كتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
المؤلف : أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
قوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال « مثلُ الجَنَّة » .
قال سيبويه : « مثَلُ الجنَّة » مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير : فيما قصصنا أو فما يتلى عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } تفسير لذلك المثل .
وقال أبو البقاء : « فعلى هذا » تَجْرِي « حال من العائد المحذوف في » وُعِدَ
أي : وعدها مقدراً جريان أنهارها « .
ثم نقل عن الفراء : أنه جعل الخبر قوله : » تَجْرِي « قال : » وهذا خطأ عند البصريين ، قال : لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه ، وشبهته : أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله : صفة زيد أنه طيل ويجوز أن يكون « تَجْرِي » مستأنفاً .
وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحنوه الزمخشري ، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين :
أحدهما : على حذف لظفه « أنها » والأصل : صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب ، وكيف تحذف « أنها » من غير دليل؟ .
والثاني : أن لفظة « مثلُ » زائدة ، والأصل : الجنة تجري من تحتها الأنهار ، وزيادة « مثِلُ » في لسانهم كثير ، ومنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] وقد تقدم .
قال الزمخشري : « وقال غيره ، أي غير سيبويه : الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفة زيد أسمر » .
قال أبو حيان : « وهذا أيضاً لا يصح أن يكون : تجْري » خبراً عن الصفة ولا « أسمر » خبراً عن الصفة ، وإنما يتاول « تَجْرِي » على إسقاط « أن » ورفع الفعل ، والتقدير أن تجري ، أي : جريانها « .
وقال الزجاج : » مثلُ الجنَّةِ « » جنة « على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بمان نشاهده .
ورد عليه أبو علي قال : » لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة ، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [ المماثلة ] « .
والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة ، فلس هنا ضرب مثل ، فهو كقوله تعالى : { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] ، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة ، وقال : معناه : الشبه .
وقرأ علي وابن مسعود » أمْثَالُ الجنَّةِ « ، أي : صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة .
فصل
اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث :
أولها : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
وثانيها : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } أي : لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا .
و « أكلها دائم » كقوله : « تجري » في الاستئناف التفسيري ، أو الخبري ، أو الحالية ، وقد تقدم .
وثالثها : ظلها ظليل لا يزول ، أي : ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } [ الإنسان : 13 ] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا : نعيم الجنة يفنى .
ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث ، بين أن تلك عقبى المتقين ، أي : عاقبتهم ، يعنى الجنة ، وعاقبة الكافرين النار .
قوله : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } من القرآن { وَمِنَ الأحزاب } أي : الجماعات ، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } هذا قول الحسن وقتادة .
فإن قيل : الأحزاب ينكرون كلّ القرآن .
فالجواب : أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عليه الصلاة والسلام وهم لا ينكرون هذه الأشياء .
وقيل : المراد بالكتاب : التوراة والإنجيل ، وعلى هذه ففي الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنه : { الذين ءاتيناهم الكتاب } كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعو بنجران وثمانية باليمن ، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة ، فرحوا بالقرآن ، لأنهم آمنوا به وصدقوه .
وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبدالله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية . والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين .
قال القاضي : وهذا القول أول من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن ، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة .
ويمكن أن يقال : إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة ، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به .
والثاني : أن الذي أتيناهم الكتاب : اليهود أعطوا التوراة ، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن ، لأنه مصدق لما معهم { وَمِنَ الأحزاب } سائر الكفار { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } وهو قول مجاهد .
قال القاضي : وهذا لا يصح لقوله { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال : : إن قوله { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه ، ولو كانت كلمة « ما » للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً ، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً .
ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به ، وفيه فوائد .
أولها : كلمة « إنَّمَا » للحصر ، ومعناه : إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك .
وثانيها : أن العبادة غاية التعظيم ، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك .
وثالثها : أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال ، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه .
ورابعها : أن عبادة الله واجبة ، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المخض .
وخامسها : قوله { ولاا أُشْرِكَ بِهِ } وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح ، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية .
وسادسها : قوله ( إليه أدعو ) أي : كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [ عبودية ] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة .
قوله : { ولاا أُشْرِكَ } قرأ نافع في رواية عنه برفع « ولا أشْرِكُ » وهي تحتمل الطقع ، أي : وأنا لا أشرك . وقيل : هي حال .
وفيه نظر؛ لأن المنفي ب « لا » كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال .
قوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } الكاف في محل نصب ، أي : وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك { أَنزَلْنَاهُ حُكْماً } و « حُكْماً » حال من مفعول « أنْزلْنَاهُ » .
وقيل : شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي : كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن .
وقيل : كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين « عربياً » نسب إلى العرب ، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب ، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة .
فصل
قالت المعتزلة : دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه :
الأول : أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث .
والثاني : وصفه بكونه عربياً ، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ .
والثالث : أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث .
والجواب : أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه .
قوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم } روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم ، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها .
قال ابن عباس رضي الله عنه : الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته .
وقيل : المراد منه حث الرسول عليه الصلاة والسلام على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها ، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ } الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [ إبطال ] النبوة :
فالشهبة الأولى : قولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق } [ الفرقان : 7 ] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى .
والشبهة الثانية : قولهم : الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال : { لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [ الأنعام : 8 ] وقالوا : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] .
الشهبة الثالثة : عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الزوجات ، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عز وجل بقوله { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية ، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة .
والشبهة الرابعة : قولهم : لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } .
الشبهة الخامس : أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [ وظهور النصرة له ولقومه ، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه ، فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } يعنى نزول العذاب على الكفار ] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } فقيل : حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث ، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً .
الشبهة السادسة : قالوا : لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة ، كالتوارة والإنجيل ، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة ، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل ، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً .
فأجاب الله تعالى عنه بقوله { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } ويمكن أيضاً أن يكون قوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب ، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة ، ثم يبقيه مدة مخصوصة ، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه ، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً ، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ما ذكرنا .
ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أنه يوجد تارة ويعدم أخرى ، ويحيي تارة ويميت أخرى ، ويغني تارة ويفقر أخرى ، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة ، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة .
قوله { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل شيء وقت مقدر وقيل : لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت .
وقيل : هذا من المقلوب أي : فيه تقديم وتأخير ، أي : لكل كتاب أجل ينزل فيه ، أي : لكل تاب وقت يعمل به ، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى ، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر .
وقيل : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } عند الملائكة ، فللإنسان أحوال :
أولها نظفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً ، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح .
وقيل : لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عز وجل فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث ، ولا يجوز حدوثه في غيره .
وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره .
قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : « ويُثْبِتُ » مخففاً من « أثْبَتَ » والباقون بالتشديد والتضعيف ، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير ، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك ، ومفعول « يُثْبِتُ » محذوف ، أي : ويثبت ما يشاء والمحو : ذهاب أثر الكتابة ، يقال : مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً ، إذا أذهب أثره .
قوله : « ويُثْبِتُ » قال النحويون : ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني ، وهو كقوله عز وجل { والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } [ الأحزاب : 35 ] .
فصل
قال سعيد بن جبير وقتادة « يمحو الله مايشاء » من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله « ويُثْبِتُ » ما يشاء منها فلا ينسخه .
وقال ابن عباس رضي الله عنه : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } الرزق والأجل والسعادة والشقاوة .
وعن ابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا : « يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء .
وروي عن عمر رضي الله عنه : أنه كان يطف بالبيت وهو بيكي يقول : » اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة ، فإنك تمحو ما تشائ وتثبت وعندك أم الكتاب « .
ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار : أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة ، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام ، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة .
روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم :
« ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت » .
وقيل : الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من دويان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب ، كقوله : أكلت . شربت . دخلت . خرجت ، ونحوها من الكلام هو صادق فيه ، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب ، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
وقال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 78 ] .
فأجاب القاضي عنه : بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة ، ويمكمن أن يجاب عن هذا : بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم ، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن ك ان غير ذلك فهو كبير ، وعلى هذا يتناول المباحات .
وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما : « هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله ، فهو الذي يمحو اوالذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت » .
وقال الحسن : { يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ } أي : من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله .
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه : يمحو الله ما يشاء : من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها .
وقال عكرمة : ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويثبت بدل الذنوب حسنات ، كما قال الله تعالى { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] وقيل غير ذلك .
قوله { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير ، والأم : أصل الشيء ، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له ، ومنه أم الرأس للدماغ ، وأم القرى لمكة ، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى .
قال ابن عباس في رواية عكرمة : هما كتابان : كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء ، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق .
وعن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت ، لله فيه كل ثوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب ] فقال : « علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى كيوم القيامة » .
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قوله : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } من العذاب قبل وفاتك { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } ليس عليك إلا ذلك { وَعَلَيْنَا الحساب } والجزاء يوم القيامة .
قوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } جواب للشرط قبله . قال أبو حيان : « والذي تقدم شرطان ، لأن المعطوف على الشرط شرط ، فأما كونه جواباً للشرط الأول فلس بظاهر؛ لأنه لا يترتب عليه ، إذ يصير المعنى : وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب { وَعَلَيْنَا الحساب } وأما كونه جواباً للشرط الثاني وهو { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } فكذلك لأنه يصير التقدير : إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صلى الله عليه وسلم لأن التكليف ينقطع [ عند الوفاة ] فيحتاج إلى تأويل ، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه ، والتقدير : وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم ، فلا لوم عليك ولا عتب » .
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } الآية .
لما وعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يريد بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك ، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت ، فقال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } يعني أن أهل مكة الذي يسألون محمداً عليه الصلاة والسلام الآيات { أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أكثر المفسرين على أن المراد : فتشح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الكفرة قهراً وجبراً ، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله تبارك وتعالى ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] وقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } [ فصلت : 53 ] .
وقال قوم : هو خراب الأرض ، أي : أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها ، ونهلك أهلها ، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً : ننقصها من أطرافها ، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء . قال الواحدي : « وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول ، ويمكن أن يقال : هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع؛ لأن قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة ، وموت بعد حياة ، وذل بعد عز ، ونقص بعد كمال ، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم ، فناسب هذا الكلام ماقبله » .
قوله : نَنْقُصهَا « حال إما من فاعل » نَأتِي « أو من مفعوله .
وقرأ الضحاك » نُنَقِّصها « بالتضعيف ، عداه بالتضعيف .
قوله : » لا مُعَقِّبَ « جملة حالية ، وهي لازمة . والمعقب : هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، قال لبيد : [ الكامل ]
3188 . ... طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ
والمعنى : والله يحكم لا رادَّ لحكمه . والمعقب : هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل : والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } قال بان عباس رضي الله عنه : الانتقام .
قوله : { وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني من قبل مشركي مكمة والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً } أي : عند الله جزاء مكرهم .
قال الواحدي رحمه الله : يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه ، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وأمانٌ لهن من مكرهم ، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله .
ثم قال جل ذكره { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } ، أي : أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله تعالى .
قالت المعتزلة : الآية الأولى إن دلت على قلوكم ، فقوله { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } دليل على قولنا ، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة ، ولو كان حدوث الفعل [ بخلق ] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر ، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب .
والجواب : أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد .
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره { وَسَيَعْلَمُ الكفار } قرأ ابن عامر والكوفيون « الكُفَّار » جمع تكسير والباقون : « الكَافِرُ » بالإفراد ذهاباً إلى الجنس .
وقرأ عبدالله « الكَافِرُونَ » جمع سلامة .
قال الزمخشري : « قرىء : الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا ، والكَافِرُ » .
قال المفسرون : والمراد بالكافر : الجنس ، كقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] .
وقال عطاء رحمه الله تعالى : يريد المستهزئين وهم خمسة ، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون « وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أبا جهل ، والأول هو الصواب .
قوله : { وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين :
الاول : شهادة الله تعالى على نبوته ، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة ، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن ، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله ، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة .
والثاني : قوله { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } العامة على فتح ميم » مَنْ « وهي موصولة ، وفي محلها أوجه :
أحدها : أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة ، أي : بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه .
والثاني : أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة ، إذ هي فاعلة ، والباء مزيدة فيها .
والثالث : أن يكون مبتدأ وخبره محذوف ، أي : ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً ، و { عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجوز أن يكون الظرف صلة و » عِلْمُ « فاعل به ، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره .
وأن يكون مبتدأ ، وما قبله الخبر ، والجملة صلة ل « مَنْ » .
والمراد بمن عنده علم الكتاب : ابن سلام ، أو جبريل عليه الصلاة والسلام .
قال ابن عطية : « ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات » .
فاعترض أبو حيان عليه : بأن « مَنْ » لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني ، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف .
قال شهاب الدين : نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي ، أما شرط الاختلاف فمعلوم .
وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبدالرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } جعلوا « من » حرف جر ، و « عنده » مجرور بها ، وهذا الجار خبر مقدم ، و « عِلْمُ » مبتدأ مؤخر ، و « منْط لابتداء الغاية أي : ومن عند الله حصل علم الكتاب .
وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يحعلون » من « جارة ، و » عُلِمَ « مبنياً للمعفول و » الكِتابُ « رفع بهن . وقرىء كذلك؛ إلا أنه بتشديد » عُلِّمِ « والضمير في » عِنْده « على هذه القراءات لله تعالى فقط .
وقرىء أيضاً : » وبِمَن « بأعادة الباء الداخلة على » مَنْ « عطفاتً على [ » باللهِ « ] .
فصل
على هذه القراءة الأولى المراد : شهادة مؤمني أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري . وقال أبو البشر : قلت لسعيد بن جبير : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أهو عبد الله بن سلام؟ ، فقال : وكيف يكون عبدالله بن سلام وهذه السورة مكية ، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟ .
وأجيب : بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية .
ويعترض هذا أيضاً : بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز .
وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } هو الله سبحانه وتعالى .
وقال الأصم : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي : ومن عنده علم القرآن .
والمعنى : أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر ، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً .
وقيل : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي : الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه .
وأما معنى القراءة الثانية : أي : أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه ، والمراد العلم الذي هو ضل الجهل .
وأما القراءة على مالم يسم فاعله ، فالمعنى : أنه تعالى لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته ، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه ، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره ، بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله ، والمعنى : أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن .
روى ابن عباس عن أبي بن كعب رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « مَنْ قَرَأ سُورةَ الرَّعدِ أعْطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْر حَسنَاتٍ بِوزْنِ كُلِّ سَحابٍ مَضَى وكُلِّ سَحابِ يكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ، وكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُوفِينَ بِعهْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ سُبحَانهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ » .
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قوله تعالى : { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } يجوز أن يرتفع « كِتابٌ » على أنَّه خبر ل « الر » : إن قلنا : إنَّها مبتدأ ، والجملة بعد صفة ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : هذا ، وأن يرتفع بالابتداء خبره الجملة بعده ، وجاز الابتجاء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً ، تقديره : كتماب ، أي : كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية .
قالت المعتزلة : النَّازلُ ، والمنزلُ لا يكون قديماً .
والجواب : أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ .
قوله : { لِتُخْرِجَ الناس } متعلق ب « أنْزَلناهُ » . وقرىء ( ليَخْرُجَ الناس ) بفتح الياءِ وضمِّ الراء ، من خَرَجَ يَخْرُجُ . « النَّاسُ » رفعاً على الفاعليَّة .
قالت المعتزلة : اللاَّم في « لِتُخْرِجَ » لام الغرض والحكمة ، تدلُّ على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض ، فدل على أنَّ أقوال الله تعالى وأفعاله معللة برعاية المصالح .
وأجيب : بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر ، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلاَّ بهذه الواسطة ، وذلك محالٌ في حقِّ الله تعالى ، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر .
فصل
قوله تعالى : { مِنَ الظلمات } أي : لتدعوهم من ظلمات [ الظَّلال ] إلى نُورِ الإيمان .
قال القاضي رحمه الله : هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات :
أحدها : أنَّه تعالى لو خلق الكفر في الكافر ، فكيف يصحُّ إخراجه منه الكتاب .
وثانيها : أنَّه تعالى أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول عليه الصلاة والسلام فإن كان خالق الكفر هو الله تعالى فكيف يصحُّ من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخراجهم منه ، وكان للكافر أن يقول : إنَّك تقول : إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟ .
فإن قال لهم : أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا : إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج ، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج .
وثالثها : أنه صلواتُ الله وسلامه عليه إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر ، والاستدلال كونه تعالى علماً قادراً حكيماً ، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع ، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم ، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه .
والجواب عن الكل : أن يقال : الفعل الصادر من العبد .
إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك .
أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر .
والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال ، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه ألاَّ بعد حصول الرجحان ، فإن كان ذلك الرجان منه عاد السؤال ، وإن لم يكون منه بل من الله ، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وهو المطلوب .
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } يجوز أن يتعلق بالإخراج ، أي : بتيسيره وتسهيله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فال : « يُخْرِجُ » أي : مأذوناً لك .
وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فإنَّ قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } معناه : أنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى .
والمراد بهذا الإذن : إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق ، وحمل الإذن على الأمر محالٌ ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل ، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم ، والباطل متيمزٌ عن الحقّ .
وأيضاً : حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعولم على ماهو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلمات إلى النُّور تابع لذلك الخروج ، ولا يمتنع أن يقال : إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج ، ولما بطل هذان القسمان لم ببق إلا أن المراد من الإذن : المشيئة ، والتخليق ، وذلك يدلُّ على أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللمات إلى النُّور إلاَّ بمشيئة الله تعالى .
فإن قيل : لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟ .
فالجواب : لفظ الإذن مجمل ، ونحن نفصل القول فيه .
فنقول : المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم ، أو لا يقتضي ذلك ، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة ، وامتنع أن يقال : إنه إنَّما حصل بسببه ، ولأجله فبقي الأول ، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم ، ومتى حص الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا .
فصل
دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر ، والضلالات كثيرة ، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلاَّ واحداً؛ لأنَّ الله تعالى عبر عن الجهلِ ، والكفر بالظلمات ، وهي صيغة جمع ، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ .
قوله : { إلى صِرَاطِ } فيه وجهان :
أحدهما : أنه بدلٌ من قوله « إلى النُّورِ » بإعادة العامل ، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه .
والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر ، كأنه قيل : إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل : « إلى صِرَاطِ » ، والمراد بالصِّراط : الدّين والعزيز هو الغالب و « الحَمِيدِ » المستحق للحمد .
وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً ، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً ، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر ، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر « العَزيز » على ذكر « الحَميد » .
قوله : { الله الذي } قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي ، وكان يعقوب إذا وصل خفض .
وأما الرفع فعلى وجهين :
أحدهما : أنه مبتدأ خبره الموصول بعده ، أو محذوف ، تقديره : الله الذي له ما في السموات ، وما في الأرض العزيز الحميد ، حذف لدلالة ما تقدَّم .
والثاني : أنَّه خبر لمبتدأ مضمر ، أي : هو الله ، وذلك على المدح ، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ ، والحوفي ، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال : « لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ ، كالنَّجم للثُّريَّا » .
قال أبو حيان : « وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله » الإله « ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب » .
وقال ابن عصفور : « لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع » وهو قليل ، وللعرب فيه وجهان :
أحدهما : أن تتقدم الصفة بحالها ، وفيه إعرابان للنحويين :
أحدهما : أن يعرب صفة متقدمة .
والثاني : أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته .
والثاني : من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف ، فعلى هذا يجوز أن يعرب « العَزيزِ الحَميدِ » صفة متقدمة . ومن مجيء تقديم الصفة قوله : [ البسيط ]
3189 والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا ... رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ
وقل الآخر : [ الرجز ]
3190 وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار ... يريد : الطير العائذات ، وبالعمر الطويل .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة ، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال » .
قال ابن الخطيب : « اللهُ » اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك ، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا : « اللهُ » ، ثم وصفناه كقوله : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم } [ الحشر : 22 ] الملكل القدُّوسُ ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول : هو الرحمن الرحيم الله ، فعلمنا أنَّ « اللهَ » اسم علم للذَّات المخصوصة ، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات .
وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن : أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات ، كقوله : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } [ الحشر : 24 ] فأمَّا أن تعكس فتقول : هو الخالق المصور البارىء الله ؛ فذلك غير جائز ، وإذا ثبت هذا فنقول : الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ ، وما بعده خبر هو الصحيح ، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله : { العزيز الحميد } مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال : الله الخالق ، وعند هذا اختلفوا في الجواب :
فقال أبو عمرو بن العلاء : القراءةُ بالخفض على التَّقديم ، والتَّأخير ، والتقدير : صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [ والأرض ] .
وقيل : لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم ، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال : الإمام الأجلّ محمد الفقيه ، وهنو بعينه نظير قوله : { صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } .
وتحقيق القول فيه : أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله : { العزيز الحميد } فوقعت الشبهة في أن ذلك : { العزيز الحميد } من هو؟ فعطف عليها قوله { الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إزالة لتلك الشُّبهة .
قوله : « وَويْلٌ » مبتدأ ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء ك « سَلامٌ عَليكُمْ » ، و « لِلْكافِرينَ » خبره ، و « مِنْ عذَابٍ » متعلِّق بالويلِ .
ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله ، وهو ممنوعٌ حيث يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل ، وقد تقدم .
ولذلك جوزوا تعلق « بِمَا صَبرْتُمْ » ب { سَلاَمٌ } [ الرعد : 24 ] ، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ ، ولا فرق بين الموضعين .
وقال الزمخشريُّ : « فإن قلت : ما وجه اتِّصالِ قوله : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت : لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد » .
قال أبو حيان : فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .
ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر .
فصل
والمعنى : أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات ، والأرض ، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً ، ولا ضرَّا ، ويُخلَقُ ، ولا يَخْلِقُ ، ولا إدراك له ، فالويل كل الويل لمن هو كذلك ، وإنما خصه بالويل ، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ ، ويقولون : يا ويلاه نظيره قوله تعالى : { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع :
الأول : قوله : { الذين يَسْتَحِبُّونَ } يجوز أن يكون مبتدأ ، خبره : « أوْلئِكَ » وما بعده .
وأن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي هم الَّذينَ .
وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [ المدح ] فيهما .
وأن يكون مجروراً على البدل ، أو البيان ، أو النعت ، قاله الزمخشريُّ ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم .
ورده أبو حيان : بأن فيه الفصل بأجنبيّ ، وهو قوله جل ذكره { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال : « ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز ، لأنك فصلت بين » زَيْدٍ « وصفته بأجنبي منهما ، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز ، والتركيب الصحيح أن تقول : الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ » .
و « يَسْتحِبُّونَ » استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ ، أو يكون علتى بابه ، وضمن معنى الإيثار ، ولذلك تعدّى ب « عَلَى » .
وقرأ الحسن : « يُصدُّونَ » بضم الياء من « أصَدَّ » ، و « أصَدَّ » منقولٌ من « صَدَّ » اللازم ، والمفعول محذوف ، أي : غيرهم أو أنفسهم ، ومنه قوله : [ الطويل ]
3191 أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ .. . .
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } تقدم مثله [ آل عمران : 99 ] .
قوله تعالى : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة } فيه إضمار تقديره : يستحبّون الحياة الدنيا ، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة ، [ وأما ] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً .
والنوع الثاني من أوصاف الكفار : قوله عزَّ وجلَّ { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي : يمنعوا النَّاس من قبول دين الله .
والنوع الثالث من تلك الصفات قوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } . واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين .
الأولى : أن يسعى في صدّ الغير .
والثانية : أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ ، والشبهات في المذهب الحق ، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ ، وهذا هو النهاية في الضلال ، والإضلال ، وإليه أشار بقوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } .
قال الزمخشريُّ : « الأصل في الكلام أن يقال : ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل » .
وقيل : الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه : يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق ، أي : بجهة الحرام .
ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب قال في وصفهم : { أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } وإنَّما وصف الله تعالى هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ :
الأول : أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد ، والبياض .
الثاني : أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى .
الثالث : أن امراد بالضَّشلال : الهلاك ، والتقدير : أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع ، وأراد بالبعد : امتداده وزوال انقطاعه .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } الآية لما ذكر في أوّل السورة : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [ إلى الرشد ] ، وأرشدهم إلى نور الإيمان . ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة ، والإحسان في الوجيهن؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه ؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء عليه الصلاة و السلام أجمعين كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة ، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر ، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل ، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم .
قوله : { إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } يجوم أن يكون حالاً ، أي : إلاَّ [ متكلماً ] بلغة قومه .
قال القرطبي : « وحَّد اللسان ، وإن أضافه إلى القوم؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ ، والكثير » .
وقرأ العامة : « بلِسانِ » بزنة كتابِ ، أي : بلغةِ قومهِ . وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني : بكسر اللام وسكون السين ، وفيه قولان :
أحدهما : أنَّهما بمعنى واحد ، كالرِّيشِ والرِّياش .
والثاني : أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة ، ذكره ابن عطيَّة ، وصاحب اللَّوامح .
وقرأ أبو رجاء ، وأبو المتوكل ، والجحدريُّ : بضم اللام والسين ، وهو جمع لِسَان كَكِتَاب وكُتُب ، وقرىء بسكون السين فقط ، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله ، نحو « رُسْل في رُسُل » ، و « كُتْب » في « كُتُب » ، والهاء في « قَوْمِهِ » الظاهر عودها على « رَسُولٍ » المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد صلوات الله وسلامه عليه وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى : إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهنم النبي عليه الصلاة والسلام التوراة .
فصل
احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية ، فقال : لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلاَّ بلغة قوم ، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل ، وإذا كان كذكل؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف؛ فوجب حصولها بالاصطلاح .
ومعنى الآية : وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلغة قومه .
فإن قيل : هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة ، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صلى الله عليه وسلم :
« وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة » .
فالجواب : بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم ، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطلاف يدعوهم إلى الله تعالى ويترجمون لهم بألسنتهم .
وقيل : المراد من قومه أهل بلدته ، وليس المراد من قومه أهنل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] وإلى الجنّ أيضاً؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإسراء : 88 ] .
قال القرطبي : « ولا حجة للعجم ، وعغيرهم في هذه الآية؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله عز وجل { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [ سبأ : 28 ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : » أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَشلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ « .
وقال صلى الله عليه وسلم : » لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ « وخرجه مسلم رحمه الله .
فصل
زعمت طائفة من اليهود يقال لهم : [ العيسوية ] أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى العرب خاصة ، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين :
الأول : أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب ، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته .
الثاني : قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب .
والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله .
قوله : » فَيُضِلُّ « استنئاق إخبار ، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى ، والرسل أرسلت للبيان لا [ للإضلال ] .
قال الزجاج : » لو قرىء بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز « .
قوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم } تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية ، والضلال من الله سبحانه وتعالى جل ذكره .
قالوا : وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ ، وعمر رضوان الله عنهما وعن الصَّحابة أجمعين أقبلا في جماعة من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله : يقول أبو بكرٍ : الحسنات من الله ، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر : كلاهما من الله ، وتبع بعضهم أبا بكر ، وتبع بعضهم عمر ، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر رضي الله عنه وأعرض عنه حتى عرف في وجهه ، ثم أقبل على عمر رضي الله عنه فتعرف ما قاله ، وعرف السرور في وجهه ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : » أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل صلوات الله وسلامه عليه عليهما فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر ، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ ، فقضاء إسرافيل صلوات الله عليه أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما؟ .
قالت المعتزلة : لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه :
الأول : أنه تبارك وتعالى قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } أي : ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله تعالى من إرسال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حصول الإيمان للمكلفين ، فلو كان مقصوده الإضلال ، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود .
والثاني : أنَّه عليه الصلاة والسلام إذا قال لهم : إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم ، فهلم أن يقولوا : فما لنبوتك فائدة ، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن نزيل كفراً خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة ، وتفسد بعثة الرسل .
الثالث : إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى وميشئته ، فيجب أن يكون الرضا به واجباً؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب ، وذلك لا يقوله عاقل .
الرابع : أنَّ مقدمة الآية ، وهي قوله جل ذكره { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] يدلُّ على العدل ، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله جلَّ ذكره { وَهُوَ العزيز الحكيم } فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } دليل على خلق الكفر في العبد ، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه :
الأول : المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال : فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي : يحكمُ بكونه كافر ضالاً .
والثاني : أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار .
والثالث : أنَّه يقال : إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله ، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه .
قال الزمخشري : « والمراد بالإضلال التخلية ، ومنع الإلطاف وبالهداية : اللّطف ، والتَّوفيق » .
قال ابن الخطيب رحمه الله : « والجواب قوله عزَّ وجلَّ { لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } لا يليق به أن يضلهم .
قلنا قال الفراء : إذا ذكر فعل ، وبعده آخر ، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه ، وإن لم يكن مشاكله ، استأنفه ورفعه ، نظيره :
{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله } [ التوبة : 32 ] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال : يريدون أن يأبى الله ، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف .
ونظيره أيضاً قوله : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام } [ الحج : 5 ] ومن ذلك قولهم : « أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ » بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه؛ ومثله قول الشاعر : [ الرجز ]
3192 يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ ... وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قال الله تعالى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ثمَّ قال : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } ذكر : « فَيُضِلُّ » بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله ، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال عزَّ وجلَّ : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه ، ثم قال : ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه تعالى يضلّ من يشء ، ويهدي من يشاء ، والغرضُ منه : التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية ، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الهداية ، والضلال لا يحصلان إلاَّ من الله تعالى .
وأما قولهم : لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول : ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر : لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً ، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً؟ وإذا لم أقدر عليه ، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه .
وأما قولهم ثالثاً : يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا : ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً؛ لأنَّه تعالى لما أخبر عن كفره ، وعلم كفره ، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً ، وخبره الصدق كذباً ، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ فيلزمك على مذهبك ، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا .
وأمَّا قولهم رابعاً : إن مقدمة الآية ، و هو قوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] يدلُّ على صحَّة الاعتزال .
فنقول : قد ذكرنا أن قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } [ إبراهيم : 1 ] يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة .
وأما قولهم خامساً : إنَّه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً ، وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له ، فنقول : وصف نفسه بكونه عزيزاً ، والعزيزُ : هو الغالب القاهر ، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل ، وأراد عدم الكفرمنهم ، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها صعيفة ، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله جل ذكره :
{ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور ، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرأ للرسول صلوات الله وسلامه عليه على أذى قومه فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ } قال الأصم : آيات موسى عليه الصلاة والسلام وهي العصا ، واليد ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وفلق البحر ، وانفجار العيون من الحجر ، وإظلال الجبل ، وإنزوال المن والسلوى .
وقال الجبائي آياته : دلائله وكتبه المنزلة عليه ، فقال في صفة محمد عليه الصلاة والسلام : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] وقال في حق موسى صلوات الله وسلامه عليه { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 5 ] والمقصود من بعثة سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام واحد وهو أن يسعو في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات .
قوله : « أنْ أخْرِجْ » يجوز أن تكون « أنْ » مصدرية ، أي : بأن أخرج والباء في « بِآيَاتِنا » للحال ، وهذه للتعدية ، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي ، ويكون المعنى : أي : أخرج قومك من الظلمات ، أي : قلنا له : أخرج قومك كقوله { وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا } [ ص : 6 ] . وقيل : بل هي زائدة ، وهو غلط .
قوله : « وذَكِّرْهُمْ » يجحوز أن يكون منسوقاً على « أخْرِجْ » فيكون من التفسير ، ويجوز أن لا يكون منسوقاً؛ فيكون مستأنفاً .
و « أيَّام : عبارة عن نعمة تعالى؛ كقوله : [ الوافر ]
3193 وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ ... عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا
أو نقمه؛ كقوله : [ الطويل ]
3194 وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا .. . . .
ووجهه : أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان ، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم : نَهارٌ صَائمٌ ، ولَيلٌ قَائمٌ ، و { مَكْرُ الليل } [ سبأ : 33 ] .
قال الواحديُّ : » أيَّام جمع يوم ، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها ، وكان في الأصل : أيوامٌ ، فاجتمعت الياء ، والواو ، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء ، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء « .
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ ، وأبيُّ بن كعب ، ومجاهدٌ وقتادة رضي الله عنهم وذكرهم بنعم الله . وقال مقاتلٌ : بوقائع الله في الأمم السَّالفة . يقال : فلان عالم بأيَّام العرب ، أي : بوقائعهم ، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة ، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم ، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب ، والوعد ، والوعيد ، فالتّرغيب ، والوعد : أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام ، كعادٍ ، وثمود وغيرهم .
واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى عليه الصلاة والسلام منها ما كانت أيام محنة وبلاء ، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون . ومنها : ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن ، والسلوى ، وفلق البحر ، وتظليل الغمام .
{ إِنَّ فِي ذلك } التّذكر « لآياتِ » دلائل { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } كثير الصّبر { شَكُورٍ } كثير الشُّكر .
فإن قيل : ذلك التذكر آيات للكلّ ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر؟ .
فالجواب : أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .
وقيل : لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور .
ولما أمر موسى عليه الصلاة والسلام أن يذكرهم بأيَّام الله ، وحكى عن موسى عليه الصلاة والسلام ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } .
فقوله : { أَنجَاكُمْ } ظرف للنعمة ، بمعنى الإنعام ، أي : اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت .
قوله : { إِذْ أَنجَاكُمْ } يحجوز في ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون منصوباً ب « نِعْمَةَ » .
الثاني : أن يكون منصوباً ب « عَلْكُمْ » ، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال : « إذْ أنْجَاكُمْ » ظرف للنعمة بمعنى الإنعام ، أي : إنعامه عليكم ذلك الوقت .
فإن قلت : هل يجوز أن ينتصب ب « عَليْكُمْ » .
قلت : « لا يخلُو إما أن يكون [ إنعام ] صلة للنعمة بمعنى الإنعام [ أو غير ] صلة ، إذا أردت بالنعمة العطية ، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ويتبين الفرق بين الوجيهن ، أنَّك إذا قلت : نعمة الله عليكم ، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً » .
الثالث : أنه بدل من عمة أي : اذكروا وقت إنجازكم ، وهو بدل اشتمال ، وتقدم الكلام في « يسومونكم » .
قوله : « ويذبحون » حال أخرى من آل فرعون ، وفي البقرة دون « واو » لأن قصد التفسير لسؤال العذاب ، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو ، وتقول : أتاني القوم : زيدٌ وعمرو ، وذلك قوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 ، 69 ] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو ، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره ، فالسوم هنا غير السوم هناك .
وقرأ بان محيصن « يَذْبَحُونَ » مخففاً ، و « يستحيون نساءكم » يتركونهن أحياء ، « وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم » ، وفي كونه بلاء وجهان :
الأول : أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله .
والثاني : أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء ، وهو بلاء عظيم ، والبلاء هو الابتلاء ، وذلك قد يكون بالنعمة تارة ، وبالمحنة أخرى ، قال تعالى :
{ وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } ، قاله ابن الخطيب رحمه الله .
قوله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } يجوز أن يكون نسقاً على : { إِذْ أَنجَاكُمْ } ، وأن يكون منصوباً ب « اذْكُرُوا » مفعولاً لا ظرفاً .
وجوَّز فيه الزمخشري : أن يكون نسقاً على : « نِعْمةَ » فهو من قول موسى ، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله ، واذكروا حين تأذن ، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف .
ومعنى : « تَأذَّنَ » آذن ربكم إيذاناً بليغاً ، أي : أعلم ، يقال : أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل : أوعد وتوعَّد ، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان؛ لأنه إعلام قال الشاعر : [ الوافر ]
3195 فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى ... سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا
وكان ابن مسعود يقرأ « وإذْ قال ربُّكُمْ » والمعنى واحد .
فيقال : « لَئِنْ شَكرْتُم » نعمتي ، وآمنتم ، وأطعتم : « لأزيدَنَّكُم » في النعمة .
وقيل : لئن شكرتم بالطَّاعة « لأزيدنكم » في الثواب .
والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد : « ولَئِنْ كَفرتُمْ » نعتمي فجحدتموها ، ولم تشكروها : « إنَّ عذَابِي لشَديدٌ » .
وقيل : المراد الكفر؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى .
قوله : { وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي : غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله .
والمعنى : أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر ، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر ، أو يستضر بالكفران ، فلا حرم قال تعالى : { وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
والغرض منه : بيان أنه تعالى إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود .
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
ثم قال : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } الآية النَّبأ : الخبر ، والجمع الانباء؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
3196 ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي .. .
قال أبو مسلم : « يحتمل أن يكون خطاباً من موسى صلوات الله وسلامه عليه [ لقومه ، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم ، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى عليه السلام ] لقومه : يذكرهم أمر القرون الأولى؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين .
روي عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال : » كَذبَ النَّسَّابُونَ « .
وعن عبدالله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال : بين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين عدنان ثلاثون [ أباً ] لا يعلمهم إلا الله وكان مالك ابن أنس رضي الله عنه يكره أن يسنب الإنسانت [ نفسه أباً أباً ] إلى آدم صلوات الله وسلامه عليه وكذلك في حق النبي صلوات الله وسلامه عليه ؛ لأنه لايعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى ، ونظيره : قوله تعالى { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] وقوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [ غافر : 78 ] وكان صلوات الله وسلامه عليه في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان .
وقال عليه الصلاة والسلام : » تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ « .
وقيل : المراد بقولهم : » لا يَعْلمُهمْ « أي : عددهم ، وأعمارهم ، وكيفياتهم .
وقال عروة بن الزبير : » ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان ، وإسماعيل « .
قوله : » قَوم نُوحٍ « بدل ، أو عطف .
قوله : { والذين مِن بَعْدِهِمْ } » يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول ، أو على المبدل منه ، وأن يكون مبتدأ خبره : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } ، { جَآءَتْهُمْ } خبر آخر وعلى ما تقدم يكون : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } حالاً من « الَّذينَ » أو من الضمير في : « مِنْ بعْدِهمْ » لوقوعه صلة « .
وهذا عَنَى أبو البقاءِ بقوله : حال من الضمير في : » مِنْ بَعْدهِمْ « ولا يريد به الضمير المجرور؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف ، وإن كان بعضهم جوزه في صورة وجوز أيضاً هو والزمخشري : » والجملة من قوله : { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراض « .
ورد عليه أبو حيان : بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين ، أحدهما يطلب الآخر .
ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ : » والَّذينَ « مبتدأ ، و » لا يَعْلمُهُمْ « خبره ، قال : » والجملة من المبتدأ ، والخبر اعتراض « ، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم .
ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين : بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن : » جَاءَتْهُم « حال مما تقدَّم ، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها ، وهو كلامٌ صحيحٌ .
قوله تعالى : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكون الضمائر للكفار ، أي : فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ ، لقوله : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] قاله أبو عباس ، وابن مسعود ، والقاضي .
قال القرطبيُّ : وهذا أصح الأقوال ، قال الشاعر : [ الرجز ]
3197 لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي ... ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي
وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي ... عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ
وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [ 119 ] ف « في » على بابها من الظرفية ، أي : فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً ، واستهزاء ، ف « فِي » بمعنى « عَلَى » وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم : إنَّا كَفرنا ، ف « عَنْ » بمعنى « إلى » ويوجوز أني كون المرفوع للكفار ، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي : النّعم ، أي : ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال ، ويجوز أن يراد المعنى ، والمراد بالأيدي : الجوارح ، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار ، والأخير للرسل ، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل ، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت ، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ .
وقيل : « في » هنا بمعنى الباء . قال الفراء : « قد وجدنا من العرب من يجعل » في « موضع الباء ، يقال : أدخلتُ بالجنَّة ، أدخلت في الجنَّة » وأنشد : [ الطويل ]
3198 وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ ... ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ
أي : أرغب بها .
وقال أبو عبيد رحمه الله : هذا ضرب مثل يقوله العربُ : رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به .
ورد عليه : بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ .
وقال أبو مسلم : المراد باليدِ : ما نطقت به الرُّسل من الحجج؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يداً ، يقال لفلان عندي ، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّرها لهم نعم وأياد ، وأيضاً : العهود التي أتوابها مع القوم أيادي . وجمع اليد في القلة : أيْدِي ، وفي الكثرة أيَادي .
وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح ، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه .
ونقل محمد بن جرير عن بعضهم : أنَّ معنى قوله تعالى : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } أي : سكتوا عن الجواب ، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب : ردَّ يدهُ في فيه ، إذ لم يجبه ، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال : إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا : إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا : « إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ »
قوله تعالى : { وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } قرأ طلحة : « تَدعُونَّا » بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية ، والمعنى : في شكِّ مريب موقع في الريبة أي : ذي ريبة من أرابه ، والريبة : لقلق النفس ، وألاّ [ تطمئن ] إلى الأمر .
فإن قيل : لما ذكروا أنهم قالوا : إنَّا كافرون برسالتكم ، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين ، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم .
قوله تعالى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ } الآية لما قالوا للرُّسلِ : وإنا لفي شك ، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله ، وهو فاطر السموات ، والأرض وفاطر أنفسنا ، وأرواحنا ، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم ، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره ، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها ، فكيف قلتم : وإنَّا لفي شكٍّ؟ .
قوله : { أَفِي الله شَكٌّ } استفهام بمعنى الإنكار ، وفي « شكٌّ » وجهان :
أظهرهما : أنه فاعل بالجار قبله ، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام .
والثاني : أنه مبتدأ ، وخبره الجار ، والأولى أولى؛ بل كان ينبغي أن يتعين؛ لأنه يلزم من الثاني الفصب لبين الصفة ، والموصوف بأجنبيّ ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل ، فإ ، الفاصل ليس أجنبيًّا ، إذ هو فاعله ، والفاعل كالجزء من رافعه .
ويدلُّ على ذلك تجوزيهم : « مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ » بنصب « أحْسَنَ » صفة ورفع « الكُحْلُ » فاعلاً ب « أفعل » ولم يضر الفصل به بين « أفْعَلَ » وبين « مِنْ » لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع : أحْسَن « خبراً مقدماً ، و » الكُحْلُ « مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين » أفعل « وبين » من « بأجنبي .
ووجه الاستشهاد في هذه المسألة : أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا .
وقرأ العامة » فاطِرِ « بالجر وفيه وجهان : النعت والبدلية .
قال أبو البقاء وفيه نظر؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل .
قال الزمخشريُّ : » أدخلت همزة الإنكار على الظرف؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه ، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة ، وشهادته عليه « .
قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ } اللام متعلقة بالدُّعاءِ ، أي : لأجل غفران ذنوبكم؛ كقوله : [ المتقارب ]
3199 دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً ... فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ
ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك : « دعوتك لزيد » ، وقوله : « إذا تدعون إلى الإيمان » ، والتقدير : يدعوكم إلى غفران ذنوبكم .
لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه ، أردفعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار ، فقال : « فاطر السموات والأرض » : أي خالق السماوات والأرض « يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم » أي : ذنوبكم و « من » صلة ، وقيل : « من » تبعيضية ، وقيل : بمعنى البدل ، أي : بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه .
{ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى حين استيفاء أجلكم ، ولا يعالجكم بالعذاب ، قال بعض العلماء : إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل ، وذلك من وجوه :
الأول : قال بعضش العقلاء : إن من لطم وجه سبي لطمة ، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار ، وعلى وجود التكليف ، وعلى وجود دار الجزاء ، وعلى وجود النبي صلى الله عليه وسلم .
أما دلالتهم على وجود الصانع؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها ، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل ، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى .
وأما دلالتها على وجود التكليف؛ فبأن الصبي يصيح ويقول : ضربني ذلك الضارب ، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي ، ومندرجة تحت التكليف ، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى .
وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو : أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه ، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل ، فبأن تشهد على وجوب ا لجزاء على جميع العباد والأعمال أولى .
وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية ، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة .
الوجه الثاني : في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي : وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة ، وتركيبات لطفية موافقة للحكمة ، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم ، وبانٍ حكيمٍ ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة ف يالعالم العلوي ، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة ، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش ، والبناء إلى البَاني ، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى .
الوجه الثالث : أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة ، فإنه بأصل فطرته ، وخلقته يتضرَّع إلى من يخصله منها ، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادرم المدبر .
الرابع : أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر ، أو لا يكون ، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره ، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج ، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه ، وذلك هو الصَّانع المختار .
الوجه الخامس : أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه ، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده ، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار .
وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط ، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً .
أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار .
وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط ، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار .
وأمَّا كون الإقرار [ بوجود ] المعاد أحوط؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية ، وهني منقضية فانينة ، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار ، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه ، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان ، والله أعلم .
فصل
لما استدلْ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم ، والجود من وجهين :
الأول : قوله : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } .
قال الزمخشريًُّ رحمه الله : « لو قال قائل : ما معنى التعبيض في قوله تعالى : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } » ؟ .
ثم أجاب : فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار ، كقوله تعالى { واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ نوح : 3 ، 4 ] ، و { ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } [ الأحقاف : 31 ] وقال في الخطاب للمؤمنين : { هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] إلى أن قال : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } [ الصف : 12 ] قال : والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه .
ثم قال : وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد .
وقيل : أريد به : يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بنيهم وبين العباد من المظالم .
وقال الواحدي : قال أبو عبيدة : « مِنْ » زائدة ، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا : ليست بزائدة ، ففيها وجهان :
أحدهما : أنه ذكر البعض هنا ، وأراد الجمع توسعاً .
والثاني : أن « مِنْ » ههنا للبدل ، أي : لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت « مِنْ » لتضمن المغفرة معنى إبدالها م الذُّنوبِ .
وقال القاضي : ذكر الأصم أنَّ كلمة « مِنْ » ههنا تفيد التبعيض ، أي : أنكم إذا [ تبتم ] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر ، وأمَّا التي تكون من الصغائر ، فلا حاجة إلى غفرانها؛ لأنها في أنفسها مغفورة .
قال القاضي : وقد أبعد في هذا التأويل؛ لأنَّ الكفار صغائرهم ، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة ، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً ، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة ، فلا يغفر له له شيء ، ثم قال : وفيه وجه آخر : وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته ، وإيمانه؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه ، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه .
فصل
قال ابن الخطيب : دجلت الآية على أنه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن ، لأنه قال { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة ، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن كلمة « مِنْ صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول : المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ ، أو نقول : المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم ، أو نقول : المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه ، كما قاله القاضي .
فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة ، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة .
وأما قوله الواحدي : المراد من كلمة » مِنْ « ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة؛ لأن حاصه أنَّ قوله تعالى جل ذكره { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي : يغفر لكم ذنوبكم ، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة ، وحكى عن سيبويه إنكاره .
وأما قوله : المراد منه إبدال السيئة بالحسنة ، فليس في اللغة أنَّ كلمة » مِنْ « تفيد الإبدال .
وأما قول الزمخشري : المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات ، لأن هذا التعبيض إن حصل ، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجةاب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً .
وأما قول الأصم ، فقد سبق بطلانه .
وأمَّا قول القاضي : فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها ، لقوله عليه السلام : » التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ « .
وقال تعالى : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }
[ الأنفال : 38 ] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط ، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان ، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى .
قال تعالى : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } . قيل : المعنى : إن آمنتم ، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى ، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال .
وقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : يمنعكم في الدُّنيا باللذات إلى الموت .
فِإن قيل : أليس قال : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] . فكيف قال هنا : { وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؟ .
قلنا : تقدَّم الكلام في هذه المسألة في قوله : { ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى } [ الأنعام : 2 ] في الأنعام .
ولما ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام هذا الكلام للكفار قالوا : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه :
الأولى : أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيتمنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن الواحد منهم رسولاً من الله تعالى مطلعاً على الغيب ، مخالطاً لزمرة الملائكة ، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون : إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضاً أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة ، وهي الحاجة إلى ألاكل ، والشرب ، والحديث والوقاع ، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } : أي في الصورة ولستم ملائكة ، وإنَّما تريدنون بقولكم أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا .
وهذه الشبهة الثانية : وهي التمسك بالتقليد ، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان .
قالوا : ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين .
الشبهة الثالثة : قالوا : المعجز لا يدلُّ على الصدق؛ لأن الذي جاء به أؤلئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنَّها أمور متعادة ليست من باب المعجزات الخارجية عن قوَّة البشر؛ فلذلك قالوا : « فأتُونَا بسُلْطانٍ مُبِينٍ » أي : بحجة بينة على صحَّة دعواكم .
قوله « تُرِيدُونَ » يجوز أن يكون صفة ثانية ل « بَشرٌ » وحمل على معناه ، لأنه بمنزلة القوم والرهط ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] وأن يكون مستأنفاً .
وقوله : « أنْ تَصدُّونَا » العامة على تخفيف النون ، وقرأ طلحة بتشديدها كما شدد : « تدعونّا » وفيها تخريجان :
أحدهما : ما تقدَّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النَّاصبة ، واسمها ضمير الشأن ، وشذّ عدم الفصل بينها ، وبين الجملة الفعلية .
والثاني : أنَّها ناصبة ، ولكن أهلمت حملاً على « مَا » المصدرية كقراء : { أَن يُتِمَّ } [ البقرة : 233 ] . برفع « يُتِمُّ » وقد تقدَّم القول فيه .
قوله تعالى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } الآية لما حكمة عن الكفَّارم طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جابهم فقالوا : { إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } سلموا أنَّ الأمر كذكل لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمننع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده ، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم .
وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم : إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا ، فجوابه عين الجواب المذكور ، وهو أنَّه لا يبعدُ أ ، يظهر الرَّجل الواحد مالم يظهر للخلق الكثير؛ لأن التمييز بين الحق ، والباطل ، والصدق ، والكذب عطية من الله وفضل منه؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية ، ويحرم الجمع العظيم منها .
وأما الجواب عن الشهبة الثالثة وهي قولهم : إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها ، وإنما نريد معجزات قاهرة أوقى منها ، فأجابوا عنها بقولهم : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام ، وأمَّا الأشياء التي تطلبتموها ، فأمور زائدة والحكم فيه لله تعالى فإن أظهرها فله الفضل ، وإن لم يظهرها فله العدل ، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية .
قوله : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ } يجوز أن يكون خبر : « كَانَ » « لَنَا » ، و : « إنْ نَأيِتَكُمْ » أسمها ، أي : وما كان لنا إتيانكم بسورة ، و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حالٌ ، ويجوز أن يكون الخبر { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، و « لَنا » تبين .
والظاهر أنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف ، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا نخاف من تخويفكم بعد أن تولكنا على الله : { وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } .
قوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } كقوله سبحانه : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله } [ البقرة : 246 ] .
والمعنى : ما لنا أن لا نتوكل على الله ، وقد عرفنا أنه لاينال شيء إلا بقضائه وقدره : { على مَآ آذَيْتُمُونَا } بين لنا الرشد وبصرنا النجاة .
قوله : « ولنَصْبِرنَّ ، جواب قسم ، وقوله : { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } يجوز أن تكون » مَا « مصدرية ، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس .
والثاني : أنها موصولة اسمية ، والعائد محذوف على التدرج؛ إذ الأصل : آذيتمونا به ، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن رحمه الله : بكسر لام الأمر في » فَليتَوكَّل « وهو الأصل .
والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل : الأول لاستحداث التوكل ، والثاني طلب دوامه .
قوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ } الآية لما حكى عن الأنبياء صلوات لله وسلامه عليهم توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا : { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أي لا بد من أحد الأمرين .
قوله : « لنخرنكم » جواب قسم مقدر ، كقوله : « ولنصبرن » وقوله : « أو لتعدن » في « أوْ » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين .
والثاني : أنها بمعنى : « حتَّى » .
والثالث : أنها بمعنى « إلاَّّ » كقولهم : لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي .
والقولان : الأخيران مردودان ، إذ لا يصح تركيب « حتَّى » ولا تركيب « إلاَّ » مع قوله « لتَعُودُن » بخلاف المثال المتقدم ، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي : لترجعن و « في ملَّتنا » متعلق به ، وأن يكون بمعنى الصيرورة ، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها .
فإن قيل : هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودا فيها .
فالجواب من وجوه :
أحدها : أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنَّما نشئوا في تلك البلاد؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار ، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم ، فلهذا قالوا : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } .
وثانيها : أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين .
وثالثها : قال الزمخشريُّ : « لعَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون : » صَارَ « ولكن عاد : ما عدت أراه ، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ » .
ورابعها : أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم ، فغلبوا في الخطاب الجماعة ، ولا بأس أن يقال : إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار .
وخامسها : لعل أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل ، ثم إنه تعالى نسخه تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها ، وعلى هذا التقدير ، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة .
ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أو حى الله عزَّ وجلَّ أليهم { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } .
قوله : « لنُهْلِكنَّ » جوب قسم مضمر ، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان :
أحدهما : أنه على إضمار القول ، أي : قال لنهلكن .
والثاني : أنه أجرى الإيحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه .
وقرأ أبو حيوة « ليُهْلِكنَّ » و « ليُسْكِننَّكُمْ » بياء الغيبة مناسبة لقوله : « ربُّهُمْ » والمراد بالأرض : أرض الظالمين ، وديارهم ، وأموالهم وقال عليه الصلاة والسلام : « مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثُه اللهُ دارهُ »
وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه .
قوله : { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } « ذلِكَ » مبتدأ ، وهو مشار به إلى توريث الأرض ، ولمَنْ خَافَ « هو الخبر ، و » مَقامِي « فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مقحم ، وهو بعيد؛ إذ الأسماء لا تقحم .
الثاني : أنه مصدر مضاف للفاعل .
قال الفراء : » مَقامِي « مصدر مضاف لفاعله أي : مقامي عليه بالحفظ .
الثالث : أنه اسم مكان .
قال الزجاج : » مكان وقوفه بين يدي الحساب ، كقوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ الرحمن : 46 ] فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كقولك : نَدِمْتُ على ضَربِكَ ، أي : على ضَرْبِي أيَّاك ، و « خَافَ وعِيدِ » أي : عقابي ، أثبت الياء هنا ، وفي « ق » في موضعين : { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] ، { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] وصلاً ، وحذفها وقفاً ورش ، والباقون وصلاً ووقفاً « .
فصل
في تفسير المقام وجوه :
الأول : موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة ، كقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ النازعات : 10 ] .
الثاني : أن المقام مصدر كالقيام ، يقال : قَامَ قِيَاماً ، ومقَاماً ، أي : لمن خاف مقامي ، أي : مقام العباد عندي ، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول .
الثالث : لمن خاف مقامي ، أي : لمن خافني ، وذكر المقام هنا ، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني ، والمراد : السَّلام على فلان .
قوله : { وَخَافَ وَعِيدِ } قال الواحدي : الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد .
قال ابن عباس : خاف ما أوعدت من العذاب .
وهذا الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله تعالى غير الخوف من عيده؛ لأن العطف يقتضي المغايرة .
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قوله : { واستفتحوا } العامة على « اسْتفْتَحُوا » فعلاً ماضياً ، وفي ضميره أقوال :
أحدها : أنه عائد على الرًّسلِ الكرام ، ومعنى الاستفتاح : الاستنصار كقوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] .
وقيل : طلب الحكم من الفتاحة ، وهي الحكومة ، كقوله تعالى : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] .
الثاني : أن يعود على الكفار ، أي أستفتح أمم الرسل عليهم؛ كقوله تعالى : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] وقيل : عائد على القولين؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه .
وقيل : يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا ، وهو على هذا مستأنف ، وأما علىغيره من الأقوال فهو عطف على قوله : « فاوحى إليهم » .
وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رضي الله عنهم « واستفتحوا » على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة ، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل ، والتقدير : قال لهم : لنهلكن ، وقال لهم : استفتحوا .
قوله : « وخاب » هو في قراءة العامة عطف على محذوف ، وتقيدره : استفتحوا ، فنصروا ، وخاب ، ويجوز أن يكون عطفاً على « استفتحوا » على أن الضمير فيه للكفار ، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس .
إن قلنا : المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فنصورا وظفروا ، وهو قول مجاهد وقتادة ، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ، ودعوا على قومهم بالعذاب ، كما قال نوح صلوات الله عليه : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] .
وإن قلنا : المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل ، وذلك أنههم قالوا : « اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا » نظيره : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] . « وخَابَ » ما أفلح . وقيل : خر . وقيل : هلك كل جبّار عنيد . والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً ، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه ، وهذا الوصف لا يكون إلا الله عزَّ وجلَّ .
وقيل : الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده ، والجبَّار هنا : المتكبر على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته ، ومنه قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] .
قال أبو عبيدة : « الأجْبَر يقال فيه جبريّة ، وجَبرُوَّة ، وجَبرُوت » .
وحكى الزجاج : « الجِبْرُ ، والجِبْرِية ، والجِبَّارة ، الجِبْرِيَاءُ » .
قال الواحديُّ : « فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار ، ومنه الحديث : » أن امرأة حضرت النبي صلى الله عليه وسلم فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ ، فقال عليه الصلاة والسلام : « دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ »
أي : مستكبرة « ، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه :
قال البصريون : أصل العُنُود : الخلاف ، والتباعد ، والترك .
وقال غيرهم : أصله من العَنْد وهو النَّاحية ، يقال : هو يمشي عنداً ، أي : ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه ، قاله مجاهد .
وقال ابن عبَّاس رضي الله عنه : هوالمعرض عن الحق . وقال مقاتلٌ : هو المتكبّر وقال قتادة : العَنِيدُ الذي أبى أن يقال : لا إلهَ إلاَّ الله .
ثم ذكر كيفية عذابهن فقال : » مِنْ وَرائِهِ « جملة في محلّ جر صفة ل » جبَّارٍ « ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار ، و » جهنم : فاعل به .
وقوله : « ويسقى » صفة معطوفة على الصفة قبلها . عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده ، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية .
وقيل : عطف على محذوف ، أي : يلقى فيها ، ويُسْقَى .
و « وَرَاءِ » هنا على بابها ، وقيل بمعنى أمام ، فهو من الأضداد ، وهذا عنى الزمخشري بقوله : « مِنْ بَيْنِ يَديْهِ » وأنشد : [ الوافر ]
3200 عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب
وهو قول أبي عبيدة و ابن السِّكيت ، وقطرب ، وابن جريرٍ؛ وقال الشاعر في ذلك : [ الطويل ]
3201 أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَئِيَا
أي : قُدَّامي؛ وقال الآخر : [ الطويل ]
3202 أليْسَ وَرائِي إنَّ تَراخَتْ مَنيَّتِي ... لزومٌ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ
وقال ثعلب : هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك ، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام ، ويقال : المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ ، وقال تعالى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] أي : أمامهم .
وقال ابن الأنباري : وراء بمعنى بعد ، قال الشاعر : [ الطويل ]
3203 .. وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ
ومعنى الآية : أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم .
قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } في « صديد » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّه نعت ل « مَاءٍ » . وفي تأويلان :
أحدهما : أنه على حذف أداة التشبيه ، أي : ماء مثل صديد ، وعلى هذا فليس الماء الذي تشربونه صديداً ، بل مثله في النَّتنِ ، والغلظ ، والقذارة ، كقوله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل } [ الكهف : 29 ] .
