كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
( وهذا هو التنزيل ) .
قوله : { بالحق } أي بِسَبِبِ الحق وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب أي ملتبسين بالحق أو ملتبساً بالحَقّ والصِّدْق والصواب ، والمعنى كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمَعَاد وأنواع التكاليف فهو حق يجب العمل به وفي قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } تكرير تعظيم بسبب إبرازه في جملة أخرى مضافاً إنزاله إلى المعظم نفسه .
قوله : { فاعبد الله مُخْلِصاً } لما بين أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق وأردفه ببيان بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله على سبيل الإخلاص فقال : فَاعْبُد اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ، فقوله : « مُخْلِصاً لَهُ » حال من فاعل « فاعبدْ » و « الدينَ » منصوب باسم الفاعل ، والفاء في « فاعبدْ » للربط ، كقولك : « أحْسَنَ إِليكَ فلانٌ فاشْكُرْهُ » والعامة على نصب « الدين » وقرأ ابن أبي عبلة برِفعِهِ وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مرفوع بالفاعلية رافعهُ « مخلصاً » وعلى ها فلا بد من تجوز وإضمار ، أما التجوز فإسناد الإخلاص للدين وهو لصاحبه في الحقيقة ونظيره قولهم : شِعْرُ شَاعِرٍ ، وأما الإضمار فهو إضمارٌ عائد على ذِي الحال ، أي مخلصاً له الدين منك ، هذا رأي البصريين في مثل هذا ، وأما الكوفيون فيجوز أن يكون عندهم « أل » عوضاً عن الضمير أي مُخْلِصاً دينُك .
قال الزمخشري : وحقّ لمن رفعه أن يقرأ مُخْلَصاً - بفتح اللام - لقوله تعالى : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } [ النساء : 146 ] حتى يطابق قوله : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } والخالِصُ والمُخْلصَ واحد إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم : « شِعْرُ شَاعِرٍ » .
الثاني : أنْ يتم الكلام على « مُخْلِصاً » وهو حال من فالع « فَاعْبُدْ » و « لَهُ الدِّين » مبتدأ وخبر ، وهو قول الفراء وقدر ردَّه الزمخشري وقال : فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك : لِلّه الدين ألا الله الدين الخالص قال شهاب الدين وهذا الذي ذكره الزمخشري لا يظهر فيه ردٌّ على هذا الإعراب .
المراد بإخلاص الدين الطاعة ، { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } قال قتادة : شهادة أن لا إله إلا الله واعلم أنّ العبادة فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول يؤتى به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب الانقياد له وأما الإخلاص فهو أن أن يكون الداعي إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد الانقياد والامتثال ، واحتج قَتَادَهُ بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
« لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ حِصْنِي ، وَمَنْ دَخَلَ حَصْنِي أَمِنَ عَذَابِي وهذا قول من يقول لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا ينتفع بالطاعة مع الكفر » وقال الأكثرون الآية متناولة لكل ما يخلق الله به من الأوامر والنواهي لأن قوله تعالى « فاعبد الله » عام .
ورُوِيَ أن امرأة الفَرَزْدَق لما قَرُبَتْ وقاتها أوصلت أن يصلي الحسن البصري عليها ، فما دفنت قال الحسن للفرزدق : أبا فِرَاس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال شهادة أن لا إله إلاّ الله . قال الحسن : هذا العمود فأي الطُّنُب؟ فبين هذا اللفظ الوجيز أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة . قال القاضي : فأما ما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ وأبي الدرداء : وإنْ زَنَا وإنْ سَرقَ على رغم أنف أبي الدرداء فإن صح فإنه يجب أن يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يَجُز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن ، ولأنه يوجب أن يكون الإنسان مزجوراً عن الزّنا والسَّرقة ويكون إغراء له لفعل القبيح ، وذلك ينافي حكمة الله ، وهذا يدل على أن اعتقاد فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين ، هذا تمام قول القاضي .
قال ابن الخطيب : فقال له : أمّا قولك : إن القول بالمغفرة مخالفٌ للقرآن فليس كذلك بل القرآن يدل عليه قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ] وقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } [ الرعد : 6 ] كما يقال : رأيت الأمير على أكله وشربه أي حين كونه آكلاً وشارباً . وقال : { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] وأما قوله : إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح فيقال له : إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلاً . وهذا مذهب البَغْدَاديّ من المعتزلة ، وأنت لا تقول به لأن مذهب البصريين غفرانُ الذنب جائز عقلاً ، وأيضاً فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة لأنه إذا علم أنه أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر ، وأما الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضر ( ه ) ذلك الذنب البتة . ثم نقول : مَذْهَبُنَا أنّا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة إلا أنه تعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من يشَاء وإذا كان الأمر كذلك كان الخوف حاصلاً والله أعلم .
قوله : { 1649;لَّذِينَ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } يجوز فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون « الذين » مبتدأ ، وخبره قول مضمر حذف وبقي معموله وهو قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ } والتقدير : يَقُولُون مَا نَعْبُدُهُمْ .
الثاني : أن يكون الخبر قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ويكون ذلك القول المضمر ( في محل نصب على الحال أي والَّذين اتخذوا قَائِلينَ كذا إِنًّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُم .
الثالث : أن يكون القول المضمر ) بدلاً من الصلة التي هي « اتخذوا » والتقدير : والذين اتخذوا قالوا ما نعبدهم والخبر أيضاً : إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ و « الَّذِينَ » في هذه الأقوال عِبَارَةٌ عن المشركين المتخذين غيرهم أولياء .
الرابع : أن يكون « الَّذين » عبارة عن الملائكة وما عبدوا من دون الله كعُزَيْرٍ ، واللاَّتِ والعُزَّى ويكون فاعل « اتَّخَذَ » عائداً على المشركين ومفعول الاتّخاذ الأول محذوف هو عائد الموصول ، والمفعول الثاني هو : « أَوْليَاء » والتقدير : والذين اتخذهم المشركون أولياء . ثم لك في خبر المبتدأ وجهان :
أحدهما : القول المضمر والتقدير والَّذِينَ اتَّخَذَهُمُ المشرِكُونَ أولياء يقول فيهم المشركون ما نعبدهم إلا .
الثاني : أن الخبر هي الجملة من قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } وقرئ : « ما نُعْبُدُهُمْ » بضم النون إتباعاً للباء ، ولا يعتدُّ بالساكن .
قوله : { زلفى } مصدر مؤكد على غير المصدر ولكنه مُلاَقٍ لعامله في المعنى ، والتقدير ( والمعنى ) ليزْلِفُونا ولِيُقَرِّبُونَا قُرْبَى وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً مؤكدة .
فصل
والذين اتخذوا من دونه أي من دون الله أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله . وهذا الضمير عائد إلى الأشياء التي عبدت ، وهذا الكلام إنما يليق بالعقلاء لأن الضمير في « نَعْبُدُهُمْ » ضمير العقلاء فيحمل على المسح وعُزَيْر والملائكة لكي يشفعوا لهم عند الله . ويمكن أن يُحْمَل على الأصنام أيضاً لأن العاقل لا يعبد الصنم من حيث إنه خشب أو حجرٌ ، وإنما يعبد ربه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية أو تماثيل الملائكة أو تماثيل الصالحين الذين مضوا ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى أصحاب تلك الصور .
ولما حكمى الله تعالى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه :
الأول : أنه اقتصر في الجواب على مجرد القول فقال : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
واعلم أن المبطل إذا ذكر مذهباً باطلاً وأصرّ عليه فعلاجه أن يحتال بحِيلةٍ توجب زَوَالَ والإصرار عن قلبه ، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يذكر له الدلي الدالَّ على بُطْلاَنِهِ فيكون هذا الطريق أفضى إلى المقصود كما يقول الأطباء : لا بد من تقديم ( المُنْضج ) على سقي المُسهل ، فإن تناول المنضج يصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال ، فإذا سقي المُسهل بعد ذلك حصل النقَاء التامّ فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولاً يجري مَجْرَى سَقْي المنضج أولاً ، وإسماع الدليل ثَانِياً يجْرِي مَجْرَى المُنْضج المسهل ثانياً . فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد .
ثم قال اللَّهُ تَعَالَى : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي من أصر على الكذب والكفر بقي ( مَح ) رُوماً من الهداية . والمراد بهذا الكذب وصفهم للأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة ، ويحتمل أن يكون المراد بالكفر كفران النعمة لأن العبادة نهاية التعظيم وذلك لا يليق إلا ممن يصدر عنه غاية الإنعام وهو الله تعالى ، والأوثان لا مدخل لها في الإنعام فعبادتها توجب كفران نعمة المنعم الحق .
قوله : { كَاذِبٌ كَفَّارٌ } قرأ الحسنُ والأَعْرَجُ- وتُرْوَى عن أنس - كَذَّاب كفار ، وزيدُ بنُ عَليٍّ كَذُوبٌ كفورٌ .
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
قوله : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى } لاختار { مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } يعني الملائكة كما قال : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } [ الأنبياء : 17 ] ثم نزه نفسه فقال : { سُبْحَانَهُ } تنزيهاً له عن ذلك وعما لا يليق بطهارته { هُوَ الله الواحد القهار } والمراد من هذا الكلام إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزهاً عن الولد .
قوله : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } لما بين في الآية المتقدمة كونه منزهاً عن الولد بكونه إلهاً واحداً قهاراً أي كامل القدرة ذكر عقيبها ما يدل على الاستغناء . وأيضاً لما أبطل إلهيَّة الأصنام ذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية ، وقد تقدم أن الدَّلائل التي يذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إمّا أن تكون فلكية أو أرضيَّة أما الفلكية فأقسام :
أحدها : خلق السموات والأرض . وقد تقدم شرحها في تفسير قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 1 ] .
وثانيها : اختلاف أحوال الليل والنهار ، وهو المراد ههنا من قوله : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } وفي هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها مستأنفة ، أخبر تعالى بذلك .
والثاني : أنها حال ، قاله أبو البقاء ، وفيه ضعفٌ من حيث أن تكوير أحدهما على الآخر إنما كان بعد خلق السموات والأرض إلا أن يقال : هي حالٌ مقدرة ، وهُو خلاف الأصل .
والتكوير : اللَّفُ واللَّيُّ يقال : كَارَ العَمَامَةَ على رأسه وكَوَّرهَا ، ومعنى تكوير الليل على النهار وتكوير النهار على الليل على هذا المعنى أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا وإذا غشي مكانه فكأنه لف عليه وألبسه كما يلق اللباس على اللابس أو أن كل واحد منهما يغيِّب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار أو إن هذا يَكر على هذا كُرُوراً متتابعاً فشبه ذلك بتتابع إكرار العِمَامَة بعضها على بعض قاله الزمخشري . وهذا أوفق لإشتقاق من أشياء قد ذكرت وقال الراغب : كَوْرُ الشيء إدارته وضمّ بعضه إلى بعض كَكَوْر العِمَامَة ، وقوله : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } إشارة إلى جرَيَان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما . وكوَّره إذا ألقاه مجتمعاً . واكْتَار الفرس إذا رد ذَنَبَهُ في عَدُوِهِ ، وكَوارَةُ النَّحْل معروفة ، والكُور الرَّحْلُ . وقيل لكل مِصر كُورةٌ وهي البقعة التي يجتمع فيها قرًى ومحال قال ابن الخطيب : إن النور والظلمة عسكران عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا ، وذلك يدل على أن كل واحد منهما يكون مغلوباً مقهوراً ، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهوة وهو الله تعالى ، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر ، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث :
« نَعُوذُ باللَّهِ من الحَوْر بَعْدَ الكَوْرٍ » أي من النقصان بعد الزيادة ، وقيل : من الإدبار عبد الإقبال .
قوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } فإن الشمس سلطانُ النهار ، والقمرَ سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطةٌ بها كل يجري لأجل مسمى إلى يوم القيامة لا يزالان يَجْريَانِ إلى هذا اليوم ، فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كَدَوَرَانِ المنْجَنُون على حدٍّ واحدٍ .
ثم قال : { أَلا هُوَ العزيز الغفار } ومعناه أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإنْ دلّ على كونه عزيزاً أي كامل القدرة إلا أنه غفارٌ عظيم الرحمة والفضل والإحسان ، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكوْنُهُ غفاراً كثير الرحمة يوجب الرجاء والرغبة .
ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أبتعها بذكر الدلائل السفلية فبدأ بذكر الإنسان فقال : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم .
قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا } في « ثم » هذه أوجه :
أحدهما : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك أنه يروى أنه تعالى أخرجنا من ظهر آدم كالذَّرِّ ، ثم خلق حواء بعد ذلك بزمانٍ .
الثاني : أنها على بابها أيضاً ولكن لمَجْرَكٍ آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله « وَاحِدَةٍ » إذا التقدير من نفس وحِّدَتْ أي انفردت ثم جعل منها زوجها .
( الرابع : أنها للترتيب في الأحوال والرُّتَب ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : ما وجه قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وما تعْطيه من التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها دالاً على وحدانيته وقدرته بتشعيب هذا الخلق الثابت للحصر من نفس آدم عليه ( الصلاة و ) السلام وخلق حواء من قُصَيْرَاه إلا أنّ إحديهما جعلها الله عادة مستمرةً والأخرى لم تجر بها العادة ولم تخلق أنثى غير حواء من قُصَيْرَى رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجْلَبَ لعَجَب السامع فعطفها « بِثُمَّ » على الآية الأولى للدلالة على مُبايَنَتِهَا فضلاً ومزيًّة وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية فهي مِنَ التراخي في الحال والمنزلة لا من التراخي في الوجود .
قال ابن الخطيب : إن كلمة « ثمَّط كما تجيء لبيان تأخر أحد المكانين عن الآخر كقول القائل : بَلَغَنِي مَا صَنَعْتَ اليَوْمَ ثم ما صَنَعْتَ أَمْسِ أعْجَبُ ، وأَعْطَيْتُكَ اليَوْمَ شَيْئاً ثُمَّ الَّذِي أَعْطَيْتُكَ أَمْس أَكْثر .
قوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } عطف على » خَلَقَكُمْ « والإنزال يَحْتَمِلُ الحقيقةَ ، يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها وَيحْتَمِلُ المجاز وله وجهان :
أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والماء والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزل عليها وهو في الحقيقة مطلق على سبب السبب كقوله :
4288- أَسْنِمَةُ الآبضالِ فِي رَبَابِهِ ... وقوله :
4289- صَارَ الثَّرِيدُ في رُؤُوسِ العِيدَانِ ... وقوله :
4290- إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِاَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وإِنْ كَانُوا غِضَابَا
والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلةً من السماء من حيث كتبها في الوح المحفوظ ، وهو أيضاً سبب في إيجادها وقال البغوي : معنى الإنزل ههنا الإحداث والإنشاء كقوله : { أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } [ الأعراف : 26 ] ، وقيل : معناه : أنزل لكم من الأنعام جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى ثمانية أزواج أي ثمانية أصناف ، وهي الإبل والبَقَر والضَّأن والمَعِز ، وتقدَّم تفسيرها في سورة الأنْعَام .
قوله : { يَخْلُقُكُمْ } هذه ا لجملة استئنافية ، ولا حاجة إِلى جَعلهَا خبر مبتدأ مضمر بل استؤنفت للإخبار بجملة فعلية ، وقد تقدم خلاف القراء في كسر الهمزة في « اُمَّهَاتِكُمْ » .
قوله : « خَلْقاً » مصدر « خَلَقَ » وقوله : { مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } صفة له فهو لبيان النوع من حيث إنه لما وصف زاد معناه على معنى عامله ، ويجوز أن يتعلق « مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ » بالفعل قبله ، فيكون خلقاً لمجرد التوكيد .
قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } متعلق « بخَلْقٍ » الذي قبله ، ولا يجوز تعلقه « بخَلْقاً » المنصوب ، لأنه مصدر مؤكد ، وإن كان أبو البقاء جوزه ثم منعه بما ذكرت فإنه قال : و « في » يَتَعَلَّق به ، أي « بخَلْقاً » أو « بخَلْق » الثاني ، لأن الأول مؤكد فلا يعمل ، ولا يجوز تعلقه بالفعل قبله لأنه قد تعلق به حرف مثله ، ولا يتعلق حرفان متحدان لفظاً ومعنى إلا بالبَدَلِيَّةِ أو العطف ، فإن جعلت « في ظلمات » بدلاً من { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } بدل اشمتال لأن البطون مشتملة عليها وتكون بدلاً بإعادة العامل جاز ذلك أعني تَعَلُّقَ الجَارَّين ب « يخْلُقكم » ولا يضر الفَصْلُ بين البَدَل والمبدل منه بالمصرد لأنه من تَتِمَّة العامل فليس بأجنبيِّ .
فصل
هذه الحالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون الأمهات ، وقوله : « خلقاً من بعد خلق » معناه ما ذكر الله تعالى في قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } الآيات [ المؤمنون : 12-14 ] .
وقوله : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } قال ابن عباس : ظلمة البطن ، وظلمة الرَّحِم ، وظلمة المشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الآيات مذكور في قوله : { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } [ آل عمران : 6 ] .
قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يجوز أن يكون « الله » خبراً « لِذَلِكُمْ » و « ربُّكُمْ » نعت لِلَّه أو بيان له أو بدل منه ويجوز أن يكونَ « الله » بدلاً من « ذلكم » و « ربكم » خبره ، والمعنى : ذَلِكُمُ اللَّهُ الذي خلق هذه الأشياء رَبُّكُمْ .
قوله : { لَهُ الملك } يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر وأن يكون « الله » بدلاً من « ذلكم » و « ربكم » نعت لله أو بدل منه ، والخبر الجملة من « له الملك » ويجوز أن يكون الخبر نفس الجار والمجرور وحده ، و « المُلْكُ » فاعل به فهو من باب الإخبار بالمفرد .
قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ } يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون خبراً بعد خبر .
فصل
قوله : « له الملك » يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره ، ولما ثبت أنه لا مُلْكَ إلا له وجب القول بأن لا إله إلا هو .
ولما بين بهذه الدلائل كمال قدرته وحكمته ورحمته زَيَّف طريقة المشركين وقال : { فأنى تُصْرَفُونَ } عن طريق الحق بعد هذا البيان ، وهذا يدل على أنهم لم يصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفهم عنها غيرُهم وما ذلك الغير إلا الله وأيضاً فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل أحد يريد تحصيل الحق والصواب فلمَّا لم يحصل ذلك فإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه . واستدلت المعتزلة بهذه الآيات أيضاً لأن قوله تعالى : { فأنى تُصْرَفُونَ } تعجب من هذا الانصراف ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله لم يبق لهذا التعجب معنى قوله : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ } أي إنه تعالى ما كلف المكلفين ليجرّ إلى نفسه منفعةً أو ليَدْفَع عن نفسه مضرَّة لأنه تعالى غني على الإطلاق فيمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ، لأنه واجب الوجود لذاته وواجب الودود لذاته في جميع صفاته يكون غنياَ على الإطلاق وأيضاً فالقادر على خلق السموات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسيّ والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ممتنع أن ينتفع بصلاة « زَيْدٍ » وصيامِ « عَمْرٍو » وأن يستضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذلك .
ثم قال : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } أي وإن كَان لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم ، إلا أنه لا يرضى بالكفر . قال ابن عباس والسدي : لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر وهم الذين قال الله تعالى فيهم : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ] فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى كقوله : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] يريد بعض العباد ، وقال قتادة : لا يرضى لأحد من عباده الكفر أي لا يرضى لعباده أن يكفروا به . وهو قول السَّلَفِ قالوا : كُفر الكافر غير مرضي لله وإن كان بإرادته .
واحتج الجنائيّ بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن المُجبرة يقولون : إن الله تعالى خلق العباد وأفعالهم وأقوالهم وكل ما خلقه حقّ وصواب ، وإذا كان كذلك كان قد رَضِي بالكفر من التوجه الذي خلقه وذلك ضد الآية .
الثاني : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله واجب وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الهو ليس أيضاً برضا الله تعالى وأجيب بوجوه :
أحدها : إن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين كما قدماه عن ابْنِ عَبَاسٍ .
وثانيها : قول السلف المتقدم وأنشد ابنُ دُرَيْدٍ :
4291- رَضِيتُ قَسْراً أو عَلَى القَسْرِ رِضا ... مَنْ كَانَ ذَا سُخْطٍ علَى صَرْفِ القضا
أثبت الرضا مع القَسْر .
وثالثها : هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } عام فيتخصص بالآيات الدالة على أنه تعالى لا يريد الكفر لقوله تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الإنسان : 30 ] .
قوله : { وَإِن تَشْكُرُواْ } أي تؤمنوا بربكم وتُطِيعُوه « يَرْضَهُ لَكُمْ » فَيثيبكم عليه . قرأ ابن كثير والكسائي وابن ذكوان يَرْضَهُو بالصلة . وهي الأصل من غير خلاف وهي قراءة واضحةٌ . قال الواحدي : من أشبع الهاء ( حتى ألحق فيها واواً لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه ، وقرأ « يَرْضَهُ » بضم الهاء ) من غير صلة بلا خلاف نافعٌ وعاصمٌ وحمزة وقرأ « يَرْضَهُ » بإسكانها وصلاً من غير خلاف السُّوسِيُّ عن أبي عمرون ، وقرأ بالوجهين أعني الإسكان والصلة الدّورِيّ عن أبي عمرٍو . وقرأ بالإسكان والتحريك من غير صلة هشام عن ابن عامر فهذه خمس مراتب للقراءة وقد تقدم توجيه الإسكان والقصر والإشباع أول الكتاب وما أنشد عليه ، ولا يلتفت إلى أبي حاتم في تَغْليطه رَاوِي السكون؛ فإنها لغة ثابتةٌ عن بني عقيل وبني كَلاَبٍ .
قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } قال الجبائي : هذا يدل على أنه لا يجوز أن يقال : غنه تعالى يأخذ الأولاد بذنوب الآباء واحتج به أيضاً من أنكر وجوب ضربالدية على العَاقِلَة . ثم قال : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } وهذا يدل على إثبات البعث والقيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } وهذا يدل على تهديد العاصي وبشارة المطيع وقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } كالعلة لما سبق أي إنه إنما ينبئكم بأعمالكم لأنه عالم بجميع المعلومات فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف قال- صلى الله عليه وسلم - : « إنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وَلاَ إِلَى أَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأَعْمَالِكُمْ » .
قوله : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّه } لما بين فساد القول بالشِّركِ وبين أنه هو الذي يجب أن يعبد بين ههنا أن طريقة الكفار متاقضة لأنهم إذا مسهم الضر طلبوا دفعه من الله ، وإذا أزال ذلك الضر عنهم رَجَعُوا إلى عبادة غيره فكان الواجب علهيم أن يتعرفوا بالله تعالى في جميع الأحوال لأنه القادر على إيصال الخير ودفع الشر فظهر تناقض طريقهم . والمراد بالإنسان الكافر ، وقيل المراد : أقوام معينين كعُتْبَةَ بْنِ ريبعة وغيره . والمراد بالضر جميع المكاره سواء كان في جسمه أو ماله أو في أهله وولده ، لأن اللفظ مطلق فلا معنى لتقييده .
قوله : { مُنِيباً } حال من فاعل « دَعَا » و « إلَيْهِ » متعلق « بمُنِيباً » أي راجعاً إليه في إزالة ذلك الضر ، ولأن الإنابة الرجوع .
قوله : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ } أعطاه « نعمة منهُ » أي أعاطها إياه ابتداء من غير مقتضٍ . ولا يتسعمل في الجزاء بل في باتداء العطيَّة ، قال زهير :
4292- هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْوَلُوا المَالَ يُخْولوا .. . .
ويروى : يُسْتَخْبَلُوا الماَ يُخْبِلوا ، وقال أبو النجم :
4293- أَعْطَى فَلَمْ يَبْخَلْ وَلَمْ يُبَخَّلِ ... كُومَ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوِّلِ
وحقيقة خول من أحد معنيين إما من قولهم : هو خائلُ مال إذا كان متعهِّداً له حسن القيام عليه ، وإما من خَالَ يَخُول إذا اخْتَالَ وافْتَخَر ، ومنه قول العرب : إن الغَنِيَّ طَويلُ الذَّيْلِ مَيَّاسُ الخَيْلِ ، وقد تقدم اشتقاق هذه المادة مُسْتَوْفًى في الأنْعَام .
قوله : « منه » يجوز أن يكون متعلقاً « بِخَوَّلَ » وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة : « لِنِعْمَةٍ » .
قوله : { نَسِيَ } أي تَركَ « مَا كاَن يَدْعُو إلَيْهِ » يجوز في « ما » هذه أربعة أوجه :
أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مراداً بها الضُّرّ أي نَسِيَ الشَّرَّ الذي يدعو إلى كَشفه أي ترك دعاءه كأنه ( لم ) يتضرع إلى ربه .
الثاني : أنها بمعنى الذي مراداً الباري تعالى أي نسي الله الذي كان يتضرع إليه . وهذا عند من يجيز وقوع « ما » على أولي العلم ، وقال ابن الخطيب : وما بمعنى « مَنْ » كقوله : { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 3 ] { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
الثالث : أن تكون « ما » مصدرية أي نَسِيَ كَوْنَهُ داعياَ .
الرابع : أن تكون ( ما ) نافية وعلى هذا فالكلام تام على قوله : ( « نَسِيَ » ) ثم استأنف إخبراً بجملة منفية ، والتقدير : نسي ما كان فيه لم يكن دعاء هذا الكافر خالصاً الله ( تعالى ) وقوله : { مِن قَبْلُ } أي من قبل الضر على القول الأخير ، وأما على الأقوال قبله فالتقدير من قبل تحويل النَّعْمة .
قوله : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } يعني الأوثان « لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو « لِيَضِلَّ » بفتح الياء أي ليفعل الضلالَ بنفسه ، والباقون بضمها فمعوله محذوف ، وله نظائر تقدمتْ ، واللام يجوز أن تكون للعلة ، وأن تكون لام العاقبة كقوله : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .
ثم قال : قُلْ يَا مُحَمد لهذا الكافر « تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قِلِيلاً » في الدنيا أي إلى انقضاء أجلك ، وليس المراد منه الأمر بل المراد منه الزجرُ وأن يعرفه قلة تَمَتُّعِهِ في الدنيا ثم مصيره إلى النار ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وقال مقاتل : نزلت في حُذَيْفَةَ بنِ المغيرة المَخْزُومِيّ ، وقيل : عامٌّ في كل كافر .
قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } لما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير الله أردفه بشرح أحوال المحقين قرأ الحَرَمِيَّان نافعٌ وابنُ كثير تخفيف الميم والباقون بتشديدها فأما الأولى ففيها وجهان :
أحدهما : أنها همزة الاستفهام دخلت على « مَنْ » بمعنى الذي ، والاستفهام للتقرير ، ومقابله محذوف تقديره : أَمَّنْ هُوَ قَانتٌ كَمْن جَعَل لِلَّهِ أنْدَاداً؟ أو : أمَّنْ هُوَ قانت كغيره؟ أو التقدير : أَهَذا القَانِتُ خيرٌ أم الكافر المخاطب بقوله : { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } ؟ ويدل عليه قوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } محذوف خبر المبتدأ وما يعادل المتسفهم عنه والتقدير أن الأوَّلان أولى لقلة الحذف ومِنْ حذف المعادل للدلالة قول الشاعر :
4294- دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهَا ... سَمِيعق فَمَا أَدْرِي أَرشْدٌ طِلاَبُهَا
يريد : أم غي .
الثاني : أن تكون الهمزة للنداء و « مَنْ » مُنَادَى ويكون المنادَى هو النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو المأمور بقوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } كأنه قال : يا مَنْ هُوَ قانت قُلْ كَيْتَ وكَيْتَ كقول الآخر :
4295- أَزَيْدٌ أَخَا وَرْقَاء إنْ كُنْتَ ثائِراً .. .
وفيه بعد ، ولم يقع في القرىن نداء بغير يا حتى يحمل هذا عليه . وضعف أبو حيان هذا الوجه بأنه أجنبي مما قبله ومما بعده ، قال شهاب الدين : وقد تقدم أنه ليس أجنبياً مما بعده إذ المنادى هو المأمور بالقول . وضعفه الفارسي ايضاً بقريب من هذا وتجرأ على قارئِ هذهِ القراءةِ أبو حَاتم والأخفش ، وأما القراءة الثانية فهي « أم » داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميمُ في المِيم . وفي « أم » حينئذ قولان :
أحدهما : أنها متصلة ومعادلها محذوف تقديره : الكافر خيرٌ أم الذي هو قانتٌ ، وهذا معنى قول الأخفش .
قال أبو حيان : ويحتاج حذف المعادل إذا كان أَوَّلَ إلى سماع وقيل : تقديره أمّن يعصي أمن هو مطيع يستويان وحذف الخبر لدلالة قوله { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } .
والثاني : أنها منقطعة فتتقدّر ببل والهمزة أي بل أمَّنْ هو قانت كغيره أو كالكافر المقولِ له تمتع بكفرك .
وقال أبو جعفر : هي بمعنى « بَلْ » و « مَنْ » بمعنى الذي تقديره بل لاذي هو قانت أفضل مما ذكر قبله .
وانتقد عليه هذا التقدير من حيث إن من تقدم ليس له فضيلة البتّة حتى يكون هذا أفضل منه والذي ينبغي أن يقدر : بَلِ الّذِي هُوَ قانتٌ من أصحاب الجنة لدلالة ما لِقَسِيمِهِ عليه من قوله : { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار } وقال البغوي من شدَّدَ فله وجهان :
أحدهما : أن تكون الميم في « أم » صلة ويكون معنى الكلام استفهاماً وجوابه محذوف مجازه : أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ كمن هو غير قانت كقوله : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الزمر : 22 ] يعني كمن لم يشرح صَدْرَهُ .
والثاني : أنه عطف على الاستفهام مجازه : الذي جعل لِلَّهِ أندَاداً .
فصل
القانت : هو القائم بما يجب عليه من الطاعة ، ومنه قوله عليه ( الصلاة و ) السلام : « أَفْضَلُ الصَّلاَةِ صَلاَةُ القُنُوت » وهو القائم فيها ومنه القُنُوت لأنه يدعوا قائماً ، وعن ابن عمر أنه قال : لاَ أعْلَمُ القنوتَ إلا قَرَاءَةَ القُرْآنِ وطولَ القيام وتلا : « أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ » وعن ابن عباس : القنوت الطاعة كقوله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ] أي مطيعون .
قوله : { آنَآءَ الليل } آناءَ منصوب على الظرف وتقدم اشتقاقه ، والكلام في مفرده ، والمعنى ساعات الليل . وفي هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار ، قال ابن عابس- في رواية عَطَاءٍ- : نَزَلَتْ في ( أبي بكر الصدِّيقِ ، وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر وعمر ، وعن ابن عمر : أنها نزلت في عثمانَ وعن الكلبي : أنها نزلت في ) ابْن مَسْعودٍ ، وعَمَّارٍ وسَلْمَانَ .
قوله : { سَاجِداً } حال و « قائماً » حال أيضاً وفي صاحبها وجهان :
أظهرهما : أن الضمير المستتر ( في ) « وقانت » .
والثاني : أنه الضمير المرفوع بِيَحْذَرُ « قدماً على عاملهما ، والعامة على نصبهما .
وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين ، إما النعت » لِقَانِتٍ « وإما أنها خبرٌ عبد خبرٍ .
قوله : { يَحْذَرُ الآخرة } يجوز أن يكون حالاً من الضمير في » قَانِت « وأن يكون حالاً من الضمير في » ساجداً « و » قائماً « وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدّها؟ فقيل : يحذر الآخرة ويرجُو رحمه ربهن أي عذاب الآخرة . وفي الكلام حذف ، والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك ، وإنمَّا حَسَّنَ هذا الحذف دلالةُ ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } والتقدير : هل يستوي الذين يعملون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجداً وقائماً والذين لا يعملون وهم الذين صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون ، وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون لأنه تعالى وإن آتاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم فلذها جعلهم الله كأنهم ليسوا أُولِي الأَلْبَابِ من حيث إنّهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم .
قوله : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } قيل : الذين يعلمون » عمار « والذين لا يعملون أبو حُذَيْفَة المَخْزُوميّ ، وهذا الكلام تنبيه على فضيلةِ العلم قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون العلم أفضل من المال ( ثم نرى العلماء عند أبواب الملوك ) ولا نرى الملكوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنفعة فطلبوه ، والجهال لم يعرفوا ما للعلم من المنافع فلا جَرَمَ تركوه .
( قوله ) : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الألباب } قرئ : إنَّمَا يذكر بإدغام التاء في الذال .
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قوله : { قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } أي بطاعته ، واجتناب معاصيه . قال القاضي أمرهم بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط .
فيقال : ( له ) : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى فدل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان .
واعلم أنه تعالى لما أمرَ المؤمنين بالاتِّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } .
قوله : { فِي هذه الدنيا } يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، وحذفت صفة « حَسَنَة » إذ المعنى حَسَنَةٌ عظيمة لأنه لا يوعد من عمل حسنة في الدناي حسنة مطلقاً بل مقيدة بالعِظَم ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « حَسَنَة » كانت صفة لها فلما تقدمت بَقِيَتْ حَالاً .
فصل
قوله : { فِي هذه الدنيا } يحتمل أن يكون صلة لقوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي آمنوا وأَحْسَنُوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة ، والتنكير في « حسنة » للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها ، قاله مقاتل . ويحتمل أن يكون صلة لقوله : « حَسَنَة » وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يريد الصحة . قال ابن الخطيب : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم : « ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايةٌ الأَمْنُ والصِّحَّةُ والكِفَايَةُ » وقال بعضهم : الأول أولى لوجوه :
أحدها : أن التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة ، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها خَسيسةٌ منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة .
وثانيها : أن الثوابَ للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يَحصل في الآخرة ، وأما الأمن والصحة والكفاية فحاصل للكافر أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال - عليه ( الصلاة و ) السلام : - « الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ » .
وقال تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] .
وثالثها : قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } يفيد الحصر ، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل . أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحَصْرُ فكان حمله على حسنة الآخرة أولى .
قوله : { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } قال ابن عباس : يعين ارتحلوا من مكة ، وفيه حَثٌّ على الهجرة من البلد الَّذِي يظهر فيه المعاصي ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] .
وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهربْ ، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى :
{ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] وقوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] قال ابن الخطيب : والأول عندي أولى لأن قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يليق إلا بالأول .
قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى ، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير نهاية؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناهٍ فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب قال عليٌّ- رضي الله عنه- : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً الصابرين فإنه يُحْثَى لهم حثياً ، يروى : أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم دوانٌ ويُصَبّ عليهم الأجر صَبًّا قال الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ما ذهب به أَهل البلاء من الفضل .
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قوله : { قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً ( لَّهُ الدين « أي مخلصاً له } التوحيد لا أشْرِك به شيئاً ، وهذا هو النوع الثامن من البيانات التي أمر الله رسوله أن يذكرها .
قوله : { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ } في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها للتعليل تقديره وأمرت بما أُمِرْتُ به لأن أكون قال الزمخشري : فإن قلتَ : كيف عطف » أُمِرْتُ « على » أمرت « وهما واحد؟ قلتُك ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما؛ وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء والأمر به ليحُوزَ به قَصَبَ السبق في الدِّين شيءٌ آخر ، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين .
الثاني : أن تكونَ اللام مزيدةً في » أَنْ « قال الزمخشري : وذلك أن تجعل اللامَ مزيدةً مثلها في قولك : أَرَدْتُ لأَنْ أَفْعَلَ . ولا تزاد إلاَّ مع » أنْ « خاصة دون الاسم الصريح كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلَى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في » أسْطَاع « عوضاً من تكر الأصل إلَى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في » أسْطَاع « عوضاً من ترك الأصل الذي هو » أَطْوَعَ « والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 والنمل : 91 ] ( و ) { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ يونس : 104 ] ( و ) { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] انتهى .
قوله : » ولا تزاد إلا مع أن « فيه أن نظر من حيث إنها تزاد باطّراد إذا كان المعمول متقدماً أو كان العامل فرعاً وبغير اطراد من غير الموضعين . ولم يذكر أحد من النحويين هذا التفصيل . وقوله . كما عوض السين في » أسطاع « هذا على أحد القولين ، والقول الآخر أنه اسْتَطَاع ، فحذف تاء الاستفعال ، وقوله : والدليل عليه مجيئه بغير لام قد يقال : إن أصله باللام ، وإنما حذفت لأن حرف الجر يطرد حذفه مع » أَنْ « و » أَنَّ « ويكون المأمور به محذوفاً تقديره : أن أعبد لأَنْ أَكُونَ .
فصل
المراد من الكلام : أن يكون أول ن تمسك بالعبادات التي أرسلت بها . واعلم أن العبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح وهو الإسلام فقال : { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } أي من هذه الأمة .
قوله : { قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } وعبدت غيره { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا حين دعا إلى دين آبائه ، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير من المعاصي . ودلت هذه الآية على أن الأمر للوجوب لقوله في أول الآية : { إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } ثم قال بعده : { قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } فيكون معنى هذا العِصْيان ترك الأمر الذي تقوم ذكره ، ودلت الآية أيضاً على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب .
قوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ } قدمت الجلالة عند قوم لإفادة الاختصاص . قال الزمخشري : ولدلالته على ذلك قدم المعبود على فعل العبادة هنا وأخره في الأول فالكلام أولاً وقع في الفعل نفسه وإيجاده ، وثانياً فيمن يفعل الفعل من أجله فلذلك رتب عليه قوله : { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما معنى التكرير في قوله : { قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } وقوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } ؟ قلنا : هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان بالعبادة والثاني إخبار بأنّه أُمرَ أن لا يعبد أحداً غير الله ، وذلك لأن قوله : { أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } لا يفيد الحصر ووقوله تعالى : { قُلِ الله أَعْبُدُ } يفدي الحصر أي اللهَ أعبدُ ولا أعبدُ أحداً سواهُ ، ويدل عليه أنه لما قال : { قُلِ الله أَعْبُدُ } قال بعده : { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } وهذا أمر توبيخ وتهديد . والمراد منه الزجر كقوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] . ثم بين كمال الزجر بقوله : { قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } أوقعوها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه وخسروا أهاليهم أيضاً لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا رجوع بعده البتة . وقيل خُسْرَان النفس بدخول النار وخُسْرَان الأهل أن يفرق بينه وبين أهله .
ولما شرح الله تعالى خسرانهم وصف ذلك الخُسْرَانَ ( المبينَ بالفظاعة فقال : أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ ) المُبِينُ « ، وهذا يدل على غاية المبالغة من وجه :
أحدها : أنه وصفهم بالخُسْرَانِ ، ثم أعاد ذلك بقوله : » ألا ذلك هو الخسران المبين « وهذا التكرير لأجل التأكيد .
وثانيها : ذكره حرف » أَلاَ « وهو للتَّنْبِيهِ ، وذكر التنبيه يدل على التعظيم كأنه قيل : بلغ في العِظَم إلى حيث لا تصل عقولكم إليه فتنبهوا لَهُ .
وثالثها : قوله : { هُوَ الخسران } ولفظ » هو « يفيد الحصر كأنه قيل : كل خسران يصير في مقابلته كلا خسران .
ورابعها : وصفه بكونه خسراناً مبيناً وذلك يدل على التهْويل .
قوله : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ } يجوز أن يكون الخبر أحد الجَارين المتقدمين وإنْ كان الظاهر جَعْلَ الأول هو الخبر ، ويكون » مِنْ فَوْقِهِمْ « إما حالاً من » ظُلَلٍ « فيتعلق بمحذوف ، وإما متعلقاً بما تعلق به الخبر و » مِنَ النَّار « صفة لظُلَلٍ ، وقوله : { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } كما تقدم .
وسماها ظللاً بالنسبة لمن تحتهم ، ونظيره قوله : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] . وقوله : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ العنكبوت : 55 ] والمعنى أن النارَ محيطة بهم من جميع الجوانِبِ .
فإن قيل : الظلة ما علا الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلة؟
فالجواب من وجوه :
الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضِّدِّيْن على الآخر ، كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] .
الثاني : أن الذي تحته يكون ظلة لغيره لأن النار درجات كما أن الجنة دَرَجَاتٌ .
الثالث : أن الظلة التحتانية وإن كانت مشابهة للظلة الفوْقَانيّة في الحرارة والإحراق والإيذاء أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة .
قوله : { ذَلِكَ } مبتدأ وقوله : « الَّذِي يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ » خبر ، والتقدير ذلك العذاب المعدّ للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين ، لأن لفظ العباد في القرآن يختص بأهل الإيمان ، وقيل : تخويف للكفار والضلال والأول أقرب لقوله بعده : { ياعباد فاتقون } والظاهر أن المراد منه المؤمنون .
قوله : { والذين اجتنبوا الطاغوت } الذين مبتدأ ، والجملة من « لَهُمُ الْبُشْرَى » الخبر ، وقيل : « لَهُمْ » هو الخبر نفسه ، و « الْبُشْرَى » فاعل به .
وهذا أولى لأنه من باب الإخبار بالمفردات والطّاغوت قال الزمخشري : فَعَلُوتٌ من الطُّغْيَان كالمَلَكُوتِ والرَّهَبُوت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العبين لما ذكر وعيد عبدةِ الأصنام ذكر وَعْدَ من اجْتَنَبَ عبادتها واحْتَرَزَ عن أهل الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمالُ الترغيب والترهيبِ .
قيل : المراد بالطاغوت هنا : الشيطان .
فإن قيل : إنما عبدوا الصنم .
فالجواب : أن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة للشيطان ، وقيل : المراد بالطاغوت : الصنم وسميت طَوَاغِيتَ على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها ، ( والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها والقرب منها وُصِفت بذلك ) إطلاقاً لاسم السبب على المسِّبب بحَسَبِ الظاهر .
وقيل : الطاغوت كل من يُعْبَدُ ويطاع دون الله . نقل ( ذلك ) في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم ( كانوا ) مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نورٌ عظيم وأن الملائكة أنواع مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل عل اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة .
قوله : { أَن يَعْبُدُوهَا } الضمير يعود على الطَّاغوت لأنها تؤنث ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في البقرة و « أَنْ يَعْبُدُوها » في محل نصب على البدل من « الطّاغوت » بدل اشتمال كأنه قيلك اجْتَنَبُوا عبادَة الطاغوت .
قوله : { فَبَشِّرْ عِبَادِ } من إيقاع الظاهر موقع المضمر أي فبشِّرْهُم أي أولئك المجتبين ، وإنما فعل ذلك تصريحاً بالوصف المذكور .
فصل
الذين اجتنبوا الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة ما سوى الله وأنابوا أي رَجَعُوا بالكلية إلى الله وأقبلوا بالكلية على عبادة الله . ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء :
أحدها : قوله : { لَهُمُ البشرى } وهذه البشرى تحصل عن القرب من الموت وعند الوضع في القبر ، وعند الخروج من القبر ، وعند الوقوف في عَرْصَة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير ، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير ، وهذا المُبَشَّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله :
{ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] أو بعد دخول الجنة لقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } [ الرعد : 23-24 ] ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، ثم قال { فَبَشِّرْ عِبَادِ } وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم . وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الصوب وتمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يتأتى بالمساع وإنما يحجة العقل . واختلفوا في المراد باتِّباع الأحْسَنِ ، فقيل : هو مثل أن يسمع القصاص والعفو فيعفو ، لأن العفو مندوب إليه لقوله : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] وقيل : يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن وهو العزائم ، وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن فيتعبون القرآن وروى عطاء عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه عثمان وعبدُ الرحمن بن عوف وطلحةُ والزبيرُ وسَعْدُ بنُ أبي وقاص وسِعِيدُ بن زيدٍ فسألوه فأخبرهم بإيمانه فأمنوا فنزل فيهم : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وقال ابن الخطيب : إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشهبات وتزييفها نَعْرض تلك المذاهب وأضدادها على عقلونا فكل ما حكم به أو العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول ، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن ( إله العالم حي علام قادر حيكم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك لامذهب ألوى والإقرار ) بأن الله لا يجري في سلطان الله على خلاف إرادته ، والإقرار بأن الله تعالى فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعِّضاً ، مؤلفاً ، وأيضاً القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى من القول بأنه لايستغني عنه ألبتة ، فكل هذه الأبواب داخلة تحت قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } فهذا في أبواب الاعتقادات وأما أبواب التكاليف فهي قسمان : عبادات ومعاملات ، أما العبادات فكقولنا : الصلاةُ التي يذكر في تحريمها : الله أكبرُ وهي بِنيّة ويقرا فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف الخمسة وتيُتَشَهَّد فيها ويخرج منها بالسلام فلا شَكّ أنها أحسن من تلك التي لا يُراعى فيها شيء من هذه الأحوال ، فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ، وكذا القول في جميع أبواب العبادات .
وأما المعاملات فكما تقدم في القَصَاص والعفو عنه ، وروي عن ابن عباس : أن المراد منه أن الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسنُ ومساوئُ فيحدِّث بأحسنِ ما سمع وَيتركُ ما سواه .
قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ } الظاهر أنه نعت « لعبادي » ، أو بدل منه ، أو بيان له ، وقيل : يجوز أن يكون مبتدأً ، وقوله : { أولئك الذين } إلى آخره خبره ، وعلى هذا فالوقف على قوله : « عِبَادِي » والابتداء بما بعده .
قوله : { أولئك الذين هَدَاهُمُ الله وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب } قال ابن زيد : نزلت : « والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها . . . » الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهية يقولون : لا إله إلا الله زيدُ بنُ عمرو وأبو ذر الغِفَاري وسلْمان الفارسيّ ، والأحسن قول لا إله إلا الله وفي هذه الآية لطيفة وهي أن حصولَ الهداية في العقل والروح حادث فلا بدّ له من فاعل وقاتل أما الفاعل فهو الله تعالى وهو المراد من قوله { أولئك الذين هَدَاهُمُ الله } وأما القائل فإليه الإشارة بقوله : { وأولئك هُمْ أُوْلُو الألباب } فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف والحقيقة في قلبه .
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قوله : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ } في « من » هذه وجهان :
أظهرهما : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف فقدره أبو البقاء : « كَمَنْ نَجَا » وقدره الزمخشري : « فَأَنْتَ تُخَلِّصُهُ » قال : حذف لدلالة : « أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ » عليه وقدره غيره : تَتَأسَّفُ عليه ، وقدره آخرون : تَتَخَلَّص منه ، أي من العذاب .
وقدر الزمخشري على عادته جملة بين الهمزة والفاء تقديره ، أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهمْ فَمَن حَقّ عليه كملة العذاب .
وأما غيره فيدعي أن ألصل تقديم الفاء ، وإنما آخّرت لما تستحقه الهمزة في التصدير وقد تقدم تحقيق هذين القولين .
الثاني : أن تكون « مَنْ » شرطية وجوبها : « أَفَأَنْتَ » فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء ، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار . وأوقع الظاهر وهو « مَنْ فِي النَّار » موقع المضمر إذ كان الأصل أفأنت تنقذه وإنما وقع موقعه شهادةً عليه بذلك ، وإلى هذا نَحَا الحَوْفِيُّ والزمخشريُّ ، قال الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لمّا طال الكلام توكيداً ولولا طولُه لم يجز الإتيان بها لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في الاسم ، وألف أخرى في الجزاء ومعنى الكلام أفَأنْت تُنْقِذُهُ .
وعلى القول بكونها شرطية يترتّب على قول الزمخشري وقول الجمهور مسألة وهو أنه على قول الجمهور يكون قد اجتمع شرط واستفهام . وفيه حينئذ خلافٌ بين سِيبويِه ويُونُسَ هل الجملة الأخيرة في جواب الاستفهام وهو قول يونس أو جواب الشرط وهو قول سيبويه .
وأما على قول الزمخشري فلم يجتمع شَرْطٌ ( و ) استفهام؛ إذا أداةُ الاستفهام عنده داخلةٌ على جملةٍ مَحْذُوفةٍ عطفت عليها جملة الشرط ولو لم يدخل على جملة الشرط . وقوله : { أَفَأَنتَ تُنقِذُ } استفهام توقيف ، وقدم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لستَ قادراً على إنقاذه إنما القَادِرُ عليه اللَّهُ وَحْدَهُ .
فصل
قال ابن عباس : عنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار . وقيل كلمة العذاب قوله تعالى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] وقيل : هي قوله : « هَؤُلاَءِ فِي النَّارِ وَلاَ أُبالي » .
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال بقوله : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب } فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلاّ لزم ( انقلاب ) خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً ، وهو محالٌ ، وأيضاً فإنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب ( توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة منه لو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقية كلمة العذاب ) مانعه منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنًى .
فصل
احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جاريةً مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد ، وأجيب : بأنا لا نسلم أن أهل الكابئر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق عليهم العذاب مع أن الله تعالى قال :
{ إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] وقال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] .
قوله : { لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ } استدراك بين شيئين نقيضين ، أو ( بين ) ضدين ، وهما المؤمنون والكافرون وقوله : { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ } وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار : « لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل » والمعنى لهم منازل في الجنة رفعية ، وفوقها منازل أرفع منها .
فإن قيل : ما معنى قوله « مبينة » ؟
فجوابه : أن المَنْزِل إذا بُني على مَنْزِلٍ آخر كان الفَوْقَاني أضعف بناءً من التَّحْتَانِيّ ، فقوله « مبينةٌ » معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ المنزل الأسفل ، ثم قال : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وذلك معلوم .
قوله : { وَعْدَ الله } مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بواجب الإضمار لأن قوله : { لَهُمْ غُرَفٌ } في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك ، وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد يصرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية ، وذلك يدل أنّ جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف قول المعتزلة إنه قال في جانب الوعيد { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] وأجيبوا بأن قوله : « ما يبدل القول لدي » ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو عام يتناول القِسْمَيْن الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرنا حق . والله أعلم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } ( الآية ) لما وصف الآخرة بوصف يوجب الرغبة العظيم فيها وصف الدنيا بصفة توجب ( اشتداد ) النفرة عنها ، وذلك أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل : كل ماء في الأرض فهو من السماء ، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض } أي يعوناً ومسالك وَركَايَا في الأرض ومجاري كالعروق في الأجساد { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } من خُضْرَة وحُمْرة ، وصُفرة وبَيَاض وغير ذلك مختلفاً أصنافه من بُرِّ وشَعير وسِمْسِم « ثُمَّ يَهِيجُ » أي يَبْيَسُ « فَتَراهُ مُصْفَرًّا » لأنه إذا تم جفافه جازَ ( له ) أن ينفصل عن منابته وإن لم تَتَفَرَّق أجزاؤه فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم تصير حُطَاماً فُتَاتاً متكّسراً { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب } يعني من شاهد هذه الأحوال في النبات يصير مُصْفَرَّ اللون متحطم الأعضاءِ والأجزاء ثم يكون عاقبته الموت ، فإذا كانت مشاهدة فحينئذ تعظم نُفْرتُهُ عن الدنيا ولذاتها .
قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ } العامة على رفع الفعل نَسَقاً على ما قبله ، وقرأ أبو بشر ثم يَجْعَلَهُ منصوباً .
قال أبو حيان : قال صاحب الكامل- يعني الهُذَلِي- : وهو ضعيف ولم يبين هو ولا صاحبُ الكامل وجهَ ضعفه ولا تخريجه فأما ضعفه فواضحٌ حيث لم يتقدم ما يقتضي نصبه في الظاهر ، وأما تخريجُهُ فذكر أبو الباقء فيه وجهين :
أحدهما : أن ينتصب بإضمار « أَنْ » ويكون معطوفاً على قوله : { أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } في أول الآية والتقدير : ألم تر إنزالَ اللَّه ثم جَعْلَهُ .
والثاني : أن يكون منصوباً بتقدير : ترى أي ثم ترى جَعْلَه حُطَاماً يعني أنه ينصب « بأَن » مضمرةً وتكون أن وما في حيِّزها مفعولاً به بفعل مقدر وهو « ترى » لدلالة : « أَلَمْ تَرَ » عَلَيْهِ .
قوله ( تَعَالَى ) { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } الآية ، لما بين الدلائل الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله ووجوب الإعراض عن الدنيا وذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا تكمل إلا إذا شُرحَ الصدر ونُوِّر القلب ، والكلام في قوله ( تعالى ) : { أَفَمَن شَرَحَ } وقوله : « أَفَمَنْ يتقي » كالكلام في « أَفَمَنْ حَقَّ » والتقدير : أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لْلإسْلاَم كَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ ، أو كالقَاسِي المُعْرِضِ لدلالة : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } عليه وكذا التقدير في : « أَفَمَنْ يتقي » أي كمن أمن العذاب ، وهو تقدير الزمشخري ، أو : كالمُنعمِينَ في الجنة وهو تقدير ابن عطيَّةَ .
فصل
معنى شرح الله صدره للإسلام أيْ وسعه لقبول الحق { فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } كمن أقسى الله قلبه { فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } قال مالك بن دينار : ما ضرب عبدٌ بعقوبة أعظمَ من قسوةِ وَمَا غضب الله على قوم إلا نَزَعَ منهم الرحمة .
فإن قيل : إن ذكر الله - عزّ جلّ- سبب لحُصُول النور والهداية وزيادة الاطمئنان قال تعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] فكيف جعله في هذه الآية مبيناً لحصول القسوة في القلب؟ .
فالجواب : أن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العُنْصر بعيدةً عن مناسبة الرُّوحَانِيَّات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمة والأخلاق الذَّميمة فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوةً وكُدُورةً مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس تسود وجه القصار ويبيض ثوبه ، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقِد الملح وقد نرى إنساناً ( واحداً ) يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره ، وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس ، ولما نزل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] وعمر بن الخطاب حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [ المؤمنون : 14 ] قال كل ( واحد ) منهما : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اكتب فكذا نزلت فازْدَادَ عمرُ إيماناً على إيمان ، وازداد ذلك الإنسان ( كفراً على كُفْرٍ ) وإذا عرف هذا لم يبعد أن يكون ذكر الله- عزّ وجلّ- يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانيَّة ويوجب القَسْوَة والبعد عن الحقّ في النفوس الخبيثة الشَّيْطَانِيَّة .
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
قوله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بكونه : « حديثاً » في هذه الآية وفي قوله : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } [ الطور : 34 ] وفي قوله : { أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } [ الواقعة : 81 ] والحديث لا بدّ وأن يكون حادثاً بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه ( لا ) يصح أن يقال : هذا حديث وليس بِعَتيقٍ ، وهذا عَتِيقٌ وليس بحَدِيثٍ ، ولا يصح أن يقال : هذا عتبيقٌ وليس بحادِثٍ فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحدوث . وسمي الحَدِيثُ حديثاً لأنه مؤلَّفٌ من الحروف والكلمات وتلك الحروف والكلمات تَحْدثُ حالاً فحالاً وساعةً فساعةً .
الثاني : قالوا بأنَّه تعالى وصفه بأنه أنْزَلَه والمُنْزَلُ يكون في مَحَلِّ تصرف الغير وما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ وحَادِثٌ .
الثالث : قالوا : إن قوله : { أَحْسَنَ الحديث } يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أنّ قوله : « زَيد أفضل الإخوة » ( يقتضي أن يكونُ زيدٌ مشاركاً لأولئك الأقوام في صفة الأُخُوَّة ) ويكون من جنسهم ، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث ، ولما كان سائر الأحاديث حادثةً وجب أيضاً أن يكون القرآن حادثاً .
الرابع : قالوا : إنه تعالى وصفه بكونه كتاباً والكتاب مشتق من الكَتِيبَة وهي الاجْتِمَاعُ ، وهذا يدل على كونه حادثاً .
قال ابن الخطيب : والجوابُ أن نَحْمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والألفاظ والعبارات ، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق .
فصل
كَوْنُ القرآنِ أحسنَ الحديث إما أن يكون بحسب اللفظ وذلك من وجهين :
الأول : أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجَزَالَة .
الثاني : أن يكون بحسب النظم في الأسلوب وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر ولا من جنس الخُطَب ولا من جنس الرِّسالة بل هو نوعٌ يخالفُ الكلَّ مع أن كل ( ذِي ) طبعٍ سليمٍ يَسْتَلِذُّهُ ويَسْتَطِيبُهُ ، وإما أن يكون أحْسَن الْحَدِيث لأجل المعنى . وهو من وجوه :
الأول : أنه كتاب منزه عن التناقض قال تعالى : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المُعْجِزَات .
الثاني : اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمُسْتقبل .
الثالث : أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جداً وقد شرح ابن الخطيب منها أقساماً كثيرة .
قوله : { كِتَاباً } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه بدل من : « أَحْسَنَ الْحَدِيثِ » .
والثاني : أنَّه حال منه ، قال أبو حيانَ ، لمّا نقله عن الزمخشري : وكأنه بناه على أن « أحْسَنَ الْحَدِيثِ » مَعْرفة لإضافته إلى معرفة ، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلافٌ ، فقيل : إضافتُهُ مَحْضَةٌ وقيل : غيرُ محضة .
قال شهاب الدين : وعلى تقدير كونه نكرةً يحسن أيضاً أيضاً أن يكون حالاً؛ لأن النكرة متى أضيفتْ سَاغَ مجيءُ الحال منها بلا خلاف ، والصحيح أن إضافة « أفْعَل » محضةٌ وقوله : « مُتَشَابِهاً » نعت « لكِتَابٍ » وهو المسوِّغ لمجيء الجامد حالاً ، أو لأنه في قُوّة « مَكْتُوبٍ » ، أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مَثَانِيه ، وإلى هذا ذهب الزمخشريُّ .
قوله : { مَّثَانِيَ } قرأ العامة مَثَانِيَ- بفتح الياء - صفة ثانية ، أو حالاً أخرى وقرأ هشامٌ عن ابن عامر وأبو بِشر بسكونها وفيها وجهان :
أحدهما : أنه تسكين حرف العلة استثقالاً للحركة عليه كقراءة : { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] ( و ) ( قوله ) :
4296- كَأَنَّ أَيْدِيهِنَّ . . .. . .
ونحوهما .
والثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هُوَ مَثَانِي . كذا ذكره أبو حيان ، وفيه نظر من حيث إنه كان ينبغي أن ينون تحذف ياؤه لالتقاء السَّاكِنَيْنِ ، فيقال : مثانٍ كما تقول : هَؤُلاَءِ جَوَارٍ ، وقد يقال : إنه وقف عليه ثم أجْري الوصل مُجْرَى الوقف لكن يعترض عليه بأن الوقف على المنقوص المنون بحذف الياء نحو : هذَا قَاض وإثباتها لغةً قَلِيلُ ، ويمكن الجواب عنه بأنه قد قرئ بذلك في المتواتر نحو : { مِن وَالٍ } [ الرعد : 11 ] و { بَاقٍ } [ النحل : 96 ] و { هَادٍ } [ الرعد : 7 ] في قراءة ابن كَثِيرٍ .
فصل
تقدم تفسير الكتاب عند قوله : « ذَلِكَ الْكِتَابُ » وقوله : « مُتَشَابِهاً » أي يشبه بعضهُ بعضاً ( في الحُسْن ويُصَدّق بعضهُ بعضاً ) ليس فيه تناقضٌ ولا اختلاف ، قاله ابن عباس ، وقوله : { مَّثَانِيَ } جمع « مَثْنَى » أي يُثَنَّى فيه ذكرُ الوَعْدِ ، والوعيد ، والأمر ، والنهي ، والأخبار والأحكام ، أو جمع « مَثْنَى مفعل من التَّثْنِية بمعنى التَّكرير ، وإنما وصف كتاب وهو مفرد » بمَثَانِي « وهو جمع لأن الكتاب مُشْتَمِلٌ على سُوَةٍ وآياتٍ ، وهو من باب : بُرْمَةٌ أعْشَارٌ ، وثَوْبٌ أخْلاَقٌ . قاله الزمخشري وقيل : ثَمَّ موصوف محذوف أي فصولاً مَثَانِيَ ، حذف للدلالة عليه ، وقال ابن الخطيب : إن أكثر الأشياء المذكورة زَوْجَيْن زَوْجَيْن مثل الأمر ، والنهي ، والعام ، والخاص ، والمجمل ، والمفصل ، وأحوال السموات والأرض والجنة والنار ، والضوء والظلمة ، واللوح ، والقلم ، والملائكة ، والشياطين ، والعرض ، والكرسيّ ، والوعد ، والوعيدن والرجاء والخوف والمقصود منه أن بيانَ كلِّ ما سَوى الحق زوج يدل على أن كل شيء ممثل بضدِّه ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو اللَّهُ تَعَالَى .
قوله : { تَقْشَعِرُّ } هذه الجملة يجوز أن تكون صفة » لكتاب « وأن تكون حالاً منه لاختاصه بالصفة ، وأن تكون مستأنفة ، واقشعر جلده إذا تَقَبَّض وتجمَّع من الخوف وقفَّ شعره ، والمصدر الاقْشِعْرَارُ والقُشَعْرِيرةُ أيضاً ووزن اقْشَعرَّ افْعَلَلَّ ، ووزن القُشَعْرِيرَة فُعَلِّيلَة .
فصل
قال المفسرون : تقشعر تضطرب وتشمئز { مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } والاقشعرار تغير في جلد الإنسان عند الوَجَل والخوف ، وقيل : المراد من الجولد القلوب أي قلوب الذين يخشون ربهم { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله } ( أي لذكر الله ) قيل : إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله وإذا ذكرت آيات الرحمة لانت وسكنت قلوبهم كما قال الله :
{ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] وحقيقة المعنى أن قلوبهم تقشعر عند الخوف وتلين عند الرجاء قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « إذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ منْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَحَاتَّتْ عَنَه ذُنُوبُهُ كَما يَتَحَاتُّ عَنش الشَّجَرَةِ اليَابِسَةِ وَرَقُهَا » وقال : « إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهث عَلَى النَّارِ » قال قتادة : هذا نعت أولياء الله نعتهم الله بأنهم تقشعرُّ جلودهم وتطمئن قلوبُهم ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغَشَيَان عليهم إنما ذلك في أهل البِدَع وهو من الشيطان وعن عروةَ بن الزّبير قال : قلت لجدّتي أسماءَ بنتِ أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعلون إذَا قرئ عليهم القرآن؟ ( قالت : كانُوا كَمَا نعتّهم الله عزّ وجلّ تَدْمَع أعينهُمْ وتَقْشَعرُّ جلودُهُمْ ، قال : فقلتُ لها : إن ناساً اليوم إذا قرئ عليهم القرآن ) خَرَّ أحدهُم معشيًّاً عليه فقالت : أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم . وعن ابن عمر أنه مرّ برجل من أهل العراق ساقطٍ فقال : ما بالُ هذا؟ قالوا : إنه إذا قرئ عليه القرآنُ أو سَمع ذكرَ الله سَقَطَ فقال ابن عمر : إنّا لنخشى الله ( - عزّ وجلّ ) - وما نَسْقُط .
وقال ابن عمر : إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم ماكان هذا صنيع أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم - .
فصل
قال الزمخشري : تركيب لفظ القُشَعْرِيرَة من حروف التَّقَشُّع وهو الأديمُ وضموا إليه حرفاً رابعاً وهو الراء ليكون رباعياً دالاً على معى زائد ، يقال : اقشعرَّ جلده من الخوف ( إذا ) وقف شعره وهو مثل في شدة الخوف فإن قيل : كيف قال : « تَلِينُ إلى ذكر الله » فعداه بحرف « إلى » ؟
فالجواب : التقدير : تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس الإدراك .
فإن قيل : كيف قال : إلى ذكر الله ولم يقل : إلى ذكر رحمة الله؟
فالجواب : أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله وإنما أحب شيئاً غيره ، وأما من أحبَّ الله لا لشيء سواه فهو المحب وفي الدرجة العالية فلهذا لم يقل : تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله وإنما قال : إلى ذكر الله وقد بين الله تعالى هذا بقوله : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] .
فإن قيل : لم ذكر في جانب الخوف قُشَعْرِيرة الجولد فقط ، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب؟
فالجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف لأن الخير مطلوب بالذات ، والشر مطلوب بالعَرَض ومحل المكاشفات هي القلوب والأرواح والله أعلم .
ثم إنه تعالى : لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : { ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ } فقوله « ذَلِكَ » إشارة إلى الكتاب وهو هُدَى الله وهو الذي شَرَحَ الله صدره ( أولاً ) لقبول الهداية ومن يضلل الله أي يجعل قلبه قاسياً مظلماً « فَما لَهُ مِنْ هَادٍ » .
واعلم أن سؤالات المعتزلة وجوابها عن مثل هذه الآية قد تقدم في قوله : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] ونظائرها .
قوله : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب } الآية لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال التام حكم عليه في الآخرة بحكم آخر وهو العذاب الشديد فقال : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة } وتقريره أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه لأن محل الصباحة وصومعه الحواس ( والسعادة والشقاوة ) لا تظهر إلا فيه ، قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } [ عبس : 38-42 ] ويقال لمقدم القوم : يَا وَجْهَ الْعَرَبِ ، ويقال الطريق الدال على حال الشيء : إن وجه كذا هو كذا . فثَبَتَ بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء الظاهرة هو الوجه وإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه ، وإذا عرف هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتّقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداءً للوجه لا جَرَمَ حسن جعل الاتّقاء بالوجه كناية ( عن العجز ) عن الاتقاء ونظيره قوله النابغة :
4297- وَلاَ عَيْبَ فِيهمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنّ فلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكتَائِبِ
أي لا عيبَ فيهم إلا هذا ، وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذَنْ بوجْهٍ من الوجوه فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء يوجه من الوجوه إلا بالوجه ، وهذا لي باتقاء ، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتّة ، وقيل : إنه يُلْقَى في النار مغلولة يده إلى عنقه ، فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه ، وتقدم الكلام على الإعراب . و « سوء العذاب » أشده ، وقال مجاهد : يجر على وجهه في النار ، وقال عطاء : يرمى به في النار منكوساً ، فأول شيء يمس النار منه وجهه .
قوله : { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ } أي تقول الخزنة للظالمين : { ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي وباله .
ولما بين كيفية عقاب القاسية قلوبهم في الآخرة وبين كيفية وقوعهم في العذاب قال : { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي من قبل كفار مكة كذبوا الرسل { فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني وهم آمنون غافلون عن العذاب أي من الجهة التي لا يخشون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منا ، { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا } وهو الذل والصغار والهوان ثم قال : { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعني أنَّ أولئك وإن نزل بهم العذاب والخزي في الدنيا فالعذاب المدخر لهم يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع بهم في الدنيا .
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
ولما ذكر الله تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البيانات بلغت حدّ الكمال والتمام فقال : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون ، قالت المعتزلة : دلت الآية على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة ، ودلت أيضاً على أنه تعالى يريد الإيمان والمعرفة من الكلّ؛ لأن قوله : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ } مشعِر بالتعليل ، وقوله في آخر الآية : { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } مشعر بالتعليل أيضاً ومشعر بأن المراد من ضرب هذه الأمثال حصولُ التذكرة والعلم .
قوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : ( أن يكون منصوباً على المدح؛ لأنه لما كان نكرةً امتنع إتباعه للقرآن .
الثاني : أن ينتصب ب « يتذكرون » أي ) يتذكرون قرآناً .
الثالث : أن ينتصب على الحال من « القرآن » على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطّئة؛ لأن الحال في الحقيقة « عربياً » و « قُرْآناً » توطئه له ، نحو : جاء زيد رجالاً صالحاً ، وقوله : { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } نعت « لقُرْآناً » ، أو حال أُخْرَى .
قال الزمخشري : فإن قلت : فهلا قيل مستقيماً أو غير مُعْوَجٍّ؟ قلتُ : فيه فائدتان :
إحداهما : نفي أن يكون فيه عِوَجٌ قط كما قال : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] .
والثانية : أن العِوَج يختص بالمعاني دون الأعيان وقيل : المراد بالعِوَج الشك واللَّبْس وأنْشَدَ :
4298- وَقَدْ أتَاكَ يقينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ ... مِنَ الإلهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ
فصل
اعلم أنه تعالى وصف القرآن بصفات ثلاثة :
أولها : كونه قرآناً ، والمراد كونه مَتْلُوَّا في المحاريب إلى قيام الساعة .
وثانيها : كونه عربياً أي أنه أعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته كما قال : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] .
وثالثها : كونه غيرَ ذي عِوجَ ، والمراد براءته من التناقض ، قال ابن عباس : غير مختلف ، وقال مجاهد : غير ذي لَبْس وقال السدي : غير مخلوق ، ويروى ذك عن مالكل بن أَنَسٍ ، وحكى سفيان بن عينه عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالقٍ ولا مخلوق .
قوله : { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } الكفر والتكذيب به . وتمسك المعتزلة به في تعليل أحكام الله تعالى ، وقوله في الآية الأولى : { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ، وههنا : « لعلهم يتقون » لأن التذكر يتقدم على الاتّقاء والاحتراز . والله أعلم .
قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً } قال الكسائي : نصب « رجلاً » لأنه تفسير للمَثَل .
واعلم أنه تَعَالَى لما شرح وعيد الكفار مَثَّلَ بما يدل على فساد مذهبهم وقُبْحِ طريقتهم ، فقال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً } .
قوله : { فِيهِ شُرَكَآءُ } يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة « لِرَجُلٍ » ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده ، و « شُرَكَاءُ » فاعل به ، وهو أولى لقربه من المُفْرد ، و « مُتَشَاكِسُونَ » صفة « لشُركَاءُ » والتَّشاكُسُ ) والتَّشَاكُسُ ) والتَّشَاخُسُ- بالخاء- موضع الكاف ، وقد تقدم الكلام على نصب المَثَل وما بعده الواقعين بعد ضَرَبَ .
وقال الكسائي : انتصب « رجلاً » على إسقاط الجار ، أي لِرَجُلِ أو في رَجُل ، والمُتَشَاكِسون المختلفون العَسِرُون ، يقال : شَكُسَ يَشْكُسُ شُكُوساً وشَكْساً إذا عسرن وهو رجلٌ شَكِس أي عِسِر وشَاكَس إذا تَعَاسَر قال الليث : التَّشَاكُسُ التضاد والاختلاف ويقال : الليل والنهار يَتَشاكسان أي يتضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر وقوله « فيه » صلة « لشركاء » كما تقول اشتركوا فيه أي في رِقِّةِ ، ( قال شهاب الين : وقال أَبُوا البقاء كلاماً لايشبه أن يصدر من مثله بل ولا أقل منه قال : « وَفِيهِ شُرَكَاءُ » ) الجملة صفة « لِرَجُل » و « فيه » متعلق بمُتَشَاكِسُونَ ، وفيه دلالة على جواز تقديم خبر المبتدأ عليه انتهى أما هذا فلا أشك أنه سهو لأنه من حيث جعله جملة كيف يقول بعد ذلك : إن « فيه » يتعلق « بمُتَشَاكِسُونَ » . وقد يقال : أراد من حيث المعنى وهو بعدي جداً ، ثم قوله : « وفيه دلالة » إلى آخره يناقضه أيضاً معمول الخبر على المبتدأ بناءً منه على أن « فِيهِ » يتعلق بمُتَشَاكِسُونَ ، ولكنه فاسد ، والفاسدُ لا يُرام صَلاَحُهُ .
