو قوله :
4187- أَنَا النَّبِيُّ لاَ كَذِب ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِب
أو بيتين لأنا نقول : ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية وعلى هذا لو صدر من النبي - عليه ( الصلاة و ) السلام- كلام كثيرٌ موزونٌ مُقَفًّى لا يكون شعراً لعدم قصده اللفظ قصداً أوليّاً ، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزوناً واقعاً في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعراً ولا الكلام شعراً لفقد القصد إلى اللفظ أولاً .
فصل
وجه الترتيب ما تقدم من أنه تعالى في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة وهي الوحدانية والرسالة والحشر ذكر الأصل الثالث منها وههنا ذكر أصلين الوحدانية والحشر . أما الوحدانية ففي قوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } [ يس : 60 ] وفي قوله : { وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 61 ] وأما الحشر ففي قوله تعالى : { اصلوها اليوم } [ يس : 64 ] وبقوله : « الْيَوْمَ نَخْتِمُ ( عَلَى أَفْوَاهِهِمْ ) » إلى غير ذلك فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } .
فقوله : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر } إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يُعَلِّمْه ما لم يُرِدْ .
فإن قيل : لم خص الشعر بنفي التعليم مع أن الكفار كانوا نيسبون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أشياء من جملتها السحر ، والكهانة ولم يقل : وما علمناه السِّحْرَ وما علمناه الكَهَانَةَ؟
فالجواب : أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها عندما كان خبر عن الغيوب ويكون كما يقول . وأما السحر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغَيْر كشقِّ القَمَر ، وتكلم الحَجَر ، والجِذْع وغير ذلك ، وأما الشعر فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلُون القرآن عليهم لكنه - عليه ( الصلاة و ) السلام - ما كان يُتَحَدَّى إلى بالقرآن كما قال تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] إلى غير ذلك ولم يقل : إن كنتم في شك من رسالتي فاقطعوا الجذوع أو أَشْبِعُوا الخلق العظيم أو أخبروا الغيوب فلما كان تحديه عليه ( الصلاة و ) السلام بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفس التعليم .
قوله : { إنْ هُوَ } أي ( إن ) القرآن ، دل عليه السياق أو إن المُعَلّم « إلاَّ ذِكْرٌ » يدل عليه : « وَمَا عَلَّمْنَاهُ » والضمير في قوله « له » للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل : للقرآن .
قوله : { إِلاَّ ذِكْرٌ } موعظة { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } فيه الفرائض والحدود والأحكام .
قوله : { لِّيُنذِرَ } قرأ نافع وابن عامر هنا وفي الأحقاف { لُتْنِذرَ } خطاباً والباقون بالغيبة بخلاف عن البّزِّي في الأحقاف ، والغيبة يحتمل أن يكون الضمير فيما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون للقرآن وقرأ الجَحْدَرِيُّ واليَمَانِيُّ « لتُنْذَرَ » مبنياً للمفعول وأبو السَّمَّال واليمانيّ أيضاً- ليَنْذَرَ - بفتح الياء والذّال من نَذِرَ بكسر الذال أي علم فتكون « مَنْ فَاعِلاً .
فصل
المعنى لتنذِرَ القرآنَ مَنْ كَانَ حياً يعني مؤمناً حي القلب لأن الكافر كالميتِ في أنه لا يتدبر ولا يتفكر قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } [ الأنعام : 122 ] وقيل : من كان حياً أي عاقلاً وذكر الزمخشري في » رَبِيع الأَبْرَارِ « » وَيحِقَّ الْقَوْلُ « ويجب العذاب على الكافر .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية والدلائل عليها فقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ } أي من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناهُ من غير معين ولا ظهير بل عملناه نقدرتنا وإرادتنا { أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } ضابطون قاهرون أي لم يخلق الأنعام وحشيةً نافرةً من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل هي مسخرة لهم كقوله : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } « سَخَّرْنَاها لهم » . « فمِنْهَا رَكُوبُهُمْ » أي ما يركبون وهي الإبل « وَمِنْهَا يَأكُلُونَ » من لحمانِها .
قوله : { رَكُوبُهُمْ } أي مركوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المفعول وهو لا ينقاس وقرأ أبيّ وعائشةٌ « رَكُوبَتُهمْ » بالتاء وقد عد بعضهم دخول التاء على هذه الزِّنة شاذاً وجعلها الزمخشري في قول بعضهم جمعاً يعني اسم جمع وإلا فلمْ يرد في أبنية التكسير هذه الزنة . وقد عد ابن مالك أيضاً أبنية أسماء الجموع فلم يذكر فيها فَعُولَةً ، وقرأ الحسنُ وأبو البَرَهسم والأعمش رُكُوبهم بضم الراء ولا بدّ من حذف مضاف إما من الأول أي فمن منافعها ركوبهم وإما من الثاني أي ذو ركوبهم . قال ابن خالويه العرب تقول : نَاقَةٌ حَلُوبٌ رَكُوبٌ وَركُوبةٌ حَلُوبَةٌ ورَكْبَاةٌ وَرَكَبُوتٌ حلَبُوتٌ وَرَكَبَى حَلَبَى وَرَكَبُوتَا ( حَلَبوتَا ) وَركبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ وأنشد :
4188- رَكْبَانَةٌ حَلْبَانَةٌ زَفُوفْ ... تَخْلِطُ بَيْنَ وَبَرٍ وَصًوفْ
فصل
لما بين الركوب والأكل ذكر غير ذلك فقال : { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ } فالمراد بالمافع أصوافها وأوبارها وأشعراها ونسلها وبالمشارب ألبانها ، والمَشَارِب جمع مَشْرب بالفتح مصدراً ومكاناً ثم قال : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ربِّ هذه النعم { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً } إشارة إلى باين زياة ضلالهم لأنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكراً لأنْعُمِهِ فتركوها ، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع { لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي لمنعهم من عذاب الله ولا يكون ذلك والضمير في قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } إما للآلهة وإما لعابديها وكذلك الضمائر بعده قال ابن عباس : لا تَقْدر الأصنام على نصرهم ومَنْعِهم من العذاب { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } أي الكفار جند للأصنام فيغضبون لها وحضرونها في الدنيا وهي لاس تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً ، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله ومعه أبتاعه الذين عبدوه كأنه جند ( ه ) يحضرون في النار . وهذا إشارة إلى الحَشْر بعد تقرير التوحيد . وهذا كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] وقوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 22-23 ] .