والثاني : أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء ، وليس هو بماء حقيقة ، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء ، وهو قول ابن عطية ، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره . وفيه نظرٌ ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدق بمعنى مصدود ، أخذه من الصَّدِّ ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه ، أي : يمتنع عليه كل أحد .
الثاني : أنه عطف بيان ل « مَاءٍ » ، وإليه ذهب الزمخشري ، وليس مذهب البصريين [ جريانه ] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً .
الثالث : أن يكون بدلاً ، وأعرب الفارسي « زَيْتُونةٍ » من قوله تعالى { مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ }
[ النور : 35 ] عطف بيان أيضاً .
واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان ، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين .
والصَّديد : ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار . وقيل : ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ .
قوله : « يتَجرَّعهُ » يجوز أن تكون الجملة صفة ل « مَاءٍ » وأن تكمون حالاً من الضمير في « يُسْقَى » ، وأن تكمون مستأنفة ، وتجرَّع : « تَفعَّل » وفيه احتمالات :
أحدها : أنه مطاو ل « جَرَّعْته » نحو « علَّمتهُ فتعلَّمَ » .
والثاني : أنه يكون للتكلف ، نحو « تحَلَّم » ، أي : يتَكلَّف جرعهُ ، ولم يذكر الزمخشري غيره .
الثالث : أنه دالٌّ على المهلة ، نحو تفهَّمتهُ ، أي : يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم .
الرابع : أنه بمعنى جرع المجرد ، نحو : عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه .
والمعنى : يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة ، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ .
قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } في « يَكادُ » قولان :
أحدهما : أن نفيهُ إثبات ، وإثباتهُ نفيٌ ، فقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول : ما كدت أقومُ أي : قمتُ بعد إبطاءٍ ، قال تعالى : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] أي : فعلوا بعد إبطاء ، ويدلّ على حصول الإساغة قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } [ الحج : 20 ] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة . وقوله : « يَتجرَّعهُ » يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء .
والقول الثاني : أنَّ « كَادَ » للمقاربة ، فقوله « وَلا يَكادُ » لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه ، فكيف تحصل إلا ساغة؟ .
كقوله تعالى : { لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } [ النور : 40 ] ، أي : لم يقرب من رؤياها ، فكيف يراها؟ .
فإن قيل : فقد ذكرتم الدليل على الإساغة ، فكيف يجمع بين القولين؟ .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنَّ المعنى : ولا يسيغ جميعه .
والثاني : أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر ، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة : إجراء الشرب في [ الحلق ] بقبول النفس ، واستطابة المشروب ، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه ، أي : لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل : « لا يَكَادُ » على نفي المقاربة .
قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي : أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات .
واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة .
فمنهنا : ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات ، كقوله تعالى : { يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } [ الحديد : 17 ] .
ومنها : زوال القوة العاقلة ، وهي الجهالة ، كقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [ الأنعام : 122 ] { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } [ النمل : 80 ] .
ومنها : الحزن والخوف المكدران للحياة ، كقوله تعالى : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] .
ومنهنا : النوم ، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ { والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] .
وقد قيل : النوم : الموتُ الخفيف ، والموتُ : النوم الثقيل ، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل ، والسؤال ، والهرم ، والمعصية ، وغير ذلك ، ومنه الحديث « أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى » .
وحديث موسى صلوات الله سلامه عليه حين قال له ربه : « [ أمَا ] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ » .
ولنرجع إلى التفسير ، فنقول : قيل : بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعظائه .
وقيل : يأتيه الموت من الجهات السّت { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } فيستريح .
قال ابن جريج : تعلق روحه عند حنجرته ، ولا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة ، نظيره : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ طه : 74 ] .
قوله : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } في الضمير وجهان :
أظهرهما : أنه عائد على « كُلِّ جبَّارٍ » .
والثاني : أنه عائد على العذاب المتقدم .
قيل : العذاب الغليظ : الخلود في النار .
وقيل : إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله ، وتقدم الكلام على معنى « مِن وَرائهِ » .
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ } الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين عبده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة ، وذلك هو الخسران الشديد .
وفي ارتفاع : « مَثَلُ » أوجه :
أحدها : وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم ، وتكون الجملة من قوله : { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : كيف مثلهم؟ فقيل : كَيْتَ وكَيْتَ « والمثل : مستعار للصفة التي فيه غرابة ، كقوله : صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ ، مالهُ مَبْذولٍ » .
الثاني : أن يكون « مثل » مبتدأ ، و « أعمالهم » مبتدأ ثان ، و « كَرمَادٍ » خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل .
قال ابن عطيَّة : « وهذا عندي أرجحُ الأقوال ، وكأنك قلت : المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة » وإليه نحا الحوفي .
قال أبو حيان : « وهو لا يجوز؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيه يربطها بالمبتدأ ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى ع رابط » .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « بل الجملة نفس المبتدأ ، فإن نفس مثلهم هو » أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ « في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً ، ولا يبقى له أثر ، فهو نظير قولك : » هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ « وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً؛ فإنه قال : » أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد ، كقولك : « صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول » فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد « .
الثالث : أنَّ » مَثَلُ « زائدة ، قاله الكسائي والفراء ، أي : الذين كفروا أعمالهم كرماد ، ف » الَّذينَ « مبتدأ ، و » أعْمالهُمْ « مبتدأ ثاني ، و » كَرَمادٍ « خبره ، وزيادة الأسماء ممنوعمة .
الرابع : أن يكون » مثلُ « مبتدأ ، و » أعْمَالهُم « بدل منه على تقدير : مثل أعمالهم و » كَرمَادٍ « الخبر ، قاله الزمخشري . وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم .
الخامس : أنه يكون » مثل « مبتدأ ، و » أعمالهم « بدلٌ منه بدل اشتمال و » كرماد « الخبر . كقول الزباءِ : [ الرجز ]
3204 مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا ... أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا
السادس : أن يكون التقدير : مثل أعمال الذين كفروا ، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ ، قال الزمخشريُّ .
السابع : أن يكون » مَثَلُ « مبتدأ ، و » أعْمَالهُم « خبره ، أي : مثل أعمالهم فحذف المضاف ، و » كَرمَادٍ « على هذا خبر مبتدأ محذوف .
وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل : » ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال « أعْمالهُمْ » من : « الَّذينَ » ، وهو بدل اشتمال « .
يعنى أنَّه كان يقرأ « أعْمَالهُمْ » مجرورة لكنَّه لم يقرأ به
« والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام ، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة ، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ » .
والرَّمادُ : الشبه المحكم ، يقال : أرْمدَ الماءُ ، أي : صار بلونِ الرَّمادِ .
والأرْمَدُ : مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ ، وقيل للبعوض : رمدٌ لذلك ، ويقال : رمادٌ رَمْدٌ ، أي : صار هباء .
قوله تعالى : { اشتدت بِهِ الريح } في محل جر صفة ل « رَمَادٍ » ، و « فِي يَوْمٍ » متعلق ب « اشْتَدَّتْ : وفي » عَاصِفٍ « أوجه :
أحدها : أنه على تقرير : عاصف ريحه ، أو عاصف الريح ، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل » يَوْم « مجازاً ، كقولهم : يَومٌ ماطرٌ ، وليْلٌ قَائمٌ .
قال الهرويُّ : فحذفت لقتدم ذكرها ، كما قال : [ الطويل ]
3205 إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ .. .
أي : كاسف الشمس .
الثاني : أنه عائد على النِّسب ، أي : ذي عصوف ، كلابن وتامر .
الثالث : أنه خفض على الجوار ، أي : كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب ، فيقال : اشتدت الريحُ العاصفة في يومٍ ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه ، كقولهم : » جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ « .
وفي جعل هذا من باب الفخض على الجوار نظر؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كمثال المذكور ، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً ، وتنكيراً في هذا [ التركيب ] الخاص .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق : [ » يَوْمٍ عَاصفٍ « ] وهني على حذف الموصوف ، اي : في يوم ريح عاصف ، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك .
ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو : » البَقْلةُ الحَمْقَاء « . ويقال : ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ ، وأصله من العصف ، وهو ما يكبر من الزرع ، فقيل ذلك للريح الشديد؛ لأنَّها تعصف ، أي : تسكر ما تمرُّ به
قوله : » لاَ يَقدِرُونَ « مستأنف ، ويضعف أن يكون صفة ب » يَوْمٍ : على حذف العائدِ أي : لا يقدرون فيه ، و « ممَّا كَسبُوا » متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من « شَيءٍ » إذ لو تأخر لكان صفة ، والتقدير : على شيء مما كسبوا .
فصل
وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم : هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر ، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ . واختلفوا ف يالمراد بتلك الأعمال ، فقيل : ما علموه من أعمال البرِّ كالصدقة ، وصلة الرحم ، وبر الواليدن ، وإطعام الجائع ، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله ، ولولا كفرهم لانتفعوا بها .
وقيل : المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام ، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم ، وأتبعوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها ، فصارت وبالاً عليهم .
وقيل : المراد من أعمالهم كلا القسمين؛ لأن أعمالهم التي كانت في أنفسها خبرات قد بطلت ، والأعمال التي اعتقدوها خيراً ، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً ، وصارت في أعظم الموجبات لعذابهم ، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال : { هُوَ الضلال البعيد } .
قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم ، وإعراضهم عن قبول الحق ، وأنَّ الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً ، وكيف يليق بالححكمةم أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب؟
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } قرأ أبو عبدالرحمن رحمه الله تعالى : بسكون الراء ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف .
والثاني : أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم ، فقالوا : « ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان » فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم ، ونظيره « لَمْ أبَلْ » فإن أصله : أبالِي ، ثم حذفوا لامه رفعاً ، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه ، وتوهموا الجزم في اللام ، والرُّؤية هنا قلبية ف « أنَّ » في محل المفعولين ، أو أحدهما على الخلاف .
وقرأ الأخوان هنا : « ( خالق السماوات والأرض ) » خَالِقُ « اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه ، وهو » الأرض « ، وفي » النور « : » خالقُ كُلِّ دابّةٍ « [ أية : 45 ] اسم فاعل مضاف لما بعده ، والباقون : » خَلَقَ « فعلاً ماضياً ، ولذلك نصبوا : » الأرْضَ « و { كُلَّ دَآبَّةٍ } [ النور : 45 ] وكسر » السَّمواتِ « في قراءة الأخوين خفض ، وفي قراءة غيرهما نصب ، ولو قيل : في قراءة الأخوين : يجوز نصب » الأرْضَ « على أحد وجهين ، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون » السَّموات « منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به .
و » بِالحقِّ « متعلق به » خَلَقَ « على أنَّ الباء سببيَّة ، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل ، أي : محقَّا ، أو من المفعول ، أي : متلبسة بالحق .
قوله » بالحَقِّ « تقدم نظيره في يونس { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } [ يونس : 5 ] أي : لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح .
قم قال عزَّ وجلَّ { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } والمعنى : من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق ، فبأن يقدر على [ إفناء ] قوم إماتتهم وعلى أيجاد آخرين أولى؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار ، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم .
{ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } أي : ممتنع لما ذكرنا من الأولوية .
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قوله : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم ، وكيفية افتضحاهم عندهم .
و « بَرَزَ » معناه في اللغة : ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره .
وقيل : في قوله تعالى : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] أي : ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ : إذا كانت تعظهر للنَّاس ، ويقال : فلانٌ برز على أقرانه ، إذا فاقهم وسبقهم ، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل : بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها .
وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق ، فصار كأنه قد حصل ، ودخل في الوجود ، كقوله تعالى : { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] .
فصل
البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ ، فلا بد من التأويل ، وهو من وجوه :
الأول : أ ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله تعالى وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية .
والثاني : أنَّهم خرجوا من قبورهم ، فبرزوا لحساب الله تعالى قالت الحكماءُ :
إنَّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء ، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى .
ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء « إنّا كنا لكم تعباً » أي : إنما اتبعناكم لهاذ اليوم « فَهلْ أنتُم مُّغنُونَ » دافعون : { عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } .
و « تَبَعاً » يجوز أن يكون جمع تابع ، كخَادِم وخَدَم ، وغَائِب وغَيَب ونَافِر ونَفَر ، وحَارِس وحَرَس ، ورَاصِد ورَصَد .
ويجوز أن يكون مصدراً ، نحو : قَوْمٌ عَدْلٌ ، ففيه التأويلات المشهورة .
قوله : { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } في « مِنْ » و « مِنْ » [ أربعة ] أوجه :
أحدها : أنَّ « مِنْ » الأولى للتبيين ، والثانية للتبعيض ، تقديره : مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اله ، قاله الزمشخريُّ .
قال أبو حيان : هذا يقتضي التقديم في قوله : « مِنْ شيءٍ » علتى قوله : « من عذاب الله؛ لأنه جعل » من شيء « هو المبين بقوله : » من عذاب الله « و » من « التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر .
قال شهاب الدِّين : كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى؛ فإن » من عذاب الله « لو تأخر عن » شيء « كان صفة له ، ومبيناً ، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال ، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير .
الثاني : أن يكونا للتبعيض معاً ، بمعنى : هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله؛ أي : بعض بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري .
قال أبو حيان : وهذا يقتضى أن يكون بدلاً ، فيكون بدل عام من خاص ، وهذا لا يقال؛ فإن بعضيه الشيء مطلقة ، فلا يكون لها بعض .
قال شهاب الدين : لا نزاع أنه يقال : بعض البعض ، وهي عبارة متداولة ، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله ، وهذا كالجنس المتوسط ، هو نوع لما فوقه ، جنس لما تحته .
الثالث : أن « مِنْ » في « مِنْ شَيءٍ » مزيدة ، و « مِنْ » في « مِنْ عذابِ » فيها وجهان :
أحدهما : أن تتعلق بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفة ل « شيء » فلما تقدمت نصبت على الحال .
والثاني : أنها تتعلق بنفس « مغنون » على أن يكون « من شيء » واقعاً موقع المصدر ، أي : غناء ، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء رحمه الله تعالى قال : و « من » زائدة أي شيئاً كائناً من ذاب الله سبحانه وتعالى ، ويكون محمولاً على المعنى ، تقديره : هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون « شيء » واقعاً موقع المصدر ، أي غناء ، فيكون « من عذاب الله » متعلقاً ب « مغنون » ، و « من » في « من شيء » لاستغرق الجنس زائدة للتوكيد .
فصل
هذه التعبية يحتمل أن يكون المراد منها التعبية في الكفر ، ويحتمل أن يكون المراد منها التعبية في أحوال الدنيا ، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء : « لو هدانا الله لهديناكم » قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم . قال الواحدي : معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم ، فدعوا أتباعهم إلى الضلال ، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى .
قال الزمخشري : لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه ، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ } [ المجادلة : 18 ] .
واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة ، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخة ، فلا يقبل .
وقال الزمخشري : يجوز أن يكون المعنى : لو كنا من أهل اللطف ، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان .
وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال : لا يجوز حمل هذا على اللطف؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى .
وقيل : لو خلصنا الله من العذاب ، وهدانا إلى طريق النجنة ، لهديناكم؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه .
قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } إلى آخره فيه قولان :
أحدهما : أنه من كلام المستكبرين .
والثاني : أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معاً ، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كافٍ في الإخبار ، وقد تقدَّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة .
والجَزَعُ : عدمُ احتمالِ الشدَّة ، قال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3206 جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البيْنِ مَجْزَعاً ... وعَزَّيْتُ قلْباً بالكَواعِبش مُولعَا
وقال الراغب : « أصل الجَزْعِ : نقطعُ الحَبْلِ ، يقال : جَزعْتهُ فانْجَزعَ ومنه : جِزْعُ الوادي لمنقطعة ، ولانقطاع اللون بتغيره .
وقيل للخرز المتلون : جِزْع ، واللحم المُجَزَّعُ : ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة : أن تبلغ الأرطاب نصفها ، والجَاذِعُ : خشبة تجعل في وسط لبيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين ، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت » .
والجَزَع أخص من الحزن ، فإن الجزع حزنٌ يصرف الإنسان عما هو بصدده .
والمَحِيصُ : يكون مصدراً كالمَغِيب والمَشِيب ، ويكون اسم مكان ، كالمَبِيت والمَضِيق ويقال : حَاصَ عنه وحَاضَ بمعنى واحد ، ويقال : خاض بالضاد المعجمة ، وجصنا بها بالجيم .
والمعنى : مالنا من ملجأ ولا مهرب . فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } .
قوله : { وَعْدَ الحق } يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف الصفته ، كقوله تعالى : { وَحَبَّ الحصيد } [ ق : 9 ] ومسجد الجامع ، أي : الوعد الحق ، وأن يراد ب « الحقِّ » صفة الباري تعالى ، أي : وعدكم الله وعده الحق ، وأن يراد ب « الحَقِّ » البعث ، والجزاء على الأعمال ، فتكون إضافة صريحة .
وقيل : وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً ، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين :
الأول : التقدير : أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد؛ يقتضي مفعولاً ثانياً ، وحذف للعلم به تقديره : ووعدتكم أن لا جنّة ، ولا نار ، ولا حشر ، ولا حساب .
فصل
لما [ ذكر ] الله سبحانه وتعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر } قال المفسرون : إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة ، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه ، فيقوم فيما بينهم خطيباً ، فيقول : « إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ » .
وقيل : المراد من قوله تعالى : { لَمَّا قُضِيَ الأمر } أي : لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان : إبليس لعنه الله! .
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي : قدرة وتسلط ، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي .
قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه استثناء منطقع؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان ، وهو الحجة البينة فهو كقولكم : ما تَحِيَّتُم إلاَّ الضرب .
والثاني : أنه متصل؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه ، فهو نوع من التسلُّط .
وقرىء « فَلا يَلُومُونِي » بالياء من تحت الالتفات ، كقوله تعالى : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم }
[ يونس : 22 ] .
ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام .
ومعنى الآية : ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي ، ولا تلتفتوا إليَّ ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ .
قالت المعتزلة : هذه الآية تدل على أشياء :
أحدها : أنه لو كان الكفر والمعصية من الله تعالى لوجب أن يقال : فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله تعالى قضى عليكم بالكفر ، وأجبركم عليه .
والثاني : أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان ، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله .
والثالث : يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه ، وذمه ، وعقابه بسبب فعل الغير ، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم .
وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه : بأن هذا قول الشيطان ، فلا يجوز التمسك به .
وأجاب الخصم عنه : بأنه لو كان هذا الوقل منه باطلاً لبينه الله تعالى وأظهر إنكاره ، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل ، والقول الفاسد .
ألا ترى أن قوله : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } كلام حق ، وقوله { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } قول حق بدليل قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } [ الحجر : 42 ] .
قال ابن الخطيب رحمه الله : دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [ الأصلي ] هو النفس؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة ، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة ، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس .
فإن قيل : لِمَ قال الشيطان : « فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ » وهو ملوم بسبب وسوسته؟ .
فالجواب : أراد لا تلوموني على فعلكم : « ولوموا أنفسكم » عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم .
قوله تعالى : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } العامَّة على فتح الياءِ؛ لأ ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً ، لاسيما وقبلها كسرتان .
وقرأ حمزة بكسرها ، وهي لغة بني يربوع ، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضراباً شديداً ، فمن مجترىء عليها ، ملحن لقارئها ، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال : إنَّها لغة بني يربوع ، والأصل : بمُصرخينَ لي [ فحذفت ] النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، ومن مجوِّز لها بضعف .
قال حسين الجعفيُّ رحمه الله : سألت أبا عمرو عن كسر الياء؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم .
ومنها : سألت أبا عمرو ، قلت : إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها ، فقال : هي جائزة عن القرآن ، فوجته به عالماً ، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش ، [ واستقرأ ] به : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجر ، فقلا : هي جائزة ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها .
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة ، ولا التفات إليه؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن ، واللغة ، والنحو ، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني : [ البسيط ]
3207 وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ ... لمْ يَسْتطِعْ صَوْلشةَ البُزْلِ القَناعِيسِ
ثم ذكر العلماؤ في ذلك التوجيهات :
منها : أن الكسر على أصل التقاء الساكنين ، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون ، فلما التقيا كسرت؛ لالتقاء الساكنين .
الثاني : أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و « هاء » الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة ، وبياء إذا كانت مكسورة ، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة؛ فتكسر كما تكسر الهاء في : « عَليْهِ » ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو «
عليهي » بياء ، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة ، إذ أصله يقتضي عدمها .
وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع .
قال : يزيدون على ياء الإضافة ياء؛ وأنشد : [ الرجز ]
3208 مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قَال لهَا : هَلْ لَكِ يَا تَفِيِّ
وأنشده الفراء وقال : فإن يك ذلك صحيحاً ، فهو مما يلتقي من السكانيني فنخفض الآخر منها .
وقال أبو علي : قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له : زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب ، وكان ثقة بصيراً .
وممن طعن عليها أبو إسحاق قال : هذه القرءاة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة ، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف .
وقال أبو جعفر : « صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله عزَّ وجلَّ على الشذوذ » .
وقال الزمخشري : هي ضعيفة ، واستشهدوا لها ببيت مجهول : [ الرجز ]
3209 قَال لهَا : هَلْ لكِ يَا تَافيِّ ... قالتْ لهُ : مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ
وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة ، وقبلها ياء سكانة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين ، ولكنه غير صحيح؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو : عَصَاي ، فما بالها وقبلها ياء؟ .
فإن قلت : جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام ، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل .
قلت : هذا قياس حسنٌ ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات .
قال أبو حياان رحمه الله تعالى : « أما قولهن : واستشهدوا لها ببيت مجهول ، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي ، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم ، يقولون : ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء » .
قال شهابُ الدِّين : الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه ، وأول هذا الرجز :
3210 أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ ... عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ
ثم قال أبوة حيان : « وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله : في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف ، فلا أعلم » حيث « يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف ، نحو : » قعد زيد حيث أمام عمرو بكر ، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع « .
قال شهابُ الدين رحمه الله : » إطلاق النحاة قولهم : إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا ، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية « .
ثم قال : وأما قوله : لأن ياء الإضافة إلى آخره ، قد روي بسكون الياء بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراء ، نحو : { وَمَحْيَايَ } [ الأنعام : 162 ] .
قال شهاب الدين : مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا ، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنهن محل البحث ، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح ، وهو قوله : [ الطويل ]
3211 عَليَّ لِعمْرٍو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ ... لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب » المَعانِي « له : » وقد خفض الياء من « مصرخي » الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش ، ولعلها من وهنم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم ، ولعله ظن أنَّ الياء في { بِمُصْرِخِيَّ } خافضة للفظ كله ، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك؟ قال : ومما [ نرى ] أنهم وهموا فيه قوله { نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } [ النساء : 115 ] بالجزم في الهاء « ، ثمَّ ذكر غير ذلك .
وقال أبوعبيدٍ : أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها ، وقد كان في القراء من يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله ، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها .
وقال الأخفش : » ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين « .
قال النحسا : فصار هذا إجماعاً ، ولا يجوز ، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب .
وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال في حجَّته : » وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر ، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في « أكْرَمْتُكَ » وهذا لك ، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في « هذال لهو ، وضربهو » ، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من ق ل : « أعْطَاكهُ » و « أعْطَيْتكَهُ » فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء ، ولحقت الياء الزيادةم في قول الشاعر : [ الهزج ]
3212 ، رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ ... ومَا أخْطَأتِ [ في ] الرَّميَه
كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد ، فقالوا : فيِّ ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال : [ الطويل ]
3213 .. . . . لَهْ أرِقَانِ
وزعم أبو الحسن : أنَّها لغة « . ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله : » له أرِقَانِ « حذف الصلة ، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركمة ولو مثل بنحو » عَليْهِ « و » فِيهِ « لكان أولى .
ثمَّ قال الفارسي : كما حذفت الزيادة من الكاف فقيلك أعطيتكه ، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها ، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ .
قال\ : فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ ، وإن كان من غيرها أفشى منها ، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز .
لقائل أن يقول : إنَّ القراءة بذلك لحن ، [ لاستقامة ] ذلك في السَّماع والقياس ، وما كان كذلك لا يكون لحناً ، وهذا [ التوجيه ] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره ، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً .
قال الزجاج : » أجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر؛ لأن أصل التقاء السكانين الكسر « .
قال الفراء : » ألا ترى أنهم يقولون : مذُ اليوم ، ومُذِ اليوم ، والرفع في الذال هو الوجه؛ لأنه أصل حركة « مُذْ » والخفض جائز ، فكذلك الياء من « مُصرخِيِّ » خفضت ولها أصل في النصب « .
قال شهاب الدين : تشبيه الفراء المسألة ب » مُذُ اليَوْم « فيه نظر؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر ، بخلاف ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم : فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح ، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [ نقل ] بعضهم عنه ، التخطئة مرة [ والتصويب ] أخرى ، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال ، وهني مختلفة التوجيه .
الثالث : أن الكسر للإتباع لما بعدها ، وهو كسر الهمزة من » إنِّي « كقراءة » الحَمْدِ للهِ « وكقولهم : بِعِير وشِعِير ، وشِهِيد ، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا .
التوجيه الرابع : أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء ، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام ، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت ، وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد ، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح .
والمُصْرِخ : المُغِيثُ : يقال : استصرختُه فأصرخني ، أي : فأغَاثِني فكأن همزة للسكت ، أي : أ زَالَ صُراخِي . والصَّارخُ : هو المُسْتَغِيثُ ، قال : [ الطويل ]
3214 فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر
ويقال : صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة؛ قال : [ البسيط ]
3215 كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ
يريد : كان [ الصراخ ] ، فحذف المضاف ، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي ، نحو { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والصَّريخُ : القومُ المُسْتَرخُونَ ، قال : [ الكامل ]
3216 قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ
والصَّريخُ : أيضاً : المعينون ، فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أن يكون [ وصفاً ] على « فَعِيل » كالخليطِ ، وأن يكو مصدراً في الأصل ، قال « فَلا صَريخَ لَهُمْ » ، فهذا يحتمل ، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ .
قوله : { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } يجوز في « ما » وجهان :
[ أحدهما : أن يكون بمعنى الذي ، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان : ]
أحدهما : أنه الأصنام ، تقديره : بالصَّنم الذي أشركتموني به ، أي : بالصنم الذي « اطعتموني كما أطعتموه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائد محذوف ، فقدره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حذف يعني بعد حذف الجار ، ووصول العفل إليه ، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد ، نحو : شركتُ زيداً ، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً ، هو العائد ، تقول : أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً ، أي جعلتهُ شريكاً له .
الثاني : أنه الباري تعالى ، أي : بما أشركتموني به ، أي : بالله تعالى .
قال القرطبي : المعنى : أن إبليس قال : إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم ، أي : أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه ، وتكون » مَا « بمعنى » مَنْ « والكلام في العائد كما تقدَّم ، إلا أن فيه إيقاع » مَا « على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل .
قال الزمخشري : » ونحو « مَا » هذه « مَا » في قوله : « سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا » ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان « .
قال أبو حيان : » ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح ، كما جعل « برَّة » علماً للمبرة ، و « ما » مصدرية ظرفية « ، أي : فيكون على حذف مضاف أي : سبحان صاحب تسخيركن؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله عزَّ وجلَّ . .
الوجه الثاني : أن » ما « مصدرية ، اي : بإشراككم إياي مع الله ، لي الطاعة .
قوله » مِنْ قَبْلُ « متعهلق ب » كَفرْتُ « على القول الأوَّل؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله سبحانه وتعالى ، وب » أشْرَكْتُ « على الثاني ، أي : كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي : في الدنيا ، كقوله { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] ، هذا قول الزمخشري رحمه الله .
وجوَّز أبو البقاء متعلقه ب » كَفرْتُ « وب » أشْرَكْتمُونِي « من غير ترتيب على كون : » مَا « مصدرية أوموصولة .
فقال : و « مِنْ قَبْلُ » متعلق ب « أشْرَكْتمُونِي » ، أي : كفرت الآن بما أشركتموني من قبل .
وقيل : هي متعلقة ب « كَفرْتُ » أي : كفرت من قبل إشراككم ، فلا أنفعكم شيئاً .
وقرأ ابو عمرو بإثبات الياء في « أشْرَكْتمُونِي » وصلاً ، وحذفها وقفاً ، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ، وهنا تم كلام الشيطان .
وقوله { إِنَّ الظالمين } من كلام الله تعالى ، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان .
و « عَذابٌ » يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر ، وعلى الابتداء وخبره الجار .
قوله تعالى : { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السُّعداءِ فقال ، عزَّ وجلَّ { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ } قرأ العامة « أدْخِلَ » ماضياً مبنياً للمفعول ، والفاعل الله أو الملائكة .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد : « أدخلُ » مضارعاً مستنداً للمتكلم وهو الله تعالى فمحل الموصول على الأولى رفع ، وعلى الثانية نصبٌ .
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } في قراءة العامة يتعلق ب « أدْخِلَ » أي : أدخلوا بأمره ، وتيسيره .
ويجوز تعلقه بمحذوف على أنَّه حال ، أي : ملتبسين بأمر ربهم .
وجوز أبو البقاء ِأن يكون من تمام : « خَالِدينَ » يعني : أنه متعلق به ، وليس بممتنع ، وكذا على قراءة الشَّيخين .
فقال الزمخشريُّ : فإن قلت : « فَبِمَ يتعلَّق في القراءةِ الأخرى ، وقولك : وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم؟ .
قلت : الوجه في هذه القراءة أنَّه يتعلق بما بعده ، أي : تحيتهم فيها سلام بإذنِ ربهم » .
ورد عليه أبو حيَّان هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه .
وقد علقه غير الزمخشريِّ ب « أدْخِلَ » ، ولا تنافر في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ المتكلم في قوله : « وأدْخِلَ » أنه هو الله تعالى .
وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده ، أي : تحيتهم فيها سلامٌ بإن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنَّه حال كما تقدَّم تقديره .
و « تَحِيَّتُهُمْ » مصدر مضاف لمفعوله ، أي : يحييهم الله تعالى ، أو ملائكته ، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله ، أي : يحيى بعضهم بعضاً .
ويعضد الأول { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] و { فِيهَا } متعلق به .
فصل
أعلم أنَّ الثَّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم ، فأشار بقوله تعالى : { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } إلى المنفعة الخالصة واشار بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَا } إلى دوامها ، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي : بإذن الله وأمره ، وبقوله عزَّ وجلَّ { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ يونس : 10 ] أي : أنهم يحيى بعضهم بعضاً بهذه الكلمة ، أو الملائكة يحيونهم بها ، كما قال تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ، 24 ] والرَّب الرحيم أيضاً يحييهم [ بهذه الكلمة ] { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] والسلام مشتقش من السلامة ، أي : أنهم سلموا من آفات الدنيا آمنوا من أمرضها وأسقامها .
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قوله تعالى : { ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } لما شرح أحوال الأشقياء ، وأحوال السعداء ذكر مثالاً للقسمين وف « ضَرَبَ » أوجه :
أحدها : أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلاً ووضعه ، و « كَلِمةً » على منصوبة بمضمر ، أي : جعل كلمة طيبة كشجرة طييبة ، وهو تفسير لقوله : « ضَربَ اللهُ مَثلاً » كقولك : شَرفَ الأمير زيْداً كَساهُ حُلَّةً ، وحلمه على ضربين ، وبه بدأ الزمخشريُّ .
قال أبو حيان رحمه الله : « وفيهن تكلف إضمار ، ولا ضرورة تدعو إليه » .
قال شهاب الدين : « بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص » .
الثاني : أنَّ « ضَرَبَ » متعدية لاثنين؛ لأنها بمعنى « صَيَّرَ » لكن مع لفظ المثل خاصة ، وقد تقدَّم تقرير هذا أوَّل الكتاب ، فيكون « كَلمَةٌ » مفعولاً أولا ، و « مَثلاً » هوالثاني مقدم .
الثالث : أنَّه متعدٍّ لواحد ، وهو « مَثَلاً » ، و « كَلمَةً » بدل منه ، و « كَشجَرةٍ » خبر مبتدأ مضمر ، أي : هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون « كَشجَرةٍ » نعتاً ل : « كَلِمَةً » .
وقرىء « كَلِمةٌ » بالرفع ، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو ، أي : المثل كلمة طيبة ، ويكون « كَشجَرة » على هذا نعتاً ل « كَلِمَةٍ » .
والثاني : أنَّها مرفوعة بالابتداء ، و « كَشجَرةٍ » خبر .
وقرأ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه « ثَابِتٌ أصْلُهَتا » .
قال الزمخشريُّ : فِإن قلت : أي فربق بين القراءتين؟ قلت : قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنَّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة ، ولو قلت : مررتُ برجُلٍ أبُوهُ قَائِمٌ ، فهو أقوى من « رَجُل قَائِم أبوهُ » ؛ لأنَّ المخبر عنه إنَّما هو الأب ، لا « رجل » . والجملة من قوله : « أصْلُهَا ثَابتٌ » في محلِّ جرٍّ نعتاً ل « شَجَرةٍ » .
وكذلك « تُؤتِي أكلها » ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين ، وجواز أبو البقاء في « تُوتِي » أن يكون حالاً من معنى الجملة التي قبلها ، أي : ترتفع مؤتية أكلها ، وتقدم الخلاف في « أكُلَهَا » .
فصل
المعنى : ألم تعلم ، والمثل : قول سائر كتشبيه شيء بشيء : « كَلِمة طَيِّبةً » هي قول : لا إله إلا الله « كَشجَرةٍ طَيِّبةٍ » وهي النَّخلةُ يريد : كشجرة طيبة الثمر .
وقال أبو ظيبان عن ابن عباسٍ رضي الله عنه : هي شجرة في الجنَّة أصلها ثابت في الأرض ، وفرعها أعلاها في السماء ، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة ، والتصديق ، فإذا تكلَّم بها عرجت ، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ قال تعالى :
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] . ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طِيبَ الصورة والشكل والمنظر ، والطعم ، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت ، اي : راسخٌ آمن من الانقطاع ، والزوال ويكون فرعها في السماء؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلُّ على ثبات الأصل ، وأنَّها متى ارتفعت كانت عبدية عن عفونات الأرض ، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشَّوائبِ ، ووصفها أيضاً بأنها : « تُؤتِي أكلها كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها » والحين في اللغة هو الوقت ، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حضارة في بعض الأوقات دون بعض .
وقال مجاهد وعكرمة : والحين : سنة كاملة؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ . وقال سعيد بن جبير ، وقتادة والحسن : ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه .
وقيل : أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها .
وقال سعيد بن المسيب : شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام .
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : كل حين ، أي : كل غدوة ، وعشية ، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً ، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره ، وبركة إيمانه لا تنطقع أبداً ، بل تتصل في كلِّ وقت .
والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة ، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء :
عِرقٌ رَاسخٌ ، وأصلٌ قَائِمٌ ، وفَرعٌ عالٍ ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء : تصديق بالقلب وقول باللسان ، وعمل بالأبدان .
ثم قال تعالى جل ذكره { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } والمعنى : أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام ، وتذكير وتصوير للمعاني .
وقوله : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } قرىء بنصب « مثَل » عطفاً على : « مَثلَ » الأوَّلِ .
و « اجْتُثَّتْ » « صفة ل » شَجَرَةٍ « ، ومعنى : » اجْتُثَّتْ « قلعت جثتها ، أي : شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال : اجتث الشيء أي اقتلعه ، فهو افتعال من لفظ الجثة ، وجَثَثْتُ الشيء : قلعتهُ .
قال لقيط الإيادي : [ البسيط ]
3217 هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ ... فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا
وقال الراغب : » جُثَّةٌ الشيء : شخصه النَّاتىء ، والمُجَيَّةُ : ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ ، والجَثْجَاثُ : نَبْتٌ « .
و » مِنْ قرارٍ « يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي ، وأن يكون مبتدأ ، والجملة المنفية إمَّا نعت ل » شَجَرةٍ « وإمَّا حال من ضمير : » اجْتُثَّتْ « .
فصل في المراد بالشجرة الخبيثة
الكلمة الخبيثة هي الشرك : » كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ « وهي الحنظلُ وقيل : هي الثوم .
وقيل : هي الكشوث وهل العسَّة ، وهي شجرةٌ لا ورق لها ، ولا عروق في الأرض .
[ قال الشاعر : ] [ البسيط ]
3218 . . ... وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر
وعن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض .
« اجْتُثَّت » اقتلعت من فوق الأرض « مَا لهَا من قرارٍ » ثابت ، أي : ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا صعد له قولٌ طيب ، ولا عمل صالح .
فصل
قوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } كلمة التوحيد ، وهي قوله : لا إله إلا الله { فِي الحياة الدنيا } يعني قبل الموت ، { وَفِي الآخرة } يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين .
وقيل : { فِي الحياة الدنيا } في القبر عند السؤال { وَفِي الآخرة } عند البعث ، والأول أصح ، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } قال حين يُقالُ لَهُ : مَن ربُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبيُّكَ؟ فيقول : الله ربِّي ، ودينِي الإسلامُ ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ » واالمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر ، فيلقّن الله المؤمن لكمة الحق في القبر عند السؤال ، ويثبته على الحق .
ومعنى « الثَّابِتِ » هو أنَّ الله تعالى إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول .
قوله : « بالقَوْلِ » فيه وجهان :
أحدهما : تعلقه ب « يُثَبِّتُ » .
والثاني : أنه متعلق ب « آمنُوا » .
وقوله تعالى : { فِي الحياة } متعلق ب « يُثَبِّتُ » ويجوز أن يتعلق ب « الثَّابتِ » .
ثمَّ قال تعالى : { وَيُضِلُّ الله الظالمين } أي : لايهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر { وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ } من التوفيق والخذلان والتثبيت ، وترك التثبيت .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } الآية اعلم أنَّه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال عز وجل { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ } .
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما : { الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } هم والله كفار قريش « بدَّلُوا » أي : غيروا « نعِْمةَ اللهِ » عليم في محمد صلوات الله وسلامه عليه حيث ابتعثه الله منهم كفروا به : « أحَلُّوا » أنزلوا : « قَوْمهُمْ » من على كفرهم : « دَارَ البَوارِ » الهلاك .
ثم بيَّن دار البوار فقال : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } المستقر ، وقال عليٌّ : هم كفار قريش نُحروا يوم بدرٍ .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو [ مخزوم ] ، فأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم ، [ فأهلكوا ] يوم بدر قاله على ابن أبي طالب ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما .
وعن ابن عباس وقتادة رضي الله عنهما : نزلت في منتصري العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه .
وقال الحسنُ رضي الله عنه : هي عامَّة في جميع المشركين .
قوله تعالى : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } فيه أوجه :
أحدها : أن الأصل : بدلوا شكر نعمة الله كفراً ، كقوله تعالى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 83 ] أي شكر رزقكم؛ وجب عليهم الشكر؛ فوضعوا موضعه الكفر .
والثاني : أنَّهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنَّهم لما كفروها سلبوها ، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر حاصلاً لهم ، قالهما الزمخشريُّ ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف مضاف ، وقد تقدَّم أن « بدَّل » يعتدى لاثنين :
أولهما : من غير حرف .
والثاني : بالباء ، وأن الجمهور هو المتروكم والمنصوب هو الحاصل ، ويجوز حذف الحروف فيكون المجرور بالباء هنا هو « نِعْمَةٌ » ؛ لأنها المتروكة .
وإذاً عرف أنَّ قول الحوفي ، وأبي البقاءِ : أن « كُفْراً » هو المفعولُ الثاني ليس بجيد؛ لأنه هو الَّذي يصلُ إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر ، ما كان كذا فهو المفعول الأول .
قوله : { جَهَنَّمَ } فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدلٌ من « دَارَ » .
الثاني : أنه عطف بيان لها ، وعلى هذين الوجهين؛ فالإحلال يقع في الآخرة .
الثالث : أن ينتصب على الاشتغل بفعل مقدر ، وعلى هذا ، فالإحلال يقع في الدُّنيا ، لأن قوله : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي : واقع في الآخرة .
ويؤيَّدُ هذا التأويل : قراءة ابن أبي عبلة « جَهَنَّمُ » بالرفع على أنها مبتدأ ، والجملة بعده الخبر .
وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجهاً آخر : وهو أن ترتفع على خبر [ مبتدأ ] مضمر .
و « يَصْلونهَا » حال إمَّا من : « قَوْمَهُمْ » ، وإمَّا من « دَارَ » ، وإمَّا من : « جَهنَّمَ » .
وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب ، ولا ما يجعله مساوياً والقراء الجماهير على النصب ، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح؛ إلا لأنَّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء ، وهذا الذي ذكرناه أيضاً مرجح لنصبه على البديلة أو البيان على انتصابه على الاشتغال .
و « البَوار » : الهلاكُ؛ قال الشاعر : [ الوافر ]
3219 فَلمْ أرَ مِثْلهُم أبْطالَ حَربٍ ... غَداةَ الرَّوْع إذْ خِيفَ البَوارُ
وأصله من [ الكساد ] كما قيل : كَسَدَ حتَّى فسَدَ ، ولما كان الكَسَاد يُؤدِّي إلى الفَساد والهلاك أطلق عليه البوار .
ويقال : بَارَ يَبُورُ بُوراً وبَوَاراً ، ورجُلُ جَائِرٌ بائِرٌ ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الجمع ، وأن يكون جمع بائرٍ في المعنى ، ومن وقوع « بُور » على الواحد قوله : [ الخفيف ]
3220 يَا رسُولُ المَلِيكِ إنَّ لِسَانِي ... رَائِقٌ ما فَتقْت إذْ أنَا بُورُ
أي : هَالِكٌ .
قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ } والمراد بهذا الجعل : الحم والاعتقاد ، والفعل ، والأنداد الأشباه ، والشركاء .
« لِيُضلُّوا » قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ } بفتح الياءِ والباقون بضمها من أصله ، واللام هي لام الجر مضمرة : « أنْ » بعدها ، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجز أن تكون لللتعليل .
وقيل : هي مع فتح الياء للعاقبة فقط ، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنَّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم ، وليس كما زعم ، لأن منهم من كفر عناداً واتخذ الآلهة ليضل بنفسه .
قوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُواْ } عيشوا في الدنيا : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } { إِلَى النار } خبر « إنَّ : والمصير مصدر ، و » صَارَ « التامة ، أي : فإنَّ مرجعكم كائن إلى النَّار .
وأجاز الحوفيُّ أن يتعلق { إِلَى النار } ب » مَصِيرَكُمْ « .
وقد ردَّ هذا بعضهم : بأنَّه لو جعلناه مصدراً صَارَ بمعنى انتقل ، و { إِلَى النار } متعلق به ، بقيت » إنَّ « بلا خبر ، لا يقال : خبرها حينئذ محذوف؛ لأنَّ حذفه في مثل هذا يقلُّ ، وإنَّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة ، والخبر ظرفاً أو جارًّا ، كقوله : [ المنسرح ]
3221 إنَّ مَحَلا وإنَّ مُرْتَحَلاَ ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مضَى مَهَلا
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
لما هدد الكفار ، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا ، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال .
وفي « يُقِيمُوا » أوجه :
أحدها : أنه مجزومٌ بلام محذوفة ، تقديره : ليقيموا ، فحذفت وبقي عملها ، كما يحذف الجار ويبقى عمله ، كقوله : [ الوافر ]
3222 مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا
يريد : لتفدِ .
وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ .
قال الزمخشري : « ويجوز أن يكون : » يُقِيمُوا ، و « يُنْفِقُوا » بمعنى : ليقيموا ولينفقوا ، وليكون هذا هو المقولُ ، قالوا : وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم؛ لأنَّ الأمر الذي هو « قُلْ » عوض منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز « .
ونحا ابنُ مالكٍ رحمه الله إلى قريب من هذا ، فإنَّه جعل محذف هذه اللاَّم على أضربٍ : قليل ، وكثير ومتوسط . فالكثير : أن يكمون قبله قول بصيغة الأمر ، كلآية الكريمة .
والقليل : ألا يتقدم قول؛ كقوله : [ الوافر ]
3233 مُحَمَّدُ تَفْدِ . . .. . . .
والمتوسطُ : أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر ، كقوله : [ الرجز ]
3224 قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا ... تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا
الثاني : أن » يُقِيمُوا « مجزوم على جواب : » قُلْ « ، وإليه نحا الأخفش والمبرد .
وقد رد النَّاس عليهما هذا؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم : أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر .
وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا؛ امتثلوا .
الثالث : أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ ، تقديره : قل لعبادي أقيموا وأنفقوا ، أي : يقيموا وينفقوا ، قاله أبو البقاء رحمه الله وعزاه للمبرّد ، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده ، وهو فاسدٌ من وجهين :
أحدهما : أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل ، وإما في الفاعل ، أو فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل ، فهو خطأ ، كقولك : قُمْ يَقُمْ ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه : أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا .
والوجه الثاني : أنَّ الأمر المقدر للمواجهة ، و » يُقِيمُوا « على لفظ الغيبة ، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً .
قال شهاب الدين : » أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب ، وأمَّا الثاني ، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول : قل لعبدي أطعني يطعك ، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال « .
الرابع : أن التقدير : أن يقول هلم : أقيموا يقيموا ، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية ، وهذا هو القول الثاني .
الخامس : قال ابن عطية : » يحتمل أن يكون « يُقِيمُوا » جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله « قُلْ » وذلك أن تجعل « قُلْ » في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة « .
السادس : قال الفراء : الأمر معه شرط مقدر ، تقولُ : أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا ، وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط ، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ .
السابع : قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر ، ومعناه : أقيموا .
وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه .
وأجيب عن هذا : بأنه بني لوقوعه موقع المبني ، كما بني المنادى في نحو : يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير .
ولو قيل : بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله : « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا » .
وفي معمول « قُلْ » ثلاثة أوجه :
الأول : الأمر المقدر ، أي : قل لهم أقيما يقيموا .
الثاني : أنه نفس « يُقِيمُوا » على ما قاله ابن عطية .
الثالث : أنَّه الجملة من قوله : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } إلى أخره ، قاله ابن عطية؟
وفيه تفكيك النَّظم ، و جعل الجملة : { يُقِيمُواْ الصلاة } إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده ، أو يكون جواباً فصل به بين القولين ، ومعموله ، لكنه لا يترتب على قوله ذلك : إقامة الصلاة ، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا .
وقرأ حمزة والكسائي : « لِعبَادِيْ » بسكون الياء ، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين .
قوله : { سِرّاً وَعَلانِيَةً } في نصبهما ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّهما حالان مما تقدجم ، وفيهما الثلاث التأويلات في : زيْدٌ عدْلٌ ، أي : ذَوِي سرٍّ ، وعلانيةٍ ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة .
الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وقتي سر وعلانية .
الثالث : أنهما منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سرِّ ، وإنفاق علانية .
قوله : { مِن قَبْلِكُمْ } متعلق ب : « يُقِيمُوا » و « يُنْفِقُوا » أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم .
وقد تقدَّم خلاف القراء في : « لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ » .
والخِلال المُخالة ، وهي المُصاحبة ، يقال : خاللته خِلالاً ، ومخالَّة؛ قال طرفة : [ السريع ]
3225 كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ ... لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه
وقال امرؤ القيس : [ الطويل ]
3226 صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى ... وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ
وقال الأخفش : خِلال جمع ل « خلة » ، نحو « بُرمَة وبِرَام » .
فصل
قال مقاتلٌ : يوم لا بيع فيه ، ولا شراء ، ولا مخالفة ، ولا قرابة . وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [ 254 ] .
فإن قيل : كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ؟ .
فالجواب : أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع ، ورغبة النفس ، و الآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة ، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبَّتهِ .
قوله تعالى : { الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية لما وصف أحوال السعداء ، وأحوال الأشقياء ، وكانتع العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع ، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل :
أولها : خلق السَّموات .
وثانيها : خلق الأرض .
وثالثها : قوله : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .
« مِنَ السَّماءِ : يجوز أني تعلق ب » أنْزلَ « ، و » من « لابتداءِ الغايةِ ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من » مَاءٍ « ؛ لأ ، ه صفته في الأصل ، وكذلك » مِنَ الثَّمراتِ « في الوجهين .
وجوَّز الزمخشري وابن عطية : أن تكون : » مِنْ « لبيان الجنس ، أي : ورزقاً هو الثمرات .
وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم ، وقد يجاب عنهما؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب ، وقد تقدم ذلك في البقرة [ البقرة 23 ، 25 ] .
ورابعها : قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ } يجوز أن يتعلق » بأمْرهِ « ب » تَجْرِي « أي : بسببه ، أو بمحذوف على أنَّها للحال ، أي : ملتبسة به .
وخامسها : قوله { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } .
وسادسها ، وسابعها : { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } دائبين حال من » الشمسِ والقَمرِ « ، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ .
وثامنها وتاسعها : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار } .
وعاشرها : قوله تعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } العكامة على أضافة : » كُلِّ « إلى ما . وفي » مِنْ « قولان :
أحدهما : أنَّها زائدة في المفعول الثاني ، أي : كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ .
والثاني : أن تكون تبعيضية ، أي : آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف ، تقديره : وآتاكم من كل ما سألتموه ، وهو رأي سيبويه و » مَا « يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية ، أو حرفية ، أو نكرة موصوفة ، والمصدر واقع موقع المفعول ، أي : مسئولكم ، فإن كانت مصدرية فالضمير في : » سَألتُموهُ « عائد على الله تعالى وإن كانت موصولة ، أو موصوفة كان عائداً عليها ، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى ، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف ، لأنه إما أ ن يقدر متصلاً سألتموهوه ، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه ، و كلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } .
وقرأ ابن عباس ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، والحسن ، والضحاك ، وعمرو بن فائد وقتادة ، وسلام ، ويعقوب ، ونافع رضشي الله عنهم في رواية : » مِنْ كُلِّ « منونة ، وفي » مَا « على هذه القراءة وجهان :
أحدهما : أنَّها نافية ، وبيه بدأ الزمخشري ، فقال : و » مَا سَألتْمُوهُ « نفي ومحله النَّصب على الحال ، أي : آتاكم من جميع ذلك غير سائلين .
قال شهاب الدين : ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله : « مِنْ كُلِّ » كقوله تعالى { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 16 ] .
والثاني : أنها موصولة يمعنى الذي ، وهي المفعول الثاني ل « آتَاكُمْ : .
وهذا التخريج الثاني أولى؛ لأنَّ في الأول منافاة ف يالظ اهر لقراءة العامة .
قال أبو حيَّان : ِ » ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة ، وبين تلك قال : ويجوز أن تكون : « مَا » موصولة على : وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه ، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول : « مَا سَألتْمُوهُ » بمعنى ما احتجتم إليه « .
فصل
اعلم أنَّه تعالى بدأ بذكر خلق السموات ، والأرض ، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده .
ثمَّ قال : { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها ، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه ، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود .
واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض ، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو؛ وقيل : ينزل من السماء إلى السحاب ، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى : { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } .
قال أبو مسلم رحمه الله : لفظ » الثَّمراتِ « يقع في الاغلب على ما يحصل من الأشجار ، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات ، كقوله تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] .
ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ } [ إبراهيم : 32 ] نظره { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام } [ الشورى : 32 ] .
واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك؛ لأنَّ الله تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض ، وبالعكس ، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ ، وهي الجمال ، أو بسفن البحر ، وهي الفلك .
فإن قيل : ما معنى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك } منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ؟ .
فالجوابُ : أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى عند أهنل السُّنَّة ، فلا سؤال .
وأمَّا عند المعتزلة : فأنه تعالى خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد ، وسائر الآلات ، وعرف العباد صنعه التركيب ، وخلق الرياح ، وخلق الحركات القوية فيها ، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها ، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن .
وأضاف التسخير إلى أمره؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل ، وإنَّما يقال : أمر ، قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
[ النحل : 40 ] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات ، ولما كانت تجري على وجه الماء ، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر .
ثم قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } ، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات ، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار ، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات ، وأيضاً : فماء البحر لا يصلحُ للشرب ، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار .
ثم قال عز وجل { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر } والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] { وَقَمَراً مُّنِيراً } [ الفرقان : 61 ] { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة ، وإصلاح النبات والحيوان ، فالشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة ، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة .
ثم قال : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار } ومنافعهما مذكورة في القرآن ، كقوله { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10 ، 11 ] ، وقوله تعالى : { جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] .
قال المتكلمون : تسخير الليل ، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ ، والأعراض لا تسخَّر .
ثم قال عزَّ وجلَّ : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } أي : أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع مالا يأتي على بعضها التَّعداد .
ثمَّ قال { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } قال الواحديُّ : « النِّعْةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر ، يقال : أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً ، ونِعْمةً ، أقيم الاسم مقام الإنعام ، كقوله : أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً ، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر » .
وقال غيره : « النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به » .
وخُتِمَت هذه الآية ب { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } ونظيرها في النحل ب { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] لأن في هذه تقدم قوله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [ أبراهيم : 30 ] فجاء قوله { إِنَّ الإنسان } شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك .
والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات ، وبالغ فيها ، وذكر قوله جلّ ذكره { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] أي : من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء ، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين .
وقال ابن الخطيب : « كأنه يقول : إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان : وهما : كونك ظلوماً كفاراً ، ولي وصفان عند أعطائها وهما : كوني غفوراً رحيماً ، فكأنه تعالى يقول : إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم ، أعلم عجزك ، وقصورك ، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء » .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله تعالى وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله تعالى ألبتَّة ، وحكة عن إبراهيم عليه السلام أنَّه طلب من الله تعالى أشياء :
أحدها : قوله : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } ، وتقدَّم تحريه في البقرة « وهذا البلد آمناً » ، ومسوِّل الجعل التَّصيير .
قال الزمخشري : « فإن قلت : فرق بين قوله : { اجعل هذا البلد آمِناً } وبين قوله { هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] .
قلت : قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ، ولا يخافون ، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمناً » .
قوله « واجْنُبْنِي » ، يقال : جنَّبهُ شرًّا ، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً ، ورباعياً ، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً ، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ ، وأصله من الجانب .
وقال الراغب : « قوله تعالى : { واجنبني وَبَنِيَّ } من جَنَبْتهُ عن كذا ، أي : أبْعدتهُ منه ، وقيل : من جَنَبْتُ الفرس ، [ كأنَّما ] سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة » .
و « أنْ نعبد » على حذف الحرف ، أي : عن أن نَعْبُد .
وقرأ الجحدري وعيسى الثقفي رحمهما الله « وأجْنِبْنِي » بطقع الهمزة من « أجَنَبَ » .
قال بعضهم : يقال : جَنَبْتهُ الشَّيء ، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً ، وأجْنبتهُ إجْنَاباً ، بمعنى واحد .
فإن قيل : ههنا إشكالٌ من وجوه :
أحدهما : أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة ، وأغاروا على مكَّة .
وثانيها : أن الأنبياء عليه الصلاة والسلام معصومون من عبادة الأصنام ، فما فائدة هذا الدعاء .
وثالثها : أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة؟ .
فالجواب عن الأوَّل من وجهين :
الأول : أنه نقل عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة ، وتلك البلدة آمنة من الخراب .
والثاني : أنَّ المراد جعل أهلها آمنين ، كقوله تعالى : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] والمراد أهلها ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وعلى هذا التقدير ، فالمراد بالأمن ما اختصت به مكة من زيادة الأمن ، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن ، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً ، ولذلك أمن الوحش ، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كاناو خارج مكَّة .
وعن الثاني قال الزجاج : معناه : ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها ، كما قال :
{ واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } [ البقرة : 128 ] أي : ثبتنا على الإسلام .
ولقائل أن يقول : السؤال باقٍ ، لأنه من المعلوم أنَّ الله تبارك وتعالى ثبت الأنبياء على الإسلام ، واجتناب عبادة الأصنام ، فما الفائدةٌ من هذا السؤال؟ .
قال ابن الخطيب : والصحيح عندي في الجواب وجهان :
الأول : أنه صلوات الله وسلامه عليه وإن كان يعلم أنَّ الله تعالى يصعمه من عبادة الأصنام ، إلاّ أنه ذكر ذلك للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب .
والثاني : أنَّ الصوفية يقولون : إنَّ الشرك نوعان : شركٌ ظاهرٌ ، وهو الذي يقوله المشركون ، وشرك خفي ، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة . والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط ، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي ، والله تعالى أعمل .
والجواب عن الثالث من وجوه :
أحدها : قال الزمخشري : « قوله » وبَنِيَّ : أراد بنيه [ من صلبه ] « .
والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله : » واجْنُبْنِي وبَنِيََّ « .
وثانيها : قال بعضهم : أراد من أولاده ، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء ، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم .
وثالثها : قال مجاهد : لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام صنماً ، والصنم هو التمثال المصور ، وما ليس بصنم هو من الوثن ، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال ، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة .
وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنَّه صلوات الله وسلامه معليه لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصَّنم في ذلك .
واربعها : أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده ، بدليل قوله في آخر الآية { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } ، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، وقوله تبارك وتعالى لنوح عليه الصلاة والسلام : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] .
وخامسها : لعلَّه ، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض ، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه { قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
قوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } دليل على أن الكفر ، والإيمان من الله تعالى لأنًَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه طلب من الله تعالى أن يجنبه ، ويجنب أولاده من الكفر .
والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف ، وهو عدول عن الظَّاهر ، وتقدم فسادهذا التأويل .
قوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً } الضمير في : » إنَّهُنَّ « و » أضْلَلْنَ « عائد على الأصنام ، لأنها جمع تكسير غير عاقل .
وقوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } أي : من أشياعي ، وأهل ديني .
وقوله { وَمَنْ عَصَانِي } شرط ، ومحل « مَنْ » الرفع بالابتداء ، الجواب : { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والعائد محذوف ، أي : لهخ .
فصل
قال السديُّ : ومن عصاني ثمَّ تاب . وقال مقاتلٌ : { وَمَنْ عَصَانِي } فيما دون الشرط .
وقيل : قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنَّهُ لا يغفر الشرك ، وهذه الآية تدلُّ على إثبات الشَّفاعة في أهل الكبائر؛ لأنَّه طلب المغفرة ، والرَّحمة لأولئك العصاة ، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [ أو للعصاة ، ولا يجوز أن تكون للكفار ] ؛ لأنه تبرَّأ منهم بقوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } .
وقوله : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } فإنه يدلُّ بمفهومه على أنَّ من لم يتعبه على دينه ، فليس منه ، والأمة مجتمعة على أنَّ الشفاعة في حق الكفَّار غير جائزة؛ فثبت أن قوله : م { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } شفاعة في العصاة غير الكفَّار .
ووتلك المعصية : إمَّا أن تكون من الصغائر ، أو من الكبائر بعد التَّوبة [ أو من الكبائر قبل التوبة ، والأول والثاني بطلان؛ لأن وقوله : { وَمَنْ عَصَانِي } اللفظ فيه مطلق ، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر ، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة ] وجبة الغفران عند الخصوم ، فلا يمكن حمل اللفظ عليه ، فثبت أنَّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التَّوبة .
وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيثم صلوات الله وسلامه عليه ثبت حصولها لمحمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام لأنه لا قائل بالفرق ، ولأنََّ الشفاعة أعلى المناصب ، فلو حصلت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أنَّها لم تحصل لمحمَّد صلى الله عليه وسلم كان ذلك نقصاً في حقِّ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف ، أي : أسكنت ذرية من ذريتي ، ويجوز أن تكون « مِنْ » مزيدة عند الأخفش .
« بوَادٍ » أي : في وادٍ ، وهو مكّة؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين .
وقوله : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } كقوله { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } [ الزمر : 28 ] .
قوله : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } يجوز أن تكون صفة ل « وَادٍ » .
وقال أبو البقاء : يجوز أن يكون بدلاً منه ، يعني أنَّه يكون بدل بعضه من كل؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت .
وفيه نظرٌ ، من حيث أن « عِنْدَ » لا يتصرف .
فصل
سماه محرّماً؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .
وقيل : لأنَّ الله حرم التعرض له ، والتهاون به . قيل : لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب .
وقيل : لأنه حُرِّمَ من الطوفان ، أي : منع منه ، كما يسمى عتيقاً؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل : لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السموات ، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي نباه آدم صلوات الله وسلامه عليه فرفع إلى السَّماءِ .
وقيل : إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء ، والأقذار وغيرها .
قوله : « لِيُقِيمُوا » : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر ، وأن تكون لام علة ، وفي متعلقها حينئذ [ وجهان ] :
أحدهما : أنها متعلقة ب « أسْكَنْتُ » وهو ظاهنر ، ويكون النداء معترضاً .
الثاني : أنَّها متعلقة ب « ألأجْنُبْنِي » أي : أجنبهم الأصنام . ليقيموا . وفيه بعد .
قوله : { اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } العامة على : « أفْئِدةً » جمع فؤاد ، ك « غُرَاب وأغْرِبَة » وقرأ هشام عن بان عامر بياء بعد الهمزة ، فقيل : إشباع؛ كقوله : [ الطويل ]
3227 ... يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ
أي : ترب؛ وكقوله : [ الرجز ]
3228 أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ ... الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ
وقد طعن جماعة على هذه القراءة ، وقالوا : الإشباعُ من ضرائر الشعر ، فكيف يجعل في أفصح الكلام؟ .
وزعم بعضهم : أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [ أنها زائدة ] ياء بعد الهمزة ، قال : كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في : « بَارِئكُمْ » ، و « يَأمُرُكمْ » أنه سكن .
وهذا ليس بشيءٍ ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا .
وقرأ زيد بنُ عليِّ : « إفادة » بزنة « رِفادة » ، وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون مصدراً ل « أفَادَ » ك « أقَامَ إقَامَة » أي : ذوي إفادَةِ ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم .
والثاني : أن يكون أصلها : « وفَادة » فأبدلت الواو همزة ، نحو إشاح وإعَاء .
وقرأت أم الهيثم : « أفْوِدَة » بكسر الواو وفيها وجهان :
أحدهما : أن يكون جمع : « فُؤاد » المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً ، نحو « جُون » ففعل في : « فُؤاد » المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها .
والثاني : قال صاحب اللَّوامح رحمه الله : هي جمع « وَفْد » .
قال شهاب الدين : « فكان ينبغكمي أن يكون اللفظ » أوْفِدَة « يتقدم الواو؛ إلا أن يقال : إنه جمع » وَفْداً « على » أوْفِدَة « ، ثم قبله فوزنه » أعْفِلَة « كقولهم : آرام » في « أرْآم » وبابه ، إلاَّ أنَّه جمع « فَعْل » على « أفْعِلَة » نحو : « نَجْد وأنْجِدَة » و « وَهْي وأوْهِيَة » وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ .
وقرىء « آفِدة » بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين :
أحدهما : أن تكون مقلوبة من « أَفْئِدَة » بتقديم الهمزة على الفاء ، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه : « أعْفِلَة » ك « آرام » في « أرآم » .
والثَّاني : أنها اسم فاعل : من « أَفَدَ يَافَدُ » ، أي : « قَرُبَ ودَنَا » . المعنى : جماعمةٌ آفدة أو جماعات آفدة .
وقرِىء : أَفِدَة « بالقصر ، وفيها وجهان أيضاً :
أحدهما : أن تكون اسم فالع على » فَعِل « ك » فَرِح فهو فَرِحٌ « ، وأن تكون مخففة من » أفْئِدَة « بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحذف الهمزة .
و » مِنْ « في » مِنَ النَّاسِ « فيها وجهان :
أحدهما : أنها لابتداء الغاية . قال الزمخشريُّ : » ويجوز أن يكون « مِن » الابتداء الغاية ، كقولك : القلبُ منِّي سقيمٌ ، تريد : قَلْبي ، كأنه قال : أفْئدةُ ناسٍ ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل ، لتنكير « أفْئِدَة » لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة « .
قال أبو حيَّان : » ولا ينظر كونها للغاية؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إلهيا ، إذ لا يصح حعل ابتداء الأفئدة من الناس « .
والثاني : أنها للتعبيض ، وفي التفسير : لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم .
قوله : تَهْوِي » هذا هو المفعول الثاني للجعل ، والعامة على : « تَهْوِي » بكسر العين ، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه؛ قال : [ الكامل ]
3229 وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ ... يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ
وأصله أن يتعدى باللام ، كقوله : [ البسيط ]
3230 حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا ... طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ
وإنَّما عدي بإلى؛ لأ ، ه ضمن معنى تميلُ ، كقوله : [ السريع ]
3231 يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى ... ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا
وقرأ أمير المؤمنين علي ، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ، ومجاهدٌ رضي الله عنهم بفتح الواو ، وفيه قولان :
أحدهما : أن « إلى » زائدة ، أي : تهواهم .
والثاني : أنه ضمن معنى تنزع وتميل ، ومصدر الأول على « هُوّى » ؛ كقوله : [ الكامل ]
3232 . . ... يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ
ومصدر الثاني على « هَوًى » .
وقال أبو البقاء : « معناهما متقاربان ، إلا أنَّ » هوى « يعني بفتح الواو متعمد بنفسه ، وإنَّما عدِّي ب : » إلَى « حملاً على تميلُ » .
وقرأ مسلمة بن عبد الله : « تُهْوى » بضم التاءِ ، وفتح الواو مبنياً للمفعول ، من « أهْوى » المنقول من « هَوَى » اللازم ، أي : يسرع بها إليهم .
فصل
قال المفسرون : قوله { أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } أدخل « مِنْ » للتعبيض ، والمعنى : أسكنت من ذريتي ولداً : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } وهو مكة؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } .
روي عن ابن عبَّاسٍ ، رضي الله عنهما : أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وبابنها إسماعيل ، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت ، وليس بمكَّة يومئذ أحد ، وليس فيها ماء ، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ ، وسقاء فيه ماء ثمَّ قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه منطلقاً ، فتبعته هاجر ، فقالت : يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه إلى الله ، فقالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا ، ثمَّ رجعت ، فانطلق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثمَّ دعا الله بقوله : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي؛ فجعل يتلوى ، وهي تنظر إليه ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً ، فلم تر أحداً ، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثمَّ سمعت سعي المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً؟ فمل ترا أحداً ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا » فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً ، فقالت : صه! تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت ، فقالت : قد أسمعتن إن كان عندك غواث! فإذا هي بالملك عند مضع زمزم؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء ، أو قال : فضرب بجناحه فغارت عينها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً » .
ثمَّ إنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عاد بعد كبر إسماعيل ، وأقرَّاهو وإسماعيل قواعد البيت .
قال القاضي : « أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا : إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام » .
وقوله : { مِن ذُرِّيَّتِي } ، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه .
{ لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } قال المفسرون : جمع ، وقد تهوى : تحن وتشتاقُ إليهم . قال السدي : معناه : وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع .
قال مجاهدٌ : لو قال : أ فئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند .
وقال سعيد بن جبير : لحجَّتِ اليهود ، والمجوس ، ولكنه قال : { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } فهم المسلمون .
{ ارزقهم مِّنَ الثمرات } ممَّا رقزت سكان القرى ذوات الماء : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } وذلك يدعل على أن المقصود من منافع الدنيا : أن يتفرغ لأداء العبادات .
ثم قال صلوات الله وسلامه عليه : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } ما أمرونا .
قال ابن عباس ومقاتل : من الوجد بإسماعيل ، وأمه حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع . { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء } .
قيل : هذا كله قول إبراهيم عليه السلام ، وقال الأكثرون : قول الله تعالى؛ تصديقاً لقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر } وجهان :
أحدهما : أن « عَلَى » على بابها من الاستعلاء المجازي .
والثاني : أنها معنى « مع » كقوله : [ المنسرح ]
3233 إنِّي على مَا تَريْنَ مِنْ كِبَرِي ... أعْلَمُ من حَيْثُ تُؤكَلُ الكَتِفُ
قال الزمخشري : « ومحلّ هذا [ الجار ] النصب على الحال من الياء في » وهَبَ لِي « » .
الآية تدلُّ على أنه تعالى أعطى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم على الكبر والشيخوخة فأمَّا مقدار السنة فغير معلوم من القرآن ، فالمرجعُ فيه إلى الروايات .
فروي لما ولدت إسماعيل كمان سن إبراهيم صولات الله وسلامه عليه تسعاً وتعسين سنة ، ولما ولد إسحاق ك ان سنة مائة واثنتي عشرة سنة .
وقيل : ولد إسماعيل لأربع وستين سنة ، وولد إسحاق [ لتسعين ] سنة .
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه لم يولد لإبراهيم صلى الله عليه وسلم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة ، [ وإنما ذكر هذا الكبر؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم؛ ] لأنه زمن اليأس من الولد .
فإن قيل : إن إبراهيم صلوت الله وسلامه عليه إنَّما دعا بهذا الدُّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فيكف قال : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } ؟ .
فالجواب : قال القاضي رحمه الله : « هذا الدَّليل يقتضي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، إنَّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدَّم من الدعاء ويمكن إيضاً أنه صلوت الله وسلامه عليه إنَّما ذكر هذا [ الدعاء ] بعد كبر إسماعيل وظهرو إسحاق صلوات الله وسلامه عليهما وإن كان ظاهر الروايات بخلافه » .
فصل
المناسبة بين قوله { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وبين قوله { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } ، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما ، وإعانة ذريتهما بعد موته ، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } أي : تلعم ما في قلوبنا وضمائرنا ، فقوله : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض ، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء .
قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عز وجل أنه قال : « مَنْ شَغلهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفْضَل ما أعْطِي السَّائلينَ » .
ثم قال : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح ، قال : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } من قولك : « سَمِعَ الأميرُ كلامَ فلانٍ » إذا اعتدَّ بِهِ وقلبهُ ، ومنه « سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَهُ » .
قوله : { لَسَمِيعُ الدعآء } فيه أوجه :
أحدهما : أن يكون « فَعِيل » مثال مبالغة مضافاً إلى مفعوله وإضافته من نصب ، وهذا دليل سيبويه على أن « فعيلاً » يعمل عمل اسم الفاعل ، ون كان قد خالفهُ جمهور البصريين والكوفيين .
الثاني : أنَّ الإضافة ليست من نصب ، وإنَّما هو كقولك : « هذا ضَارِب ازيد أمس » .
الثالث : أن « سميعاً » مضاف لمرفوعه ، ويجعل دعاء الله سميعاً على المجاز والمراد : سماع الله ، قاله الزمخشريُّ .
قال أبو حيَّان : « وهو بعيد لاستلازمه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رحمه الله تعالى فإنه يجيز أن تكون المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس ، نحو : زيدٌ ظالم العبيدَ ، إذا علم أنَّ له عبيد ظالمين ، وأما ههنا فاللبس حاصل ، إذ الظاهر من إضافته المثل للمفعول لا الفاعل » .
قال شهاب الدين : « واللَّبس أيضاً هنا منتف؛ لأنَّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر » .
قوله : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة } أي : من المحافظين عليها .
واحتجُّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنَّ قول إبراهيم عليه الصلاة والسلا م { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } يدلُّ على أنت ترك المنيهات لا يحصل إلا من الله تعالى .
وقوله : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي } يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى .
قوله : { وَمِن ذُرِّيَتِي } « عطف على المفعول الأول ل » اجْعَلْنِي « أي : واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة ، وهذا الجار في الحقيقة صفةٌ لذلك المفعول المحذوف ، أي : وبعضاً من ذريتي » .
وإنَّما ذكر هذا التعبيض؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنَّه يكون في ذريته جمعاً من الكفار لقوله : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] .
وقوله { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } قرأ ابو عمرو ، وحمزة وورش ، والبزي بإثبات الياء وصلاَ وحذفها وقفاً ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، ووقد روى بعضهم بإثباتها وقفاً أيضاً .
قال ابن عباس رضي الله عنه : معناه : تتقبل عملي ، وعبادتي ، سمى العبادة دعاء .
قال صلوات الله وسلامه عليه « الدُّعَاءُ مُخٌّ العِبادَةِ » .
وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] وقيل : معناه : استجب دعائي .
قوله : { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } العامة على « والديَّ » بالألف بعد الواو وتشديد الياء ، وإبن جبير كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده ، كقوله { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] .
وقرأ الحسين بن علي ، ومحمد بن زيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر رضي الله عنهم : « ولِولدَيَّ » ودمن ألف ، تثنية « وَلد » ، ويعنى بهما : إسماعيل ، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي « ولأبويَّ » فهي مفسرة لقراءة العامة .
وروي عن ابن يعمر أنه قرأ : « وَلِوُلدِي » بضم الواو ، وسكون الياء ، وفيها تأويلان :
أحدهما : أنه جمع ولد كأسْد في أسَد .
وأن يكون لغة في الولد ، الحُزْنِ والحَزَن ، والعُدْمِ والعَدَم ، والبُخْلِ والبَخَل ، وعليه قول الشاعر : [ الطويل ]
3234 فَليْتَ زِيَاداً كَان فِي بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ زِيَاداً كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وقد قرىء بذلك في مريم ، والزخرف ، ونوح في السبعة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
و « يَوْمَ » [ نصب ] ب « اغْفِرْ » .
فِإن قيل : طلب المغفرة إنَّما يكون بعد الذنب ، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان قاطعاً بأن الله يغفر له ، فكيف طلب ما كان قاطعاً بحصوله؟ .
فالجواب : المقصود منه الالتجاء إلى الله ، وقطع الطَّمع إلاَّ من فضل الله تعالى وكرمه .
فإن قيل : كيف جاز أن يستغفر لأبويه ، كانا كافرين؟ .
فالجواب : من وجوه :
الأول : أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف ، فلعله لم يجد [ منعاً ] ، فظن جوازهن .
الثاني : أراد بالوالدين آدم وحواء صلوات الله وسلامه عليهما .
الثالث : كان ذلك بشرط الإسلام .
فإن قيل : لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً ، ولو لم يكن باطلاً لبطل قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } [ الممتحنة4 ] .
فالجواب : أن الله تعالى بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .
وقال بعضهم : كانت أمه مؤمنة ، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] .
في قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الحسابيوم يَقُومُ الحساب } قولان :
الأول : يقوم إلى بيت المقدس ، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل ، كقولهم : قَامِتِ الحرُ على ساقها ، ونظيره : قوله : قامت الشمس أي : اشتعلت ، وثبت ضوؤها كأنَّها قامت على رجل .
الثاني : أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز ، كقوله : { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] ٍ .
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكاى عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك ، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة ، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة ، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة ، فهو قوله عزَّ وجلَّ { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } وذلك تنبيه على أنَّه تبارك وتعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم ، أو عاجزاً عن الانتقام ، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة ، والعجز ، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لاينتقم من الظَّالم للمظلوم .
فإن قيل : كيف يليقُ بالرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه أن يحسب الله عزَّ وجلَّ موصوفاً بالغفلةِ؟ .
فالجواب من وجوه :
الأول : المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ القصص : 88 ] .
والثاني : المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم ، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً للك أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً .
الثالث : أنَّ المراد : ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون ، ولكن معالمة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير ، والقطمير .
الرابع : أنَّ هذا الخطاب ، وإن كان خطاباً للنبِّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة .
قال سفيان بن عيينة رضي الله عنه : هذا تسلية للمظلوم ، وتهديد للظَّالم .
قوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ } أي : لأجل يوم ، فاللام للعلَّة .
وقيل : بمعنى « إلى » أي : للغاية .
وقرأ العامة « يُؤخِّرهُمْ » بالياء ، لتقدم اسم الله تعالى . وقرأ الحسن والسلمي ، والأعرج ، [ وخلائق ] رضي الله عنهم : « نُؤخِّرهُم » بنون العظمة .
ويروى عن أبي عمرو « نُؤخِّرُهمْ » بنون العظمة .
و « تَشْخَصُ » صفلة ل « يَوْمِ » . ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر ، وعدم استقراره في مكانه ، ويقال : شَخَصَ سَمْعُه ، وبَصَرُه ، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما ، وشَخَصَ بَصَره ، أي : لم يطرف جفنهُ ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة ، ويقال : شخص من بلده أي : بعد والشخصُ : سواد الإنسان المرئيّ من بعيد .
قوله : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير : أصحاب الأبصار ، إذا يقال : شَخَسَ زَيْدٌ بصرهُ ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت ا لحال من المدلول عليه ، قالهما أبو البقاءِ .
وقيل : « مُهْطِعين » منصوب بفعل مقدر ، أي : تبصرهم مهطعين ، ويجوز في « مُقْنِعِي » أن يكون حالاً من الضمير في : « مُهْطِعِينَ » فيكون حالاً ، وإضافة : « مُقْنِعِي » غير حقيقة؛ فلذلك وقع حالاً .
والإهْطَاعُ : قيل : الإسرْاعُ في المشيِ؛ قال : [ البسيط ]
3235 إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ ... دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا
وقال : [ الكامل ]
3236 وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ ... فِي رَأْسِ جِذْعٍ .
وقال أبو عبيدة : قد يكون الإسراع [ مع ] إدامة النَّظر .
وقال الراغب : « هَطَعَ » الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ « .
وقال الأخفش : هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ ، وأنشد : [ الوافر ]
3237 بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ ... بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى : مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي .
وقال ثعلبٌ : » هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء « . وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة؛ فقد سمع فيه : » أهْطََعَ وهَطَعَ « رباعيًّا وثلاثيًّا .
والإقناعُ : رفع الرَّأسِ ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى شغيره ، قاله القتبيُّ ، وابنُ عرفة .
ومنه قوله يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر؛ فترفع رءوسها : [ الوافر ]
3238 يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ ... نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ
ويقال : أقْنَعَ رأسه ، أي : طأطأها ، ونكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعةُ : الاجتزاءُ باليسيرِ ، ومعنى قَنَعَ عن كذا : أي : رفع رأسه عن السؤال . وفَمٌ مُقَنَّعٌ : معطوف الأسنان إليه داخلة ، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ بالتشديد ، ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً ، وقَنَعاً ، إذا رَضِيَ ، وقنع قُنُوعاً ، إذا سَألَ ، [ فوقع ] الفرق بالمصدر .
وقال الراغب : قال بعضهم : أصل هذه الكلمة من القناعِ ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس
والقَانِعُ : من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ ، كقوله : [ الوافر ]
3239 لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي ... مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مقنَّعٌ : تَقنَّعَ بِهِ؛ قال : [ الطويل ]
3240 ... شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ
ومنى الآية : أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه ، فبين تعالى أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد ، و أنهم يرفعون رءوسهم .
والرُّءُوسُ : جمعُ رأسِ ، وهو مؤنَّثٌ ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس ، وفي الكثرة على » رُءُوس « والأرَاسُ : العظيم الرأس ، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه ، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه ، وشاةٌ رَأْسَى : أسودَّتْ رأسَها .
قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } في محل نصب على الحال من الضمير في : » مُقْنِعِي « ويجوزو أن يكون بدلاً من : » مُقْنِعِي « ، كذا قاله أبو البقاء ، يعني أنه يحل محله ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، والطرف في الأصل مصدر ، وأطلق على الفاعل ، كقولهم : » مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف « ، الطَّرفُ هنا : العَيْنُ قال الشاعر : [ الكامل ]
3241 وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي ... حتَّى يُوارِي جَارتِي مَاوَاهَا
والطَّرفُ : الجِفْنُ أيضاً ، يقال : ما طبق طرفهُ ، أي : حفنهُ على الآخر ، الطَّرفُ أيضاً : تحركُ الجِفْنِ .
ومعنى الآية : دوام ذلك الشُّخوصِ .
قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } » يجوز أن يكون استئنافاً ، وأن يكون حالاً ، والعامل فيه إمَّا « يَرتَدُّ » وإمَّا ما قبله من العوامل ، وأفرد : « هَواءٌ » ، وإن كان خبراً عن جمع؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة ، ولو لم يقصد ذلك لقال : أهوية ليطابق الخبر مبتدأه « .
والهَواءُ : الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ ، يقال : جوفهُ هواء ، أي : فارغ؛ قال زهيرٌ : [ الوافر ]
3242 كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل ... مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ
وقال حسَّان بن ثابت رضي الله عنه : [ الوافر ]
3243 ... فانْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ
النَّخْبُ : الذي أخذت نخبته أي : خِيارهُ ، ويقال : قلب فلانٍ هواء : إذا كان جَباناً للقوة في قلبه .
والمعنى : أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر ، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب ، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ .
قوله : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } قال أبو البقاء : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } معفول ثان ل : « أنْذر » ، أي : خوفهم عذاب يوم ، وكذا قاله الزمخشريُّ .
وفيه نظرٌ ، إذ يؤول إلى قولك : أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب ، ولا حاجة إلى ذلك ، ولا جائز أن يكون ظرفاً؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل : إنه يوم القيامة ، أو يوم هلاكهم ، أو يوم تلقاهم الملائكةُ .
والألف واللام في : « العَذابُ » للمعهود السَّابق ، أي : وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره ، وهو شخوصُ الأبصار ، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم .
فصل
حمل أبو مسلم قوله : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } على أنه حال المعاينة ، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } [ المنافقون : 10 ] ، وظاهر الآية يشهد بخلافه؛ لأنه تعالى وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه ، وأنهم يسألون الرجعة ، ويقال لهم : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة .
ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم : { فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } قال بعضهم : طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه .
وقيل : طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم : { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } ، فقوله : « نُجِبْ » جواب الأمرِ .
قوله : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ } قال الزمشخري : « على إرادة القول وفيه وجهان : أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً ، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً ، وأملوا بعيداً » .
و « مَا لكُمْ » جواب القسم ، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله : « أقْسَمْتُمْ » ، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل : « مَا لنَا » .
وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله عزَّ وجلَّ أو الملائكة عليهم السلام أي : فيقال لهم : « أو لم تكونوا » ، وهوأظهر من الأول ، أعني؟ : جريان القول من غيرهم لا منهم ، والمعنى : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ } أراد قوله :
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [ الأنعام : 109 ] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه .
قوله : { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ } وأصل « سَكَنَ » التَّعدي ب « في » كما في هذه الآية ، وقد يتعدى بنفسه .
قال الزمخشريُّ : « السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ ، من الأصل تعديه ب » في « كقولك : قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا ، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه ، فقيل : سكن الدَّار كما قيل : تَبَوَّأها ، وأوطنَها ، ويجوز أن يكون من السُّكونِ ، أي : قرُّوا فيها واطمأنُوا » .
والمعنى : وسكنتم في مساكن الذين كفورا قبلكم كقوم نوح ، وعادٍ ، وثمود و : { ظلموا أَنفُسَهُمْ } بالكفر؛ لأن من شاهد هذه الحال؛ وجب عليه أنّ يعتبر ، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع .
قوله : « وتَبيَّنَ لَكُمْ » فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه ، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم ، و « كَيْفَ » نصب ب « فَعلْنَا » وحملة الاستفهام ليست معمولة ل « تَبيَّنَ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق ، ولا جائز أن يكون : » كَيْفَ « فاعلاً؛ لأنَّها إمَّا شرطية ، أو استفهامية وكلاهما لايعمل فيه ما تقدمه ، والفاعل لا يتقدَّم عندنا .
وقال بعض الكوفيين : إنَّ جملة : » كَيْفَ فَعلْنَا « هو الفاعل ، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً ، وقد تقدَّم هذا في قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
والعامة على » تَبيَّنَ « فعلاً ماضياً ، وقرأ عمر بن الخطاب ، والسلمي رضي الله عنهما في رواية عنهما : » ونُبيِّنُ « بضمِّ النون الأولى والثانية ، مضارع : » بيَّن « ، وهو خبر مبتدأ مضمر ، والجملة حالٌ ، أي : ونحن نبين .
وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على » تَكُونُوا « فيكون داخلاً في حيز التقدير .
فصل
والمعنى : عرفتم عقوبتنا إياهم ، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء ، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل .
قوله : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } قيل : الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم .
وقيل : أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يا محمد ، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] .
وقيل : المراد من هذا المكر ما نقل : أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ ، وكان قد جوَّعها ، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً ، وعلم عليها اللحم ، ثم جلس مع صاحب له في التابوت ، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام ، وغابت الدنيا عن عين نمروذ ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض .
قال القاضي رحمه الله : « وهذا بعيد جدًّا؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم ، ولا يكاد العاقل يقدم عليه ، وما جاء فيه خبر ، ولا دليل » .
قال القشيري : وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس رضي الله عنهما أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة ، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع ، وخمسة وعشرين ذراعاً ، وصعد فيه مع النُّّسور ، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً ، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه ، فأتى الله بنيانه من القواعد ، فتداعى الصَّرح علهيم ، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } .
قوله : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله ، أو للمفعول ، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، أي : يعذبهم قالمها الزمخشريُّ .
قال أبو حيان : « وهذا لايصحُّ إلاَّ إن كان » مَكَرَ « يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به ، والمحفوظ أن » مَكَرَ « لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه ، قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] وتقول : زيدٌ ممكور به ، ولا يحفظ : زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا .
قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ العامة بكسر لام » لِتَزولَ « الأولى ، والكسائي بفتحها .
فأما القراءة الأولى ، ففيها ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّها نافيةٌ ، واللام بعدها لام الجحودِ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ ، وفي » كَانَ « حينئذ قولان :
أحدهما : أنَّها تامَّة ، والمعنى؛ تحقير مكرهم ، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها .
ويؤيد كونها نافية قراءة عبدالله : ( وما كان مَكْرُهُمْ ) .
القول الثاني : أنَّها ناقصةٌ ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين ، هل هو محذوف ، واللام متعلقة به؟ وإليه ذهب البصريون ، أو هو اللام ، وما جرته كما [ هو مذهب ] الكوفيين؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران .
الوجه الثاني : أن تكون المخففة من الثقيلة .
قال الزمخشري : » وإن عظم مركهم وتبالغ في الشدة ، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته ، أي : وإن كان مكرهم معدًّا لذلك « .
وقال ابن عطية : » ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة : تعظيم مكرهم ، أي : وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الامور « ، فمهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ؛ لأنَّه إثبات .
والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابها محذوفٌ ، أي : وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجبال الرَّواسي ، وهي المعجزات ، والآيات ، فالله مجازيهم بمكرهم ، وأعظم منه .
وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل ، وهو : أنها نافية؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكاسئي في ذلك؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات ، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي .
وقد أجاب بعضهم عن ذلك : بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام ، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها ، وفي قراءة الجماعة مشار لها إلى ما جاء به النبيُّ المختار صلوات الله وسلامه عليه من الدين الحق ، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً ، وإثباتاً .
وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي : « إنْ » وجهان :
مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة ، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية ، واللام بمعنى : « إلاَّ » وقد تقدَّم تحقيق المذهبين .
وقرأ عمر ، وعلي ، وعبدالله ، وزيد بن علي ، وأبو سلمة وجماعة رضي الله عنهم ( وإن كاد مكرهم لتزول ) كقراءة الكسائي ، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون : « كَانَ » دالاً ، فعل مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوال غير واقع .
وقرىءك « لَتَزُولَ » بفتح اللامين ، وتخريجها على إشاكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي .
فصل
في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان :
أحدهما : جبال الأرض .
الثاني : الإسلامُ ، والقرآن؛ لأنَّ ثبوته ، ورسوخه كالجبالِ .
وقال االقشيريُّ : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي : هو عالم بذلك فيجازيهم ، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف .
قوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد .
قوله : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ } العامة على إضافة : « مخْلِفَ » إلى « وعْدِهِ » وفيها وجهان :
أظهرهما : أن « مُخْلفَ » يتعدَّى لاثنين كفعله ، فقدم المفعول الثاني ، وأضيف إليه إسم الفاعل تخفيفاً ، نحو : هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ .
قال الفراء وقطرب : لما تعدَّى إليهما جميعاً ، لم يبالِ بالتقديم والتأخير .
وقال الزمخشري : فإن قلت : هلاَّ قيل : مُخْلف رسله وعده؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟ .
قلت : قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد ، ثم قال : « رُسلهُ » ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، كيف يخلف رسله؟ .
وقال أبو البقاء : هو قريبُ من قولهم : [ الرجز ]
3244 يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ ... وأنشد بعضهم نظير الآية الكريمة قول الشاعر : [ الطويل ]
3245 تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ ... وسَائرِهُ بَاردٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ
والحسبان هنا : الأمر [ المتيقن ] ، كقوله : [ الطويل ]
3246 فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي ... وكُلُّ امرىءٍ كَأسَ الحِمام : ِ يَذُوقُ
الثاني : أنه متعد لواحد ، وهو « وعْدهِ » ، وأمَّا « رُسلهُ » فمنصوب بالمصدر فإنَّه ينحلْ بحرف مصدريّ ، وفعل تقديره : مخلف ما وعد رسله ، ف « ما » مصدريَّة لا بمعنى الذي؟
وقرأت جماعة : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } بنصب : « وَعْدهُ » وجر : رسُلهِ « فصلاً بالمفعول بين المتضايفين ، هي كقراءة ابن عامرٍ : { قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُكرائِهِمْ ) .
