كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه ، ومعنى قوله على الشرط ، أي : العلة ، سمَّى العلةَ شرطاً؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع ، فهو علة ، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين .
ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم « الله » ، ولكان التركيب : إن الدين عنده الإسلام؛ لأن الاسم قد سَبَق ، فالوجه الكناية .
ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية ، وأنشد : [ الخفيف ]
1372- لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا
يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر ، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم .
الخامس : أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ « الْحَكِيم » ، كأنه قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ف « حَكِيم » مثال مبالغة ، مُحَوَّل من فاعل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالغ في هذه الأوصاف ، وإنما عَدَل عن لفظ « حاكم » إلى « حكيم » - مع زيادة المبالغة-؛ لموافقة « الْعَزِيز » ، ومعنى المبالغة : تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك ، قاله أبو حيّان ، ثم قال : فإن قلتَ : لم حَمَلْتَ « الْحَكِيم » على أنه مُحوَّل من « فاعل » إلى فعيل؛ للمبالغة ، وهَلاَّ جعلته « فَعِيلا » ، بمعنى « مُفْعِل » فيكون معناه « الْمُحكِم » كما قالوا في « أليم » : إنه بمعنى « مُؤْلِم » وفي « سميع » من قول الشاعر : [ الوافر ]
1373- أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع .. .
أي : المُسْمِع؟
فالجوابُ : أنا لا نسلم أن « فَعِيلا » يأتي بمعنى « مفعل » ، وقد يؤول « أليم » و « سميع » على غير « مفعل » ، ولئن سلمنا ذلك ، فهو من الندور والشذوذ ، بحيث لا يَنْقاس ، [ وأما ] « فعيل » محوَّل من « فاعل » ؛ للمبالغة فهو منقاس؛ كثير جداً ، خارج عن الحصر ، كعليم ، وسميع ، وقدير ، وخبير ، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً ، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ ، الباقي على سجيته لم يفهم من « حكيم » إلا أنه محوَّل من « فاعل » ؛ للمبالغة ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله } [ المائدة : 38 ] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، فقيل له : التلاوة : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، فقال : هكذا يكون ، عَزَّ فَحَكَم فقط ، ففَهِم من « حكيم » أنه محوَّل - للمبالغة - من « حاكم » ، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه ، وهذا تخريج سَهْل ، سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها ، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل { إِنَّ الدِّينَ } معمولاً لِ « شَهِدَ » - كما فهموا - وأن { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها ، وبين معموله - بل نقول : معمول « شَهِدَ » هو « إنَّهُ » - بالكسر - على تخريج من خرج أن « شَهِدَ » - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده؛ إجراءً له مُجْرَى القول .
أو نقول : إنه معموله ، وعلقت ، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي ، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول : شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ ، فتعلق ب « إنَّ » مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت « إنَّ » ، فقلت : شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ ، فمن قرأ بفتح « أنَّه » ، فإنه لم يَنْو التعليقَ ، ومن كسر فإنه نوى التعليق ، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا .
قال شهاب الدينِ : وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه : « وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } هو معمول » شَهِدَ « ويكون في الكلام اعتراضان :
أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وإذا أعربنا { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات ، انظر هذه التعوجيهات البعيدة ، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ ، وحِفْظِ أشعارِها » .
قال شهاب الدينِ : « ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة ، وعدم معرفتهم بكلام العرب ، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز ، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح ، غير مقبول ولا مُسَلَّم ، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم ، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم » .
قوله : { عِنْدَ الله } ظرف ، العامل فيه لفظ « الدِّين » ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل .
قال أبو البقاء : « ولا يكون حالاً؛ لأن » إنَّ « لا تعمل في الحال » .
قال شهاب الدين : قد جوز في « ليت » وفي « كأن » أن تعمل في الحال « .
قال شهاب الدين : قد جوز في « ليت » وفي « كأن » أن تعمل في الحال .
قالوا : لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه ، ف « إن » للتأكيد ، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن « الهاء » التي للتنبيه .
قيل : هي أولى منها ، وذلك أنها عاملة ، و « هاء » ليست بعاملة ، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء .
فصل
الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة ، قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } [ النساء : 94 ] ، أي : لمن صار منقاداً لكم ، ومتابعاً ، والإسلام هو الدخول في السلم ، يقال : أسلم ، أي : دخل في السلم ، كقولهم : أشتى ، وأقحط ، وأصل السِّلم : السلامة ، وقال ابن الأنباري : « المُسْلِم » معناه المخلص لله عبادته ، من قولهم : سَلِم الشيء لفلان ، أي : خَلصَ ، فالإسلام معناه : إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى « .
وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان؛ لوجهين :
أحدهما : هذه الآية؛ لأن قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام ، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل- .
الثاني : قوله تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى .
قال القرطبيُّ : الإسلام هو الإيمان ، بمعنى التداخل ، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر ، كما في هذه الآية؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال ، ومنه قوله - عليه السلام- : » الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ ، وقَوْلٌ باللِّسَان ، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ « أخرجه ابن ماجه .
فإن قيل : قوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] صريح في أن الإسلام غير الإيمان .
فالجواب : أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر ، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر ، فعلى هذا ، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن ، وتارة في الباطن والظاهر ، فالأول هو النفاق ، وهو المراد بقوله : » قَالَتِ الأعْرَابُ « ؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى ، فكان تقدير الآية : لم تسلموا في القلب والباطن ، ولكن قولوا : أسلمْنا في الظاهر .
فصل
قال قتادة - في قوله تعالى- : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ، شهادة ألا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه ، لا يقبلُ غيرَه ، ولا يَجْزِي إلا به .
روى غالب القطان ، قال : أتيتُ الكوفةَ في تجارة ، فنزلتُ قريباً من الأعمش ، فكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ ، أردت أن أنحدر إلى البصرة ، قام من الليل يتهجد ، فمرَّ بهذه الآيةِ : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } [ آل عمران : 18 ] قال الأعمش : وأنا أشهدُ بما شَهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي - عند الله - وديعة ، { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } - قالها مراراً .
قلت : لقد سمع فيها شيئاً ، فصليْت معه ، وودعته ، ثم قلت : إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا ، فما بلغك؟ قال : واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ ، وأقمتُ سنةً ، فلمَّا مضت السنةُ ، قلتُ : يا أبا محمد ، قد مضت السنةُ ، فقال : حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى : إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً ، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ » .
قوله تعالى : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } .
قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام ، أي : وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، يعني بيان نعته في كتبهم .
وقال الربيع : إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل ، فاستَوْدَعَهم التوراة ، واستخلف يُوشَعَ بن نون ، فلما مضى القرنُ السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ ، وذلك { مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } يعني بيان ما في التوراة ، { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } أي : طلباً للملك والرياسة ، فسلط الله عليهم الجبابرةَ .
قال محمدُ بنُ جفعر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران ، معناها : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب } يعني الإنجيل في أمر عيسى ، وفرَّقوا القول فيه : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } بأن الله واحد ، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله ، { بَغْيًا بَيْنَهُمْ } ، أي : المعاداة والمخالفة .
وقيل : المراد اليهود والنصارى ، واختلافهم هو قولُ اليهودِ : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، وقول النصارى : المسيح ابنُ الله ، وأنكروا نبوة محمد ، قالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش ، لأنهم أميُّونَ ، ونحن أهل الكتاب .
وقوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } أي : الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين ، والعناد على الجمع العظيم لا يصح . [ وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب ، وهو جمع عظيم .
وقال الأخفش : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم .
وقال ابن عمر وغيره : أخبر - تعالى - عن ] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا .
وفي الكلام تقديم وتأخير ، فالمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم .
قوله : « بَغْياً » فيه أوجه :
أحدها : أنه مفعول من أجله ، العامل فيه « اخْتَلَفَ » والاستثناء مُفَرَّغ ، و التقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره ، قاله الأخفش ، ورجحه أبو علي .
الثاني : أنه مصدر في محل نصب على الحال من « الذين » كأنه قيل : ما اختلفوا إلا في هذه الحال ، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً .
الثالث : أنه منصوب على المصدر ، والعامل فيه مقدَّر ، كأنه لما قيل : { وَمَا اخْتَلَفَ } دل على معنى : وما بغى ، فهو مصدر ، قاله الزّجّاجُ ، ووقع بعد « إلا » مستثنيان ، وهما : « مِنْ بَعْدِ » و « بَغْياً » وقد تقدم تخريج ذلك .
قال الأخفش : قوله : « بَغْياً » من صلة قوله : « اخْتَلَفُوا » ، والمعنى : وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي .
قال القفّالُ : وهذا أجودُ من الأول؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم ، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي .
قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله } « مَنْ » مبتدأ ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني : فعل الشرط وحده ، أو الجواب وحده ، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر ، أي : سريع الحساب له .
فصل
وهذا تهديد ، وفيه وجهان :
الأول : المعنى : فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً ، فيحاسبه ، أي : يُجازيه على كُفْره .
الثاني : أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره ، بإحصاء سريع ، مع كَثْرَةِ الأعمال .
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
{ فَإنْ حَآجُّوكَ } أي : خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة ، المغالطات ، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : لسنا على ما سميتنا به يا محمد ، إنما اليهودية والنصرانية نسب ، والدين هو الإسلام ، ونحن عليه ، فقال الله تعالى - { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } أي : انقدت لله وحده ، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان .
وقال الفرّاءُ : معناه : أخلصت عملي لله .
وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه :
أحدها : أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن ، ودعاء الشجرة ، وكلام الذئب ، وغيرها مما يدل على صحة دينه ، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله { الحي القيوم } ، وأجاب عن شبه القوم بأسرها ، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد ، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله : { شَهِدَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] ، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً ، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها ، قال بعده : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ } وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة ، ولم يرجع إليه ، فقد يقول - في آخر الأمر- : أما أنا فمنقادٌ للحق ، فإن وافقتم ، واتبعتم الحق الذي أنا عليه ، فقد اهتديتم ، وإن اعترضتم ، فالله بالمرصاد .
ثانيها : أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع ، وكونه مستحقاً للعبادة ، فكأنه - عليه السلام - قال لهم : هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه ، وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك ، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ، ونظيره قوله : { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } [ أل عمران : 64 ] .
وثالثها : قال أبو مسلم : هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام - ، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع ، فأمر الله تعالى - محمداً - صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته ، بقوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [ النحل : 123 ] ، ثم أمخر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] فقل يا محمد : « أسْلَمْتُ وَجْهِيَ » كقول إبراهيم : « وَجَّهْتُ وَجْهِيَ » ، أي : أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخصلت له ، كأنه قال : فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات .
فصل
فَتَحَ الياءَ من « وَجْهِيَ » - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون .
قوله : { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } في محل « مَنْ » وجوه :
أحدها : الرفع؛ عطفاً على التاء في « أسْلَمْتُ » ، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية .
قال أبو حيان : « ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو : » أكلت رغيفاً وزيدٌ « لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم . وهو صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه ، بل المعنى على أنه صلى الله عليه وسلم أسلم وجهه لله ، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [ فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول » أسْلَمْتُ « والتقدير : ومن اتبعني وجهه ، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم لله ] ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : عمرو كذلك ، أي : قضى نحبه » .
قال شهابُ الدينِ : « إنما صحت المشاركة في نحو : أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك ، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة » .
الثاني : أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر محذوف - كما تقدم .
الثالث : أنه منصوب على المعية ، والواو بمعنى « مع » أي : أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ .
وقال أبو حيّان : « ومن الجهة التي امتنع عطف » مَنْ « على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون » مَنْ « منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ : أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ » مع « ألبتة » .
قال شهابُ الدينِ : « فهم المعنى ، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ ، وأي مانع من أن المعنى : فقل : أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً ، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية » .
الرابع : أن محل « مَنْ » الخفض ، نسقاً على اسم « الله » ، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى : جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له .
وقد أثبت الياءَ في « مَنِ اتَّبَعَنِي » نافع ، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم ، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية ، نحو { أَكْرَمَنِ } [ الفجر : 15 ] و { أَهَانَنِ } [ الفجر : 16 ] وعليه قول الأعشى : [ المتقارب ]
1374- وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ ... دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ
وقول الأعشى - أيضاً - : [ المتقارب ]
1375- وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ ... إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ
قال بعضهم : حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها .
قوله : قال { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب } يعني اليهود والنصارى ، والمراد بالأميِّيِّين : مشركو العرب ، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً ، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب ، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة ، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر .
قوله : { أَأَسْلَمْتُمْ } صورته استفهام ، ومعناه الأمر ، أي : أسلموا ، كقوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] .
قال الزمخشري : « يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام ، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟ ، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة ، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته- : هل فهمتها ، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عز وجل - { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي الاستفهام استقصار ، وتعبير بالمعاندة ، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق » .
وقال الزّجّاج : « أأسْلَمْتُم » تهديد .
قال القرطبيُّ : « وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى : أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟ » .
قوله : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا } دخلت « قد » على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل ، وكأنه قد قَرُب من الوقوع .
رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ، فقال أهل الكتاب : أسْلَمْنَا ، فقال لليهود : أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا : معاذَ اللهِ ، وقال للنَّصَارَى : أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً ، فقال الله عز وجل- : { وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } ، أي : تبليغ الرسالة ، وليس عليك الهداية .
والبلاغ : مصدر « بَلَغَ » - بتخفيف عين الفعل- .
قيل : إنها نُسِخَت بالجهاد . { والله بَصِيرٌ بالعباد } عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن ، وهذا يفيد الوعد والوعيد .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ :
الأولى قوله : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ } لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله : { فَبَشِّرْهُم } ، وهذا هو الصحيح ، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب « إنَّ » فجواز دخول الفاء باقٍ؛ لأن المعنى لم يتغير ، بل ازداد تأكيداً ، وخالف الأخفش ، فمنع دخولها من نسخه ب « إنَّ » والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية ، وكقوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } الآية [ البروج : 10 ] ، وكذلك إذا نُسِخَ ب « لَكِنَّ » كقوله : [ الطويل ]
1376- فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ
وكذلك إذا نُسِخ ب « أنَّ » - المفتوحة - كقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] أما إذا نُسِخ ب « لَيْتَ » ، و « لَعَلَّ » و « كَأنَّ » امتنعت الفاءُ عند الجميع؛ لتغيُّرِ المعنى .
فصل
المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ و النصارى .
فإن قيل : ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى- ، واليهود والنصارى ، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ .
الجواب : أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم ، ونقول : إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى .
الصفة الثانية : قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير ، وجاء - هنا - { بِغَيْرِ حَقٍّ } منكَّراً ، وفي البقرة [ بِغَيْرِ الحَقِّ } معرَّفاً قيل : لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي؛ لتعمَّ .
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين ، مختصين بأعيانهم ، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم ، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه .
فصل
روى أبو عبيدة بنُ الجراح ، قال : قلت : يا رسولَ الله ، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ؟ قال : رجل قتل نبيًّا ، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ، وقرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أبا عبيدة ، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا ، من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل ، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ بالمعروفِ ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر ، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى .
وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا ، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم .
فإن قيل : قوله : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله } في حكم المستقبل؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقع منهم قتل الأنبياء ، ولا الآمرين بالقسط ، فكيف يَصِحُّ ذلكظ
فالجوابُ من وجهين :
أحدهما : أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم ، راضين بطريقتهم ، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن ، إذا كان راضياً به .
الثاني : أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلَ المؤمنين ، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم ، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال : النار مُحْرِقةٌ ، السَّمُّ قاتل .
فإن قيل : قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق ، فما فائدة قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ } ؟
فالجوابُ تقدم في البقرة ، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم .
فإن قيل : قوله : { وَيَقْتُلُونَ النبيين } ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين ، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل ، ولا الأكثر ، ولا النصف .
فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد ، لا للاستغراق .
الصفة الثالثة : قوله : { وَيَقْتُلُونَ الذين } قرأ حمزة « وَيُقَاتِلُونَ » - من المقاتلة - والباقون « وَيَقْتُلُونَ » - كالأول .
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين ، وهي موافقة لقراءة عبد الله « وَقَاتَلُوا » - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي ، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال ، ومعناه : المُضِيّ .
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم- : إنما كرر الفعل؛ لاختلاف متعلَّقه ، أو كُرِّرَ؛ تأكيداً ، وقيل : المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح ، وبالآخر الإهانة ، وإماتة الذكر ، فلذلك ذكر كل واحد على حدته ، ولولا ذلك لكان التركيبُ : ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون ، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ .
قوله : { مِنَ النَّاسِ } إما بيان ، وإما للتبعيض ، وكلاهما معلوم أنهم من الناس ، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد .
فصل
قال القرطبيُّ : « دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة » .
قال الحسنُ : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ » .
وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب ، قالت : جاء رجل إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر - فقال : مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله؟ قال : « آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَأتْقَاهُمْ لله ، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ » .
قد ورد في النزيل : { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف } [ التوبة : 67 ] ، ثم قال : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [ التوبة : 71 ] .
فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين ، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه ، ثم إن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، لا يليق بكل أحد ، وإنما يقوم به السلطانُ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه ، والتعزير إلى رأيه ، والحبس والإطلاق له ، والنفي والتغريب ، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا ، عالماً ، اميناً ، ويأمره بذلك ، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ ، كما قال تعالى :
{ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } [ الحج : 41 ] .
فصل
قال الحسنُ : هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء ، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِنًى - فقال : أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال عليه السلام : « أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ » .
قال ابن جريج : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون ، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم ، فيذكرون قومَهم ، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
قوله : { أولئك الذين حَبِطَتْ } قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن « حَبَطَتْ » بفتح الباء - وهي لغة معروفة ، أي : بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم ، والثناء باللعن ، وقَتْلِهم ، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم ، واسترقاقِهم ، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب ، وحصول العقاب - { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } يَدْفَعُونَ عَنْهُم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله : { فَإنْ حَآجُّوكَ } [ آل عمران : 20 ] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم ، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ؛ لأنه ذكره في معرض الذم ، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك ، لقوله تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] والمراد بالكتاب غير القرآن؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار ، وهم اليهود والنصارى .
فصل
في سبب النزول وجوهٍ :
أحدها : رَوَى ابنُ عباس : أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ ، فكرهوا رَجْمَهُمَا؛ لشرفهما ، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم ، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم ، فأنكروا ذلك ، فقال - عليه السلام - « بيني وبينكم التوراةُ؛ فإن فيها الرَّجمَ ، فمَنْ أعْلَمُكم » ؟ قالوا : رجل أعور يسكن فَدك ، يقال له : ابن صوريا ، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : « أنت ابن صُوريا » ؟ قال : نَعَمْ ، قال : « أنت أعلمُ اليهودِ » ؟ قال : كذلك يَزْعُمُونَ ، قال : « فأحْضِروا التوراةَ » ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها ، فقال ابنُ سَلاَم : قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله ، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهما فرُجِمَا ، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وثانيها : روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال : دخل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى الله - عز وجل - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملة إبراهيم ، قالا : إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فهلموا إلى التوراة؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وثالثها : أن علامة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم مذكورةٌ في التوراةِ ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم ، فأبَوْا ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ ، ولذلك قال : { فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه ، ولَمَا ستروا ذلك .
رابعها : أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت موجودة في التوراة والإنجيل .
وقوله : { نَصِيباً مِّنَ الكتاب } أي : من علم الكتاب؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره ، فهم قد أوتوا كل الكتاب ، والمراد بذلك العلماء منهم ، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه .
قوله : « يُدْعَوْنَ » في محل نَصْب على الحال من { الذين أُوتُواْ الكتاب } .
قوله : « إلَى كِتَابِ اللهِ » قال أكثرُ المفسرين : هو التوراة؛ لوجوهٍ :
أحدها : ما ذكرنا في سبب النزول .
ثانيها : أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم ، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته .
ثالثها : أن هذا هو المناسب لما قبل الآية؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته ، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق .
قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ : هو القرآن .
روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى ، فأعرضوا عنه ، وقال تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ النور : 48 ] .
فإن قيل : كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به؟
فالجواب : أنه مدعوا إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله .
قوله : « ليحكم » متعلق ب « يدعون » . وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور .
وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري « لِيُحْكَمَ » - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف ، أي : ليقع الحكمُ بينهم .
قال الزمخشريُّ : قوله : { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم ، لا فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله : { ثُمَّ يتولى } عطف على « يُدْعَوْنَ » و « مِنْهُمُ » صفة ل « فَرِيقٌ » ، وقوله : { وَهُم مُّعْرِضُونَ } يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في « مِنْهُمْ » ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في « مِنْهُمْ » ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من « فَرِيقٌ » ، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله ، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً؛ لأن التولِّ ] والإعراض عما دعا إليه .
قال ابنُ الخطيبِ : « فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق ، والمعنى أنه مُتَوَلِّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام ، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج » .
ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة ، لا محل لها ، أخبر عنهم بذلك ، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء ، والأتباع مُعرضون عن القبول؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قوله : « ذَلِكَ » فيها وجهان :
أصحهما : أنها مبتدأ ، والجار بعده خبره ، اي : ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ ، التي لا حقيقةَ لها .
والثاني : ان « ذَلِكَ » خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، اي : الأمر ذلك ، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله : « بأنَّهُمْ » متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه - .
وقال أبو البقاء : فعلى هذا يكون قوله « بأنَّهُمْ » في موضع نَصْب على الحال بما في « ذَا » من معنى الإشارة ، أي : ذلك الأمر مستحقاً بقولهم ، ثم قال : « وهذا ضعيفٌ » .
قلت : بل لا يجوز ألبتة .
وجاء - هنا - « مَعْدُودَاتٍ » ، بصيغة الجمع - وفي البقرة « مَعْدُودَةً » ، تفنُّناً في البلاغة ، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً ، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى ، فيقال : هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت : راسياتٌ- ، وجمال ماشية ، وإن شئت : ماشيات .
وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا : فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم ، وزجر من يعمل بعملهم .
فصل
قال الجبائيُّ : « هذه الآية فيها [ دلالة ] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول : إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار ، قال : لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم ، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً ، ولما استحق الذمَّ ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [ قول ] باطل » .
قال ابن الخطيبِ : « كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ ، جائز من الله ، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك ، لكن لِمَ قلتم : إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟
بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر :
الأول : لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة ، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون : إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام ، ومنهم من قال : لا ، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل - .
الثاني : أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين ، ويقولون : بتقدير وقوع الخطأ منا ، فإنَّ عذابنا قليل ، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر ، والكافر عذابه دائم .
الثالث : أنهم لما قالوا : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } استحقروا تكذيبَ محمد - عليه السلام - ، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب ، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر ، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد ، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف » .
قوله : { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ } الغُرور : الخِدَاع ، يقال منه : غَرًَّهُ ، يَغُرُّهُ ، غُرُوراً ، فهو غَارٌّ ، ومغرور .
والغَرُور : - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب .
والغِرُّ : الصغير ، والغِرِّيرَة : الصغيرة؛ لأنهما يُخ
عان ، و الغِرَّة : مأخوذة من هذا ، قال : أخذه على غِرَّة ، أي : تغفُّل وخداعِ ، والغُرَّة : بياض في الوجه ، يقال منه : وَجْهٌ أغَرُّ ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء .
والجمع القياسي : غُرٌّ ، و غير القياسي غُرَّانُ .