قوله : { سَلَماً لِّرَجُلٍ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو سَالِماً بالألف وكسر اللام ، والباقون سَلَماً بفتح السين واللام وابن جبير بكسر السين وسكون اللام ، ( قال ابن الخطيب : ويقال أيضاً : بفتح السين وسكون اللام ) ، فالقراءة الأولى اسم فاعل من سلم له كذا فهو سالم والقراءتان الأخيرتان سِلْماً فهما مصدران وصف بهما على سبل المبالغة أو على حذف مضاف ، أوعلى وقوعهما موقع اسم الفاعل فيعود كالقراءة الأولى وقرئ : « وَرَجُلٌ سَالِمٌ » برفعهما وفيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره وهناك رجلٌ لرجلٍٍ ، كذا قدره الزمخشيريُّ .
الثاني : أنه مبتدأ ، و « سالم » خبره ، وجاز الابتداء بالنكرة لأنه موضع تفصيل كقول أمرئ القيس :
4299- إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ
وقولهم : « النَّاسُ رَجُلاَنِ رَجُلٌ أَكْرَمْتُ وَرَجُلٌ أَهَنْتُ » .
قوله : { مَثَلاً } منصوب على التمييز المنقول من الفاعلية إذ الأصل : هل يستوي مِثْلُهُمَا ، وأفرد التمييزُ لأنه مقتصر عليه أولاً في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } وقرئ « مَثَلَيْنِ » فطابق حَالَ الرجلين . وقال الزمخشري فيمن قرأ مَثَلَيْنِ : إنّ الضمير في « يَسْتَوِيَانِ » « للمثلين » لأن التقدير : مَثَلَ رَجُلٍ ومَثَلَ رَجُلٍ ، والمعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصيفة كما تقول : كَفَى بِهِما رَجُلَيْن قال أبو حيان : والظاهر أنه يَعُودُ الضمير في « يستويان » على « رجلين » ، وأما إذا جعلته عائداً إلى المثلين اللّذين ذَكَر أن التقدير : مثل رجل ومثل رجل ، فإن التمييز يكون إذْ ذَاكَ قد فهم من المميز الذي هو الضمير إذ يصير التقدير : هل يستوي المثلان مثلين في الوصفية ، فالمثلان الأولان معهودان الثانيان جنْسَانِ مُبْهَمَانِ كما تقول : كَفَى بِهِمَا رَجُلَيْن ، فإن الضمير في بهما عائد على ما يراد بالرَّجُلَيْن فلا فرق بين المسألتين فما كان جواباً عن : « كفى بهما رجلين » يكون جواباً له .
فصل
تقدم الكلام : اضْربْ لقومك مثلاً وقل ما تقولون في رجلٍ مَمْلُوكٍ لشركاء بينهم اختلافٌ وتنازعٌ فيه وكل واحد يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحيِّر في أمره وكلما أرضى أحدّهم غضب الباقونَ ، وإذا احتاج إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر فيبقى متحيّراً لا يعرف أيّهم أولى أن يطلب رضاه؟ وأيهم يُعِينه في حاجاته؟ فهو بهذا السبب في عذابٍ دائم ، وآخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص وذلك المخدوم يعينه في مهاماته فأي هذا ( من ) العبدين أحسنُ حالاً؟ والمراد أن من أثبت آلهةً أخرى فإن الآلهة تكون متنازعة متغالبة كما قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقال : { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } [ المؤمنون : 91 ] فيبقى ذلك المشرك متحيراً ضالاً لا يدري أَيَّ هؤلاء الآلهة يعبدُ؟ وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ فهمه مشَاع وقلبه أوْزَاع أما من لم يُثبت إلا إلهاً واحداً فهو قائم بما كلفه عارف بما يرضيه ويسخطه فكان حالُ هذا أقرب إلى الصلاح من حالِ الأول ، وهذا المثال في غاية الحسن في تقبيح الشّرك وتحسين التّوحيد .
فإن قيل : هذا المثال لا ينطبقُ على عبادة الأصنام لأنها جَمَادَاتٌ فليس بينهما منازعة ولا تشاكس .
فالجواب : أن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة وهم يثبتون بينهما منازعة ومشاكسة ، ألا ترى أنهم يقولون : زُحَلُ هو النحس الأعضم ، ( والمشتري : هو السَّعد الأعظم ) ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأرواح السماوية وحنيئذ ( يحصل ) بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة وحنيئذ يكون المثال مطابقاً ، ومنهم من يقول : هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزَّهاد ( الذين ) مَضَوْا فهم يعبدون فهم يعبدون هذه التماثيل ليصير أولئك الأشخاص من العلماء والزُّهَّاد شفعاءَ لم عند الله . والقائلون بهذا القول يزعم كل طائفة منهم أن المحقّ هو الذي الرجل الذي هو على دينه ، وأنّ من سواه مبطل وعلى هذا التقدير أيضاً ينطبق المثال .
قوله : « قُل الْحَمْدُ لِلَّهِ » يعني أنه لما أبطل القول بإثبات الشركاء والأنداد وثبت أنه لا إله إلا الواحدُ الأحدُ المحقُّ ثبت أن الحمد له لا لغيره ، ثم قال « بل أكثرهم لا يعلمون » أن الحمد له لا لغيره ، وأنّ المستحق العبادة هو الله . وقيل : لا يعلمون ما يصيرون إليه ، وقيلي : المراد أنه لما سيقت عنده الدلائل الظاهرة قال : { الحمد للَّهِ } على حصول هذه البيانات ، وظهور هذه البيِّنات وإن كان ( أكثر ) الخلق لا يعرفونها قال البغوي : والمراد بالأكثر الكُلّ .
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
قوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ } أي سَتَمُوتُ « وإنهم مَيِّتُون » أي سيموتون . قال الفراء والكسائي : المَيِّتُ - بالتشديد- من لم يَمُتْ وسَيَمُوت والمَيْتُ- بالتخفيف- مَنْ فَارٌقَهُ الروحُ ولذلك لم يخفف ههنا . والعامة على مَيّت وميّتون ، وقراءة ابن مُحَيْصِنٍ وابن أبي عبلة واليماني : مَائِتٌ ومَائِتُونَ ، وهي صفة مشعرة بحدوثها دون مَيّت ، وقد تقدم أَنه لا خلاف بين القراء في تَثْقِيل مثْلِ هذا .
فصل
والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة لأجل الحسد فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضاً يموتون « ثُمَّ إنَّكُمْ » تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى والعادل الحق بينكم فيوصل إلى كل أحد حقه وحينئذ يتميز المحق من المبطل .
ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قابئح أفعالهم وهم أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يذكبون القائل المحق أما كذبهم فهو أنهم أثبتوا لله ولداً وشركاء ، وأما تكذيبهم الصادق فلأنهم يكذبون ( القائل المحق ) محمداً - صلى الله عليه وسلم - بعد قيام الدلائل القاطعة على كونه صادقاً في ادِّعاء النُّبُوة ، ثم أردفه بالوعيد فقال : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } أي منزل ومقام للكافرين ، وهذا استفهام بمعنى التقرير .
ولما ذكر ( الله ) من افترى على الله الكذب أو كذب بالحق ذكر مقابلهُ وهو الذي جاء بالصِّدْق وصدَّق به ، وقوله : { والذي جَآءَ بالصدق } لفظ مفرد ، ومعناه جَمْع لأنه أريد به الجنسُ ، وقيل : لأنه قصد به الجزاء وما كان كذلك كثر فيه وقوع : « الذي موقع » الذين « ولذلك رُوعِيَ معناه فجمع في قوله : { أولئك هُمُ المتقون } كما روعي معنى » مَنْ « في قوله : { لِّلْكَافِرِينَ } فإن » الكافرين « ظاهرةٌ واقعٌ مَوْقع المضمر؛ إذ الأصل مَثْوّى لَهُمْ وقيل : بل الأصل : والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وهذا وَهَم؛ إذٍ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والِّذِي جَاءُوا ، كقوله : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنًّى كقوله :
4300- أَبَنِي كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذَا ... قَتَلاَ الْمُلُوكَ وَفَكَّكَا الأَغْلاَلاَ
ولَجَاء كقوله :
4301- [ و ] إنَّ الِّذِي حَانَتْ بِفلْجٍ دَمَاؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
وقرأ عبد الله : » والَّذِي جَاءُوا بالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ « وقد تقدم تحقيق نظير الآية في أوائل البقرة وغيرها : وقيل : » الذي « صفة لموصوف محذوف بمعنى الجمع تقديره والفريق أو الفوج ، ولذلك قال : { أولئك هُمُ المتقون } وقيل : المراد لذي واحد بعينه وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما كان المراد هو وأتباعه ذلك فجمع واحد فقال : { أولئك هُمُ } كقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }
[ المؤمنون : 49 ] قاله الزمخشري ، وعبارته : هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرد به إياهُ وَمَنْ تَبِعَهُ كما أراد بموسى إياهُ وَقَوْمَهُ ، وناقشه أبو حيان في إيقاعِ الضمير المنفصل موقع المتصل ، قال : وإصلاحه أن يقول : وأراده به كما أرادهُ بموسى وقومه ، قال شهاب الدين : ولا مناقشة لأنه مع تقديم « به » و « بموسى » لغرض من الأغراض استحال اتِّصال الضمير ، وهذا كالبحث في قَوِلِهِ تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] وهو أن بعض الناس زعم أنه يجوز الانفصال مع القدرة على الاتصال . وتقدم الجواب بقريب مما ذكرنا هَهنا ، وتقدم بيان حكمة التقديم ثمة . وقول الزمخشري إن الضمير في « لعلهُمْ يَهْتَدُونَ » لموسى وقومه فيه نظر بل الظاهر خصوص الضمير بقومه دونه لأنهم هم المطلوب منهم الهداية ، وأما موسى- عليه ( الصلاة و ) السلام- فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يريد : والفوج أو الفريقَ الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصاحبته الذين صدقوا به قال أبو حيان : وفيه توزيع للصّلة ، والفوجُ هو الموصول فهو كقولك : « جَاءَ الفَريقُ الَّذي شَرف وشرف » والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى .
وقرأ أبو صَالِح وعكرمةُ بنُ سُلَيْمَانَ ومحمد بن جَحَادَةَ مخففاً بمعنى صدق فيه ولم يغيره بل أداه من غير تحريف ، وقُرِئَ : « وَصُدِّقَ بِهِ » مشدِّداً مبنياً للمفعول .
فصل
المعنى فمن أظلم ممن كذب على الله فزعم أن له ولداً وشريكاً وكذَّب بالصِّدْق بالقرآن ، أو بمحمد إذْ جَاءَهُ ، ثم قال { والذي جَآءَ بالصدق } قال ابن عباس : والَّذِي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصَدَّق به محمد - صلى الله عليه وسلم - تلقّاه بالقبول ، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء بالصدق : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق به : أبو بكر - رضي الله عنه- وقال قتادة : والذي جاء بالصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدق به : هم المؤمنون لقوله : { أولائك هُمُ المؤمنون } [ الأنفال : 4 ] وقال عطاء والذي جاء بالصدق : الأنبياء وصدق به : الأتباع وحنيئذ يكون « الَّذي » بمعنى « الَّذِينَ » كقوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدينا وجاءوا به في الآخرة ، { أولئك هُمُ المتقون } وهذا لايفيد العبدية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الإخلاص ، كقوله : { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] .
ثم قال : { جَزَآءُ المحسنين } قالت المعتزلة : وهذا يدل على أن الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة .
قوله : { لِيُكَفِّرَ الله } في تعلق الجار وجهان :
أحدهما : أنها متعلقة بمحذوف أي يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفَّر .
والثاني : أن تتعلق بنفس الْمُحْسِنِينَ كأنه قيل : الذين أحسنوا ليُكَفّر أي لأجل التكفير .
قوله : { أَسْوَأَ الذي } الظاهر أنه أفعل تفضيل ، وبه قرأ العامة وقيل : ليست للتفضيل بل بمعنى سيءَ الذي عملوا كقولهم : « الأشَجُّ والنَّاقِصُ أَعدلاَ بَنِي مَرْوانَ » أي عَادِلاَهُمْ ويدل عليه قراءة ابن كثير - في رواية - : أَسْوَاءَ بألف بين الواو والهَمْزَة بزنة أعماله جمع سُوءٍ ، وكذا قرأ في : « حم » السَّجْدَةِ .
فصل
قوله : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، وقوله تعالى : { لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ } يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أي يسترها عليهم بالمغفرة ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعلمون وقال مقاتلك يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمَسَاوِئِ ، قال ابن الخطيب : واعلم أن مقاتلاً كان شيخ المُرْجِئَة وهم الذين يقولون : لا يضرّ شيءٌ من المعاصي مع الإيمان كما لا ينفع شيءٌ من الطاعات مع الكفر . واحتج بهذه الآية فقال : إنها تدلُّ على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ولا يجوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق لأن ظاهر الآية أن التكليِيف إنما حصل في حال وصفهم بالتَّقْوَى ، ( وهو التقوى ) من الشرك وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي أيتي بها بعد الإيمان فتكون هذه الآية تَنْصِيصاً على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم ( أَسْوأَ ) ما يأتون به وذلك هو الكبائر .
قوله : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } العامة على توحيد « عَبْده » ، والأَخَوَانِ عِبَادَهُ جمعاً ، وهم الأنبياء وأتباعهم ، وقرئ « بِكَافِي عِبَادِهِ » بالإضافة ويُكَافِي مضارع كافي عِبَادَهُ نُصب على المفعول به .
ثم المفاعلة هنا تحتمل أن تكون معنى « فَعَلَ » نحو : يُجَازِي بمعنى يَجْزِي وبني على لفظ المفاعلة لما تقدم من أن بناء المفاعلة يشعر بالمبالغة لأنه للمغالبة ، ويحتمل أن يكون أصله يُكافيءُ بالهمز من المكافأة بمعنى يَجْزِيهم فخففت الهمزة وهذا استفهام تقرير .
قوله : { وَيُخَوِّفُونَكَ } يجوز أن يكون حالاً؛ إذ المعنى أليس ( اللَّهُ ) كَافِيكَ حالَ تخويفهم إياك بكَذَا كأَنَّ المعنى أنه كافِيهِ في كل حال حتى في هذِهِ الحال ، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً .
فصل
من قرأ بكافٍ عَبْدَهُ يعني محمداً- صلى الله عليه وسلم - ومن قرأ عباده يعني الأنبياء عليهم ( الصلاة و ) السلام قَصَدَهُمْ قومُهُمْ بالسوء كما قال تعالى : { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } [ غافر : 5 ] وكفاهم اللَّهُ شَرَّ من عاداهم . وقيل : المراد أن الله تعالى كفى نوحاً - عليه ( الصلاة و ) السلام- وإبراهيم النار ويونس ما دفع فهو سبحانه وتعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك .
وقوله تعالى : { وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } وذلك أن قريشاً خوفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُعَادَاةَ الأوثانِ وقالوا : لَتَكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو ليُصِبَّنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ ، فأنزل الله هذه الآية .
ولما شرح الوعد والوعيد والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي المفصل الحق فقال : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } أي هذه الدلائل والبينات لا تنفع إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق ، ثم قال : { أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام } وهذا تهديدٌ للكُفَّار .
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية على مسألة خلق الأعمال لأن قوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } صريح في ذلك ، وتمسك المعتزلة بقوله أليس الله بعزيز ذِي انتقام ولو كان الخَالق للفكر فيهم هو الله تعالى لكان الانتقام والتهديد غير لائق . والله أعلم .
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } الآية لما بين وعيد المشركين ووعد الموحدين عاد إلى إقامة الدلي على تَزْيِيفِ طريق عبدة الأوثان وهذا التَّزْييف مبني على أصلين :
الأصل الأوّل : أن هؤلاء المشركون مقرون بوجود الإله القادر على العالم والحكيم وهو المراد من قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } قال بعض العلماء العلم بوجود الإله القادر الحكيم علمٌ متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه وفطرة العقل شاهدةً بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغربية والمصالح العجيبة عِلمَ أنه لا بدّ من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم .
والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخبر والشر وهو المراد من قوله : { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } فثبت أنه لا بدّ من الإقرار بوجود ( الله ) الإله القادر الحكيم الرحيم ، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وإذا كان الأمر كذلك اكنت عبادة الله كافيةً والاعتمادُ عليه كافياً وهو المراد من قوله : { قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } .
قوله : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ } هي المتعدية لاثنين أولهما : « ما تدعون » ، وثانيهما : الجملة الاستفهامية والعائد على المفعول منها قوله « هُنَّ » وإنما أَنَّثَهُ تَحْقِيراً لما يدعون من دونه ولأنهم كانوا يسمونها بأسماء الإناث اللاتِ ومناةَ والعُزَّى وتقدم تحقيق هذا .
قوله : { هَلْ هُنَّ كَاشِفَات } قرأ أبو عمرو كاشفاتٌ وممسكاتٌ- بالتنوين- ونصب « ضُرَّهُ ورَحْمَتَهُ » وهو الصل في اسم الفاعل والباقون بالإضافة هو تخفيفٌ .
فصل
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فسكتوا فقال الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ ثِقَتي باللَّه واعتمادي { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } يثق الواثقون .
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
قوله : { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } وهذا أمر تهديد أي أنكم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإني عامل في تقرير ديني فسوف تعلمون أن العذاب والخزى يصيبني أو يصيبكم .
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ بالحق } الآية . . . اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعظُم عليه إصراهم على الكفر كما قال تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ } [ الكهف : 6 ] وقال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] وقال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] فلما بين الله تعالى في هذه الآيات فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل البينات وتارة بضرب الأمثال وتارةً بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ الكامل الشريف لنفع الناس وهداهم وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القَبُول ، وعدم القبول مفوض إليهم وذلك تسلية للرسول - عليه ( الصلاة و ) السلام - ثم بين تعالى الهداية لا تحصل إلا بتوفيق الله تعالى ، وكما أن الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله تعالى ، كذلك الضلال لا يحصل إلا بأمر الله تعالى ، ومن عرق هذه الدقيقة فقد عرف على هذه الدقيقة سبباً لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول - صلى الله عليه وسمل- فهذا وجه النظم ، وفيه وجه آخر وهو أن الله تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه إلهٌ عالم ليلد على أنه بالعبادة أحقُّ من هذه الأصنام .
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قوله : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } أي الأرواح حين موتها فيقبضها عند انقضاء أجلها ، وقوله : { حِينَ مِوْتِهَا } يريد موت أجسادها { والتي لَمْ تَمُتْ } يريد يتوفى الأنفس التي لم تمت في مامها فالتي تتوفى عند النوم هي النفس التي بها العقل والتمييز ولكل إنسان نَفْسَان إحادهما نفس الحياة وهي التي تفارقه عند الموت وتزول بزوالها النفس والأخرى هي النقس التي تفارقه إذا نام وهو بعد النوم تنفس { فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت } فلا يردها إلى الجسد { وَيُرْسِلُ الأخرى } أي يردها إلى الجسد وهي التي لم يقض عليها الموت { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت موته .
قوله : { والتي لَمْ تَمُتْ } أي يتوفى الأنفس حين تموت وتتوفى أيضاً الأنفسَ التي لم تمت في منامها ف « في منامها » ظرف « ليَتَوَفَّى » وقرأ الأخَوَانش : « قُضِيَ » مبنياً للمغفول الْمَوْتُ رفعاً لقيامه مقام الفاعل .
فصل
قيل : إنَّا للإنسان نَفْساً وروحاً ، فعند النوم يخرج النَّفْسُ وتبقى الروح ، وعن عليِ قال : تخرج الروح عند النوم ويبقى شعاعه في الجَسَد ، فبذلك يرى الرؤيا فإذا انتبه من النوم عاد الروح إلى حسده بأسرعَ من لحظة ويقال : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتَتَعَارف ما شاء الله فإذا أرادت الرجوع إلى أجسادها أمسك اله أرواح الأموات عنده وأرسل أرواح الأجساد حتى ترجع إلى أجسادها إلى انقضاء مدة حياتها { فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } لدلالات على قدرته حيث لم يغلط في إمساك ما مسك من الأرواح وإرسال ما يرسل منها .
وقال مقاتل : لعَلامات لقوم يتفكرون في أمر البعث يعني أن تَوفِّي نفسٍ النائم وإرسالَها بعد التَّوفِّي دليلٌ على البعث .
فإن قيل : قوله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس } يدل على أن المتَوفِّي هو الله تعالى فقط ، ويؤكده قوله تعالى : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] وقوله : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] وقال في آية أخرى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } [ السجدة : 11 ] ( وقال في آية ثالثة : { إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ ) رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] فكيف الجمع؟
فالجواب : أن المتوفِّي في الحقيقة هو الله تعالى إلا أنه تعالى فوض كل نوع إلى ملك من الملائكة ففوض قبضَ الأرواح إلى ملك الموت وهو الرئيس وتحته أتباع وخَدَمٌ فأضيف التوفِّي في آية الله تعالى وهي الإضافة الحقيقة ، وفي آيةٍ إلى ملك الموت لأن الرئيس في هذا العمل وفي آية إلى أتباعه والله أعلم .
قوله : { أَمِ اتخذوا } أم منقطعة فتقدر ببل والهمزة .
واعلم أن الكافر أوْرَدُوا على هذا الكلام سؤالاً قالوا : نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقادِ أنها تضر وتنفع وإنما نعدبها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عنده من المقربين فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء فأجاب الله تعالى بأن قال { أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ } .
قوله : { قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا } تقدم الكلام على نحو « أَوَلَوْ » وكيف هذا التركيب ، والمعنى قُلْ يا مُحَمَّدُ أوَ لَوْ كانوا أي وإن كانوا يعني الآلهة { لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً } من الشفاعة أنكم تعبدونهم ، وجواب هذا محذوف تقديره وإن كانوا بهذه الصفة تتخذونهم .
قوله : { قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } قال مجاهد : لا يشفع أحدٌ إلا بإذنه { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت } نفرت ، قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : أي انْقَبَضَتْ عن التَّوحيد وقال قتادة استكبرتْ ، وأصل الاشمئزاز النُّفور والاسْتِكبَار { قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } وهذا نوع آخر من أعمال المشركين القبيحة { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } يعني الأصنام { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } يعني يفرحون . قال مجاهد ومقاتل : وذلك حيث قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - سورة والنجم فألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّةِ « تلك الغَرَانيق العُلاَ » ففرح به الكفار .
قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين } قال الزمخشري : فإن قلتك ما العامل في : « إذَا ذُكِرَ » ؟
قلت : العامل فيه « إذا » الفجائية تقديره وقت ذِكْرِ الَّذِينَ من دونه فَاجَأوا وَقْتَ الاستبشار .
قال أبو حيان : أما قول الزمخشري فلا أعلمه من قول من ينتمي إلى النحو وهو أن الظرفين مَعْمولاَن « لِفَاجَأُوا » ثُمَّ « إذا » الأول تنصب على الظرفية والثانية على المفعولية وقال الحَوْفي : « إذَا هُمْ يَسْتبشرُونَ » « إذَا » مضافة إلى الابتداء والخبر ، و « إذا » مكررة للتوكيد ، وحذف ما يضاف إليهن والتقدير : إذا كان ذلك هم يَسْتَبْشِرونَ ، فيكون ( هم يستبشرون ) هو العامل في « إذا » المعنى : إذا كان كذلك استبشروا .
قال أبو حيان : هذا يبعد جداً عن الصواب إذا جعل « إذَا » مضافة إلى الابتداء والخبر ، ثم قال و « إذا » مكررة للتوكيد وحذف ما يضاف إليه إلى آخره كلامه ( فإذا كانت إذا حذف ما يضاف إليه ) فكيف تكون مضافة إلى الابتداء والخبر الذي هو « هم يستبشرون »! وهذا كله يوجبه عدم الإتقان لعلم النحو والتحذف فيه ، انتهى .
قال شهاب الدين : وفي هذه العبارة تحامل على أهل العلم المرجوع إليهم فيهم واختار ابو حيان أن يكون العامل في « إذا » الشرطية الفعل بعدها لا جوابها وأنها ليست مضافة لما بعدها سواء كانت زماناً أم مكاناًأما إذا قيل : إنها حرف فلا يحتاج إلى عامل وهي رابطة لجملة الجزاء بالشرط كالفاء .
والاشْمِئزَازُ النفور والتَقَبض وقال أبو زيد : هو الذعر ، اشمأزَّ فُلاَنٌ أي ذعر ووزنه افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ ، قال الشاعر :
- إذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اشْمَأَزَّتْ ... ووَلَّتهُ عَشَوْزَنَه زَبُونَا
خشري : ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سروراً حتى يظهر ذلك السرور في أَسِرَّة وجهه ويتهلَّل ، والاشمئزاز أن يعظم « غَمُّه ) وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية .
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
ولما حَكَى هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بذكر الدعاء العظيم فقال : { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } روى أبو سلمة قال سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله- صلى الله عليه وسلم - صلاته بالليل؟ قالت : كان يقول : « اللَّهُمَّ رَبِّ جبريلَ وميكائلَ وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عابدك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنِي لم اختلف فيه الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم » .
ولَمَّا حكى عنهم هذا المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء :
أولها : أن هؤلاء الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأمور وملكوا مثله معه جعلوا الكل فِدْية لأنفسهم من العذاب الشديد .
وثانيها : قوله : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي ظهرت لهم أنواع من العذاب لم يكن في حسابهم ، وهذا كقوله- عليه ( الصلاة و ) السلام- في صفة الثواب في الجنة : « فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر » فكذلك حصل في العقاب مثله وهو قوله : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } وقال مقاتل : ظهر لهم حين بعثوا ما لم يحتبسوا في الدنيا أنه نازل بهم في الآخرة . وقال السدي : ظنوا أن أعمالهم حسنات فبدت لهم سيئات والمعنى أنهم كانوا يتقربون إلى الله بعبادة الأصنام فلما عوقبوا عليها بدا لهم من الله ما لم يحتسبوا .
وثالثها : قوله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي مساوئ أعمالهم من الشرط وظلم أولياء الله « وَحَاق بهِمْ » أي أحاظ بهم من جميع الجوانب { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم .
قوله : { لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } يجوز أن يكون « ما » مصدرية أي سيئات كَسْبِهم أو بمعنى الذي أي سيئات أعمالهم التي اكتسبوها .
قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا . . . } الآية . وهذه حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة وهي أنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفَقْر والمَرَضُ يفزعون إلى الله تعالى ويرون أن دفع ذلك البلاء لا يكون إلا منه ، ثم إنه تعالى إذا خَوَّله أعطاه نعمة يقول : إنما أوتيته على علم أي علم من الله أني أهل له .
وقيل : إنْ كان ذلك سعادة في الحال أو عافية في النفس يقول إنما حصل له ذلك بجدِّه واجتهاده ، وإن كان مالاً يقول : إنما أوتيته بكسبي وإن كان صحة قال : إنما حصل بسبب العلاج الفلاني ، وهذا تناقض عظيم ، لأنه لما كان عاجزاً محتاجاً أضاف الكل إلى الله وفي حال السلام والصحة قطعه من الله وأسنده إلى كسب نفسه وهذا تناقض قبيح .
قوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ } يجوز أن تكون ( ما ) مهيئة زائدة على نحو : إنما قام زيدٌ ، وأن تكون موصولة ، والضمير عائد عليها من « أوتيته » أي إن الذي أوتيته على علم مني ، أو على علم من الله في أني أستحق ذلك .
قوله : « بَلْ هِيَ » الضمير للنعمة ذكرها أولاً في قوله : « إنما أوتيته » لأنها بمعنى الإنعام ، وقيل : تقديره « شيئاً » وأنَّث هنا اعتبار بلفظها ، وقيل : بل الحالة أو الإتيانة ، وإنما عظمت هذه الجملة وهي قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان } بالفاء والتي في أول السورة بالواو لأن هذه مسببة عن قوله : « وَإذَا ذُكِرَ » أي يشمئزون من ذكر الله ويستبشرون بذكر آلهتهم فإذا مس أحدهم بخلاف الأولى حيث لا تسبب فيها ، فجيء بالواو التي لمطلق العطف وعلى هذا فما بين السبب والمسبب جمل اعتراضية . قال معناه الزمخشري واستبعده أبو حيان من حيث إن أبا عليّ يمنع الاعتراض بجملتين فيكف بهذه الجمل الكثيرة؟ .
ثم قال : « والذي يظهر في الربْط أنه لما قال : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } الآية كان ذلك إشعاراً بما ينال الظالمين من شدة العذاب وأنه يظهر لهم القيامة من العذاب أتبع ذلك بما يدل على ظلمة وبغيه إذ كان إذا مسه ضر دعا الله فإذا أحسن إليه لم ينسب ذلك إليه » وقال ابن الخطيب : إن السبب في عطف هذه الآية بالفاء أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الاية أنهم يَشمَئِزُّون من سماع التوحيد ، ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء ، ثم ذكر « بفاء » التعقيب أنهم إذا وَقَعُوا في الضرر والبلاء التَجأُوا إلى الله وحده ، فكان الفعل الأول مناقضاً للفعل الثاني ، فذكر بفاء التَّعْقِيب ليدل به على أنهم واقعون في المناقضة الصحريحة في الحال وأنه ليس بين الأول والثاني : فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني ، فهذا فائدةُ ذكرِ فاء التعقيب ههنا وأما الآية الأولى فليس المقصودُ منها بيانَ وقوعهم في التناقض في الحال فلا جرم ذكره تعالى بحرف الواو لا بحرف الفاء .
ومعنى قوله : { فِتْنَةٌ } استدراجٌ من الله تعالى وامتحان .
قوله : { قَدْ قَالَهَا } أي قال القولة المذكورة وهي قوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } لأنها كلمة أو جملة من القول وقرئ : قَدْ قَالَهُ أي هذا القول أو الكلام . والمراد بالذين من قبلهم قارون وقومه ، حيث قال : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا } [ القصص : 78 ] وقومه راضُون به فكأنهم قالوها ، ويجوز أن يكون في الأمم الماضية قائلون مثلها .
قوله : { فَمَآ أغنى } يجوز أن يكون « ما » هذه نافية أو استفهامية مؤولة بالنفي وإذا احتجنا إلى تأويلها بالنفي فلنجعلها نافيةً استراحةً من المجاز . ومعنى الآية ما أغنى عنهم الكفر من العذاب شيئاً .
قوله : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي جزاؤها يعني العذاب ، ثم أوعد كفار مكة فقال : { والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } ثم قال : { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين لأن مرجعهم إلى الله - عز وجل- .
قوله : { أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } يعني أو لم يعلموا أن الله هو الذي يبسط الرزق تارة ويقبض أخرى ، ويدل على ذلك أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه فلا بد لذلك من سبب وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق ونرى الجاهل الضعيف في أعظم السّعة وليس ذلك أيضاً لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكريم والسّلْطَان القاهر قد ولد فيها أيضاً عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عَالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان ويولد أيضاً في تلك الساعة عَالم من النبات ، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة علمنا أن الفاعل لذلك هو الله تعالى فصح بهذا البرهان ( العقلي ) القاطع صحة قوله تعالى : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } وقال الشاعر :
4303- فَلاَ السَّعْدُ يَقْضِي بِهِ المُشْتَري ... وَلاَ النَّحْسُ يَقْضِي عَلَيْنَا زُحَلْ
وَلَكِنَّهُ حُكْمُ رَبِّ السَّمَا ... وَقَاضِي القُضَاةِ تَعَالى وَجَلْ
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله ( تعالى ) : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } الآية لما ذكرالوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله ، قيل : في هذه الآية أنواع من المعاني والبينات حسنة منها إقباله عليهم ونداؤهم ومنها إضافتهم إلى الله إضافة تشريف ومنها الالتفات من التكلم إلى الخطاب ، في قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ومنها إضافة الرحمة لأجل أسمائه الحسنى ، ومنها إعادة الظاهر بلفظه في قوله : « إنَّ الله ، ومنها : إبراز الجملة من قوله » إنَّه هُو الغَفُور الرحيم « مؤدكة ب » إنّ « ، وبالفصل ، وبإعادة الصِّفَيَتين اللتين تضمنتهما الآية السابقة .
فصل
روى سعيدُ بْنُ جُبَيْر عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قتلوا وأكثروا فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إن الذين تدعو إليه لحسن إنْ كان لما عَمِلْنَا كفارة فنزلت هذه الآية ، وروى عطاء بن رباح عن ابن عباس أنها نزلت في وَحْشِيّ قاتِل حمزة حين بعث إليه النبيّ- صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فأرسل إليه كيف تدعوني إلى يدنك وأنت تزعم أنه من قتل أو أشرك أو زَنَا { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة } [ الفرقان : 68 ، 69 ] وأنا قد فعلت ذلك كله فأنزل الله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] وَحْشيّ : هذا شرط شديد لَعَلِّي لا أقدر عليه فهل غير ذلك فأنزل الله - عز وجل- : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 116 ] فقال وحشي : أراني بعد في شبهة فلا أدري أيغفر لي أم لا فأنزل الله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } قال وحشي : نعَمْ هذا فجاء وأسلم فقال المسلمون : هذا له خاصة أم للمسلمين عامة » قال : بل للمسلمين عامة .
وروي عن ابن عمر قال : نزلت هذه الآية في عياش بن أبي رَبيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا قد أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافْتَتَنُو وكمنا نقول لا يقبل الله من هؤلاء صرفاً ولا عَدْلاً أبداً ( قوم ) قد أسلموا ثم تركوا دينهم لعذاب فيه ، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيه ثم تركوا دينهم لعذاب عذبوا فيه ، فأنزل الله هذه الآيات فكتبها عمر بن الخطاب بيده ثم بعث بها إلى عبياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا . واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
فصل
دلت هذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر لأن عرف القرآن جارٍ بتخصيص اسم العباد بالمؤمنين قال تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] وقال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله }
[ الإنسان : 6 ] وإذا كان لفظ العبد مذكوراً في معرض التعظيم وجب أن لا يقع إلا على المؤمنين وإذا ثبت هذا ظهر أن قوله : { ياعبادي } مختص بالمؤمنين ، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله وأما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد الللات وعبد العُزى ( وعبد المسيح ) وإذا ثبت ذلك فقوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } عام في جميع المسرفين ، ثم قال : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } وهذا يقتضي كونه غافراً لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين وهو المَطْلُوبُ .
فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا لَزِمَ القطع بكون الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به فسقط الاستدلال ، وأيضاً فإنه تعالى قل عقيب هذه الآية { وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب } الآية ، ولو كان المراد من الآية أنه تعالى يغفر الذنوب قطعاً لما أم عقيبه بالتوبة ، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون وأيضاً قال : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله } الآية؛ وأيضاً لو كان المراد منا دل عليه ظاهر الآية لكان ذلك إغراءً بالمعاصي وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى . وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن ( العاصي ) أن لا مخلصَ له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانطٌ جميعاً أي بالتوبة والإنابة .
فالجواب : ( قوله ) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا : بَلَى نحن نقول به لأن صيغة « يَغْفر » للمضارع وهي الاستقبال وعنْدَنا أن الله يُخْرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبير مغفورة له قطعاً إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عينُ مذهبنا وأما قوله : لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة .
فالجواب : أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يُقْطَع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج لاجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم .
وروى مقاتل بن حيَّان عن نافع عن ابْن عُمَر قال : كنا معْشَر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نرى أن نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } [ محمد : 10 ] فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها ( قلنا : قد هلك فأنزل الله هذه الآية فَكَفْفنَا عن القول في ذلك ، فكنما إذا رأينا أحداً أَصاب ) منها شيئاً خِفْنا عليه وإن لم يُصب منها شيئاً رجوْنا له ، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر ( وروي ) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصٌّ ( يقُصُّ ) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مُذكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النا؟ ثُمَّ قرأ : « قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ » وعن أَسْمَاءَ بنتِ يزيد قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
« يَا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( إنا الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي ) » وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « قَال رَجُلٌ لم يعمل خيراً قط لأهله : إذا مات فَحَرِّقُوه ثم ذَرُّوا نِصْفَهُ في البَرّ ونصفَه في البحر فواللِّه لئن قَدَرَ الله عليه ليعدبَنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فَأَمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه وأمر البَرَّ فجمع ما فيه ، ثم قال له : لِمَ فَعَلْتَ هذا قال : مِنَ خشيتك يا رب وأنتَ أعلمُ فَغَفَر لَهُ » . وعن ضَمْضَم بن حَوْشَ ( ب ) قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال : يا يمانيّ تَعضالَ وما أعرفه فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة قلت : ومن أنت يرحمك الله؟ قال : أبو هريرة قال فقلت إن هذه الكملة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه أو لخادمه قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إنَّ رَجُلَيْن كَانَا فِي بني إسرائيل مُتَحَابِّيْنِ أحدهما مجتهدٌ في العبادة والآخرة كأنه يقول : مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال : فيقول خلّني وربي قال : حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيباً فقال : والله لا يغفر لك الله أبداً ولا يدخلك الجنة أبداً قال : فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحها فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ فقال : لا يا رب فقال : اذهبوا به إلى النار » قال أبو هريرة : والَّذِي نفسي بيده ل ( قد ) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته .
قوله عز وجل : { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } .
قوله : { ياعبادي } قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء ، والباقون وعاصم- في بعض الروايات- بغير فتح ، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء .
قوله : { لاَ تَقْنَطُواْ } قرأ أبو عمرو والكِسائي بكسرالنون ، والباقون بفتحها ، وهما لُغَتَان ، قال الزمخشري : وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود « يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمنْ يَشَاءُ » .
قوله : { وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ } قال الزمخشري أي تُوبُوا إليه « وأسْلِمُوا لَهُ » أي وأخلصوا له العمل مِن قَبْلِ أن يأتيكم العَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ .
{ واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } يعني القرآن ، والقرآن كله حسن ، ومعنى الآية ما قال الحسن : الزموا طاعته واجتنبوا معصيته ، فإن ( في ) القرآن ذكرَ القبيح ليجتنبه وذكر الأدْوَن لئلا نرغب فيه ، وذكر الأحسن لنُؤْثِره ، وقيل : الأحسن الناسخ دون المنسوخ ، لقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } [ البقرة : 106 ] .
ثم قال : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } وهذا تهديد وتخويف والمعنى يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه .
واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين أنهم بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون؟ فحكم تعالى عليهم بثلاثة أنواع من الكلام :
فالأول : ( قوله : أَنْ تَقُولَ « ) مفعول من أجله فقدره الزمخشري : كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولَ ، ( وابن عطية : أنيبوا من أجل أن تقول ، وأبو البقاء والحَوْفيّ أَنْذَرْنَاكُمْ مَخَافَةَ أن تقول ) ولا حاجة إلى إضمار هذا العامل مع وجود » أَنِيبُوا « وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثير كقول الأعشى :
4304- وَرُوبَّ بَقيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ ... أَتَّانِي كَرِيمٌ يَنْغضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا
يريد أتاني ( كرام كثيرون لا كريم فَذٌّ لمنافاته المعنى المقصود ، ويجوز أن يريد نفساً متميزة عن الأنفس ) باللجاج الشديد في الكفر والعذاب العظيم .
قوله : { ياحسرتا } العامة على الألف بدلاً من ياء الإضافة ، وعن ابن كثير : يَا حَسْرَتَاه بهاء السكت وَقْفاً وأبو جعفر يَا حَسْرَتي على الأصل وعنه أيضاً : يَا حَسْرَايَ بالألف والياء وفيها وجهان :
أحدهما : لاجمع بين العِوَض والمُعَوَّضِ مِنْهُ .
والثاني : أنه تثنية » حَسْرَة « مضافة لياء المتكلم ، واعترض على هذا بأنه كان ينبغي أن يقال : يَا حَسْرَتَيَّ- بإدغام ياء النصب في ياء الإضافة - وأُجِيبَ : بأنه يجوز أن يكون راعى لغة الحَرْثِ بن كَعْب وغيرهم نحو : رَأَيْتُ الزَّيْدَانِ ، وقيل : الألف بدل من الياء والياء ( بعدها ) مزيدة .
وقيل : الألف مزيدة بين المتضايفين وكلاهما ضعيف .
قوله : » عَلَى مَا فَرَّطت « ما مصدرية أي على تَفْريطي ، وثمَّ مضاف أي في جنب طاعة الله ، وقيل : في جنب الله المراد به الأمر والجِهَةُ يقال : هُوَ في جَنْبِ فُلاَنٍ وَجانِبِهِ أي جِهَتِهِ ونَاحِيَتِهِ قال :
4305- النَّاسُ جَنْبٌ وَالأَمِيرُ جَنْبُ ... وقال آخر :
4306- أفِي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْنِي مَلاَمةً ... سُلَيْمَى لَقَدْ كَانَتْ مَلاَمَتُهَا ثِنَى
ثم استع فيه فقيل : فَرّط في جَنْبِهِ أي في حَقِّه ، قَالَ :
4307- أَمَا تَتَّقِينَ اللًَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ ... لَهُ كَبْدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطّعُ
( فصل )
المعنى : أن تقول نفس يا حسرتي يعني لأن تقول : نفس كقوله : { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] و [ لقمان : 10 ] أي لئَلاَّ تَمِيدَ بكم ، قال المبرد : أي بَادِرُوا وَاحذَرُوا أنْ تَقُولَ نفس ، قال الزجاج : خوفَ أن تصيروا إلى حال تقولون يا حسرتنا يا ندامتا والتحسر الاغْتمَام على ما فات ، وأراد : يا حَسرتي على الإضافة لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة فتقول : ياَ وَيْلَتَا ، ويَا نَدَامَتَا ، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألق ليدل على الإضافة كقراءة أبي جعفر المتقدمة ، وقيل : معنى قوله : { ياحسرتا } أي يا أيَّتُهَا الحَسْرَةُ هذا وَقْتُكِ قال الحسن : قَصَّرْتُ في طاعة الله ، وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير في حق الله ، وقيل : قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله ، والعرب تمي الجنب جانباً؟ز
ثم قال : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } المستهزئون بدين الله ، قال قتادة ولم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل السخر بأهل طاعته ، ومحل » وَإنْ كُنْتُ « النصب على الحال كأنه قال فرطت وأنا ساخر أي فرطت في حال سخْرَتِي .
النوع الثاني من الكلمات لاتي حكاها الله تعالى ( عنهم ) بعد نزول العذاب عليهم قوله : { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين } .
النوع الثالث : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب } عياناً { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } رجعه إلى الدنيا { فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } الموحدين .
فتحسروا أولاً : على التفريط في طاعة الله ، وثانياً : عللوا بفقد الهداية ، وثالثاً : تَمَنوا الرَّجْعَة .
قوله : { فَأَكُونَ } في نصبه وجهان :
أحدهما : عطفه على « كَرَّةً » فإنها مصدر ، فعطف مصدراً مؤولاً على مصدر مصرَّح به كقولها :
4308- لَلْبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عيننِي ... أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْس الشُّفُوف
وقول الآخر :
4309- فما لك منها غير ذكرى وحسرة ... وتسال عن ركبانها أين يمموا
والثاني : أنه منصوب على جواب التمني المفهوم من قوله : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } والفرق بين الوجهين أن الأول يكون فيه الكون مُتَمنَّى ويجوز أن تضمر « أن » وأن تُظْهرَ والثاني يكون فيه الكون مترتباً على حصول المتمني لا متمنِّي ويجب أن تضمر « أن » .
قوله : { بَلَى } حرف جواب وفيما وقعت جواباً له وجهان :
أحدهما : هو نفي مقدر ، قال ابن عطية : وحق « بلى » أن تجيء بعد نفي عليه تقرير ، كأن النفس قال : لم يتسع لي النظر أو لم يبين لي الأمر قال أبو حيان : ليس حقها النفي المقدر بل حقها النفي ثم حمل التقرير عليه ولذلك أجاب بعض العرب النفي المقدر بنعم دون بلى ، وكذا وقع في عبارة سيبويه نفسه .
والثاني : أن التمني المذكور وجوابه متضَمِّنان لنفي الهداية كأنه قال : لم أهتدِ فرد الله عليه ذلك .
قال الزجاج : « بلى » جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل فيه معنى النفي لأنه قوله : « لو أن الله هداني » أنه ما هداني فلا جرم حسن ذكر « بلى » بعده .
قال الزمخشري : فإن قلت : هلا قرن الجواب بينهما بما هو جواب له وهو قوله : لو أن اله هداني ولم يفصل بينهما قلت : لأنه لا يخلوا إمّا أن يقدم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن ، وإما أن يؤخر القرينة الوسطى فلم يحسن الأول لما فيه من تغير النظم بالجمع بين القراءتين ، وأما الثاني فلِما فيه من نقض الترتيب وهو التحسر على التفريق في الطاعة ثم التعلل بفقد الهداية ثم تمنِّي الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب .
قوله : { جَآءَتْكَ } قرأ العامة بفتح الكاف « فَكَذَّبْتَ وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ » بفتح التاء خطاباً للكافرين دون النفس . وقرأ الجَحْدَريُّ وأبو حَيْوَة وابنُ يَعْمُرَ والشافعيُّ عن ابن كثير وروتها أم سملة عنه - عليه ( الصلاة و ) السلام- بها قرأ أبُو بكر وابنتُه عائشةُ- رضي الله عنهما- بكسر الكاف والتاء؛ خطاباً للنفس والحَسَنُ والأعرجُ والأعمشُ « جَأتْكَ » بوزن « جَعَتْكَ » بهمزة دون ألف؛ فيحتمل أن يكون قصراً كقراءة قُنْبُل { أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 7 ] وأن يكون في الكلمة قلبٌ بأن قُدّمتِ اللام على العين فالتقى ساكنان ، فحذفت الألف لالتقائهما نحو : رُمْتُ وغُزْت ، ومعنى الآية يقال لهذا القائل : بَلَى قَدْ جَاءتُكَ آيَاتِي يعني القرآن « فكذبت » وقلت ليست من الله واستكبرت أي تكبرت عن الإيمان بها وكنت من الكافرين .
قوله : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } العامة على رفع { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } وهي جملة من مبتدأ وخبر ، وفي محلها وجهان :
أحدهما : النصب على الحال من الموصول لأن الرؤية بصرية ، وكذا أعربها الزمخشري ومنْ مذهبه أنه لا يجوز إسقاط الواو من مثلها إلا شاذاً تابعاً في ذلك الفراء ، فهذا رجوع منع عن ذلك .
والثاني : أنها في محل نصب مفعولاً ثانياً ، لأن الرؤية قلبية وهي بعيد لأن تعلق الرؤية البصرية بالأجسام وألوانها أظهر من تعلق القلبية بهما ، وقرئ : « وُجُوهَُمْ مُسْوَدَّةً » بنصبهما على أن « وجوهم » بدل بعض من « كل » ، و « مسودة » على ما تقدم من النصب على الحال أو على المفعول الثاني .
وقال أبو البقاء : ولو قرئ وجوهم بالنصب لكان على بدل الاشتمال ، قال شهاب الدين : قد قرئ به والحمد لله ولكن ليس كما قال : على بدل الاشتمال بل على بدل البعض ، وكأنه سبقُ لسانٍ أو طُغْيَانُ قَلَم . وقرأ أبيّ أُجُوهُهُمْ بقلب الواو همزةً وهو فصيح نحو : { أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] وبابه ، وقوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } عن الإيمان .
قوله : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ } قرأ الأَخوان وأبو بكر بمَفازَتهم جمعاً لمَّا اختفت أنواع المصدر جُمْعَ كقوله تعالى : { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] ، ولأن لكل متق نوعاً آخر من المفازة ، والباقون بالإفراد على الأصل .
وقيل : ثم مضاف محذوف أي بدَوَاعِي مفازتهم أو بأسبابها . والمفازَةُ المنجاة ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك ، وإذ المراد بالمفازة الفلاح . قال البغوي : لأن المفَازَةَ بمعنى الفَوْز أي يُنَجِّيهم بفوزهم من النار بأعمالهم الحسنة . وقال المبرد : المَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ من الفَوْز والجمع حَسَنٌ كالسَّعَادَة والسَّعَادَاتِ .
قوله : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء } يجوز أن تكون هذه الجملة مفسرة لمفازتهم كأنه قيل : وما مفازتهم؟ فقيل : « لا يمسهم السوء » فلا محل لهان ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من « الَّذِينَ اتَّقوا » .
ومعنى الكلام لا يصيبهم مكروهٌ ولا هم يحزنون .
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
قوله تعالى : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } الآية تقدم الكلام على هذه الآية في الأنعام وأنها تدل على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى ، وقال الكعبي هنا : إن الله تعالى مدح نفسه بقوله : { الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح احتجاج المخالف به ، وأيضاً فلفظة « كل » قد لا توجب العمم لقوله تعالى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [ النمل : 23 ] يريد كل شيء يحتاج الملك إليه أيضاً لو كانت أعمال العباد من خلق اله لما أضافها إليهم بقوله : { كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] ولما صح قوله تعالى : { وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } [ آل عمران : 78 ] وقال الجبائي الله خالق كل شيء سوى أفعال خلقه لله لما جاز ذلك فيها الأمر والنهي ، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً التي صح فيها الأمر والنهي ، واستحقوا بها الثواب والعقاب ولو كانت أفعالهم خلقاً لله لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز في ألوانهم وصورهم ، وقال أبو مسلم : الخلق هو التقدير لا الإيجاد ، فإذا أخبر الله أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل فصح أن يقال : إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجود له ، والجواب عن هذه الوجوه تقدم في سورة الأنعام ، وأما قوله : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير مشارك ، وهذا أيضاً يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى لأن فعل العبد لو وقع بخلق العبد لكان الفعل غير موكول إلى الله تعالى فلم يكن الله وكيلاً عليه ينافي عموم الآية .
قوله : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } « له مقاليد » جملة مستأنفة ، والمقاليد جمع مِقْلاَد أو مقْليد ، ولا واحد له من لفظه كأساطير وإخوته ، ويقال أيضاً إقليد وهي المفاتيح ، والكلمة فارسية معربة . وفي هذا الكلام استعارة بديعة نحو قولك : بيد فلان مفتاح هذا الأمر ، وليس ثم مفتاح ، وإنما هو عبارة عن شدة تمكنه من ذلك الشيء .
قال الزمخشري : قيل سأل عثمانُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن تفسير قوله : « له مقاليد السموات والأرض » فقال : يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك تفسيرها لا إله إلا الله ، والله أكبر وسبحان الله وبحمده ( و ) أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وهو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير .
وقال قتادة ومقاتل : مفاتيح السموات والأرض بالرزق والرحمة ، وقال الكلبي خزائن المطر والنبات .
قوله : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون } وهذا يقتضي أنه لا خاسر إلا الكافر وأن من لم يكن كافراً فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله قال الزمخشري : فإن قلت : بِمَ اتصل قوله « والذين كفروا بآيات الله » بقوله « له مقاليد السموات والأرض » ؟ قلت : إنه اتصل بقوله :
{ وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا } [ الزمر : 16 ] أي ينجي الله المتقين بمفازتهم ، والذين كفروا هم الخَاسِرون واعترض ما بينهما أنه خالق الأشياء كلها وأنه له مقاليد السموات والأرض .
قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيف من وجهين :
الأول : أن قوع الفصل الكثير بين المعطوف عليه بعيد .
الثاني : أن قوله : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا } [ الزمر : 61 ] وقوله : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله أولئك هُمُ الخاسرون } جملة اسمية وعطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية لا يجوز .
قال شهاب الدين : وهذا الاعتراض معترض إذ لا مانع من ذلك .
ثم قال ابن الخطيب : بل الأقرب عند أن يقال : إنه لما وصف الله تعالى بصفات الإليهة والجلالة وهو كونه مالكاً لمقاليد السموات والأرض بأسرها قال بعده : « والذين كفروا بآيات الله » الظاهرة الباهرة هم الخاسرون .
قوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أن « غير » منصوب « بأعبد » و « أعبد » معمول « لتأمروني » على إضمار « أنْ » المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها وهو أحد الوجهين والأصل أفَتَأمُرُونِي بأن أعْبُدَ غير الله ثم قدم مفعول « أعبد » على « تأمروني » العامل في عامله ، وقد ضعف بعضهم هذا بأنه يلزم منه تقديم معمول الصلة على الموصول ، وذلك أن « غير » منصوب « بأعبد » و « أعبد » صلة « لأن » وهذا لايجوز .
وهذا الرد ليس بشيء لأن الموصول لما حذف لم يراع حكمه فيما ذكر بل إنما يراعى معناه لتصحيح الكلام .
قال أبو البقاء : لو حكمناه بذلك لأفضى إلى حذف الموصول وإبقاء صلته وذلك لا يجوز إلاَّ في ضروة شعر .
وهذا الذي ذكر فيه نَظَرٌ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ « بأَنْ » دون سائر الموصولات وهو أنها تحذف ويبقى صلتها وهو منقاس عند البصريين في مواضع تحذف ويبقى علمها وفي غيرها إذا حذفت لا يبقى علمها إلى في ضرورة أو قليل ، وينشد بالوجهين ( قوله ) :
4310- أَلاَ أَيُّهَذَا الزَّاجِري أَحْضُرُ الوَعَى ... وأَنْ أَشْهَدَ اللذَّاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي
ويدل على إرادة « أن » في الأصل قراءة بعضهم : « أَعْبُدَ » بنصب الفعل اعتداداً بأن .
الثاني : أن « غَيْر » منصوب « بتَأْمُرُونيِّ » و « أَعْبُد » بدل منه بدل اشتمال ، و « أَنْ » مضمرة معه أيضاً .
والتقدير : أفغَيْر اللَّه تأمرونِّي في عبادته ، والمعنى : أفتأمرون بعبادة غير الله .
الثالث : أنها منصوبة بفعل مقدر ( تقديره ) فتُلْزِمُوني غير الله أي عبادة غير الله ، وقدره الزمخشري تعبدون ( ي ) وتقولون لي أعبده ، والأصل : تأمُرُونَيي أن أعبد ( فحذفت ) أن ، ورفع الفعل ، ألا ترى أنك تقول : أفغير الله تَقُولُون لي أعْبُدُهُ ، وأفغير الله تقولون لي أعبد ، فكذلك ، أفغير الله تقولون لي أن أعبُدَهُ ، وأفغير الله تَأمُرُونِّي أَنْ أَعْبُدَ .
والدليل على صحة هذا الوجه قراءة من قرأ « أَعْبُدَ » بالنصب ، وأما « أعبد » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه مع « أن » المضمرة في محصل نصب على البدل من « إير ، وقد تقدم .
الثاني : أنه في محل نصب على الحال .
الثالث : أنه لا محل له ألتة .
قوله : { تأمرونيا } قرأ الجمهور » تَأمُرونِّي « بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وفتح الياءَ ابن كثير ، وأرسلها الباقون ، وقرأ نافع » تأمُرُونِيَ « بنون خفيفة وفتح الياء وابنُ عامر تأمرونَنِي بالفك وسكون الياء ، وقد تقدم في سورة الأنعام ، والحِجْر ، وغيرهما أنه متى اجتمع نون الرفع مع نون الوقاية جاز ذلك أوجه وتقدم تحقيق الخلاف في أيتهما المحذوفة .
قال مقاتل : وذلك حين قاله له المشركون : دَعْ دينك واتبع دين آبائك ونؤمن بإلَهك ، ونظير هذه الآية : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً } [ الأنعام : 14 ] وتقدم في تلك الآية وجه الحكمة في تقدم المفعول ووصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقاً للأشياء كلها وبكونه له مقاليد السموات والأرض وكون هذه الأصنام جمادات لا تَضُرُّ ولا تنفع فمن أعْرَض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات المقدسة الشريقة واشتغل بعبادة الأصنام الخَسيسَة فقد بلغ في الجهل مبلغاً لا مزيدة عليه ، فلهذا قال : { أَيُّهَا الجاهلون } .
قوله : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الذي عملت قبل الشرك ، واعلم أن الظاهر ( أن ) قوله » لَئِنْ أَشْرَكْتَ « هذه الجملة هي القائمة مقام الفاعل لأنها هي الموحاة وأصول البصريين تأبى ذلك ، ويقدرون أن القائم مقامه ضمير المصدرلأن الجملة لا تكون فاعلاً عندهم والقائم هنا مقام الفاعل الجار والمجرور وهو » إليكَ « وقرئ ليُحْبِطنَّ- بضم الياء وكسر الباء- أي الله ولنُحْبطَنًَّ بنون العظمة ( وليُحْبَطَنّ ) على البناء للمفعول و » عملك « مفعول به على القراءتين الأوليين ومرفوع على الثالثة لقيامه مقام الفاعل .
قال ابن الخطيب : واللام الأولى موطئة للقسم المحذوف والثانية لام الجواب .
فإن قيل : كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ .
فالجواب : تقرير الآية أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك وإلى الذين من قبلك مثله أي أوحي ( إليك ) وإلى كل أحد منهم لئن أشركت كما تقول : كَسَانَا حُلّة : أي كل واحد منا .
فإن قيل : كيف صَحَّ هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم .
فالجواب : أن قوله : » لَئن أشركت ليحبطن عملك « قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم ( من ) صدقها صدق جزئيها ألا ترى قولك : لَوْ كَانت الخَمْسة زوجاً لكانت منقسمة بمتساويين قضية صادقة مع أن كل واحد مِنْ جزئيتها غير صادق .
قال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] . ولم ييلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وأنهما قد فسدتا ، قال المفسرون : هذا خطاب مع الرسول- صلى الله عليه وسلم - والمراد منه غيره ، وقيل : هذا أدب من الله لنبيه وتهديده لغيره ، لأن الله تعالى- عز وجل- عصمه من الشركن وقوله : { وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } قال ابن الخطيب : كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات } [ الإسراء : 75 ] فكان المعنى أن الشرك الحاصل منه بتقدير حصوله منه يكون تأثيره في غضب الله تعالى أقوى وأعظم .
قوله : { بَلِ الله فاعبد } الجلالة منصوبة ب « اعْبُدْ » وتقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة ، وجعله الزمخشري جواب شرط مقدر أي إن كنت عاقلاً فاعْبُدٍ اللَّهِ ، فحذف الشرط ، وجعل تقديم المفعول عوضاً لجمع بين العِوَض والمُعَوَّض عنه وقرأ عيسى بَل اللَّهُ - رفعاً - على الابتداء ، والعائد محذوف أي فَاعْبُدْهُ .
فصل
لما قال الله تعالى : « قل أفغير الله تأمروني أعبد » يفيد أنهم أمروه بعبادة غيرالله فقال الله تعالى له لا تعبد إلا الله ، فإن قوله « بَل اللَّهَ فَاعْبُدْ ) يفيد الحصر » وَكُنْ مِن الشَّاكِرِينَ « لإنعامه عليك بالهِدَايَةِ .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قوله : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } قرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى قَدَّرُوا بتشديد الدال حَقَّ قَدْرِهِ بفتح الدال ، وافقهم الأعمش على فتح الدال من « قَدَرِهِ » والمعنى وما عظمه حق عظمته حين أشركوا به غيره .
قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال أي ما عظموه حق تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة ، كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] أي ( كيف ) تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه كذا و « جميعاً » حال وهي دالة على أن المراد بالأرض الأرضون فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع قال ابن الخطيب : ونظيره قوله تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ } [ آل عمران : 93 ] وقوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] وقوله : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] ولأن الموضع موضع تفخيم ولعطف الجمع عليها ( والعامل ) في هذه الحال ما دل عليه « قَبْضَتُهُ » ، ( ولا يجوز أن يعمل فيها « قَبْضَتُهُ » ) سواء جعلته مصدراً؛ لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله أم مراداً به المقدار قال الزمخشري : ومع القصد إلى الجمع « يعني في الأرض » فإنه أريدَ به الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكده قبل مجيء الخبر ليعلم أول الأمر أن ا لخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة ولكن عن الأرض كلها .
وقال أبو البقاء : و « جَمِيعاً » حال من الأرض ، والتقدير : إذا كانت مجتمعةً قَبْضتُهُ أي مقبوضةً ، فالعامل في « إذا » المصدر ، لأنه بمعنى المفعول ، وقال أبو علي في الحدة : التقدير : « ذَاتُ قَبْضَتِهِ » وقد رد عليه ذلك بأن المضاف إلَيْه لا يعْمَلُ فيما قبله ، وهذا لا يصحُّ لن الآن غير مضاف إليه ، وبعد حذف المضاف لا يبقى حكمه انتهى وهو كلام فيه إشكال؛ إذ لا حاجة إلى تقدير العامل في « إِذ » التي لم يلفظ بها .
وقوله : { قَبْضَتُهُ } إنْ قَدَّرْنَا مضافاً- كما قال الفارسيُّ أي ذاتُ قبضته- لم يكن فيه وقوع المصدر موقع « مفعول » وإن لم يُقَدَّر ذلك احتمل أن يكون المصدر واقعاً موقعه ، وحينئذ يقال : كيف أنّث المصدر الواقع موقع مفعول وهو غير جائز؟! لا يقال : حُلّة نَسْجَةُ اليَمَن بل نَسْجُ اليَمن أي مَنْسُوجُه .
والجواب : أن الممتنع دخول التاء الدال على التحديد وهذه المجرد التأنيث . كذا أجيب . وليس بذاك فإن المعنى على التحديد لأنه أبلغ في القدرة ، واحتمل أن يكون أريد بالمصدر مقدار ( ذلك ) ( التحديد ) .
والقَبْضَةُ - بالفتح - المَرَّة ، وبالضم اسم المقبوض كالغُرْفَة والغَرْفَة ، قال تعالى : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } [ طه : 96 ] .
والعامة على رفع « قبضته » والحسن ينصبها وخرَّجها ابن خالويه وجماعة على النصب على الظرفية أي « ( في ) قَبْضَتِهِ » .
ورد هذا بأنه ظرف مختص فلا بد من وجود « في » وهذا هو رأي البصريين ، وأما الكوفيون فهو جائز عندهم إذ يجيزون : زَيْدٌ دَارَك- بالنصب- أي في دَارك ، وقال الزمخشري : جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم ، فوافق الكوفيِّين .
قوله : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ } العامة على رفع « مَطْوِيَّات » خبراً ، و « بِيَميِنِهِ » فيه أوجه :
أحدهما : أنه متعلق « بمطويات » .
الثاني : أنه حال من الضمير في « مَطْوِيَّاتٍ » .
الثالث : أنه خبر ثان ، وعيسى والجحْدري نصباها حالاً واستدل بها الأخفش على جواز تقديم الحال إذا كان العامل فيها حرف جر نحو : زَيْدٌ قائِمٌ في الدار وهذه لا حجة فيها لإمكان تخريجها على وجهين :
أظهرهما : أن يكون « السموات » نسقاً على الأرض ويكون قد أخبر عن الأرضين والسموات بأن الجميع قبضته ويكون « مطويات » حالاً من السموات ، كما كان جميعاً حالاً من الأرض و « بيمينه » متعلق « بمِطْوِيَاتٍ » .
والثاني : أن يكون « مطويات » منصوباً بفعل مقدر و « بِيَمِيِنِهِ » الخبر ، و « مَطْوِيَّات » وعالمه جملة معترضة وهو ضعيف .
( فصل
لما حكمى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد سواه بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له في العبودية فقال : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموا الله حقَّ عظمته فقال : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } وروى البخاري أن حَبْراً من الأحْبَار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على أصبع والأرضين على أصبح والماء والثرى على أصبح وسائر الخالق على أصبع ، ويقول : أنا الملك فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نَوَاجِذُهُ تصديقاً لقوله الحَبْر ثم قرأ : « وَمَا قَدَرُوا اله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة » وروى مسلم قال : والجبالُ والشجرُ على إصبح وقال : ثم يهزّهُنَّ فيقول : أنا المَلِكُ أنَا الله وروى شبيةُ عن ابن أبي شَيْبَىَ بإسناده عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « يَطْوِي الله السَّمَوَاتِ يَوْمَ القِيَامَةِ ثُمَّ يَأخُذُهُنَّ بِيَدِهِ اليُمْنَى ثم يقال : أَنَا المَلِكُ أيْنَ الجَبَّارُونَ أيْنَ المُتَكَبِّرُون » ولما بين سبحانه وتعالى عظمته قال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
فصل
قال ابن الخطيب : وههنا سؤالات :
الأول : أن العرض أعظم من السموات السبع ، والأرضين السبع ، ثم إنه تعالى قال في صفة العرش : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ }
[ الحاقة : 17 ] فإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين للعرش العظيم فيكف يجوز تقرير عظمته الله عز وجل بكونه حاملاً للسموات والأرض؟!
السؤال الثاني : قوله تعالى : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } شرح حالاً لا يحصل إلا في القيامة والقوم ما شاهدوا ذلك فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم مقرون بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء لله فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم وإن كان الخطاب مع المكذبين في النبوة فهم ينكرون قوله : « والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة » فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟ .
السؤال الثالث : حاصل القول بالقبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة فكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدر الله تعالى فكذلك الآن فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟ .
والجواب عن الأول : أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادراً على حفظ هذه الأجسام العظيمة كما أن حفضَها وإمساكها يوم القيامة عظيم ، ثم بعده تقرير عظمته بكون قادراً على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش .
والجواب : عن الثاني : أن المقصود منه أن المتولي لإبقاء السموات والأَرَضِين من وجوه العِمَارة في هذا الوقت هو المتولي لتخريبها وإبقائها يوم القيامة وذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام ويدل أيضاً على كونه قادراً غنياً على الإطلاق فإنه يدل على أنه حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض صغيرة ، وذلك يدل على كمال الاستغناء .
والجواب : عن الثالث : أنه إنما خصص تلك الحالة بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا يظهر كمال قدرته في الإعدام عند خراب الدنيا والله أعلم .
قوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } العامة على سكون الواو ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمع « صُورَة » وهذه ترد قول ابن عطية أن الصور هنا يتعين أن يكون القرن ، ولا يجوز أن يكون جمع صورة وقرئ : فصعق- مبنياً للمفعول- وهو مأخوذ من قوله : « صَعَقَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ ، يال : صَعَقَةُ الله فَصُعِقَ .
قوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } ( استثناء ) متصل ، والمستثنى إما جبريل وميكائيل وإسرافيل : وإما رِضْوَان والحور والزبانية ، وإما البارئ تعالى ، قاله الحسن وفيه نظر من حيث قوله { مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } فإنه لا يتحيز فعلى هذا يتعين أن يكون منقطعاً .
قوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } يجوز أن يكون » أخرى « هي القائمة مقام الفاعل وهي في الأصل صفة لمصدر محذوف أي نفخ فيه نفخة أخرى ويؤيده التصريح بذلك في قوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] فصرح بإقامة المصدر ويجوزُ أن يكون القائم مقامه الجارّ ، و » أُخْرَى « منصوبة على ما تقدم .
قوله : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } العامة على رفع » قيام « خبراً ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ نصبه حالاً ، وفيه حنيئذ أوجه :
أحدهما : أن الخبر » ينظرون « وهو العامل في هذه الحال أي فإذا هُمْ يَنْظُرُونَ قِيَاماً .
والثاني : أن العامل في الحال ما عمل في « إذا » الفجائية إذا كانت ظرفاً . فإن كانت مكانية- كما قال سيبويه - فالتقدير فبِالحَضْرة هُمْ قياماً ، وإن كان زمانية كقول الرّمَّانِي فتقديره : فَفِي ذلكَ الزمان هُمْ قياماً أي وجودهم ، وإنما احتيجَ إلى تقدير مضاف في هذا الوجه لأنه لا يخبر بالزمان عن الجُثث .
الثالث : أن الخبر محذوف هو العامل في الحال أي فإذا هم مبعوثُون أو مجموعون قياماً ، وإذا جعلنا الفجائية حرفاً كقول بعضهم فالعامل في الحال إما « ينظرون » ، وإمّا الخبر المقدر كما تقدم تحقيقهما .
فصل
لما ذكر كمال قدرته وعظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريق آخر يدل أيضاً على كمال عظمته وهو شرح مقدمات يوم القيامة ، لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم ، فقال : { وَنُفِخَ فِي الصور } الآية .
اختلفوا في الصعقة فقيل : إنها غير الموت لقوله تعالى في موسى - عليه ( الصلاة و ) السلام ) - : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } [ الأعراف : 143 ] وهو لم يمت فهذه النفخة تورث الفزغ الشديد وعلى هذا فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد وهو المذكور في سورة النمل في قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ النمل : 87 ] وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين . وقيل : الصعقة عبارة عن الموت ، والقائلون بهذا قالوا : المراد بالفزع أي كادوا يموتون من الفزع وشدة الصوت ، وعلى هذا التقدري فالنخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة ، وقوله : { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } قال ابن عباس : نفخة الصعق يموت من في السموات ومن في الأرض إلا جبريل وميكائيل وإسرافيل : وَيبْقَى جبريل وملك الموت ، ثم يموت عزرائيل ثم يموت ملك الموت ، وقيل : المستثنى هم الشهداء لقوله تعالى : { بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] وروى أبو هريرة عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « هُمُ الشَّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أسْيَافَهُمْ حَوْلَ العَرْشِ » وقال جابر : هو موسى- صلى الله عليه وسلم - لأنه صُعِقَ ، ولا يصعق .
وقيل : هم الحور العين وسكان العرش والكرسي ، وقال قتادة : الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم .
ثم قال : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولة لأن لفظة « ثم » للتراخي . وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْن أربعون » ، قالوا : أرْبَعون يَوْماً قال : أبَيْتُ قالوا : أربعون شهراً قال : أبيت قالوا أربعون سنةً ، قال : أبيت قال : ثم ينزل الله من السماء ماءً فتَنْبتُونَ كما ينبت البَقْلُ ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلاّ عظمٌ واحد وهو عَجبُ الذَّنَب ، وفيه يركب الخلق يوم القيامة « .
وقوله : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } يعني أن قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله : « فإذا هم » يدلّ على التعقيب ، وقوله « يَنْظُرون » أي يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم ، وقيل : ينظرون ماذا يفعل بهم ، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لأجل استيلاء الحَيْرة والدهشة عليهم .
قوله : { وَأَشْرَقَتِ الأرض } العامة على بنائه للفاعل ، وابن عباس وأبو الجَوْزاء .
وعُبَيدُ بنُ عُمَير ، عل بنائه للمفعول وهو منقول بالهمزة من شَرقَتْ إذا طلعت ، وليس من أشْرقَتْ بمعنى أضاءت لأن ذلك لازمٌ وجعله ابن عطيّة مثل رَجَعَ ورجَعْتُهُ ، وَوَقَفَ وَوَقَفْتُهُ فيكون أشرق لازماً ومتعدياً .