قال الزمخشري مجرأة منه : « وهذه في الضعف [ كقراءة ] ( قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ ) .
ثم قال : { إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } غالب لأهل المكر ، ذو انتقام لأوليائه منهم .
قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } [ لما بين أنه عزيز ذو انتقام ، بين وقت انتقامه ، فقال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } ] ويجوز في » يَوْمَ « عدة أوجه :
أحدها : أن ينتصب منصوباً ب » انتقام « أي : يقع انتقامه في ذلك اليوم .
الثاني : أن ينتصب ب » اذكُر « .
الثالث : ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام .
الرابع : أن يكون بدلاً من : » يَوْمَ يَأتِيهِمْ « .
الخامس : أن ينتصب ب : » مُخْلِفَ « .
السادس : أن ينتصب ب » وَعْدِهِ « ، و » إنَّ « وما بعدها اعتراض .
ومنع أبو البقاء هذه الآخرين ، قال : » لأن ما قبل « إنَّ » لا يعمل فيما بعدها « .
وهذا غير مانع؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض ، فلا يبالى به فاصلاً .
فصل
التَّبديلُ يحتمل وجهين :
الأول : أن تكون الذَّات باقية ، وتبدل الصفة بصفة أخرى ، كما تقول : بدلت الحلقة خاتماً ، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر ، منه قوله تعالى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ، ويقال : بدلَّلتُ قَمِيصِي جُبَّة ، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ ، وقال الشاعر : [ الطويل ]
3247 فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ... ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ
الثاني : أنْ تُفني الذات ، وتحدث ذاتاً أخرى ، كقولك : بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } [ سبأ : 16 ] .
وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان :
الأول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي تلك الأرض ، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها ، وتفجر أنهارها ، وتسوى ، فلا { ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً } [ طه : 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم : » تُبدَّلُ الأرضُ غيكر الأرْضِ ، فيَبْسُطهَا ، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [ العكاظي ] لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً « وتبدل السموات باتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها؛ وخسوف قمرها ، وكونها تكن تارة كالمهل ، وتارة كالدهان .
والقول الثاني : تبديل الذات . قال ابن مسعود رضي الله عه : تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية ، لم يسفك فيها د مٌ ، ولم يعمل عليها خطيئة .
والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ : لا يعدم الله الذوات والأجسام ، وإنَّما يعدم صفاتها .
وقيل : المراد من تبديل الأرض والسموات : هو أنَّ الله تعالى ، يجعل الأرض جهنم ، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ }
[ المطففين : 7 ] وقوله عزَّ وجلَّ { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] .
وقالت عائشة رضي الله عنها : سألتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « على الصِّراطِ » .
وروى ثوبانُ رضي الله عنه أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ؟ قال : « هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ » .
قوله « والسَّمواتِ » تقديره : وتبدل السموات غير السموات .
وقرىء : « نُبَدّلُ » بالنون : « الأرض » نصباً « والسَّمواتِ » نسق عليه .
قوله « وبَرَزُوا » فيه وجهان :
أحدهما : أنها حملةٌ مستأنفة ، أي : يبرزون ، كذا قدَّره أبو البقاءِ ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال ، والأحسن أنه مثل { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] لتحقُّّق ذلك .
والثاني : أنها حال من « الأرض » ، و « قَدْ » معها مرادة ، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في : « بَرَزُوا » للخلق دلّ عليه السِّياق ، والرَّابط بين الحال ، وصاحبها الواو .
وقرأ زيد بن علي « وبُرِّزُوا » بضم الباء ، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله ، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] ، وإنما ذكر « الوَاحدِ القهَّارِ » هنا؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ ، قهَّار لا يقهر ، فلا يستغاث بأحد عغيره ، فكان الأمر في غية الصعوبة ولما وصف نفسه تعالى بكونه قهاراً ، بيَّن عجزهم ، وذلتهم فقال : « وتَرَى المُجْرمينَ » وصفهم بصفات :
الأولى : قوله : { مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } « يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة ، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية ، و » فِي الأصْفادِ « متعلق به .
وقيل : بمحذوف على أنه حال أو صفة ل » مُقرَّنينَ « » .
والمُقرن : من جمع في القَرَن ، وهون الحبل الذي يربط به ، قال : [ البسيط ]
3248أ وابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ ... لَمْ يَستَطعْ صَولةَ ا لبُزْلِ القَناعِيسِ
وقال آخر : [ البسيط ]
3248ب والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ ... وقال آخر : [ البسيط ]
3248ج إنِّي لَدَى الباب كلمَلزُوزِ في قَرنٍ ... يقال : قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ ، ووَصلتهُ ، والقرنُ : اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك .
والأصْفَادُ : جمع صفدٍ ، وهو الغلُّ ، والقيد ، يقال : صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً ، قيَّدهُ ، بِهِ ، والاسم الصَّفَد ، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير؛ قال : [ الوافر ]
3249 فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا ... وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا
والأصفادُ من الصَّفْد ، وأصفْدَه ، أي : أعطاه ، ففرَّقُوا بين « فَعَل » و « أفْعَلَ » .
وقيل : بل يستعملان في القَيْدِ ، والعَطاءِ ، قال النابغة الذبياني : [ البسيط ]
3250 . ... فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ
أي : بالإعطاءِ ، وسمي العطاء صفداً ، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه ، منه : أنا مغلول أياديك ، أسير نعمتك .
فصل
قيل : يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة ، بيانهن قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] يعنى : قرناءهم من الشَّياطين ، وقوله جل ذكره : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] . أي قرنت .
وقيل : مقرونة أيديهم ، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي : بالقيود .
قوله : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من « المُجْرمينَ » وإمَّا من : « مُقرَّنِينَ » ، وإما من ضميره ، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر .
والسَّرابِيلُ : الثِّيابُ ، وسَرْبلتهُ ، أي : ألْبَستهُ السِّربالَ؛ قال : [ السريع ]
3251 .. أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه
وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع ، وشبهه قال تعالى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 8 ] .
والقَطرانُ : ما يستخرج منن شجر يسمَّى الأبهل ، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [ بحدته ، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف ، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ] ، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ ، وفيه لغاتٌ : « قِطرانٍ » بفتح القاف وكمسر الطاء ، وهي قراءة العامة .
و « قَطْران » بزنة سكران ، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وقال أبو النَّجْم : [ الرجز ]
3252 لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا ... و « قِطْرَان » بكسر القاف ، وسكون الطاء بزنة « سِرْحَان » ولم يقرأ بها فيما علمتُ .
قال شهابُ الدين رحمه الله : وقرأ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وةابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهم : « قَطِرِ » بفتح الْقاف ، وكسرها وتنوين الراء « آنٍ » بوزن « عَانٍ » جعلوها كلمتين ، والقَطِر : النَّحاس ، وال « آنِ » اسم فالع من أنَى يأني ، أي : تَناهى في الحرارةِ؛ كقوله تعالى : { بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] .
وعن عمر رضي الله عنه ليس بالطقران ، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه .
قال ابن الأنباري : « تلك النَّار لا تبطل ذلك القطران ، ولا تفنيه ، كما لا تهلك أجسادهم النَّار ، والأغلال التي عليهم » .
واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال ، وهو القميص ، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النَّار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الرِّحِ ، وأيضاً : التفاوت بين قطران القيامة ، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين .
قوله : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } قرىٍ « وتَغَشَّى » بتشديد الشِّين ، أي : وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين .
وقرىء برفع : « وُجوهُهُم » ونصب « النَّار » على سبيل المجازِ ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً .
والجملة من قوله : « وتَغْشَى » قال أبو البقاءِ : « حال أيضاً » .
يعني أنَّها معطوفة على الحالِ ، ولا يعني أنَّها حال ، والواو للحال ، لأنَّه مضارع مثبت .
فصل
المعنى : [ تعلو ] النَّار وجوههم ، ونظيره قوله تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب } [ الزمر : 24 ] وقوله : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] .
واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة ، والعلم ، والجهل ه والقلبُ ، وموضع الفكر ، والوهم والخيال هو الرَّأس ، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه ، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما ، قال الله تعالى [ في القلب ] : { نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] وقال تعالى في الوجه : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } .
قوله : { لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } في هذه الأيام وجهان :
أظهرهما : أنَّها تتعلق ب « بَرَزُوا » وعلى هذا فقوله : « وتَرَى » جلمة معترضة بين المتعلق ، والمتعلق به .
والثاني : أنها تتعلق بمحذوف ، أي : فعلنا بالمجرمين ، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم؛ أثاب الطَّائع .
قال الواحدي : « المرادُ : أنفسُ الكفَّار؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهعل الإيمان ، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه ، وأنه تعالى يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبتن من عملها اللائق بها ، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور ، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً ، فالله تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم ، فلأن يثيب المطيعين أولى » .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي : لا يظلمهم ، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقه .
قوله تعالى : { هذا بَلاَغٌ } إشارة إلى ما تقدَّم من قوله : « ولا تحْسَبنَّ » إلى هنا ، أو إلى كلِّ القرآن ، نزل منزلة الحاضر بلاغ ، أي : كافية في الموعظة .
قوله تعالى : { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } فيه أوجه :
أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف ، أي : ولينذروا أنزلنا عليك .
الثاني : [ أنه معطوف على محذوف ، وذلك المحذوف متعلق ب « بلاغ » ، تقديره : لينصحوا ولينذروا ] .
الثالث : أن الواو مزيدة : « ولِيُنْذَرُوا » متعلق ب « بَلاغٌ » ، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ .
الرابع : أنه محمولٌ على المعنى ، أي : ليبلغوا ، ولينذروا .
الخامس : أن اللام لام الأمر ، وهو حسنٌ ، لولا قوله : « ولِيَذَكَّرَ » فإن منصوب فقط .
قال شهاب الدين : قال بعضهم : لا محذور في ذلك ، فإن قوله : « لِيَذَّكرَ » ليس معطوفاً على ما تقدمه ، بل متعلق بفعل مقدر ، أي : وليذكر أنزلناه وأوحيناه .
السادس : أ ، ه خبر لمبتدأ مضمر ، التقدير : هذا بلاغ ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة .
السابع : أنه عطف مفرداً على مفردٍ ، أي : هذا بلاغ وإنذار ، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب .
الثامن : أنه معطوف على قوله : « يُخْرجَ النَّاسَ » في أول السورة ، وهذا غريب جدًّا .
التاسع : قال أبو البقاء : « المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة .
ويجوز أن يتعلق بمحذوف ، وتقديره : ولينذروا به أنزل ، أو تلي » .
قال شهاب الدين : « فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب : هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك » .
وقرأ العامة : « لِيُنذَرُوا » مبنيًّا للمفعول . وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس : « ولتُنْذِرُوا » بتاء مضمومة ، وكسر الذال كأن البلاغ للعموم ، والإنذار للمخاطبين ، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد
بن يزيد بن أسيد السلمي « ولِيَنْذَرُوا » بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء ، أي : علم به فاستعد له .
قالوا : ولو لم يعرف مصدر فهو ك « عَسَى » ، وغيرها من الأفعال التي لا مصارد لها .
فصل
معنى « لِيُنْذَرُوا » أي : وليخوفوا به { وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أي : يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله تعالى : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي : يتّعظ أولو العقول .
قال القاضي : أول هذه السورة ، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه ، وإن شاء عصى .
أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] وقد ذكرناه هناك .
وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى : { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } يدلُّ على أنَّه تعالى إنَّما أنزل هذه السورة ، وذكر هذه المواعظ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق؛ ليصيروا مؤمنين مطيعين ، ويتركوا الكفر والمعصية ، وقد تقدم جوابه .
روى أبو أمامة عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا » .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قوله تعالى : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } تقدَّم نظير { تِلْكَ آيَاتُ } أول الرعد ، والإشارة ب « تِلْكَ » إلى ما تظمنته السورة من الآيات ، ولم يذكر الزمشخريُّ غيره .
وقيل : إشارة إلى الكتاب السالف ، وتنكير القرآن للتفخيم ، والمعنى : تلك آياتُ ذلك الكتاب الكالم في كونه كتاباً ، وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان .
والمراد ب « الكِتَابِ » وال « قُرآن المبينِ » : الكمتاب الذي وعد به محمد صلوات الله وسلام عليه ، أي : مبين الحلال من الحرامِ ، والحقَّ من الباطل .
فإن قيل : لِمَ ذكر الكتاب ، ثم مقال : « وقُرْءَانٍ » ، وكلاهما واحدٌ؟ .
قيل : كلُّ واحدٍ يفيد فائدة أخرى؛ فإنَّ الكتاب ما يكتبُ ، والقرآن ما يجمع بضعه إلى بعض .
وقيل : المراد ب « الكِتَابِ » التَّوراةُ والإنجيلُ ، فيكون اسم جنسٍ ، وبال « قرآن » : هذا الكتاب .
قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ } في « رُبَّ » قولان :
أحدهما : أنها حرف جرٍِّ ، وزعم الكوفيُّون ، وأبو الحسنِ ، ابنُ الطَّراوة : أنها اسمٌ ، ومعناها : التَّقليلُ على المشهور .
وقيل : تفيد التكثير في مواضع الاتفخار؛ كقوله : [ الطويل ]
3253 فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ ... بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ
وقد أجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النَّظير .
وفيها سبعة عشرة لغة وهي :
« رُبَّ » بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديتد الباء ، وتخفيفها ، فهذه أربع ، ورويت بالأوجه الأربعة ، مع تاء التأنيث المتحركة ، و « رُب » بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء ، و « رُبُّ » بضم الراء وةالباء معاً مشددة ومخففة ، و « رُبَّت » .
وأشهرها : « رُبَّ » بالضم والتشديد والتخفيف ، وبالثانية قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث ، قرأ طلحة بن مصروف ، وزيد بن علي : « رُبَّتما » ، ولها أحكام كثيرة :
منها : لزوم تصديرها ، ومنها تنكير مجرورها؛ وقوله : [ الخفيف ]
3254 رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ ... وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي
ضرورة في رواية من جرَّ « الجَاملِ » .
ويجر ضمير لازم التفسير بعده ، ويستغنى بتثنيتها وجمعها ، وتأنيثها عن تثنية الضمير ، وجمعه ، وتأنيثه؛ كقوله : [ البسيط ]
3255 . . ... ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقة؛ نحو : ربَّهُما رجُلَيْنِ ، نادر ، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورهنا؛ ومضيُّ ما يتعلق به على ضميره ، نحو : رُبَّ رجُلٍ وأخيه ، وهل يلزم وصف مجرورها؛ ومضيُّ ما يتعلق به على خلاف ، والصحيح عندم ذلك؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند : [ مجزوء الكامل ]
3256 يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا ... يَا لَهْفَ أم مُعاوِيًَه
ومن مجيء المستقبل ، قوله : [ الوافر ]
3257 فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي ... عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقول هند : [ مجزوء الكامل ]
3258 يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً .. . . .
وقول سليم : [ الطويل ]
3259 ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى ... سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ
فإن حرف التنفيس ، و « غداً » خلَّصاه للاستقبال .
و « رُبَّ » تدخل على الاسم ، و « رُبَّما » على الفعل ، ويقال : ربَّ رجُلٍ جَاءنِي ، ورُبَّما جَاءنِي .
و « ما » في « رُبمَا » ، تحتمل وجهين :
أظهرهما : أنها المهيئة ، بمعنى أنَّ « رُبَّ » مختصة بالأسماءِ ، فلما جاءت هنا « ما » هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [ يونس : 27 ] في « إنَّ » وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل؛ كقوله : [ الخفيف ]
3260 رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّلش فِيهِمْ .. . . .
في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه .
والثاني : أنَّ « مَا » نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها ، والعائد على « ما » محذوف تقديره : ربَّ شيء يوده الذين كفروا ، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها ، لم يحتج إلى تأويل ، ومن التزم ذلك قال : لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة ، فعبَّر عنه بالماضي ، تحقيقاً لوقوعه؛ كقوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ونحوه .
قوله : « لَوْ كَانُوا » يجوز في « لَوْ » وجهان : أحدهما : أن تكون الامتناعيَّة ، وحينئذ ، يكون جوابها محذوفاً ، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه ، ومفعول « يوَدُّ » محذوف على هذا التقدير ، أي : ربما يودُّ الذين كفروا النجاة ، دلَّ عليه الجملة الامتناعية .
والثاني : أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك ، كما تقدم تقريره في البقرة [ البقرة : 96 ] ؛ وحنيئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة ، أي : يودُّون كونه مسلمين ، إن جعلنا « ما » كافة ، وإن جعلناها نكرة ، كانت « لَوْ » وما في حيِّزها بدلاً من « مَا » .
فصل
المعنى : يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين ، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها .
قال الضحاك : حال المعاينة .
وقيل : يوم القيامة .
والمشهور : أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار .
روى أبو موسى الأشعريُّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ : ألَسْتُم مُسْلمينَ؟ قالوا : بَلى ، قالوا : فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم ، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ ، قالوا : كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا ، [ فيغفر ] الله لَهُمْ ، بِفضْلِ رَحْمتهِ ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار ، فيَخْرجُونَ مِنْهَا ، فحنيئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ » .
فإن قيل : « رُبمَا » للتقليل ، وهذا التَّمني يكثر من الكفار .
فالجواب : أنَّ « رُبمَا » يراد بها التكثير ، والمقصود إظهار الترفع ، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض؛ فيقولون : ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ ، قال : [ البسيط ]
3261 أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ .. . .
وقيل : التقليل أبلغ في التهديد ، والمعنى : أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل ، فكيف كثره؟ .
وقيل : إنْ شغلهم بالعاذب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً .
فإن قيل : إذا كان أهل القيامةِ ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال ، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه ، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ .
فالجواب : أحوالُ أهل الآخرةِ ، لا تقاس بأحوال الدنيا؛ فإن الله تعالى يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه ، وينزع عن قلوبهم الحسد ، وطلب الزيادتِ؛ كما قال تعالى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } [ الحجر : 47 ] .
قوله تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [ الحجر : 3 ] الآية ، أي دعْ يا محمد ، الكفَّار يأخذوةا حفوظهم من دنياهم ، فتلك خلاقهم ، ولا خلاق لهم في الآخرةِ ، { وَيُلْهِهِمُ } يشغلهم « الأملًُ » عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } إذا [ وردوا ] القيامة ، وذاقوا وبال [ صنعهم ] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ .
وقال بعض العلماء : « ذَرْهُمْ » ، تهديدٌ ، و { سَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، تهديدٌ آخر ، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتالِ .
قوله : « وذَرْهُمْ » ، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً؛ استغناءً عنه ب « تَرَكَ » ، بل يستعمل منه المضارع نحو : { وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] ، ومن مجيء الماضي قوله عليه الصلاة والسلام « ذَرُوا لحَبشَة ما وَذَرتْكُم » ، ومثله : دَعْ ويَدَعْ ، ولا يقال : ودَعَ إلا نادراً ، وقد قرىء : { مَا وَدَّعَكَ } [ الضحى : 3 ] مخففاً؛ وأنشدوا : [ الرمل ]
3262أ سَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ ... عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ؟
و « يَأكلُوا » مجزومٌ على جواب الأمر ، وقد تقدم [ البقرة : 17 ، 278 ] أنَّ « تَرَكَ » و « وَذرَ » يكونان بمعنى « صيَّر » ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي : ذرهُم مهملين .
قوله تعالى : { وَيُلْهِهِمُ الأمل } ، يقال : لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا؛ جاء في الحديث : أنَّ ابن الزبير رضي الله عنه كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث « .
قال الكسائيُّ ، والأصمعيُّ : كلُّ شيءٍ تركتهُ ، فقد لهيتهُ؛ وأنشد : [ الكامل ]
3262ب صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ ... أي : اتركها ، وأعرض عنها .
فصل في سبب شقاء العبد
قال القرطبي : أربعةٌ من الشقاءِ؛ جمودُ العين ، وقساوة القلبِ ، وطُولُ الأملِ ، والحرصُ على الدُّنيا .
فطُول الأملِ : داء عضالٌ ، ومرض مزمن ، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه ، واشتدَّ علاجه ، ولم يفارقه داءٌ ، ولا نجع فيه دواء ، بل أعيا الأطبَّاء ، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء .
وحقيقة الأمل : الحرص على الدنيا ، والانكباب عليها ، والحبُّ لها ، والإعراض عن الآخرة ، قال صلوات الله وسلامه عليه : » نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ « .
وقال الحسن : ما أطال عبدٌ الأمل ، إلا أساء العمل .
قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ } ، أي : من أهل قرية ، { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ } فيه أوجه :
أظهرها : أنها واو الحال ، ثم لك اعتباران :
أحدهما : أن تجعل الحال وحدها الجارَّ ، ويرتفع « كِتَابٌ » به فاعلاً .
والثاني : أن تجعل الجارَّ مقدماً ، و « كِتَابٌ » مبتدأ ، والجملة حالٌ ، وهذه الحال لازمةٌ .
الوجه الثاني : أنَّ الواو مزيدة ، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة : « إلاَّ لَهَا » بإسقاطها ، والزيادة ليست بالسهلةِ .
الثالث : أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة؛ تأكيداً ، قال الزمخشريُّ : والجملة واقعة صفة ل « قَرْيَةٍ » ، والقياس : ألاَّ تتوسط هذه الواو بينهما؛ كما قوله تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطت ، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف؛ كما تقول : « جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ » .
وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء ، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] .
قال أبو حيَّان رحمه الله : « ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين » .
قال شهاب الدين : وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك « .
ثم قال أبو حيان : » وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد « إلاَّ » يكون صفة؛ وقد منعوا ذلك « .
قال الأخفش : لا يفصل بين الصفة والموصوف ب » إلا « ، ثم قال : وأما نحو : » مَا جَاءَنِي رجٌلٌ إلاَّ راكِبٌ « على تقدير : إلاَّ رجلٌ راكبٌ ، ففيه قُبح؛ لجعلك الصفة كالاسم .
وقال أبو علي : تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلاَّ قائماً ، وقائماً حالٌ ، ولا تقول : إلاَّ قائمٌ؛ لأنَّ » إلاَّ « لا تعترض بين الصِّفة والموصوف .
قال ابن مالكٍ : وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله » مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلاَّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ « : إنَّ الجملة بعد » إلاَّ « صفة ل » أحَدٍ « : إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه ، وأبطل قوله : » إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوف الصفة بالموصوف « .
قال شهابُ الدين رحمه الله : قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال ، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه .
فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة ، ويقويه أيضاً [ نصره ] به من الآية الأخرى في قوله : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] . ويقويه أيضاً : قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة ، وقال منذرُ بن سعيد : هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ ، هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو ، ومنه قوله تعالى :
{ حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] .
فصل
لما توعد مكذِّبي الرسل بقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } الآية أتبعه بما يؤكد الزجر ، وهو قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } في الهلاك والعذاب ، أي : أجلٌ مضروبٌ ، لا يتقدم العذاب عليه ، ولا يتأخر عنه ، والمراد بهذا الهلاك : عذاب الاستئصال ، وقيل : الموتُ .
قال القاضي : والأول أقرب؛ لأنه أبلغ في الزَّجر ، فبيَّن تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترَّ به العاقل . وقيل : المراد بالهلاك مجموع الأمرين .
قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } « مِنْ أمةٍ » فاعل « تَسْبِقُ » ، و « مِنْ » مزيدة للتأكيد؛ كقولك : ما جَاءنِي من أحَدٍ .
قال الواحدي : « وقيل : ليست بزائدةٍ؛ لأنَّها تفيد التبعيض ، أي : هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة ، فيكون ذلك في إفادة عموم النَّفي ، آكد » .
قال الزمخشري : « معنى : » سَبَقَ « : إذا كان واقعاً على شخصٍ ، كان معناه أنَّه [ جاز ] ، وخلف؛ كقولك : سَبَقَ زيدٌ عمْراً ، أي : جَاوزَهُ وخَلفهُ وراءهُ ، ومعناه : أنه قصَّر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمانٍ ، كان بالعكس في ذلك ، كقولك : سَبٌ فُلانٌ عام كذا ، معناه : أنه مضى قبل إتيانه ، ولم يبلغه ، فقوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } معناه : أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنَّما يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده ، وإنَّما يحصل في ذلك الوقت بعينه » .
وحمل على لفظ « أمََّةٍ » في قوله : « أجَلهَا » ، فأفرد وأنَّث ، وعلى معناها في قوله : { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } ، فجمع وذكَّر ، وحذف متعلق « يَسْتَأخِرُون » وتقديره : عنه؛ للدلالة عليه ، ولوقوعه فاصلاً .
وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من ما أو قتل ، فإنما مات بأجله ، وأنَّ من قال : يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء .
قوله : « وقَالُوا » ، يعنى مشركي مكَّة { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } ، أي : القرآن ، وأراد به محمداً صلى الله وعليه وسلم .
والعامة على : « نُزِّلَ » مشدَّداً ، مبنيًّا للمفعول ، وقرأ زيد بن علي : « نَزلَ » ، مخفََّاً مبنيًّا للفاعل .
{ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } وذكروا نزول الذِّكر؛ استهزاء ، وإنما وصفوه بالجنون ، إما لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يظهر عليه عند نزول الوحي ، حالةٌ شبيهةٌ بالغشي؛ فظنُّوا أنَّها جنونٌ ، ويدلُّ عليه قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } [ الأعراف : 184 ] .
وإما لأنه كانا يستبعدون كونه رسولاً حقًّا من عند الله؛ لأن الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره ، فربما قال : به جنون .
قوله : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } ، « لَوْ مَا » : حرف تحضيضٍ؛ ك « هَلاًّ » ، وتكون أيضاً حرف امتناع لوجودٍ ، وذلك كما أنَّ « لولا » متردَّدةٌ بين هذين المعنيين ، وقد عرف الفرق بينهما ، وهو أنَّ التحضيضيَّة لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً؛ كقوله : [ الطويل ]
3263 . ... لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
والامتناعية لا يليها إلا الأسماء : لظفاً أو تقديراً عند البصريين .
وقوله : [ الوافر ]
3264 ولَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالِي
مؤولٌ؛ خلافاً للكوفيين .
فمن مجيء « لَوما » حرف امتناعٍ قوله : [ البسيط ]
3265 لَوْمَا الحيَاءُ ولَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكمَا ... بِبعْضِ ما فِيكُمَا إذْ عِبْتُما عَورِي
واختلف فيها : هل هي بسيطة أم مركبة؟ .
فقال الزمخشري : « لَوْ » ركبت مع « لا » ، ومع « مَا » ؛ لمعنيين ، وأمَّا « هَلْ » فلم تركَّب إلاَّ مع « لا » وحدها؛ للتحضيض .
واختلف أيضاً في « لَوْمَا » هل هي أصلٌ بنفسها ، أم فرعٌ على « لَوْلاَ » وأنَّ الميم مبدلة من اللام ، كقولهم : خاللته ، خالمته ، فهو خِلِّي وخِلْمِي ، أي : صديقي .
وقالوا : استولى على كذا ، [ واسْتَوَى ] عليه؛ بمعنًى ، خلاف مشهور ، وهذه الجملة من التحضيض ، دالةٌ على جواب الشرط بعدها .
فصل في معنى الآية
المعنى : لو كنت صادقاً في أدَّعائك النُّبوَّة ، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقكم فيما تدَّعيه من الرسالة؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام : { وَقَالُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر } [ الأنعام : 8 ] ويحتمل أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا خوَّفهُم بنزول العذاب ، قالوا : لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب ، وهو المراد من قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب } [ العنكبوت : 53 ] .
ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم بقوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } فإذا كان المراد الأول ، كان تقرير الجواب : أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار ، أنه لو أنزل عليهم ملائكة ، لبقوا مصرِّين على كفرهم ، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً ، ولا يكون حقًّا ، فلهذا السبب ما أنزل الله تعالى الملائكة .
قال المفسرون : المراد بالحق هنا الموت ، أي : لا ينزلون إلا بالموتِ ، أو بعذابٍ الاستئصال ، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ ، ولا إمهال ، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة ، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب : أنَّ الملائكة لا تنزل إلاَّ بعذاب الاستئصال ، ولا تفعل بأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم ، ومن إيمان أولاد الباقين .
قوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } ، قرأ أبو بكر رضي الله عنه : « ما تُنزَّلُ » بضمِّ التاء ، وفتح النون ، والزاي مشدَّدة ، مبنيًّا للمفعول ، « المَلائِكةُ » : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله ، وهو موافقٌ لقوله تعالى :
{ وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ؛ لأنها لا تنزل إلاَّ بأمر من الله تعالى فغيرها هو المنزِّلُ لها ، وهو الله تعالى .
وقرأ الأخوان ، وحفص : بضمِّ النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري جل ذكره . « المَلائِكةَ » ، نصباً : مفعول به؛ وهو موافق لقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة } [ الأنعام : 111 ] ، ويناسب قوله قبل ذلك : « ومَا أهْلَكْنَا » ، وقوله بعده : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم .
والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء والنون والزاي مشددة ، و « المَلائِكةُ » مرفوعة على الفاعلية ، والأصل : تَتنَزَّلُ ، بتاءين ، فحذفت إحداهما ، وقد تقدم تقريره في : { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، ونحوه ، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
وقرأ زيد بن علي : « مَا نَزلَ » مخففاً مبنيًّا للفاعل ، و « الملائكةُ » مرفوعة على الفاعلية ، وهو كقوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعرا : 193 ] .
قوله : { إِلاَّ بالحق } يجوز تعلقه بالفعل قبله ، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبسين بالحق ، وجعله الزمخشري رحمه الله نعتاً لمصدر محذوف ، أي : إلاَّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ .
قوله « إذَنْ » قال الزمخشري : « إذَنْ حرف جواب وجزاء؛ لأنها جواب لهم ، وجزاء الشرط مقدر ، تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ، وما أخر عذابهم » .
قال صاحب النظم : « لفظة » إذَنْ « مركبة من » إذْ « ، وهو اسم بملنزلة » حِينَ « ؛ تقول : أتيتك إذْ جِئْتنِي ، أي : حِينَ جِئْتنِي ، ثم ضم إليه » إنْ « فصار : ِإذْ أنْ ، ثما استثقلوا الهمزة؛ فحذفوها ، فصار » إذَنْ « ، ومجيْ لفظة » أنْ « دليل على إضمار فعلٍ بعدها ، والتقدير : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا » .
قوله : « نَحْنُ » إما مبتدأ ، وإما تأكيدٌ ، ولا يكون فصلاً؛ لأنه لم يقع بين اسمين ، والضمير « لَهُ » للذكر ، وهو الظاهرُ ، وقيل : للرسول صلوات الله وسلامه عليه قاله الفراء ، وقوَّاه ابن الأنباري ، قال : لما ذكر الله الإنزال ، والمنزل ، دلَّ ذلك على المنزل عليه ، فحسنت الكناية عنه؛ لكونه أمراً معلوماً ، ك ما في قوله تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] فإنَّ هذه الكناية عائد على القرآن ، مع أنه لم يتقدم ذكره؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم ، فكذا هاهنا ، والأول أوضحُ « .
فإذا قلنا : الكناية عائدة إلى القرآن ، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن؟ .
فقيل : بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة ، والنقصان فيه ، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه ، بغير نظم القرآن .
وقيل : صانه ، وحفظه من أن يقدر أحدٌ من الخلق على معارضته .
وقيل : قيَّض جماعة يحفظونه ، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاءِ التكليفِ .
وقيل : المراد بالحفظِ : هو أنَّه لو أنَّ احداً حاول تغيير حرفٍ أو نقطةٍ ، لقال له أهل الدنيا : هذا كذب ، وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتَّفق له لحنٌ أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان : أخطأت أيُّها الشيخ ، واعلم أنه لم يتفق لشيءٍ من الكتب مثل هذه الحفظ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف ، والتحريف ، والتغيير ، إما في الكثير منه ، أو في القليل ، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التَّحريف ، مع أنَّ دواعي الملاحدة ، واليهود ، والنصارة ، متوفرة على أبطاله وإفساده ، فذلك من أعظم المعجزات .
فإن قيل : لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف ، وقد وعد الله عز وجل بحفظه وما حفظ الله عز وجل فلا خوف عليه؟ .
فالجواب : أنَّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه ، فإنه تعالى لما أراد حفظه ، فيَّضهم لذلك ، وفي الآية دلالةٌ قويةٌ على كون البسملةِ آية من كل سورة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وعد بحفظ القرآن ، والحفظُ لا معنى له إلاَّ أن يبقى مصُوناً عن التغيير وعن الزيادة ، وعن النقصان فلو لو تكن التسمية آية من القرآن ، لما كان مصوناً من التغيير والزيادة ، ولو جاز أن يظنَّ بالصحابة رضي الله عنهم أنهم زادوا ، لجاز أيضاً أن يظنَّ بهم النقصان؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجَّة ، وهذا لا دليل فيه؛ لأن أسماء السور أيضاً مكتوبةٌ معهم في المصحف ، وليست من القرآن بالأجماع .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا } مفعوله محذوف ، أي : أرسلنا رُسُلاً { مِن قَبْلِكَ } ف { مِن قَبْلِكَ } يجوز أن يتعلق ب « أرْسَلْنَا » ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعتٌ للمعفو ل المحفوف .
و { فِي شِيَعِ الأولين } ، قال الفراء : هو من إضافة المصوف لصفته ، والأصل : في الشِّيعِ الأوَّلين؛ كصَلاةِ الأولى ، وجَانبِ الغربي حقِّ اليَقينِ ، وجين القيمة .
والبصريون : يؤولنه على الحذف [ الموصوف ، أي : في شيعِ الأممِ الأولين ، وجانب المكان الغربي ، وصلاةِ السَّاعةِ الأولى .
والشِّيعُ : قال الفراء : الشَّاعُ واحدهم : شِيعَة ، وشِيعَةُ الرجُلِ : أتْباعهُ ، والشِّيعَةُ : وهم القوم المجتمعة المتفقة ، سموا بذلك؛ لأن بعضهم يُشَاعُ بعضاً ، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } [ الأنعام : 65 ] .
قوله : { وَمَا يَأْتِيهِم } قال الزمخشري : « حكاية حال ماضية؛ لأنَّ » مَا « لا تدخل على المضارع إلاَّ وهو في موضعِ الحالِ ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال » .
وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم؛ لكنَّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال؛ كقوله تعالى : { مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي } [ يونس : 15 ] ، وأنشدوا للأعشى يمدحُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم : [ الطويل ]
3266 لَهُ نَافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُهَا ... ولَيْسَ عطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدا
وقال أبُو ذؤيب : [ الكامل ]
3267 أوْدَى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً ... عِنْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً مَا تٌقلِعُ
قوله : « إلا كانوا » هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من مفعول « تَأتيهم » ، ويجوز أن تكمون صفة ل « رسُولٍ » فيكون في محلِّها وجهان الجرُّ باعتبار اللفظ ، والرفع باعتبار الموضع ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مُقدَّرةٌ .
فصل في معنى الآية
المعنى : أنَّ عادة هؤلاء الجهَّال مع جميع الأنبياء والرسول صلوات لله وسلامه عليهم الاستهزاءُ بهم؛ كما فعلًُوا بك؛ ذكره تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم .
واعلم أنَّ السَّبَبَ الذي يحمِلُ هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة : إما لأنَّ الانتقال من المذاهب يشقُّ على الطِّباع .
وإمَّا لكونِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكون فقِيراً ، وليس له أعوان ، ولا أنصارٌ؛ فالرؤساءُ يَثقُل عليهم خدمة من يكون بهذه الصِّفة .
وأمّا خذلانُ الله تعالى لهم ، فبإلقاء دواعي الكفرِ والجهلِ في قلوبهم ، وهذا هو السبب الأصليّ .
قوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلِّ على خبرها متبدأ مضمر ، أي : الأمر كذلك ، و « نَسْلكهُ » مستأنف ، ويجوز أن تكون منصوبة المحل ، إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثل ذلك السلك؛ ويجوز نسلكه ، أي : نسلكُ الذكر ، إما ح حالاً من المصدر المقدَّر ، والهاء في « نَسْلكُهُ » يجوز عودها للذكر ، وهو الظاهر ، وقيل : يعود للاستهزاء ، قيل : على الشركِ .
والهاء في « بِهِ » يجوز عودها على ما تقدم من الثَّلاثة ، ويكون تأويلُ عودها على الاستهزاء والشرك ، أي : لا يؤمنون بسببه .
وقيل : للرسول صلوات الله وسلامه عليه وقيل : للقرآن .
وقال ابو البقاء : « ويجوز أن يكون حالاً ، أي : لا يؤمنون مستهزئين » كأنه جعل « بِهِ » متعلقاً بالحالِ المحذوفة قائمة مقامها .
وهو مردودٌ ، لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلة أو خبراً ، تعلَّق بكون مطلق لا خاصِّ ، وكذا الظرف .
ومحل « لا يُؤمِنُونَ » النَّصب على الحالِ ، ويجوز ألاَّ يكون لها محلٌّ؛ لأنها بيان لقوله { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } استئنافٌ ، والسَّلكُ : الإدخال ، يقال : سَلكْتُ الخَيْطَ في الإبْرةِ ، والرُّمحَ في المَطْعُونِ ومنه { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] .
قال أبو عبيدة ، وأبو عبيد : يقال : سَلكْتهُ وأسْلَكتهُ ، أي : نظمته ، قال : [ الوافر ]
3268 وكُنْتُ لِزازَ خَصْمكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وقَدْ سَلكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ
وقال الآخر في « أسْلكَ » : [ البسيط ]
3269 حتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدةٍ ... شَلاًّ كَمَا تَطْردُ الجَمَّالةُ الشُّردا
فصل في المعنى الإجمالي للآية
ق ل الزجاج : المعنى : قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضَّلال في قلوبهم .
وقيل : نه تهديدٌ لكفار مكة ، أي : قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية ، والأول أليق بظاهر اللفظ .
قوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء } الآية ، هذا هو المراد في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ } [ الأنعام : 7 ] الآية يعني : أنَّ الذين يقولون : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } [ الحجر : 7 ] ، فلو أنزلنا الملائكة « ، » فظلُّوا فيه « أي : فظلت الملائكة فيها » يَعْرجُونَ « ، وزهم يرونها عياناً .
و » ظلَّ « هذه الناقصة ، والضمير في » فظَلُّوا « يعود على الملائكةِ ، وهو الصحيح وقال الحسن رضي الله عنه : يعود على الكفَّار المفتح لهم الباب .
وقرأ الأعمش ، وأبو حيوة » يَعْرجُونَ « بكسر الراء؛ وهي لغةُ هذيل في عَرَجَ : يَعْرِجُ ، أي : صعد .
قوله
: { لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } قرأ ابن كثير : » سُكِرَتْ « مبنياً للمعفول ، مخفَّف الكاف ، وباقي السبعة كذلك إلا أنهم شدَّدوا الكاف ، والزهري : بفتح السين ، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل .
فأما القراءة الأولى : فيجوز أن تكون بمعنى المشددة؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير ، وهما مأخوذتان من : السِّكر ، بكسر السين ، هو السَّدُّ .
والمعنى : حُبِسَتْ أبصارنا ، وسُدَّت ، وقيل : بمعنى : أخذت ، وقيل : بمعنى : سُحِرَت ، وقيل المشدد من : سَكِرَ الماءُ بالكسر ، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم .
والمشهور أن » سَكِرَ « لا يتعدى فيكف بُنِي للمفعول؟ .
فقال أبو علي : » يجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر « .
والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ : أنَّ » سَكِر « إن كان من : » سَكِرَ الشَّرابُ ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحشُ « فالتضعيف فيه للتعدية ، وإن كان من » سَكِرَ الماءً « فالتضعيف فيه للتكثير؛ لأنه متعد مخفَّفاً ، وذلك أنه يقال : سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً ، إذا رَكدَت ، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً ، ذا رَكَدَ ، ولم ينقد لحاجته .
فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية ، ويقال : سَكِرتُ الماء في مجاريه : إذا منعتهُ من الجَرِّي ، فهذا متعدِّ ، فالتضعيف فيه للتكثير .
وأما قراءةٌ ابن كثير : فإن كانت من « سَكِرَ الماءًُ » فهي واضحةٌ؛ لأنه متعدِّ ، وإن كانت من « سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ » فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة ، ومتعدياً أخرى ، نحو : « رَجَعَ زيْدٌ » ، ورَجَعه غَيْرُه ، وسَعِندَ وسَعِدَه غَيْرُه « وقال الزمخشريُّ : » وسُكِّرَتْ : حُيِّرت أو حبست من السِّكرِ أو السُّكر ، وقرىء : « سُكرَتْ » بالتخفيف ، أي : حُبسَتْ كمَا يُحْبَسًُ المُهْرُ عنِ الجري « ، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين ، وقراءة التخفيف محمتلة لمعنى واحدٍ .
وأما قراءة الزهريِّ ، فواضحةٌ ، أي : غطيت ، وقيل : هي مطاوع : اسْكرتُ المكان فَسَكرَ : أي : سَددْتهُ فانْسَدَّ .
{ بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } ، أي عمل فينا السِّحْرُ ، وسحرنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : كيف يجوزز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين ا لسليمة في النهار الوضاح؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك ، ك انت السَّفسطةٌ لازمة ، ولا يبقى حنيئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة؟ .
أجاب القاضي رحمهن الله : بأنه تعالى ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون ، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول ، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة ، ثم سأل نفسه ، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟ .
وأجاب : بأنه يصحُّ ذلك ، إذا جمعه9م عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم ، وأيضاً : فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين ، سألُوةا الرسول صلى الله عليه وسلم إنزال الملائكةِ ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم ، وكانوا قليلي العددِ ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة ، جائزٌ .
قوله : » فظلُوا « يقال : ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا : إذا فعلهُ بالنَّهارِ ، ولا تقول العربُ : » ظَلّ يَظَلْ « إلاَّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ؛ كما لا يقولون : بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل ، والمصدر الظُّلُول .
والعُروجُ : الصُّعودُ ، يقال : عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً ، ومنه : المَعَارجُ ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها .
فإن قلنا : إن الضمير في : » فَظلُّوا « للملائكة ، فقد تقدم بيانه ، وإن قلنا : يعود على المشركين ، فقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : » فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج ، وينظرون إلى ملكوتِ الله سبحانه وتعالى وقدرته ، وسلطانه ، وإلى عباده ، وملائكته عليهم السلام لشكُّوا في تلك الرؤية ، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله « .
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
قوله : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً } الأية ، « جَعلْنَا » : يجوز أن يكون بمعنى « خَلقْنَا » فيتعلق به الجارُّ ، وأن يكون بمعنى صيِّرنا؛ فيكون مفعلوه الأول : « بُرُوجاً » ومفعوله الثاني : الجارَّ ، فيتعلق بمحذوفٍ ، و « للنَّاظِرينَ » متعلق ب « زَينَّاهَا » ، والضمير ل « السَّماءِ » أي : زيَّناها بالشَّمس ، والقمرِ ، والنجوم .
وقيل : للبروج : وهي الكواكب ، زَّنَّاها بالضوءِ ، والنظر عينيّ .
وقيل : قلبي وحذف متعلقة؛ ليعُمَّ .
فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية
لما أجاب عن منكري النبوة ، وقد ثبت أنَّ القول بالنبوةِ فرعٌ على القول بالتوحيد ، أتبعه تعالى بدلائل التوحيد وهي : منها سماويَّة ، ومنها أرضية ، فبدأ بذكر السماوية ، فقال وعز وجل : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } .
قال اللَّيثُ رحمه الله : البُرُوج واحدها بُرْج من بُروجِ الفلك ، والبُرُوج : هي النجوم الكبار ، مأخوذة من الظهور ، يقال : بَرجَتِ المرأةُ ، أي : ظهرت ، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس ، والقمر ، والكواكب السيارة .
والعرب تعدُّ المعرفة بمواقعِ النُّجوم ، وأبوابها من أجلِّ العُلومِ ، ويستدلُّون بها على الطُّرقاتِ ، والأوقاتِ ، والخصب ، والحدْبِ ، وقالوا : الفلكُ : اثنَا عشر بُرْجاً ، كلُّ برجٍ ميلان ، ونصر للقمر .
وقال ابن عطية : هي قصورٌ في السماءِ ، وعليها الحرسُ .
{ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } مَرجُومٍ ، وقيل : ملعُون .
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه كانت الشياطين لا يحجبون عن السمواتِ ، وكانوا يدخلونها ، ويأتون بأخبارها؛ فيلقون على الكهنة ، فلما ولد عيسى صلوات الله وسلامه عليه منعوا من ثلاث سماواتٍ ، فلما و لد محمدٌ صلى الله عليه وسلم من السموات أجمع ، فما منهم من أحدٍ يريد استراق السمع ، 'إلاَّ رمي بشهابٍ .
فلمَّا منعُوا من تلك المقاعد ، ذكروا ذلك لإبليس ، فقال : حدث في الأرض حدثٌ ، قال : فبعثهم ، فوجد رسول الله صلواتالله وسلامه عليه يتلوا القرآن ، فقالوا والله حدث .
فإن قيل : ما معنى : { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } والشيطانُ لا قدرة له على هدم السماء ، فإيُّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا : لما منعمه من القرب منها ، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان ، فحفظ الله السماء منهم ، كما قد يحفظ منازلنا ممَّن يخشى منه الفساد .
والرَّميُ في اللغة : الرميُ بالحجارة ، والرَّجمُ أيضاً : السبُّ والشتمُ؛ لأنه رميٌ بالقولِ القبيح ، والرجمُ : القول بالظنِّ؛ ومنه قوله تعالى : { رَجْماً بالغيب } [ الكهف : 22 ] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنِّ ، والرجم أيضاً : اللَّعن ، والطَّرد .
قوله : { إِلاَّ مَنِ استرق } فيه خمسة أوجه :
أحدهما في محل نصب على الاستثناء المتصل ، والمعنى : فإنها لم تحفظ منه؛ قاله غير واحدٍ .
الثاني : منقطعٌ ومحله النصب أيضاً ، أي : لكن من استرق السمع . قال الزجاج رحمه الله .
موضع « » مَنْ « نصبٌ على التقدير ، قال : » وجاز أن يكون في موضع خفض ، والتقدير : إلا ممَّن « .
الثالث : أنه بدلاٌ من » كُلِّ شَيطانٍ « فيكون محله الجرَّ ، قاله الحوفي ، وأبو البقاءِ ، وتقدم عن الزجاج ، وفيه نظر؛ لأن الكلام موجبٌ .
الرابع : أنه نعتٌ ل » كُلِّ شَيْطانٍ « فيكون محله الجر ، على خلاف في هذه المسألة .
الخامس : أنَّه في محلِّ رفع بالابتداءِ ، وخبره الجملة من قوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُ } ، وإنما دخلت الفاء؛ لأنَّ » مَنْ « إمَّا شرطيةٌ ، وإمَّا موصولةٌ ، مشبهةٌ بالشرطية . قاله أبو البقاء وحينئذٍ يكونُ من باب الاستثناءِ المنقطعه .
والشِّهَابُ : الشُّعلةُ مِنَ النَّارِ ، وسُمِّي بها الكوكبُ؛ لشدَّة ضَوئِه ، وبَريقه ، وكذلك سُمَّي السِّنانُ شِهَاباً ، ويجمع على : » شُهُبٍ « في الكثرةِ ، و » أشْهُبٍ « في القلَّة ، والشُّهْبَةُ : بياضٌ مختلطٌ بسوادٍ؛ تَشْبِيهاً بالشِّهاب؛ لاختلاطه بالدُّخانِ ، ومنه : كَتيبةٌ شهباءُ لسوادِ القَوْمِ ، وبياض الحديدِ ، ومِنْ ثمَّ غلط الناس في إطلاقهم الشُّبهة على البياضِ الخالص .
وقال القرطبيُّ : » أتْبَعَه « : أدركهُ ولَحِقهُ ، شهابٌ مُبِينٌ ، أي : كوكبٌ مُضيءٌ ، وكذلك : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] أي : شُعلة نارٍ في رَأسِ عُودٍ ، قاله ابن عزيزٍ؛ وقال ذُو الرُّمَّ : [ البسيط ]
3270 كَأنَّه كَوكَبٌ فِي إثْرِ عِفْريَةٍ ... مُسَوَّمٌ فِي سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضبُ
وسُمِّي الكَوكَبُ شِهَاباً ، لأنَّ بَريقَهُ يُشْبِه النَّار .
وقيل : شهابٌ شُعلة من نار تبين لأهل الأرضِ ، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقتهم ، كما إذا أحرقت النارُ ، لم تعد ، بخلاف الكواكب فِإنه إذا أحرق ، عاد إلى مكانه .
فصل
قال ابن عبَّاسٍِ رضي الله عنه : » إلاَّ مِنَ اسْترقَ السَّمْعَ « يريد الخفطة اليسيرة ، وذلك أن الشياطين يركبُ بعضهم بعضاً إلى سماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة ، فيُرمون من الكواكب ، فلا تخطيء أبداً ، فمنهم من يقتله ، منهم من يحرقُ وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله ، ومنهم من تخبله؛ فيصير غولاً؛ فيقتل الناس في البراري .
روى أبو هريرة رضي الله عنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » إذَا قَضَا اللهُ الأمْرَ فِي السَّماءِ ، ضَربَتِ المَلائِكةُ بأجْنِحَتهَا خضعاناً لقوله كَأنَّه سِلسِلَةٌ على صِنْوانٍ ، فإذَا فزعَ عَنْ قُلوبِهمْ ، قالوا : مَاذَا قَال ربُّكُمْ؟ قَالُوا : الَّذي قَالَ الحَقُّ وهُوَ العليُّ الكَبيرُ ، فَيُسْمعها مُسْترِقُ السَّمع ، مُسْترِقُ السمعِ هَكَّذَا بَعضهُ فَوْقَ بَعْضٍ ، ووَصفَ سُفْيَانُ بِكفِّه فحرَّقها وبدَّدَ بيْنَ أصَابعهِ ، فيَسْمَعُ الكَلِمة ، فيُلْقِهَا إلى مَنْ تَحْتهُ ثُمَّ يُلْقيها الآخرُ إلى مَنْ تَحْتهُ ، حتَّى يُلقِيهَا على لِسانِ السَّاحر ، والكَاهنِ ، ورُبّضما أدْركهُ الشِّهابُ قبْلَ ِِأنْ يلقِيهَا ، ورُبَّما ألْقَاهَا قبلَ أن يُدرِكَهُ ، فيَكذِب مَعَهَا مِائةَ كِذْ ، فيقالُ : ألَيْس قد قَالَ لَنَا اليَوْمَ كَذَا وكَذَا ، فيصدق بتِلْكَ الكَلمةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ « .
وهذا لم يكن ظاهراً قبل أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه عليه السلام وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساساً لنبوته صلى الله عليه وسلم .
قال يعقوب من عتبة بن المغيرة بن الأخنسِ بن شريق : إنَّ أول من قرع للرَّمي بالنجوم ، هذا الحيُّ من ثقيف ، وأنهم جاءوا إلى رجُلٍ منهم يقال له : عمر بنُ امَّة ، أحدُ بني علاج ، وكان أدْهَى العرب ، فقالوا له : ألَمْ تَرَ مَا حَدثَ في السماء من القذف بالنُّجُومِ؟ قال : بلى فانظروا ، فإن كانت معالمُ النجوم التي يُهْتدَى بها في البرِّ ، والبَحْر ، ويعرف بها الأنواءُ من الصيف ، والشتاء ، لما يصلحُ الناس من معايشهم ، هي التي يرمى بها ، فهي والله طيُّ الدنيا ، وهلاك الخلق الذين فيها ، وإن كان نجوماً غيرها ، وهي ثابتة على حالها ، فهذا الأمر أراد
الله لهذا الخلق .
قال معمرٌ : قلت للزهريِّ : أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال : نعم ، قال : أفرأيت قوله : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } [ الجن : 9 ] الآية قال : وقد غلظتْ ، وشدِّد أمرها حيث بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن قتيبة : إنَّ الرجم كان قبل مبعثه ، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم .
وقيل : إن النجم ينقضُّ ، ويرمي الشيطان ، ثم يعود إلى مكانه .
فصل
قال القرطبي : « اختلفوا في الشِّهاب : هل يقتل أم لا؟ .
فقال ابن عباس رضي الله عنهما الشِّهاب يَجرح ، ويَحرِقُ ، ويُخْبلُ ، ولا يَقْتلُ .
وقال الحسنُ ، وطائفةٌ : يقتل ، فعلى هذا في قتلهم بالشهب قبل إلقائها السمع إلى الجنِّ قولان :
أحدهما : يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن ، ولذلك ما يعودون إلى استراقه .
والثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ، ولو لم يصل لا نقطع الاستراق ، وانقطع الاحراقُ ، ذكره الماوردي » .
قال القرطبي : « والقول الأول أصح؛ على ما يأتي بيانه في » الصافات « » .
فصل
قال ابن الخطيب : « في هذا الموضع أبحاثٌ دقيقة على ما ذكرناها في سورة الملك ، وفي سورة الجن ، ونذكر ههنا إشكالاً واحداً وهو : أنّ لقائل أن يقول : إذا جوَّزتم في الجملة ، أن يصعد الشيطان إلى السماوات ، ويختلط بالملائكةِ ، ويسمع أخبار الغيوب منهم ، ثم إنه ينزل ، ويلقي تلك الغيوب ، فعلى هذا يجب أن يخرج الإخبار عن المغيَّبات عن كونه معجزاً ، لأنَّ كل غيبٍ يخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم فيه هذا الاحتمال؛ فيخرجُ عن كونه معجزاً دليلاً عل الصدقِ ، ولا يقال : إن الله تعالى أخبر عنهم أنَّهم عجزوا بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّا نقول : هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبكون القرآن الكريم حقًّا ، والقطع بهذا ، لا يمكن إلاَّ بواسطة المعجز ، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً ، ولا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال ، وحينئذٍ يلزم الدور ، وهو محالٌ باطلٌ .
ويمكن أن يجاب عنه : بانا نثبت كون محمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً ، بسائر المعجزات ، ثم بعد العلم بنبوته ، نقطع بأن الله عَجَّزَ الشياطين عن تلقف الغيب ، وبهذا الطريق يندفع الدَّور « .
قوله : { والأرض مَدَدْنَاهَا } » الأرْضَ « : نصبٌ على الاشتغال ، ولم يقرأ بغيره؛ لأنه أرجع من حيث العطف على جملة فعلية قبلها ، وهي قوله : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً } [ الحجر : 16 ] .
وقال أبو حيَّان : » ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية ، كان النَّصب أرجح من الرفع « .
قال شهاب الدين : لَمْ يعدُّوةا هذا من القرائن المرجحة للنصب ، إنما عندو عطفها على جملة فعلية قبلها ، لا عطف جمعلة فعلية عليها ، ولكنه القياس ، إذ يعطف فيه فعلية على مثلها ، بخلاف ما لو رفعت ، إذ تعطف فعلية على اسمية ، لكنهم لم يعتبروا ذلك .
والضمير في » فِيهَا « : للأرض . وقيل : للرَّواسي . وقيل : لهما .
فصل
لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التَّوحيد ، أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع :
الأول : قوله : { والأرض مَدَدْنَاهَا } قال ابن عباسٍ : بسطناها على وجه الماءِ ، وبسطت من تحته الكعبة .
النوع الثاني : قوله : { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجبال الثوابت واحدها راسٍ ، والجمع راسية وجم الجمع رواسي ، قال ابن عباسٍ : لما بسط الله الأرض على الماء ، مالت بأهلها كالسفينة؛ فأرساها الله بالجبال؛ لكيلا تميل بأهلها .
النوع الثالث : قوله تعالى : { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } ، يجوز فِي » مِنْ « أن تكمون تبعيضية ، وهو الصحيح ، وأن تكون مزيدة عند الكوفيين ، والأخفش ، والضمير في قوله : » فِيهَا « يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض ، وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي ، إلاَّ أنَّ رجوعها إلى الأرض أولى؛ لأن أنواع النبات المنتفع بها ، إنما تتولَّد في الأرض ، وأما الجبلية ، فقليلة النفع .
وقيل : رجوع الضمير إلى الجبال أولى؛ لأنَّ المعادن من الذهب ، والفضة ، والحديد ، والنحاس ، وغيرها؛ إنَّما تتولد في الجبال ، والأشياء الموزونة في العرف والمعادة ، هي المعادن لا النبات .
وفي المراد بالموزون وجوه :
قيل : المقَّدر بقدر الحاجة ، أي : أنَّ الله تعالى يثبت ذلك المقدر بقدر ما يحتاج إليه الناس؛ لقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] وقوله تعالى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } [ الحجر : 21 ] .
وقيل : المناسب المطابق للحكمة كقولهم : كلامٌ موزونٌ ، أي : متناسب بعيد عن اللغو ، والمعنى : موزونٌ بميزان الحكمة ، والعقل .
وقيل : موزونٌ؛ بمعنى أنَّ الذي تنبته الأرض نوعان : المعادنُ ، والنباتُ ، أما المعادن : فهي بأسرها موزنة ، وأما النبات : فيرجع عاقبته إلى الوزنِ ، كالمخترف ، والفواكة في الأكثر .
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } جحمع معيشة ، أراد الله بها المطاعم ، والمشارب ، والملابس ، وقيل : ما يعيش به المرءُ في الدنيا ، وقد تقدَّم الكلام على المعايش في الأعرافِ .
قوله تعالى : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } ، يجوز في خمسة أوجه :
أحدها : قول الزجاج : أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ ، تقديره : وأغنينا من لستم له برازقين ، كالعبد ، والدَّواب ، والوحوش .
الثاني : أنه منصوب عطفاً على « مَعايِشَ » ، أي : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لسْتُمْ له برازقين من الدَّواب المنتفع بها .
الثالث : أنه منصوب عطفاغً على محل « لَكُمْ » .
الرابع : أنه مجرور عطفاً على « كُمْ » المجرور بها اللام؛ وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي الكوفيين ، وبعض البصريين ، وتقدم تحقيقه في البقرة ، عند قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] .
الخامس : أنه مرفوع بالابتداء ، وخبره محذوف ، أي : ومن لستم له برازقين ، جعلنا له فيها معايش ، وسمع من العرب : ضربت زيداً ، وعمروا ، برفع « عمرو » ؛ مبتدأ محذوف الخبر ، اي : وعمرو ضربته ، و « مَنْ » يجوز أن يراد بها العقلاء ، أي : من لستم له برازقين من مواليكم الذين تزعمون أنكم ترزقونهم ، أو يراد بها غير العقلاء ، أي : من لستم له برازقين من الدوابِّ ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم؛ قال الله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } [ النور : 45 ] ، وقال سبحانه : { ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ } [ النمل : 18 ] فذكرها بصيغة جمع العقلاء ، ويجوز أن يراد بها النوعان؛ وهو حسنٌ لفظاً ومعنًى .
قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ } ، و « إنْ » : نافية ، و « مِنْ » مزيدة في المبتدإ ، و « عِنْدَنَ » خبره ، و « خَزائِنهُ » فاعل به؛ لاعتماده على النَّفي ، ويجوز أن يكون « عِندَنَا » خبراً ل « ما » بعده ، والجملة خبر الأولى ، والأولى أولى؛ لقرب الجارِّ من المفرد .
قال الواحدي : « الخَزائِنُ : جمع الخِزانَة ، وهي اسمُ المكمان الذي يُخْزنُ فيه الشيء ، أي : يحفظ ، والخِزانةٌ أيضاً عمل الخازن ، ويقال : خَزَنَ الشَّيء يَخْزنهُ ، إذ أحْرزَهُ » .