قوله : { فَلاَ يَحْزُنكَ } قد تقدم قراءة « يَحْزُن » و « يُحْزِن » « قَوْلُهُمْ » يعني قول الكفار في تكذيبك وهذا إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ما يسرون في ضمائرهم وما يعلنون من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى .
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } لما ذكر دليلاً من الآفاق على وجوب عبادته بقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } [ يس : 71 ] ذكر دليلاً من الأنفس فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } قيل : المراد بالإنسان أبيّ بن خلف الجُمَحِيّ « خَاصَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في إنكار البعث وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده وقال : أترى يُحْيِي اللُّهُ هذا العظمَ بعدما رَمَّ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : نعم ويَبْعَثُكَ ويُدْخِلُك النار » . فأنزل الله هذه الآيات قال ابن الخطيب : وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ألا ترى قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } [ المجادلة : 1 ] نزلت في واحدة وأراد الحكم في الكل فكذلك كل إنسان ينكر الله أو الحشر هذه الآية ردّ عليه وقوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } أي جَدِلٌ بالباطل « مبين » بيّن الخصومة . وفي ( هذه ) الآية لطيفة وهي أن اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء النطفة آية ظاهرة ومع ذلك فهناك ما هو أظهر ، وهو نُطْقُهُ وفَهْمُهُ لأن لانطفة جسم فهبْ أن جاهلاً يقول إنه استحال جسماً آخر لكن القوة الناطقة ، والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو ( إلى ) إدراك القوة والاختيار منه أقرب فقوله : « خَصِيمٌ » أي ناطق ، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصماً لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه .
قوله ( تعالى ) : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } قرأ زيد بن علي : « ونَسِيَ خَالِقَهُ » بزنة اسم الفاعل .
فصل
المعنى : « ونَسِيَ خلقه » أي بَدْءَ أمره { قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } قيل : فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ ، وقيل : مفعول فعلى الأول عدم التاء غير مقس وقال الزمخشري : الرَّميم اسم لما بَلِيَ من العظام غير صفة كالرّمَة والرفات فلا يقال : لم لم يؤنث وقد وقع خبراً لمؤنث ولا هو فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وقال البغوي ولم يقل : رميمة لأنه معدول من فاعله فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن يقل : رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله : { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] أسقط الهاء لأنها مصروفة عن « باغية » .
فصل
هذه الآية وما بعدها إشارة إلى بيان الحشر ، واعلم أن المنكرين للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلاً ولا شبهة بل اكتفى بمجرد الاستبعاد وهم الأكثر كقولهم :
{ وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ المؤمنين : 82 ] { قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } على طريق الاستعباد ، فأبطل استبعادهم بقوله : { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة ( الأجزاء ) ثم جعلنا لهم من النَّواصِيَ إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصّورة ، وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل اللذي ( ن ) بهما استحوقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن مَحَلاًّ للحياة أصلاً ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه . واخْتَارُوا العَظْم بالذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البِلَى والتّفَتّت . والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في العبد من القدرة والعلم فقال : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } أي جعل قدرتنا كقدرتهم « ونسيَ خَلْقَهُ » العجيب وبدأه الغري . ومنهم من ذكر شبهة وإن في آخرها يعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين :
الأول : أنه بعد العدم لن يبقى شيء فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود؟!
فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله تعالى : { الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئاً مذكرواً كذلك يعيده وإن لم يبق شيئياً مذكوراً .
الثاني : أن من تَفَرَّقت أجزاؤه في مشارق الأرض ومغاربها وصار بعضه في أبْدانِ السِّباع ، وبعضه في حواصل الطيوب وبعض في جُدْرَان الرباع كيف يجمتع؟ وأبعد من هذا : لو أكل الإنسان إنساناً وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل ( فإن أعيدت أجزاء الآكل ) فلا يبقى للمأكول أجزاء تتخلق منها أعضاء وإما أن تُعَاد إلى بدن المأكول فلا يبقى للآكل أجزاء . فأبطل الله تعالى هذه الشبهة بقوله : { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } ووجهه : أن في الأكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية وفي المأكول كذلك فإذا أكل إنسانً إنساناً صار الأصلي من أجزاء المأكول فضلياً من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان قبل الأكل فاللَّه بكل خلق عليم يعلم الأصل من الفضل فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيه روحاً وكذلك يجمع أجزاءه المتفرقة في البِقَاع المتبددة بحكمته وقدرته .
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال نكارهم فقال : { الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً } هذه قراءة العامة ، وقرئ الخَضْرَا اعتباراً بالمعنى ، وقد تقدم أنه يجوز تذكر اسم الجنس وتأنيثه قال تعالى : { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وتقدم أن بني تميم ونَجْد يذكِّرونه ، والحجاز يؤنثونه إلا ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ .
فصل
قال ابن عباس : هما شجرتان يقال لإحداهما المرخ وللأخرى العفار فمن أراد منهما النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خَصْراوان يقطران الماء فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى .
وتقول العرب : فِي كُلّ شَجَرٍ نَارٌ واستمجد المَرْخُ العَفَار . وقالت الحكماء : في كل شجرنا إلا العنّاب .
قوله : { فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } أي تَقْدحُون وتُوقدون النار من ذلك الشجر ، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان فقال { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } هذه قراءة العامة ودخلت الباء زائدة على اسم الفاعل ، والجَحْدَرِيّ وابن أبي إسحاق والأعرج « يَقْدر » فعلاً مضارعاً والضمير لتضمنهم مَنْ يعقل ثم قال : « بلى » ( أي قل بلى ) هو قادر على ذلك { وَهُوَ الخلاق العليم } ( يخلق خلقاً بعد خلق ) العليم بجميع ما خلق و « بَلَى » جواب « للَيْسَ » وإن دخل عليها الاستفهام لتصيرها إيجاباً والعامة على « الخَلاَّقُ » صيغة مبالغة ، والجَحْدَريّ والحَسَن ومالكُ بن دينَارٍ « الخَالِقُ » اسم فاعل .
قوله : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } تقدم الخلاف في « فيكون » نصباً ورفعاً وتوجيه ذلك في البقرة .
قوله : { فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } قرأ طلحةُ والأعمش مَلَكَةُ بزنة شَجَرَةٍ . وقرئ مَمْلَكَة بزنة مَفْعَلَةٍ وقرئ مُلْكُ والملكوت أبلغ الجميع ، والعامة على « تُرْجَعُونَ » مبنياً للمفعول ، وزيدُ بن عليِّ مبنيًّا للفاعل وتقدم الكلام على قوله « سُبْحَانَ » والتسبيحُ التنزيه ، والمكوتُ مبالغة في المُلْك كالرَّحَمُوت والرَّهَبُوت ، وهو فَعَلُول أو فَعلَلُوت فيه كلام ، قال - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يس » وقال عليه ( الصلاة و ) السلام : « لِكُلِّ شَيْءٍ قَلْبٌ ، وإنَّ قَلْبَ القُرآنِ سُورَةُ يس وَمنْ قَرَأ يس كَتَب اللَّهُ لَهُ بقراءَتِهَا قِرَاءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّات » وعن عائشة قالت : « قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إنَّ فِي القرآن سُورَةً تَشْفَعُ لقَارِئها ويُغْفَر لمُسْتَمِعِها أَلاَ وِهِيَ سُورَة يس » وعن أبي بكر الصديق- رضي الله عنه - قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يس تُدْعَى المُعِمَّة قيل : يا رسول الله : وما المُعمَّة؟ قال : تَعُمّ صاحبها خَيْرَ الدُّنْيَا والآخِرَة وتُدْعَى الدافِعَة القَاضِيَة تَدْفَعُ عَنه كُلَّ سُوءٍ وتَقْضِي له كُلَّ حَاجَةٍ ، وَمَنْ قَرَأهَا عَدَلَتْ لَهُ عِشْرينَ حَجّةً ومَنْ سَمِعَهَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِينَارٍ في سَبِيل اللَّهُ وَمَنْ كَتَبَهَا وَشَربَهَا أدْخَلَتْ جَوْفَه ألفَ دَواء وألْفَ يَقين وألفَ رَأْفَةٍ ونُزعَ منه كُلُّ دَاءٍ وغِلّ ، وعن أبي أُمامَةَ عن أبيِّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ قَرَأ يس يُريدُ بها وَجْهَ- عَزَّ وَجَلَ- غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وأعْطِيَ منَ الأَجْر كَأَنَّما قَرَأ القُرْآنَ اثْنَتَي عَشْرَةَ مَرَّةً ، وأَيُّمَا مَرِيض قُرئَ عنءدَه سورةُ يٍ نَزَلَ عَلَيْهِ بِقَدْر كُلِّ حَرْف عَشْرَة أمْلاك ، يَقُومُون بَيْنَ يَدَيْهِ صُفُوفاً فيصَلُّون عَلَيْهِ ويَسْتَغْفِرون علَيه ويَشْهَدونَ قَبْضَهُ وغُسْلَهُ وَيتّبِعُونَ جَنَازَتُه ويُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَشْهَدُون دَفْنَهُ وأَيُّما مَريض قَرَأ سُورَةَ يس وَهُو فِي سَكَرَاتِ المَوْتِ لَمْ يَقْبضْ مَلَكُ الموتِ رُوحَه حَتَّى يَجِيئَهُ رَضْوَانُ خَازنُ الجِنَانِ بشَرْبةٍ مِن الجَنَّة فَيَشْرَبُها وهُوَ عَلَى فِرَاشِه فَيموتُ وَهُو رَيَّانُ ويُبْعَثُ وَهُوَ رَيَّانُ ، وَيُحَاسَبُ وَهُو رَيَّانُ وَلاَ يَحْتَاج إلَى حَوْضٍ مِنْ حياض الأنْبِيَاء ، حَتَّة يَدْخُلَ الجَنَّةَ وَهُوَ رَيَّان »
وعن أبي هريرة قال : « قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ دَخَلَ المَقَابِرَ فَقَرأ سُورة يس خَفَّفَ عَنْهُمْ يَوْمَئِذٍ وَكَانَ لَهُ بِعَدَدِ مَنْ فِيهَا حَسَنَاتٌ وعن يحيى بن أبي كثير قال : بَلَغَنا » مَنْ قَرَآَ يس حِين يُصْبحُ لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحٍ حَتَّى يُمْسِي وَمَنْ قَرَأها حِينَ يُمْسِي لَمْ يَزَلْ فِي فَرَحِ حَتَّى يُصْبح « .
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قوله تعالى : { والصافات صَفَّا } قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء من « الصَّافَّاتِ » و « الزَّاجرَاتِ » و « التَّاليَاتِ » في صاد « صفاً » وزاي « زجراً » وذال « ذكراً » وكذلك فعلا في { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] وفي { فالملقيات ذِكْراً } [ المرسلات : 5 ] ، وفي { والعاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] بخلافٍ عن خَلاَّدٍ في الأخيرين وأبو عمرو جار على أصله في إدغام المتقاربين كما هو المعروف من أصله وحمزة خارج عن أصله والفرق بين مذهبيهما أن أبا عمرو يجيز الروم وحمزة لا يجيزه وهذا كما اتفقا في إدْغَام { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } [ النساء : 81 ] وإن كان ليس من أصل حمزة إدغام مثله وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك .
قال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن مقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من طَرَف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس والمدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصّفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتاً في الأنقص .
وأيضاً إدغام التاء في الزاي في قوله : { فالزاجرات زَجْراً } حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد وأيضاً حَسُنَ إدغام التاء في الذال في قوله : { فالتاليات ذِكْراً } لاتفاقهما في أنهما من طَرَفِ اللسان وأصول الثنايا . وأما من قرأ بالإظهار فلاختلاف المَخَارج ومفعول « الصَّافَّاتِ » « والزَّاجِرَاتِ » غير مراد إذ المعنى الفاعلات لذلك وأعرب أبو البقاء « صَفًّا » مفعولاً به على أنه قد يقع على المصفوف وهذا ضعيف وقيل : وهو مراد والمعنى والصافات أنفسها وهم الملائكة ، أو المجاهدون أو المصلون أو الصفات أجنحتها وهي الطير ، كقوله : { والطير صَآفَّاتٍ } [ النور : 41 ] والزاجرات : السحاب أو العصاة إن أريد بهم العلماء ، والزجر الدفع بقوة وهو قوة التصويت وأنشد :
4189- زَجْر أبِي عُرْوَةَ السِّبَاعَ إِذَا ... أشْفَق أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وَزَجرت الإبلَ والغَنَمَ إذَا فَزِغَتْ مِنْ صَوْتِكَ وأما « والتَّالِيَاتِ » فيجوز أن يكون « ذكراً » مفعوله ، والمراد بالذكر القرآن وغيره من تسبيح وتحميدٍ ، ويجوز أن يكون « ذكراً » مصدراً أيضاً من معنى التَّالِيَاتِ ، وهذا أوفق لما قبله قال الزمخشري : الفاء في « فالزاجرات » ( وفي ) فالتاليات إما أن تدل على ترتيب معانيهما في الوجود كقوله :
4190- يَا لَهْفَ زيَّابَة لِلْحَارِث الصْ ... صَابِحِ فَالغَانِم فَالآيِب
أي الذي صبح فغنم فآب ، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل ، وإما على ترتب موصوفاتها في ذلك كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : « رَحِمَ اللَّهُ المُحَلِّقِينَ فَالمُقَصِّرِينَ » فأما هنا فإن وجدت الموصوف كانت للدلالة على ترتب الصفات في التفاضل ، فإذا كان الموحد الملائكة فيكون الفضل للصف ثم للزجر ، ثم للتلاوة وعلى العكس وإن ثَلَّثْتَ الموصوف فترتب في الفضل ، فيكون « الصافات » ذوات فضل والزجرات أفضل ( و التاليات أبهر فضلاً أو على العكس يعني بالعكس فيال موضعين أنك ترتقي من أفضل ) إلى فاضل إلى مفضول أو تبدأ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل .
والواو في هذه للقسم ، والجواب قوله : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } .
وقد ذكر الكلام في الواو ( و ) الثانية والثالثة هي للقسم أو للعطف .
فصل
قال ابن عباس والحسن وقتادة : والصَّافَّات صفًّا هم الملائكة في السماء يصفون كصوفوف الخلق في الدنيا للصلاة وقال - عليه ( الصلاة و ) السلام - : « أَلاَ تَصُفُّونَ تَصُفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ » ؟ قُلْنَا : وَكَيْفَ تصفُّ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ : يُتمُّونَ الصُّفُوفَ المُقَدَّمة وَيَتَرَاصُّون في الصَّفِّ « وقيل : هم الملائكة تصُفُّ أجْنِحَتَهَا في الهواء واقفة حتى يأمر ( ها ) الله بما يريد ، وقيل : هي الطير لقوله تعالى » والطّير صَافَّاتِ « » فالزاجرات زجراً « يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه ، وقال قتادة : هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح » فالتاليات ذكراً « هم الملائكة يتلون ذكر الله وقيل : هم جماعة قُرَّاء القرآن ، وهذا كله قسم ، وقيل : فيه إضمار ، أي ورَبَّ الصّافّاتِ والزاجرات والتاليات .
فصل
قال أبو مسلم الأصفهاني لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مُشْعِرَةٌ بالتأنيث والملائكة مبرأون عن هذه الصفة ، وأجيب بوجهين :
الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ، ثم يجمع على صافات .
والثاني : أنهم مبرأون عن التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة .
فصل
اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين :
أحدهما : أن المقسم به خالق هذه الأشياء لِنَهْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - عن الحلف بغير الله تعالى ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به ، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى ومما يؤكِّد هذا أنه تعالى صرح به في قوله : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 5-7 ]
الثاني : أن المقسم به هو هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلافُ الدليل وأما قوله تعالى : { وَمَا بَنَاهَا } فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباء في السماء ولو كان لامراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التَّكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذَوَاتِهَا .
فإن قيل : ذكر الحَلِف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه :
الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر . والأول باطل لأن المؤمن مُقرٌّ به من غير حلق .
والثاني : باطل لأن الكافر لا يقر به سواء حصل الحلق أو لم يحصل فهذا الحلق عديم الفائدة على كلّ تقدير .
الثالث : أنه تعالى أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق فقال : { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] إلى قوله : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 5 ، 6 ] وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لايليق بالعقلاء .
فالجواب : من وجوه :
الأول : أنه قَرَّر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لم تقدم لا سيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلق واليمين طريقة مألوفة عند العرب .
الثاني : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى : « إن إلهكم لواحد » ذكر عقيبه ما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحداً وهو قوله تعالى : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المشارق } وذلك لأنه تعالى بين في قوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الانبياء : 22 ] أنَّ انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحدٌ فههنا لما قال : « إنَّ إلهكم لواحد » أردفه : « رَبِّ السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق » كأنه قيل : بيَّنَّا أن النظر في انتظام هذه العالم يدل على كون الإله واحداً فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد .
الثالث : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم : بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والرَّكَاكَة إلى حيث يكفي في إبطاله مثلُ هذه الحُجَّة .
قوله : { رَّبُّ السماوات } يجوز ، يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون بدلاً من « لَوَاحِدٌ » وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، وجمع المشارق والمغارب باعتبار جميع السنة فإن للشمس ثلثمائةٍ وستين مشرقاً وثلثمائة وستين مغرباً ، وأما قوله : « المَشْرِقَيْنِ والمَغْرِبَيْنِ » فباعتبار الصَّيْفِ والشِّتَاءِ ، وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ، لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً ، ( وقيلك كل موضع شرقت عليه الشمس فو مشرق ولك موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب كأنه أراد رب جميع ما شرقت عليه الشمسُ وغربت )
فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق؟ .
فالجواب : من وجهين :
الأول : أراد المشارق والمغارب كما قلا في موضع آخر { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب } [ المعارج : 40 ] وأنه اكتفى بذكر المشارق كقوله : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] .
والثاني : أن الشروق قوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً من الغروب فذكر المشرق بيهما على كثرة إحسان الله تعالى على عباده . ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم - عليه ( الصلاة و ) السلام- بالمشرق فقال : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق } [ البقرة : 258 ] .
فصل
دَلّ قوله تعالى : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } على كونه تعالى خالقاً لأعمال العباد ، لأن أَعْمَالَ العباد موجودة فيما بين السموات والأرض وهذه الأية دلت على أن كل ما حصل بين السموات والأرض فاللَّه ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله .
فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السموات والأرض لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حَيِّزٍ وجهةٍ والأعراض ليست كذلك .
قلنا : إنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حالصة بين السموات والأرض .
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
قوله : { إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } قرأ عاصم براية أبي بكر : « بِزينَةٍ » منونة ونصب « الكواكب » وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون الزنية مصدراً وفاعله محذوف بأن زين الله الكواكب في كونها مضيئةً حسنةً في أنفسها .
والثاني : أن الزينة اسم لما يزان به كاللِّيقَةِ اسم لما يُلاَقُ به الدَّوَاة فتكون الكواكب على هذا منصوبة بإضمار أعني أو يكون بدلاً من ( ال ) سَّمَاء الدُّنْيَا بدل اشتمال أي كواكبها أو من محل « بزينَةٍ » وحَمْزةُ وحفصٌ كذلك إلا أنهما خفضا الكواكب على أن يراد بزينة ما يزان به ، والكواكب بدل أو بيان للزينة وهي قراءة مسروق بن الأجدع قال الفراء : وهو رد معرفة على نكرة كقوله : « بالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ » فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج : الكواكب بدل من الزينة لأنها هي كقولك : « مَرَرْتُ بأَبِي عَبْد اللَّه زَيْدٍ » والباقون بإضالة زينَة إلى الكواكب وهي تحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون إضافة أعم إلى أخص فتكون للبيان نحو : ثَوْبُ خَزَّ .
الثاني : أنها مصدر مضاف لفاعله أي بأن زَيَّنَتِ الكَوَاكِبُ السَّمَاءَ بضَوْئِهَا .
والثالث : أنه مضاف لمفعوله أي بأن زينها الله بأن جعلها مشرقة مضئية في نفسها وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها وبرفع الكواكب فإن جَعَلْتَهَا مصدراً ارتفع الكواكب به ، وإن جعلتها اسماً لما يزان به فعلى هذا ترفتع « الكواكب » بإضمار مبتدأ أي هي الكواكب . وهي في قوة البدل ومنع الفراء إعمال المصدر المنون ورغم أنه لم يُسْمعْ وهو غلط لقوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } [ البلد : 14 ] كما سيأتي إن شَاءَ اللَّهُ . قوله : « وَحِفْظاً » منصوب على المصدر ، بإضمار فعل أي حَفِظْنَاهَا حِفظاً ، وإما على المفعول من أجله على زيادة الواو والعامل فيه زَيَّنَّا أو على أن يكون العامل مقدراً أي لحِفْظِهَا زَيَّنَّا أو على الحمل على المعنى المتقدم أي : إنا خلقنا السماء الدينا زينةً وحفظاً ، و « مِنْ كُلّ » ويجوز أن يكون صفةً « لِحفْظاً » قال المبرد : إذا ذكرت فعلاً ثم عطفت عليه مصرد فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله كقولك : أفْعَلُ وكَرَامَةً لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف فكان المعنى أفْعَل ذَاكَ واُكْرِمُكَ كَرَامَةً .
فصل
قال ابن عباس « زينا السماء الدينا » بضوء الكواكب « وحفظناها من كل شيطان مارد » متمرد يرمون بها ، وتقدم الكلام على المارد عن قوله : { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } [ التوبة : 101 ] واعمل أنه تعالى بين أنه زين السماء لمنفعتين :
إحداهما : تحصل الزينة .
والثانية : الحفظ من الشيطان المارد .
فإن قيل : ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات السِّتَّةِ المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب؟ .
فالجواب : أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدو ( نَ ) هَا مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى : { إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } وأيضاً فكون هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن لم يتم دليل الفلاسفة عليه .
فن قيل : هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله المساء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تَبْطُل وتَضْمَحِّل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقة لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير ألبتة وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مُشْكِل لأنه تعالى قال في سورة الملك : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] فالضمير في قوله : « وَجَعَلْنَاهَا » عائد إلى المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعينها .
فالجواب : أن الشهبَ غير تلك الكواكب الثاتبة وأما قوله تعالى : « ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين » فنقو ( ل ) كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الأرض آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبهذا يزول الإشكال .
فإن قيل : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة وهل يمكن أن يصدر ( مثل ) هذا الفعل عن عاقل فكيف من الشياطين الذين لهم مَزِيَّة في معرفة الحِيل الدقيقة؟ .
فالجواب : أن حصول هذه الحال ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز ان يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنهم لا تصيبهم الشهب فيما كما يجوز فيمن سَلَك البَحْرَ أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه يغلب على ظنه حصول النجاة . هذا ما ذكره أبو عَلِيٍّ الجُبَّائي في الجواب عن ( هذا ) السؤال في تفسيره وفي هذا الجواب نظر فإن السموات ليس فيها موضع خال من الملائكة لقوله - عليه ( الصلاة و ) السلام- : « أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ قَدَمٍ إلاَّ وَفيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ أَوْ سَاجِدٌ »
قال ابن الخطيب ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا إما أن يَصِلوا إلى مواضع ( الملائكة ) وإلى غير ( تلك ) المواضع فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصود أصلاً وعلى كلا التقديرين فالمقصود غير حاصل . وإذا كان الفوز بالمقصود محالاً وجب أن يمتنعوا عن هذا الفعل وألا يقدموا عليه أصلاً بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود وأما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الإحراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة وإذا لم يصل إلى ذلك الموضع لم يفز بالمقصود فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة والأقرب في الجواب أن يقال هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب نُدْرَتِهَا فيما بين الشياطين . والله أعلم فإن قيل : دلتنا التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ولذلك ) فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - امتنع حمله على مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاب القاضي بأن الأقرب أنَّ هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنها كثرت في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فصارت بسبب الكثرة معجزةً .
فإن قيل : الشيطان مخلوق من النار كما حكي عن قول إبليس { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ الأعراف : 12 ] وقال : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } [ الحجر : 27 ] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟ .
فالجواب : يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النِّيران إلا أنَّها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم ولا جَرَمَ صار الأقوى للأضعف مبطلاً ، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنان .
قوله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين ( فالميم ) والصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم ، والباقون بالتخفيف فيهما . واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال : لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى . وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ ، وقال مكي : لأنه رجى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى « بإلى » تعدى سَمِع بإلى ، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعيدي سواء فتسع مطاوع سمع واستع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه وهذه الجملة منقطعة عما قلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير التقدير : مِنْ شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد ، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين؟ إذ يفسد معنى ذلك وقال بعضهم : وأصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت « اللام وأن » فارتفع الفعل وفيه تعسف وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ غني به الاستنئاف البياني فهو فاسد أيضاً .
وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح .
فصل
واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 212 ] وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً عن السمع أولى واعلم أن الفرق بين قوله : سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك : سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك : سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك وفي قوله : « لا يسمعون إلى الملأ الأعلى » قولان أشهرهما : أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا ، فلما حذف الناصب صار كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] وقوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] قال الزمخشري : حذف اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها ، قال الزمخشري : إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود . والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء .
قوله : { دُحُوراً } العامة على ضم الدال وفي نصبه أوجه :
أحدهما : المفعول له أي لأجل الطرد .
الثاني : مصدر ليقذفون أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً أو يُقْذَفُون قذفاً فالتجوز إما في الأول وإما في الثاني .
الثالث : أنه مصدر لمقدر أي يُدْحَرُونَ دُحُوراً .
الرابع : أنه في موضع الحال أي ذَوِي دُحُورٍ أو مَدْحُورِينَ وقيل : هو جمع دَاحِر قَاعِد وقُعُودٍ فيكون حالاً بنفس من غير تأويل قال مجاهد : دحوراً مطرودين . وروي عن أبي عمرو أنه قرأ ويَقْذِقُونَ مبنياً للفاعل وقرأ علِيُّ والسُّلَمِّي وابنُ أَبِي عَبْلَةَ دَحْوراً بفتح الدال وفيها وجهان :
أحدهما : أنه صفة لمصدر مقدر أي قَذْفاً دَحُوراً . وهو كالصَّبُور والشَّكُورِ .
والثاني : أنه مصدر كالقبُول والوَلُوع وقد تقدم أنه محصور في ألفظ ، والدُّحُور قال المبرد : أشد الصغار والذل . وقال ابن قتيبة : دَحَرْتُهُ دُحُوراً ودَحْراً أي دَفَعْتُهُ وطَرَدْتُهُ وتقدم في الأعراف عند قوله : { مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } [ الأعراف : 18 ] .
قوله : { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } قال مقاتل : دائم إلى النفخة الأولى وتقدم في سورة النحل في قوله : { وَلَهُ الدين وَاصِباً } [ النحل : 52 ] .
قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير « لا يَسَّمَّعُونَ » وهو أحسن لأنه غير موجب .
والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء ، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف قال شهاب الدين : ويجوز أن يكون « من » شرطية وجوابها : « فَأَتْبَعَهُ » أو موصولة وخبرها « فَأَتْبَعَهُ » وهو استثناء منقطع وقد نصوا على أن مثل هذه الجملة تكون استثناء منقطعاً كقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } [ الغاشية : 22 ، 23 ] والخَطْفَةُ مصدر معرف بأل الجنسية أو العهدية ، وقرأ العامة خَطِفَ بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة ، وقتادةُ والحسنُ بكسرهما وتشديد الطاء وهي لغة تميم بن مُرة وبكرة بن وائل وعنهما أيضاً وعن عيسى : بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة وعن الحسن ( أيضاً ) خطف كالعامة وأصل القراءتين اختطف فلما أريد الإدغام سكنت التاء وقبلها الخاء ساكنة فكسرت الخاء لالتقاء الساكنين ثم كسرت الطاء إتبعاً لحركة الخاء وهو مفقود وقد وجه على التَّوَهُّم وذلك أنهم لما أرادوا الإدغام نقوا حركة التاء إلى الخاء ففتحت وهم يتوهمون أنهم مكسورة لالتقاء الساكنين - كما تقدم تقريره- فاتبعوا الطاء لحركة الخاء المتوهمة ، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في مقتضيات الإعراب فلأن يَفْعَلُوه في غيره أولى . وبالجملة فهو تعليل شذوذ وقرا ابنُ عَبَّاسٍ خِطِفَ بكسر الخاء والطاء خفيفةً وهو إتباع كقولهم : نِعِمْ بكسر النون والعين وقرئ فاتَّبعه بالتشديد .
فصل
ومعنى الخطف أي اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقةً « فأتبعه » أي لحقه شهاب ثاقب كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقلته أو يحرقه قيل : سمي ثاقباً لأنه يَثْقُبُ بنوره سَبْع سمواتٍ . وقال عطاء : سمي النجم الذي يرمي به الشياطين ثاقباً لأنه يَثْقُبُهُمْ وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البَحْر .
قوله : { فاستفتهم } يعني كفار مكة أي سَلْهُمْ « أهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنَا » يعني السموات والأرض والجبال . وهو استفهام بمعنى التقرير أي هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] وقوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] ( وقيل : معنى ) أَمَّنْ خَلَقْنَا ( يعني ) : من الأمم الخالية لأن مَن تذكر لمن يعقل والمعنى أن هؤلاء ليسوا بأحكَم خلقاً من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم في ذنوبهم فما الذين يُؤمِّنُ هؤلاء من العذاب .
قوله : { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } العامة على تشديد الميم الأصل أَمْ مَنْ وهي « أَمْ » المتصلة عطف « من » على « هم » وقرأ الأعمش بتخفيفها وهو استفهام ثانٍ فالهمزة للاستفهام أيضاً و « مَنْ » مبتدأ وخبره محذوف أي الذين خلقناهم أشد ، فهما جملتان مستلقتان وغلب من يعقل على غيره ولذلك أتى « بمن » قوله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } أي جيّد حر لاصق يعْلِقُ باليد . واللازبُ والازمُ بمعنى وقد قرئ : لاَزمٌ لأنه يلزم اليد ، وقيل : اللازِبُ اللَّزج .
وقال مجاهد والضحاك : مُنْتِن ، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل من الميم .
فصل
وجه النظم : أنه قد تقرر أن المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيّات والمَعَاد والنُّبُوة وإثبات القَضَاء والقدر فافتتح تعالى هذه السورة بإثبات ما يدل على وُجُود الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته وهو خالق السموات والأرض وما بينهما وَربّ المشارق ، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن نم قدر على ما هو أصعب وأشق وجب أن يقدر على ما هو دونه وهو قوله : { فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } فمن قدر على ما هو أشد وأصعب فبِأن يكونَ قادراً على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى . وأيضاً فقوله : « إنا خلقناهم من طين لازب » يعني أن هذه الأجساد قابلة للحياة إذ لو تكن قابلةً للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والمراد بقوله : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } يعني أصلهم وهو آدم - عليه ( الصلاة و ) السلام - رُوِيَ أنَّ القوم قالوا : كيف يعقل تولد الإنسان لا من أبوين ولا من نطفة؟ فكأنه تعالى قال لهم : إنكم لما أقررتم بحُدوثِ العَالَم واعترفتم بأن السموات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فلا بد وأن يعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين فإن اعْتَرَفْتُمْ به فقد سقط قولكم : إن الإنسان كيف يحث من غير نطفة ومن غير الأبوين؟ وأيضاً فقد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من طين لازب ومن قدر على خلق الحياة من الطين اللازب كيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات ويمكن أن يكون المراد بقوله : « إنا خلقناهم من طين لازب » أي كل الناس ووجهه أن الحيوان إنما يتولد من المَنِي ودَم الطَّمْثِ والمني إنما يتولد من الدَّم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغِذَاء ، والغذاء إما حيوانيّ وإما نباتيّ ، وأما تولد الحيوان الذي صرا غذاءً فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما تولد من امتزاد الأرض بالماء وهو الطين اللازب فظهر أن كل الخلق ( منه ) مُتَوَلِّدُونَ من الطِّينِ اللازب وهو قابل للحياة والله تعالى قادر عليها . وهه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصفة في كل الأوقات ، وهذه بيانات ظاهرة .
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
قوله : { بَلْ عَجِبْتَ } قرأ الأَخَوَانِ بضم التاء والباقون بفتحها فالفتحُ ظاهر وهو ضمير الرسول أو كل من يصح منه ذلك وأما الضم فعلى صرفه للمخاطب أي قُلْ يا محمد بل عَجِبْتُ أنا ، أو على إسناده للباري تعالى على ما يليق به وقد تقدم هذا في البقرة وما ورج منه في الكتابِ والسنة . وعن شُرَيْحٍ أنه أنركها وقال : اللَّهُ لا يَعجَبُ فبلغت إبْرَهِيمَ النَّخَعِيِّ فقال : إنَّ شريحاً كان مُعْجَباً برأيه قرأها مَنْ هو أعلم ( منه ) ؛ يعني عبد اللَّهِ بن مسعود وابن عباس والعَجَبُ من الله ليس كالتَّعَجُّب من الآدميين كما قال : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ } [ التوبة : 79 ] وقال : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه والعُجْب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذَّمِّ وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث : « عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ شَابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ » وقوله : « عَجِبَ رَبُّكُمْ مِن إِلِّكُمْ وقُنُوطِكِمْ وسُرْعَةِ إجَابتِهِ إيَّاكُمْ » وسُئِلَ جُنَيْدٌ من هذه الآية فقال : إن الله لا يعجب من شيءولكن اللَّهَ وافق رسولَه لمَّا عِجِبَ رسولُهُ وقال : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } أي هو كما تقوله .
قوله : { وَيَسْخُرُونَ } يجوز أن يكون استئنافاً وهو الأظهر وأن يكون حالاً والمعنى أي عجبت من تكذيبهم إياك وهم يسخرون من تعجبك ، وقالد قتادة : عَجِبَ نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن فسخروا منه ولم يؤمنوا عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقال الله تعالى : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } وَإِذَاَ ذُكِّرُوا لاَ يّذْكُرُونَ « أي إذا وَعِظُوا بالقرآن لا يَتَّعِظُونَ .
وقرأ ( جَنَاحُ ) بن حبيش » ذُكِرُوا « مخففاً » وإذا رأوا آية « قال ابن عباس ومقاتل : يعني انْشِقَاقَ القمر » يَسْتَسْخِرُون « يسخرون ويستهزئون ، وقيل : يستدعي بعضُهم عن بعض السخرية وقرئ » يستستخرون « بالحاء المهملة » وَقَالُوا إنْ هَذَا إلاَّ سِحْر مُبينٌ « ( أي سحر بَيِّن ) يعني إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها لاعتقادهم أنها من باب السحر .
فصل
قال ابن الخطيب : والذي عندي في هذا الباب أن يقال : القوم كانوا يَسْتَبْعِدثون الحَشْر والقيامة وبقولون من مات وصار تراباً وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه؟ وبقوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يخسرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك ولا طريق إلى إزالة هذا الاستباد إَلاَّ من وجهين :
أحدهما : أن يذكر لهم الدليل على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم : هل تعلمون أن القادر عل الأصعب الأشق يجب أن يكون قادراً على الأسهل .
فهذا الدليل وإن كان جَلِيًّا قويًّا إلا أن ( ذكر ) أولئك المنكرين إذا عرض على قلوبهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها وإذا ذكروا لم يتذكروها لشدة بلادتهم وجهلهم فلا جَرَمَ لم ينتفعوا بهذا الدليل .
والطريق الثاني : أن يثبت الرسول - صلى الله عليه وسلم - رسالته بالمعجزات ثم يقول : لما ثبت بالمعجزة كوني رسولاً صادقاً من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حَقٌّ ثم إنّ أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضاً لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على أنها سِحْرٌ وسَخِرُوا منها واسْتَهْزَأُوا بها وهذا هو المراد من قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }
قوله : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } وهذا بيان للسَّبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط ( بتراب ) الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم . فهذا الإنسان كيف يعقل عَوْدُه بعينه حيًّا ثانياً؟! ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال : قُلْ ( لَهُمْ ) يا محمد « نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُون » أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون ، والدخور أشد الصغار وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه ( أمر ) ممكن وإذا ثبت الجواب القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بأخبار المخبر الصادق فلما قامت المعجزات على صدق محمد - عليه ( الصلاة و ) السلام - كان واجب الصدق فكان مجرد قوله : « نَعَمْ » دليلاً قاطعاً على الوقوع .
قوله : { أَوَ آبَآؤُنَا } قرأ ابنُ عَامر وقالون : بسكون الواو على أنها « أَوْ » العاطفة المقتضية للشك والباقون بفتحها على أنها همزة استفهام دخلت على واو العطف ، وهذا الخلاف جار أيضاً في « الواقعة » وتقدم مثل هذا في الأعراق في قوله : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] فمن فتح الواو أجاز في : « آبَاؤُنَا » وجهين :
أحدهما : أن يكون معطوفاً على محل إن واسمها .
والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المستتر في : « لَمَبْعُوثُونَ » واستغني بالفصل بهمزة الاستفهام ، ومن سكنها تعين فيما الأول دون الثاني على قول الجمهور لعدم الفاصل ، وقد أَوْضَحَ هذا الزمخشريُّ حيث قال : « أو آباؤنا » معطوف على محل إنَّ واسمها أو على الضمير في : « لَمَبْعُوثُونَ » والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام قال أبو حيان : أما قوله معطوف على محل « إنّ » واسمها فمذهب سيبويه خلافه فإن قولك : « إنَّ زَيْداً قَائِمٌ وعمرو » وعمرو فيه مرفوع بالابتداء وخبره محذوف ، وأما قوله : أو على الضمير في لمبعوثون ( الخ . . .
. . فلا يجوز أيضاً؛ لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلى على الجمل لا على المفرد؛ لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملاً في المفرد بواسطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها ، فقوله : { أَوَ آَبَاؤُنَا } مبتدأ محذوف الخبر لما ذكرنا قلت : أما الرد الأول : فلا يلزم لأنه لا يُلْتَزَمُ مذهب سيبويه وأما الثاني : فإن الهمزة مؤكدة للأولى فهي داخلة في الحقيقة على الجملة إلا أنه فصل بين الهمزتين بإنّ واسْمِهَا وخبرها . ويدل على هذا ما قاله هو في سورة الواقعة فإنه قال : دخلت همزة الاستفهام على حرف العطف ، فإن قلت : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون ) من غير تأكيد بنحن؟ قلت : حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] لفصل ( لا ) المؤكدة للنفي لأن لا مؤكدة للنفي المتقدم بما إلا أن هذا مشكلٌ بأن الحرف إذا كرر للتأكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلا بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميره . وقد مضى القول فيه وتحصل في رفع « آباؤنا » ثلاثة أوجه : العطف على الابتداء والخبر مضمر والعامل في « إذا » محذوف أي : أَنُبْعَثُ إذَا مِتْنَا هذا غذا جعلتها ظرفاً غير متضمن لمعنى الشرط ، فإن جعلتها شرطية كان جوباها عاملاً فيها أي إذا متنا بُعِثْنَا أوْ حُشِرْنَا .
وقرئ « إذَا » دون استفام وقد مضى القول فيه في الرعد .
قوله : { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } جملة حالية العامل فيها الجملة القائمة مقامها « نعَمْ » أي تبعثون وأنتم صاغرون أذلاَّء قال أبو حيان : وقرأ ابن وَثّاب « نِعِمْ » بكسر العين تقدم أن الكسائي قرأها كذلك حيث وقَعتْ وكلامه هنا موهم أن ابن وثاب منفردٌ بها .
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ } قال الزمخشري : « فَإنَّما هِيَ » جواب شرط مقدر تقديره إذا كان كذلك فما هي إلا زجره واحدة قال أبو حيان : وكثيراً ما تضمَّن جملة الشرط قبل فاء إذا ساغ تقديره ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب للأمر والنهي وما ذكر معهما ، أمَّا اتبداءً فلا يجوز حذفه .
فصل
« هي » ضمير البعثة المدلول عليها بالسِّياق لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازاً ، قال الزَّمَخْشَرِيُّ « هي » مبهمة يوضحها خبرها ، قال أبو حيان : وكثيراً ما يقول هو ابن مالك : إن الضمير يفسره خبره ووقف أبو حاتم على « يَا وَيْلَنا » وجعل مع ما بعده من قوله الباري تعالى ، وبعضهم جعل « هَذَا يَوْمُ الدِّينِ » من كلام الكفار الكفرة فيقف عليه ، وقوله : { هذا يَوْمُ الفصل } من قول الباري تعالى : وقيل : الجمع من كلامهم وعلى هذا فيكون قوله : { تُكَذَّبُونَ } إما التفاتاً من التكلم إلى الخطاب وإما مخاطبة بعضهم لبعض .
فصل
لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إنكار البعث والقيامة وأرْدَفَهُ بما يدل على وقوع القيامة ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة فمنها قوله : « فإنما هي زجرة واحدة » أي صيحة واحدة وهي نفخة البعث فإذا هم ينظرون أي إحياء ينظر بعضهم إلى بعض ، وقيل : ينتظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به والزجرة هي الصيحة التي زجرها كالزجرة بالنَّعَمِ والإبل عند الحثّ ، ثُمَّ كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة ، قال ابن الخطيب : ولا يبعد أن يقال تلك الصحية إذا سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور إلى الحضور في موقف القيامة .
فإن قيل : فما الفائدة في هذه الصحية للأموات وهذه النفخة جاية مَجْرَى السبب ليحاتهم فتكون مقدمة على حياتهم فلزم أن هذه الصيحة إنما تكون حالاً لكونهم أمواتاً فتكون الصيحة عديمة الفائدة فهي عَبَثٌ والعبث لا يجوز في فِعل الله؟
فالجواب : على قول أهل السنة يفعل الله ما يشاء وأما المعتزلة فقال القاضي : فيه وجهان :
الأول : أن يعتبر بها الملائكة .
والثاني : أن تكون فائدتها التخويف والإرهاب ( انتهى ) وهذه الصيحة لا تأثير لها في الحياة بدليل أن الصيحة الأولى استعقبها الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هوا لله ( وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها « كما قال : { الذي خَلَقَ الموت والحياة }