قال : [ الطويل ]
1377- ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ
والغرة من كل شيء أنفسه ، وفي الحديث : « وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً ، عَبْداً أوُ أمَةً » .
قيل : الغُرًَّة : الخِيار ، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق ، كأنه أخَذَه من الغُرَّة ، وهو البياض في الوَجْه .
قوله : { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } « ما » يجوز أن تكون مصدريةً ، أو بمعنى « الذي » ، والعائد محذوف أي : الذي كانوا يفترونه .
قيل هو قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] .
وقيل : هو قولهم : نحن على الحق وأنت على الباطل .
قوله : « فَكَيْفَ إذا » « كَيْفَ » منصوبة بفعل مُضْمَر ، تقديره : كيف يكون حالهم ، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً ، فيجيء في « كيف » الوجهان المتقدمان في قوله : « كَيْفَ تَكْفُرُونَ » من التشبيه بالحال ، أو الظرف ، وأن تكون الناقصة فتكون « كيف » خبرها .
وقدّر بعضهم الفعل ، فقال : كيف يصنعون؟ [ فإن أراد « كان » التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر « كان » ] ، فكيف على ما تقدم من الوجهين .
ويجوز أن تكون « كيف » خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف ، تقديره : فكيف حالُهم؟
قوله : { إِذَا جَمَعْنَاهُمْ } « إذا » ظرف محض من غير تضمين شرط ، والعامل فيه العامل مُضْمَر ، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في « إذَا » الاستقرار العامل في « كَيْفَ » ؛ لأنها كالظرف ، وإن قلنا : إنها اسم غير ظرف ، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي : كيف حالهم في وقت جمعهم؟
ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع « كيف » ، لدلالته عليها ، تقول : كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي : كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة ، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة ، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية - .
قوله : « لِيَوْمٍ » متعلق ب « جَمَعْنَاهُمْ » أي : لقضاء يوم ، أو لجزاء يوم .
فإن قيل : لِمَ قال : « لِيَوْمٍ » ولم يقل : في « يَوْمٍ » .
فالجوابُ : ما ذكرناه من أنّ المرادَ : لجزاء يوم ، أو لحساب يوم ، فحذف المضاف ، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ : اللام لفعل مضمر ، فإذا قلتَ : جُمِعُوا ليوم الخميس ، كان المعنى : جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس ، وإذا قلت : جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً .
وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة .
وقال الكسائيُّ : اللام بمعنى « في » .
« لا ريب فيه » صفة للظرف .
قوله : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } إن حَمَلْتَ « مَا كَسَبَتْ » على عمل العبد ، جُعِلَ في الكلام حذفٌ ، والتقدير : ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب ، وإن حملت « مَا كَسَبَتْ » على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار ، ثم قال : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم ، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم .
فصل
استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ؛ لقوله تعالى : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار ، وذلك باطل بالإجماع . وإما أن يُعاقَبَ في النار ، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً ، وهو المطلوب . وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يُقال : إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم؟
فالجوابُ : أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [ سبعين ] سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر ، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر .
وكان يحيى بن معاذ - رحمه الله - يقول : ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً ، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة؟
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ ، وصحة دينِ الإسلام ، وذكر صفاتِ المخالفين ، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم ، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة ، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين .
قوله : « اللَّهُمَّ » اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ .
قال البصريون : الأصل : يا الله ، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة ، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف ، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من « يا » بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر ، كقوله : [ الرجز ]
1378- وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا ... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا
وقَوْلِ الآخر : [ الرجز ]
1379- إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا ... أقُولُ : يَا اللَّهُمَّ ، يَا اللَّهُمَّا
وقال الكوفيون : الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ ، تقديره : أمَّنَا بخير ، أي : اقْصِدنا به ، من قولك : أمَمْتُ زيداً ، أي : قصدته ، ومنه : { ولاا آمِّينَ البيت الحرام } [ المائدة : 2 ] أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين « يا » والميم ليس بضرورةٍ عندهم ، وليست عوضاً منها .
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ : اللهمَّ أمَّنا بخير ، وقال تعالى : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً } [ الأنفالِ : 32 ] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به ، فلو كانت الميمُ بقيةَ « أمَّنَا » لفسد المعنى ، فبان بُطْلانهُ .
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ ، فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً ، أنشد الفرّاء : [ مخلّع البسيط ]
1380- كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله : يسمعها .
ولا يجوز تخفيفُ الميم ، وجوَّزه الفراء ، وأنشد البيت : بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك .
قال بعضهم : هذا خطأ فاحشٌ ، وذلك لأن الميم بقية « أمَّنَا » - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : [ مخلّع البسيط ]
1381- . . ... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ : « وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك » .
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل ، كما قالوا - في وَيلمِّهِ - : وَيْلٌ لأمِّهِ .
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول : يا اللهم ، ولما لم يَجُزْ ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ ، بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال : يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك-؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل ، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن « ما أكرمه » معناه : شيء أكرمه ، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب ، فكذا هنا .
وأجاب عن الرد الثاني بقوله : مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز ان يقال : يا اللهمَّ ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللّهمّ ، وقول البصريين : هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن .
وقولهم : كان يلزم ذكر حرف النداء ، فقد يُحْذَف حرف النداءِ ، كقوله : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } [ يوسف : 46 ] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف .
واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه :
أحدها : أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء ، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال : الله يا ، وهذا لا يجوز ألبتة .
ثانيها : لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ ، فيقال : زيدُمَّ ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد ، يا بَكر .
ثالثها : لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه .
ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها ، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم : لا هُمَّ - أي : اللهم .
قال الشاعرُ : [ الراجز ]
1382- لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ
وقال آخرُ : [ الرجز ]
1383- لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا ... النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا
قوله : { مَالِكَ الملك } فيه أوجه :
أحدها : أنه بدل من « اللَّهُمَّ » .
الثاني : أنه عطف بيان .
الثالث : أنه منادًى ثانٍ ، حُذِف منه حرف النداء ، أي : يا مالكَ الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ .
الرابع : أنه نعت ل « اللَّهُمَّ » على الموضع ، فلذلك نُصِبَ ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة؛ لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء ، وأجاز المبرّدُ ذلك ، واختارَه الزّجّاج ، قالا : لأن الميم بدل من « يا » والمنادى مع « يا » لا يمتنع وصفه ، فكذا مع ما هو عوضٌ منها ، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع « يا » .
وانتصر الفارسيّ لسيبويه ، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد « اللَّهُمَّ » ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات ، وجب أن لا يُوصف . والأسماء المناداة ، المفردة ، المعرفة ، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف ، فأما قوله : [ الرجز ]
1384- يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ ... [ وقوله ] : [ الرجز ]
1385- يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ
وقوله : [ الوافر ]
1386- فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى ... بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا
فإن الأول على أنت .
والثاني على نداء ثانٍ
والثالث : على إضمار أعني .
فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف؛ لما ذكرنا ، كان « اللهم » أولى أن لا يوصَف ، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف ، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب ، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ ، فحقه أن لا يوصَف ، كما لا يوصَف حيَّهَلْ .
قال شهابُ الدينِ : « هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه ، وإن كان لا ينتهض مانعاً » .
قوله : تُؤتِي « هذه الجملة ، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً ، مبينة لقوله : { مَالِكَ الملك } ويجوز أن تكون حالاً من المنادى .
وي انتصاب الحال من المنادى خلاف ، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به ، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول ، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة : [ البسيط ]
138- يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ
» بالعلياء « حالاً من » دار مية « ، وكذلك » أقوت « .
والثالث من وجوه » تُؤتِي « : أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر ، أي : أنت تؤتي ، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً ، وأن تكون حالية .
قوله : » تشاء « أي : تشاء إيتاءَه ، وتشاء انتزاعه ، فحذف المفعول بعد المشيئة؛ للعلم به ، والنزع : الجذب ، يقال : نَزَعَه ، ينزعه ، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل ، ومنه : نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها ، ويعبر به عن الإزالة ، يقال نزع الله عنك الشر - أي : أزاله - ومنه قوله تعالى : { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } [ الأعراف : 27 ] ومثله هذه الآية ، فإن المعنى وتُزيل الملك .
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول وجوهٍ :
أحدها : قال ابن عباس وأنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهاتَ ، هيهاتَ ، من أين لمحمد ملك فارس والروم - وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك-! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وثانيها : روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون ، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم ، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ .
فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان ، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها ، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبر ، وكبر المسلمون ، وقال عليه السلام : « أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ ، ثم ضرب الثانية فقال : أضاءت لي منها قصور صنعاء ، ثم ضرب الثالثة فقال : أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها ، فأبشروا » ، فقال المنافقون : ألا تعجبوا من نبيكم ، يَعِدُكم الباطل ، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ، ومدائن كسرى ، وأنها تفتح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا ، فنزلت هذه الآية .
وثالثها : قال الحسنُ : إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ، ويردَّ ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم .
وقيل : نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ ، في قولهم : إن عيسى هو الله ، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها .
قال ابن إسحاق : أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم ، وأن عيسى - عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته ، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عز وجل - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } إلى قوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
فصل
قوله : { مَالِكَ الملك } أي : مالك العباد وما ملكوا .
وقيل : مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه- : « أَنَا اللهُ ، مالك الملك وملك الملوك ، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي ، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً ، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً ، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم » .
فصل
قال الزمخشريُّ : « مالك الملك ، أي : يملك جنس الملك ، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون » .
قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي : « تُؤتِي الْمُلْكَ » يعني النبوَّة والرسالة ، كما قال تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً ، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم ، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ .
فإن قيل : قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا ، وذلك لا يجوزُ .
فالجوابُ من وجهين :
الأول : أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله ، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال : إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم ، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل ، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صلى الله عليه وسلم صَحّ أن يُقَالَ : إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب .
الثاني : أن يكون المراد من قوله : { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } ، أي : تحرمهم ، ولا تعطيهم هذا الملك ، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه ، ونظيره قوله تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ .
وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام - : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } [ الأعراف : 88 ] وقول الأنبياء : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط- .
وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ :
إحداها : الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً .
الثانية : الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر ، إلا أنهم قالوا : إن محمداً فقير { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] .
الثالثة : اليهود الذين قالوا : إن النبوة في أسلافِنَا ، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة .
الرابعة : المنافقون ، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] .
وقيل : المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف ، وهو عبارة عن أشياء :
أحدها : كثرة المال والجاه .
الثاني : أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه ، ويكون تحت أمرِه ونهيِه .
الثالث : أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع .
أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم ، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال ، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها .
وأما الجاه ، فالأمر فيه أظهر ، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله .
وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى .
فصل
قال الكعبيُّ : قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } ، أي : بالاستحقاق ، فتؤتيه من يقوم به ، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى :
{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] وقوله - في العبد الصالح - : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } [ البقرة : 247 ] فجعله سبباً للملك .
وقال الجبائيُّ : هذا الملك مختص بملوك العَدْل ، فأما ملوك الظلم ، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه ، ومنعهم من ذلك ، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ : وأما الظالمون فلا ، قالوا : ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه ، وأمره بأن يرده على مالكه ، فكذا ههنا .
قالوا : وأما النزعُ ، فإنه بخلاف ذلك؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين ، ونزع الملك يكون بوجوه :
منها : بالموت ، وإزالة العقل ، وإزالة القوى ، والقدرة ، والحواسّ .
ومنها : بورود الهلاكِ ، والتلف على الأموال .
ومنها : أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل ، ويؤتيه القُوة ، والنُّصرة عليه ، فيقهره ، ويسلب ملكه ، فيجوز أن يُضاف هذا السلب ، و النزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره ، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ ، على يد الرسول - عليه السلام .
فالجوابُ : أن تقول : حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل ، وذلك يقتضي نفي الصانع ، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب ، وذلك باطل؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه ، ولا يتيسر له ألبتة ، فلم يبق إلا أن يقال : بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً ، والقلوب تميل إليه ، والنصر قريب له ، والظفر جليس معه ، وأينما توجه حصل مقصوده ، وقد يكون على الضد من ذلك ، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله .
ولذلك قال بعض الشعراءِ : [ الكامل ]
1388- لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي ... بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي
لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ
وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ
وقيل : قوله تعالى : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } محمول على جميع أنواع الملكِ ، فيدخل فيه ملك النبوةِ ، وملكُ العلمِ ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ ، وملكُ البقاءِ والقدرةِ ، وملك محبة القلوبِ ، وملك الأموال؛ لأن اللفظ عام ، فلا يجوز التخصيص من غير دليل .
وقال الكلبيُّ : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } العرب ، { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } أبا جهل وصناديد قريش .
وقيل : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } آدم وولده ، { وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } من إبليس وجنده .
قوله : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } .
قال عطاء : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } المهاجرين والأنصار ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } فارس والروم .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } محمداً وأصحابه ، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } أبا جهل وأصحابه ، حين حُزَّت رؤوسُهم ، وألْقُوا في القليب .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالإيمان والهداية ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالكفر والضلالة .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالطاعة ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالمعصيةِ .
وقيل : { وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالنصر ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالقهرِ .
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالغنى ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالفقرِ .
{ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ } بالقناعة والرِّضا ، { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } بالحرص والطمع .
قوله : { بِيَدِكَ الخير } في الكلام حذف معطوف ، تقديرُهُ : والشَّرُّ ، كقَوْلِهِ تَعَالى { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : وَالبَرْدَ .
وكَقَوْلِهِ : [ الطويل ]
1389- كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا ... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا
أي ويدها .
قال الزمَخْشَريُّ : « فَإن قُلْتَ : كَيْفَ قَالَ : » بِيَدِكَ الْخَيْرُ « دُونَ الشَّرِّ؟
قلت : لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين ، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ .
فقال : { بِيَدِكَ الخير } تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ » .
وقيل : خَصَّ الخيرَ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ .
وقيل : هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه ، وَمِثْلُه : « والشر ليس إليك » ، وَقَوْلُهُ تَعَالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] .
فصل
الألف وَاللامُ فِي « الْخَيْرِ » يُوجِبَانِ العُمُوم ، وَالْمَعْنَى : [ أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ ] بقدرتك ، فَقولُهُ : « بِيَدِكَ » لاَ بِيَدِ غَيْركَ ، كَقَوْلِهِ : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، أي : لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم ، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه ، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله ، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ .
وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ : كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح ، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى .
فإن قيل : هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر؛ لأنه لما قال : { بِيَدِكَ الخير } كان معناه : ليس بيدك إلا الخير ، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده .
فالجوابُ : أن قوله : { بِيَدِكَ الخير } يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره ، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير ، وبيده ما سوى الخيرِ ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر؛ لأنه الأمر المنتفَع به ، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى .
قال القاضي : « كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه ، وهداهم إليه ، لما تمكنوا منه ، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى » .
قال ابن الخطيبِ : « وهذا ضعيفٌ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد ، وهذا خلافُ النص » .
وقوله : { إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه ، والإعزار ، و الإذلال .
قوله : { تُولِجُ الليل فِي النهار } يقال : وَلَجَ ، يَلِجُ ، وُلُوجاً ، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك « وَعْدًا » ، واتَّلَجَ ، يتَّلِجُ ، اتِّلاجاً ، والأصل : اوْتَلج ، يَوْتَلِجُ ، اوتِلاَجاً ، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال ، نحو : اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1390- فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً ... تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ
الولوج : الدخول ، والإيلاج : الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك .
وقول من قال : معناه النقص فإنما أراد اللازم؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر . وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع ، وأن « في » بمعنى « على » وليس بشيءٍ .
وقيل : المعنى : أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار - ، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل ، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه ، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر .
قال ابن الخطيب : « والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً ، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل ، كان ما نقص منه زيادة في الآخر » .
قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } اختلف القراء في لفظة « الْمَيِّتِ » فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ « الْمَيْتِ » من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً ، في جميع القرآن ، سواء وصف به الحيوان نحو : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } [ آل عمران : 27 ] أو الجماد نحو : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } [ فاطر : 9 ] - مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ، وقوله : { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] - في إبراهيم - مما لم يمت بعد ، فإن الكل ثقلوه ، وكذلك لفظ « الميتة » في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } [ يس : 33 ] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً }
[ الأنعام : 139 ] ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } [ الأنعام : 145 ] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع ، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك ، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه } [ الأنعام : 122 ] ، وفي الحجرات : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا } [ الحجرات : 12 ] ، وفي يس : { الأرض الميتة } [ يس : 33 ] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك ، فجمعوا بين اللغتين؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح ، وهما بمعنًى؛ لأن « فَيْعِل » يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه ، فيقال : هَيْن وهيِّن ، لَيْن وليِّن ، ميْت وميِّت ، وقد جمع الشاعر بين اللغتين في قوله : [ الخفيف ]
1391- لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ
إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً ... كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ
وزعم بعضهم أن « ميتاً » بالتخفيف - لمن وقع به الموت ، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ ، كقولهً - تعالى - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] .
وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله : { الميتة والدم } { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } [ الأنعام : 139 ] { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة } ، وقوله : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } [ الزخرف : 11 ] .
وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل « ميِّت » مَيْوِت ، فأدغم ، وفي وزنه خلاف ، هل وزنه « فَيْعِل » - وهو مذهب البصريين - أو « فَعْيِل » - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ ، قالوا : لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه ، وأجاب البصريون عن قولهم : لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح ، ويدل على عَدم التلازم « قُضاة » جمع قاضٍ وفي « قضاة » خلاف طويل ليس هذا موضعه .
واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه « فَعْيِلاً » لوجب أن يصح ، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو : طويل ، وعويل ، وقويم ، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله « فَعْيِل » لمخالفة نظائره ، وهو ردٌّ حسنٌ .
فصل
قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة : يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة - وهي ميتة - والطير من البيضة ، وبالعكس .
وقال الحسنُ وعطاء : يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح .
وقال الزَّجَّاج : يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس ، ويخرج الحب اليابس من النبات ، قال القفّال : « والكلمة محتملة للكل .
أما الحيوان والنطفة فقال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] .
والكافر والمؤمن فقال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] ، أي : كافراً فهديناه » .
قال القرطبيُّ : روى معمر عن الزهريِّ أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على نسائه ، فإذا بامرأة حسنة النعمة ، قال : مَنْ هذه؟ قلن : إحدى خالاتك ، قال : ومَنْ هِي؟ قلن : خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« سبحان الذي يخرج الحي من الميت » .
وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافراً .
وأما النبات والحب فقال تعالى : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ فاطر : 9 ] .
قوله : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل ، أي : ترزقه وأنت لم تحاسبه ، أي : لم تُضَيِّقْ عليه ، أو من المفعول ، أي : غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع :
منها : التجنيس المماثل في قوله تعالى : { مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك } .
ومنها : الطباق ، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله : « تُؤتي » و تَنْزعُ « وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله : { بِيَدِكَ الخير } أي : والشَّرُّ - عند بعضهم - ، وفي قوله : » اللَّيْل « و » النَّهَار « و » الحيّ « و » الميّت « .
ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ ، والصدورِ على الأعجاز في قوله : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } ، وفي قوله : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ .
وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله : { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ } وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه ، والحذف لفهم المعنى .
فصل
قال أبو العبَّاس المقرئ : ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ :
الأول : بمعنى التعبِ ، قال تعالى : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
الثاني : بمعنى العدد ، كقوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] أي : بغير عَددٍ .
الثالث : بمعنى المطالبة ، قال تعالى : { فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] [ أي : بغير مطالبة .
فصل
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنَّ فاتحةَ الكتابِ ، وآية الكرسي ، وآيتين من آل عمرانَ - وهما { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } [ آل عمران : 18-19 ] ، { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } مُعلَّقاتٌ ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ ، قُلْنَ : يا ربِّ ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك ، وإلى مَنْ يَعْصِيك؟ قال الله - عز وجل- : إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس ، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً ، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ ، ونصرتُه منهم « .
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
العامة على قراءة « لا يَتَّخِذْ » نَهْياً ، وقرأ الضَّبِّيُّ « لا يَتَّخِذُ » برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي ، أو هو خبر بمعنى النهي نحو { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } [ البقرة : 233 ] و { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ } [ البقرة : 282 ] - فيمن رفع الراء .
قال أبو البقاء وغيره : « وأجاز الكسائيُّ فيه [ رفع الراء ] على الخبر ، والمعنى : لا ينبغي » .
وهذا موافق لما قاله الفرَّاء ، فإنه قال : « ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ } جاز » .
قال أبو إسحاق : ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً ، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً؛ [ لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره ، فهو كافر ] .
كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي ، أو لم تثبت عندهما .
و « يتخذ » يجوز أن يكون متعدياً لواحد ، فيكون « أوْلِيَاءَ » حالاً ، وأن يكون متعدياً لاثنين ، وأولياء هو الثاني .
قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } فيه وجهان :
أظهرهما : أن « مِن » لابتداء الغايةِ ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ .
قال علي بن عيسى : « أي : لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين » .
وقد تقدم تحقيقُ هذا ، عند قوله تعالى : { وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله } في البقرة [ الآية 23 ] .
والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب ، صفة لِ « أوْلِيَاءَ » فعلى هذا يتعلق بمحذوف .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا ، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة .
قوله : { مِنَ الله } الظاهر أنه في محل نصب على الحال من « شَيءٍ » ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له .
« فِي شَيءٍ » هو خبر « لَيْسَ » ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ ، والتقدير : فليس في شيء كائن من الله ، ولا بد من حذف مضافٍ ، أي : فليس من ولاية الله .
وقيل : من دين الله ، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ : [ الوافر ]
1392- إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً ... فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني
قال ابو حيّان : « والتنظير ليس بجيِّدٍ؛ لأن » منك « و » مني « خبر » لَيْسَ « وتستقل به الفائدةُ ، وفي الآية الخبر قوله : » فِي شَيءٍ « فليس البيتُ كالآيةِ » .
وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم ، فقال : فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ ، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا » وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ ، تقديره : فليس من التقرب إلى الله و الثواب ، وقوله : « فِي شَيءٍ » هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله : { فَلَيْسَ مِنَ الله } .
قال أبو حيّان : « وهو كلام مضطرب؛ لأن تقديره : » فليس من التقرُّب إلى الله « يقتضي أن لا يكون » مِنَ اللهِ « خبراً لِ » لَيْسَ « ؛ إذْ لا يستقل ، وقوله : » فِي شَيءٍ « هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى » ليس « - على قوله - ليس لها خبر ، وذلك لا يجوز ، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صلى الله عليه وسلم : » من غشنا فليس منا « ليس بجيِّد؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة ، وبين الآية الكريمةِ » .
قال شهاب الدين : « وقد يجاب عن قوله : إن » مِنَ اللهِ « لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ » لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ ، تقديره : فليس من أولياء اللهِ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى - ، وكذا قول ابن عطية : فليس من التقرُّب ، أي : من أهل التقرب ، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية ، والحديث ، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما ذكر ، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } [ إبراهيم : 36 ] ، أي : من أشياعي وأتباعي ، وكذا قوله : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني } [ البقرة : 249 ] أي : من أشياعي وقول العرب : أنت مني فرسخين ، أي : من أشياعي ما سرنا فرسخين ، ويجوز أن يكون « مِنَ اللهِ » هو خبر « ليس » و « فِي شيءٍ » يكون حالاً منالضمير في « لَيْسَ » - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً ، وغيره إيماءً ، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب « .
قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله ، والعامل فيه » لا يَتَّخِذْ « أي : لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً ، أي : يكون مواليه في الظاهر ، ومعاديه في الباطن ، وعلى هذا فقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ } التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة ، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً ، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي ، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب ، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم ، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك .
قوله : { تُقَاةً } في نصبها ثلاثة أوجهٍ ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير » تُقَاةً « ما هي؟
أحدها : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والتقدير : تتقوا منهم اتِّقَاءً ، ف » تُقَاة « واقعة موقع الاتقاء ، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها ، والأصل : أن تتقوا اتقاءً - نحو تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ ، كقوله :
{ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] والأصل إنباتاً .
ومثله قول الشاعر : [ الوافر ]
1393- . . ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا
أي : اعطائك ، ومن ذلك - أيضاً - قوله : [ الوافر ]
1394- . . ... وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَُ اتِّبَاعَا
وقول الآخر : [ الوافر ]
1395- وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ ... رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا
وهذا عكس الآية؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه ، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] .
وقول الآخر : [ الرجز أو السريع ]
1396- وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ ... والأصل : تَطَوِّيَّا ، والأصل في « تُقَاةً » وقية مصدر على فُعَل من الوقاية . وقد تقدم تفسير هذه المادة ، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه ، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فصار اللفظ « تقاة » كما ترى بوزن « فعلة » ومجيء المصدر على « فُعَل » و « فُعَلَة » قليل ، نحو : التخمة ، والتؤدة ، والتهمة والتكأة ، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر ، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها .
قيل : وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم ، نحو : تقى يتقى .
ومنه قوله : [ الطويل ]
1397- . . ... تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو
وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة .
الثاني : أنها منصوبة على المفعول به ، وذلك على أن « تَتَّقُوا » بمعنى تخافوا ، وتكون « تُقَاةً » مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به ، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ ، فإنه قال : « إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه » .
وقُرِئَ « تَقِيَّةً » وقيل - للمتقى- : تُقَاة ، وتقية ، كقولهم : ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ : إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى .
الثالث : أنها منصوبةٌ على الحال ، وصاحب الحال فاعل « تَتَّقُوا » وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها ، كقوله : { وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] ، وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ البقرة : 60 ] وهو - على هذا - جمع فاعل ، - وإن لم يُلْفَظْ ب « فاعل » من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة ، نحو : رَامٍ ورُمَاة ، وغَازٍ وغُزَاة ، لأن « فُعَلَة » يطَّرد جمعاً لِ « فاعل » الوصف ، المعتل اللام .
وقيل : بل لعله جمع ل « فَعِيل » أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي .
قال شهاب الدينِ : « جمع فعيل على » فُعَلَة « لا يجوز ، فإن » فَعِيلاً « الوصف المعتل اللام يجمع على » أفعلاء « نحو : غَنِيّ وأغنياء ، وتَقِيّ وأتقياء ، وصَفِيّ وأصفياء .
فإن قيل : قد جاء » فعيل « الوصف مجموعاً على » فَُلَة « قالوا : كَمِيّ وكُمَاة .
فالجواب : أنه من النادر ، بحيثُ لا يُقاس عليه « .
وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة ، يقال : اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى ، فيجيء مصدر » افْتَعَل « من هذه المادة على الافتعال ، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ ، ويقال - أيضاً- : تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى ، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق .
وأمال الأخوانِ » تُقَاةً « هنا؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة؛ لأن السبب غيرُ ظاهر ، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب ، وطالب ، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر؛ لكن سبب الإمالة ظاهر ، وهو الكسرة ، وعلى هذا يقال : كيف يؤثر مع السبب الظاهر ، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى .
والجوابُ : أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء ، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة ، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء .
وأمال الكسائي - وحده - { حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] فخرج حمزة عن أصله ، وكأن الفرق أن » تُقَاةً « - هذه - رُسِمَتْ بالياء ، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه ، ولذلك قال بعضهم : » تَقِيَّة « - بوزن مطيّة - كما تقدم؛ لظاهر الرسم ، بخلاف » تُقَاتِهِ « .
قال شهاب الدين : [ وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ؛ لأجل حرف الاستعلاء ، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَُه ، نحو : رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة ، وليس هذا من ذلك؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ .
وقوله : » مِنْهُمْ « متعلق ب » تَتَّقُوا « أو بمحذوف على أنه حال من » تُقَاةً « ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها ، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً ، هذا إذا لم نجعل » تُقَاةً « حالاً ، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق » مِنْهُمْ « بالفعل قبله ، ولا يجوز أن يكون حالاً من » تُقَاةً « لفساد المعنى؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين .
فصل في كيفية النظم
في كيفية النظمِ وجهان :
أحدهما : أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس ، فقال : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } .
والثاني : أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة ، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه - .
فصل
في سبب النزول وجوه :
أحدها : قال ابن عبّاسٍ : كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [ قد بطنوا ] بنفر من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ ، فنزلت هذه الآية .
وثانيها : قال مقاتلٌ : نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ ، وغيره؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها .
ثالثها : قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس- : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - ك انوا يتولَّون اليهودَ والمشركين ، ويأتونهم بالأخبار ، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية .
ورابعها : أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال : يا رسول الله ، معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي ، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين .
وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى ، منها قوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } [ آل عمران : 118 ] ، وقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } [ المجادلة : 22 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] .
فصل
موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ .
الأول : أن يَرْضَى بكفره ، ويُصَوِّبَه ، ويواليَه لأجْلِه ، فهذا كافر؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له .
الثاني : المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر ، وذلك غير ممنوع منه .
الثالث : الموالاة ، بمعنى الركون إليهم ، والمعونة ، والنُّصْرة ، إما بسبب القرابة ، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه ، ولا يوجب الكفر؛ لأنه - بهذا المعنى - قد يجره إلى استحسان طريقِه ، والرِّضَى بدينه ، وذلك يخرجه عن الإسلام ، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين - فأما إذا تولَّوْهم ، وتولَّوُا المؤمنين معهم ، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه ، وأيضاً فقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ } فيه زيادة مَزِيَّةٍ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره ، ولا يتخذه موالياً له ، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟
فالجوابُ : أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ .
فصل
معنى قوله : { مِن دُونِ المؤمنين } أي : من غير المؤمنين ، كقوله : { وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله } [ البقرة : 23 ] ، أي : من غير الله؛ لأن لفظة « دون » تختص بالمكان ، تقول : زيد جلس دون عمرو ، أي : في مكان أسفلَ منه ، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان ، فهو مغاير له ، فجعل لفظ « دون » مستعملاً في معنى « غير » ، ثم قال : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } يقع عليه اسم الولاية أي : فليس من ولاية الله في شيءٍ ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً ، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1398- تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي ... صَدِيقُكَ ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ
وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً ، من جملته : وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ . وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون اله في شيء .
ثم قال : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } أي : إلا أن تخافوا منهم مخافة ، قال الحسنُ : أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لأحدهما : تشهد أن محمَّداً رسولُ الله؟ قال : نعم ، قال : أفتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه ، ودعا الآخر قال : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال : نعم نعم نعم ، فقال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : إني أصم ، ثلاثاً - فقدمه ، فقتله ، فبلغ ذلك رسولَ الله ، فقال : أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئاً له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] .
فصل
التَّقِيَّة لها أحكامٌ :
منها : أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ ، ويخاف منهم على نفسه ، وماله ، فيداريهم باللسان ، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان ، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة ، بشرط أن يضمر خلافَه ، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر ، لا في أحوال القلوبِ ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ .
ومنها : أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه ، أما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتلِ ، والزنا ، وغصب الأموالِ ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين ، فلا تجوز البتة .
ومنها : أنها تحل مع الكفار الغالبين ، وقال بعض العلماء : إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس ، وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ » ، وقوله صلى الله عليه وسلم :
« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ » ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة ، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء ، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال ، فهاهنا أوْلَى .
فصل
قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ : كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين ، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم ، وروي عن الحسنِ أنه قال : التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ .
قال ابن الخطيبِ : « وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان » .
وقال يحيى البِكَالِيّ : قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ- : إن الحسنَ كان يقول : لكم التقية باللسان ، والقلب مطمئن ، فقال سعيد بن جبيرٍ : ليس في الإسلام تَقِيَّة ، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب .
قوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } ، « نَفْسَهُ » مفعول ثان ل « يُحَذِّرُ » ؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد ، فازداد بالتضعيف آخر ، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي : عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه ، كذا نقله أبو البقاء عنهم .
قال الزّجّاج : « أي : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا ، وصار المستعملَ ، قال تعالى : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] فمعناه : تعلم ما عندي ، وما في حقيقتي ، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك » .
قال شهابُ الدينِ : « وليس بشيءٍ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ ، ألا ترى إلى غير ما نحن فيه - في نحو قولك : حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها ، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها » .
قال أبو مسلم : « والمعنى { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } أن تعصوه ، فتستحقوا عقابه » .
وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات؛ جَرْياً على عادةِ العرب ، كما قال الأعشى : [ الكامل ]
1399- يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا ... نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا
قال بعضهم : « الهاء في » نَفْسَهُ « تعود على المصدر المفهوم من قوله : » لاَ يَتَّخِذ « ، أي : ويحذركم الله نفس الاتخاذ ، والنفس : عبارة عن وجود الشيء وذاته » .
قال أبو العباس المُقْرِئُ : ورد لفظ « النفس » في القرآن على أربعة أضربٍ :
الأول : بمعنى العلم بالشيء ، والشهادة ، كقوله : { وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ } ، يعني علمه فيكم ، وشهادته عليكم .
الثاني : بمعنى البدن ، قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } [ آل عمران : 185 ] .
الثالث : بمعنى الهَوَى ، كقوله : { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء } [ يوسف : 53 ] يعني الهَوَى .
الرابع : بمعنى الروحِ ، قال تعالى : { أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } [ الأنعام : 93 ] ، أي : أرواحكم .
فصل
المعنى : يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار ، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور .
والفائدة في ذكر النفس : أنه لو قال : ويحذركم الله ، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره ، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه ، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له ، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد ، ثم قال : { وإلى الله المصير } ، أي : يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه .
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء - واستثنى عنه التَّقِيَّة في الظاهر - أتبعه بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية -؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن ، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن .
فإن قيل : قوله : { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } شرط ، وقوله : { يَعْلَمْهُ الله } جزاء ، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط ، متأخِّرٌ عنه ، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى .
فالجوابُ : أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن ، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب ، والإضافات ، والتعلُّقات ، لا في حقيقة العلم .
فإن قيل : إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب ، فلم قال : { إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } ولم يَقُلْ : { مَا فِي قلُوبِكُمْ } ؟
فالجوابُ : لأن القلبَ في الصدر ، فجاز إقامة الصدر مقام القلب ، كما قال : { يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ } [ الناس : 5 ] .
فصل
قوله : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ } قلوبكم ، من مودة الكفار وموالاتهم { أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } .
وقال الكلبيُّ : إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من التكذيب ، أو تُظْهِرُوه ، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله ، ويجازكم عليه .
قوله : « وَيَعْلَمُ » مستأنف ، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط ، فلذلك جِيء مستأنفاً ، وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } من باب ذكر العام بعد الخاص . { مَا فِى صُدُورِكُمْ } ، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور ، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء ، وجعل محلهما النفس ، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة؛ تفنُّناً في البلاغة ، وذكر ذلك للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ؟
قوله : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وهو تمام التحذير؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه ، فيكون هذا تمام الوعدِ ، والوعيد ، والترغيب ، والترهيب .
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
أحدها : أنه منصوب ب « قَدِيرٌ » ، أي : قدير في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يلزم من ذلك تقييد قدرته بزمان؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته ، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى . وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري .
الثاني : أنه منصوب ب « يُحَذِّرُكُمْ » ، أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم ، وإلى هذا نحا أبو إسحاق ، ورجحه .
ولا يجوز أن ينتصب ب « يُحَذِّرُكُمْ » المتأخرة .
قال ابن الأنباري : لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً ب « يُحَذِّرُكُمْ » المذكور في هذه الآية؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها « .
وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً ، وهو كلامٌ طويلٌ ، والفصل بمثله مستبعد ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى ، فلا يصح؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم؛ لأنه ليس زمانَ تكليف؛ لأن التخويف موجود ، واليوم موعود ، فكيف يتلاقيان؟
قال : أن يكون منصوباً بالمصير ، والتقدير : وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ ، وغيرُهم ، وهذا ضعيف على قواعد البصريين؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ .
وقد يقال : إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل ، وهذا من ذاك .
الرابع : أن يكون منصوباً ب » اذكر « مقدراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، وقدر الطبريُّ الناصب له » اتَّقُوا « ، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ ، مع الاستغناء عنه .
الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل » نفسه « ، أي : يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد ، فالعامل فيه » عقاب « لا » يحذركم « قاله أبو البقاء ، وفي قوله : » لا يُحَذِّرُكُمْ « فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم .
السادس : أنه منصوب ب » تَوَدُّ « .
قال الزمخشريُّ : » يَوْمَ تَجِدُ « منصوب ب » تَوَدُّ « والضمير في » بينه « لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها ، وبين ذلك اليوم ، وهَوْله أمداً بعيداً » .
وهذا ظاهر حسنٌ ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا .
وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو : ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان ، فالفاعل هو الألف ، وهو ضمير عائد على « أخويك » المتصلين بمفعول « يلبسان » ومثله : غلام هندٍ ضربَتْ ، ففاعل « ضربت » ضمير عائد على « هند » المتصلة ب « غلام » المنصوب ب « ضربت » والآية من هذا القبيل؛ فإن فاعل « تَوَدُّ » ضميرٌ عائدٌ على « نَفْس » المتصلة ب « يَوْمَ » لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ ، والظرف منصوب ب طتَوَدُّ « ، والتقدير : يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا .
احتج الجمهور على الجواز بالسماع .
وهو قول الشاعر : [ الخفيف ]
1400- أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ ... ري إذَا يَبْتَغِي حًصُولَ الأمَانِي
ففاعل « يستحثَ » ضمير عائد على « المرء » المتصل ب « أجل » المنصوب ب « يستحث » .
واحتج المانعون بأن المعمول فضلة ، يجوز الاستغناء عنه ، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره ، فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب ، وزيداً ظن قائماً ، أي : ضرب نفسه ، وظنها ، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين : غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ ، وبين : زيداً ضَرَبَ ، حيث جاز الأول ، وامتنع الثاني ، بمقتضى العلة المذكورة .
قوله : « تجد » يجوز أن تكون [ المتعدية لواحد بمعنى « تصيب » ، ويكون « محضراً » على هذا منصوباً على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون علمية ] ، فتتعدى لاثنين ، أولهما « مَا عَمِلَتْ » ، والثاني « مُحْضَراً » وليس بالقويّ في المعنى ، و « ما » يجوز فيها وجهان :
أظهرهما : أنها بمعنى « الذي » فالعائد - على هذا - مقدَّر ، أي : ما عملته ، وقوله : { مِنْ خَيْرٍ } حال ، إما من الموصول ، وإما من عائده ، ويجوز أن تكون « مِنْ » لبيان الجنسِ .
ويجوز أن تكون « ما » مصدرية ، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول ، تقديره : يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي : معمولها - فلا عائد حينئذ [ عند الجمهور ] .
قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ } يجوز في « ما » هذه أن تكون منسوقة على « ما » التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي : وتجد الذي عملته ، أو وتجد عملها - أي : معمولها - من سوء . فإن جعلنا « تَجِدُ » متعدياً لاثنين ، فالثاني محذوف ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضراً ، أو وتجد عملها مُحْضَراً ، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي : وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول . وإن جعلناها متعدية لواحد ، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة ، أي : تجده محضراً - اي : في هذه الحال - وهذا كقولك : أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي : وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني؛ لدلالة حال الأول عليه- ، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله : « تَوَدُّ » وجهان :
أحدهما : أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل « عَمِلَتْ » ، أي : وما عملته حال كونها وَادَّةً ، اي : متمنِّيًَ البعد من السوءِ .
والثاني : أن تكون مستأنفةً ، أخبر الله تعالى عنها بذلك ، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين .
ووضع الكرم ، واللطف هذا؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً ، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه ، والبعد عنه ، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ .
ويجوز أن تكون « ما » مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجملة في قوله : « تَوَدُّ » ، أي : والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً .
والضمير في « بَيْنَهُ » فيه وجهان :
أحدهما - وهو الظاهر - عوده على « مَا عَمِلَتْ » ، وأعاده الزمخشري على « الْيَوْم » .
قال أبو حيّان : « وأبعد الزمخشري في عوده على » اليوم « ؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير ، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر ، فتود تباعده؛ لتسلم من الشرِّ ، ودعه لا يحصل له الخير . والأولى عوده على { وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء } ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه » .
فإن قيل : هل يجوز أن تكون « ما » هذه شرطية؟
فالجواب : أن الزمخشريَّ ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك ، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً ، وهو « تَوَدُّ » .
قال شهاب الدينِ : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً ، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب ، ومنه بيت زُهَيْر : [ البسيط ]
1401- وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقُولُ : لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ
ومن الجزم قوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ } [ هود : 15 ] ، وقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ } [ الشورى : 20 ] ، وقوله : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ » .
وأجاب ابو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى ، قال : كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ : فذكره ثم قال : ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع ، الجَزْمُ ، وجاز فيه الرفعُ ، مثال ذلك : إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو ، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلا ما ذكره صاحب كتاب « الإعراب » عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع « كان » كقوله تعالى :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ } [ هود : 15 ] ، لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه ، وكلام الجماعة ، أنه لا يختص ذلك ب « كان » بل سائر الأفعال في ذلك مثل « كان » .
وأنشد سيبويه للفرزدق : [ البسيط ]
1402- دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ
وقال أيضاً : [ الطويل ]
1403- تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَجِبَانِ
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً .
قال بعض أصحابنا : هو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق . ومثله - أيضاً - قوله : [ الطويل ]
1404- وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً ... نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا
وقال أبو صخر : [ الطويل ]
1405- وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ ... يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1406- وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ ... تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ
وقال الآخر : [ الطويل ]
1407- فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا
وقال الآخر : [ البسيط ]
1408- إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا ... فِي الجَهْدِ أدْرَكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ
قال شهاب الدين : « هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع ، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها- : فهذا الرفع - كما رأيت - كثير » .
وهذا البيتُ ليس من ذلك؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد : دَسَّتْ رَسُولاً ، وقوله : « تعال فإن عاهدتني » .
وقال : فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رحمه الله- : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء ، وجملة مثل قول الشاعر : [ الرجز ]
1409- .. إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ
على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة .
وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ .
فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم ، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه ، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب ، وإنما حُذِفَ منه الفاءُ ، والفاء يُرْفَع ما بعدها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار .
وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله ، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا : لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً ، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط ، فلم يُعْمِلُوها في الجواب؛ لضَعْفِها ، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم ، ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان .
وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون « وما عملت » شرطاً لعلة أخرى - لا لكون « تَوَدُّ » مرفوعاً ، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم ، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : لما كان « تَوَدُّ » مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَ رعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله : « وَبَيْنَه » عائد على اسم الشرط - الذي هو « ما » - فيصير التقدير : تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .
فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامُه ، فالفاعل رُتْبته التقديمُ ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير؟
فالجواب : أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه؛ لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب ، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط ، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم الشرط اقتضاها ، فتدافَعَا ، وهذا بخلاف : ضرب زيد أخاه؛ فإنها جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً ، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل ، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده؛ لعدم الاشتراك في العامل ، ففرق ما بين المسألتين ، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ : أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره « انتهى .
وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية ، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك ، فقال : » والثاني - أنها شرط وارتفع « تَوَدُّ » على إرادة الفاء ، أي : فهو تود « .
ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزم والرفع .
[ وقد تقدم تحقيق القول في ذلك ، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ . . . ] عبد الله وابن أبي عبلة : « ودت » - بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في « ما » وجهان :
أحدهما : أن تكون شرطية ، وفي محلها - حينئذ - احتمالان .
الأول : النصب بالفعل بعدها ، والتقدير : أيَّ شيء عملت من سوء ودت ، ف « وَدَّتْ » جواب الشرط .
الثاني : الرفع على الابتداء ، والعائد على المبتدأ محذوف ، تقديره : وما عملته ، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند افرّاء في فصيح الكلام ، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو : « أيُّهُمْ ضرب أكرمه » - برفع « أيُّهم » وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو : زيدٌ ضربت ، [ وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ : « أفحكمُ الجاهلية يبغون » ، وفي قوله : « وكل وعد الله الحسنى » في الحديد ] .
الوجه الثاني من وجهي « ما » : أن تكون موصولة ، بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً ، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ ، و « وَدَّتْ » الخبر ، وهو اختيار الزمخشريِّ؛ لأنه قال : « لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى : لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت؛ لموافقة قراءة العامة » انتهى .
فإن قيل : لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون « ما » شرطية على هذه القراءة ، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟
فالجواب : أن العلة إن كانت رفعَ الفعل ، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم ، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك .
قوله - هنا - على بابها ، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حذفان :
أحدهما : حذف مفعول « تَوَدُّ » .
والثاني : حذف جواب « لَوْ » ، والتقدير فيها : تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك ، أو لفرحت ونحوه . والخلاف في « لو » بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة ، يبعد مجيئه هنا؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو « أن » .
قال أبو حيان : ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى : { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [ الذاريات : 23 ] ، قال شهاب الدين : إلا قليلاً يشعر بجوازه ، وهو لا يجوز ألبتة ، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة .
وقد تقدم الكلام في « أنَّ » الواقعة بعد « لَوْ » هذه ، هل محلها الرفع على الابتداء ، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر ، أي : لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن « لو » - هنا - مصدرية ، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ « تَوَدُّ » ، أي تود تباعد ما بينها وبينه ، وفي ذلك إشكال ، وهو دخول حرف مصدري على مثله ، لكن المعنى على تسلط الوداد على « لو » وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي . والأمد : غاية الشيء ومنتهاه ، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً ، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ « أفعال » .
قال الراغب : « الأمَد والأبد متقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود ، وَلا يتقيد فلا يقال : أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق ، وقد ينحصر إذا قيل : أمَد كذا ، كما يقال : زمان كذا ، والفرق بين الأمد والزمان ، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان » .
فصل
المعنى : { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ } يعني : لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً .
قال السُّدِّيُّ : مكاناً بعيداً .
وقال مقاتلٌ : كما بين المَشرق والمَغْرِب؛ لقوله تعالى : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } [ الزخرف : 38 ] .
قال الحسنُ : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً .
اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه ، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان ، أو على المكان .
ثم قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } وهو تأكيد للوعيد ، ثم قال : { والله رَؤُوفُ بالعباد } وفيه وجوه :
الأول : أنه رؤوفٌ بهم ، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه ، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذَّرهم من استحقاق غضبه .
قال الحسنُ : « ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه » .
الثاني : أنه رؤوف بالعباد ، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي .
الثالث : أنه لما قال : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد ، وهو قوله : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده .
الرابع : أن لفظ « العباد » في القرآن مختص بالمؤمنين ، قال تعالى : { وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } [ الفرقان : 63 ] ، وقال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة ، فقال : { والله رَؤُوفُ بالعباد } ، أي : كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين .
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
قرأ العامة « تُحِبُّونَ » - بضم حرف المضارعة ، من « أحَبَّ » وكذلك { يُحْبِبْكُمُ الله } .
وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ « تَحِبُّون ، يَحْبِبْكم » بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان ، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ .
وحكى أبو زيد : حَبَبْتُهُ ، أحِبُّه .
وأنشد :
1410- فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ... وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ
ونقل الزمخشريُّ : قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر ، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً ، أو وقْفاً جاز فيه لغتان : الفك والإدغام . وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة .
والحُبّ : الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع : حِباب وحِبَبَة ، حكاه الجوهريُّ .
وقرأ الجمهور « فَاتَّبِعُونِي » بتخفيف النون ، وهي للوقاية .
وقرأ الزُّهري بتشديدها ، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد ، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير؛ لالتقاء الساكنين ، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله : { أتحاجواني } وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ .
وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من « يغفر » في لام « لكم » .
وقال : هو خطأ وغلط على أبي عمرو . وقد تقدم تحقيقه ، وأنه لا خطأ ولا غلط ، بل هو لغة للعرب ، نقلها الناس ، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج .
فصل
اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ ، وهو أن اليهود كانوا يقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فنزلت هذه الآية .
وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف .
- فقال : يا معشر قريش ، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم ، فقالت قريش : إنما نعبدها حباً لله : { لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ، فقال الله - تعالى- : « قل » يا محمد { إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } فأنا رسولُه إليكم ، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله .
وقال القرطبي : « نزلت في وفد نجرانَ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عز وجل » .
وروي أن المسلمين قالوا : يا رسول الله ، والله إنا لنحب رَبَّنا ، فأنزل الله - عز وجل - { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] .
قال ابن عرفة : المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له .
وقال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما ، واتباعه أمرهما ، قال تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } [ آل عمران : 31 ] [ ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران ، قال الله تعالى : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } [ آل عمران : 32 ] ، أي : لا يغفر لهم ] .
قال سهل بن عبد الله : علامة حُبُّ الله حُبَّ القرآن ، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي ، وعلامة حب النبي صلى الله عليه وسلم حب السنة ، وعلامة حب السنة ، حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة ، أن لا يحب نفسه ، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة .
قوله : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } الآية قيل : إنه لما نزلت هذه الآية ، قال عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله ، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ } أعرَضوا عنها { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم .
والمعنى : إنما أوجب الله عليكم طاعتي ، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى ، [ بل لكوني رسولاً من عند الله ] .
قوله : { فإِن تَوَلَّوْاْ } يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون مضارعاً ، والأصل « تَتَوَلُّوْا » فحذف إحدى التاءين كما تقدم ، وعلى هذا ، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ ، وهو الخطاب .
والثاني : أن يكون فعلاً ماضياص مسنداً لضمير غيب ، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى ، ونظيره قوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
فصل
روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى » قالوا : ومن يَأبَى؟ قال : « مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى » .
قال جابر بن عبد الله : « جاء الملائكة إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم - وهو نائم - فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العين نائمة ، والقلب يقظان ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مَثَلاً ، فاضربوا له مَثَلاً ، فقالوا : مثله كمثل رجل بنى داراً ، وجعل فيها مأدُبَةً ، وبعث داعياً ، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ ، وأكل من المأدبةِ ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ ، فقالوا : أوِّلُوها له بفقهها ، فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ ، قالوا : فالدار الجنة ، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم من أطاع محمداً فقد أطاع الله ، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله ، ومحمد صلى الله عليه وسلم فَرَقَ بين الناس » .
روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من أراد أن يحبه اللهُ عليه بصدقِ الحديثِ ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره » وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
« إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال : إنِّي أحِبُّ فلاناً ، فأحبه ، قال : فيحبه جبريلُ ، ثم ينادي في السماء ، فيقول : إن الله يُحب فلاناً فأحبوه ، فيحبه أهلُ السّماءِ ، قال : ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض ، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول : إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ ، قال : فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه ، قال فيبغضونه ، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض » .
وقال : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } ولم يَقُلْ : فإنه لا يحب؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ ، أنشد سيبويه [ قول الشاعر ] : [ الخفيف ]
1411- لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا
ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول ، فذكره للتمييز؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ .
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
لما بين - تعالى - أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرُّسُل فقال : « إنَّ اللهَ اصطفى آدم ونوحاً » « نوح » اسم أعجمي ، لا اشتقاق له عند محققي النحويين ، وزعم بعضهم أنه مشتق من النُّواح . وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب ، وهو منصرف وإن كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان : العلمية والعجمة الشخصية - لخفّة بنائه؛ لكونه ثلاثياً ساكن الوسط ، وقد جوَّز بعضهم منعَه؛ قياساً على « هند » وبابها لا سماعاً؛ إذْ لم يُسمَع إلا مصروفاً وادعى الفرّاء أن في الكلام حذفَ مضاف ، تقديره : إن الله اصطَفى دينَ آدمَ .
قال التبريزي : « وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل : ونوحٍ - بالجر - إذ الأصل دين آدم ودين نوح » .
وهذه سقطة من التبريزيُّ؛ إذْ لا يلزم أنه إذا حُذِفَ المضاف ، بقي المضاف إليه [ على جره ] - حتى يرد على الفراء بذلك ، بل المشهور - الذي لا يعرف الفصحاء غيره - إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه ، ولا يجوز بقاؤه على جرِّه إلا في قليل من الكلام ، بشَرْطٍ مذكورٍ في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى .
وكان ينبغي - على رأي التبريزيّ : أن يكون قوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] بجر « القرية » ؛ لأن الكُلَّ هو وغيره - يقولون : هذا على حَذْف مضاف ، تقديره : أهل القرية .
قال القرطبيُّ : « وهو - نوح - شيخُ المرسلين ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض - بعد آدم - عليه الصلاة والسلام - بتحريم البنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وسائر القرابات المحرمة ، ومن قال - من المؤرخين - إن إدريس كان قبلَه فقد وهم » على ما يأتي بيانه في الأعراف - إن شاء الله تعالى .
وعمران اسم أعجميٌّ .
وقيل : عربيّ ، مشتق من العَمْر ، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف؛ للعلمية ، و العُجْمة الشخصية ، وإما للعلمية ، وزيادة الألِف والنون .
قوله : { عَلَى العالمين } متعلق ب « اصْطَفَى » .
قوله : « اصْطَفَى » يتعدى ب « مِنْ » نحو اصطفيتك مِن الناس .
فالجواب : أنه ضُمِّنَ معنى « فَضَّل » ، أي : فضَّلَهُم بالاصطفاء .
فصل
اعلم أن المخلوقات على قسمين : مكلَّف ، وغير مكلَّف ، واتفقوا على أن المكلَّف أفضل . وأصناف المكلفين أربعة : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين .
أما الملائكة فقد روي أنهم خُلِقوا من الريح ، ولهذا قدروا على الطيران ، وعلى حمل العرش ، وسُمُّوا روحانيين
وروي أنهم خُلِقوا من النور ، ولهذا صَفَتْ وأخلصت لله - تعالى - ويُمْكن الجمع بين الروايتين بأن نقول : أبدانهم من الريح ، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات .
أما الشياطين فهم كفرة ، أما إبليس فكُفْره ظاهر؛ لقوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } [ البقرة : 34 ] . وأما سائر الشياطين فكفرة؛ لقوله تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] .
ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر ، قال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] وقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] .
وهم مخلوقون من النار؛ لقوله تعالى - حكاية عن إبليس- : { خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ } [ الأعراف : 12 ] .
وأما الجن فمنهم كافر ، ومنهم مؤمن ، قال تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون } [ الجن : 14 ] .
وأما الإنس فوالدهم الأول آدم؛ لقوله تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] وقوله : { الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] .
واتفق العقلاءُ على أن البشر أفضل من الجنِّ والشياطين ، واختلفوا هل البشر أفضل أم الْمَلَك؟ كما قدمناه في البقرة ، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة ، وعُلُوِّ الدرجة ، فكما بيّن - تعالى - أنه اصطفى آدم وأولادَه من الأنبياء على كل العالمين ، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة؛ لأنهم من العالمين .
فإن قيل : إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض؛ لأن الجمع الكثير إذا وُصفُوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محالٌ ، ولو حملناه على كونه أفضل المعنى ، دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى - في صفة بني إسرائيل - { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } [ البقرة : 47 ] ولا يلزم كونهم أفضل من محمَّد صلى الله عليه وسلم بل قلنا : المراد به عالمو زمان كل واحد منهم ، فكذا هنا .
فالجواب أن ظاهر قوله : اصْطَفَى آدم على العالمين ، يتناول كل مَنْ يَصِحُّ إطلاق لفظ « العالم » عليه فيندرج فيه الملك ، غاية ما في الباب أنه تُرِكَ العملُ بعمومه - في بعض الصور - لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل .
فصل
الاصطفاء - في اللغة - الاختيار فمعنى اصْطَفاهُم : أي : جعلهم صفوةَ خلقه تمثيلاً بما يُشَاهَد من الشيء الذي يُصَفَّى من الكدورة ، ويقال : صفَّاهم صَفْوَةً ، وصِفْوَةً ، وصُفْوَةً .
ونظير هذه الآية قوله - لموسى- : { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } [ الأعراف : 144 ] .
وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب : { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار } [ ص : 47 ] وفي الآية قولان :
أحدهما : المعنى أ ، الله اصطفى دين آدمَ ودين نوح - على حذف مضاف - كما تقدم .
الثاني : أن الله اصطفاهم؛ أي : صفَّاهم من الصفاتِ الذميمة ، وزينهم بالصفات الحميدة ، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار ، ولموافقة قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
فصل
قيل : اختار الله آدم بخمسة أشياءٍ :
أولها : أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته .
الثاني : أنه علَّمه الأسماء كلَّها .
الثالث : أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له .
الرابع : أنه أسكنه الجنة .
الخامس : أنه جعله أبا البشر .
واختار نوحاً بخمسة أشياءٍ :
أولها : أنه جعله أبا البشر - بعد آدم-؛ لأن الناس كلَّهم غرقوا ، وصار ذريته هم الباقين .
الثاني : أنه أطال عمره ، ويقال : « طوبى لمن طال عمره وحسن عمله » .
الثالث : أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين .
الرابع : أنه حمله على السفينة .
الخامس : أنه كان أول من نسخ الشرائع ، وكان قبل ذلك لم يُحَرَّم تزويج الخالات والعمات .
واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ :
أولها : أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه .
الثاني : أنه اتخذه خليلاً .
الثالث : أنه أنجاه من النار .
الرابع : أنه جعله للناس إماماً .
الخامس : أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن .
وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوى ، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب ، ولك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم .
فصل
ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال : لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية ، والقوى الروحانية ، أما القوى الجسمانية ، فهي إما مُدْرِكة ، وإمَّا محرِّكة؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة ، وإما الحواس الباطنة ، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة :
أحدها : القوة الباصرة ، فكان صلى الله عليه وسلم مخصوصاً بكمال هذه الصفة ، لقوله : « زويت لي الأرض ، فأريت مشارقها ومغاربها » وقوله : « أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري » ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 75 ] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل .
قال الحليمي : وهذا غير مُسْتبعَد؛ لأن البُصراء يتفاوتون ، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام ، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي صلى الله عليه وسلم أقْوَى من بصرها .
وثانيها : القوة السامعة ، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة؛ لقوله : « أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى » .
وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم ، فلم تبلغ مقرها إلى الآن .
قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك . ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ }
[ النمل : 18 ] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة ، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ .
وثالثها : تقوية قوة الشَّمِّ ، كما في حق يعقوب - حين قال : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } [ يوسف : 94 ] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ .
ورابعها : تقوية قوة الذوقِ ، كما في حق نبيِّنَا صلى الله عليه وسلم حين قال : « إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم » .
خامسها : تقوية قوة اللمس ، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل ، والنعامة .
وأما الحواس الباطنة فمنها : قوة الحفظ ، قال تعالى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] ، ومنها : قوة الذكاء : قال عليٌّ - رضي الله عنه - : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم ، واستنبط من كلّ باب ألف باب . فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أما القوى المحرِّكة ، فمثل عروج الرسول إلى المعراج ، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء ، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى : { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } [ النمل : 40 ] .
وأما القوة الروحانية العقلية ، فلا بد أن تكون في غاية الكمال ، ونهاية الصفاء ، إذا عرفت هذا فقوله : { إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً } معناه أن الله اصطفى آدم ، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول : الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول : البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة ، من أولاد آدم ، وهم شيث وأولاده ، إلى إدريس ، ثم إلى نوح ، ثم إلى إبراهيم ، ثم حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو ، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو ، واستمرَّ ذلك غلى زمان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة ، ونور الملك إليه ، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة .
فصل
من الناس من قال : المرادُ بآل إبراهيم : المؤمنون ، لقوله تعالى : { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] والصحيح أن المراد بهم الأولاد : إسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم .
وقيل : المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما؛ لقوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } [ البقرة : 248 ] ، وقوله : صلى الله عليه وسلم « لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد » .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1412- وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
وقال الآخر : [ الوافر ]
1413- يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى ... كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ
وقيل : المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران .
وأما عمران فقيل : والد موسى ، وهارون ، وأتباعهما من الأنبياء .
وقال الحسن ووهب : المراد عمران بن ماثان ، أبو مريم ، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون ، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا : وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه .
قوله : { ذُرِّيَّةَ } في نَصْبها وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على البدل مما قبلها ، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها بدل من « آدَمَ » وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق « الذُّرِّيَّة » على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ .
قال الجرجاني : « الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء . وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق ، فالأب ذُرِئ منه الولد ، والولد ذرئ من الأب » .
قال الراغبُ : « الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل ، لقوله تعالى : { حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } [ يس : 40 ] أي : آباءهم ، ويقال للنساء : الذراريّ » . فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل « ذُرِّيَّةٌ » بدَلاً من « آدم » بما عطف عليه .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون بدلاً من » آدم « ؛ لأنه ليس بذريته » ، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه ، وإن أراد « آدم » ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء .
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من « نُوح » ومَنْ عطف عليه ، وإليه نحا أبو البقاء .
الثالث : أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ . يريد أن الأولين ذرية واحدة .
الوجه الثاني - من وجهي نصب « ذُرِّيَّةً » - النصب على الحال ، تقديره : اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض ، فالعامل فيها اصطفى . وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة .
قوله : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } هذه الجملة في موضع نصب ، نعتاً لِ « ذُرِّيَّةً » .
فصل
قيل : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أي : بعضها من وَلَد بعض .
وقال الحسن وقتادة : { بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } في الضلالة .
وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة .
وقيل : بعضها من بعض في التناصُر .
وقيل : بعضها على دين بعض - أي : في التوحيد ، والإخلاص ، والطاعة كقوله { المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } [ التوبة : 67 ] ، أي : بسبب اشتراكهم في النفاق .
قوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } قال القفَّال : والله سميع لأقوال العباد ، عليم بضمائرهم ، وأفعالهم ، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً ، ونظيره قوله : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] .
وقيل : إن اليهود كانوا يقولون : نحن من ولد إبراهيم ، وآل عمران ، فنحن أبناء الله ، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله ، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل ، إلا أنه بقي مصراً عليه ، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ ، فكأنه - تعالى - يقول : والله { سَمِيعٌ } لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم ، « عليم » بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقولال ، فيجازيكم عليها ، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم .
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
في الناصب لِ « إذْ » أوجه :
أحدها : أنه « اذكر » مقدَّراً ، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً ، أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس .
الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء ، أي : « اصْطَفَى » مقدَّراً مدلولاً عليه ب « اصْطَفَى » الأوَّل والتقدير : واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران . وعلى هذا يكون قوله : { وَآلَ عِمْرَانَ } [ آل عمران : 33 ] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت ، وليس كذلك؛ لتغاير الزمانَيْن ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به ، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره .
الثالث : أنه منصوب ب « سميع » وبه صرح ابن جرير الطبري ، وإليه نحا الزمخشري؛ فإنه قال : سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها ، و « إذْ » منصوب به .
قال أبو حيّان : ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لأن قوله : { عَلِيمٌ } إمّا أن يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : « سميع » فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما ، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل { سَمِيعٌ } في الظرف؛ لأنه قَدْ وُصِفَ ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك؛ لأن اتصافه تعالى ب { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لا يتقيد بذلك الوقت .
قال شهابُ الدين : « وهذا القدر غيرُ مانع؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره ، ولذلك تقدم على ما في خبر » أل « الموصولة وما في خبر » أن « المصدرية » .
وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت ، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام ، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك ، والتغيُّر في السمع والعلم ، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات .
الرابع : أن تكون « إذْ » زائدةً ، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ ، والتقدير : قالت امرأة عمرانَ ، وهذا غلط من النحويين ، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز ، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو .
الخامس : قال الأخفش والمُبَرِّد : التقدير : « ألم تر إذْ قالت امرأة عمران ، ومثله في كتاب الله كثير » .
فصل
امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم ، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي .
قال القرطبيُّ : « ولا يُعْرَف في العربية » حنة « : اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح ، واسمه عامر ، ودير حنة بالشام ، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك .
قال أبو نواس :
1414- يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ ... مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي
وفي العرب كثير ، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية ، ولا يعرف » خَنَّة « - بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم ، وهي أم محمد بن نصر ، ولا يُعْرَف » جَنَّة « - بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر ، نقل هذا كله ابنُ ماكولا » .
وعمران بن ماثان ، وليس بعمران أبي موسى ، وبينهما ألف وثمانمائة سنة ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم .
وقيل : عمران بن أشهم ، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ ، وهي أخت حنة أم مريم ، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة ، وفي كيفية هذا النذر روايات .
قال عكرمةُ : إنها كانت عاقراً لا تلد ، وتغبط النساء بالأولاد ، فقالت : اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً ن أتصدَّقَ به على بيتك المقدَّس ، فيكونَ من سَدَنَتِهِ .
الثانية : قال محمد بن إسحاق : إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد ، فلما شاخت جلست يوماً في ظل شجرة فرأت ظائراً يُطْعِم فِراخًاً له فتحركت نفسها للولد ، فدعت رَبَّها أن يَهَبَ لها وَلَداً ، فحملت مريم وهلك عمران - فلما عرفت جعلته لله محرراً - أي : خادماً للمسجد .
قال الحسن البصري : إنما فعلت ذلك بإلهام من الله - تعالى - ولولاه لما فعلت ، كما رأى إبراهيم - عليه السلام - ذبحَ ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى - وإن لم يكن عن وحي ، وكما ألهم الله أمَّ موسى بقَذْفه في اليم وليس بوحي ، فلما حررت ما في بطنها - ولم تعلم ما هو ، قال لها زوجها : ويحكِ : ما صنعتِ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثَى لا يصح لذلك؟ فوقعوا جميعاً في هَمٍّ من ذلك ، فهلك عمران وحنة حامل بمريم { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } .
قوله : « مُحَرَّراً » في نَصبه أوجه :
أحدها : أنها حال من الموصول - وهو { مَا فِي بَطْنِي } - فالعامل فيها « نذرت » .
الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار؛ لوقوعه صلة « ما » وهو قريب من الأول ، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور .
الثالث : أن ينتصب على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا ، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف ، تقديره : نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير ، ويجوز أن يكون « ما » انتصب على المعنى؛ لأن معنى { نَذَرْتُ لَكَ } : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً ، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله :
{ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] وقوله : { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } [ الحج : 18 ] - في قراءة من فتح الراء - أي : كلَّ تمزيق ، فما له من إكرام .
ومثله قول : [ الوافر ]
1415- ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ... فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
أي تسريحي القوافي .
الرابع : أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : غلاماً مُحَرَّراً ، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية ، في هذا القول نظراً .
قال شهاب الدين : « وجه النظر فيه أن » نذر « قد أخذ مفعوله - وهو قوله : { مَا فِي بَطْنِي } فلم يتعد إلى مفعول آخرَ ، وهو نظر صحيح » .
وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير ، ووقف أبو عمرو والكسائي على « امرأة » بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا « امرأة » بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف « امرأة العزيز » موضعين - وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء؛ إتباعاً لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت .
وأنشدوا :
1416- وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ ... مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ
فصل
والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل ، ولم يوجَد في شرعنا .
قال ابن العربي : « لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ؛ لكونها حُرَّةٌ ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده . وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك ، وإن كان حُرًّا ، فلا يصح أن يكون ، مملوكاً له ، وكذلك المرأة مثله ، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي ، والاستنصارِ ، فطلبت هذه المرأة أنساً به ، وسُكوناً إليه ، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه ، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار ، وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها .
قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أتى ب » ما « التي لغير العاقلِ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه ، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه ب » ما « .
ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره : ما هذا؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى ، قلت : ما هو أيضاً؟ والآية من هذا القبيل ، هذا عند مَنْ يرى أن » ما « مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء ، فلا يتأوَّل شيئاً .
وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه ب « ما » التي لغير العُقَلاء .
المحرر : الذي يُجْعَل حُرًّا خالصاً ، يقال : حرَّرت العبدَ - إذا أخلصته من الرق - وحرَّرْت الكتاب ، أي : أصلحته وخلصته من وجوه الغلط ، ورجل حُرّ : إذا كان خالصاً لنفسه ، وليس لأحد عليه تعلُّق .
والطين الحر : الخالص من الرمل والحمأة والعيوب ، فمعنى « مُحَرَّراً » ، أي : مُخْلصاً للعبادة ، قاله الشعبيُّ .
وقيل : خادماً للبيعة .
وقيل : عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله .
وقيل : خادماً لمن يدرس الكتاب ، ويُعَلِّم في البيع .
والمعنى أنها نذرت أن تجعلَ الولدَ وَقْفاً على طاعة الله تعالى .
قيل : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء ، فكان تحريرهم جعلَهم أولادَهم على الصفة التي ذكرنا؛ وذلك؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صَارَ بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين ، فكانوا - بالنذر - يتركون ذلك النوعَ من الانتفاع ، ويجعلونهم محرَّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى .
وقيل : كان المحرر يجعل في الكنيسة - يقوم بخدمتها - حتى يبلغَ الحلم ، ثم يُخَيَّر بين المُقام والذهاب فإن أبي المقام ، وأراد أن يذهب ذهب ، وإن اختار المقام فليس له بعدَ ذلك خيار ، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرَّر في بيت المقدس .
وهذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان ، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك؛ لِمَا يُصِيبها من الحيض ، والأذى ، وحنَّةُ نذرت مطلقاً ، إما لأنها بنت الأمر على التقدير ، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلةً إلى طلب الذكر ومعنى : نذرت لك أي لعبادتك ، وتقدم الكلام على النذر ، ثم قال تعالى - حاكياً عنها- : { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } ، والتقبُّل : أخذ الشيء على الرضا ، قال الواحديُّ : « وأصله من المقابلة؛ لأنه يقابَل بالجزاءِ ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى { السميع } أي : لتضرعي ودعائي وندائي { العليم } بما في ضميري ونيَّتي .
قوله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } الضمير في » وضعتها « يعود على » ما « - من حيث المعنى-؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها .
وقيل : إنما أنث؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس ، قاله الزمخشريُّ .
وقال ابنُ عطية : حملاً على الموجودة ، ورفعاً للفظ » ما « في قوله { مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً } .
قوله : { أنثى } فيه وجهان :
أحدهما : أنها منصوبة على الحال ، وهي حال مؤكِّدَة؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت » أنثى « مؤكدة .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلت : كيف جاز انتصاب » أنثى « حالاً من الضمير في » وَضَعْتُهَا « وهو كذلك كقولك : وضعت الأنثى أنثى؟
قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد ، كما أنث الاسم في من كانت أمك؛ لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } [ النساء : 176 ] .
وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ ، كأنه قيل : إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى » .
يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها ، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول ، فقال : وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن « أنثى » تكون حالاً مؤكِّدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة ، وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى « ما » - فليس ذلك نظير { وَضَعْتُهَآ أنثى } ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى « ما » إذ المعنى : اية امرأة كانت أمك ، أي كانت هي أي أمُّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى « ما » ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير { وَضَعْتُهَآ أنثى } ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم ، بخلاف « أنْثَى » فإنه لمجرَّد التأكيد ، وأما تنظيره بقوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } . فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ؛ لتثنية الخبر . والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات ، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في { وَضَعْتُهَآ أنثى } - عائداً على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة .
قال شهاب الدين : قوله : « ليس نظيرها؛ لأن من كانت أمك » حُمل فيه على معنى من ، وهذا أنث لتأنيث الخبر « ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى » ما « كما حمل هناك على معنى » من « ، وقول الزمخشري : » لتأنيث الخبر « أي لأن المرادَ ب » من « : التأنيث ، بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد ب » من « المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى ، بيّن لنا أن المراد ب » ما « في قوله : { مَا فِي بَطْنِي } أنه شيءٌ مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر ، وأما قوله : » فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف { وَضَعْتُهَآ أنثى } ، فإنه لمجرد التوكيد « ليس بظاهر أيضاً؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض ، فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة ، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان :
أحدهما : أنها مؤكِّدة إن قلنا : إن الضمير في { وَضَعَتْهَا } عائد على معنى » ما « .
الثاني : أنها مبيِّنة إن قلنا : إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى .
الوجه الثاني من وجهي « أنثى » : أنها بدل من « ها » في { وَضَعَتْهَا } بدل كل من كل - قاله أبو البقاء .
ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة ، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا } [ الأنبياء : 3 ] - على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر : [ الطويل ]
1417- عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ
بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في « جُودِهِ » .
فصل
والفائدةُ في قولها : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها ، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر ، فلم تشترط ذلك في كلامِها ، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر ، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأنثى ، فقالت : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى } خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به ، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم ، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار ، لا على سبيل الإعلام؛ تعالى الله عن [ أن يحتاج إلى إعلامها ] .
قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر وأبو بكر « وَضَعْتُ » بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس .
قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة- : « تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر؛ تَسلِيَةً لنفسها » .
وقيل : قالت ذلك؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها : « رَبِّ » لقالت : وأنت أعلم .
وقرأ الباقون : « وَضَعَتْ » بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم ، وهو من كلام الباري تعالى ، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود ، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ ، وآيات واضحةٍ .
قال الزمخشريُّ : « ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى - : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } تعظيماً لموضوعها ، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت ، وما علق به من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت » .
وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : { والله أَعْلَمُ } قال : « ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب : وأنت أعلم » . وقد تقدم جوابُه بأنه التفات .
وقرأ ابن عباس « والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ » - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك ، بمعنى : أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة ، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ .
قوله : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في « وَضَعَتْ » - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في « الذكَر » يحتمل أن تكون للعهدِ ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : فما معنى قولها : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } ؟
قلت : هو بيان لما في قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } من التعظيم للموضوع ، والرفع منه ، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها ، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس ، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب ، بخلاف الأنثى؛ لِما يعتريها من الحيض ، وعوارض النسوان .
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر ، وحصل عندَها ، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيبُ : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده ، وهو المُتَلَجلِج في صدرها ، والحائل في نفسها ، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به ، فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى ، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر ، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء ، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى .
وقوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } هذه الجملة معطوفة على قوله { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت : إني وضعتُها ، وقالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم .
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } أيضاً معطوفاً على { إِنِّي وَضَعْتُهَآ } ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض ، كقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] قاله الزمخشريُّ .
قال أبو حيّان : « ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان؛ لأنه يحتمل أن يكون : { وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } من كلامها في هذه القراءة » ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ « وَضَعْتُ » بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان .
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه ، بقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم - الذي هو { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] - وبين جوابه - الذي هو { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 77 ] - بجملة واحدة - وهي قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } - لكنه جاء في جملة الاعتراض - بين بعض أجزائها ، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله : { لَّوْ تَعْلَمُونَ } اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو « لَقَسَمٌ » - وبين نعته - الذي هو « عَظِيمٌ » - فهذا اعتراضٌ ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } .
قال شهابُ الدين : والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : « ليس فصلاً بجملتي اعتراض » ممنوع ، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله : فصل بجملتين « ف » سمى « يتعدى لاثنين ، أحدهما بنفسه ، وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت زيداً ، و الأصل : بزيدٍ ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله : [ المتقارب ]
1418- وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ ... وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل
أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها .
فصل
ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء ، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة ، ويؤكد ذلك قوله : بعد ذلك : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } . وقولها : { سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة ، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع .
قوله : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا } عطف على { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا } وأتى - هنا - بخبر » إنَّ « فعلاً مضارعاً؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : { وَضَعْتُها } و { سَمَّيْتُهَا } حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن؛ لانقطاعهما ، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف؛ اهتماماً به .
وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة ، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما- : { بعهدي أُوف } [ البقرة : 40 ] و { آتوني أُفْرِغ } [ الكهف : 96 ] والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها .
فصل
لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد ، تضرعت إلى الله تعالى أن يحفظها من الشيطان ، وأن يجعلها من الصالحات القانتات .
قال القرطبي : « معنى قوله : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } يعني خادم الرب - بلغتهم - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ } مريمَ . { وَذُرِّيَّتَهَا } عيسى . وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة » .
قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا } الجمهور على { فَتَقَبَّلَهَا } فعلاً ماضياً على « تَفَعَّل » بتشديد العينِ - و { رَبُّهَا } فاعل به ، وتفعل يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير ، و - « تَفَعَّل » يأتي بمعنى « فَعَل » مُجَرَّداً ، نحو تعجب وعَجب من كذا ، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه .
والثاني : أن « تفعل » بمعنى : استفعل ، أي : فاستقبلها ربُّها ، يقال : استقبلت الشيءَ أي : أخذته أول مرة .
والمعنى : أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها .
ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
1419- وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا
ومنه المثل : خذ الأمر بقوابله . و « تَفَعَّل » بمعنى « استفعل » كثير ، نحو : تعظم ، واستعظم ، وتكبر ، واستكبر ، وتعجَّل واستعجل .
قال بعضُ العلماء : « إن ما كان من باب التفعُّل ، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل ، كالتصبُّر والتجلُّد ، ونحوهما ، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في غظهار الصَبْرِ والجَلَدِ ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ » .
فإن قيل : فلِمَ لَمْ يَقُلْ : فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ ، حتى تكمُلَ المبالغةُ؟
فالجوابُ : أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ ، فذكر التقبلَ ، ليفيد الجد والمبالغة ، ثم ذكر القبولَ ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ ، بل على وفق الطبعِ ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها ، وهو وجه مناسبٌ .
والباء - في قوله : « بِقَبُولٍ » - فيها وجهانِ :
أحدهما : أنها زائدة ، أي : قبولاً ، وعلى هذا فينتصب « قبولاً » على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذْ لو جاء على « تَقَبُّل » لقيل : تَقَبُّلاً ، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً .
وَقَبُول : من المصادر التي جاءت على « فَعُول » - بفتح الفاء - قال سيبويه : خمسة مصادر جاءت على « فَعُول » قَبُول ، وطَهُور ، ووَقُود ، ووَضُوء ، وولُوع ، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ ، يقال : قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً ، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس ، كالدخولِ والخروجِ ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب : قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً ، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم ، وأنشدوا : [ السريع ]
1420- قَدْ يُحْمَدث الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ ... بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ
بضم القاف - كذا حكاه بعضهم .
قال الزَّجَّاجُ : إن « قَبُولاً » هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر ، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له ، - أي : مجرداً - قال : والتقدير : فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً ، أي : رضيها ، وفيه بُعَدٌ .
والوجه الثاني : أن الياء ليست بزائدة ، بل هي على حالها ، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ ، نحو اللدود ، لما يُلَدُّ به . والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر .
فصل
في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ :
أحدها : أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ ، وعصمها ، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان .
روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : « مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها » ، ثم قال أبو هريرة : اقرَأُوا - إنْ شِئْتُمْ - { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } ، طعن القاضي في هذا الخبر ، وقال : إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ؛ وإنما قلنا : إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ :
الأول : أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر ، والطفل المولود ليس كذلك .
الثاني : أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين ، وإفساد أحوَالهم .
الثالث : لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء؟
الرابع : أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ .
الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن- : ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت : خذوا هذه النذيرةَ ، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم ، فقال لهم زكريَّا : أنا أحق بها؛ عندي خالتها ، فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها ، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ .
قال السُّدِّيُّ : هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها ، على أن كل من يرتفع قلمه ، فهو الراجحُ ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ ، وترسب أقلامهم ، فأخذها زكريَّا .
قاله محمد بن إسحاق وجماعة ، وقيل : جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ ، وجرت أقلامهم بجري الماء .
وقال السُّدِّيُّ وجماعة : ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين ، وجرت أقلامُهم ، فذهب بها الماء ، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها .
الوجه الثالث : رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال : إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط ، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ .
الوجه الرابع : أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام ، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد ، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا ، وعدم قدرتها على خدمة المسجد .
وقيل : معنى التَّقَبُّل : التكفُّل في التربية ، والقيام بشأنها .
وقال الحسنُ : معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار .
وقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } نبات : مصدر على غير المصدر؛ إذ القايس إنبات ، وقيل : بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً ، تقديره : فتنبت نباتاً حسناً ، قاله ابنُ الأنباريّ .
وقيل : كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام .
وقيل : تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ .
وقال القرطبي : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } أي : سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ .
قوله : { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون { وَكَفَّلَهَا } - بتشديد الْعَيْنِ - « زَكَرِيَّا » - بالقصر - إلا أبا بكر ، فإنه قرأه بالمد كالباقين ، ولكنه ينصبه ، والباقون يرفعونه .
وقرأ مجاهدٌ « فَتَقَبَّلَهَا » بسكون اللام « رَبَّهَا » منصوباً ، « وأنْبَتَهَا » - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [ وسكون اللام ] والتخفيف وقرأ أبي : « وأكْفَلَهَا » - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً .
وقرأ عبد الله المزني « وَكَفِلَهَا » - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ - .
فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين ، ثانيهما زكريا ، فمن قصره ، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب ، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به ، وأما قراءة بقية السبعة ف « كَفِلَ » مخفف عندهم ، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا .
قال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ولا مخالفة بين القراءتين؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها ، وهو في قراءتهم ممدود ، مرفوع بالفاعلية .
وأما قراءة : « أكْفَلهَا » فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته ، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى ، والمفعول الأول هو : ضمير مَرْيَمَ والثاني : هو زكريا .
أما قراءة « وَكفِلها » - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في « كَفَل » يقال : كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية ، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون « زكريا » فاعلاً .
وأما قراءة مجاهدٍ فإنها « كَفِّلْهَا » على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء ، أي : فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا ، وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين . وقرأ حفص والأخوانِ « زكريا » - بالقصر - حيث ورد في القرآن ، وباقي السبعة بالْمَدِّ و المدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز . وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه : مُنِع من الصرف للعلمية ، والعُجْمَة - كنظاشره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه : إما الممدودة كَحَمْرَاءَ ، وإما المقصورة كحُبْلَى ، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا : فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع ، لكن العرب منعته نكرةً ، فعلمنا أن المانع غير ذلك ، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث .
على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً ، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك ، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال : « لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث ، أو للإلحاق أو منقلبة ، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي ، أو من حرف الإلحاق؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به ، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة » .
قال شِهَابُ الدِّينِ : « وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح ، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف ، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه » .
وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ :
إحداهما : زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف ، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال : « القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها ، وألحق بياء النَّسَب ، ويدل على ذلك صرفُ الاسم ، ولو كانت اياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ؛ للعجمة والتعريف ، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم » .
الثانية : زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ .
والكفالة أي : الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ ، يقال منه : كَفَل يَكْفُل ، وكَفِلَ يَكْفَلُ ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً ، فهو كافِل وكفيل ، والكافل : هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله ، وفي الحديث : « أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة » وقال تعالى : { أَكْفِلْنِيهَا } [ ص : 23 ] .
واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عليه الصلاة والسلام - إياها ، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها ، وبه جاءت الروايات .
وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت ، واحتجوا بوجهين :
أحدهما : قوله تعالى : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } ثم قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ .
الثاني : أنه - تعالى - قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة .
وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب ، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً . وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها ، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ .
قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } « المحراب » فيه وجهان :
أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف ، وشذ عن سائر أخواته بعد « دَخَلَ » خاصَّةً ، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة « في » نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة ، نحو دخلت السوق والبيت . . . الخ . وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو .
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد « دَخَلَ » على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت ، كقولك : هدمت البيت ، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح؛ بدليل أن « دَخَلَ » لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة « في » تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه .
والجواب : قال ابو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها ، وكذلك هو من المسجد .
وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ .
وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة .
وأنشد لامرئِ القيس : [ الطويل ]
1421- وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا ... كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ
قالوا معناه : في غرف أقيال . وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة : [ السريع ]
1422- رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا ... لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما
وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود ، وهو الأليق بالآية .
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو ، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه . واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى : { إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } [ ص : 21 ] فوجه الإمالة تقدم الكسرة ، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل .
قوله : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } « وجد » هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو « رِزْقاً » و « عندها » الظاهر أنه ظرف للوجدان .
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من « رِزْقاً » ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل ، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف ، ف « وجد » هو الناصب لِ « كُلَّمَا » لأنها ظرفية ، وأبو البقاء سمَّاه جوابها؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي .
قوله : { قَالَ يامريم } فيه وجهان :
أحدهما : أنه مستأنف ، قال ابو البقاء : « ولا يجوز أن يكون بدلاً من » وَجَدَ « ؛ لأنه ليس بمعناه » .
الثاني : أنه معطوف بالفاء ، فحذف العاطف ، قال أبو البقاء : « كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وكذلك قول الشاعر : [ البسيط ]
1423- مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا .. . . .
وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط ، لأن » كُلَّمَا « تشبه الشرط في اقتضائها الجواب .
قال شهاب الدين : وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } أن جوابَ الشرط هو نفس { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } حُذِفَتْ منه الفاء ، وليس كذلك ، بل جواب الشرط محذوف ، و - { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة ، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة ، وكيف يَدَّعِي ذلك ، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور ، وهو لا يجوز إلا في ضرورة؟
ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله : » وَجَدَ « في محل نصب على الحال من فاعل » دَخَلَ « ويكون جواب » كُلَّمَا « هو نفس » قَالَ « والتقدير : كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق .
قال : وهذا بَيِّن .
ونكر » رِزْقاً « تعظيماً ، أو ليدل به على نوع » ما « .
قوله : { أنى لَكِ هذا } » أنى « خبر مقدم ، و » هَذَا « مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا : من أين؟ كذا فسَّره أبو عبيدة .
قيل : ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي : كيف تَهَيأ لكِ هذا؟
قال الكميت : [ المنسرح ]
1425- أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ
وجوَّز أبو البقاء في » أنَّى « أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في » ذلك « . و » لك « رافع ل » هذا « يعني بالفاعلية .
ولا حاجة إلى ذلك ، وتقدم الكلام على « أنى » في « البقرة » .
فصل
قال الرَّبيع بن أنس : إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي : فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، فيقول يا مريمُ ، أنى لك هذا؟
قال ابو عبيدة : معناه من أين لك هذا ، وأنكر بعضهم عليه وقال : معناه من أي جهة لك هذا؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة ، وأين للسؤال عن المكان .
فصل
احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون ، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة ، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ :
الأول : أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا ، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ ، وهو المعنى المراد من الآية .
الثاني : قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساص من الولد؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته ، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد ، فيستقيم قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سبباص لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر .
الثالث : تنكير الرزق في قوله : « رِزْقاً » فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عديب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية .
الرابع : أنه - تعالى - قال : { وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك .
الخامس : تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة ، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك ، والأول باطل؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله ، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه ، ولم يَقُلْ ل « مريم » أنَّى لَكِ هَذَا؟ وأيضاً فقوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله ، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم ، وإذا كان كذلك ، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل .
قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين :
الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها ، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله ، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها : أنَّى لكِ هذا؟ فقالت هو من عند الله ، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ .
الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً ، إلا أنه كان يأتيها من السماء ، وكان زكريا يسألها عن ذلك ، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها ، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره .
وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق ، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي ، فكان يسألها عن كيفية الحال .
والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك ، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل ، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال ، ولم يكن لقول : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } فائدة .
والجواب عن الثالث : أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه .
أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق ، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة؟ فسقطت هذه الأسئلة .
واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء ، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي ، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ .
والجواب من وجوه :
الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي ، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا ، وإن ادَّعَى الولايةَ ، فذلك يدل على كونه وليًّا .
والثاني : قال بعضهم : « الأنبياء مأمورون بإظهارها ، والأولياء مأمورون بإخفائها » .
والثالث : أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به ، والولي لا يمكنه القطع به .
الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة ، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة .
قوله : { إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً .
ويحتمل أن يكون مستأنفاً ، من كلام الله تعالى ، وتقدم الكلامُ على نظيره .
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
« هنا » هو الاسم ، واللام للبعد ، والكاف حرف خطاب ، وهو منصوب على الظرف المكاني ب « دَعَا » وزان « ذلك » ، وهو منصوب على الظرف المكاني ، ب « دعا » أي : في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب « مِنْ » وَ « إلَى » .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1426- قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ ... مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ
وحكمه حكم « ذَا » من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه ، ومن الكاف واللام ، نحو « هُنَا » وقد يَصْحَبه « ها » التنبيه ، نحو هاهنا ، ومع الكاف قليلاً ، نحو ها هناك ، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام . وأخوات « هنا » بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و « ثَمَّ » بفتح الثاء - وقد يقال : « هَنَّت » . ولا يشار ب « هُنَالِكَ » وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة ، كقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وقوله : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } [ الكهف : 44 ] وقوله : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] .
وقد زعم بعضهم أن « هُنا » و « هناك » و « هنالك » للزمان ، فمن ورود « هنالك » بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه ، ومثله : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] ، وقوله : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ } ومنه قول زهير : [ الطويل ]
1427- هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا .. . .
ومن « هنَّا » قوله : [ الكامل ]
1428- حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
لأن « لات » لا تعمل إلا في الأحيان .
وفي عبارة السجاوندي أن « هناك » في المكان ، و « هنالك » في الزمان ، وهو سهو؛ لأنها للمكان سواء تجردت ، أو اتصلت بالكاف واللام معاً ، أم بالكاف من دون اللام .
فصل
ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه ، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر .
فإن قيل : لِمَ قلتم : إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم ، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا ، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية؟
فالجواب : أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق ، أما أنّه هل تقع أم لا؟ فلم يكن عالماً به ، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى ، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك .
قوله : { مِن لَّدُنْكَ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه يتعلق ب « هَبْ » وتكون « مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً ، أي : يا رب هَبْ لي من عندك . ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ « ذُرِّيَّة » فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً .
وتقدم الكلام على « لَدُنْ » وأحكامها .
قال ابن الخطيب : « وقول زكريا : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً } لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة ، قال : { مِن لَّدُنْكَ } أي بمحض قدرتك ، من غير شيء من هذه الأسباب » .
فصل
الذرية : النسل ، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى ، والمراد - هنا - ولد واحد ، وهو مثل قوله : « فهب لي من لدنك وليًّا » .
قوله : { طَيِّبَةً } إن أريد ب « ذُرِّيَّة » الجنس ، فيكون التأنيث في « طيِّبة » باعتبار تأنيث الجماعة ، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ .
قال الفراء : وأنّث « طَيِّبَةً » لتأنيث لفظ « الذرية » كما قال القائل في ذلك البيت : [ الوافر ]
1429- أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى ... وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
الشخص ، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله : [ الطويل ]
1430- فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا
قوله { سَمِيعٌ الدعآء } مثال مبالغة ، مُحَوَّل من سامع ، وليس بمعنى مُسْمِع؛ لفساد المعنى؛ لأن معناه إنك سامعه ، وقيل : مُجِيبه ، كقوله : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } [ يس : 25 ] أي : فأجيبوني ، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين .
فصل
قال القرطبيُّ : دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد ، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ .
قال تعالى - حكاية عن إبراهيم - : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } [ الشعراء : 84 ] .
وقال تعالى : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لأنس فقال : « اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده ، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه » وقال صلى الله عليه وسلم : « تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ » فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ » فذكر « أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَهُ » .
فصل
ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق ، والهداية ، والصَّلاح ، والعَفَاف ، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه ، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا :
{ واجعله رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] ، وقال : { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } وقال تعالى : { هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] .
قوله : { فَنَادَتْهُ الملاائكة } قرأ الأخوان « فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ » - من غير تأنيث - والباقون « فَنَادَتْهُ » بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر ، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع ، والتأنيث باعتبار الجماعة ، ولتأنيث لفظ « الملائكة » مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن؛ كقوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب } [ الحجرات : 14 ] . ومثل هذا { إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة } [ الأنفال : 50 ] تُقْرأ بالتاء والياء ، وكذا قوله : { تَعْرُجُ الملائكة } [ المعارج : 4 ] .
قال الزجاج : يلحقها التأنيث للفظ الجماعة ، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة ، وهكذا قوله : { وَقَالَ نِسْوَةٌ } [ يوسف : 30 ] .
وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله .
وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة ، فقال : « أكره التأنيثَ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث » .
روى إبراهيم قال : كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ .
قال أبو عُبَيْد : « نراه اختار ذلك؛ خلافاً على المشركين؛ لأنهم قالوا : الملائكة بناتُ اللهِ » .
وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال : « إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً » .
وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين ، فقال : وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية ، ولذلك قرأ « فناداه » بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة؛ لأن الملائكة جمع ، وما اعتلوا ليس بشيءٍ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم } [ آل عمران : 42 ] .
وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن؛ لأنهما قراءتان متواترتان ، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة .
والأخوان على أصلهما من غمالة « فَنَادَاهُ » . والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني : التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل .
قال الزَّجَّاج : أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة ، كقولك : فلان يركب السُّفُنَ - أي : هذا الجنس كقوله تعالى : { يُنَزِّلُ الملاائكة } [ النحل : 2 ] يعني جبريل « بِالرُّوحِ » يعني الوحي . ومثله قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } [ آل عمران : 173 ] وهو نعيم بن مسعود ، وقوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } [ آل عمران : 173 ] يعني أبا سفيان . ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة؛ تعظيماً له .
قيل : الرئيس لا بدَّ له من أتباع ، فلذلك أخبر عنه وعنهم ، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل .
والعطف بالفاء - في قوله « فَنَادَتْهُ » - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير .
والنداء : رفع الصوت ، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم ، نحو البُكَاء ، والصُّراخ ، والدُّعاء ، والرُّغاء .
وقيل : المكسور مصدر ، والمصموم اسم . ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ؛ لموافقته نظائره من المصادر .
قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته ، وإن كسرتها مددته .
وأصل المادة يدل على الرفع ، ومنه المنْتَدَى والنادي؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم . وقالت قريش : دار الندوة ، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها ، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة ، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً ، والنَّدَى : المَطَر ، ومنه : نَدِيَ ، يَنْدَى ، ويُعَبَّر به عن الجود ، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً .
قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية من مفعول النداء ، و « يُصَلِّي » يحتمل أوجهاً :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ .
الثاني : أنه حال من مفعول النداء ، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال .
الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في « قَائِمٌ » فيكون حالاً من حال .
الرابع : أن يكون صفة لِ « قَائِمٌ » .
قوله : { فِي المحراب } متعلق ب « يُصَلِّي ، ويجوز أن يتعلق ب » قَائِمٌ « إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في » قَائِمٌ « ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد ، فلا يلزم فيه فَصْل ، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ » قَائِمٌ « أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ . هذا معنى كلام أبي حيّان .
قال شِهَابُ الدِّيْنِ : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ فإن كُلاًّ من » قَائِمٌ « و » يصلِّي « يصح أن يتسلَّط على » فِي الْمِحْرَابِ « وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب .
والمحراب - هنا - : المسجد .
قوله : { إِنَّ الله } قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر » إنَّ « والباقون بفتحها ، فالكسر عند الكوفيين؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ ، فيُكْسر معه ، وند البصريين ، على إضْمار القول - أي : فنادته ، فقالت . والفتح والحذف - على حذف حرف الجر ، تقديره : فنادته بأن الله ، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها .
وفي قراءة عبد الله : » فنادته الملائكة يا زكريا « فقوله : » يا زكريا « هو مفعول النداء ، وعلى هذه القراءة يتعين كسر » إن « ولا يجوز فتحُها؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه ، وهما الضمير وما نُودي به زكريا .
قوله : { يُبَشِّرُكَ } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ } - في موضعين - وفي سورة الإسراء :
{ وَيُبَشِّرُ المؤمنين } [ الإسراء : 9 ] وفي سورة الكهف : { وَيُبَشِّرُ المؤمنين } - بضم الياء ، وفتح الباء ، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه ، يُبَشِّرُه .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى ، وهو قوله : { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ } [ الشورى : 23 ] .
وقرأ الجميع - دون حمزة - - كذلك في سورة براءة : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ } [ التوبة : 21 ] وفي الحجر - في قوله : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] - أنه بالتثقيل .
وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين { إِنَّا نُبَشِّرُكَ } [ مريم : 7 ] وقوله : { لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين } [ مريم : 97 ] . وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة ، وسكون الياء وضم الشين .
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل ، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ :
فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ .
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] .
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة . والكسائي خفَّف خمساً منها ، وثقَّل أربعاً ، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى . وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف - .
وعليه ما أنشده الفراء قوله : [ الطويل ]
1431- بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً ... أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم « يُبَشِّرُكَ » - بضم الياء .
ومن التبشير قول الآخر : [ الكامل ]
1432- يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ؟
وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو « فَبَشِّرْهُمْ » . { وَأَبْشِرُوا } [ فصلت : 30 ] ، { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } [ هود : 71 ] . قالوا : { بَشَّرْنَاكَ بالحق } [ الحجر : 55 ] . فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي .
وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة .
قوله : { بيحيى } متعلق ب { يُبَشِّرُكَ } ولا بد من حذف مضاف ، أي : بولادة يحيى؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة ، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ ، تقديره : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ .
و « يحيى » فيه قولان :
أحدهما- وهو المشهور عند المفسِّرين- : أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً ، نحو يعيش ويعمر ويموت .
قال قتادة : « سُمِّي { بيحيى } لأن الله أحياه بالإيمان » .
وقال الزَّجَّاج : « حيي بالعلم » وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل ، نحو يزيد ويشكر وتغلب .
والثاني : أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية .
وعلى كلا القولين يُجْمَع على « يَحْيَوْنَ » بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها .
وقال الكوفيون : إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك ، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو ، وكسر ما قبل الياء؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص ، نحو جاء القاضُون ، ورأيت القاضِين ، نقل هذا أبو حيّان نهم . ونقل ابنُ مالك عنم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو ، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ ، نحو : جاء حبلون ورأيت حُبلِين ، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين .
قالوا : فإن كان أعجمياً جاز الوجهان؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق . ويصغر يحيى على « يُحَيَّى » وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك : [ مجزوء الرمل ]
1433- أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ ... يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ يَحْيَى ... إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا
وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا ... لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا
إنَّمَا كَانَ صَوَاباً ... لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا
كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا ... أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا؟
وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة ، وذلك يختلف بالتصريف والعمل ، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات ، وأصل المسألة تصغير « أحْوَى » ويُنْسَب إلى « يَحْيَى » « يَحْيَى » - بحذف الألف ، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و « يَحْيَوِيّ » - بالقلب؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و « يَحْيَاوِيّ » - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً .
وقرأ حمزة والكسائي « يَحْيَى » بالإمالة؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم .
قال ابن عباس : « سُمِّيَ » يَحْيَى؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه .
وقال قتادة : لأن الله أحيا قلبه بالإيمان .
وقيل : لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ .
قال القرطبي : « كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا ، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة ، وتفسيره بالعربية : لا تلد ، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها : سارة ، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت : يا إبراهيم ، لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال : إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء ، اسمه حيا ، فسُمِّي بيَحْيَى » .
قوله : { مُصَدِّقًا } حال من « يَحْيَى » وهذه حال مقدرة .
وقال ابن عطية : « هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام » . و « بِكلِمةٍ » متعلق ب « مُصَدِّقاً » .
وقرأ أبو السّمال « بِكِلْمَةٍ » - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها ، فالتقى بذلك كسرتان ، فحذف الثانيةَ؛ لأجل الاستثقال .
فصل
قيل : المراد بها الجمع؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه ، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ » حيثُ قال : [ الطويل ]
1434- ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل .. . .
وذكر جابر - رضي الله عنه - الحُوَيْدِرَة فقال : لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته .
وقال الجمهور : الكلمة : هي عيسى عليه السلام .
قال السديُّ : لقيت أمُّ عيسى ، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى ، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى : أشعَرْتِ أني حُبْلَى؟ : فقالت : مريم : وأنا - أيضاً - حُبْلَى ، قالت امرأة زكريا : فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك ، فذلك قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } .
قال القرطبيُّ : « رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم » .
وقال ابن عبّاسٍ : إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر .
وقيل : بثلاث سنين ، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه .
وسمي عيسى عليه السلام كلمة . قيل : لأنه خُلِقَ بكلمة من الله { كُنْ فَيَكُونُ } من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً ، والمقدور قُدْرة ، والمرجُوُّ رجاءً ، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة .
وقيل : هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام .
وقيل : لأنه تكلم ف يالطفوليَّة ، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً ، فسُمِّيَ كلمة كما يقال : فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما .
وقيل : لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله ، فلما جاء قيل : هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر ، فإذا حَدَث ذلك الأمر ، قال : قد جاء قولي ، وجاء كلامي - أي : ما كنت أقول ، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار } [ غافر : 6 ] وقوله : { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] .
وقيل : لأن الإنسان قد يُسَمَّى ب « فضل الله » و « لطف الله » وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله .
واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه ، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة : صفة يخلقها الله في جسم مخصوص ، دالة بالوضع على معاني مخصوصة .
وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة ، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال : إنها ذات عيسى ، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول ، لم يَبْقَ إلا التأويل .
قوله : { مِّنَ الله } في محل جر؛ صفة ل « كَلِمَةٍ » فيتعلق بمحذوف ، أي : بكلمة كائنة من الله { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً } أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً . والسيد : فَيْعِل ، والأصل سَيْود ، ففُعِلَ به ما فعل ب « ميت » ، كما تقدم ، واشتقاقه من سَادَ ، يَسُودُ ، سِيَادَةً ، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد .
ومنه قوله : [ الرجز ]
1435- نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما ... وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا
وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا
وجمعه على « فَعَلَة » شاذ قياساً ، فصيح استعمالاً؛ قال تعالى : { إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا } [ الأحزاب : 67 ] .
وقال بعضهم : سُمي سيِّداً؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي : مُعْظَمهم وجُلَّهم . والأصل سَوَدَة ، و « فَعَلَة » لِ « فاعِل » نحو كافِر وكفرة ، وفاجِر وفَجَرَة ، وبارّ وبررة .
وقال ابن عباس : السَّيِّد : الحليم .
قال الجبائي : إنه كان سيداً للمؤمنين ، ورئيساً لهم في الدين - أعني : في العلم والحلم والعبادة و الورع .
قال مجاهدٌ : السَّيِّد : الكريم على الله تعالى .
وقال ابن المُسَيِّبِ : السيِّد : الفقيه العالم .
وقال عكرمة : السيد : الذي لا يغلبه الغضبُ .
وقيل : هو الرئيس الذي يتبع ، ويُنتَهَى إلى قولهِ .
وقال المفضل : السيد في الدين .
وقال الضحاك : الحسن الخلق .
وقال سعيد بن جبير : هو الذي يُطيع ربَّه .
ويقول عن الضَّحَّاكِ : السيد : التقِيّ .
وقال سفيان : الذي لا يحسد .
وقيل : هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ .
وقيل : هو القانع بما قسم الله له .
وقيل : هو السَّخِيّ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ » ؟ قالوا : جَد بن قَيْس على بُخْلِه ، فقال : « وأي دواء أدوى من البخل ، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح » وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً . وقال صلى الله عليه وسلم لبني قريظة : « قوموا إلى سيِّدكم » .
وقال - في الحسن - : « إن ابني هذا سَيِّدٌ ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين » .
قال الكسائي : السيّد من المَعْز : [ الْمُسِّن ] . وفي الحديث : « الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ » .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1436- سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ ... لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد
والحصور : فعول للمبالغة ، مُحَوَّل من حاصر ، كضروب .
وفي قوله : [ الطويل ]
1437- ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا ... إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ
وقيل : بل هو فَعُول بمعنى : مفعول ، أي : محصور ، ومثله ركوب بمعنى : مركوب ، وحلوب بمعنى : محلوب .
والحصور : الذي يكتم سره .
قال جرير : [ الكامل ]
1438- وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا
وهو البخيل - أيضاً - قال : [ البسيط ]
1439- . ... لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ
وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك ، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن : الحصور : الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل ، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات .
قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له ، فيكون بمعنى « مفعول » كأنه ممنوع من النساء .
واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً ، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة . والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص ، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ ، لا يجوز ، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً .
فصل
احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح ، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة ، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] .
وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان ، والنسخ على خلاف الأصل .
وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - « تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا » وقوله : « لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ » . وقوله عليه الصلاة والسلام : « النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي » .
وقولهم : النسخ على خلاف الأصل .
قلنا : مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ ، وقد علمناه .
قوله : { وَنَبِيًّا } اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين :
أحدهما : القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين .
والثاني : ضبط مصالحهم في تأديبهم ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
والحصور إشارة إلى الزهد التام ، فلما اجتمعا حصلت النبوة؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة .
قوله : { مِّنَ الصالحين } صفة لقوله : { وَنَبِيّاً } فهو في محل نصب ، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : معناه من أولاد الصالحين .
الثاني : أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر : إنه من الصالحين .
الثالث : أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء؛ لقوله - عليه السلام- : « مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا ، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ » .
فإن قيل : إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح ، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة؟
فالجواب : أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال : { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } [ النمل : 19 ] .
وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة ، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر ، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً .
والله أعلم .
قوله : { أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها - حينئذ - وجهان :
أحدهما : « { أنى » لأنها بمعنى « كيف » أو بمعنى « مِنْ أيْنَ » ؟ ، و « لِي » - على هذا - تبيين .
والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور ، و « كيف » منصوب على الظرف . ويجوز أن تكون التامة ، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب « يَكُونُ » ، أي : كيف يحدث لي غلام؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « غُلاَمٌ » ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له .
قوله : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } جملة حالية .
قال أهل المعاني : « كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ » .
فلهذا جاز أن نقول : بلغتُ الكِبَرَ ، وجاز أن تقول : بلغَنِي الكِبَرُ ، يدل عليه قولُ العربِ : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط .
وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان . وقيل : هو من المقلوب ، كقوله : [ البسيط ]
1440- مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ
فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟
فالجواب : أنه لا يجوز ، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان ، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرقُ .
فصل
قدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخَّر حالَ امرأته ، وفي سورة مريم عكس .
فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه ، واشتعالَ شيْبه ، وخوفه مواليه ممن ورائه ، وقال : « وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً » فلما أعاد ذِكْرَهما في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر ، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير .
فصل
الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه ، وأما الكهل ، فباعتبار ما كان عليه .
قالت ليلى الأخيليّة : [ الطويل ]
1441- شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً ، قال تعالى : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا ، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين ، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة ، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً ، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1442- وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين ، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله : { فِي المهد وَكَهْلاً } [ آل عمران : 46 ] ثم هو راغم بعد ذلك .
واشتقاق « الغلام » من الغِلْمَة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه .
ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر ، أي : هاج وتلاطمت أمواجه ، مستعار منه .
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ ، وفي الكثرة : غِلْمان ، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟
قال الفراء : « يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية ، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل- » .
قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة ، والغَيْلم : موضع .
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ ، قال : [ الطويل ]
1443- صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا ... إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
فصل
قال الكلبيُّ : كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة .
وقيل : ابن ثنتين وسبعين سنة .
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً .
فإن قيل : قوله : { رَبِّ أنى يَكُونُ } خطاب مع الله ، أو مع الملائكة ، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ ، وهذا الكلام ، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره ، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب ، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ :
أحدهما : أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا ، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى - .
الثاني : أنه خطاب مع الملائكة ، و الربُّ إشارة غلى المربِّي ، ويجوز وَصْف المخلوقِ به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ .
فإن قيل : لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد - : « أنى يكون لي غلام » أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته؟
فالجواب : من وجوهٍ :
أحدها : إن قلنا : معناه من أين؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق ، ولا خَلْقَ إلا من نطفة ، لزم التسلسل ، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة ، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان .
[ ثانيها ] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى- .
وإذا كان معنى « أنَّى » : كيف ، فحدوث الولد يحتمل وجهين :
أحدهما : أي منع شيخوخته ، وشيخوخة امرأته ، أو يجعله وامرأته شابين ، أو يرزقه الله ولداً من امرأة أخْرَى ، فقوله : { رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } معناه : كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول ، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً . قاله الحسنُ والأصمّ .
وثانيهما : أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه ، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود ، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ ، ويقول : كيف حصل هذا؟ ومن أين وقع؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة ، يقول : كيف وَهَبَ هذه الأموالَ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا . كذا هنا .
الثالث : أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى ، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى ، أو من صُلْبه ، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال .
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد ، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه ، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك ، فربما أعاد السؤال؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب ، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام .
الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى - .
السادس : قال عكرمة والسُّدِّيُّ : إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة ، فقال يا زكريا إن هذا لصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور ، فقال زكريا ذلك؛ دَفْعاً للوسوسة ، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على ن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ .
قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع .
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة ، ولا مَدْخَل للشيطان فيه ، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد ، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات . فلا جرم [ بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ] ، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال .
قوله : { وامرأتي عَاقِرٌ } جملة حالية ، إما من الياء في « لِي » فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في « بَلَغَنِي » ، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة ، مشتقاً من العَقْر ، وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده ، والفعل - بهذا المعنى - لازم ، وأما عَقَرْتُ - بمعنى « نَحَرْت » فمُتَعَدٍّ .
قال تعالى : { فَعَقَرُواْ الناقة } [ الأعراف : 77 ] .
وقال الشاعر : [ الطويل ]
1444- . . ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول ، أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء ، ومنه عقر الدار ، وعقر الحوض ، وفي الحديث : « ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا » وعقرته ، أي : أصبت عقره ، أي : أصله - نحو رأسته ، أي أصبت رأسه ، والعقر - أيضاً - آخر الولد ، وكذلك بيضة العَقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته ، أي : صوته ، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته ، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته . وقال : وأنشد الفراء : [ الرجز ]
1445- أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا ... فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا
وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته ، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة .
قال الزّجّاج : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة ، وكريمة ، وإنما عاقر على ذات عُقْر ، قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها ، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب ، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل : [ الطويل ]
1446- لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً ... جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ
قال القرطبيُّ : « والعاقر : العظيم من الرمل ، لا يُنْبِت شيئاً ، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر : زعموا أنها بيضة الديك ، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول ، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت » .
قوله : { قَالَ كَذَلِكَ } هذا القائل هو الرب المذكور في قوله : { رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل - عليه السلام .
قوله : { كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } في الكاف وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب ، وفيه التخريجان المشهوران :
الأول - وعليه أكثر المعربين- : أنها نعت لمصدر محذوف ، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة ، مثل ذاك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ .
والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ ، أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدم إيضاحه .
الثاني - من وجهي الكاف- : أنها في محل رفع خبر مقدَّم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : « كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله » .
وقدّره أبو حيّان ، فقال : « وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة » .
فالكلام - على الأول - جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان .
وقال ابن عطية : « ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال لهما : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام ، على هذا التأويل - في قوله » كذلك « ، وقوله : { الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب » .
وعلى هذا الذي ذكره يكون « كَذَلِكَ » متعلقاً بمحذوف ، و « اللهُ يَفْعَلُ » جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر .
قوله : { اجعل لي آيَةً } يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير ، فيتعدى لاثنين : أولهما « آية » ، الثاني : الجار قبله ، و التقديم - هنا - واجب؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي : لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار ، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله ، والتقدير : صير آية من الآيات لي ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي : أوجد لي آية - فيتعدى لواحد ، وفي « لِي » - على هذا - وجهان :
أحدهما : أن يتعلق بالجَعْل .
والثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من « آيةً » ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها . ويجوز أن يكون للبيان .
وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو ، وسكنها الباقون .
فصل
المراد بالآية : العلامة ، أي : علامة أعلم بها وقتَ حضمْل امرأتي ، فأزيد في العبادة شكراً لذلك ، وذكروا في الآية وجوهاً :
أحدها : أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً؛ وهو قول أكثر المفسّرين ، وفيه فائدتان :
إحداهما : أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد .
والثانية : أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقْدَره على الذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة .
واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ :
أحدها : أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر ، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات .
وثانيها : أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة .
ثالثها : أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة ، فقد حصل الولد ، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر .
الثاني : قال أبو مسلم : إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد ، قال تعالى : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق ، وأن تكون مشتغلاً بالذكر ، والتسبيح ، والتهليل ، معرضاً عن الخلق والدنيا؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة ، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز ، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب .
الثالث : قال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام .
وقوله : { أَلاَّ تُكَلِّمَ } « أن » وما في حَيِّزها في محل رفع؛ خبراً لقوله : { آيَتُكَ } أي آيتك عدم كلامك الناس . والجمهور على نصب « تُكَلِّمَ » بأن المصدرية .
وقرأ ابن أبي عبلة برفعه ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون « أن » مخففة من الثقيلة ، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع ، خبراً لِ « أن » ومثله : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] وقوله : { وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ المائدة : 71 ] ووقع الفاصل بين « أن » والفعل الواقع خبرها حرف نفي ، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين .
والثاني : أن تكون « أن » الناصبة حُمِلَتْ على « ما » أختها ، ومثله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] و « أن » وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع ، خبراً ل « آيتك » .
قوله : { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف ، خلافاً للكوفيين ، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به .
وقيل : وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها ، فحذف ، كقوله تعالى : { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ونظائره؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] وقد يقال : إنه يؤخذ المجموع من الآيتين ، فلا حاجة إلى ادعاء حذف؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرىك ثلاث ليال وأيامها .
قوله : { إلاَّ رَمْزًا } فيه وجهان :
أحدهما : أنه استثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام ، إذ الرمز الإشارة بعَيْن ، أو حاجب أو نحوهما ، ولم يذكر أبو البقاء غيره .
وبه بدأ ابن عطية مختاراً له ، فإنه قال : « والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء ، منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً » .
والوجه الثاني : أنه متصل؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ : الرمز والإشارة من جملتها .
أنشدوا : [ الطويل ]
1447- إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ... رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ
وقال آخر : [ الطويل ]
1448- أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا ... فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ
وهو مستعمل ، قال حبيب : [ البسيط ]
1449- كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ ... فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ
وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له ، قال : « لما أدى مؤدَّى الكلام ، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً ، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً » .
والرمز : الإشارة والإيماء بعين ، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة : الرَّمَّازة ، والرمَّازة ، وفي الحديث : « نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ » ، يقال منه : رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع .
وأصل الرمز : التحرك ، يقال : رمز وارْتَمز أي : تحرَّك ، ومنه قيل للبحر : الراموز ، لتحركه واضطرابه .
وقال الراغب : « الرمز : الإشارة بالشفة والصوت الخفي ، والغمز بالحاجب . وما ارمَازَّ : أي ما تكلم رمزاً ، وكتيبه رمَّازة : أي : لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً؛ لكثرتها » .
ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت .
قال الفراء : « قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن ، وهو الصوت الخفي ، شبه الهَمْس » .
وقال عطاء : أراد صوم ثلاثة أيامٍ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً .
وقرأ العامة : « رمزاً » - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن قيس « رُمُزاً » بضمها - وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على « فُعْل » - بتسكين العين - في الصل ، ثم ضُمَّتِ العين؛ إتباعاً ، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه .
والثاني : أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره .
وقال أبو البقاء : « وقرئ بضمها - أي : الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع . ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ .
ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع ، وضُمَّ ، إتباعاً ، كاليُسُر واليُسْر » .
قال شهاب الدين : قوله : « جمع رُمُزة » إلى قوله : في الصل؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح .
وقرأ الأعمش : « رَمَزاً » بفتحهما .
وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال : إلا مترامزين ، كقوله : [ الوافر ]
1450- مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا
وكقوله : [ الكامل ]
1451- فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ؟
قوله : « كَثِيراً » نعت لمصدر محذوف ، أو حال من ضمير ذلك المصدر ، أو نعت لزمان محذوف تقديره : ذِكْراً كثيراً ، أو زماناً كثيراً ، والباء في قوله : « بِالْعَشِيِّ » بمعنى « فِي » أي : في العشي والإبكار .
والعشي : يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها ، كذا قال الزمخشريُّ .
وقال الراغب : « العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ » . والأول هو المعروف .
قال الشاعر : [ الطويل ]
1452- فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ
وقال الواحديُّ : « العَشِيّ : جمع عشية ، وهي آخر النهارِ » .
والعامة قرءوا : « والإبْكَارِ » بكسر الهمزة ، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي : خرج بُكْرَةً ، ومثله : بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر .
قال عمر بن أبي ربيعة : [ الطويل ]
1453- أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر .. . . .