و « خَزَائِنهُ » هو المطر؛ لأنه سبب الأرزاق ، والمعايش لبني آدم ، وسائر الحيوانات .
قوله : « إلاَّ بقدَرٍ معلوم » يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنهخ حالٌ من المفعول ، اي : إلا ملتبساً بقدرٍ .
قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد : قدر الكفايةِ ، لكل ارضِ حدُّ مقدرٌ ، وقال الحكم : ما من عامٍ بأكثر مطرٍ ، من عام آخر؛ ولكنه يمطر قومٌ ، ويحرمُ آخرون ، وربما كان في البرح ، يعني أنه تعالى ينزل المطر كلَّ عامٍ بقدرٍ معلومٍ ، غير أنَّه يصرفه إلى من يشاء حيث يشاء .
ولقائل أن يقول : لفظ الآية لا يدلُّ على هذا المعنى ، فإن قوله تعالى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ، لا يدلُّ على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوامِ على قدر واحد ، فتفسير الآية بهذا المعنى تحكُّمٌ بغير دليلٍ .
وقال ابنُ الخطيب : « وتخصيص قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } بالمطر تحكم محضٌ؛ لأن قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ } يتناول جميع الأشياء ، إلا ما خصه الدليل » .
روى جعفر ، عن محمدٍ ، عن أبيه ، عن جده ، قال : في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر ، والبحر ، وهو تأويل قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } .
قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } الآية « لَواقِحَ » : حاتلٌ مقدرة من « الرِّياحِ » ، وفي اللواقح أقوال :
أحدها : أنها جميع « مُلْقِح » ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ ، فهو ملقحٌ ، وجمعه مَلاقح ، فحذفت اليمم؛ تخفيفاً ، يقال : ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب ، كما يقال : ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى؛ ومثله : الطَّوائِحشُ ، وأصله المطارحُ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ ، قال : [ الطويل ]
3271 لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ
وهذا قول أبي عبيدة .
والثاني : أنه جمع لاَقِح ، يقال : لقَحَتِ الريحُ : إذا حملتِ الماء ، وقال الأزهري : حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ؛ كقولك : ألقحتِ الناقةُ ، فلَقِحتْ ، إذا حملتِ الجَنين : َ في بَطْنِهَا ، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا؛ ومنه قوله : [ الطويل ]
3272 إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ
الثالث : أنَّها جمع لاقحٍ ، على النسب؛ كالابنِ وتامرِ ، أي : ذات لقاحٍ ، لأنَّ الرِّحَ إذا مَرَّت على الماءِ ، ثُم مرَّت على السَّحابِ ، والماءِ ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب؛ وهو قول الحسن ، وقتادة ، والضحاك؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب؛ وأصله من قولهم : لقَحتِ الناقة ، وألْقَحَهَا الفحلُ ، إذا ألقى الماء فيها فحملت .
قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية : بعث الله الرياحَ؛ لتلقيح السحاب ، فتحمل الماغء ، وتمجّه في السحاب ، ثم إنه يعصرُ السحاب ، ويدره كما يدر اللقحة .
وقال عبيدٌ بن عيمر : يبعثُ الله الريح المبشرة ، فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث المؤلفة ، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ ، فتجعله ركاماً ، ثم ثبعث اللوَاقِحُ الشَّجر ثم تلا عبيد : « وأرسلنا الرياح لواقح » قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ رضي الله عنه : لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها ، فالصَّبا تُهيِّجه ، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه ، والدَّبُور تُفرِّقه .
فصل
قال القرطبيُّ : « روي عن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } ، أي : ذوات لقح ، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولقاح الشَّجر كُلها : أن تثمر ويسقط منها ما يسقط ، ويثيبت منها ما يثبت » .
قال ابن العربيِّ رحمه الله : إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه من الروحُ ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر ، وتسنبله؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ ، وهو اللِّقاحُ ، وعليه جاء الحديث :
« نَهَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد » .
قال ابن عبد البرِّ : « الإبارُ عند أهل العلم في النخل : التَّلقيحُ ، وهو أن يأخذ شيئاً من طَلع ذكور النخلِ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث ، [ ومعنى ] ذلك في سائر الثمار [ ظهور الثمرة ] من التِّين ، وغيره ، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية ، حين ينظر إليها ، والمعتبر عند مالك رضي الله عنه وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكر ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وفي الزروع ظهوره من الأرض » .
فصل
قال عليه الصلاة ولاسلام « مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر ، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ ، إلاَّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ » فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ ف يالبيع إلا بالشرط؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً ، بخلاف التي لم تؤبَّر ، إذ ليس سقوطها غالباً ، بخلاف التي لم تؤبر ، إذ ليس سقوطها مأموناً ، فلم يتحقق لها وجود ، فلم يجز للبائع اشتراطها ، ولا استثناؤها؛ لِأنها كالجنين .
فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه؟
اشترى النَّخل ، وبقي الثمر للبائع ، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها ، في المشهور عن مالكٍ رحمه الله ويرى لها حكم التعبيةِ ، وإن انفردت بالعقدِ ، وعنه في رواية أنه لا يجوز ، وبه قال الشافعيُّ ، وأبو حنيفة ، والثَّوريُّ ، وأهل الظاهر .
فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين
نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِنيِ والمَلاقِحُ : الفحول من الإبلن ، الواحد مقلحٌ ، والمَلاقِحُ ما في بطون النوقِ من الأجنَّة ، الواحدة : مَلْقُوحةٌ ، من قولهم : لَقحْتُ ، كالمَحْمُومِ من حَمّ ، والمَجْنُون من جنّ ، وفي هذا جاء النَّهيُ .
قال أبو عبدية : المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ ، والمَلاقِيحُ : ما في أصلابِ الفحُولِ ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ ، وغيره .
وقيل : بالعكسِ .
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع [ المَجْر ] وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ .
قال ابن عابس رضي الله عنهما ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلاَّ جَثَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلى رُكْبتَيْهِ ، وقال : « اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمةتً ، ولا تَجْعلهَا عَذاباً ، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً » قال ابن عباس رضي الله عنهما في كتاب الله عز وجل : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } [ القمر : 19 ] ، { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } [ الذاريات : 41 ] وقال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] وقال تعالى : { يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] .
قوله تعالى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قد تقدّم أنَّ الماء : هل ننزل من السماء أو من السحاب .
وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ، قال الأزهريُّ : « تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ ، ومِنَ السَّماءِ ، أو نهْرٍ يَجْري : أسْقَيْتُه ، أي : جعلته شَرْباً له ، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته ، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ ، قالوا : سَقاهُ ، ولم يقولوا : أسْقَاه » .
ويؤكده اختلاف القراء في قوله : { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ، فقرؤا باللغتين ، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها ، ولم يختلفوا في قوله : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ } [ الإنسان : 21 ] ، وفي قوله : { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } [ الشعراء : 79 ] .
قال أبو علي : سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ ، وأسْقَيتهُ نَهْراً ، جعلتهُ شُرْباً ، وقوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } جعلناه سُقْياً لكم ، وربما قالوا في « أسْقَى » سَقَى؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً : [ الوافر ]
3273 أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ
سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ
فقوله : « سَقَى قَوْمي » ليس يريد به ما يروى عطاشهم ، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم ، يخصبون بِها ، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به ، فأما سَقَيَا السَّقيَّة ، فلا يقال فيها : أسْقاهُ . وأما قول ذي الرُّمة : [ الطويل ]
3274 وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ ... تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه
[ يريد بقوله : « أسقيه » : أدعو له بالسقاء ، وأقول : سقاه الله ] .
واتَّصل الضميران هنا : لاختلافهما ربتة ، ولو فصل ثانيهما ، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [ هود : 28 ] .
قوله تعالى : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } جملة مستأنفة ، و « لَهُ » متعلق ب « خَازِنينَ » ، والمعنى : أنَّ المطر في خَزائِننِا ، ولا في خَزائِنكُمْ . [ وقال سفيان : لستم بمانعين ] .
قوله تعالى : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } الآية ، هاذ النَّوع السادس من دلائل التوحيد ، وهو الاستدلال بالإحياء ، والإماتةِ على وجودِ الإلهِ القادر المختار .
قوله : « لَنَحْنُ » يجوز أن يكون مبتدأ ، و « نُحْيِي » خبره ، والجملة خبر « إنا » ويجحوز أن يكون تأكيداً ل « إنَّا » ، ولا يجوز أ ، يكون فصلاً؛ لأ ، ه لم يقع بين اسمين ، وقد تقدم نظيره [ الحجر : 9 ] .
وقال أبو البقاء : لا يكون فصلاً لوجهين :
أحدهما : أن بعده فعلاً .
والثاني : أنَّ معه اللام .
قال شهابُ الدِّين رحمه الله : « الوجه الثاني : غلطٌ؛ فشإن لام التوكيد لا يمنع دخولها على الفصل ، نصَّ النحاة على ذلك ، ومنه قوله { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ٍ ، جوَّزوا فيه الفصل مع إقرانه باللام » .
فصل
من العلماءِ من حمل الأحياء على القدرِ المشتركِ بين إحياءِ النبات والحيوان ، ومنهم من قال : وصف النبات بالإحياء مجاز؛ فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان ، وقوله جل ذكره : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } يفيد الحصر ، أي : لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا لنا ، « ونَحْنُ الوَارثُونَ » إذا مات جميع الخلائق ، فحينئذٍ يزول الملك كلِّ أحدٍ ، ويكون الله سبحانه هو الباقي المالك لكلِّ المملوكات ، وحده لا شريك له ، فكان شبيهاً بالإرثِ .
قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين } قال ابن عباس رضي الله عنهما المستقدمين : الأموات ، والمستأخرين : الأحياءُ .
وقال الشعبيُّ رضي الله عنه : الأولين ، والآخرين .
وقال عكرمة : المستقدمون : من خلق الله ، والمستأخرون : من لم يخلق .
وقيل : المستقدمين : القرون الأولى ، والمستأخرين : أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .
وقال الحسن : المستقدمين : في الطَّاعة والخير ، والمستأخرين : في صفِّ القتال .
وقال ابن عيينه : أراد من سلم ، ومن لم يسلم .
وقال الأوزاعيُّ : أ راد المصلِّين في أول الوقت ، المؤخِّرين إلى آخره .
روى أبو الجوزاء ، عن ابن عباس : كانت امرأةٌ حسناء تصلِّي خلق النبي صلى الله عليه وسلم فكان قومٌ يتقدمون إلى الصف الأول؛ لئلا يرونها ، وآخرون يتأخَّرون ، ليرونها .
وفي رواية : أنَّ النساء كنَّ يخرجن إلى الجماعة ، فيقفن خلف الرجال ، من النساء من في قلبها ريبة ، فتقدم إلى أول صفِّ النساء؛ لتقرب من الرجال؛ فنزلت الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أوَّلُها وشَرُّها أخرُهَا ، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُهَا وشَّرُّهَا أوَّلُهَا » .
وروري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصف الأول في الصلاة [ فازدحم ] النس عليه؛ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية .
والمعنى : إنَّا نجزيهم على قدر نيَّاتهم .
فصل
قال القرطبي : « الآية تدلُّ على فضل أول الوقت في الصلاة ، وعلى فضل الصف الأوَّل ، كما تدل على فضل الصف الأول في الصَّلاة ، كذلك تدلُّ على فضل الصفِّ الأول في القتال‘ فإنَّ القيام في وجه العدوِّ ، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عملٌ ، ولا خلاف في ذلك » .
واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم؛ فيدخل فيه علمه بتقدّمهم ، وتأخرهم ، في الحدوثِ ، الوجود في الطاعات وغيرها؛ فلا ينبغي أن تخص بحالةٍ دون حالةٍ .
ثم قال تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } على ما علم منهم ، وذلك تنبيه على أنَّ الحشر ، والنشر ، البعث ، والقيامة ، أمرٌ واجبٌ { إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : أنَّ الحكمة تقتضي وجوب الحشر ، والنشر ، وعلى ما تقرر في أول سورة يونس عليه السلام .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ } الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعه أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها ، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل ، هو أولُ الحوادث ، وإذا كان كذلك ، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس ، وذلك الإنسان الأول ، غير مخولقٍ من الأوبين؛ فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى .
فقوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } إشارة إلى ذلك الإنسان الأول ، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ صلوات الله وسلامه عليه .
ونقل في كتب الشِّيعة ، عن محمد بن علي الباقر ، أنَّه قال : قد انقضى قبل آدم صلوات الله عليه الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر .
قال ابنُ الخطيب رحمه الله : « وها لا يقدحُ في حدوث العالم ، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول ، هو أول الناس ، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم ، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع » .
واعلم أنه تعالى قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } [ ص : 71 ] ، وقال هاهنا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً ، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً ، ثم خلقه منه ، وتركه حتى جفّ ، ويبس وصار له صلصلة .
واعلم أنه تعالى قادر على خقله من أي جنس أراد ، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء ، وإنما خلقه على هذا الوجه؛ إما لمحض المشيئة ، أو لما فيه من دلالة الملائكة؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه .
وسمِّي إنساناً : إما لظهوره وإدراك البصر إياه ، وإمَّا من النسيان؛ لأنه عهد إليه فنسِي .
عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال : بعث الله تعالى جِبْريلَ عليه السلا إلى الأرض؛ ليأتيه بطينٍ منها ، فقالت الأرض : أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي؛ فرجع ولم يأخذ ، فقال يا ربِّ : أنها عاذتْ بك ، فأعذتها ، فبعث ميكايئيل صلوات الله عليه فعاذت منه ، فأعاذها؛ فرجع ، فقال كما قال جبريل ، فبعث ملك الموتِ ، فعاذت منه ، فقال : وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره ، فأخذ من وجه الأرض ، وخلطه ، لم يأخذ من مكان واحدٍ ، وأخذ من تربةٍ حمراء ، وبيضاء ، وسوجحاء ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين .
وسُمِّي آدم؛ لأنه خلق من أديم الإرض ، وصعد به ، فقال الله تبارك وتعالى : « أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك » ؟ فقال : رأيتُ أمرك وأوجب من قولها ، فقال جل ذكره : « أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً ، وهو يلتصُ بعضه ببعضٍ ، ثم ترك ، حتى أنتن ، وصار حمأ مسنوناً ، وهو المنتنُ .
ثم قال للملائكة : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } ، فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه ، لقوله الله تعالى : أتتكبَّر على ما علمت بيدي ، ولم أتكبر أنا عليه؟ .
فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً ، فلما رأتهُ الملائكة ، فزعوا منه ، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به ، فيضربه؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار ، وتكون له صلصلةٌ؛ فذلك قوله : { مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [ الرحمن : 14 ] ، ويقول : لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه ، ويخرج من دبره ، ويقول للملائكة : لا ترهبوا منه؛ فإنه أجوف ، ولئن سُلِّطت عليه ، لأهلكنَّه ، فلمَّا نفخ فيه الروح ، ووصل إلى رأسه ، عطس ، فقالت الملائكة عليه السلام : قُل : الحمد لله ، فقال : الحمد لله ، فقال الله له : رحمك ربُّك ، فلما دخل الروح في عينيه ، نظر إلى ثمار الجنة ، فلما دخلت الروحُ جوفه ، اشتهى الطعام؛ فوثب قبل أن تبلغ الورح رجليه؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة ، فذلك قوله تعالى : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ] .
قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } ، « مِنْ » : لابتداء الغاية ، أو للتبعيضن ، والصلصالُ : قال أبو عبيده هو الطين المختلط بالرمل ، ثم يجفُّ؛ فسمع له صلصلةٌ ، أي : تصويت ، قال : والصلصلةُ : الصَّوتُ؛ وأنشدوا : [ الكامل ]
3275 شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ ... وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ
أراد : صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا ، حين تطيرُ ، أو أصواتَ أفراخها .
وقال الزمخشريُّ : « الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ ، فإذا طبخ ، فهو فخار » .
وقال أبو الهيثم : « هو صوتُ اللِّجامِ ، وما أشبهه؛ كالقعقعة في الثوب » .
وقال الزمخشري أيضاً : قالوا : إذا توهَّمت في صوته مدًّا ، فهو صليلٌ ، وإن توهمت فيه خفاءً ، فهو صلصلةٌ ، وقيل : هو من تضعيف « صَلَّ » ، إذا أنتن أنتهى .
و « صَلْصَالٍ » هنا ، بمعنى مُصَلْصِل؛ كزَلْزالٍ ، بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون « فَعْلال » أيضاً مصدراً ، ويجوز كسره أيضاً ، وفي هذا النَّوع ، أي : ما تكررت فاؤه ، وعينه خلافٌ .
فقيل : وزنه : فَعْفَع؛ كُرِّرتِ الفاء والعين ، ولا لام للكلمة؛ قاله الفراء ، وغيره . وهو غلطٌ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة : فاءٌ ، وعينٌ ، ولامٌ .
والثاني : أنَّ وزنه « فَعْفَل : ؛ وهو قول الفرَّاء .
الثالث : أنه » فَعَّل « بتشديد العين ، وأسله » صَلَّل « فلما اجتمع ثلاثة أميالٍ ، أبدل الثاني من مجنس فاء الكلمة ، وهومذهب كوفيٌّ ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف بما إذا لم يختل المعنى ، بسقوطِ الثالث ، نحو » لَمْلَمَ « و » كَبْكَبَ « فإنَّك تقول فيهما : » لَمَّ « ، و » كَبَّ « ، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه؛ نحو : سَمْسَمَ » ، قال : فلا خلافَ في أصالة الجميع .
قوله تعالى : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } فيه وجهان :
أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل « صَلْصَالِ » ؛ فيتعلق بمحذوف .
والثاني : أ ، ه بدل من « صَلْصالٍ » بإعادة الجارِّ . والحَمَأ : الطِّينُ الأسودُ المنتنُ .
قال الليث رحمه الله : واحده « حَمَأة » بتحريك العين جمعله اسم جنسٍ؛ وقد غلط في ذلك؛ فإن أهل اللغة قالوا : لا يقال إلاَّ « حَمْأة » [ بالإسكان ] ، ولا يعرف التحريك؛ نصَّ عليه أبو عبيدة ، وجماعة؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ : [ الوافر ]
3276 تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً ... تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ
فلا يكون « الحَمَأة » واحدة « الحَمْأ » ؛ لاختلاف الوزنين .
والمَسْنُون : المَصْبُوب؛ من قولهم : سَنَنتُ الشَّرابَ ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً ، كغيره من المائعات ، فكأن المعنى : أفرغ صورة إنسانٍ ، كما تفرغ الجواهر المذابة .
قال الزمخشريُّ : وحقُّ « مَسْنُونٍ » بمعنى مصور : أن يكون صفة ل « صَلْصالٍ » ؛ كأنه أفرغ الحمَأ ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ . يعني أنه يصيرُ التقدير : من صلصالٍ مصوَّرٍ ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح؛ إذا جعلنا : « مِنْ حَمَأ » صفة ل « صَلْصَالٍ » ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه؛ فلا .
وقيل : مسنونٌ : مصوَّرٌ من سنَّة الوجه ، وهي صورته؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
3277 تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ..
وقال الزمخشريُّ : والمَسْنُونُ : المَحْكُوكُ ، مأخوذٌ من سننت الحجر ، إذا حككته به ، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً .
ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه .
وقيل : المسنونُ : المنسوب إليه ، والمعنى ينسب إليه ذريته ، وكأن هذا القائد أخذه من الواقع ، وقيل : هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر ، وهذا غلط؛ لاختلافِ المادتين .
رُوِيَ أنَّ الله تعالى خمَّر طينة آدم ، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود ، ثم خلق منه آدم صلوات الله وسلامه عليه .
قوله : { والجآن خَلَقْنَاهُ } منصوب على الاشتغال ، ورجَّح نصبه؛ لعطف جملة على جملة فعليةٍ .
والجَّانُّ : أبُو الجنّ ، هو إبليس؛ كآدم أبي الإنسِ ، وقيل : هو اسمٌ لجنسِ الجن .
وقرأ الحسن : « والجَأن » بالهمز ، وقد تقدّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة .
فصل
قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما : الجان ِأبو الجن؛ كما أن آدم أبو البشر ، وهو قول الأكثرين .
وروي أيضاً عن ابن عباسٍ ، والحسن ، ومقاتل ، وقتادة رضي الله عنهم : هو إبليس ، خلق قبل آدم .
وقيل : الجانُّ أبو الجن : وإبليس أبو الشياطين ، وفي الجنِّ : مسلمون ، وكافرون ، ويحيون ويموتون ، وأما الشيَّاطين؛ فليس سفهم مسلمون ، ويموتون إذا مات إبليس .
وذكر وهبٌ : أنَّ من الجن من يولد له ، ويأكلُونَ ، ويشربون بمنزلة الآدميِّين ، ومن الجن من هم بمنزلةِ الرِّيح : لاتوالدون ، ولا يأكلون ، ولا يشربون .
قال ابن الخطيب : « والأصحُّ أن الشياطين قسمٌ من الجن ، فمن كان منهم مؤمنٌ فإنه لا يسمَّى بالشيطان ، ومن كان منهم كافرٌ ، سمِّي بهذا الاسم . وسمُّوا جنًّا؛ لاستتارهم عن الأعين ، ومنه يسمَّى الجنينُ؛ لاستتاره عن الإعين ، في بطن أمِّه ، والجنَّةُ : ما تَقِي صابحها ، وتستره ، ومنه سمِّيت الجنة؛ لا ستتارها بالأشجار » .
قوله تعالى : { مِن قَبْلِكَ } ، و « مِن نَارٍ » متعلقان ب : خَلَقْنَاهُ « ؛ لأنَّ الأولى لابتداءِ الغاية ، والثانية للتعبيض ، وفيه دليلٌ على أنَّ » مِنْ « لابتداءِ الغاية في الزمان ، وتأويل البصريين له ، ولنظائره بعيد .
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما : » يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه « ز والسَّمومُ : ما يقتل من إفراطِ الحرّ من شمس ، أو ريح ، أو نار؛ لأنها تدخل المسامَّ فتَقْتلُ .
قيل : سُمِّيت سمُوماً؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامِّ البدن ، وهي الخروقُ الخفيَّة التي تكون في جلد الإنسان ، يبرز منها عرقه وبخار بطنه .
وقيل : السَّمومُ ما كان ليلاً ، والحرورُ ما كان نهاراً . وعن ابن عباس : نارٌ لا خانلها .
قال أبو صالح : والصَّواعِقُ تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله أمراً ، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به ، فالهَدَّةُ التي تسمعون؛ خرق ذلك الحجاب .
وقيل : نار السموم : لهب النَّار . وقيل : نارُ جهنَّم .
وروى الضحاك ، عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما : كان إبليس من جنسِ من الملائكة ، يقال لهم الجن ، خلقوا من نارِ السَّمومِ ، وخلقت الجنُّ الذين ذكروا من مارج من نارِ ، والملائكة خلقوا من نورٍ .
وقيل : { مِن نَّارِ السموم } من إضافةِ الموصوف لصفته .
قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ } الآية ، لما استدلَّ بحدوثِ الإنسان؛ على وجود الإله القادر المختار؛ ذلك بعده واقعته ، وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له ، والمراد بكونه بشراً ، أي : جسماً يباشر ويلاقى ، والملائكة ، والجن لا يبشارون؛ للطف أجسامهم ، والبشرة : ظاهر الجِلدِ مِنْ كُلِّ حيوانٍ ، وتقدَّم ذكر الصلصالِ ، والحَمأ المَسْنُونِ .
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : شكلته بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية .
وقيل : سوَّيتُ أجزاء بدنه : باعتدالِ الطَّبائعِ ، وتناسب الأمشاجِ ، نَفخْتُ فيه من روحي؛ فصار بشراً حيًّا .
والرُّوحُ : جسمٌ لطيفٌ ، يحيا به الإنسان ، وقيل : الرُّوحُ : هي الرِّيح؛ لأنَّ النَّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر؛ فظاهر قوله : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } يشعر بأنَّ الروح هي الريح ، وإلا لما صحَّ وصفها بالنَّفخ ، وسيأتي بقيةُ الكلام على الروح عند قوله : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] ، وأضاف روح آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً .
قوله تعالى : { فَقَعُواْ لَهُ } ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها ، وأن تتعلق ب » سَاجِدينَ « .
فصل
ظاهر قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } يدل على وجوب السجود على الملائكة؛ لأنه مذكمور بفاء التَّعقيب؛ وذلك يمنُ التَّراخي .
قوله « أجْمَعُونَ » تأكيد ثانٍ ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت؛ خلافاً لبعضهم .
وقال سيبويه : قوله : { كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } « توكيدٌ بعد توكيدٍ » . وسئل المبرد عن هذه الآية فقال : لو قال : فَسجَدَ الملائِكَةُ « احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال : كُلُّهم زال هذا الاحتمال ، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا ، ثم بعد هذا بقي احتمال وهو أنَّهم : هل سجدوا دفعة واحدة؟ أو سجد كل واحدٍ في وقت؟ . فلما قال : أجْمَعُون ظهر أن الكلَّ سجدوا دفعةً واحدةً . ولما حكى الزجاج هل القول ، عن المبرد ، قاتل : » وقول الخليل ، وسيبويه أجودُ؛ لأن « أجْمَعِينَ » معرفةٌ؛ فلا يكون حالاً « .
قال أبو البقاء : » لكان حالاً لا توكيداً « . يعنى أنَّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيدٌ؛ وفيه نظر؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى ، ألا ترى أنه يجوز : » جاؤوني جَمِيعاً « مع إفادته ، وقد تقدم تحريرُ هذا [ البقرة : 38 ] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم .
قوله : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } تقدَّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة .
قال القرطبيُّ رحمه الله : » الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي رضي الله عنه ، حتَّى ولو قال له : عليَّ دينارٌ إلا ثوباً ، أو عَشْرة أثْوابٍ ، إلاَّ قفيز حِنظَةٍ ، وما جانس ذلك يكون مقبُولاً ، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوبِ ، والحِنْطةِ ويستوي في ذلك : المكِيلات ، والمَوزونَات ، والمُقدَّرات « .
وقال مالكٌ ، وأبو حنيفة رضي الهل عنهما : استثناء المكيل من الموزون ، والموزون من المكيل جائزٌ؛ حتى لو ساتثنى الدَّراهم من الحنطةِ ، والحنطة من الدراهم ، قُبِلَ ، أمَّا إذا استثنى المقوَّماتِ من المكيلاتِ ، أو الموزوناتِ ، والمكيلاتِ من المقوماتِ؛ فلا يصحُّ ؛ مثمل أن يقول : له عشرة دنانير إلاَّ ثوباً ، أو عشرة أثواب إلاَّ ديناراً ، فيلزم المقرُّ جميع المبلغ .
قوله تعالى : { أبى أَن يَكُونَ } ، استئنافٌ؛ وتقديره : أنَّ قائلاً قال : هلاَّ سجد؟ فقيل : أبي ذلك ، واستكبر عنه .
قوله تعالى : { قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال بعض المتكلمين : إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس ، على لسان بعض رسله؛ وهذا ضعيف؛ لأنَّ إبليس قال في الجواب : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ } ، فقوله : » خَلَقْتهُ « خطاب الحضورِ ، لا خطاب الغيبة؛ فظاهره يقتضي أنَّ الله تعالى تكلم مع إبليس بعغير واسطة .
فإن قيل : كيف يعقل هذا؛ مع أنَّ مكالمة الله تعالى من غير واسطةٍ من أعظم الناصب ، وأعلى المراتب ، فكيف يعقل حصوله لرأسِ الكفرِةِ؟ .
فالجواب : أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً ، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام ، فأما إذا كان على سبيل الإهانة ، والإذلال ، فلا .
وقوله : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ } لتأكيد النَّفي ، معناه : لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر .
وحاصل كلامه : أن كون بشراً يشعر بكمونه جسماً كثيفاً ، وهو كان روحانيًّا لطيفاً ، فكأنه يقول : البشر جسماني كثيف ، وأنا روحاني لطيف ، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف ، فيكف يكون للأدنى سجود للأعلى؟ .
وأيضاً : فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ ، تولَّد من حمأ مسنون ، وهذا الأصل في غاية الدناءة ، وأصل « إبْليسَ » : هو النار ، والنار هي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم ، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى؛ فهذا مجموع [ شبهة ] إبليس .
{ قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } ، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح ، بل جواب على سبيل التنبيه .
وتقديره : أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ ، والذي قاله إبليس قياس ، ومن عارض النصَّ بالقياس ، كان رجيماً ملعوناً ، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف .
والضمير في : « مِنْهَا » : قيل : من جنَّة عدنٍ ، وقيل : من السمواتِ ، وقيل : من زمرة الملائكةِ .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } قال ابن عباسٍ رضي الله عنه : يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم .
و { إلى يَوْمِ } يجوز أن يتعلق بالاستقرار في : « عَليْكَ » ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة .
فإن قيل : كلمة « إلى » تفيد انتهاء الغايةِ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلاَّ يوم الدِّين ، وعند القيامة يزول اللَّعن .
فالجواب من وجوه :
الأول : أن المراد التأبيد ، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم؛ كقولهم : { مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 108 ] في التَّأيد .
والثاني : أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين ، من غير أن يعذب ، فإذا جاء ذلك اليوم ، عذِّب عذاباً [ ينسى ] اللعن معه ، فيصير اللَّعن حنيئذٍ كالزائلِ؛ بسبب أنَّ شدّضة العذاب تذهل عنه .
قوله : { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } وهذا متعلق بما تقدم ، والتدقير : إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة؛ فأنظريني ، أراد ألاَّ يموت ، والمراد من قوله : { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ، يوم البعثِ ، والنُّشورِ ، وهو يوم القيامة؛ فقال تعالى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } قيل : وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه .
وقيل : سمِّي معلوماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله عز وجل : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] .
وقيل : يوم الوقت المعلوم : يوم القيامة .