فصل
هذه الأرض عَرْصة القيامة وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] وقوله : { بِنُورِ رَبِّهَا } أي خالقها يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه ، وقال الحسن والسدي : بنور ربها أي بعدل ربها قال عليه ( الصلاة و ) السلام : « إنَّكُمْ سَتَروْنَ رَبَّكُمْ » وقال : « كما لا تُضَارُّونَ فِي الشَّمْس في اليَوْم الصَّحْو » وقوله : { وَوُضِعَ الكتاب } أي كتاب الأعمال لقوله : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] وقوله : { مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ .
وقوله : { وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } قال ابن عباس : يعين الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال عطاء ومقاتل : يعني الحَفَظَة لقوله تعالى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] وقي : أراد بالشهداء : المستشهدون في سبيل الله .
ثم قال : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق } أي بالعدل { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي يُزادون في سيئاتهم ولا يُنْقَصُ من حسناتهم « ووفِّيت كُلّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ » أن ثُوَابَ مَا عَمِلْتْ : واعلم أنه تعالى لما بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات :
أولها : قوله تعالى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق } .
وثانيها : قوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .
وثالثها : قوله تعالى : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } .
واربعها : قوله تعالى : { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } يعني أنه ( إن ) لم يكن عالماً بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي ( إلا ) بالحق لأجل عدم العلم أما إذا كان عالماً بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ عليه ، والمقصود من الآية المبالغة في تَقْرير أن كل مؤمن فإنه يصل إلى حقه ، قال عطاء يريد أنّي عالم بأفعالهم لا أحتاج إلى كاتب ولا شاهد .
قوله : { وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً } لما شرح أحوال أهل القيامة على سبل الإجمال وقال : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } بين بعده كيفية أحوال العقاب ثم كيفية أحوال الثواب ، فأما شرحُ أحوال العقاب فهو هذه الآية وهذا السَّوْق يكون بالعُنُق والدفع بدليل قوله تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] أي يدفعون دفعاص ، وقوله : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] .
قوله : { زُمَراً } و « زُمَرٌ » جمع « زُمْرة » وهي الجماعات في تفرقة بعضها في إثر بعض ، و « تَزَمَّرُوا » تجمعوا قال :
4311- حَتَّى احْزَأَلَّتْ زمُرٌ بَعْدَ زُمَرْ ... هذا قول أبي عبيد ( ة ) والأخفش ، وقال الراغب : الزُّمْرة الجماعة القليلة ، ومنه شاة زمرة أي قليلة الشعر ، ورجل زَمِرٌ أي قليل المروءة ، وزَمَرَت النَّعَامَةُ تَزْمُر زَمَاراً ومنه اشتق الزّمر . والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة .
قوله : { حتى إِذَا } تقدم الكلام في « حتى » الداخلة على « إذا » مِرَاراً ، وجواب « إذا » قوله : فتحت . وتقدم خلاف القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام .
قوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ } قرأ ابن هُرْمز أَلَمْ تَأْتِكُمْ بتاء التأنيث لتأنيث الجمع ، و « مِنْكُمْ » صفة « الرسل » أو متعلق بالإتْيان و « يَتْلُونَ » صفة أُخْرى ، و « خَالِدينَ » في الموضعين حال مقدرة .
فصل
بين تعالى أنهم يُسَاقُون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابُها ، وهذا يدل على أن أبواب جهنم تكون مغلقة قبل ذلك وإنما تفتح عند وصول الكفار إليها فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنةُ جهنم : ألم يأتكم رسل منكم أي من جنسكم يتلون عليكم آياتِ ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا .
فإن قيل : لِمَ أضيفَ اليوم إليهم؟ .
فالجواب : أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة واستعمال لفظ اليوم ( إليهم ) والأيام في أقوات الشدة مستفيض فعند هذا تقول الكفار « بَلَى » أتونا وتَلَوْا علينا « وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرينَ » أي وجبت كلمة العذاب على الكافرين وهي قوله عزو وجل : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] وهذا صريح في أن السعيد ( لا ينقلب ) شقياً والشقي لا ينقلب سعيداً ، ودلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع لأن الملائكة بينوا أنهم ما بقي لهم عُذرٌ ولا علة بعد مجيء الأنبياء - عليهم ( الصلاة و ) السلام- ، ( ولو ) لم يكن مجيء الأنبياء شرطاً في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدةٌ .
ثم إنَّ إذا سَمِعُوا منهم هذا الكلام قالوا : لهم ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّم خَالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبرينَ .
( قال المعتزلة : لو كان دخولهم النار لأجل أنهم حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقوله الملائكة : { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } فائدة ، وأجيبوا بأن ( هذا ) الكلام إنما يبقى مفيداً إذا قلنا : إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم ولم يلتفتوا إلى دلائلهم ، وذلك يدل على صحة قولنا .
والله أعلمْ .
قوله : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً } .
فإن قِيلَ : السَّوْقُ في أهل النار معقول لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب لا بد وأن يُسَاقُوا إليه ، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع السعادة والراحة فأيُّ حادة فيه إلى السَّوْق؟! .
فالجواب : من وجوه :
الأول : أن لامحبة و لاصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبَّائِي وأصدقائي فيتأخرونَ لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السَّوق إلى الجنة .
والثاني : أن المتقين قد عبدوا الله لا للجنة ولا للنار فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال مانِعاً لهم من الرغبة في الجنة فلا جَرَمَ يحتاجون إلى أن يُسَاقُوا إلى الجنة .
والثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أكثر أهل الجنة البُلْهُ » فلهذا السبب يساقون إلى الجنة .
الرابع : أن أهل النار وأهلا لجنة يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهَوَان والشدّة كما يفعل بالأسير الذي يساق إلى الحبس والقتل ، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يُذْهب بهم إلا رَاكِبينَ ، والمراد بذلك لاسوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرّضوان كما يفعل بمن يكرم من الوافدين إلى الملوك فشتان ما بين السَّوْقَتْينِ .
قوله : « حتى إذا جاءوها وَفُتِحَتْ » في جواب « إذا » ثلاثة أوجه :
أحدهما : قوله : { وَفُتِحَتْ } والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش وإنّما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجن تكون مغلقةً إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فيفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتحت انتظاراً لمن يدخلها فعلى ذلك أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } [ ص : 50 ] فلذلك جيء بالواو فكأنه قيل : حتى إذا جاؤوها وقود فتحت أبوابها .
والثاني : أن الجواب قوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } على زيادة الواو أيضاً أي حتى إذا جاءوها قال لهم خزنتها .
والثالث : أن الجواب محذوف قال الزمخشري : وحقه أن يقدر بعدك « خَالِدين » انتهى يعين لأنه يجيء بعد متعلقات الشرط وما عطف عليه ، والتقدير : اطْمَأَنُوا وقدره المبرد : سُعِدُوا ، وعلى هذين الوجهين فتكون الجملة من قوله : « وَفُتِحَتْ » في محل نصب على الحال . وق البغوي : قال الزجاج : القول عندي أن الجواب محذوف تقديره : حَتَّى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادْخُلُوها خالدين « دخلوها » .
فحذف « دَخَلُوهَا » لدلالة لاكلام عليه ، وسمى بعضهم الواو في قوله « وفتحت » واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله : { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقيل : تقديره : حتى إذا جاءوها ( جاءوها ) فوتحت أبوابها يعني أن الجواب بلفظ الشرط ، ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صَحَّ .
قوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها } يريد أن خزنة الجنة يسلمون عليم ويقولون : طبتم قال ابن عباس : طاب لكم المقام . وقال قتادة : إنهم إذا قطعوا النار حُبسُوا على قَنْطَرة بين الجنة والنار فيقتص بعضهم من بعد حتى إذا هذبوا وطيبوا أُدْخِلُوا الجنة فيقول لهم رضوان وأصحابه : سَلاَمٌ عليكم طبتم فادخلوها خالدين .
وروي عن علي قال : سيقوا إلى الجنة فإذا انتهوا إليها وجدوا عند بابها شجرةً يخرج من تحت ساقها عَيْنَانِ فيغتسل المؤمن من إِحْدَايْهِما فيطهر ظاهره ويشرب منه الأخرى فيطهر باطنه وتتلقاهم الملائكة على أبواب الجنة يقولون : « سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ » فعند ذلك يقول المتقون : الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض أي أرض الجنة وهو قوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] .
قوله : « نَتَبَوَّأُ » جملة حالية و « حَيْثُ » مفعلو به ، ويجوز أن تكون ظرفاً على بابها ، وهو الظاهر ، قال ابن الخطيب : إنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجوه :
الأول : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم- عليه ( الصلاة و ) السلام- لأنه تعالى قال : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } [ البقرة : 35 ] فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سبباً للإرث .
الثاني : أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل : هذا الذي أورث كذا وهذا العمل أورث كذا . فلما كانت طاعاتهم قد أفادتهم الجنة لا جَرَمَ قالوا : وأورثنا الأرض ، والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أَوْبَثتِ الجَنَّةَ .
الثالث : أن الوارث يتصرف فيما يرثه كيف يشاء من غير منازع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة حين شاءوا وأرادوا .
فإن قيل : هل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ .
فالجواب : يكون الكل واحد منهم جنة لا يحتاج معها إلى جنة غيره .
ثم قال تعالى : { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } أي ثواب المطيعين ، قال مقاتل : هذا ليس من كلام أهل الجنة بل الله تعالى لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده : { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } .
قوله : { وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } حَافّين جمع حَافِّ : وهو المحدق بالشيء من حَفَتْتُ بالشيء إذا أحَطْتَ به ، قال :
4312- يَحُفُّهُ جَانِبَا نيقٍ وَيُتْبِعُهُ ... مِثْلَ الزّجَاجَةِ لَمْ تَكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ
وهو مأخوذ من الحِفَاف وهو الجانب قال :
4313- لَهُ لَحَظَاتٌ عَنْ جَفَافَيْ سَرِيرِهِ ... إِذَا كَرَّهَا فِيهَا عِقَابٌ وَنَائِلُ
وقال الفراء- وبتعه الزمخشري- ولا واحِدَ لحافّين وكأنهما رأيا أن الواحد لا يكون « حَافًّا » إذ الحفوف هوا لإحداق بالشيء والإحاطة به وهذا لا يتحقق إلا في جمع .
فصل
لما ذكر صفة ( الثواب ) البشر ذكر عقيبه ثواب الملائكة فكما دارُ ثواب المتقين هو الجنة فكذلك دارُ ثواب الملائكة جوانب العرش فقال : { حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } أي محدقين محيطين بالعرش بحافيه أي جوانبه ، قال الليث حَفَّ القَوْمُ بسَيِّدِهِمْ يَحُفُّونَ حَفًّا إِذَا طافوا به .
قوله : { مِنْ حَوْلِ } في « من » وجهان :
أحدهما : وهو قول الأخفش : أنها مزيدة .
والثاني : أنها للابتداء .
وقوله { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } « يسبحون » حال من الضمير في « حافين » ، قيل هذا تسبيح لتذذ لا تسبيح تعبد ، لأن التكليف يزول في ذلك اليوم وهذا يشعر بأن ثوابهم هو عَين ذلك التسبيح .
قوله : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق } هذا الضمير إما للملائكة ، وإما للعباد ( ة ) وَقِيلَ : قضى بين أهل الجنة والنار بالعدل { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } وقيل : إن الملائكة لما قضى بينهم ( بالحق ) قالوا : الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق .
روى أبو أمامة عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( وشرف كرم وبجل ومجد وعظم ) : « مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الزُّمَر لَمْ يَقْطَعِ اللَّهُ رَجَاءَهُ وَأعْطَاهُ ثَوَابَ الخَائِفينَ » وعن عاشئة - رضي الله عنها- قالت : « كان رسول اله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ كُلَّ ليلة بني إِسْرَائِيلَ والزُّمَر » . رواهما الثعلبي في تفسيره . والله ( تعالى ) أعلم .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
قوله تعالى : { حم} كقوله الَمَ وبابه ، وقرأ الأخوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة ( حا ) في السور السبع إمالة محضة ، وورش ، وأبو عمرو بالإمالة بين بين ، والباقون بالفتح ، والعامة على سكون الميم كسائر الحروف المقطعة . وقرأ الزهري برفع الميم على أنه خبر مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ والخبر ما بعدها ، وابن إسحاق وعيسى بفتحها وهي تحتمل وجهين :
أحدهما : أنها منصوبة بفعل مقدر أي اقرأ حم ، وإنما منع من الصرف للعملية والتأنيث ، أو العلمية وشبه العجمة وذلك أنه لس في الأوزان العربية وزن « فاعيل » بخلاف الأعجمية نحو قابيل وهابيل .
والثاني : أنها حركة بناء تخفيفاً كَأَيْنَ وكَيْفَ . وفي احتمال هذه الوجهين ولن الكميت :
4314 وَجَدْنَا لَكُمْ في آلِ حَامِيم آيَةً ... تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ ومُعْرِبُ
وقول شُرَيح بن أوفى :
4315 يُذَكِّرُنِي حَامِيم والرُّمْحُ شَاجِرٌ ... فَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ
وقرأ أبو السَّمَّالِ بكسرها ، وهل يجوز أن يجمع ( حم ) على « حواميم » ونقل ابن الجوزي عن شيخه الجواليقي أنه خطأ وليس بصواب بل الصواب أن تقول قرأت أل حم ، وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذَا وَقَعْتُ فِي آلِ حمَ وَقَعْتُ في رَوْضَاتٍ أَتأَنَّقُ فيهن » وقال سعيد بن إبراهيم : كلّ آل حم يسمين العرائس ، قال الكُمَيْتُ :
4316 وحدنا لكم في آل حاميم . . .. . .
ومنهم من جوزه ، وروي في ذلك أحاديث منها قوله عليه ( الصلاة و ) السلام : « الحَوَامِيمُ دِيبَاجُ القرآن » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « الحواميمُ سبعُ وأبوابٌ جهنَّمَ سبعُ : جهنمُ والحُطَمَةٌ ولَظَى والسعيرُ وسَقَرُ والهاويةُ والجحيمُ فتجيء كل جسم منهم يوم القيامة على باب من هذه الأبواب فتقول لا يدخل النار من كان يؤمن بي ويقرأني » وقوله عليه الصلاة والسلام : « لكل شيء ثمرةٌ وثمرةُ القرآن ذواتُ حم هن روضات حسان مخصبات متجاورات فمن أجب أن يَرْتَعَ في رِيَاضِ الجنة فليقرأ الحواميم » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « الحواميم في القرآن كمثل الحِبَرَاتِ في الثياب » وقال ابن عباس رضي الله عنهما لكل شيء لُباب ولُباب القرآن الحواميمُ .
فإن صحت هذه الأحاديث فهي الفصل في ذلك .
قوله « تَنْزِيلُ » إما خبرٌ ل « حمَ » إن كانت مبتدأ ، وإما خبر لمبتدأ مضمر ، أو مبتدأ وخبره الجار بعده . قال ابن الخطيب : قال « تنزيل » والمراد منه المنزل .
فصل
روي السُّدي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حم اسم الله الأعظم ، وروى عكرمة عنه قال : الم وحم ون حروف الرحمن مقطعة ، وقاله سعيد بن جبير : ( وقال ) عطاء الخراساني : الحاء افتتاح أسمائه حكيم حميد حي حليم حنان ، والميم افتتاح اسمائه ملك مجيد .
قال الضحاك والكسائيّ معناه قضى ما هو كائن كأنهما أشارا إلى أن معناه : حُمَّ ، بضم الحاء وتشديد الميم .
قوله « مِنَ اللهِ » لما ذكر أن حم تنزيل الكتاب وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال : من الله ، ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلالة فقال « العَزِيزِ العَلِيمِ » .
فبين أنه بقدرته وعلمه نزل القرآن الذي يتضمن المصالح والإعجاز ، ولولا كونه عزيزاً عالماً لما صح ذَلك .
قوله تعالى : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } في هذه الأوصاف ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها كلها صفات الجلالة ك العزيز ، والعليم . وإنما جاز وصف المعرفة بهذه وإن كانت إضافتها لفظية لأنه يجوز أن تجعل إضافتها ( معنوية ) فيتعرَّف بالإضافة نص سيبويه على أن كل ما إضافته غير محضة جاز أن يجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة ، ولم يستثن غيره شيئاً وهم الكوفيون يقولون في مثل « حَسَن الوَجْهِ » بأنه يجوز أن تصير إضافته محضة . وعلى هذا فقوله : « شَدِيدِ العِقَابِ » من باب الصفة المشبهة فكيف أجزت جعله صفة للمعرفة وهو لا يتعرف إلا بالإضافة؟
والجواب : إمّا بالتزام مذهب الكوفيين وهو أن الصفة المشبهة يجوز أن تتمخض إضافتها أيضاً فتكون معرفة وإما بأن « شديد » بمعنى مشدد كأَذِين بمعنى « مؤذن » فتتمحض إضافته .
والثاني : أن يكون الكلِ أبْدالاً لأن إضافتها غير محضة قاله الزمخشري ، إلا أن هذا الإبدال بالمشتق قليل جداً إلا أن يهجر فيها جانب الوصفية .
الثالث : أن يكون « غَافِرِ » و « قَابِلِ » نعتَيْنِ و « شَدِيدِ » بدلاً لِمَا تقدم من أن الصفة المشبهة لا تتعرف بالإضافة قاله الزجاج إلا أن الزمخشري قال : جعل الزجاج « شديد العقاب » وحده بدلاً للصفات فيه نُبُوٌّ ظاهر . والوجه أن يقال : لما صُودِفَ بين هذه المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت بأنها كلها أبدال غير أوصاف ، ومثال ذلك قصيدة جاءت تفاعيلها كلها على « مُسْتَفْعِلُن » فهي محكوم عليها بأنها من الرجز ، فإن وقع فيها جزءٌ واحد على « مُتَفَاعِلُن » كانت من الكامل . وناقشه أبو حيان فقال : ولا نُبُوَّ في ذلك؛ لأن الجري على القواعد التي قد استقرت وصحت وهو الأصل . وقوله « فقد آذنت بأن كلها أبدال » تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما ، وليس من كلامهم : لَمَّا قَامَ زَيْدٌ فَقَدْ قَام عَمْرو . وقوله بأنّ كلها أبدال فيه تكرير للأبدال إمّا بدل البَدَاء عند من أثبته فقد تكررت فيه الأبدال ، وإما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال ، فلا نص على أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل لا يكرر وذلك في قول الشاعر :
4317 فَإلَى ابْنِ أُمِّ أُنَاسَ أَرْحَلُ نَاقَتِي ... عَمْرٍو فَتُبْلِغُ حَاجَتِي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذَا نَزَلَ الوُفُودُ ببَابِهِ ... عَرَفُوا مَوَارِدَ مُزْبِدٍ لاَ يُنْزِفُ
قال : « فملك » بدل من « عمرو » بدل نكرة من معرفة ، قال : فإن قلتَ : ألا يكون بدلاً من « أبن أم أناس » قلتُ : لأنه قد أبدل منه « عمراً » فلا يجوز أن يبدل منه مرة أخرى لأنه قد طرح انتهى .
قال أبو حيان : فدل هذا على أن البدل لا يتكرر ويتحد المبدل منه ، ودل على أن البدل من البدل جَائز . قال شهاب الدين : وهذا البحث قد تقدم في قوله { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] فلْيُلْتَفَتْ إليه .
قال : وقوله تفاعيلها هو جمع تِفْعال أو تُفْعُول أو تَفْعِيل وليس شيء منها معدوداً من أجزاء العروض ، فإن أجزاءه مُنْحَصِرَة ليس فيها شيء من هذه الأوزان فصوابه أن يقول : جاءت أجزاؤها كلها مُسْتَفعِلُن .
وقال الزمخشري أيضاً : ولقائل أن يقول هي صفات وإنما حذفت الألف واللام من « شديد » لِيُزَاوجَ ماقبله وما بعده لفظاً فقد غيروا كثيراً من كلامهم عن قوانينه لأجل الإزاج ، قالوا : ما يعرف سَحَادَلَيْهِ من عُنَادَلَيْهِ ، فَثنَّوا ما هو « وَتر » لأجل ما هو « شَفْعٌ » . على أن الخليل قال في قولهم : ما يَحْسُنُ بالرجل ( مِثْلِكَ أنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وما يَحْسُنُ بالرجل ) خير منك أنه على نية الألف واللام كما كان الجَمَّاء الغفير على نية طرح الألف واللام ، ومما سهل ذلك الأمن من اللبس وجهالة الموصوف . قال أبو حيان : ولا ضرورة إلى حذف « آل » من « شديد العقاب » وتشبيهه بنادر مغير وهو تثنية الوَتْر لأجل الشفع فيتنزه كتاب الله عن ذلك .
قال شهاب الدين : أما الازدواج وهو المشاكلة من حيث هو فإنه واقع في القرآن وقد مضى منه مواضع .
وقال الزمخشري أيضاً : ويجوز أن يقال : قد تعمد تنكيره وإبهامه للدلالة على فرط الشِّدَّةِ على ما لا شيء أدْهَى منه وَأَمرّ لزيادة الإنذار . ويجوز أن يقال : هذه النكتة هي الداعية إلى اختيار البدل على الوصف إذا سلكت طريق الإبدال انتهى .
وقال مكي : يجوز في « غافر وقابل » البدل على أنهما نكرتان لا ستقبالهما والوصف على أنهما معرفتان لمُضِيِهِمَا . وقال ابن الخطيب لا نزال في جعل « غافر » صفة ، وإنما كانا كذلك لأنهما يفيدان معنى الدوام والاستمرار فكذلك ( شديد العقاب ) يفيد ذلك لأن صفاته منزهة عن الحدوث والتجدد فمعناه كونه بحيث شديد عقابه ، وهذا المعنى حاصل أبداً لا يصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن قال أبو حيان : وهذا كلام من لم يقف على علم النحو ولا نظر فيه ويلزمه أن يكون « حَكيٍمٌ عَلِيمٌ » و « مَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ » معارف لتنزيه صفاته عن الحدوث والتجدد ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْدُثْ لم تحصل بعد أن لم تكن ويكون تعريف صفاته بأل وتنكيرها سواء ، وهذا لا يقوله مبتدىءٌ في علم النحو بَلْه أن يًصَنّفَ فيه ويقدم على تفسير كتاب الله تعالى .
وقد سُرِدَتْ هذه الصفات كلياً من غير عاطف إلا « قابل التوت » قال بعضهم : وإنما عطف لاجتماعهما وتلازمهما وعدم انفكاك أحدهما عن الآخر وقطع « شديد » عنهما فلم يعطف لانفراده .
قال أبو حيان : وفيه نزعة اعتزالية ، ومذهب أهل السنة جواز الغفران للعاصي وإن لم يتب إلا الشرك . قال شهاب الدين : وما أبعده عن نزعة الاعتزالية . ثم أقول : التلازم لازم من جهة أنه تعالى متى قَبِلَ التوبة فقد غفر الذنبل وهو كَافٍ في التَّلاَزُم .
قال الزمخشري فإن قلتَ : ما بال الواو في قوله : « وَقَابِلِ التَّوْبِ » ؟ قلتُ : فيها نكتة جليلة وهي إفادة الجمع المذنب والتائب بين رحمتين بين أن يقبل توبته فيقبلها فيكتبها له طاعة من الطاعات وإن لم يجعلها مَحَّاءَةً للذنبوب كمن لم يذنب كأنه قال : جامعُ المغفرة والقبول أنتهى .
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبراز هذه المعاني الحسنة قال أبو حيان : وما أكثر تَهَجُّحَ هذا الرجل وشَقْشَقَتَه ، والذي أفاد : أن الواو للجمع وهذا معروف من ظاهر علم النحو . قال شهاب الدين : وقد أنشدني بعضهم رحمه الله :
4318 وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
( وآخر ) :
4319 قَدْ تُنْكِرُ العَيْنُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ ... وَيُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ المَاءِ مِنْ سَقَمِ
والتَّوْبُ ( يحتمل ) أن يكون اسماً مفرداً مراداً به الجِنس كالذَّنْب ، وأن يكون جمعاً لتَوْبَةٍ كتَمْرٍ وتَمْرَةٍ و « ذِي الطَّوْلِ » نعت أو بدل كما تقدم ، والطَّوْلُ سَعَةُ الفَضْل ، و « لاَ إله إلاَّ هُوَ » يجوز أن يكون مستأنفاً ، وأن يكون حالاً وحي حالٌ لازمةٌ ، وقال أبو البقاء يجوز أن يكون صفة ، وهذا على ظا هره فاسد؛ لأن الجُمَل لا تكون صفة للمعارف ، ويمكن أن يريد أنه صفة لشديد العقاب ، لأنه لم يتعرف بالإضافة .
والقول في « إلَيْهِ المَصِيرُ » كالقول في الجملة قبله ويجوز أن يكون حالاً من الجُمْلَةِ قبله .
فصل
قال المفسرون : غافر الذنب ساتر الذنب وقابل التوب أي التوبة ، مصدر تَابَ يَتُوبُ تَوْباً ، وقيل : التوب جمع توبة مثل : دَوْمَة ودَوْم ، وعَوْمة وعَوْم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : غافر لمن قال لا إله إلا الله ، وقال التوب لمن قال لا إله إلا الله ، شديد العقاب لمن لا يقول لا إله إلا الله ، « ذي الطول » ذي الغِنَى عمن لا يقول لا إله إلا الله .
قال مجاهد : ذي الطول ذي السَّعَةِ ، والغِنَى ، وقال الحسن : ذي الفضل ، وقال قتادة : ذو النعم ، وقيل : ذو القدرة ، وأصل الطَّوْل الإنعام الذي تطولُ مُدَّتُهُ على صابحه ، لا إله إلا هو إليه المصير . والمعنى أنه لما وصف نفسه بصفاتِ الرحمة والفضل فلو حصل معه إله آخر يشاركه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة فكان الترغيب والترهيب الكاملين حاصلين بسبب هذا التوحيد . و قوله « إلَيثْهِ المَصِيرُ » مما يقوِّي الرغبة في الإقرار بالعبودية .
قوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } لما قرر أن القرآن كتابه أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أقوال من يجادل لغرض إبطاله فقال { ما يجادل في آيات الله } أي في دفع آيات الله بالتكذيب والإنكار إلا الذين كفروا .
واعلم أن الجدالَ نوعان ، جدالٌ في تقرير الحق ، وجدالٌ في تقرير الباطل ، أما الجدال في تقرير الحق فهو حِرْفة الأنبياء عليه الصلاة والسلام قال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وحكى عن قوم نوح قولهم : { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 23 ] . وأما الجدال في يتقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية ، وقال عليه الصلاة والسلام : « إنَّ جِدَالاً في القُرْآنِ كُفْرٌ » وروى عمرو بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه عن جده قال : « سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يَتَمارَوْنَ فقال : إنما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلضكُمْ بهذا ضربوا كتابَ الله عزّ وجلّ بعضَه ببعض ، وإنما نزمل كتاب الله يُصَدِّق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضَه ببعض فما علمتم منه فقُولُوه ، وما جَهْلتم فكِلُوهُ إلى عالمه » ، وقال تعال : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [ الزخرف : 58 ] وقال : { وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } [ غافر : 5 ] .
قوله « فَلاَ يَغْرُرْكَ » قرأ العامة بالفك وهي لغة الحِجَاز ، وزيدُ بنُ عليّ وعُبَيْدُ بن عُمَيْرٍ فلا يَغُرَّكَ بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تَمِيمٍ .
فصل
جدالهم في آيات الله هو قولهم مخرة سحرٌ ، ومرة هو شعرٌ ، ومرة إنه قول الكهنة ، ومرة إنه أساطير الأولين ، ومرة إنه يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ، وقولهم : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ يس : 15 ] أَأنْزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ ، وأشباه هذا .
ثم قال : { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد } أي لا تغترَّ بأني أمْهَلْتُهُمْ وتركتهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون فيها للتجارات وطلب المعاش فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم كما فعلت بالأمم الماضية .
ثم كشف عن هذا المعنى فقال { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ } وهم الكفار الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب من بعد قوم نوح { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : ليقتلوه ويُهلكوه وقيل : ليأسِرُوه .
وقرأ عبدالله بِرَسُولِها ، أعاد الضمير على لفظ « الله » والجمهور على معناها ، وفي قوله « ليأخذوه » عبارة عن المُسَبَّبِ بالسَّبَبِ وذلك أن القتل مسبب عن الأخذ ومنه قيل لِلأسير : أخِيذٌ قال :
4320 فَإمَّا تأْخُذُونِي تَقْتُلُونِي ... فكَمْ مِنْ واحدٍ يَهْوَى خُلُودِي
{ وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } ليُبْتطِلُوا به الحق الذي جاءت به الرسلُ ، { فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } اجتزاءٌ بالكسرة عن ياء المتكلم وصلاً ووقفاً؛ لأنها رأ س فاصلة ، والمعنى فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل ، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا فيكف كان عقابي إيَّاهُم؟ أليس كان مستأصلاً؟ فأنا أفعل بقومك ما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله .
قوله تعالى ( تعالى ) « وَكَذَلِكَ حَقَّتْ » يحتمل الكاف أن تكون مرفوعة المحل على خبر مبتدأ مضمر ، أي والأمر كذلك : ثم أخبر بأنه حقت كلمة الله عليهم بالعذاب ، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة ، والمعنى كما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة حقت أيضاً على الذين كفروا من قومك .
قوله { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار } يجوز أن يكون على حذف حرف الجِرّ أي لأَنَّهُم ( فحذف ) فيجري في محلها القولان ( قال الأخفش لأَنَّهُمْ أو بأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار ) ، ويجوز أن يكون في محل رفع بدلاً من « كلمةٍ » . وقد تقدم خلافهم في أفراد « كَلِمَة » وجمعها ، وأن نافعاً وابن عامر قرأ « كلمات » على الجمع والباقون بالإفراد .
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قوله : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ » مبتدأ و « يًسَبحُونَ » خبره ، والعامة على فتح عين العَرش وابن عباس في آخرينَ بضَمَّها . فقيل : يحتمل أن يكون جمعاً لعَرْش كسُقُفٍ في سَقْفٍ وقوله « مِنْ حَوْلِهِ » يحتمل أن يكون مرفوع المحل عطفاً على « الذين يحملون العرش » أخبر عن الفريقين بأنهم يسبحون ، وهذا هو الظاهر ، وأن يكون منصوب المحل عطفاً على « العَرْشِِ » يعني أنهم يحملون أيضاً الملائكة الحافين بالعرش ، وليس بظاهر .
فصل
لما بين أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافّون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين ، فكأنه تعالى يقول : إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تلفت إليهم ولا تُقِمْ لهم وزناً فإن حملة العرش معك ، والحافّون من حول العرش ينصرونك وهم الكُرُبِيُّونَ ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمِائةِ عام ، وروى جعفرُ بْنُ محمد عن أبيه عن جده أنهن قال : بين القائمةِ من قوائم العرش والقائمة الثانية خَفَقان الطير المسرع ثلاثين ألف عامٍ . وقال مجاهد : بينَ السماءِ الثانية وبين العرش سبعونُ ألف حجاب : حجاب من نور ، وحجاب من ظلمة ، وقال وهب بن منبه : إن حول العرشِ سبعونَ ألف صفٍّ من الملائكة ، صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش .
قوله { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } قال شهر بن حوشب : حملةُ العرش ثمانيةٌ ، فأربعةٌ منهم يَقُولُون : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ لَكَ الحَمْدُ عَلَى حِلْمك بعد عِلْمك ، وأربعةٌ منهم يقولون : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ لك الحمدُ على عَفْوِك بعْدَ قدْرَتِكَ؛ قال : وكأنهم يرون ذنوب بني آدَمَ .
وقوله : « ويُؤمِنُونَ بِهِ » فيه سؤال وهو أن يقال : ما الفائدة في قوله « ويؤمنون به » مع أن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا بعد سبق الإيمان بالله؟
وأجاب الزمخشري : بأن المقصودَ منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضراً لكان حملة العرش والحافون بالعرش يشاهدونه ويعاينونه ، ولو كان كذلك لما كان إيمانهم بوجود الله موجباً للمدْجِ والثناء لأن الإقرارَ بوُجُود شيءٍ مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء ، ألا ترى أن الإقرار بوجود المشس وبكونها مضيئةً لا يوجب المدح والثناء؟ فلما ذكر الله سبحانه وتعالى إيمانهم بالله على سبيل المدح والثناء والتعظيم دل على أنهم إنما آمنوا به مع أنهم ما شاهدوه حاضراً جالساً هُنَاكَ .
قوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } اعلم أن كمال السعادة بأمرين :
أحدِهِمَا : التعظيم لأمر الله .
والثاني : الشفقة على خلق الله ، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدماً على الشفقة على خلق الله ، فقوله تعالى : { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } مشعر بالتعظيم لأمر الله ، وقوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } مشعرٌ بالشفقة على خلق الله ، واحتج كثير من العلماء بهذه الآية على أن المَلَكَ أفضلُ من البشر؛ لأنها دلت على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله تعالى بالثناء والتقدير اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون وهذا يدل على أنهم مستغنون بأنفسهم؛ إذ لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لاستغفروا لأنفسهم أولاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم
« ابدأ بنفسك » ولقوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } [ محمد : 11 ] ٍ وقال عن نوح عليه الصلاة والسلام { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } [ نوح : 28 ] وهذا يدل على أن من كان محتاجاً إلى الاستغفار ( فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره والملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار ) لاستغفروا لأنفسهم أولاً ثم استغفروا لغيرهم ، ولما لم يذكر الله تعالى استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم لم يكونوا محتاجين إلى الاستغفار ، وأما الأنبياء عليهم الصلاة واسلام فهم كانوا محتاجين إلى الاستغفار لقوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام « واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ » فظهر أن لملك أفضل من البشر والله أعلم .
قوله « رَبَّنَا » معمول لقول مضمر تقديره يقولون ربنا ، والقول المضمر في محل نصب على الحال من فاعل « يستغفرون » أو خبرٌ بعد خبر ، و « رَحْمَةً وعِلْماً » تمييز منقول من الفاعلية أي وسع كل شيء رَحْمَتُكَ وعِلْمُكَ . واعلم أن الدعاء في أكثر الأمر مذكور بلفظ « الرب » ؛ لأن الملائكة قالوا في هذه الآية « ربنا » ، وقال آدمُ عليه الصلاة والسلام : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] وقال نوحٌ : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } [ نوح : 5 ] وقال { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ نوح : 27 ] وقال إبراهيم : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] وقال : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] وقال يوسفُ { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك } [ يوسف : 101 ] وقال مُوسى عليه الصلاة والسلام : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 143 ] وقال : { ( رَبِّ ) إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ } [ القصص : 16 ] وحكى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه استغفر ربه وخر راكعاً وقوله سلمانُ عليه الصلاة والسلام { رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } [ ص : 35 ] ، وحكى عن زَكَرِيَّا عليه الصلاة والسلام أنه { نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] وقال عيسى عليه الصلاة والسلام : { رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } [ المائدة : 114 ] وقال تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } [ المؤمنون : 97 ] وحكى عن المؤمنين أنهم قالوا : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } [ آل عمران : 191 ] .
فإن قيل : لفظ الله أعظم من لفظ الرب فلم خص لفظ الربِّ بالدعاء؟
فالجواب : بأن العبد يقول : كنتُ في العدم المحض والنفي الصِّرْفِ فأخرجتَنِي إلى الوجود وربَّيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك في أن لا تُخَلِّينِي طرفة عين عن تربيتك وإحسانك ( وفضلك ) ، لإجابة دعائي .
فإن قيل : قوله ربنا وسعت كل شيء رحمةً وعلماً فيه سؤال ، لأن العلم وسعَ كل شيء وأما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء؛ لأن المضرورَ حال وقوعه في الضرر لا يكون ذلك في حقه رحمة وهذا السؤال أيضاً مذكور في قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] .
فالجواب : كل موجود فقد نال من رحمة الله نصيباً؛ لأن الوجود إما واجب وإما ممكن أما الواجب فليس إلا الله ( سبحانه ) وتعالى . وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده وذلك رحمة فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد حصل له نصيب من الرحمة فلهذا قال : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } هذه الآية دلت على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات .
قوله : { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } دينك { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } .
فإن قيل : لا معنى للغُفْران إلا إسقاط العذاب وعلى هذا فلا فرق بين قوله « فاغْفِرْ لَهُمْ » وبين قوله { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } .
فالجواب : قولهم : فاغفر فيه رمز وإشارة لإسقاط العذاب ، فلهذا أردفوه بذكره على سبيل التصريح تأكيداً ومبالغة .
واعلم أنهم لما طلوا من الله إزالة العذاب ( عنهم ) أردفوه بطلب إيصال الثواب إليهم فقالوا : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } .
فإن قيل : أنتم زعمتم أن الشفاعة إنما جعلت للمذنبين وهو الآية تُبْطِلُ ذَلِك ، لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم جنات عَدْن .
فالجواب : ( لا نسلم أنه ) ما وَعَدَهُمْ بذلك ، لأن الدلائل الكثيرة دلت على أنه لا يخلد أهل « لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » في النار ، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعد من الله بأن يدخلهم جنات عدن إما من غير دخول النار ، وإما بعد أن يدخلهم النار .
قوله : « وَمَنْ صَلَحَ » في محل نصب إما عطفاً على مفعول « أَدْخِلْهُمْ » وإما على مفعول « وَعَدتَهُمْ » وقال الفراءُ والزجاج نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في « أَدْخِلْهُمْ : وإن شئت على الضمير في » وَعَدتَهُمْ « . والعامة على فتح لام » صَلَحَ « يقال : صَلَحَ فهو صَالِحٌ ، وابنُ أبي عبلة بضمها ، يقال : صَلُحَ فَهُو صَلِيحٌ . والعامة على » ذرِّيّاتهم « جمعاً ، وعيسى » ذُرِّيَّتهم « إفراداً . والمراد بقوله ومن صلح من أهل الإيمان .
ثم قالوا { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } . وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين ، لأنه لو لم يكن عزيزاً بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه ولو لم يكن حكيماً لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة .
ثم قالوا : بعد ذَلِكَ « وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ » ( قال بعضُ المفسرين المراد منه عذاب السيئات .
فإن قيل : فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله : « وقهم السيئات » ) وبين قوله { وقهم عذاب الجحيم } وحينئذ يلزم التكرار الخالي من الفائدة وهو لا يجوز!
فالجواب : أنّ التفاوت حاصلٌ من وجهين :
الأول : أن يكون قوله { وقهم عذاب الجحيم } ، دعاء مذكوراً ( للأصُولِ وقوله « وقهم السيئات » دعاء مذكوراً ) للفروع وهم الآباء والأزواج والذريات .
الثاني : أن يكون قوله { وقهم عذاب الجحيم } مقصوراً على إزالة عذاب الجحيم ، وقوله « وقهم السَّيِّئَات » يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة والحساب والسؤال .
وقال بعض المفسرين : المراد : « وَقِهِم السيئات » هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم : « عذاب الجحيم » وطلبوا إيصال الثواب ( إليهم ) بقولهم : { وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ } ثم طلبوا بعده ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة بقولهم : « وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ » ثم قالوا { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ } يعني من تقِ السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة ، ثم قالوا { وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيماً لا ينقطع وبأفعالٍ حقيرة مُلْكاً لا تصل العقول إلى كُنْهِ جلالته و الله أعلم .
قوله : « يَوْمَئِذٍ » التنوين عوض من جملة محذوفة ، ولكن ليس في الكلام جملمة مصرحٌ بها عوض من هذه التنوين بخلاف قوله : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] أي حين إذْ بَلَغَتْ الحلقومَ لِتَقَدُّمِهَا في اللفظ فلا بدّ من تقدير جملة يكمون هذا عوضاً منهاتقديهر : يَوْمَ إذْ يُؤَاخَذُ بِهَا .
فَصْلٌ
قال مُطرفٌ : أنصحُ عباد الله للمؤمنين الملائكة وأغشُّ الخلقِ للمؤمنين هم الشياطين ، قال سعيد بن جبير في تفسير قوله { من صلح من آبائهم } يدخل المؤمن الجنة فيقول : ابن أبي؟ أين ولدي؟ أين زوجتي؟ فيقال لهم : إنهم لم يعملوا مثل عملك فيقول : إن كنت أعمل لي ولهم فيقال : أدخولهم الجنة .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } أي يوم القيامة وهم في النار وقد مقتوا أنفهسم حين عرض عليهم سيئاتهم وعاينوا العذاب فيقال لهم : { لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان فَتَكْفُرُونَ } أي لمقت الله إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم اليوم أنفسكم عند دُخُول العذاب قال البغوي .
واعلم أن الله تعالى عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله ، وهم المذكورون في قوله { مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } [ غافر : 4 ] وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط مِنْهُمْ .
قوله « إذْ تُدْعَوْنَ » منصوب بمقدر يدل عليه ( هذا الظاهر ، تقديره مقتكم إذ تدعون ، وقدّره بعضهم : اذكروا إذ تدعون ) . وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً بالمقت الأول . ورد عليه أبو حيان بأنه يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي وهو الخبر ، وقال : هذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تَخْفَى على المُبْتَدِىءِ ، فضلاً عن من يَدَّعِي من العجم أنه شيخ العرب والعجم ، قال شهاب الدين : وَمِثْلُ هذها لا يفخى على أبع القاسم ، وإنما أراد أنه دال على ناصبه ، ( و ) على تقدير ذلك فهو مذهب كوفي ق به . أو لأن الظَّرْفَ يُتَّسَحُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره ، وأيُّ غموض في هذا محتى يُنْحي عليه هذا الإنحاء؟ ولله درّ القائل :
4321 حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا سَعْيَهُ ... فالقَوْمُ أعْتدَاءٌ لَهُ وَخُصُومُ
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا ... كَذِباً وَزُوراً إنَّهُ لَذَمِيمُ
وهذا الرد سبقه إليه أبو البقاء فقال : ولا يجوز أن يعمل فيه مقت الله؛ لأنه مصدر أخبر عنه وهو قوله « أَكْبَرُ » فمن ثم أخذه أبو حيان ، ولا يجوز أن ينتصب بالمقت الثاني لأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت دعائهم إلى الإيمان إنما مَقتُوهَا يَوْمَ القيامة . والظاهر أن « مقت الله » واقع في الدنيا كما تقدم في تفسير الآية . وجوز الحسن أن يكون في الآخرة وضعفه أبو حيان بأنه يبقى « إذْ تُدْعَوْنَ » مفلّتاً من الكلام لكونه ليس له عامل مقدم فلا يفسر قائلاً فإذا كان المقت في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره ( مقتكم ) . قال شهاب الدين : وهذا التجري على مثل الحسن يهون عليك تَجَرِّيه على الزمخشري ونحوه .
واللام في « لَمَقْتُ » لام اتبداء ، أو قسم ، ومفعوله محذوف أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم فهو مصدر مضاف لفاعله كالثاني . ولا يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع في « أنفسكم » بين المقتين؛ لئلا يلزم الفصل بالخبر بين المقت الأول ومعموله على تقدير إعماله .
لكن قد اختلف النحاة في مسألة وهي التنازع في فِعْلَي التعجب فمن منع اعتل بما ذكرته لأنه لا يُفْصَلُ بين فعل التعجب ومعموله ، ومن جوز فقال : يلتزم ( إعمال ) الثاني حتى لا يلزم الفصل فليكن هذا منه ، والحق عدم الجواز فإنَّه على خلاف قاعدة التنازع .
فصل
ذكروا في تفسير مقتهم أنفسهم وجوهاً :
الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا .
الثاني : أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دَعَوْهُم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم كقوله تعالى : { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] ، والمراد قتل بعضهم بعضاً .
الثالث : قال محمد بن كعب ( القُرَظِيّ ) : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } إلى قوله : { ولوموا أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم ، وأما الذين ينادُون الكفار بهذا الكلام فهم خزنةُ جَهَنَّمَ .
فصل
المقت : أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه الإنكار والزجر ، قال الفراء قوله { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله } معناه ينادون أن مقت الله ، يقال : ناديت إن زيداً قائمٌ ، وناديت لَزَيْدٌ قائم .
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خوطبوا بهذا الخطابُ قالوا : { ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين . } الآية : « اثنتين » نعت مصدر محذوف تقديره إمَاتَتَيْنِ اثْنَتَيْن . قال عباس وقتادة والضحاك : كانوا أمواتاً في أصلاب آبائهم فأحياهم الله في الدنيا ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للعبث يوم القيامة فهما موتان وحياتان ، وهو كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] . وقال السديّ : أميتُوا في الدنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم للسؤال ثم أميتُوا في قبورهم ، ثم أُحْيُوا في الآخرة . وقوله { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } أي من خروج من النار إلى الدنيا فنصلح ِأعمالنا ونعمل بطاعتك ، وَمَّر نظيرُ : { هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليشتغلوا بالأعمال الصالحة .
فإن قيل : الفاء في قوله : « فاعْتَرَفْنَا » يقتضي أن تكون الإماتةُ مرتين ( والإحياءُ مرتين ) سبباً لهذا الاعتراض فما وجه هذه السَّبَبِيَّةِ؟ .
فالجواب : لأنهم كانوا منكرين البعث فلما شاهدوا هذا الأحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن تلك الإماتة والإحياء .
واعلم أنهم لما قالوا فهل إلى خروج من سبيل فالجواب الصريح عنه أن يقال : لا أن نعم وهو تعالى لم يَقُلْ ذلك بل قال كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج وهو قوله { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } أي ذلك الذي أنتم فيه من العذاب والخلود من النار وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط إنما وقع بسبب كفرهم بتوحيد الله ، أي إذا قيل لا إله إلا الله كفرتم وقلتمْ
{ أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } [ ص : 5 ] { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أي تصدقوا ذلك الشرك .
قوله « وَحْدَهُ » فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر في موضع الحال ، وجاز كونه معرفة لفظاً لكونة في قوة النكرة ، كأنه قيل : منفرداً .
والثاني وهو قول يُونُسَ : أنه منصوب على الظرف والتقدير : دُعِيَ عَلَى حِيَالِهِ . وهو مصدر محذوف الزوائد ، والأصل أوْحَدتُهُ إيحاداً .
قوله « فَالحُكْمُ للهِ » حيث حكم عليكم بالعذاب السَّرْمَدِ . وقوله : « العَلِيِّ الكِبِيرِ » يدل على الكبرياء والعظمة الذي لا أعلى منه ولا أكبر .
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
قوله تعالى : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ليدل على كمال قدرته وحكمته وأنه لا يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصور شركاء لله تعالى في المعبودية ، ثم قال { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق . وقرأ ابن كثير وأبو عمرٍ « ينزل » خفيفة والباقون بالتشديد .
واعلم أن أهم المُهّمات رعايةُ مصالح الأديان ومصالح الأبدان ، فالله تالى يراعي مصالح أديان العباد بإظهار البَيِّنات والآيات وراعى مصالح العباد بأبدانهم بإنزال الرزق من السماء فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان وعند حصولها يحصل الإنعام الكامل .
ثم قال : { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } أي ما يتعظ بهذه الآيات إلا من يرجع إلى الله في جميع أموره فيعرض عن غير الله ويقبل الكليّة على الله تعالى ولهذا قال { فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } عن الشرك وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ .
قوله تعالى : « رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ » فيه وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ والخبر « ذو العرش » و « يُلْقِي الروح » يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً ، ويجوز أن يكونَ الثلاثة أخباراً لمبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون الثلاثة أخباراً لقوله { هُوَ الذي يُرِيكُمْ } قال الزمخشري : ثلاثة أخبار يجوز أن تكون مترتبة على قوله { هو الذي يريكم } أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً ، قال شهاب الدِّين : أما الأول ففيه طول الفصل وتعدد الأخبار ، وليست في معنى خبر واحد ، ( وأما الثاني ففيه تعدد الأخبار وليس في معنى واحد ) وهي مسألة خلاف ولا يجوز أن كيون « ذُو العَرْشِ » صفة « لِرَفيعِ الدرجات » إن جعلناه صفة مشهبة ، أما إذا جعلناه مثال مبالغة أي يرفع درجات المؤمنين فيجوز ذلك على أن يجعل إضافته محضة ، وكذلك عند من يُجَوِّزُ تَمَحُّضَ إضافة الصفة المشبهة أيضاً . وقد تقدم ، وقرىء « رَفِيعَ » بالنصب على المدح .
فصل
لما ذرك من صفات كبريائه كونه مظهراً للآيات منزلاً للأرزاق ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رفيع الدرجات وهذا يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع ، فإن حملناهُ على الأول ففيه وجوه :
الأول : أن الله يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة .
والثاني : يرفع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة فجعل لكل أحد من الملائكة درجةً معيّنة كما قال : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } الصافات : 164 ] ، وجعل لكل أحد من العلماء درجة معينة فقال تعالى : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ } [ المجادلة : 11 ] وعين لكل جسم درجةً معينة فجعل بعضها سُفْليّة كدرة ، وبعضها فلكية كوكبية ، وبعضها من جواهر العرش والكرسي ، وأيضاً جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخَلْقِ والخُلُقِ والرزق والأجل فقال :
{ وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } [ الأنعام : 165 ] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة وفي الآخرة تظهر تلك الآثار . وإن جعلنا « الرفيع » على « المرتفع » فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال . وقوله « ذُو العرْشِ » أي خالقه ومالكه ومدبره ، و « يُلْقِي الرُّوح » أي ينزل الوحي من السماء روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح وقوله « مِنْ أَمْرِهِ » متعلق ب « يُلْقِي » ، و « مِنْ » لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حَالٌ من « الروح » .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما معنى من أمره أي من قضائه ، وقيل : من قوله . وقال مقاتل بأمره على من يشاء من عباده . وقلوه : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } العامة على بنائه للفاعل ، ونصب اليوم والفاعل هو الله تعالى أو الروح أو « مَنْ يَشَاءُ : أو الرسول ، ونصب » اليوم « إما على الظرفية والمُنْذَرُ به محذوف تقديره لينذر العذابُ يوم التلاقي ، وإما المفعول به اتساعاً في الظرف وقرأ ابيّ وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً أي لينذر الناس العذاب يوم التلاق . وقرأ الحسن واليمانيّ » لتنذر « بالتاء من فوق وفيه وجهان :
أحدهما : أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم .
والثاني : أن الفاعل ضمير الروح فِإنها مؤنثة على رأيٍ .
وقرأ اليماني أيضاً » لينذر « مبنياً للمفعول » يوم « بالرفع وهي تؤيد نصبه في قراءة الجمهور على المفعول به اتساعاً . وأثبت ياء » التلاق « وصلاً ووقفاً ابن كثير ، وأثبتها في الوقف دون الوصل من غيلا خلاف ورشٌ ، وحذفهنا الباقون وصلاً ووقفاً إلا قَالُونُ ، فإنه روي عنه وجهان ، وجهٌ كورشٍ ، ووجه كالباقين ، وكذلك هذا الخلاف بعينه جارٍ في » يَوْم التَّنَادِ « . وقد تقدم توجيه هنذه الوجيهن في الرَّعْد في قوله : { الكبير المتعال } [ الرعد : 9 ] .
قوله » { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } في « يوم » أربعةُ أوجه :
أحدها : أنه بدل من « يوم التلاق » بدل كل من كل .
الثاني : أن ينتصب بالتلاق أي يقع التلاق في يوم بُرُوزِهمْ .
الثالث : أن ينتصب بقوله لا يَخْفَى عَلَى اللهِ ( مِنْهُمْ شَيْءٌ ) ذكره ابن عطية . وهذا على أحد الأقوال الثللاثة في « لا » هل يعمل ما بعدها فيما قبلها؟ ثالثها التفصيل بين أن تقع جواب قسم فيمتنع أو لا فيجوز هذا على قولين من هذه الأقوال .
الرابع : أن ينتصب بإضمار « اذكر » و « يوم » ظرف مستقبل « كإذا » .
وسيبويه لا يرى إضافة الظرف المستقبل إلى الجمل الاسمية والأخفش يراه ولذلك قدر سيبويه في قوله { إِذَا السمآء انشقت } [ الإنشقاق : 1 ] ونحوه فعلاً قبل الاسم ، والأخفش لم يقدرْه ، وعلى هذا فظاهر الآية مع الأخفش . ويجاب عن سيبويه بأن « هُمْ » ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعل محذوف يفسره اسمُ الفاعل ، أي يوم برزوا ويكون « بارزون » خبرَ مبتدأ مضمر ، فلما حذف الفعل انفصل الضمير فَبَقِيَ كما ترى ، وهذا كما قالوا في قوله ( رَحِمَهُ اللهُ ) :
4322 لَوْ بغَيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بِالمَاءِ اعْتِصَارِي
في أَنَّ « حَلْقِي » مرفوعٌ بفعل يفسره « شَرِقٌ » ؛ لأنَّ « لَوْ » لا يليها إلا الأفعال ، وكذا قوله ( شعرا )
4323 . . ... إليَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِيعُها
لأنَّ « هَلاَّ » لا يليها إلا الأفعال ، فالمفسَّر في هذه المواضع ِأسماء مشتقة وهو نظير : أنا زَيْداً أضَارِبُهُ من حين التفسير ، وحركة « يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ » حركة إعراب على المشهور ، ومنهم من جوز بناء الظرف وإن أضيف إلى فعلٍ مضارع أو جملة اسمية هعي وهم الكوفيون ، وقد وَهَمَ بعضُهم فَحَتَّم بناء الظرف المضاف للجمل الاسمية وقد تقدم أنه لا يبنى عند البصريين إلا ما أضيف إلى ( فعل ) ما نُصضَّ كقوله :
4324 عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ ..
وتقدم هذا مُسْتَوْفًى في آخر المائدة .
وكتبوا « يَوْمَ » هنا وفي الذاريات منفصلاً ، وهو الأصل .
قوله : { لاَ يخفى عَلَى الله } يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً من ضمير « بَارِزُونَ » ، وأن تكومن خبراً ثانياً .
فصل
قال بعض المفسرين : يوم التلاق هو يوم يلتقي أهلُ السماء وأهل الأرض . وقال قتادة ومقاتل : يلتقي الخلق والخالق . وقال بن زيد : يتلاقى العباد . وقال مَيْمُونُ بْنُ مَهْرَانَ : يلتقي الظالم والمظلوم ، وقيل : يلتقي العابد والمعبود ، وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله ، وقيل : يلتقي الأرواح مع الأجساد ، بعد مفارقتها إياها يوم هم بارزون ، كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } [ الطارق : 9 ] .
{ لا يخفى على الله منهم } أي من أحوالهم شيء ويقول الله سبحانه بعد فناء الخلق « لمن الملك اليوم » فلا يجيبه أحد فيتجيب نفسه فيقول { لِلَّهِ الواحد القهار } الذي قهر الخلق بالموت .
فإن قيل : الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم؟ .
فالجواب : أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحِيطَان والحُجُب أن الله لا يراهم ويخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حالة لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا ، كما قال تعالى : { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ }
[ فصلت : 22 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله وَهُوَ مَعَهُمْ } [ النساء : 108 ] وهو معنى قوله : { وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] .
فصل
قال المفسرون : إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى : لِمن الملك اليوم؟ يعني يوم القيامة ، فلا يجيبه أحد ، فهو تعالى يجيب نفسه فيقول : لله الواحد القهار ، قال ابن الخطيب : قال أهل الأصول هذا القول ضعيف من وجوه :
الأول : أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق يوم هم بارزون ، ويوم تجزى كل نفس ما كسبت ، والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إنما ينادى هذا النداء حين يَهْلِكُ كُلُّ من في السموات ومن في الأرض .
الثاني : أن الكلام لا بد فيه من فائدة؛ لأن الكلام إما أن يذكر حالَ حُضُور الغير أو حالَ ما لا يَحْضُرُ الغير ، والأول باطل ههنا؛ لأن القوم قالوا : إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل . والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأن يحفظ به شيئاً كتكريره على الدرس وذلك على الله تعالى محال أو لأجل أن يعدي الله بذلك الذكر وهذا ايضاً على الله تعالى محال فثبت ( أن ) قولهم : إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل ، وقال بعض المفسرين : إنه في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ : لمن الملك اليوم؟ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة : لله الواحد القهار ، فالمؤمنون يقولونه تلذذاً بهذا اللكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة ، والكفار يقولونه تحسراً وصَغَاراً وندامةً على تفويتهم هذا الذكر في الدنيا ، وقال القائلون بهذا القول الأول عن ابن عباس وغير إن هذا النداء بعد هلاك البشر لم يمنع أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ويجيبون بقولهم : لله الواحد القهار . وقال ابن الخطيب : أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى ، ولا يعبد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمع آخرون وليس على التعهيين دليل .
قوله : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يجزى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته { لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
قوله تعالى : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة . . . } والمقصود بها وصف يوم القيامة ، ويوم الآزفة يجوز أن يكون مفعولاً به اتساعاً ، وأن يكون ظرفاً ، والمفعول محذوف ، والآزفة فاعلة من أَزِفَ الأمْرُ إذا دنا وحضر ، كقوله في صفة القيامة { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] . أي قربت ، قال النابغة الشاعر ( رحمة الله عليه ) :
4325 أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنا ... لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وقال كعب بن زهير :
4326 بانَ الشَّبَابُ وهذا الشَّيْبُ قَدْ أَزِفَا ... وَلاَ أَرَى لِشَبَابٍ بَائِنٍ خَلَفَا
وقال الراغب : وأَزِفَ ، وأَفِدَ يَتَعَاقَبَانِ ، ولكن أَزِفَ يقال اعتباراً بضيق وقتها ، ويقال أزف الشخوص ، والأَزْفُ ضيقُ الوقت . قال شهاب الدين ، فجعل بينهما فَرْقاً ، ويروى بيت النابغة أَفِدَ والآزفة صفة لموصوف محذوف ، فيجوز أن يكون التقدير الساعة الآزفة ، أو الظلمة الآزفة ، وقوله : « إذِ القُلُوبُ » بدل من « يوم الآزفة » أو من « هُمْ » في « أَنْذِرْهُمْ » بدل اشتمال .
فصل
المقصود من الآية التنبيه على أن يوم القيامة قريب ، ونظيره قوله تعالى : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الزجاج : إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائنٌ فهو قريب .
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث فقيل : يوم القيامة الآزفة ، أو يوم المجازاة الآزفة ، قال القفال : وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها ، كأنها يرجع معناها على الداهية .
وقيل : المراد بيوم الآزفة مُشَارَفَتُهُمْ دخول النار ، فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارِّها من شدة الخوف ، وقال أبو مسلم : يوم الآزفة يوم حضور الأجل لأنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق ويوم هم بارزون ، ثم قال بعنده : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة } فوجب أن يكن ذلك اليوم غير ذلك اليوم وأيضاً فهذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] ، وقال { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي } [ القيامة : 26 ] وأيضاً فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب ، وأيضاً فالصفات المذكمورة بعد قوله : « يوم الآزفة » لائقة بيوم حضور المنية؛ لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يَعْظُمُ خَوْفُهُ ، فكأنّ قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف وبَقُوا كَاظِمِينَ ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف ، و لايكون لهم من حميم ولا شفيع يطاع ويدفع ما به من أنواع الخوف والقلق .
قوله : « كَاظِمينَ » نَصْبٌ على الحال ، واختلفوا في صاحبها والعامل فيها ، فقال « كاظمين » وهو أن يكون لما أسند إليهم ما يسند للعقلاء جمعت جمعه كقوله : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] و { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] ويُعَضِّدُهُ قراءة من قرأ : « كَاظِمُونَ » .
الثاني : أنها حال من « القلوب » وفيه السؤال والجواب المتقدمانِ ، والمعنى أن القلوب كاظمة عن كَرْبٍ وغَمٍّ مع بلوغها الحناجر .
والثالث : أنه حال من أصحاب القلوب قال الزمخشري : هو حال من أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمينَ عليها . اقل شهابُ الدين : فكأنه في قوة أن جعل « أل » عوضاً من الضمير في حناجرهم .
الرابع : أن يكون حالاص من « هم » في « انذرهم » ويكون حالاً مقدرة لأنهم وقت الإنذار غير كاظمين ، وقال ابن عطية : كاظمين حال مما أبدل منه « إذ القُلُوب » أو مما يضاف إليه القلوب؛ إذ المراد إذ قُلُوب الناس لدى حناجرهم ، وهذا كقوله { تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار مُهْطِعِينَ } [ إبراهيم : 42 ، 43 ] أراد تشخيص فيه أباصرهم قال شهاب الدين : ظاهر قوله أنه حال مما أبدل منه قوله : « إذ القلوب » مشكل؛ لأنه أبدل من قوله : « يَوْم الآزفة » وهذا لا يصح البتَّة ، وإنما يريد على الوجه الثاني وهو أن يكون بدلاً من « هُمْ » في أَنْذِرْهُمْ بدل اشتمال وحينئذ يصح ، وقد تقدم الكلام على الكظم والحناجر في آل عمران والأحزاب .
فصل
قيل : المراد بقوله { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ } شدة الخوف والفزع ونظيره قوله { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] وقال : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 83 و84 ] . وقال الحسن : القلوب تنتزع من الصدور لشدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواقعها فيتنفّسوا ويَتَرَّوَحُوا ، وقوله : ( كاظمين ) أي مكروبين ، والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيضاً و المعنى أنهم لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الخوف والحزن وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب .
قوله : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } قريب ينفعهم { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } فيشفع لهم . وقوله « يُطَاعُ » يجوز أن يحكم على موضعه بالجر نعتاً على اللفظ ، وبالرَّفع نعتاً على المحل لأنه معطوف على المجرور بمن المزيدة ، وقوله { ولا شفيع يطاع } من باب :
4327 عَلَى لاَ حِبٍ لا يُهْتَدَى بمَنَارِهِ .. . . .
أي لا شفيع فلا طاعة ، أو ثم شفيع ولكن لا يطاع .
فصل
احتجت المتعزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة عن المذنبين فقالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا يحصل لهم هذا الشفيع وأجيبوا بوجوه :
الأول : أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع ، كقولك : ما عندي كتاب يباع فيقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب ، قال الشاعر :
4328 . ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ
أو لفظ الطاعة بمعنى حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله ، لأن ليس في الوجود أحد أعلى حالاً من الله سبحانه وتعالى حتى يقال : إن الله تعالى يطيعه .
والثاني : أن المراد بالظالمين ههنا : الكفار ، لأن هذه الآية وردت في زجر الكفار وقال تعالى :
{ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] .
الثالث : أن لفظ الظالمين إما أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد الاستغراق فإن كان المراد من الظالمين مجموعهم فيدخل في هذا المجموع هم الكفار وليس لهم شفيعٌ فحنيئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع ، وإن لم يفد الاستغراقَ كان المراد من الظالمين بعضَ الموصوفين بهذه الصفة وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيعٌ وهم الكفار .
وأجاب ( بعض ] المعتزلة عن الأول فقالوا : يجب حمل كلام الله تعالى على محملٍ مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالاً من المطاع وليس في الوجود أعلى درجة من الله حتى يقال : إن الله يطيعه ، وإذا كان هذا المعنى معلوماً بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجاً لها عن الفائدة ، فوجب حمل الطاعة على الإجابة ويدل على أن لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قولُ الشاعر :
4329 رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ ... قَدْ تَمَنَّى لِيَ موتاً لَمْ يُطَعْ
وعن الثاني : بأن لفظ « الظالمين » صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم ، أَقْصَى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكافر ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وعن الثالث أن قوله : { ما للظالمين من حميم } يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع .
وأجيبوا عن الأول بأن القوم كانوا يقولون في الأصنام : إنها شفعاؤهم عند الله ، وكانوا يقولون : إنها تشفع لهم عند الله من غير حاجة إلى إذن فلهذا السبب رد ا لله تعالى عليهم ذلك بقوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله تعالى إجابة تلك الأصنام في الشفاعة وهذا نوع طاعة فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } . وعن الثاني بأن قالوا : الأصل في حرف التعريف أن ينصرف إلى المعهود السابق فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع وكان هناك معهود سابق انصرف إليه ، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن ينصرف إليهم . وعن الثالث بأن قالوا قوله : { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } يحتمل عموم السلب ، ويحتمل سلب العموم ، أما الأول : فعلى تقدير أن يكون المعنى أنّ كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ، ولا شفيع . وأما الثاني : فعلى تقدير أن يكون مجموع الظالمين ليس لهم حميم ولا شفيع ، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع ، ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
[ البقرة : 6 ] وقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] فإن حملناه على أن كل واحد منهم محكوم عليه بأنه لايؤمن لزم وقوع الخُلْفِ في كلام الله تعالى؛ لأن كثيراً ممن كفر قد آمن بعد ذلك ، أما لو حملناه على أنّ مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخُلف ، فلا جَرَمَ حلمنا هذه الآية على سلب العموم لا على عموم السلب وحينئذ يسقط استدلال المعتزلة بهذه الآية .
قوله « يَعْلَمُ » فيه أربعة أوجه :
أظهرها : أنه خبر آخر عن « هو » في قوله { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } [ غافر : 13 ] ، قال الزمخشري : فإن قُلْتَ : بم اتصل قوله { يعلم خائنة الأعين } قلتُ : هو خبر من أخبار « هو » في قوله { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } [ غافر : 13 ] مثل « يُلْقِي الرُّوْحطَ » ولكن « يلقي الروح » قد علل بقوله « لِيُنْذِرَ » ثم استطرد لذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله « ولا شفيع يطاع » فبعد لذلك عن أخواته .
الثاني : أنه متصل بقوله « وأنْذِرْهُمْ » لما أمر بإنذاره يوم الآزمة وما يعرض فيه من شدة الغمِّ والكَرْبِ وأن الظالم لا يجد من يحميه ولا شفيع له ، ذكر اطِّلاعَهُ على جميع ما يصدر من الخلق سِرًّا وجهراً إذ المعنى أنه تعالى عالم لا يخفى عليه مثقالُ ذرة في السموات والأرض ، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب شديداً جداً وعلى هذا فهذه الجملة لا محل لها لأنها في قوة التعليل للأمر بالإنذار .
الثالث : ِأنها متصلة بقوله : « سَرِيع الحِسَابِ » .
الرابع : أنها متصلة بقوله : { لاَ يخفى عَلَى الله } [ غافر : 16 ] وعلى هذين الوجهين فيحتمل أن تكون جارية مجرى العلة ، وأن تكون في محل نصب على الحال .
و « خَائِنَة الأَعْيُنِ » فيه وجهان :
أحدهما : أنها مصدر بمعنى الخيانة كالعافية بمعنى المعافاة ( والعافية ) أي يعلم خيانة الأعين أي استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب .
والثاني : أنها صفة على بابها وهو من باب إضافة الصفة للموصوف والأصل الأعينُ الخائنة كقوله :
4330 .. وإنْ سَقَيْتِ كِرَامَ النَّاسِ فاسْقِِينَا
وقد رده الزمخشري وقال : لا يحسن أن يراد الخائنةَ من الأعين لأن قوله : { وَمَا تُخْفِي الصدور } لا يساعد عليه يعنهي أنه لا يناسب أن يقابل المعنى إلا بالمعنى .
وفيه نظر؛ أذ لقائل أن يقول لا نسلم أن « ما » في قوله { وما تخفي الصدور } مصدرية حتى يلزم ما ذكره ، بل يجوز أن يكون بمعنى الذي وهو عبارة عن نفس ذلك الشيء المخفي فيكون قد قابل الاسم غير المصدر بمثله ، والمراد بقوله : { وما تخفي الصدور } أي تضمر القلوب .
واعلم أن الأفعال قسمان : أفعال الجوارح ، وأفعال القلوب ، وأما أفعال الجوارح فأخفاها خائنة الأعين والله بهات فكيف الحال في سائر الأعمال ، وأما أفعال القلوب فهي معلومة لله تعالى لقوله { وَمَا تُخْفِي الصدور } فدل هذا على كونه عالماً بجميع أفعالهم .
قوله { والله يَقْضِي بالحق } وهذا أيضاً يوجب عظم الخوف لأن الحاكم إذا كان عالماً بجميع الأحوال وثبت أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل كان خوف المذنب منه في الغاية القُصْوَى .
قوله : « وَالَّذِينَ يَدْعُونَ » ، قرأ نافعٌ وهشامٌ تَدْعَونَ بالخطاب للمُشْرِكِين والباقون بالغيبة ، إخباراً عنهم بذلك .
واعلم أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام فبين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة ، فقال : { الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } ثم قال : { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام ، ولا يسمع ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم ، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله .
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
ولما بالغ في تخويفهم بأحوال أهل الآخرة أردفه بيان تخويفهم بأحوال أهل الدنيا فقال { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } والمعنى أن العال من اعتبر بغيره ، فإن الذين مَضَوْا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى آثاراً في الأرض أي حصونهم وقصورهم وعساكرهمخ ، فملا كذبوا رسلهم أهلكهم الله عاجلاً حتى إن هؤلاء الجاحدين من الكفار شاهدوا تلك الآثار فحذرهم الله من مثل ذلك وقال { وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] أي لما نزل العذاب بهم لم يجدوا مُعِيناً يخلصهم .
قوله « فَيَنْظُرُوا » يجوز أن يكون منصوباً في جواب الاستفهام ، وأن يكون مجزوماً نَسَقاً على ماقبله كقوله :
4331 أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسُومُ ..
رواه بعضهم بالجزم ، والنصب .
قوله « مِنْهُمْ » قُوَّةً « قرأ ابن عامر » مِنْكُمْ « على سبيل الالتفات ، وكذلك هو في مصاحفهم ، والباقون » منهم « بمضير الغيبة جرياً على ما سبق من الضمائر الغائبة .
قوله : » وَآثاراً « عطف على » قوة « وهو في قوة قوله » وَتَنْحتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ « . وجعله الزمخشري منصوباً بمقدر ، قال : أو أراد أكثر آثاراً كقوله : » مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً « ( يعني وَمُعْتَقِلاً رُمْحاً ) ؟ ولا حاجة إلى هذا مع الاستغناء عنه .
قوله » ذَلِكَ « أي ذلك العذاب الذي نزل بهم { بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } وهو مبالغة في التخويف والتحذير .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا . . . } الآيات . لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام وأنه مع قوته ومعجزته بعثه إلى فِرْعَوْنَ وهامانَ وقارونَ فكذبوه ، وقالوا : ساحر كذاب ، فلما جاءهم بالحق من عندنا أي بتلك الآيات الباهرة والسلطان المبين وهو المعجزات القاهرة قالوا يعني فرعون وقومه اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه ، قال قتادة : هذا غير القتل الأول؛ لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الوِلْدَانِ فلما بعث موسى دعا بالقتل عليهم لئلا ينشأوا على دين موسى فيقوَى بهم ، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات فلهذا أمر بقتل الأبناء واسْتَحْيُوا نِساءهم ليصدوهم بذلك عن متابعة موسى ومظاهرته ثم قال : { وَمَا كَيْدُ الكافرين } أي وما مكر فرعون وقومه واحتيالهم إلا في ضلال .
قوله { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى } أي وقال فرعون لِمَلئِهِ { ذروني أَقْتُلْ موسى } فتح ابن كثير ياء « ذروني » وسكنها الباقون . وإنما قال فرعون ذلك؛ لأنه كان في خاصة قوم فرعون من يمنعه من قتل موسى وفي منعهم من قتله احتمالان :
الأول : أنهم منعوه من قتله لوجوه :
الأول : لعله كان فيه من يعتقد بقلبه كون موسى صادقاً فيتحيل في منع فرعون من قتله .
وثانيهما : قال الحسن : إن أصحابه قالوا له : لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكن أن يغلب سَحَرَتَنَا وإن قَتَلْتَهُ أدخلتَ الشبهةَ على الناس ويقولوا : إنه كان محقاً وعجزا عن جوابه فقتلوه .
وثالثها : أنهم كانوا يحتالون في منعه من قتله لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام؛ لأن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكِهِم بخصمٍ خارجي حتى يصيروا آمنين من قلب ذلك الملك .
الاحتمال الثاني : أن أحداً ما منع فرع من قتل موسى وأنه كان يريد قتله ، إلا إنه كان خائفاً من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرات تمنعه من قتله فيفتضح إلا أنه ق ذروني أقتل موسى وغرضه منه إخفاء خوفه .
قوله : « ولْيَدْعُ رَبَّهُ » أي وليدع موسى ربه الذي يزعم أنه أرسله فيمنعه منا؛ ذكر ذلك استهزاءًا .
قوله { إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد } قرأ الكوفيون ويعقوبُ ( أو أن ) بأو التي للإبهام ومعناه أنه لابد من وقوع أحد الأمرين والباقون بواو النسق على تسلط الخوف من التبديل وظهور الفاسد معاً . وفتح نافع وابن كثير وابو عمرو الياء من « إِنِّي أخاف » ؛ وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص « يُظْهر » بضم الياء وكسر الهاء من أظهر ، وفاعله ضمير موسى عليه الصلاة والسلام « الفَسَادَ » نصباً على المفعول به والباقون بفتح الياء والهاء من ظَهَرَ الفسادُ ، « الفَسَادُ » رفعاً ، وزيد بن علي يُظْهَرُ مبنياً للمفعول الفَسَاد مرفوع لقيامه مقام الفاعل ومجاهد « يَظَّهَّر » بتشديد الظاء والهاء ، وأصلها يَتَظَهَّر من تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء ، « الفسادُ » رفع على الفاعلية .
فصل
ذكر فرعونُ النسبَ الموجبَ لقتل موسى وهو أن المُوجِبَ لقتله إما فساد الدين أو فساد الدنيا ، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين الصحيح هو دينهم الذي كانوا عليه ، فلما كان موسى ساعياً في إفساده اعتقدوا أنه ساع في إفساد الدين الحق ، وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سبباً لوقوع الخصومات وإثارة الفتن ، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبّهم لأمالهم لا جَرَمَ بدأ فرعونُ بذكر الدين فقال : { إني أخاف أن يبدل دينكم } ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال أو أن يظهر في الأرض الفاسد .
قوله : { وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ } قرأ نافع وأبو عمرو و حمزة واكسائي عُدتّ بإدغام الذال ، والباقون بالإظهار . وقوله « لاَ يُؤْمِنُ » صفة « لِمُتَكَبِّرٍ » .
فصل
لما توعد فرعونُ موسى بالقتل لم يأت في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله واعتمد على فضل الله فلا جَرَمَ صانه الله وحفظه منه . واعلم أن الموجب للإقدام على أيذاء الناء أمران :
أحدهما : كون الإنسان متكبراً قاسِيَ القلب .
والثاني : كونه منكراً للعبث والقيامة .
لأن المتكبر القاسي القلب قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقرّاً بالبعث والحساب صار خوفه من الحساب مانعاً له من الجري على موجب تكبّره فإذا لم يحصل له الإيمان بالبعث والقيامة كان طبعه داعياً له إلى الإيذاء ، لأن المانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلٌ فلا جَرَمَ تعظيم القَسْوةُ والإيذاء .
وقوله : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } اختلفوا في هذا المؤمن ، قال مقاتل والسدي : كان قبطياً . ( وقيل ) ابن فرعون ، وهو الذي حكى الله عنه { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } [ القصص : 20 ] وقيل : كان إسرائيلياً ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : الصديقون حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون الذي قال : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ، والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم ، وعن جعفر بن محمد أنه قال : كان أبو بكر خيرا من مؤمن آل فرعون ، لأنه كان يكتم إيمانه ، وقال أبو بكر جهاراً أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وكان ذلك سراً ، وهذا جهراً . روى عروةُ بن الزبير قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرني بأشد ما صنعهُ المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عبقةُ بن أبي مُعَيْط فأخذ يمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً وأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟ » .
قال بان عباس وأكثر العلماء كان اسم الجرل خزييل . وقال ابن إسحاق جبريل ، وقيل حبيب .
قوله : « رَجُلٌ مُؤْمِنٌ » الأكثرون قرأُوا بضم الجيم ، وقرىء رَجِلَ بكسر الجيم كما يقال : عَضِدٌ في عَضُدٍ . وقرأ الأعمش وعبد الوارث بتسكينها وهي لغة تميمٍ ونجد والأولى هي الفصحى .
قوله « من آل » يحتمل أن يكون متعلقاً « بيكْتُمُ » بعده أي يكتم إيمانه من آل فرعون .
قيل : هذا الاحتمال غير جائز؛ لأنه لا يقال : كتمتُ من فلانٍ كذا ، إنما يقال : كتمته كذا ، قال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] بل الظاهر تعلقه بمحذوف صفةً لرجل .
قال ابن الخطيب : يجوز أن يكون متعلقاً بقوله : « مؤمن » وإن كان ذلك المؤمن شخصاً من آل فرعون .
قال شهاب الدين : وجاء هنا على أحسن ترتيب حيث قدم المفرد ثم ما يقرب منه وهو حرف الجر ثم الجملة وقد تقدم أيضاً هذه المسألة في المائدة وغيرها ويترتب على الوجهين هل كان هذا الرجل من قرابة فرعون فعلى الأولى لا دليل فيه ، وقد رد بعضهم الأول بما تقدم ، وأنه لا يقال : ك تمت من فلان كذا إنما يقال : كتمت فلاناً كذا فيتعدى لاثنين بنفسه ، قال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] وقال الشاعر :
4332 كَتَمْتُكَ هَمًّا بالجَمُومَيْنِ سَاهِراً ... وَهَمَّيْنِ هَمًّا مُسْتَكِنّاً وَظَاهِرَا
أَحَادِيثَ نَفْسٍ تَشْتَكِي مَا يَرِيبُها ... وَوِرْدَ هُمُومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصَادِرَا
أي كتمتك أحاديث نفس وهمين ، فقدم المعطوف على المعطوف عليه ومحلّه الشعر .
قوله { أَن يَقُولَ رَبِّيَ } أي كراهة أن يقول ، أو لأن يقول . قال الزمخشري : ولك أن تقدر مضافاً محذوفاً أي وقت أن يقول والمعنى أتقتلونه ساعة سمتعم منه هذا القول من غير روية ولا فكر ( في أمره ) وهذا الذي أجازه رده أبو حيان بأن تقدير هذا الوقت لا يجوز إلا مع المصدر المصرّح به ، تقول : صِيَاحَ الدِّيكِ أي وقت صياحه ، ولو قلت : أجيئك أَنْ صَاحَ الديك أو أَنْ يَصِيحَ لم يصح نص عليه النحويون
قوله : « وقد جاءكم » جملة حالية ، يجوز أن تكون من المفعول .
فإن قيل : هو نكرة .
فالجواب : أنه في حيِّز الاستفهام وكل ما سوغ الابتداء بالنكرة سوغ انتصاب الحال عنها ، ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل .
فصل
لما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله بين أنه تعالى قَيَّضَ له إنساناً أجنبياً حتى ذب عنه بأحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة فقال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله } وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، وذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الإنكار ، وذلك لأنه ما زاد على أن قال : ربي الله وجاء بالبينات ، وذلك لا يوجب القتل البتةَ فقوله : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } يحتمل وجهين :
الأول : أن قوله « ربي الله » إشارة إلى تعزيز النبوة بإظهار المعجزة .
الثاني : أن قوله « رَبِّي اللهُ » إشار إلى التوحيد .
وقوله : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } إشارة إلى الدلائل الدالة على التوحيد ، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية على أن الإقدام على قتلِهِ غير جائز ، وهي حجة مذكورة على طريق التقسيم فقال : إن كان هذا الرجل كاذباً كان وبال كذبه عائداً عليه فاتركوه وإن كان صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم فعلى كلا التقديرين الأولى إبقاؤه حيًّا .
فإن قيل : الإشكال على هذا الدليل من وجهين :
الأول : أن قوله { يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } معناه أن ( ضرر ) كذبه مقصور عليه ولا يتعداه ، وهذا كلام فاسد لوجوه :
أولها : أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذباً يكون ضرر كذبه مقصوراً عليه لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل ويغتر به جماعة ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد السيّىء ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصوماتُ الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذباً لم يكن ضرر كذبه مقصوراً عليه بل يكون متعدياً إلى الكل ، ولهذا أجمع العلماء علىأن الزِّنْدِيقَ الذي يدعو الناس إلى زَنْدَقَتِهِ يجب قتله .
وثانيها : أنه إن كان هذا الكلام حجة فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة فيمكن جميع الزنادقة والمُبْطِلَة من أديانهم الباطلة .
وثالثها : أن الكفار الذين انكروا موسى عليه الصلاة والسلام يجب أن لا يجوز الإنكار عليهم لأنه يقال إن كان ذلك المنكر كاذباً في ذلك الإنكار فعليه كذبه وإن يك صادقاً فما انتفعتم بصدقه ، فثبت أن هذه الطريق صَوَّبَتْ صدقه وما أفضى ثُبُوتُه إلى عدم صدقه كان فاسداً .
الوجه الثاني : كان من الواجب أن يقال : وإنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ كُلُّ الَّذِي يَعِدُكُمْ؛ لأن الذي يصيب من بعض الذي يَعِدُ دون البعض هو الكفار والمنجمون . أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقاً في كل ما يقول فكان قوله : { يصيبكم بعض الذي يعدكم } غير لائق بهذا المقام .
والجواب عن الأسئلة الثلاثة بأن تقدير الكلام ( أنه ) لا حاجة لكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه من إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذباً فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه وإن كان صادقاً فما انتفعتم به .
والمقصود من ذلك التقسيم أنه لا حاجة بكم إلى قتله بل يكفيكم أن تُعْرِضُوا عنه وأن تمنعوه من إظهار دينه . وأما الجواب عن الوجه الثاني : وهو قوله كان الأولى أن يقال : « يصيبكم كل الذي يعدكم » فهو من وجوه :
الأول : أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللَّجَاجِ؛ لأَنَّ المقصود منه وإن كان كاذباً كان ضرر كذبه مقصوراً عليه وِإن كان صادقاً فلا أقلَّ من أن يصيبكُم بعض ما يعدكم وإن كان المقصود من الكلام هذا صح ، ونظيره قوله { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ سبا : 24 ] .
والثاني : أنه عليه الصلاة والسلام كان يتوعّدهم بهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة ، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصبهم بعض الذي وعدهم به .
الثالث : قال الزمخشري : « بعض » على بابها وإنما قال ذلك ليهضم موسى بعضَ حَقِّهِ في ظاهر الكلام فيريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وافياً فضلاً عن أن يتعصب له . وهذا أحسن من قول أبي عبيدة وغيره أن بعض بمعنى كل ، وأَنْشَدَ قَوْلَ لَبيدٍ :
4333 تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا لَمْ أَرْضَهَا ... أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضُ النُّفُوسِ حِمَامُها
وأنشد أيضاً قول عمرو بن شُيَيْمٍ :
4334 قَدْ يُدْرِكُ المُتأنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مع المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر :
4335 إنَّ الأُمُورَ إذَا الأَحْدَاثُ دَبَّرهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ
قال شهاب الدين : ولا أدري كيف فهموا « الكل » من البيتين الأخيرين ، وأما الأول ففيه بعض دليل لأن الموت يأتي على الكل . قال ابن الخطيب : والجمهور على أن هذا القول خطأ قالوا : وأراد لبيدٌ ببعض النفوس نفسه ، ومعنى البيت أنه وصف نفسه أنه نَزَّالُ أمكنةٍ أي كثيرُ المنزول في أماكن لا يرضاها إلا أن يربط نفسه الحِمام وهو الموت ، وقال اللَّيْثُ : بعض ههنا صلة يُريد يصبكم الذي يعدكم . لما حكى الزمخشري قول أبي عبيدة أن « بعض » بمعنى « الكل » وأنشد عنه بيت لبيد قال : إن صحت الرواية عنه فقد حق فيه قولُ المَازِنِيِّ في مسألة العَلْقَى : كان أجْفَى من أن يفقه ما أقول له . قال شهاب الدين : ومسألة المازني معه : هي أن أبا عبيدة قال للمازني : ما أكذب النحويين يقولون هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث ، فإن الألف في عَلْقَى ملحقة ، قال : فقلت له وما أنكرت من ذلك؟ فقال : سمعت رؤبة يُنْشِدُ :
4336 يَنْحَطُّ فِي عَلْقَى . .. .
فمل ينونهنا ، فقلت : ما واحد علقى؟ قال : عَلْقَاة ، قال المازني : فأَسِفْتُ ولم أفسر له لأنه كان أغلظمن أن يفهم مثل هذا . قال شهاب الدين : وإنما استغلظه المازني؛ لأن الألف التي للإلحاق قد تدخل عليها تاء التأنيث ( دالة على الوحدة فيقال : أَرْطَى ، وأَرْطَامة ، وإنما الممتنع دخولها على ألف التأنيث ) نحو : دَعْوَى ، وصَرْعَى .
وأما عدم تنوين « علقى » فلأنه سمَّى بها شيئاً بعينه ، وألف الإلحاق المقصورة حال العلمية تجري مجرى تاء التأنيث فيمتنع الاسم الذي هو فيه كما يمتنع فاطمةُ وينصرفُ قَائِمة .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } وفيه احتمالان :
الأول : أن هذا إشارة إلى الرمز والتعريض بعلو شأن موسى عليه الصلاة والسلام والمعنى أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات الباهرة ، ومن هداه إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفاً كذَّاباً فدل على أن موسى لي من الكذابينَ .
الاحتمال الثاني : أن يكون المراد أن فرعون مسرفٌ في عزمه على قتل موسى كذابٌ في ادعائه الإلَهيَّة وةالله لا يهدي من هذا شأنه وصفته بل يُبْطِلُهُ ويَهْدِمُ ِأمره .
قوله : { ياقوم لَكُمُ الملك اليوم } اعلم أن مؤمن آل فرعون لما استدل على أنه لا يجوز قتل موسى خوف فرعون وقومه ذلك العقاب الذي توعّدهم به فيوقوله { يصبكم بعض الذي يعدكم } فقال : يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض . أي أرض مصر يعني قد علوتم الناس وقَهَرْتُمُوهُمْ فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لعذاب الله بالتكذيب وقتل النبي فإنه لا مانع من عذاب الله إن حلَّ بكم ، وإنما قال « يَنْصُرُنَا وَجَاءَنَا » ؛ لأنه كان يظهر أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه .
قوله « ظَاهِرينَ » حال من الضمير « لكم » والعامل فيها وفي اليوم ما تعلق به « لكم » .
ولما قال المؤمن هذا الكلام قال فرعون : { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى } هي من رؤية الاعتقاد فيتعدى لمفعولين ثانيهما : « إلاَّ مَا أرَى » أي إلا ما أرى لنفسي . وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم . قوله { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } العامة على تخفيف الشين ، مصدر رَشَدَ يَرْشُدُ . وقرِأ معاذ بن جبل بتشديدها ، وخرجها أبو الفتح وغيره على أنها صفة مبالغة ، نحو ضَرَبَ فهو ضَرَّاب ، وقال النحاس : هو لحن ، وتوهمه من الرباعي يعني أرشد ، ورد على النحاس قوله : بأنه يحتمل أن يكون من « رشد » الثلاثي ، وهو الظاهر ، وقد جاء فعال أيضاً من أفعل وإن كان لا ينقاس ، قالوا : أدْرَكَ فَهُوَ دَرَّاك وأجْبَرَ فهو جَبَّار ، وأَقْصَرَ فهو قَصَّار ، وأَسْأرَ فهو سَئَّار . ويدل على أنه صفة مبالغة أن معاذاً كان يفسرها بسبيل الله .
قال ابن عطية : ويبعد عندي على معاذ رضي الله عنه وهل كان فرعون يدعي إلا الإلَهيَّةَ؟ ويعلق بناء اللفظ على هذا التركيب . قال شهاب الدين يعني ابن عطية أنهن كيف يقول فرعون ذلك فيقر بأنَّ ثمَّ من يهدي إلى الرشاد غيره مع أنه يدعي أنه إله .
وهذا الذي عزاه ابن عطية والزمخشري وابن جبارة صاحب الكامل إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس هو في « الرَّشَادِ » الذي هو في كلام فرعون كما توهموا ، وإنما هو في « الرَّشَادِ » الثاني الذي هو من قول المؤمن بعد ذلك . ويدل على ذلك ما روى أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح : وقرأ معاذ بن جبل سبيل الرشاد الحرف الثاني بالتشديد وكذلك الحسن وهو سبيل الله تعالى أوضحه لعباده كذلك فسره معاذ ( بن جبل ) وهو منقول من مُرْشِد كدَرَّاك من مدرك ، وجبار من مجبر ، وقصَّار من مقصِر عن الأمر ، ولها نظائر معدودة فأما قصّار الثوب فهو من قصرت الثوب قِصَارَةً . مفعلى هخذا يزول إشكال ابن عطية المتقدم ويتضح القراءة والتفسير . وقال أبو البقاء وهو الذي يكثر منه الإرشاد أو الرشد يعني أنه يحتمل أن يكون من « أَرْشَدَ » الرباعي ، أو « رَشَدَ » الثلاثي ، والأولى أن يكون من الثلاثي لما عرفت أنه ينقاس دون دو الأول .
قوله : { ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب } اعلم أنه تعالى ( لما ) حكى عن ذلك المؤمن أنه ( كان ) يكتم إيمانه والذي يكتم إيمانه كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون فلهذا السبب حصل ههنا قولان :
الأول : أن فرعون لما قال ذروني أقْتُلْ موسى لم يصرِّح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى بل أوهم أنه على دين فرعنون إلا أنه زعم أن المصلحة تقتضي إبقاء موسى؛ لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة ، وهذا لا يوجب القتل ، فالإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بقبح الكلمات بل الأولى تأخير قتله ومنعه من إظهار دينه لأنه إن كان كاذباً فَوَبَالُ كَذِبِهِ عليه ، وإن كان صادقاً حصل الانتفاع به من بعض الوجوه . ثم أكد ذلك بقوله { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } يعنى أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب ، فأوهم بقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أنه يريد موسى ، وإنما كان يقصد به فرعون؛ لأن المسرف الكذاب هو فرعون .
والقول الثاني : أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه أولاً فلما قال فرعون ذروني أقتل موسى أزال الكتمان وأظهر أنه على دين موسى وشَاقَّ فرعون بالحق وقال : يا قوم إنِّي أخاف عليكم مثلَ يوم الأحزاب أي مثل أيام الأحزاب إلا أنه لما أضاف اليومَ إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد وثمود ، وكان لكل حزب يوم في العذاب اقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس .
قوله : « مِثْلَ دأبِ » يجوز أن يكون « مثل » بدلاً ، وأن يكون عطف بيان والمعنى مثل دأبهم في عملهم من الكفر والتكذيب وسائر المعاصي دائماً لا يفترون عنه .
ولا بدّ من حذف مضاف يريد م ثل جزاء دأبهم . والحاصل أنه خوفهم الهلاك في الدنيا ثم خوفهم هلاك الآخرة { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } أي لا يُهْلِكُهُمْ قبل إقامة الحجة عليهم ، والمقصود التنبيه على عذاب الآخرة يعنى أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلاً بأنهم استوجبوه بتكذيبهم الأنبياء ، وتلك العلة قائمة هنا فوجب حصول الحكم هنا .
قالت المعتزلة : وما الله يريد ظلماً للعباد يدل على أنه لا يريد أن يظلم العباد ، ولا يريد الظلم من أحد العباد التبة ، ولو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالماً ، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم ألبتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد ، لأنه لو خلقها لأرادها ، وثبت أيضاً أنه قادر على الظلم إذ لو لم يقدر عليه لما حصل التمدح بترك الظلم ، وهذا الاستدلا ل قد تقدم مراراً مع الجواب .
قوله ( تعالى ) : { وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد } التناد تفاعل من النداء يقال : تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضاً ، والأصل : الياء ، وقد تقدم الخلاف في يائه كيف تحذف والأصل تَنَادُياً بضم الدال ولكنهم كسروها؛ لِتَصحذَ الياءُ . وقرأت طائفة بسكون الدال إجراء للوصل مجرى الوقف ، وتنادى القوم أي نادى بعضهُم بَعْضاً ، قال ( الشَّاعِرُ رَحِمَهُ الله ) :
4337 تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِساً ... فَقُلْنَا عُبَيْدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي
وقال آخر :
4338 تَنَادَوْا بَالرَّحِيلِ غَداً ... وَفِي تَرْحَالِهِمْ نَفْسِ
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدها مصدر تَنَادَّ من : نَدَّ البَعِيرُ إذَا هَرَبَ ونَفَرَ ، وهو في معنى قوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] الآيات ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى بعد ذلك : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } . قال أبو علي : التَّنادي مخففاً من التناد من قولهم نَدَّ فلانٌ إذا هرب . وفي الحديث : « جَوْلَةً يَنِدُّونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَهْرَباً » وقال أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ :
4339 وَبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحَاهَا ... فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي
قوله : « يَوْمَ تُوَلُّونَ » يجوز أن يكون بدلاً من « يوم التناد » وأن يكون منصوباً بإضمار « أعني » . ولا يجوز أن يكون عطف بيان ، لأنه نكرة وما قبله معرفة ، وقد تقدم في قوله { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] أن الزمخشري جعله بياناً مع تخالفهما تعريفاً وتنكيراً وهو عكس هذا ، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرة ، والأول معرفة .
قوله { مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يجوز في « من عاصم » أن يكون فاعلا بالجار ، لاعتماده على النفي ، وأن يكون مبتدأ أو من مزيدة على كلا التقديرين ، ومن الله متعلق بعَاصِمٍ .
فصل
أجمع المفسرون على أن يوم التنادي ( هو ) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه :
قيل : لأن أهل النار ينادون أصحابَ الجنة ، وأصحاب الجنة ينادون أصحابَ النار كما حكى الله عنهم .
وقال الزجاج : هو قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] .
وقيل : ينادي بعضُ الظالمينَ بعضاً بالويْل والثُّبُور ، فيقولون : يَا وَيْلَنَا . وقيل : يُنَادَوْنَ إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن : هَاؤُم اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ ، والكافر : يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ، وقيل : ينادى باللَّعَنةِ على الظالمين ، وقيل : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، وقيل : ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنَّ فلان بان فلان سِعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وفلان بان فلان شقي شقاوة فلا يسعد بعدها أبداً .
وقوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } . قال الضحاك : إذا سمعوا زفيرَ النار نَدُّوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى مكانهم فذلك قوله : { والملك على أَرْجَآئِهَآ } [ الحاقة : 17 ] وقوله : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا } [ الرحمن : 33 ] . قال مجاهد رضي الله عنه : فارِّينَ عن النار غير معجزين ، ثم أكد التهديد فقال : { مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يعصمكم من عذابه ، ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
قَوْلُهُ ( تَعَالَى ) : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } يعني يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالبينات ، ونقل الزمخشري أنه قبل يوسف بن إبراهيمخ بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بَقِيَ حيًّا إلى زمانه ، وقيل : هو فرعون آخر . والمقصود من الكل شيء واحد هو أن يوسف حاء قومه بالبينات هي قوله تعالى : { أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 ] والأولى أن يُراد بها المعجزات .
واعلم أن مؤمن آل فرعنونه لما قال لهم : ومن يضلل الله فما له من هاد ذكر هذا المثال وهو أن يوسف جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على التكذيب ولم ينتفعوا بتلك الدلائل ، وهذا يدل على ( أن ) من أضله الله فما له من هاد ، ثم قال : { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ } قال ابن عباس ( رضي الله عنه ) : من عبادة الله وحده لا شريك له ، فلم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات .
قوله « حَتَّى إذَا » غاية لقوله { فما زلتم في شك } ، فَلَمَا هَلَك { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي أقمتم على كفركم ، وظننتم أن الله تعالى لا يجدد عليكم الحجة ، وقرىء ألن يبعث الله بإدخال همزة التقرير يقرّر بعضهم بعضاً .
قوله : « كَذَلِكَ » أي الأمر كذلك ، أو مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف كذاب في عصيانه مرتاب في دينه ، فقوله « يضل الله » مستأنف ، أو نعت مصدر أي مثل إضلال الله إياكم حين لم تقبلوا من يوسف يضل الله من هو مسرف .
ثم بين تعالى ما لأجله بقُوا في ذلك الشك والإسراف فقال : { الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي بغير حجة إما بناء على التقليد ، وأما بناء على شبهات خسيسة .
قوله : « الَّذِينَ يُجَادِلُونَ » يجوز فيه عشرة أوجه :
أحدها : أنه بدل من قوله « من هو مسرف » وإنما جمع اعتباراً بمعنى « من » .
الثاني : أن يكون بياناً له .
الثالث : أن يكون صفة له وإنما جمع على معنى « من » أيضاً .
الرابع : أن ينتصب بإضمار أعني .
الخامس : أن يرتفع خبر مبتدأ مضمر أي هم الذين .
السادس : أن يرتفع مبتدأ خبره « يَطْبَعُ اللهُ » ، و « كذلك » خبر مبتدأ مضمر أيضاً أي الأمر كذلك ، والعائد من الجملة وهي يطبع على المبتدأ محذوف أي على كل متكبر منهم .
السابع : أن يكون مبتدأ ، والخبر « كَبُرَ مَقْتاً » ولكن لا بُدّ من حذف مضاف ليعود الضمير من « كبر » عليه والتقدير : قال الذين يجادلون كَبُرَ مقتاً ، ويكون « مَقْتاً » تمييزاً ، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير كبر مَقْتُ حالهم أي جادل المجادلين .
الثامن : أن يكون « الَّذِينَ » مبتدأ أيضاً ، ولكن لا يقدر حذف مضاف ، ويكون فاعل كبر ضميراً عائداً على ما تقدم أي كبر مقت جدالهم .
التاسع : أن يكون « الذين » مبتدأ أيضاً ، والخبر { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } قاله الزمخشري . ورده أبو حيان بأن فيه تفكيك الكلام بضعه من بعض؛ لأن الظاهر تعلق « بغَيْرِ سُلْطَانٍ » « بِيُجَادِلُونَ » ولا يتعلق جعله خبراً « للذين » لأنه جار ومجرور فيصير التقدير : الذي يجادلون كائنونَ أو مستقرونَ بغير سلطان أي في غير سلطان؛ لأن الباء إذْ ذَاكَ ظرفية خبرٌ عن الجثث .
العاشر : أنه مبتدأ وخبره محذوف أي معاندون ونحوه قاله ِأبو البقاء .
قوله : « كَبُرَ مَقْتاً » يحتمل أن يراد به التعجب والاستفهام ، وأن يراد به الذم « كبئس » وذلك أنه يجوز أن يبنى ( فَعُلَ ) بضم العين مما يجوز فيه التعجب منه ، ويَجْرِي مَجْرَى نِعْمَ وَبِئْسَ في جميع الأحكام ، وفي فاعله ستة أوجه :
الأول : أنه ضمير عائد على حال المضاف إلى الذين ، كما تقدم تقريره .
الثاني : أنه ضمير يعود على جدالهم المفهوم من « يُجَادِلُونَ » كما تقدم تقريره أيضاً .
الثالث : أنه الكاف في « كَذَلِكَ » . قال الزمخشري : وفاعل « كَبُرَ » قوله : كذلك ، أي كَبُرَ مقْتاً مِثْل ذَلِكَ الجِدال ، و « يَطْبَعُ اللهُ » كلام مستأنف .
ورده أبو حيان : بأ ، فيه تفكيكاً للكلام وارتكابَ مذهب ليس بصحيح ، أما التفكيك فلأن ما جاء في القرآن من « كَذَلِكَ يطبع أو تطبع » إنما جاء مربوطاً بعضه ببعض ، وكذلك هذا وأما ارتكاب مذهب غير صحيح فِإنه جعل الكاف اسماً ، ولا يكون اسماً إلا في ضرورة خلافاً للأخفش .
الرابع : أن الفاعل محذوف نقله الزمخشري ، قال : ومن قال كبر مقتاً عند الله جِدَالهُم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه . قال شهاب الدين : القائل بذلك هو الحَوْفِيُّ لكنه لا يريد بذلك تفسير الإعراب إنما يريد به تفسير المعنى ، وهو معنى ما تقدم من أنّ الفاعل ضمير يعود على جدالهم المفهوم من فعله ، فصرح به الحوفي بالأصل ، وهو الاسم الظاهر ، ومراده ضمير يعود عليه .
الخامس : أن الفاعل ضمير يعود على ما بعده ، وهو التمييز ، نحو : نعم رجلاً زيد ، وبئس غلاماً عَمْرو .
السادس : أنه ضمير يعود على من في قوله : « من هو مسرف » وأعاد الضمير من كبر مقتاً اعتباراً بلفظها وحينئذ يكون قد راعى لفظ من أولاً في قوله كبر مقتاً .
وهذا كله إذا أعربت « الذين » تابعاً ل { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } نعتاً أو بياناً ، أو بدلا . وقد تقدم أن الجملة من قوله « كبر مقتاً » فيها وجهان :
أحدهما : الرفع ، إذا جعلناها خبر المبتدأ .
والثاني : أنها لا محل لها ، إذا لم نجعلها خبراً ، بل هي جملة استئنافية .
وقوله : « عِنْدَ الله » متعلق « بكَبُرَ » ، فكذلك قد تقدم أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً وأن يكون فاعلاً وهم ضعيفان .
والثالث وهو الصحيح : أنه معمول ل « يَطْبَعُ » أي مثل ذلك الطبع يطبع الله ، و « يطبع الله » فيه وجهان :
أظهرهها : أنه مستأنف .
والثاني : أنه خبر للموصول كما تقدم .
قوله : « قَلْبِ متكبّر » قرأ أبو عمرو ، وابن ذَكْوَانَ بتنوين « قَلْبٍ » ، وصف القلب بالتكبر والجبروت لأنهما ناشئان منه ، وإن كان المراد الجملة ، كما وصف بالإثم في قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] وفي قوله : { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } [ غافر : 56 ] قال بان الخطيب : « وأيضاً قال قوم : الإنسان الحقيقي هو القلب » والباقون بإضافة « قلب » إلى ما بعده ، أي كُلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبرٍ . قال أبو عبيد : الاختيار الإضافة ، لوجوه :
الأول : أن عبدالله قرأ : « على قلب كمل متكبر » وهو شاهد لهذه القراءة .
الثاني : أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما . وقد قدر الزمخشري مضافاً في القراءة الأولى ، أي على كُلّ ذِي قلبٍ متكبر ، فجعل الصفة لصاحبِ القلب . قال أبو حيان : « ولا ضرورة تدعو إلى اعتقاد الحذف » . قال شهاب الدين : بل ثَمَّ ضرورة إلى ذلك ، وهو توافقُ القراءتين واحداً وهو صاحب القلب بخلاف عدم التقدير ، فإنه يصير الموصوف في إحداهما القلب وفي الأخرى صاحبه .
فصل
قال الزَّجَّاجُ : قوله : « الذين » تفسير ل « المسرف المرتاب » ، يعني هم الذين يجادلون في آيات الله أي في إبطالها بالتكذيب « بغير سلطان » حجة ، « أتاهم » ، « كبر مقتاً » أي كبر ذلك الجدال مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا . ودلت الآية على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد مقت بعض عباده ، إلا أنها صفة التأويل في حق الله ، كالغضب ، والحياء ، والعجب .
ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك حصل عند الذين آمنوا ، قال القاضي : مقت الله إياهم يدل على أن كل فعل ليس بخلق لا أنّ كونه فاعلاً للفعل ، وما قاله محال .
فصل
قد تقدم الكلام في الطبع ، والرَّيْنِ ، والقَسوة ، قال أهل السنة : قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله } يدل على أن الكل مِنْ عند الله . وقالت المعتزلة : الآية تدل على أن هذا الطبع إنما حصل ، لأنه كان في نفسه متكبراً جباراً . قال ابن الخطيب : وعند هذا تصيِرُ الآية حجة لكل واحد من الفريقين من وجه ، وعليه من وجه آخر ، والقول الثاني يخرج عليه رُجْحَانُ مذهبنا ، وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعو إلى الطاعة ، والانقياد لأمر الله ، فيكون القول بالقضاء والقدر حقاً ، فيكون تعليل القلب بكونه متكبراً متجبراً باقياً ، فثبت أن القول بالقضاء والقدر هو ما ينطبق عليه لفظ القرآن من أوله لي آخره .
فصل
قال مقاتل : الفرق بين المتكبر ، والجبار ، أن المتكبر عن قبول التوحيد ، والجبار في غير حق . قال ابن الخطيب : كما السعادة في أمرين : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل المتكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله ، والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله .
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
قوله : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً } . . . الآية . قال المفسرون : إن فرعون قال لوزيره هامان : ابْنِ لي صرحاً ، والصرح : البناء الظاهر الذي لا يخفى على الناظر ، وإن بعُدَ . وأصله من التَّصريح ، وهو الإظهار { لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات } طُرُقها .
فإن قيل : ما فائدة هذا التكرير؟ ولو قيل : لَعَلِّي أبلغ أسباب السموات كان كافياً؟
فاجاب الزمخشري عنه فقال : « إنه إذا أبهم الشيء ، ثم أوضح كان تفخيماً لشأنه ، فلما أراد تفخيم السموات أبهمها ثم أوضْحَهَا » .
فصل
اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السموات أم لا؟
قال ابن الخطيب : أما الظَّاهِرِيُّونَ من المفسرين فقد قطعوا بذلك ، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء الصرح . والذي عندي أن هذا بعيدٌ ، والدليل عليه أن فرعون لا يخلو إما أن يقال : إنه كان مجنوناً أو عاقلاً ، فإن كان مجنوناً لم يجز من الله عزّ وجلّ أن يذكر حكاية كلامه في القرآن ، وإن كان عاقلاً فنقول : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالِي ويعلم أيضاَ ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر من حال السماء بين أن ينظر إليها من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليها من أعلى الجبال ، وإذا كان هذان العلمان بديهيَّان امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء ، وإذا كان فاسداً معلوماً بالضرورة امتنع إسْنَادُهُ إلَى فِرْعَوْنَ . والذي عندي في تفسير هذه الآية ، أنَّ فِرْعَونَ كان من الدهرية ، وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال : إنّا لا نرى شيئاً نحكم عليه أنه إله العالم ، فإنه لو كان موجوداً لكان في السماء ، ونحن لا سبيلَ لنا إلى صعود السموات فكيف يمكننا أن نراه ، ثم إنه لأجل المبالغة لبيان أنه لا يمكن الصعود إلى السماء قال : { ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب } والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحِسِّ ممتنعاً . ونظيره قوله تعالى : { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } [ الأنعام : 35 ] وليس المراد منه أن محمداً عليه الصلاة والسلام طلبَ نفقاً في الأرض ، أو وضع سُلَّماً إلى السماء بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيلَ لك إلى تحصيل ذلك المقصود ، كذا ههنا غرض فرعون من قوله : { يا هامان ابن لي صرحاً } يعني أن الاطلاع إلى إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق ، وكان هذا الطريق ممتنعاً ، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى .
واعلم أن هذه الشبهة فاسدةٌ؛ لأن طرق العلم ثلاثة : الحِسّ ، والخَبَر ، النَّظَر ، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحِسَّ انتفاء المطلوب؛ وذلك لأن موسى عليه الصلاة والسلام كان قد بين لفرعون أن الطريقَ في معرفة الله تعالى إنما هو الحُجَّة ، والدليل كما قال : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] { رَبُّ المشرق والمغرب } [ المزمل : 9 ] إلا أن فرعونَ بِخُبْثِهِ ومَكْرهِ تغافل عن ذلك الدليل ، وألقى إلى الجُهّال أنه لما كان لا طريق إلى الإحساس بهذه الإله وجب نفيه .
قوله : « أسْبَابَ السَّمَواتِ » ، فيه وجهان :
أحدهما : أنه تابع « للأسباب » قبله ، بدلاً أو عطف بيان .
والثاني : أنه منصوب بإضمار أعني . والأول أولى؛ إذ الأصْلُ عدمُ الإضمار .
قوله : « فَأَطَّلِعَ » العامة عنلى رفعه عطفاً على أبلغ فهو داخل في حيز الترجي؛ وقرأ حفص في آخرين بنصبه وفيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه جواب الأمر في قوله « ابن لي » فنصب بأن مضمرة بعد الفاء في جوابه على قاعدة البصريين كقوله :
4340 يا نَاقُ سِيرِي عَنَقاً فَسِيحا ... إلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا
وهو أوفق لمذهب البصريين
الثاني : أنه منصوب ، قال أبو حيان : عطفاً على التوهم؛ لأن خبر « لعل » جاء مقروناً « بأن » كثيراً في النظم ، وقليلاً في النثر ، فمن نصب توهم أن الفعل المضارع الواقع خبراً منصوب « بأن » والعطف على التوهم كثير وإن كان لا ينقاس .
الثالث : أن ينتصب على جواب الترجي في لعل ، وهو مذهب كوفي استهشد أصحابه بهذه القراءة وبقراءة نافع { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } [ عبس : 34 ] بنصب « فتنفعه » جواباً ل « لعله » . وإلى هذا نحا الزمخشري ، قال : « تشبيهاً للترجي بالتمني » . والبصريون يأبون ذلك ويخرجون القراءتين على ما تقدم .
وفي سورة عبس يجوز أن يكون جواباً للاستفهام في قوله : « وَمَا يُدْرِيكَ » فإنه مترتبٌ عليه معنًى . وقال ابن عطية وابن جبارة الهذلي على جواب التمني ، وفيه نظر؛ إذ ليس في اللفظ تمن ، إنما فيه ترجٍّ ، وقد فرق الناس بين التَّمنِّي والتَّرجِّي ، بأن الترجي لا يكون إلا في الممكن عكس التمني فإنه يكون فيه وفي المستحيل كقوله :
4341 لَيْتَ الشَّبابَ هُوَ الرَّجِيعُ عَلَى الفَتَى ... والشَّيْبُ كَانَ هَوَ البَدِيءَ الأَوَّلُ
قوله : { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ } ، قرىء : « زَيَّنَ » مبنياً للفاعل ، وهو الشيطان ، وتقدم الخلاف في « صد عن السبيل » في الرعد ، فمن بناه للفاعل حذف المفعول أي صد قومه عن السبيل ، ( وهو الإيمان ) . قالوا : ومِنْ صَدِّه قوله : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } [ طه : 71 ] ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله }
[ محمد : 1 ] وقوله : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } [ الفتنح : 25 ] وابن وثاب : « وصِدَّ » بكسر الصاد ، كأنه نقل حركة الدال الأولى إلى فاء الكلمة بنعد توهم سلب حركتها ، وقد تقدم ذلك في نحو : ردَّ ، وأنه يجوز فيه ثلاث لغات الجائزة في قِيلَ وبِيعَ ، وابن إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة : وَصَدٌّ بفتح الصاد ، ورفع الدال منونة جعله مصدراً منسوقاً على « سُوءُ عَمَلِهِ » ، أي زين له الشيطان سُوءَ العَمَلِ والصَّدَّ ، { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } أي وما كيده في إبطال ما جاء به موسى إلا في خسارة وَلاَكٍ . والتَّبَابُ الخِسَارة ، وعقد تقدم في قَوْلِهِ « غَيْرَ تَتْبِيبٍ » .
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
قوله تعالى : { وَقَالَ الذي آمَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } أي طريق الهدى { ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ } أي متعةٌ تنتفعون بهنا مرة ثم تنقطع { وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار } التي لا تزول ، ثم قال : { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدم الخلاف في قوله : « يدخلون الجنة » في سورة النساء . وقال مقاتل : لا تبعة عليهم فيما يُعْطَوْنَ في الجنة من الخيرات .
واختلفوا في تفسير قوله : « بِغَيْرِ حِسَابٍ » فقيل : لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل : بغير حساب ، وقيل : لأنه تعالى معطيهم ثواب آبائِهِمْ ، ويضم إلى ذلك الثواب من التفضيل ما يخرج من الحساب واقع في مقابلة : « إلاّ مثلها » يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير ، لئلا يزيد على الاستحقاق فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وغير حساب ، وهذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجحٌ على جانب العقاب ، فإذا عارضنا عُمُومَاتِ الوَعِيدِ بعُمُومَاتِ الوَعْد وجب أن يكون الترجيحُ لجانبِ عُمُومَاتِ الوعد ، وذلك يهدم قواعد المعتزلة .
فصل
احتج أهل السنة بهذه الآية ، فقالوا : قوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً } نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجَرَى مَجْرَى أن يقال : « من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا » فإنه يدخل فيه أنّ من آمن بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة فكذلك ها هنا وجب أن يقال : كُلُّ من عمل صالحاً واحداً من الصالحات فإنه يدخل الجنة ، ويُرْزَقُ فيها بغير حساب ، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتنزيه والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الطاعات ، وبأحسن الطاعات ، فوجب أن يدخل الجنة ، والخصم يقول : إنه يَخْلُدُ في النار أَبَدَ الآباد ، وذلك مخالف لهذا النص الصريح . قالت المعتزلة : إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمناً ، ومرتكب الكبيرة عندنا ليس بمؤمن ، فلا يدخل في هذا الوعد والجواب ما تقدم في قوله : « يُؤْمِنُون بالغَيْبِ » فإن صاحب الكبيرة مؤمن فَسَقَطَ كلامُهُمْ .
فصل
دلت هذه الآية على اعتبار المماثلة في الشريعة ، وأن الزائد على المِثْلِ غير مشروع ، وليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرةٌ في أي الأمور ، فلو حملناها على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عامةً خاصة . وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال والتخصيص كان الأول أولى ، فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا ما خَصّهُ الدليل وإذا ثبت ذلك بني عليه أحكامٌ كثيرة من الجنايات على النفوس والأعظاء والأموال؛ لأنه تعالى بين أنَّ جزاءَ السيئة مقصورٌ على المِثْلِ ، وبين أن جزاء الحسنة ليس مقصوراً على المِثْلِ بل هو خارج عن الحساب .
قوله تعالى : { وياقوم مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار } . قوله تعالى : { وياقوم } قال الزمخشري : فَإن قُلْتَ : لِمَ جاء بالواو في الناداء الثالث دون الثاني؟
قلت : لأن الثانيَ داخل على كلام هو بيان للمجمل ، وتفسير له ، فأعطي الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو . وأما الثالث فداخلٌ على كلام ليس بتلك المَثَابَةِ ، أي كلام مباين للأول والثاني ، فَحَسُنَ إيرادُ الواو العاطفة فيه . وكرر النداء لأن فيه زيادةَ تنبيه له وإيقاضاً من سنة الغفلة ، وأظهر أن له بهذا مزيدَ اهتمامٍ ، وعلى أُولئك الأقوام فرط شفقة .
قوله : { وتدعونني إِلَى النار } هذه الجلة مستأنفة ، أخبر عنهم بذلك بعد استفهام عن دعاء نفسه ويجوز أن يكون التقدير : وما لكم تدعونني إلى النار ، وهو الظاهر ، ويضعف أن تكون الجملة حالاً ، أي مالكم أدعوكم إلى النجاة حال دعائكم إياي إلَى النار .
قوله : « تَدْعُونني » هذه الجملة بدل من « تَدْعُونَنِي » الأولى على جهة البيان لها . وأتى في قوله « تَدْعُونَنِي » بجلمة فعلية؛ ليدل على أن دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، وفي قوله : « وَأَنَا أَدْعُوكُمْ » بجلمة إسميَّة؛ ليلد على ثُبُوتِ دعوته وتَقْوِيَتِهَا .
فصل
معنى قوله : « مَالَكُمْ » كقولك : ما لي أراك حزنياً ، أي مالك ، يقول : أخبروني عنك ، كيف هَذِهِ الحال؟ أدعوكم إلى النجاة من النار بالإيمان بالله ، وتدعونني إلى النار بالشرك الذي يُوجِبُ النار ، ثم فصر فقال { تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } . والمراد بنفي العلم نفي الإلهة كأنه قال : وَأُشْرك به ما ليس لي بإله ، وما ليس إله كيف يُعْقَلُ جَعْلُهُ شريكاً للإله؟
ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر بيَّنَ أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغَفَّارِ ، « العزيز » في انتقامه ممن كفر ، « الغفار » لذنوب أهل التوحيد . فقوله : « العَزِيزِ » إشارة إلى كونه كامل القدرة ، وأما فرعون فهو في غاية العجز ، فكيف يكون إلهاً؟ وأما الأصنام فهي حجارة منحوتة فيكف يعقل كونها آلهة؟ قوله : « الغَفَّار » إشارة إلى أنهم يجب أن لا يَيْأَسُوا من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مُدّةً مَدِيدَة فَإنَّ إله العَالَم ، وإن كان عَزِيزاً لا يُغْلبُ ، قادراً لا يعارض ، لكنه غافار يغفر كفر سبيعنَ سنة بإيمان ساعةٍ واحدةٍ .
قوله : « لاَ جَرَمَ » تقدم الخلاف في « لاَ جَرَمَ » في سورة هود في قوله : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون } [ هود : 22 ] ، وقال الزمخشري هنا : « ورُوِيَ عن بعض العرب : لا جُرْمَ أنه يفعل كذا بضم الجيم وسكون الراء بمعنى : لا بُدَّ . وَفَعَلٌ وَفُعْلٌ أخوان كَرَشَدٍ ، وَرُشْدٍ ، وعَدَمٍ ، وَعُدْمٍ » .
وشأنه على مذهب البصريين أن يجعل رداً على دعاه إليه قَوْمُهُ .
و « جَرَمَ » فَعَلٌ بمعنى حَق ، و « أَنَّ » مع ما في حيّزها فاعله ، أي وَجَبَ بُطْلانُ دَعْوَتِهِ ، أو بمعنى كَسَبَ من قوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } [ المائدة : 2 ] أي بسبب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته .
ويجوز أن يقال إنّ « لاَ جَرَمَ » نظير « لاَ بُدَّ » فَعَلَ من الجَرْم وهو القطع كما أن « بُدًّا » فعل من التبديد وهو التفريق ، وكما أن معنى : لاَ بُدَّ أنكَ تَفْعَلُ كذا بمعنى لاَ بُدَّ لك من فِعْلِهِ ، فكذلك { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] أي لاَ قَطْعَ لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون ( العقاب ) النار لا انقطاع لاسْتِحْقَاقِهِمْ ، ولا قطع لبُطْلاَن دعوة الأصنام أي لا تزال باطلةً لا ينقطع ذلك فينقلب حقًّا .
فصل
قال البغوي : « لاَ جَرَمَ » حقاً { أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ } أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي ( رحمه الله ) لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست له استجابة دعوة ، فسمى استجابة الدعوة دعوة ، إطلاقًاً لاسم أحد المضافين على الآخر ، كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها . وقيل : ليستْ له دعوة أي عبادة في الدنيا؛ لأن الأوثانَ لا تَدَّعِي الربوبية ، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها .
ثم قال : « وأَنَّ مَرَدَّنَا » أي مرجعنا « إلَى اللهِ » فيجازي كُلاًّ بما يَسْتَحِقُّهُ ، « وَأَنَّ المُسْرِفِينَ » المشركين { هُمْ أَصْحَابُ النار } . قاله قتادة . وقال مجاهد : السفاكين الدماء .
ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتِمَةٍ لطيفة فقال : { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ } وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت ، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر .
قوله : « وَأُفَوِّضُ » هذه مستأنفة . وجواز أبو البقاء أن تكون حالاً من فعال « أقولُ » .
وفَتَحَ نافعٌ وأبُوا عَمْروا الياء من : أمري ، والباقون بالإسكان .
فصل
لما خوفهم بقوله : { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ } توعدوه وخوفوه فعول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على الله بقوله : { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله } وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه الصلاة والسلام حين خوّفة فرعون بالقتل فرجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } [ غافر : 27 ] . ثم قال : { إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } . أي عالم بأحوالهم يعلم المحقَّ من المُبطل .
قوله : { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } . قال مقاتال : لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه ، فلم يهتدوا عليه . وقيل : المراد بقوله : فوقاه الله سيئات ما مكروا أنه قصدوا إدخاله في الكفر ، وصرفه عن الإسلام ، فوقاه الله من ذلك . والأول أولى ، لأن قوله بعد ذلك : { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب } لا يليق إلا بالوجْهِ الأول .
وقرأ حمزة وَحِيقَ بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بفالتح .
قال قتادة : نجا مع مُوسَى ، وكان قِبْطِيًّا . « وَحَاقَ » نزل « بآل فرعون سواء العذاب » الغرق في الدنيا ، والنار في الآخرة .
قوله : « النَّارُ » الجمهور على رفعها ، وفيه ثلاثةُ أوجهُ :
أحدهما : أنه بدل من : « سوء العذاب » قاله الزجاج .
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ ، لأنه جواب لسؤال مقدر؛ و « يُعْرَضَونَ » على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من « النار » ، ويجوز أن يكون حالاً من « آل فرعون » .
الثالث : أنه مبتدأ ، وخره : « يُعْرََضُونَ » .
وقُرِىءَ النَّارَ منصوباً ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 32 ] .
الثاني : أن ينتصب على الاختصاص ، قال الزمخشري : فعلى الأول لا محل « لِيُعْرَضُونَ » ؛ لكنه مفسراً ، وعلى الثاني هو حال كما تقدم .
فصل
دلت هذه الآية على إثبات عذاب القبر؛ لأن الآية تقتضي عرض النار عليهم غُدُوًّا وعَشِيًّا ، وليس المراد منه يوم القيامة ، لقوله بعده { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } ، وليس المراد منه أيضاً الدنيا؛ لأن عرض النار عليهم غدوًّا وعشياً ما كان حاصلاً في الدنيا فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت ، وقبل القيامة . وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء ، وإذا ثبت في حقهم ثبت في غيرهم لأنه لا قائل بالفَرْقِ .
فإن قيل : لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدواً وعشياً عرض القبائح عليهم في الدنيا لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب ، وخوّفهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار . ثم في الآية ما يمنع حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين :
أحدهما : أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائماً غير منقطع . وقوله : { عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } يقتضي أن لا يحصُلَ ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر .
الثاني : أن الغدوةَ والعشيةَ إنما يحصلان في الدنيا ، أما في القيامة فلا وجود لهما ، فثبت أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر .
والجواب على الأول : أن في الدنيا عرض عليهم الكلمات التي تذكرهم أمر النار ، ولم يعرض عليهم نفس الناس ، وهذا الظاهر الآية ، وارتكاب المجاز ، وأما قولهم : الآية تدل على حصول العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز فالجواب لِمَ لا يجوز أن يكتفى في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين ، ثم عند قيام يُلْقَى في النار ، فيدوم عذاب حينئذٍ ، واأيضاً لا يمتنع أن يكون ذكر الغَدْوَةِ والعشية كناية عن الدوام ، كقوله تعالى :
{ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] وأما قولهم : إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية قلنا : لِمَ لا يجوز أن يقال : إن ( عند ) حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب .
فصل
قال ابنُ مَسعُود رضي الله عنه أرواح آل فرعون في أجْوَاف طيرٍ سُودٍ يعرضون على النار كل يوم مرتين تغدوا وتروح إلى النار ، يقال : يا آل فرعونن هذه منازلكم . وقال قتادة ، والسدي والكلبي : تعرض روح كل كافر على النار بُكْرَةً وعَشِيًّا ما دامتْ الدنيا .
وروى ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أحَدَكُم إذَا مَاتَ عُرِضَ عليه مَقْعَدُهُ بالغَدَامةِ والْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ، وإنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّار؟ِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فيقال : هذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ القِيَامةَ » .
قوله : « وَيَوْمَ تَقُومُ » فيه ثلاثة أوجهٍ :
أظهرها : أنه معمول لقول مضمر ، وذلك القوم المضمر محكي به الجملة الأمرية من قوله : « أَدْخِلُوا ، والتقدير : يقال لهم يوم تقوم الساعة : أَدْخِلُوا .
الثاني : أنه منصوب » بأدْخِلُوا « أي أدخلوا يوم تقوم ، وعلى هذه الوجهين ، فَالْوقَفُ تامٌّ على قوله : » وَعَشِيًّا « .
الثالث : أنه معطوف على الظرفين قبله ، فيكون معمولاً ليُعْرَضَونَ ، والوقف على هذا قوله : » الساعة « . و » ادخلوا « معمول لقول مضمر ، أي يقال لهم كذا . وقرأ الكسائيُّ وحمزةٌ ونافعٌ وحفصٌ أدْخِلُوا بقط الهمزة وكسر الخاء ، أي يقال للملائكة أدخلوا ، أَمْراً من » أَدْخَلَ « » فآل فرعون « مفعولٌ أول ، و » أشد العذاب « مفعول ثانٍ ، والباقون بهمزة وصل ، من دَخَلَ يَدْخُلُ ، فآل فِرْعونَ منادَى حذف حرف الناء منه و » أَشَدّ « منصوب به ، إما ظرفاً ، وإما مفعولاً به . أي ادخلوا يا آل فِرْعَون في أشد العذاب . قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد ألوان العذاب ، غير العذاب الذي كانوا يعذبون به منذ غرقوا .
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله تعالى : { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ } في العامل في « إذْ » ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أنه معطوف على « غُدُوًّا » فيكون معمولاً ليُعْرَضُونَ أي يعرضون على النار في هذه الأوقات كلها قاله أبو البقاء .
الثاني : أنه معطوف على قوله « إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَنَاجِرِ » قاله الطبري . وفيه نظر؛ لبُعْد مابينهما ، ولأن الظاهر عودُ الضمير من « يَتَحَاجُّونَ » إلى آل فرعون .
الثالث : أنه منصوب بإضمار اذكر .
قوله : « تبعاً » فيه ثلاثة أوجه :
أحدهما : أنه اسم جَمْع لِتَابع ، ونحوه : خَادِم وخَدَمٌ ، وغَائبٌ وغَيَبٌ وآدمٌ وأَدَمٌ .
قال البغوي : والتَّبَعُ يكون واحداً وجَمعاً في قولن أهل البَصْرة ، واحده تابع . وقال الكوفيون : هو جمع لا واحد له و جمعه أتباع .
والثاني : أنه مصدر واقع موقع اسم الفاعل أي تابعين .
والثالث : أنه مصدر أيضاً ولكن على حذف مضاف أي ذَوِي تَبَعٍ .
قوله : « نَصِيباً » فيه ثلاثةُ أوجه :
أحدهما : أن ينتصب بفعل مقدر به عليه قوله : « مُغْنُونَ » تقديره : هل أنتم دَافِعُونَ عَنَّا .
الثاني : أن يُضَمَّن مُغْنُونَ معنى حَامِلينَ .
الثالث : أن ينتصب على المصدر ، قال أبو البقاء : كَما كَانَ « شَيءٌ » كذلك ، ألا ترى إلى قوله : { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً } [ آل عمران : 10 ] « فَشَيْئاً » في موضع « غِنًى » فكذلك « نصيباً » و « من النار » صفة ل « نصيباً » .
قوله : { إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ } العامة على رفع « كُلٌّ » ورفعه على الابتداء و « فِيهَا » خبره والجملة خبر « إنَّ » ، وهذا كقوله في آل عمران : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } [ آل عمران : 154 ] ، في قراءة أبي عمرو . وقرأ ابن السّميْقَع وعيسى بْنُ عُمَرَ بالنصب ، وفيه ثلاثةُ أوجه :
أحدها : أن يكون تأكيداً لاسم إن ، قال الزمخشري : توكيد لاسم إن ، وهو معرفة ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كًُلَّنَا فيها انتهى ، يعني فيكون « فيها » هو الخبر ، وإلى كونه توكيداً ذهب ابْنُ عطيةَ أيضاً .
ورد ابن مالك هذا المذهب فقال في تَسْهِيلِهِ : « ولا يستغني بنية إضافته خلافاً للزمخشري » .
قال شهاب الدين : « وليس هذا مذهباً للزمخشري وحده بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً » .
والثاني : أن تكون منصوبة على الحال ، قال ابن مالك : والقول المَرْضِيُّ عندي أنّ « كُلاًّ » في القراءة المذكورة منصوبة على الحال من الضمير المرفوع في « فِيهَا » و « فيها » هو العامل؛ وقد قدمت عليه مع عدم تصرفه ، كما قدمت في قراءة مَنْ قَرَأَ : { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ } [ الزمر : 67 ] .
وفي قول النَّابِغَةِ :
4342 رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْرَاعِهِمْ ... فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَة بْنِ حُذَارِ
وقال بعض الطائيين :
4343 دَعَا فَأَجَبْنَا وَهْوَ بَادِيَ ذِلَّة ... لَدَيْكُمْ وَكَانَ النَّصْرُ غَيْرَ بَعِيدِ
يعني بنصب « بادي » . وهذا هو مذهب الأخفش ، إلا أن الزمخشري منع من ذلك ، قال رحمه الله : فَإن قُلْتَ : هل يجوز أن يكون « كلاًّ » حالاً ، قد عمل فيهِ « فيها » ؟ قُلْتُ : لا؛ لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمةً كما يعمل في الظرف متقدماً ، تقول : كُلَّ يَوْمٍ لَكَ ثَوْبٌ ، ولا تقول : قائماً في الدَّارِ زَيْدٌ ، قال أبو حيان : وهذا الذي منعه أجازه الأخفش ، إذا توسعت الحال ، نحو : زيدٌ قائماً في الدار ، وزيد قائماً عندك .
والمثال الذي ذكره ليس مطابقاً لما في الآية؛ لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم وهو اسم إن ، وتوسطت الحال إذا قلنا : إنها حال ، وتأخر العامل فيها . وأما تمثيله بقوله : « ولا تقول قائماً في الدَّارِ زيْد » فقد تأخر فيه المسند والمسند إليه ، وقد ذكر بعضهم : أن المنع في ذلك إجماع من النحاة .
قال شهاب الدين : الزمخشري منعه صحيح؛ لأنه ماشٍ على مذهب الجمهور وأما تمثيله بما ذكر فلا يضره؛ لأنه في محل المنع ، فعدم تجويزه صحيح .
الثالث : أن « كُلاًّ » بدل من « نَا » في « إنَّا » ؛ لأن « كُلاًّ » قد وَليَت العَوامِلَ فكأنه قيل : إنّ كُلاًّ فيها وإذا كانوا قد تأولوا قوله :
4344 .. . . . حَوْلاً أَكْتَعَا
و « حَوْلاً أجْمَعَا » على البدل مع تصرف أكْتَعَ وأجْمَعَ؛ فلأن ذلك في « كّلّ » أولى وأجدى . وأيضاً فإن المشهور تعريف « كُلّ » حال قطعها ، حكي في الكثير الفَاشِي : مررت بكُلِّ قائماً وبِبَعْضٍ جالساً ، وعزاه بعضهم لسيبويه .
وتنكير « كل » ونصبها حالاً في غاية الشذوذ ، نحو : « مَرَرْتُ بِهِمْ كُلاًّ » أي جميعاً .
فإن قيل : فيه بدل الكل من الكل في ضمير الحاضر وهو لا يجوز .
أجيبَ بوجهين :
أحدهما : أن الكوفيين والأخفش يرون ذلك وأنشدوا قوله :
4345 أَنَا سَيْفُ العِشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ... حميداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السِّنَامَا
« فحميداً » بدل من ياء « فاعرفوني » . وقد تأوله البصريون على نصبه على الاختصاص .
والثاني : أن هذا الذي نحن فيه ليس محل الخلاف « ؛ لأن دال على الإحاطة والشمول ، وقد قالوا : إنه متى كان البدل دالاً على ذلك جاز ، وأنشدوا :
4346 فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَكَانِنَا ... ثَلاَثتِنَا حَتَّى أُزِيرُوا المَنَائِيَا
ومثله قوله تعالى : { لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] قالو : » ثلاثتنا « بدل من » ن « في » مكاننا « ؛ لدلالتها على الإحاطة ، وكذلك » لأولنا وآخرنا « بدل من » ن « ف » لنا « ، فلأن يجوز ذلك في كل التي هي أصل في الشمول والإحاطة بطريق الأولى ، هذا كلام أبي حيان في الوجه الثالث .
وفيه نظر لأن المبرد ومكِيًّا نصا على أن البدل في هذه الآية لا يجوز فكيف يدعى أنه لا خلاف في البدل والحالة هذه؟ لا يقال : إن في الآية قولاً رابعاً ، وهو أن « كُلاًّ » نعت لاسم إنَّ ، وقد صرح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا : هو نعت لاسم إن؛ لأن الكوفيين يطلقون اسم النعت على التأكيد ، ولا يريدون حقيقة النعت .
وممن نص على هذه التأويل مكي رحمه الله ؛ ولأن الكسائي إنما جوز نعت ضمير الغائب فقط دون المتكلم والمخاطب .
فصل
معنى الآية واذكر يا محمد القومكم إذ يَتَحاجُّون أي يُحَاجُّ بعضُهم بعضاً . ثم شرح خصومتهم وهي أن الضعفاء يقولون للرؤساء : إنا كنا لكم تبعاً في الدنيا فهل أنتم مغنون عنا نصباً من النار أي فهل تقدرون على أن تدفعوا عنا أيها الرُّؤسَاء نصيباً من العذاب؟
ومقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تعجيز أولئك الرؤساءَ وإيلام قلوبهم؛ لأنهم يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرةَ لهم على ذلك التخفيف فعند ذلك يقول الرؤساء إنا كل فيها أي إنا كُلُّنَا واقعون في هذا العذاب ، فلو قدرنا على إزالة العذاب لدفعناه عن أنفسنا . ثم يقولون : { إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } يعنى فَأَوْصَلَ إلى شكل أحد حقه من النعيم أو من العذاب ، فعند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين ، فيرجعون إلى خَزَنَةِ جهنم ويقولون لهم : { ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب } .
فإن قيل : لم لم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع .
والثاني : أن تكون جهنم اسماً لموضع من أشد المواضع بعيدِ القرار من قولهم : بِئْرٌ جِهِنَّامٌ أي بعيدة القَعْر وفيها أعظم أقسام كفار عقوبة ، وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة ، فإذْ عرف الكافر أن الأمر كذلك استغاثوا بهم فيقولون لهم : { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات } ؟ .
قوله : { يَوْماً مِّنَ العذاب } في يومايً وَجْهَانِ :
أحدهما : أنه ظرف لِيُخَفِّفْ ، ومفعول « يخفف » محذوف ، أي يخفف عنا شيئاً من العذاب في يوم . ويجوز على رأي الأخفش أن تكون « مِنْ » مزيدة فيكون العذاب هو المفعول ، أي يخفف عنا في يوم العذابَ .
الثاني : أن يكون مفعولاً به ، واليوم لا يخفف ، وإنما يخفف مظروفه ، والتقدير يخفف عذاب يوم ، وهو قلق لقوله : « مِنَ العَذَابِ » والقول بأنه صفة كالحال أقلق منه .
والظاهر أن « مِنَ العََذَابِ » هو المفعول ليخفف ، ومِنْ تَبْعِيضِيَّة ، و « يَوْماً » ظرف ، سألوا أن يخفف عنهم بعض العذاب لا كله في يوم ما ، لا في كل يوم ولا في يوم معين .
فصل
لما أجابوهم الخزنة بقولهم : { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات } ؟ قالوا : بلى والمعنى أن لولا إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا ما جاءنا من نذير . وهذه الآية تدل على أن الجواب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشَّرْعِ . ثم إن أولئك الملائكة يقولون لهم : ادْعُوا أنتم فإنا لا نَتَجَرأ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين :
أحدهما : أن يكون المشفع له مؤمناً .
والثاني : حصول الإذن في الشفاعة ، ولم يوجد شيء من هذين الشرطين لكن ادعوا أنتم .
وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة ، ولكن لِلدلالة على الخيبة ، وأن المَلكَ المقرب إذا لم يسمعْ دعاؤه فيكف يسمع دعاء الكافر؟ ثم صرحوا لهم بأنه لا أثر لدعائهم فقالوا : { دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي يبطل ويَضِلّ ولا ينفعهم .
فإن قيل : إنه تعالى يمتنع عليه أن يتأذى من المجرمين يسبب جُرْأَتِهِمْ ، وإذا كان التَّأَذِّي محالاً كانت شهوة الانتقام ممتنعةً في حقه ، وإذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضارّ العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار خالٍ عن جميع جهات المنفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يعذب بترك الآلام أبَدَ الآبادِ ودَهْرَ الدَّاهرِينَ من غير أن يَرْحم حاجتهم ، ومن غير أن يسمع دعاءهم ، ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم ، ولو أن أقسى الناس قلباً فعل مثل هذا التعذيب ببعض عَبِيدِهِ لأداء كَرَمُهُ ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيِّد في محل الحاجة والنفع و الضرر فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار؟
فالجواب : أن أفعال الله لا تُعَلَّل ، ولا يُسْأَلُ عما يَفْعَلُ وهم يُسْأَلُونَ فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم .
قوله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } الآية . في كيفية النظم وجوه :
الأول : أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى عليه الصلاة والسلام ، وذلك المؤمن من مكر فرعون مَنَّ في هذه الآية بأنه ينصر رسله والذين آمنوا معه .
الثاني : لما بين من قبل تَخَاصُم أهلِ النار ، وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون : ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات أتبع ذلك الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة .
الثالث : قال ابن الخطيب : وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله : إنما يُجَادِلُ في آيَات اللهِ الذين كفروا فلا يغرنك تقلّبهم في البلاد . وأصل الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبداً مشغولين بدفع كيد المبطلين ، وكل ذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيراً له على تحمل الأذى من قومه .
ولما بلغ الكلام في تقرير هذا المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى بأن ينصر رسوله على أعدائه تعالى فقال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا } . قال ابنُ عباس رضي الله عنهما : بالغلبة والقهر ، وقال الضَّحَّاحُ : بالحُجَّة ، وفي الآخرة بالانتقام من الأعداء وبإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب ، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين ، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم ، وأهلك أعداءهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم ، كما نصر يحيى بن زكريا لما قُتِلَ فقَتَلَ به سبعين ألفاً .
قوله : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } قرأ الجمهور يَقُوم بالياء من أسفلَ ، وأبو عمرو في رواية المنقريّ عنه وابن هُرْمز وإسماعيل بالتاء من فوق لتأنيث الجماعة .
والأشهاد يجوز أن يكون جمع « شَهيدٍ » كشَرِيفٍ وأشْرَافٍ ، وهو مطابق لقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وأن يكون جمع « شاهد » كصَاحِب ، وأصْحاب ، وطَائر ، وأطيار ، قال المبرد وهو مطابق لقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] .
واعلم أن قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } فيه دقيقة لطيفة ، وهي أن السلطان العظيم إذا آثر بعض خواصه بالإكرام العظيم عند حضور الجمع من أهل المشرق والمغرب كان ذلك أتمّ وأبهج . وعنى بالأشهاد كل من شهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن . أما الملائكة فهو الكرام الكاتبون يشهدون على الرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب . وأما الأنبياء فقال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وأما المؤمنون فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ]
قوله « يَوْمَ » بدل من « يوم » قبله ، أو بيان له ، أو نصب بإضمار أَعْنِي .
وتقدم الخلاف في قوله ِ « يَنْفَع الظَّالِمِينَ » بالياء والتاء آخر الروم . والمعنى لا ينفع الظالمين معذرتهم إن اعتذروا « ولهم اللعنة » البعد من الرحمة ، وهذا يفيد الحصر يعني أن اللعنة مقصورة عليهم ، وهي الإهانة والإذلال { وَلَهُمْ سواء الدار } يعني جهنم .
فإن قيل : قوله : { لا ينفع الظالمين معذرتهم } يدل على أنهم يذكرون الأعذار ، ولكن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ؟
فالجواب : قوله { لا ينفع الظالمين معذرتهم } لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول ، وهذا لا يدل على أنهم ذكروه أم لا وأيضاً فيوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يتعذرون في وقت آخر .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب . . . } الآية لما بين أنه تعالى ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعاً من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى } .
قال مقاتل : هُدًى من الضلالة ، يعني التوراة ، ويجوز أن يكون المراد الدلائل القاهرة التي أوردها على فرْعَون وأتباعهِ وكادهم بها ، ويجوز أن يكون المراد بالهدى النبوة التي هي أعظم المناصب الإنسانية { وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب } وهو التوراة { هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب } يعنى أنه تعالى لمنا أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العِلْمُ فيهم وتَوارَثُوهُ خَلَفاًس عن سَلَفٍ .
وقيل : المراد سائر الكتب أنزلها الله عليهم ، وهي كتب أنبياء بني إسرائيل كالتوراة والإنجيل والزَّبُور .
قوله : « هُدًى وَذِكْرَى » فيهما وجهان :
أحدهما : أنهما مفعول من أجْلِهِمَا أي لأجل الهُدَى والذكر .
والثاني : أنهما مصدران في موضع الحال .
والفرق بين الهدى والذكرى ، أن الهدى ما يكون دليلاً على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئاً آخر كان معلوماً ثم صار مَنْسِيًّا ، وأما الذكرى فهو الذي يكون كذلك ، فكتب أنبياء الله تعالى مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها ، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المقتدمة .
ولما بين تعالى أنه ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال مُوسى خاطب بعد ذلك محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي فاصبر يا محمد على أذَاهُمْ ، إن وعد الله حق في إظهار دينك وهلاك أعدائك . وقال الكلبي : نسخت آية القتل آية الصَّبْر .
قوله : { واستغفر لِذَنبِكَ } قيل : المصدر مضاف للمفعول أي لذنب أمتك في حقك . والظاهر أن الله تعالى يقول ما أراد وإن لم يجز لنا نحن أن نضيف إليه عليه الصلاة والسلام : ذنباً ، قال المفسرون : هذا تعبد من الله تعالى ليزيده به درحة ، وليصير سنة لمن بعده .
قوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } صَلِّ شكراً لربك بالعَشِيِّ والإبْكَارِ ، قال الحسن : يعني صلاة العصر وصلاة الفجر ، وقال ابن عباس : الصلوات الخمس .