وقال : [ الخفيف ]
1454- أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً .. . .
وقال أيضاً : [ الطويل ]
1455- بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ
وقرئ شاذاً « والأبْكَار » - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف ، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف ، تقول : أتيتك يوم الجمعة بَكَر . وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن « أل » . فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم .
وهذه القراءة تناسب قوله : { بالعشي } عند من يجعلها جمع عَشِيَّة؛ ليتقابل الجَمْعَان .
ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى .
وقال الراغب : أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل ، فقيل : بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً . والبَكور : المبالغ في البكور ، وبَكَّر في حاجته ، وابتكر وبَاكَر . [ وتصور فيها ] معنى التعجيل؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل : بَكَّر .
وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى ، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ .
وقد صرح الواحديُّ بذلك ، فقال : « هذا معنى الإبكارِ ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً » .
فصل
قيل : المراد بالذكر الكثير : الذكر بالقلب ، وقوله : { وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } محمول على الذكر باللسان .
وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة؛ لأنها تسمى تسبيحاً ، قال تعالى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] . ومنه سمي صلاة الظهر والعصر : صلاتي العشيّ .
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
إن شئت جعلتَ « إذ » نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله : { إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ } [ آل عمران : 35 ] ، وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر ، قاله أبو البقاء .
وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } ، - دون تاء تأنيث ، وتقدم توجيهه في « فناداه الملائكة » - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب « إنَّ » - من قوله : { إِنَّ الله اصطفاك } - وكرر الاصطفاء؛ رَفْعاً من شأنها .
قال الزمخشريُّ : « اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ ، وربَّاكِ ، واختصك بالكرامة السنية ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين ، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء » .
واصطفى : « افتعل » من الصفوة أبدلت التاء طاءً؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة ، وتقدم سبب تعديه ب « على » وإن كان أصل تعديته بمن .
وقال أبو البقاء : « وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم » .
وقال الواحديُّ : « وكرَّر الاصطفاء؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما ، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ ، والثاني : اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها » .
فصل
المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله : { يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ1764;اْ } [ النحل : 2 ] يعني : جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ؛ لقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] .
فصل
اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء ، لقوله تعالى { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } [ الأنبياء : 7 ] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى ، وإنما المدَّعَى هو النبوة ، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً ، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى ، والإرهاص : هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة .
وقال بعضهم : إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع ، والإلهام ، والإلقاء في القلب ، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ] .
فصل
قيل : المرادُ بالاصطفاء الأول أمور :
أحدها : أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها .
وثانيها : قال الحسنُ : إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين ، بل ألقتها إلى زكريا ، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ .
وثالثها : أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته ، وكفاها أمر رِزقها .
ورابعها : أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً ، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها .
فصل
وفي التطهير أيضاً وجوه :
أحدها : أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية ، كقوله تعالى في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :
{ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } [ الأحزاب : 33 ] .
وثانيها : طهرها عن مسيس الرجال .
وثالثها : طهرها عن الحيض والنفاس .
ورابعها : طهرها عن الأفعال الخسيسة .
وخامسها : طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم . وأما الاصطفاء الثاني ، فالمراد منه أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب ، وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة ، وجعلها وابنها ىية للعالمين . وقال علي - رضي الله عنه - سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان ، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ » رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض .
وعن أبي موسى الأشعريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران ، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ » .
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ : مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ » .
وقيل : دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء ، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ . وقَول مَنْ قال : « المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها ، فهذا تَركٌ للظاهر . وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : » سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة ، ثُمَّ خَدِيْجَةُ ، ثُمَّ آسيَةُ « حديث حسن .
قال القرطبي : خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها ، وظهر لها ونفخ في دِرْعها ، ودنا منها للنفخة ، وليس هذا لأحد من النساء ، وصدَّقت بكلمات ربِّها ، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية ، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله : صِدِّيقةً ، قال » وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ « وقال : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى ، وشهد لها بالقنوت؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه ، وعقم رحم امرأته فقال : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] ، فسأل آية . وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر ، ولم يَمْسَسْها بَشَر ، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك ، وصدَّقت بكلمات ربها ، ولم تسأل آية ، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر ، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب؟
قوله : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى :
{ وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } [ البقرة : 238 ] . وأنه طول القيام .
فإن قيل : لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع؟
فالجواب من وجوهٍ :
أحدها : أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ .
الثاني : أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً ، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ .
الثالث : قال ابنُ الأنباري : « قوله تعالى : { اقنتي لِرَبِّكِ } أمر بالعبادة على العموم ، وقوله بَعْدَ ذلك : { واسجدي واركعي } يعني استعملي السجود في وقته اللائق به ، وليس المراد أن تجمع بينهم ، ثم تقدم السجود على الركوعِ » .
الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله : { وَأَدْبَارَ السجود } [ ق : 40 ] وفي الحديث : « إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين » .
وأيضاً قال : فالسجود أفضل أجزاء الصلاة ، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور .
وإذا ثبت ذلك فقوله : { يامريم اقنتي } معناه : قومي ، وقوله : { واسجدي } أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد ، وقوله : { واركعي مَعَ الراكعين } أمر بالخضوع ، والخشوع بالقلب .
الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع . فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : واركعي مع الراكعات؟
فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء .
وقيل : لأنه أعم وأشمل .
قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة ، حتى تورمت قدماها ، وسالت دماً وقَيْحاً .
وقوله : { واركعي مَعَ الراكعين } قيل : معناه : افعلي كفعلهم .
وقيل : المراد به الصلاة الجامعة .
قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ } يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون « ذَلِكَ » خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، وتقديره : الأمر ذلك . و { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } متعلقاً بما بعدَه ، وتكون الجملة من « نُوحِيهِ » - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها ، وإما حالاً .
الثاني : أن يكون « ذَلِكَ » مبتدأ ، و { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } خبره ، والجملة من « نُوحِيهِ » مستأنفة ، والضميرُ من « نوحِيهِ » عائد على الغيب ، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار ، ولذلك أتى بالمضارع في « نُوحِيهِ » . وهذا أحسن من عَوْده على « ذَلِكَ » ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص ، وما لم يتقدم منها ، ولو أعدته على « ذَلِكَ » اختص بما مَضَى وتقدم .
الثالث : أن يكون « نُوحِيهِ » هو الخبر و { مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك ، أو متعلقاً ب « نُوحِيه » .
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول « نُوحِيهِ » أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ .
فصل
الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء ، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة .
كما في قوله : [ الطويل ]
1456- .. فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
وقال تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] . ويكون بالكتابة ، قال زهير : [ الطويل ]
1457- أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ
ويطلق الوحي على الشيء المكتوب ، قال : [ الكامل ]
1458- فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
قيل : الوُحِيّ : جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً .
قال القرطبيُّ : « وأصل الوحي في اللغة : إعلام في خفاءٍ » .
وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة ، أو كتابة ، أو غيرها ، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً ، كقوله تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] وقال - في الشياطين - : { لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] وقال : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً .
قوله تعالى : { إِذْ يُلْقُونَ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً .
والثاني- وإليه ذهب الفارسي- : أنه منصوب ب « كُنْتَ » . وهو منه عجيب؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ ، فكيف يعمل في الظرف ، والظرف وعاء للأحداث؟
والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية ، وهو أن تكون « كان » تامة بمعنى : وما وُجدتَ في ذلك الوقت .
والضمير في « لَدَيْهِمْ » عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ -؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم .
فإن قيل : لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها ، وهو أمر مجوز؟
فالجواب : أن هذا الكلامَ ونحوه ، كقوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور } [ القصص : 46 ] وقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ } [ يوسف : 102 ] وقوله : { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا } [ هود : 49 ] - وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي ، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك ، ولم تُدارِس أحداً في العلم ، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي .
ومعنى الآية : ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك ، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك . ثم قال : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي : وما كنت يا محمد بحضرتهم { إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } .
أقلام : جمع قَلَم ، وهو فَعَل بمعنى مفعول ، أي : مَقْلُوم .
والقَلْمُ : القَطْع ، ومثله : القبض بمعنى المقبوض ، والنقض بمعنى المنقوض ، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة .
وقيل له : قَلَم؛ لأنه يُقْلَم ، ومنه قلمت ظفري - أي : قطعته وسويته .
قال زهير : [ الطويل ]
1459- لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
وقيل : سمي القَلَمُ قَلَماً ، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف .
فصل
في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ :
أحدها : التي يُكْتَب بها ، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء ، فالحقُّ معه ، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك ، فسلموا الأمر له ، وهذا قول الأكثرين .
الثاني : قال الربيع : ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء .
الثالث : قال ابو مسلم : هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة ، يكتبون عليها أسماءَهُمْ ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر ، قال تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين } [ الصافات : 141 ] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى ، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته ، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً .
واختلفوا فيهم ، فقيل : هم سَدَنَةُ البيت ، وقيل : هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي .
قوله : { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } هذه الجملة منصوبة المحل؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف ، ذلك الفعل في محل نصب على الحال ، تقديره : يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم .
وجوز الزمخشريُّ : أن يقدَّر ب « يقولون » فيكون مَحْكيًّا به ، ودل [ على ذلك ] قوله ، يُلْقُون .
وقوله : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } كقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون } .
فصل
اختلفوا في السبب ، الذي لأجله رغبوا في كفالتها ، حتى تنازعوا فيها :
قيل : لن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم ، ومتقدِّماً فيهم ، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها .
وقيل : لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته ، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها . وقيل : لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها .
فصل
دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة ، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة .
قال القرطبيُّ : وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم ، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم ، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه ، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه؛ : لا معنى لها ، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها .
قال أبو عبيد : « وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء : يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم » .
قال ابنُ المُنْذِرِ : « واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء » .
فصل
قال القرطبيُّ : دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما عدا الجَدَّة ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال :
« الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ » .
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } في هذا الظرف أوجهٌ :
أحدها : أن يكون منتصباً ب « يَخْتَصِمُونَ » .
الثاني : أنه بدل من « إذْ يَخْتَصِمُونَ » وهو قول الزجاج .
وفي هذين الوجهين بُعْدٌ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام ، وزمانِ قَوْل الكلام ، ولم يكن ذلك؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا ، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ .
قال الحسنُ : إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ ، وإن ذلك كان من كراماتها . فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد ، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال ، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ ، كما تقول : لقيته سنةَ كذا ، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا .
الثالث : أن يكون بدلاً من { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة } - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه .
الرابع : نصبه بإضمار فعل .
الخامس : قال أبو عبيدة : « إذْ - هنا - صلة زائدة » . والمراد بالملائكة هنا : جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة .
فصل
قال القرطبيُّ : « قوله تعالى : { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين ، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عز وجل - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ ، فهي إذاً نَبِيّة ، والنبيُّ أفضل من الوليّ » . وقال ابنُ الخطيب : ذلك كرامة لها؛ إذ ليست نبية؛ لختصاص النبوةِ بالرجال ، وقال جمهورُ المعتزلة؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام - .
قال ابنُ الْخَطِيبِ : وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى ، أو كرامة لمريم .
قوله : { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } في محل جر؛ صفة ل « كَلِمَةٍ » و « مِنْ » ليست للتبعيض؛ إذ لو كان كذلك ، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه ، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله : كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّب .
فإن قيل : أليس كل مخلوق ، فهو يخلق بهذه الكلمة؟
فالجوابُ : نَعَمْ ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم ، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة ، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة- : إنه نفس الجود ومَحْض الكرم ، فكذا ها هنا .
وأيضاص فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل ، ونور الإحسانِ ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته ، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه ، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل .
فصل
حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن ، أما على اصول المسلمين ، فظاهر؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات ، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولى ، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان ، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية ، وعند حصول الكيفية المزاجية ، يجب تعلُّق النفس ، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن ، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر ، والحيَّات عن الشعر ، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً . وأيضاً ، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي ، يوجب حصول كيفية الغضب ، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن ، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض ، قدر الإنسان على المشي عليه ، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه ، بل كلما يمشي سقط ، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط ، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب ، فما المانع أن يقال : إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [ كفى ذلك في علوق ] الولد في رحمها ، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع .
قوله : { اسمه المسيح عِيسَى } اسمه مبتدأ ، والمسيح خبره ، وعيسى بدل منه ، أو عطف بيان .
قال أبو البقاء : « ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله : اسمه - ولو كان » عِيسَى « خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة » وأما من يجيز ذلك فقد أعرب « عِيسَى » خبراً ثانياً ، وأعربه بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - اي : هو عيسى .
ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ ، وهو النَّصْب بإضمار أعني؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً ، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان :
أحدهما : أنه فَعِيل بمعنى فاعل ، فحُوِّلَ منه مبالغةً .
قيل : لأنه يمسح الأرض بالسياحة ، أي : يقطعها ومنه : مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى : مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة ، كما يقال : رجل شريب .
وقيل : لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس .
وقيل : كان يمسح رأسَ اليتيم .
وقيل : يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه .
وقيل : إنه فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه مُسِحَ بالبركة .
وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام ، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1460- بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ ... مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ
أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة ، قال : [ الطويل ]
1461- عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ .. . .
أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ ، تُمْسَح به الأنبياء ، ولا يُمْسَح به غيرُهم ، قالوا : وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا ، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه وقت الولادة؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان . أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن .
والثاني : أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة ، وعلى هذا كلِّه ، فهو منقول من الصفة .
وق لأبو عمرو بن العلاء : المَسِيح : الملك .
وقال النَّخَعِيُّ : المسيح : الصديق . ويكون المسيح بمعنى : الكذَّاب ، وبه سُمِّي الدجال ، والحرف من الأضداد .
وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن .
أحدهما : أنه ممسوح إحدى العينَيْن .
الثاني : أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ ، قالوا : ولهذا قيل له : دَجَّال؛ لضَرْبه الأرضَ ، وقَطْعِه أكثر نواحيها . يقال : قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك .
وقيل : سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس .
قال أبو عبيدٍ واللَّيْث : أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا ، فغُيِّر .
قال أبو حيان : « فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ، ليس مُشْتَقاً من المَسْح ، ولا من السياحة » .
قال شهاب الدينِ : « قوله : ليس مشتقاً صحيح ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد ، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم » .
وعيسى أصله : يسوع ، كما قالوا في موسى : أصله موشى ، أو ميشا - بالعبرانية .
فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها ، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان ، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً .
وعيسى اسم أعجمي ، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث ، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه ، إذا سَاسَه وقام عليه .
وأتى الضمير مذكَّراً في قوله : « اسْمُهُ » وإن كان عائداً على الكلمة؛ مراعاةً للمعنى؛ إذ المراد بها مذكَّر .
وقيل - في الدَّجّال- : مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين ، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة ، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور؛ لأنه يمسح الأرض - أي : يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ ، فهو فعيل بمعنى فاعل . والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً . وإن كان سُمِّي مسيحاً؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول .
قال الشاعر : [ الرجز ]
1462- . . ... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا
فصل
« ابنُ مريم » يجوز أن يكون صفة ل « عيسَى » قال ابن عطية : وعيسى خبر لمبتدأ محذوف ، ويدعو إلى هذا كون قوله : « ابن مريم » صفة لعيسى؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ . وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون « ابْنُ مَريمَ » صفة ل « عِيسَى » لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص . هذه النزعة لأبي علي . وفي صدر الكلام نظرٌ . انتهى .
قال شهابُ الدِّينِ : « فقد حَتَّم كونه صفة؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف ، وأما على البدل ، أو عطف البيان فلا يكون » ابْنُ مَرْيَمَ « صفة ل » عِيسَى « يعني : بدل عيسى من المسيح ، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره ، وهو كتبه بغير ألف » .
وقد منع أبو البقاء أن يكون « ابْنُ مَرْيَمَ » بدلاً أو صفة ل « عِيسَى » قال : « لأن » ابْن مَرْيَمَ « ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه » .
قال شهاب الدينِ : « وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً ، وأما كونه صفة ، فلا يمنع ذلك ، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ ، وهي لا يُوصف بها ، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب » ابن عمرو « امتنع أن يقع » ابن عمرو « صفة والحالة هذه » .
قال الزمخشريُّ : « فإن قلتَ : لِمَ قِيلَ : { اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } وهذه ثلاثة أشياء ، الاسم عِيسَى ، وأما المسيح والابن فلَقَب ، وصفة؟
قلت : الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها ، ويتميَّزُ من غيره ، فكأنه قِيلَ : الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ » .
فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه ، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ ، بل هو من باب : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [ وهذا أعسر يسرا ] .
ونظيره قول الشاعر : [ الخفيف ]
1463- كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ
أي مجموع كيف أصبحت ، وكيف أمسيت .
فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ ، فكذلك في الْخَبَرِ .
وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله : [ الرجز }
1464- مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ ، مُصَيِّفٌ ، مَشَتِّي
وقد زعم بعضهم أن « المَسِيح » ليس باسم لَقَب له ، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف ، قال : وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ؛ إذ « الْمَسِيحُ » صفةٌ ل « عِيسَى » والتقدير : اسمه عيسى المسيح « . وهذا لا يجوز أعني : تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني : أنه صفة له في الأصل ، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأًل ، نحو قوله : [ الرجز ]
1465- وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا .. . .
الأصل : وبالعمر الطويل ، هذا في المعارفِ ، وأما في النِّكِرَاتِ ، فينصبون الصفةَ حالاً .
وقال أبو حيَّان : « ولا يصح أن يكون » الْمَسِيحُ « - في هذا التَّركيبِ - صفة؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ » عِيسَى « والمسيح من صفة المدلول ، لا من صفة الدَّالِّ؛ إذ لفظ » عِيسَى « ليس المسيح » .
ومن قال : إنهما اسمانِ ، قال : تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى؛ لشهرته .
قال ابن الأنباريّ : وإنما بدأ بلقبه؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ ، فيشتبه به ، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ ، فقدَّمه لشهرته ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ ، لا اسمٌ .
قال أبو إسحاق : « عيسى معرب من أيسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه : إذا ساسه وقام عليه » .
قال الزمخشريُّ : « ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء » ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة .
وقوله : { وَجِيهًا } حال ، وكذلك قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } وقوله : { وَيُكَلِّمُ } وقوله : { مِّنَ الصالحين } هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله : « بِكَلِمَةٍ » . وإنما ذَكَّر الحالَ؛ حملاً على المعنى؛ إذ المعنى المرادُ بها : الولد والمُكَوِّن ، كما ذكَّر الضميرَ في « اسْمُهُ » .
فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله . والثانيةُ : جار ومجرور ، وأتى بِهَا هكذا؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام ، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً ، لفات مناسبة الفواصل . والثالثة جملة فعليَّة ، وعطف الفعل على الاسم؛ لتأويلهِ به ، وهو كقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } [ الملك : 19 ] ، أي : وقَابضات ، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل؛ لأنه في تأويله ، قولُ النابغة : [ الطويل ]
1466- فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا
وقال الآخر : [ الرجز ]
1467- بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ
والمعنى : مُبِيراً عدوه ، وقاصداً .
وجاء بالثالثة جملة فعلية؛ لأنها في رُتْبتها ، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى ، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ . فكذا فعل هنا ، فقدم الاسم - وهو { وَجِيهًا } - ثم الجار والمجرور ، ثم الفعل ، وأتى به مضارعاً؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً ، بخلاف الوجاهةِ ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها ، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك ، والجار قريبٌ من المفرد ، فلذلك ثَنَّى به ، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ .
والتضعيف في « الْمُقَرَّبِينَ » للتعدية ، لا للمبالغةِ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً ، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف : قَطَّعْتُ الأثوابَ ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك .
وجيء بالرابعة - بقوله : { مِّنَ الصالحين } مراعاةً للفاصلةِ ، كما تقدم في « الْمُقَرَّبِينَ » .
والمعنى : إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ .
ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من « الْمَسِيحِ » أو من « عِيسَى » أو من « ابْن مرْيَمَ » قال : « لأنها أخبارٌ ، والعاملُ فيها الابتداءُ ، أو المبتدأ ، أو هما ، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ » .
ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في « اسْمُهُ » قال : « للفصل الواقعِ بينهما ، ولعدمِ العاملِ في الحال » .
قال شهابُ الدينِ : « ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ ، وهو مرادُهُ بقولِهِ : ولعدم العامل . وجاءت الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها . وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من » عِيسَى « فإنَّه قال : والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً ، كأنه قال : عيسى ابن مريم الوجيه ، قطعَ منه التعريف . فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ { وَجِيهًا } من صفةِ » عِيسَى « في الأصلِ ، فقطع عنه ، والحالُ وصفٌ في المعنى » .
والوجيه : ذو الجاه ، وهو القوةُ ، والمنعةُ ، والشرفُ .
وجمع « وَجيه » وُجَهاءُ ، ووِجَاهٌ ، يقال : وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة ، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ .
وقال بعضهم : الوجيهُ : الكريمُ .
و « كَهْلاً » من قولهم : اكتهلت الدوحة ، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة .
وقال الراغب : « والكهل : مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ ، واكتهل النباتُ : إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ » .
وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها - : [ البسيط ]
1468- يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته ، عند ذِكْر « غلام » .
وقال بعضهم : « ما دامَ في بطن أمِّه ، فهو جنين ، فإذا وُلِدَ فوليد ، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ؛ وما دام يرضع فهو رضيع ، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع؛ فجَحْوَش ، فإذا دبَّ ونما : فدراج ، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور ، [ فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء ] ، فإذا جاوز العشر : فمترعرع ، وناشئ . فإذا رَاهَق الحُلم : فيافع ، ومُراهق . فإذا احتلم فحَزَوَّر . والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة ، فإذا اخضر شارُبه ، وسال عذاره : فباقِل ، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ : ففتًى وشارخ ، فإذا اكتملت لحيته؛ فمُجْتَمِع ، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ ، ومن الأربعين إلى ستين كهل » ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك ، وهذا أشهرها .
فإن قيل : المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد ، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب .
فالجوابُ من وجوهٍ :
أحدها : قالوا : لم يتكلم صبيٌّ في المهد ، وعاش ، أو لم يتكلمْ أصلاً ، بل يبقى أخرس أبداً ، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً ، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته ، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها .
وثانيها : قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم : « يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة » .
وثالثها : يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه ، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة .
ورابعها : قال الأصَمُّ : المراد منه : بيان أنه يبلغ من [ الصِّبَا ، إلى ] الكهولة .
وخامسها : أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم : إن عيسى كان إلهاً ، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة ، والتغيُّر على الإلهِ محال .
فإن قيل : قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً ، وعلى هذا التقدير ، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ .
فالجوابُ : قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام ، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً .
وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ : « ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان ، ويكلم الناسَ ، ويقتل الدَّجَّالَ ، قال : وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض » .
و « وَجِيهاً » اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء . والجاه مقلوب منه ، فوزنه « عَفل » .
قوله : { فِي الدنيا } متعلق ب « وَجِيهاً » ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ ، ومعنى كونه { وَجِيهاً فِي الدنيا } بسبب النبوة ، و « في الآخرة » بسبب عُلُوِّ المنزلة .
وقوله : { فِي الدنيا } بأنه مُسْتَجَاب الدعاء ، ويُحْيي الموتى ، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه ، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته .
وقيل : في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها ، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته .
فإن قيل : كيف كان وجيهاً في الدنيا ، واليهود عاملوه بما عاملوه؟
والجوابُ : أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه ، مع أن اليهودَ طعنوا فيه ، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا ، ولم يقدح ذلك في وجاهته ، فكذا هنا .
قوله : { وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } قيل « كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل .
وقيل : معناه : سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ .
وقيل : ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم .
وقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } الواو للعطف على قوله : « وَجِيهًا » ، والتقدير : وجيهاً ومُكَلَّماً .
قال ابن الخطيب : وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [ أو لفائدة ] ، والأوْلَى أن يُقال : تقدير الآيةِ : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم ، الوجيه في الدنيا والآخرة ، المعدود من المقرَّبِينَ ، وهذا المجموع جملة واحدة ، ثم قال : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } . فقوله : { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ } عطف على قوله : { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } .
وأجيب بأن هذا خطأ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ } فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية ، فوقع فيما فَرَّ منه . وإن أراد العطفَ على « يُبَشِّرُكِ » فهو خطأ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و « يُبَشِّرُكِ » خبر - فيصير التقدير : إن الله يكلم الناسَ في المهدِ ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً ، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم ، فجاز العطف .
قوله : { فِي المهد } يجوز فيه وَجْهَان :
أظهرهما : أنه متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير في { وَيُكَلِّمُ } أي : يكلمهم صَغِيراً ، و « كَهْلاً » على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال .
والثاني : أنه ظرف ل « يُكَلِّمُ » كسائر المنفصلات ، و « كَهلاً » على هذا نَسَق على « وَجِيهاً » فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ .
والكهل : هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة ، وأولها ثلاثون .
وقيل : اثنان وثلاثون .
وقيل : ثلاث وثلاثون .
وقيل : أربعون . وآخرها : خمسون .
وقيل : ستون . ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ . واشتقاقه من : اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل .
وقال صاحبُ المُجْمَلِ : « أكهل الرجل : وَخَطَهُ الشَّيْبُ » .
فصل
كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله : { إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 30-33 ] .
وحكي عن مجاهدٍ قال : قالت مريم : كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته ، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ .
فصل
ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده ، قال : « لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة : عيسى ابن مريم ، وصاحب يوسف ، وصاحب جُرَيْج » . [ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم ، وصاحب جريج وصاحب الجبار » ] .
وقال الضَّحَّاكُ : « تكلم في المهد ستة شاهد يوسف ، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون ، وعيسى ، ويحيى ، وصاحب جريج » ولم يذكر صاحب الأخدود ، فأسقط صاحب الأخدود ، وبه يكون المتكلمون سبعةً .
قال القرطبيُّ : « ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام- : » لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ « بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ ، ثم بعد هذا أعلمه اله - تعالى - بما شاء من ذلك ، فأخْبَرَ به .
والمهدُ : ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه ، من مَهَّدت له المكان - أي : وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ : أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر ، فسُمِّي به المكانُ ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر . وقد قرئ : مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب [ قوله : وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة ، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان .
قال الحسين بن الفضل : في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد ] أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد ، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها ، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها ، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ ، يمتنع إخفاؤه . وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح ، حتى ادَّعَوْا ألوهيته ، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه ، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً .
وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه ، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء ، فنسبهم الناس إلى الكذب ، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على معجزته ، وصدقه .
قوله : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } » يكون « يحتمل التمام والنقصان ، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك : { يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } وقال هنا { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } قيل : لأن قِصَّتَها أغربُ من قضته؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ ألبتة ، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز ، فإنه يستبعد ، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب » يَخْلُقُ « المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة .
قوله : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } هذه الجملة حَالٌ ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق ، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر ولمؤنَّث ، والمفرد ، والمثنى ، والجمع ، تقول : هذه بَشَرٌ ، وهذا بَشَرٌ ، وهؤلاء بَشَرَ . كقولك : هؤلاء خَلْق .
قيل : واشتقاقه من البشرة ، وهي ظاهر الجلدِ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته ، وتقدم اختلاف القرَّاء في { فَيَكُونُ } وما ذُكِر في توجيهه .
فصل
قال المفسّرون : إنما قالت ذلك؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ .
فصل
قال القرطبيُّ : « معنى قوله : { قَالَتْ رَبِّ } أي : يا سيدي ، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها ، قال لها : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد ، فقالت : { أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ؟ أي : بنكاح ، وذلك : لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح ، [ أو سفاح ] .
وقيل : إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً ، ولكن أرادت : كيف يكون هذا الولد؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً .
قوله : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . تقدم الكلام فيه .
قال ابنُ جُرَيْجٍ : نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها ، فحملت من ساعتها بعيسى .
وقيل : وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا ، فعلقت بذلك .
وقال بعضهم : لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس؛ ولكن سبب ذلك ، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته ، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء ، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً ، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ ، بعضه في رحمها ، وبعضه في صلبها ، فنفخ جبريلُ ، ليهيجَ شهوتَها ، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا ، فاختلط الماءان ، فعلقت بذلك ، فذلك قوله تعالى : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
قوله : { وَيُعَلِّمُهُ الكتاب } قرأ نافع وعاصم ويعقوب { وَيُعَلِّمُهُ } - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه ، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ :
أحدها : أنها معطوفة على » يُبَشِّرُكِ « أي : أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة .
الثاني : أنها معطوفة على » يَخْلُقُ « أي : كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه . وإلى هذين الوجهين ، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء ، وأما قراءة النون ، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم ، إيذاناً بالفخامة والتعظيم .
فأما عطفه على » يُبَشِّرُكِ « فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا ، قال : » لطول الفصل بين المعطوف ، والمعطوف عليه « ، وأما عطفه على » يَخْلُقُ « فقال : » هو معطوف عليه سواء كانت - يعني « يَخْلُقُ » خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها ، إذا أعربت لفظ « اللهُ » مبتدأ ، وما قبله خبر « .
يعني أنه تقدم في إعراب { كَذَلِكَ الله } في قصة زكريا أوجهٍ :
أحدها ما ذكره - ف « يُعَلِّمُهُ » معطوف على « يخلُقُ » بالاعتبارين [ المذكورين ] ؛ إذْ لا مَانِعَ من ذلك ، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره ، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه ، والجملة من « نُعَلِّمُهُ » - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل ، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه .
الثالث : أن يعطف على « يُكَلِّمُ » فيكون منصوباً على الحال ، والتقدير : يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب ، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره .
الرابع : أن يكون معطوفاً على « وَجِيهاً » ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال ، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ .
واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال : « الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثلُه في لسان العرب » .
الخامس : أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول : - وهي { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
قال أبو حيّان : « وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة؛ وذلك أن الضمير في ( قال كذلك ) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ ( الله ) مبتدأ خبره ما قبله ، أم مبتدأ ، وخبره » يَخْلُقُ « - على ما مر إعرابه في { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط ، والتبشير بهذا الولد ، الذي أوجده اللهُ منها » .
السادس : أن يكون مستأنفاً ، لا محلَّ له من الإعراب .
قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على « يُبَشِّرُكِ » أو يخلق أو « وَجِيهاً » - : « أو هو كلام مبتدأ » يعني مستأنفاً .
قال أبو حيّان : « فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله ، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه ، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام ، حتى يكون المعطوف كذلك » .
قال شهاب الدين : « وهذا الاعتراض غير لازم؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو ، ولا أنه لا بد من معطوف عليه؛ لأن النحويين ، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف ، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل اشعارهم ، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه ، والأشعار مشحونة بذلك ، ويُسمونها واوَ الاستئناف ، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه ، ولكن الأول أشهر القولين » .
وقال الطبريُّ : قراءة الياء عطف على قوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } ، وقراءة النون ، عطف على قوله : { نُوحِيهِ إلَيْكَ } .
قال ابن عطيةَ : « وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى » . ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى .
قال أبو حيّان : « أما قراءةُ النون ، فظاهر فساد عطفه عفى » نُوحِيهِ « من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط ، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى ، فيصير المعنى بقوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب } ، أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم ، وَكَفَالَةِ زكريا ، وقصته في ولادة يحيى ، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم [ معناه ] مع معنى ما قبله .
أما قراءة الياء وعطف » وَيُعَلِّمُهُ « على » يَخْلُقُ « فليست مُفْسِدَةً للمعنى ، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف » وَيُعَلِّمُهُ « لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا ، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ » اه .
قال أبو البقاء : « يُقْرَأ - نعلمه - بالنون ، حملاً على قوله : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ويقرأ بالياء؛ حملاً على » يُبَشِّرُكِ « وموضعه حال معطوفة على » وَجِيهاً « .
قال أبو حيّان : وقال بعضهم : » وَنُعَلِّمُهُ « - بالنون - حملاً على » نُوحِيهِ « - إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح » .
قال شهاب الدين : « يتعين أن يعني بقوله : حَمْلاً؛ الالتفات ليس إلا ، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله : وموضعه حال معطوفة على » وَجِيهاً « وكيف يستقيم أن يُرِيدَ عطفه على » يُبَشِّرُكِ « أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على » وَجِيهاً « ؟ هذا ما لا يستقيم أبداً » .
فصل في المراد ب « الكتاب »
المرادُ من « الكِتَاب » : تعليم الخط والكتابة ، ومن « الْحِكْمَة » تعليم العلوم ، وتهذيب الأخلاق : { والتوراة والإنجيل } كتابان إلهيان ، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية ، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ .
قوله : { وَرَسُولاً } فيه وجهان :
أحدهما : أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على « فَعُول » كالصَّبور والشَّكُور .
والثاني : أنه - في الأصل - مصدر ، ومن مَجِيء « رسول » مصدراً قوله : [ الطويل ]
1469- لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ ... يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ
وقال آخر : [ الوافر ]
1470- ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ
أي أبلغه رسالة .
ومنه قوله تعالى : « إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين » - على أحد التأويلين - أي : إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ . وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب « رَسُولاً » ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون معطوفاً على « يُعَلِّمُهُ » - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على « وَجِيهاً » - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً .
قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ .
وقال أبو حيّان : « وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول : إن » وَيُعَلِّمُهُ « معطوف على » وَجِيهاً « ؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [ وهو مبني على إعراب » ويعلمه « ] » .
الثاني : أن يكون نَسَقاً على « كَهْلاً » الذي هو حال من الضمير المستتر في « وَيُكَلِّمُ » ، أي : يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ ، واستبعده أبو حيّان؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه .
قال شهاب الدين : « ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير : يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ » .
فإن قيل : هي حَالٌ مُقَدَّرة ، كقولهم : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً ، وقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] .
وقيل : الأصل في الحال أن تكون مقارنة ، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ .
الثالث : أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى ، تقديره : ويجعله رسولاً ، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب . وهذا كما قالوا في قوله : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] وقوله : [ مجزوء الكامل ]
1471- يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر : [ الكامل ]
1472- فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً .. .
وقول الآخر : [ الوافر ]
1473- . ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا
أي : واعتقدوا الإيمانَ ، وحاملاً رُمْحاً ، وسيقتها ماءً بارداً ، وكحَّلْنَ العيون .
وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة .
الرابع : أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ « رسول » ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى .
الخامس : أن الرسول - فيه بمعنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين ، ما قاله الزمخشريُّ : « فإن قلت : عَلاَم تَحْمِل » وَرَسُولاً « و » مُصَدِّقاً « من المنصوبات المتقدمة ، وقوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } يأبى حَمله عليها؟
قلت : هو من المضايق ، وفيه وجهان :
أحدهما : أن يُضمر له » وأرسَلْت « - على إرادة القول - تقديره : ويعلمه الكتاب والحكمة ، ويقول : أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يديَّ .
الثاني : أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق ، فكأنه قيل : وناطقاً بأني قد جئتكم ، ومصدقاً لما بين يدي » . اه .
إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات ، لا يصح عطفه عليه في الظاهر؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب ، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير؛ ليناسب الضمائر .
وقال أبو حيان : « وهذا الوجه ضعيف؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة ، إذْ يُفْهَم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة » .
واختار أبو حيّان الوجه الثالث ، قال : « إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً ل » رَسُولاً « أي : ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور » .
الثالث : أن يكون حالاً من مفعول « وَيًعَلِّمُهُ » وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل : ويعلمه الكتاب ، حال كونه رسولاً . قاله الأخفشُ ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو ، وهو مذهب مَرْجُوحٌ .
وعلى الثاني وهو كون « الرسول » مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان :
أحدهما : أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ « يُعَلِّمُهُ » - أي : ويعلمه الكتاب والرسالة معاً ، أي : يعلمه الرسالة أيضاً .
الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، وفيه التأويلات المشهورة في : رَجُلٌ عَدْل .
وقرأ اليزيديُّ « وَرَسُولٍ » بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله : « بِكَلِمَةٍ » أي : يبشرك بكلمة وبرسول .
وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين ، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج .
قوله : { إلى بني إِسْرَائِيلَ } فيه وَجْهَانِ :
أحدهما : أن يتعلق بنفس « رسول » إذْ فعله يتعدى ب « إِلَى » .
والثاني : أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل « رَسُولاً » فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور ، مجرورة في قراءة اليزيديِّ .
فصل
هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل ، وقال بعض اليهودِ : إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين .
قيل : إنما كان رسولاً بعد البلوغ ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ : وفي حديث أبي ذر الطويل : « . . . وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى ، وآخرهُم عِيسَى » .
قوله : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } قرأ العامَّةُ « أنِّي » بفتح الهمزة ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض- ، إذ الأصل : بأني ، فيكون « بأنَّي » متعلِّقاً ب « رَسُولاً » وهذا مذهب الخليلِ والكسائي .
والثاني : أن موضعها نصب ، وفيه ثلاثة أوجهٍ :
الأول : أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين : سيبويه والفرّاء .
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدَّر ، أي : يذكر ، فيذكر صفة ل « رَسُولاً » حُذِفَت الصفة ، وبقي معمولُها .
الثالث : أنه منصوب على البدل من « رَسُولاً » ، أي : إذا جعلته مصدراً مفعولاً به ، تقديره : ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم .
وقرأ بعضهم بكسر الهمزة ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنها على إضمار القول ، أي قائلاً : إني قد جئتكم ، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى ، وأبقي معموله .
والثاني : أن « رَسُولاً » بمعنى ناطق ، فهو مُضَمَّن معنى القول ، وما ك ان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول . وهذا مذهب الكوفيين .
قوله : { بِآيَةٍ } يحتمل أن يكون متعلقاص بمحذوفٍ ، على أنه حال من فاعل
« جِئْتُكمُ » ، أي : جئتكم [ ملتبساً بآية ] . والثاني : أن يكون متعلقاً بنفس المجيء ، أي : جاءتكم الآية . . والآية : العلامة .
فإن قيل : لم قال « بِآيَةٍ » وقد أتى بآياتٍ؟
فالجوابُ : أن المراد بالآية : الجنس .
وقيل : لأن الكل دل على شيء واحدٍ ، وهو صدقه في الرسالة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة ل « آيَةٍ » فيتعلق بمحذوف ، أي : بآية من عند ربكم ، ف « مِنْ » للابتداء مجازاً ، ويجوز أن يتعلق { مِّن رَّبِّكُمْ } بنفس المجيء - أيضاً .
وقدر أبو البقاء الحال - في قوله : « بِآيَةٍ » - بقوله : « محتجاً بآيةٍ ، إن عنى من جهة المعنى صح ، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن ، إلا الأكوان المُطْلَقَة » .
وقرأ الجمهور « بِآيةٍ » - بالإفراد - في الموضعين ، وابن مسعود- : بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين .
قوله : { أني أَخْلُقُ } قرأ نافع بكسر الهمزة ، والباقون بفتحها ، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : على إضمار القول ، أي : فقلت : إني أخلق .
الثاني : أنه على الاستئناف .
والثالث : على التفسير ، فسر بهذه الجملة قوله : « بِآيَةْ » ، كأن قائلاً قال : وما الآية؟ فقال هذا الكلام .
ونظيره قوله : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ } [ آل عمران : 59 ] ثم قال : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ف « خَلَقَهُ » مفسرة للمثل؛ ونظيره - أيضاً قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ المائدة : 9 ] ثم فسر الوعد { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } [ المائدة : 9 ] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه ، وفي الوجه الثالث نقول : إنه متعلِّق بما تقدمه ، مفسِّر له .
وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ :
أحدها : أنها بدل من { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } فيجيء ، فيها ما تقدم في تلك؛ لأن حكمها حكمها .
الثاني : أنها بدل من « بِآيَةٍ » فيكون محلُّها الجَرّ ، أي : وجئتكم بأني أخلق لكم ، وهذا نفسه آية من الآيات .
وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس .
الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هي أني أخلق ، أي : الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر ، كأن قائلاً قال : وما الآية؟ فقال ذلك .
الرابع : أن تكون منصوبةً بإضمار فعل ، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال ، كأنه قال : أعني أني أخلُقُ .
وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف .
قوله : { أَخْلُقُ لَكُم } [ البقرة : 21 ] أن الخلق هو التقدير ، ويدل عليه وُجُوهٌ :
أحدها : قوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] أي : المقدِّرين ، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع ، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية .
وثانيها : أن لفظ الخلق : يطلق على الكذب ، قال تعالى : { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } [ الشعراء : 137 ] وقال : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا } [ العنكبوت : 17 ] وقال : { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } [ ص : 7 ] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً ، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره .
وثالثها : هذه الآية .
ورابعها : قوله تعالى : { خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض } [ البقرة : 29 ] إشارة إلى الماضي ، فلو حملنا قوله : « خلق » على الإيجاد والإبداع لكان المعنى : أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي ، وذلك بَاطِلٌ ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض .
وخامسها : قول الشاعر : [ الكامل ]
1474- وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي
وقال الآخر : [ البسيط ]
1475- وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ ... أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ
وسادسها : أنه يقال : خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس ، والخَلاَق : المقدار من الخير ، وفلان خليق بكذا ، أي : له هذا المقدار من الاستحقاق ، و الصخرة الخَلْقاء : الملساء؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف ، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية .
وقال أبو عبد الله البصريُّ : لا يجوز إطلاق « الخالق » على الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل ، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ .
وأجيب بقوله تعالى : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } [ فاطر : 3 ] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن ، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ .
إذا عرفت هذا فقوله : { أني أَخْلُقُ } معناه : أقَدِّر وأصَوِّر .
قوله : { لَكُمْ } متعلق ب « أخلُقُ » واللام للعلة ، أي : لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم ، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً ، بل أحداثها . و { مِّنَ الطين } متعلق به - أيضاً - و « مِنْ » لابتداء الغاية ، وقول من قال : إنها للبيان تساهل؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه .
قوله : { كَهَيْئَةِ } في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ ، تقديره : أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير . والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً ، ثم أطلِقَت على المفعول - أي : المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى : المخلوق ، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً ، والمصدر : التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة .
ويقال : هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف ، قال تعالى : { وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] ، والطين معروف ، يقال : طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي : جبله عليه ، والنفخ مَعْرُوفٌ .
الثاني : أن الكاف مفعول به؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر ، أو إضافة ، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ . وقد تقدم ذلك .
الثالث : أنها نعت لمصدر محذوف ، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ : « ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد ، تقديره : أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ » .
وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق ، اللهم إلا أن نقول : المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم .
قال الزمخشري : أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ . وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله : « أقدر » تفسير للخلق؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع ، فإنه مختص بالباري - تعالى- .
وقرأ الزهريُّ : « كَهَيْئَةِ » - بنقل حركة الهمزة إلى الياء .
وقرأ أبو جعفر : « كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ » .
قوله : { فَأَنْفُخُ فِيهِ } في هذا الضمير ستة أوجُهٍ :
أحدها : أنه عائد على الكاف؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي : فأنفخ في مثل هيئة الطير .
الثاني : أنه عائد على « هَيْئَةِ » ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها ، ونظيره قوله تعالى : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } [ النساء : 8 ] ثم قال { فارزقوهم مِّنْهُ } [ النساء : 8 ] فأعاد الضمير في { مِنْهَا } على { القِسْمَةَ } لما كانت بمعنى المقسوم .
الثالث : أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف ، أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير .
الرابع : أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ . وهو أني أخلق . ويكون الخلق بمنزلة المخلوق .
الخامس : أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل؛ لأن المعنى : أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره : أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير . قاله الفارسي؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك .
السادس : أنه عائد على الطين ، قاله أبو البقاء ، وأفسده الواحديُّ ، قال : « ولا يجوز أن تعود الكناية على » الطِّينِ « لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية ، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين » .
وفي هذا الرَّد نَظَر؛ إذ لقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم ، بل المراد بعضه . ولذلك أدخل عليه « مِنْ » التي تقتضي التبعيض ، فإذا صار المعنى : أني أخلق بعض الطين ، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال ، ولكنَّ الواحدي جعل « مِنْ » في الطين لابتداء الغاية ، وهو الظَّاهِرُ .
قال أبو حيّان : « وقرأ بعض القُرَّاء » فأنْفَخَهَا « . أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة؛ إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة : { فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً } [ المائدة : 110 ] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر ، كما حذف في قوله : [ البسيط ]
1476- مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ
وقول النابغة : [ البسيط ]
1477- . ... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما
يريد ولا قامت عليك ، وينفخ في الفَحْمِ . وهي قراءة شائة ، نقلها الفرَّاء » .
قال شهابُ الدين : « وعجبت منه ، كيف لم يَعْزُها ، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله ، قال : وقرأ : » أعبدُ الله « فأنفخها » .
قوله : { فَيَكُونُ } في « يكون » وجهان :
أحدهما : أنها تامة ، أي : فيوجد ، ويكون « طيراً » - على هذا - حالاً .
والثاني : أنها ناقصة ، و « طَيْراً » - على هذا - حالاً .
والثاني : أنها ناقصة ، و « طيراً » خبرها . وهذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل ، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ « طَائِراً » ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق .
وإذا قيل بنقصانها ، فيجوز أن تكون على بابها ، ويجوز أن تكون بمعنى « صار » الناقصة ، كقوله : [ الطويل ]
1478- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي صارت .
وقال أبو البقاء : « فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون » كان « هنا - التامة؛ لأن معناها » صار « بمعنى : انتقل ، ويجوز أن تكون الناقصة ، و » طَائِراً « - على الأول - حالٌ ، وعلى الثاني - خَبَرٌ » .
قال شِهَابُ الدِّينِ : « ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى » صار « التامة التي معناها معنى » انتقل « بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث ، ووجد ، وحصل ، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى » صار « فإنما يعنون » صار « الناقصة » .
وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون « طَيْراً » في الموضعين .
فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد ، والتقدير : فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو « طَيْراً » - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد « طائر » - بالألف - فالرسم محمل ، لا مُنَافٍ .
قال بعضهم كالشارح لما تقدم - : ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ ، وزعم آخرون أن معنى قراءته : يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً ، قال : كقوله تعالى : { فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم .
وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي : جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه ، ويحتمل أن يراد به الجمع ، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع ، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة . وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله : { مِّنَ الطير } - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى .
قوله : { بِإِذْنِ الله } يجوز أن يتعلق ب « طَيْراً » - على قراءة نَافِعٍ ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به؛ لأن « طَيْراً » اسم جِنْسٍ ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ « طَيْراً » أي : طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره .