كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
لِأَنَّهُ خَالِصُ مِلْكِهِمْ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَكَذَا لَهُ حَقُّ الْمُزَاحَمَةِ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ إذَا خَرِبَ مَا فِي يَدِهِ .
وَالْبَيْعُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ ذَلِكَ فَمَنَعُوا عَنْهُ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ عَادَ إلَى الْوَرَثَةِ ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الْمَنَافِعَ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، فَلَوْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِ الْمُوصَى لَهُ اسْتَحَقَّهَا ابْتِدَاءً مِنْ مِلْكِ الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ مَرْضَاتِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
( بَابُ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْوَصَايَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَنَافِعِ ، وَأَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْأَعْيَانِ وُجُودًا فَأَخَّرَهَا عَنْهَا وَضْعًا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى وَالْوَصِيَّةِ بِالْخِدْمَةِ دُونَ الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مِنْ قَبِيلِ الْأَعْيَانِ .
وَالْبَابُ يَشْمَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا عُنْوَانًا وَأَحْكَامًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، وَإِنْ صُيِّرَ إلَى التَّوْجِيهِ بِبِنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى الْأَكْثَرِ يَبْقَى تَأْخِيرُ الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ خَالِيًا عَنْ بَيَانِ النُّكْتَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْأَعْدَلُ أَوْلَى ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : فِيهِ أَنَّ الْمَفْرُوضَ كَوْنُ الْمُهَايَأَةِ بِاخْتِيَارِهِمْ ، فَالْمُتَأَخِّرُ يَسْقُطُ حَقُّهُ فَلَا تَبْقَى الْأَوْلَوِيَّةُ إلَّا بِإِلْزَامِ الْحَاكِمِ حَتَّى يَكُونَ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ .
لِأَنَّ إسْقَاطَ الْمُتَأَخِّرِ حَقَّهُ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِطِيبِ خَاطِرِهِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِأَمْرٍ يَدْعُو إلَيْهِ ، فَكَيْفَ يُسَاوِي هَذَا اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ كَامِلًا كَمَا فِي الْأَوَّلِ .
ثُمَّ إنْ سَلِمَ كَوْنُ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَلَى طِيبِ خَاطِرِهِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ لَا يَقْتَضِي إلَّا انْتِفَاءَ الظُّلْمِ لَهُ وَتَحَقُّقَ الْعَدْلِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَوَّلِ أَعْدَلَ مِنْهُ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ ذَاتًا وَزَمَانًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَعْدَلَ أَوْلَى .
( قَوْلُهُ وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَيْنِ دَارِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهَا فَاقْتَسَمَهَا
الْمُوصَى لَهُ مَعَ الْوَرَثَةِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَإِنَّ لِلْوَرَثَةِ هُنَاكَ أَنْ يَبِيعُوا مَا فِي أَيْدِيهمْ مِنْ ثُلُثَيْ تِلْكَ الدَّارِ بِلَا خِلَافٍ مَعَ جَرَيَانِ هَذَا الدَّلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا ؛ بِأَنْ يُقَالَ : إنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتٌ فِي عَيْنِ جَمِيعِ الدَّارِ بِأَنْ ظَهَرَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ وَتَخْرُجُ الدَّارُ مِنْ الثُّلُثِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ ثَابِتًا فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ ظُهُورِ مَالٍ آخَرَ لِلْمَيِّتِ وَخُرُوجِ الدَّارِ مِنْ الثُّلُثِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْوَرَثَةِ أَيْضًا ثَابِتًا فِي سُكْنَى جَمِيعِ تِلْكَ الدَّارِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ حُقُوقُ أَشْخَاصٍ ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَسْكُنَ أَشْخَاصٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلَى حِدَةٍ فِي جَمِيعِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لِاسْتِلْزَامِهِ تَدَاخُلَ الْأَجْسَامِ وَظُهُورَ بُطْلَانِ تَعَلُّقِ الْحَقِّ بِأَمْرٍ مُحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي يَلْزَمُ أَنْ لَا يُقْسَمَ عَيْنُ الدَّارِ بَيْنَ الْمُوصَى لَهُ وَالْوَرَثَةِ أَثْلَاثًا لِلِانْتِفَاعِ ، وَأَنْ لَا يُقْسَمَ الدَّارُ بَيْنَهُمْ مُهَايَأَةً مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ أَثْلَاثًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ فِي سُكْنَى جَمِيعِ الدَّارِ وَعَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْفَرْضِ .
مَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ خِلَافُ ذَلِكَ كَمَا مَرَّ آنِفًا فِي الْكِتَابِ
( وَلَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي بَطَلَتْ ) لِأَنَّ إيجَابَهَا تَعَلَّقَ بِالْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ دَارِهِ فَاسْتَخْدَمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ سَكَنَهَا بِنَفْسِهِ قِيلَ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمَنَافِعِ كَعَيْنِهَا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغَلَّةَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ وَقَدْ وَجَبَتْ الْوَصِيَّةُ بِهَا ، وَهَذَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَمُتَفَاوِتَانِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ ظَهَرَ دَيْنٌ يُمْكِنُهُمْ أَدَاؤُهُ مِنْ الْغَلَّةِ بِالِاسْتِرْدَادِ مِنْهُ بَعْدَ اسْتِغْلَالِهَا وَلَا يُمْكِنُهُمْ مِنْ الْمَنَافِعِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا بِعَيْنِهَا ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ أَوْ الدَّارَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْوَصِيَّةِ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَيَمْلِكُ تَمْلِيكَهَا مِنْ غَيْرِهِ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ لِأَنَّهَا كَالْأَعْيَانِ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ لِأَنَّهَا إبَاحَةٌ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَمْلِكُ تَمْلِيكَهُ بِبَدَلٍ اعْتِبَارًا بِالْإِعَارَةِ فَإِنَّهَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ عَلَى أَصْلِنَا ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِبَدَلٍ ، كَذَا هَذَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّمْلِيكَ بِبَدَلٍ لَازِمٌ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَلَا يَمْلِكُ الْأَقْوَى بِالْأَضْعَفِ وَالْأَكْثَرَ بِالْأَقَلِّ ، وَالْوَصِيَّةُ تَبَرُّعٌ غَيْرُ لَازِمٍ إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ لِلْمُتَبَرِّعِ لَا لِغَيْرِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَلِهَذَا انْقَطَعَ ، أَمَّا هُوَ فِي وَضْعِهِ فَغَيْرُ لَازِمٍ ، وَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا وَفِي تَمْلِيكِهَا بِالْمَالِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهَا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ
الْوِلَايَةُ لِمَنْ يَمْلِكُهَا تَبَعًا لَمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، أَوْ لِمَنْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا ، أَمَّا إذَا تَمَلَّكَهَا مَقْصُودَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ مَلَكَهَا بِعِوَضٍ كَانَ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَلَّكَهُ مَعْنًى وَهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْعَبْدَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوصَى لَهُ وَأَهْلُهُ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَيُخْرِجُهُ إلَى أَهْلِهِ لِلْخِدْمَةِ هُنَالِكَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مَقْصُودِ الْمُوصِي ، فَإِذَا كَانُوا فِي مِصْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ خِدْمَتِهِ فِيهِ بِدُونِ أَنْ يَلْزَمَهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ ، وَإِذَا كَانُوا فِي غَيْرِهِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ لِيَخْدُمَهُمْ .
( قَوْلُهُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ لِمَنْ تَمَلَّكَهَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِإِجَارَةِ الْحُرِّ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَنْفَعَتَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ رَقَبَتِهِ وَلَا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَهَا بِبَدَلٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَصِيَّةِ فَمُرَادُهُ بِالْمَنْفَعَةِ مَنْفَعَةٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهِ ا هـ .
أَقُولُ : الْجَوَابُ مَنْظُورٌ فِيهِ ، لِأَنَّ كَوْنَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَصِيَّةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْمَنْفَعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي مُقَدِّمَاتِ دَلِيلِهِ مَنْفَعَةٌ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِهَا ، فَإِنَّ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مُسَاوِيَةً لِلْمُدَّعَى ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى إذَا كَانَ إنْتَاجُ الدَّلِيلِ بِطَرِيقِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ .
إذْ حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الْخِدْمَةَ وَالسُّكْنَى مِنْ قَبِيلِ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي تَمْلِيكِهِ بِالْمَالِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَمَا فِي تَمْلِيكِهِ إحْدَاثُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا لِمَنْ تَمَلَّكَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ أَوْ لِمَنْ تَمَلَّكَهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ حَتَّى يَكُونَ مُمَلَّكًا لَهَا بِالصِّفَةِ الَّتِي تَمَلَّكَهَا وَلَا يَكُونُ مُمَلَّكًا أَكْثَرَ مِمَّا تَمَلَّكَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ شَرْعًا ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَا عَدَا الصُّغْرَى مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ اقْتِضَاءِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كُلِّيَّةً كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فِي نَفْسِهَا لَا مَجَالَ لِتَقْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهَا بِمَا يَخْرُجُ بِهِ مَنْفَعَةُ الْحُرِّ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ
الْكُبْرَى مِنْ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ تَبَصَّرْ
وَلَوْ أَوْصَى بِغَلَّةِ عَبْدِهِ أَوْ بِغَلَّةِ دَارِهِ يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَخَذَ حُكْمَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ ، كَيْفَ وَأَنَّهُ عَيْنٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَكَانَ بِالْجَوَازِ أَوْلَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ ثُلُثُ غَلَّةِ تِلْكَ السَّنَةِ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْأَجْزَاءِ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُوصَى لَهُ قِسْمَةَ الدَّارِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَرَثَةِ لِيَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْتَغِلُّ ثُلُثَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ وَلِلشَّرِيكِ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ ، إلَّا أَنْ نَقُولَ : الْمُطَالَبَةُ بِالْقِسْمَةِ تُبْتَنَى عَلَى ثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْمُوصَى لَهُ فِيمَا يُلَاقِيهِ الْقِسْمَةُ إذْ هُوَ الْمُطَالِبُ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي عَيْنِ الدَّارِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي الْغَلَّةِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِقِسْمَةِ الدَّارِ ، وَلَوْ أَوْصَى لَهُ بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ وَلِآخَرَ بِرَقَبَتِهِ وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَالرَّقَبَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةُ عَلَيْهَا لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ، لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مَعْلُومًا عَطْفًا مِنْهُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَتُعْتَبَرُ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ .
ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ ، فَلَوْ لَمْ يُوصِ فِي الرَّقَبَةِ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ مَعَ كَوْنِ الْخِدْمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ ، فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ ، إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ فِيهِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَلَهَا نَظَائِرُ ، وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِأَمَةٍ لِرَجُلٍ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا لِآخَرَ وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ، أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَاتَمٍ وَلِآخَرَ بِفَصِّهِ ، أَوْ قَالَ هَذِهِ الْقَوْصَرَةِ لِفُلَانٍ وَمَا فِيهَا مِنْ التَّمْرِ لِفُلَانٍ كَانَ كَمَا أَوْصَى ، وَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِ الظَّرْفِ فِي الْمَظْرُوفِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ
كُلِّهَا ، أَمَّا إذَا فَصَلَ أَحَدُ الْإِيجَابَيْنِ عَنْ الْآخَرِ فِيهَا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا وَالْوَلَدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَكَذَلِكَ فِي أَخَوَاتِهَا .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِإِيجَابِهِ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ إيجَابُ الْأَمَةِ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا دُونَ الْوَلَدِ ، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُوصِي فَكَانَ الْبَيَانُ الْمَفْصُولُ فِيهِ وَالْمَوْصُولُ سَوَاءً كَمَا فِي وَصِيَّةِ الرَّقَبَةِ وَالْخِدْمَةِ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ .
وَكَذَلِكَ اسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا .
وَاسْمُ الْقَوْصَرَةِ كَذَلِكَ ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي مُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الْفَصِّ وَصِيَّتَانِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ بِإِيجَابٍ عَلَى حِدَةٍ فَيُجْعَلُ الْفَصُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ إيجَابُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ لِلثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الْأَوَّلِ ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلثَّانِي بِالْخَاتَمِ ، بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ مَعَ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ اسْمَ الرَّقَبَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْخِدْمَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهُ الْمُوصَى لَهُ بِحُكْمِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ حَصَلَتْ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِذَا أَوْجَبَ الْخِدْمَةَ لِغَيْرِهِ لَا يَبْقَى لِلْمُوصَى لَهُ فِيهِ حَقٌّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ : يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ مُنْفَرِدَةً كَانَتْ الرَّقَبَةُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ فَكَذَا إذَا أَوْصَى بِالرَّقَبَةِ لِإِنْسَانٍ آخَرَ تَكُونُ الرَّقَبَةُ لَهُ وَالْخِدْمَةُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهَا ، إذْ الْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ ا هـ .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَالَةِ الِانْفِرَادِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ : كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِمَا قَبْلَهُ مِنْ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ ، لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ لَمَّا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ إلَخْ ، وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ بِقَوْلِهِ يَعْنِي لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْخِدْمَةِ إلَخْ إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ بَيَانَ اعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ لَا بَيَانِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ وَحْدَهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ .
( قَوْلُهُ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَتَنَاوَلُ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ ، وَكَذَا اسْمُ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا ) قُلْت : لَيْسَ الْمُرَادُ بِتَنَاوُلِ اسْمِ الْخَاتَمِ لِلْفَصِّ وَبِتَنَاوُلِ اسْمِ الْجَارِيَةِ لِمَا فِي بَطْنِهَا تَنَاوُلَهُمَا لَهُمَا لَفْظًا وَأَصَالَةً ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يُخَالِفَ هَذَا مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا مِنْ أَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا ، وَيَلْزَمُ أَنْ يُخَالِفَ أَيْضًا مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ مِنْ أَنَّ الْفَصَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْخَاتَمِ لَفْظًا بَلْ تَبَعًا ،
وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ بِخَاتَمٍ لِرَجُلٍ وَاسْتَثْنَى فَصَّهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكُونُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ جَمِيعًا لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ .
بَلْ إنَّمَا الْمُرَادُ هَاهُنَا بِتَنَاوُلِ اسْمِ الْخَاتَمِ لِلْفَصِّ وَاسْمِ الْجَارِيَةِ لِمَا فِي بَطْنِهَا تَنَاوُلُهُمَا لَهُمَا تَبَعًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَتَرْتَفِعُ الْمُخَالَفَةُ كَمَا تَوَهَّمَهَا الْبَعْضُ ( قَوْلُهُ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي مُوجِبُهُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْإِحَاطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ ) أَقُولُ : لَا مَجَالَ لِلْعُمُومِ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَاتِيك الْمَسَائِلِ ، لِأَنَّ الْحَلْقَةَ وَالْفَصَّ بِالنَّظَرِ إلَى اسْمِ الْخَاتَمِ ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ وَمَا فِي بَطْنِهَا بِالنَّظَرِ إلَى اسْمِ الْجَارِيَةِ ، وَكَذَا الْقَوْصَرَةُ وَمَا فِيهَا بِالنَّظَرِ إلَى اسْمِ الْقَوْصَرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْزَاءِ لِمَدْلُولَاتِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَا جُزْئِيَّاتِ مَعَانِيهَا ، إذْ لَا يَصْدُقُ مَعْنَى الْخَاتَمِ عَلَى الْفَصِّ وَحْدَهُ ، وَلَا مَعْنَى الْجَارِيَةِ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا وَحْدَهُ ، وَلَا مَعْنَى الْقَوْصَرَةِ عَلَى مَا فِي الْقَوْصَرَةِ مِنْ مِثْلِ الثَّمَرِ وَحْدَهُ ، عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي وَصِيَّةِ خَاتَمٍ بِعَيْنِهِ وَجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا وَقَوْصَرَةٍ بِعَيْنِهَا وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ جُزْئِيٌّ خَاصٌّ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا الْعُمُومُ ، فَقَوْلُهُ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعَامَّ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ مَوْصُولًا ) لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْجَبَ لِصَاحِبِ الْخَاتَمِ الْحَلْقَةَ خَاصَّةً دُونَ الْفَصِّ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْفَصِّ مِنْ الْخَاتَمِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِكَوْنِ الِاسْتِثْنَاءِ تَصَرُّفًا لَفْظِيًّا غَيْرَ عَامِلٍ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ لَفْظًا كَالْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةِ فِي الْبُسْتَانِ
وَالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ التَّخْصِيصِ أَوْ الِاسْتِثْنَاءِ
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِآخَرَ بِثَمَرَةِ بُسْتَانِهِ ثُمَّ مَاتَ وَفِيهِ ثَمَرَةٌ فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَحْدَهَا ، وَإِنْ قَالَ لَهُ ثَمَرَةُ بُسْتَانِي أَبَدًا فَلَهُ هَذِهِ الثَّمَرَةُ وَثَمَرَتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مَا عَاشَ ، وَإِنْ أَوْصَى لَهُ بِغَلَّةِ بُسْتَانِهِ فَلَهُ الْغَلَّةُ الْقَائِمَةُ وَغَلَّتُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الثَّمَرَةَ اسْمٌ لِلْمَوْجُودِ عُرْفًا فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْدُومَ إلَّا بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ ، مِثْلُ التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبَدِ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَبَّدُ إلَّا بِتَنَاوُلِ الْمَعْدُومِ وَالْمَعْدُومُ مَذْكُورٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا ، أَمَّا الْغَلَّةُ فَتَنْتَظِمُ الْمَوْجُودَ وَمَا يَكُونُ بِعَرَضِ الْوُجُودِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى عُرْفًا ، يُقَالُ فُلَانٌ يَأْكُلُ مِنْ غَلَّةِ بُسْتَانِهِ وَمِنْ غَلَّةِ أَرْضِهِ وَدَارِهِ ، فَإِذَا أُطْلِقَتْ يَتَنَاوَلُهُمَا عُرْفًا غَيْرَ مَوْقُوفٍ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى .
أَمَّا الثَّمَرَةُ إذَا أُطْلِقَتْ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا الْمَوْجُودُ فَلِهَذَا يَفْتَقِرُ الِانْصِرَافُ إلَى دَلِيلٍ زَائِدٍ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ ) لِأَنَّهُ إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَئِذٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَعْدُومِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ ، إلَّا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ .
أَمَّا الْوَلَدُ الْمَعْدُومُ وَأُخْتَاهُ فَلَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَصْلًا ، وَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدٍ مَا ، فَكَذَلِكَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَصِيَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَوْجُودِ مِنْهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْبَيْعِ تَبَعًا وَبِعَقْدِ الْخُلْعِ مَقْصُودًا ، فَكَذَا بِالْوَصِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا أَوْ بِأَوْلَادِهَا أَوْ بِلَبَنِهَا ثُمَّ مَاتَ فَلَهُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا مِنْ اللَّبَنِ وَمَا عَلَى ظُهُورِهَا مِنْ الصُّوفِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ ) أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ سَمَاجَةٌ ، فَإِنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ فِي ذَيْلِهَا سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ لَا يُنَاسِبُ تَقْيِيدَ صَدْرِهَا بِقَوْلِهِ أَبَدًا حَيْثُ قَالَ وَمَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِصُوفِ غَنَمِهِ أَبَدًا ، فَالْأَوْلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي حَيْثُ تَرَكَ فِيهِ قَيْدَ أَبَدًا فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ ، أَوْ مَا ذُكِرَ فِي الْبِدَايَةِ حَيْثُ تَرَكَ فِيهَا قَوْلَهُ فِي ذَيْلِهَا سَوَاءٌ قَالَ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ إيجَابٌ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْأَشْيَاءِ يَوْمَئِذٍ ) أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يُنْتَقَضُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَتَيْ الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ ، فَإِنَّ الْإِيصَاءَ إيجَابٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فِي كُلِّ الصُّوَرِ مَعَ أَنَّهُ يَقَعُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَائِمِ يَوْمَئِذٍ وَعَلَى الْحَادِثِ بَعْدَهُ أَيْضًا بِذِكْرِ قَيْدِ الْأَبَدِ فِي الثَّمَرَةِ وَبِدُونِ ذِكْرِهِ أَيْضًا فِي الْغَلَّةِ ، نَعَمْ كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ تَدَارُكَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إلَخْ إلَّا أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ هَاهُنَا بَقِيَ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ وَجْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي الْفَرْقِ الْآتِي .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ فِي الثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ الْمَعْدُومَةِ جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ لِطَرِيقِ الْأَوْلَى ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ لَنَا أَصْلًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الثَّابِتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ مَقْصُورٌ عَلَى مَوْرِدِهِ ، وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَيْفَ أَلْحَقْت بِهِ ا هـ .
أَقُولُ : لَا
وُرُودَ لِمَا تَوَهَّمَهُ بَلْ هُوَ سَاقِطٌ جِدًّا ، فَإِنَّ مَبْنَاهُ أَنْ يَكُونَ إلْحَاقُ الْوَصِيَّةِ بِالثَّمَرَةِ وَالْغَلَّةِ بِالْمُعَامَلَةِ وَالْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَيْهِ ، يُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَفِي قَوْلِهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْأَوْلَوِيَّةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي الدَّلَالَةِ دُونَ الْقِيَاسِ ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُنَافِي الْقِيَاسَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ مَعْدُولًا عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ دُونَ الْإِلْحَاقِ بِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، وَقَدْ مَرَّ مِرَارًا نَظَائِرَ هَذَا فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ لَنَا شَيْءٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ أَنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ بَاطِلٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَقَوْلُهُ هَاهُنَا جَاءَ الشَّرْعُ بِوُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا كَالْمُعَامَلَةِ لَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ صَاحِبَيْهِ ، فَإِنَّ عَقْدَ الْمُعَامَلَةِ مَشْرُوعٌ عِنْدَهُمَا ، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مِمَّا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَتَأَمَّلْ .
.
( بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ ) قَالَ ( وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ ) لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا .
قَالَ ( وَلَوْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ مُسَمِّينَ فَهُوَ الثُّلُثُ ) مَعْنَاهُ إذَا أَوْصَى أَنْ تُبْنَى دَارُهُ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ .
( بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ ) ذَكَرَ وَصِيَّةَ الذِّمِّيِّ بَعْدَ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُلْحَقُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ ، فَذَكَرَ التَّابِعَ بَعْدَ الْمَتْبُوعِ كَذَا قَالُوا .
أَقُولُ : أَكْثَرُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَامَلَاتِ كَمَا تَرَى ، فَتَغْلِيبُ الْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا كَانَ لِبَعْضِ وَصَايَا الْكُفَّارِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ ذَكَرَ وَصِيَّتَهُمْ فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَخَّرَهُ لِخَسَاسَتِهِمْ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ ، لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ وَلَا يَلْزَمُ فَكَذَا هَذَا .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ عِنْدَهُمَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : إذَا صَنَعَ يَهُودِيٌّ بِيعَةً أَوْ نَصْرَانِيٌّ كَنِيسَةً فِي حِصَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا بَيْنَ أَصْحَابِنَا عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ ، أَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَ لِمُسْلِمٍ ، فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ بَعْدَ مَوْتِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ فَهَذَا أَوْلَى ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ فَلَا تَصِحُّ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُ صَرَفَ الْبِيعَةَ إلَى الْيَهُودِيِّ وَالْكَنِيسَةَ إلَى النَّصْرَانِيِّ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ أَنَّ الْكَنِيسَةَ اسْمٌ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَكَذَلِكَ الْبِيعَةُ اسْمٌ لِمَعْبَدِهِمْ مُطْلَقًا فِي الْأَصْلِ ، ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْكَنِيسَةِ لِمَعْبَدِ الْيَهُودِ وَالْبِيعَةِ لِمَعْبَدِ النَّصَارَى .
وَعِبَارَةُ الْكِتَابِ هُنَا تَحْتَمِلُ صَرْفَ الْبِيعَةِ إلَى
النَّصَارَى وَالْكَنِيسَةِ إلَى الْيَهُودِ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ الْمُرَتَّبِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا عِنْدَهُ وَقَالَ بَعْدَهُ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَضْمَرَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَأَظْهَرَهُ ثَانِيًا ، وَكَانَ الْأَوَّلُ مَقَامَ الْإِظْهَارِ وَالثَّانِي مَقَامَ الْإِضْمَارِ ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهَا عَلَى الْأَصْلِ السَّدِيدِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ يُورَثُ فَأَظْهَرَ أَبَا حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَأَضْمَرَهُ ثَانِيًا .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ خَصَّ كَوْنَ الْوَقْفِ مَوْرُوثًا عِنْدَهُ بِالْمُسْلِمِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنَّ وَقْفَ الْمُسْلِمِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مَوْرُوثٌ وَبَعْدَ مَوْتِهِ مَعَ أَنَّ وَقْفَ الْكَافِرِ أَيْضًا مَوْرُوثٌ عِنْدَهُ بِلَا تَفَاوُتٍ ، بِخِلَافِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهَا مُطْلَقَةٌ حَيْثُ قَالَ : وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ مَوْرُوثٌ بِلَا تَخْصِيصٍ بِالْمُسْلِمِ .
وَالرَّابِعُ أَنَّهُ قَالَ : فَلِأَنَّ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ مَعْصِيَةٌ مَعَ أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا صُنْعُ الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِدُونِ إضَافَةِ شَيْءٍ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ ، إذْ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِهَذِهِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ هِيَ الصَّنِيعَةُ دُونَ الْوَصِيَّةِ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ ذَلِكَ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ : وَإِذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُسْلِمِينَ صَنَعُوا مَا شَاءُوا ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا عَلَى أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ عِنْدَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ فِي مُعْتَقِدِهِمْ قُرْبَةً كَمَا سَيَجِيءُ ، فَإِذَا بَطَلَتْ حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ
عِنْدَهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لِكَوْنِ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ مَعْصِيَةً حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِ الْكُفَّارِ لَزِمَهُمَا الْمَصِيرُ إلَى مَا فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ .
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمُوصَى بِهِ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِ الْمُوصِي كَافٍ عِنْدَهُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ كَمَا سَيَجِيءُ أَيْضًا وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ تَصِحَّ حَقِيقَةُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُ هُنَا كَمَا تَصِحُّ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ مَا سَيَأْتِي بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى اعْتِبَارِ مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَالتَّمْلِيكِ فِي تَصْحِيحِهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ يَكُونَ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَاحِبَيْهِ وَإِنْ كَانَ جَوَابُهَا عَلَى الِاتِّفَاقِ بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ ، وَأُسْلُوبُ تَحْرِيرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ يُشْعِرُ بِاتِّفَاقِهِمْ فِي التَّخْرِيجِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِنْ أَوْصَى بِدَارِهِ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ مَعْصِيَةٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ لِمَا فِي تَنْفِيذِهَا مِنْ تَقْرِيرِ الْمَعْصِيَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَتَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً مَعْصِيَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ فَكَذَا عَكْسُهُ .
ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهِ أَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي .
وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِأَنْ يَصِيرَ مُحَرَّرًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَتَبْقَى مِلْكًا لِلِبَانِي فَتُورَثُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُورَثُ الْمَسْجِدُ أَيْضًا لِعَدَمِ تَحَرُّرِهِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ مُقْتَضَاهُ فِي غَيْرِ مَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ فَبَقِيَ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ فَلَا يُورَثُ .
ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا أَنْ تَكُونَ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا تَكُونَ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَمَا إذَا أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَنْ تُذْبَحَ خَنَازِيرُهُ وَتُطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ ، وَهَذِهِ عَلَى الْخِلَافِ إذَا كَانَ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمِّينَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْوَجْهُ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَلَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ أَوْ
بِأَنْ يُبْنَى مَسْجِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِأَنْ يُسْرَجَ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ، فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ بِالْإِجْمَاعِ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ ، إلَّا إذَا كَانَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ لِوُقُوعِهِ تَمْلِيكًا لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ وَالْجِهَةُ مَشُورَةٌ .
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ ، كَمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُسْرَجَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ يُغْزَى التَّرْكُ وَهُوَ مِنْ الرُّومِ ، وَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمْ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ أَيْضًا .
وَمِنْهَا إذَا أَوْصَى بِمَا لَا يَكُونُ قُرْبَةً لَا فِي حَقِّنَا وَلَا فِي حَقِّهِمْ ، كَمَا إذَا أَوْصَى لِلْمُغَنِّيَاتِ وَالنَّائِحَاتِ ، فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ فِي حَقِّنَا وَفِي حَقِّهِمْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَصِحُّ تَمْلِيكًا وَاسْتِخْلَافًا ، وَصَاحِبُ الْهَوَى إنْ كَانَ لَا يَكْفُرُ فَهُوَ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ .
قَوْلُهُ ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
إلَى قَوْلِهِ : وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَلْ تَحَرَّرَ عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ كَافٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَعْتَقِدُونَ ، فَالِاعْتِبَارُ عِنْدَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ دُونَ الْحَقِيقَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، فَلِمَ لَمْ يَعْتَبِرْ هُنَا كَوْنَ الْكَنِيسَةِ أَوْ الْبِيعَةِ مُحَرَّرَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ حَتَّى يَزُولَ مِلْكُ الْبَانِي عَنْهَا .
فَإِنْ قُلْتَ : إنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَ فَلَمْ تُحَرَّرْ لِلَّهِ تَعَالَى لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهَا .
قُلْتُ : هَذَا مَصِيرٌ إلَى التَّعْلِيلِ الثَّانِي الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ إلَى آخِرِهِ ، وَالْكَلَامُ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِلْخَطِّ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا فَلَمْ يَتَحَرَّرْ لِلَّهِ تَعَالَى لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْعِبَادِ بِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى عَدَمِ التَّحَرُّرِ لِلَّهِ تَعَالَى ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ كَوْنَ هَذَا دَلِيلًا آخَرَ عَلَى عَدَمِ التَّحَرُّرِ لِلَّهِ تَعَالَى يَقْتَضِي سَبْقَ دَلِيلٍ أَوَّلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى النَّاظِرِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَبْلَ هَذَا مَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ قَبْلُ وَالْكَنِيسَةُ لَمْ تَصِرْ مُحَرَّرَةً لِلَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً ، وَهَذَا دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ إلَخْ دَلِيلٌ آخَرُ عَلَى الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَاءِ الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ عُطِفَ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ إنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي
إلَخْ ، كَأَنَّهُ قَالَ : ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْبِنَاءَ نَفْسَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ مِلْكِ الْبَانِي ، وَلِأَنَّهُمْ يَبْنُونَ فِيهَا الْحُجُرَاتِ وَيَسْكُنُونَهَا إلَخْ تَبَصَّرْ
وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ .
قَالَ ( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ جَازَ ) لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلِهَذَا تَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِمْ ، وَلَيْسَ لِوَرَثَتِهِ حَقٌّ مَرْعِيٌّ لِكَوْنِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذْ هُمْ أَمْوَاتٌ فِي حَقِّنَا ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَمَانِ ، وَالْأَمَانُ كَانَ لِحَقِّهِ لَا لِحَقِّ وَرَثَتِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أُخِذَتْ الْوَصِيَّةُ وَيُرَدُّ الْبَاقِي عَلَى وَرَثَتِهِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا .
وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ بِوَصِيَّةٍ جَازَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَيَصِحُّ تَبَرُّعُهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا بَعْدَ مَمَاتِهِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُسْتَأْمَنٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ إذْ هُوَ عَلَى قَصْدِ الرُّجُوعِ وَيُمَكَّنُ مِنْهُ ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ زِيَادَةِ الْمُقَامِ عَلَى السَّنَةِ إلَّا بِالْجِزْيَةِ .
وَلَوْ أَوْصَى الذِّمِّيُّ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ .
( قَوْلُهُ وَفِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ عَلَى خِلَافِ هَذَا ، وَقَالَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا لَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَا تَصِحَّ مِنْهَا وَصِيَّةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّمِّيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا ، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقَرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ النِّهَايَةِ : وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ الصَّحِيحُ وَهُنَا الْأَصَحُّ وَهُمَا يَصْدُقَانِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِتَوْفِيقٍ صَحِيحٍ ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ يَرْجِعُ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا بَيَانَ مُجَرَّدِ صِحَّتِهِ مَعَ رُجْحَانِ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ هُوَ الْأَصَحُّ تَرْجِيحُهُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ دَلَّ عَلَى التَّرْجِيحِ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الْأَصَحُّ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُنَافِي تَرْجِيحَ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا
وَلَوْ أَوْصَى لِخِلَافِ مِلَّتِهِ جَازَ اعْتِبَارًا بِالْإِرْثِ إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ .
فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنَعٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ أَوْصَى لِحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ ، لِأَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنِعٌ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ وَالْوَصِيَّةُ أُخْتُهُ ) أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ الَّذِي حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْإِرْثِ مَنْقُوضٌ بِمَسَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ مَرَّتْ فِي الْكِتَابِ آنِفًا : مِنْهَا مَا إذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَوْصَى لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ بِمَالِهِ كُلِّهِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ ، مَعَ أَنَّ الْإِرْثَ مُمْتَنَعٌ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ .
وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا .
وَمِنْهَا مَا إذَا أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِحَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ بِوَصِيَّةٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حُكْمًا .
وَمِنْهَا مَا إذَا أَوْصَى مُسْلِمٌ لِمُسْتَأْمَنٍ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ أَيْضًا جَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ أَصْلًا لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ وَلِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ أَيْضًا إذَا كَانَ الْكَافِرُ حَرْبِيًّا وَلَوْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا .
( بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ ) قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ فَقَبِلَ الْوَصِيُّ فِي وَجْهِ الْمُوصِي وَرَدَّهَا فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فَلَيْسَ بِرَدٍّ ) لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَضَى مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ ، فَلَوْ صَحَّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ فَرَدٌّ رَدَّهُ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ( فَإِنْ رَدَّهَا فِي وَجْهِهِ فَهُوَ رَدٌّ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُوصِي وِلَايَةُ إلْزَامِهِ التَّصَرُّفَ ، وَلَا غُرُورَ فِيهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ ( وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ) لِأَنَّ الْمُوصِيَ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَبَقِيَ مُخَيَّرًا ، فَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَتِهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ الِالْتِزَامِ وَالْقَبُولُ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ لِصُدُورِهِ مِنْ الْوَصِيِّ ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِالْوِصَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّوْكِيلِ فَبَاعَ حَيْثُ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِحَالِ انْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْمَيِّتِ فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوِرَاثَةِ .
أَمَّا التَّوْكِيلُ إنَابَةٌ لِثُبُوتِهِ فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَةِ الْمُنِيبِ فَلَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ كَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ .
( وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَقَالَ لَا أَقْبَلُ ثُمَّ قَالَ أَقْبَلُ فَلَهُ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ ) لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَا أَقْبَلُ لَا يَبْطُلُ الْإِيصَاءُ ، لِأَنَّ فِي إبْطَالِهِ
ضَرَرًا بِالْمَيِّتِ وَضَرَرُ الْوَصِيِّ فِي الْإِبْقَاءِ مَجْبُورٌ بِالثَّوَابِ ، وَدَفْعُ الْأَوَّلِ وَهُوَ أَعْلَى أَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، إذْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ دَفْعِ الضَّرَرِ ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ بِبَقَاءِ الْوِصَايَةِ فَيَدْفَعُ الْقَاضِي الضَّرَرَ عَنْهُ وَيُنَصِّبُ حَافِظًا لِمَالِ الْمَيِّتِ مُتَصَرِّفًا فِيهِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلِهَذَا يَنْفُذُ إخْرَاجُهُ ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ إخْرَاجِ الْقَاضِي إيَّاهُ أَقْبَلُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ بَعْدَ بُطْلَانِ الْوِصَايَةِ بِإِبْطَالِ الْقَاضِي .
( بَابُ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى لَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُوصَى إلَيْهِ وَهُوَ الْوَصِيُّ ، وَقَدَّمَ أَحْكَامَ الْمُوصَى لَهُ لِكَثْرَتِهَا وَكَثْرَةِ وُقُوعِهَا فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهَا أَمَسَّ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِبَيْعِ مَالِهِ حَيْثُ يَصِحُّ رَدُّهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَأَدَبِ الْقَاضِي لِلصَّدْرِ الشَّهِيدِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ .
حَتَّى لَوْ عَزَلَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ لَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ ، وَمَوْضِعُهُ فِي الذَّخِيرَةِ الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ وَكَالَتِهَا ، وَالْفَصْلُ الْعَاشِرُ مِنْ التَّتِمَّةِ ، وَالْبَابُ السَّابِعُ وَالسِّتُّونَ مِنْ آدَابِ الْقَاضِي ، وَبَابِ بَيْعِ الْأَوْصِيَاءِ مِنْ وَصَايَا الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفَصْلِ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، إلَى هُنَا لَفْظُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَهَذَا الْقَيْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ ثَمَّةَ أَيْضًا بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْرِيرِ الْمُوَكِّلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ حَيْثُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إلَى تَغْرِيرِ الْآمِرِ ، وَهَذَا فِيمَا إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بَيَّنَهُ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ :
أَيْ لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ عَزْلَ نَفْسِهِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، فَعَنْ هَذَا عَرَفْت أَنَّ مَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي شَرْحِهِ هَذَا الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مُخَالِفٌ لِعَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ كَالتَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ فِي التَّتِمَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ الْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ هُنَا مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَتَوَافَقَتْ الرِّوَايَاتُ جَمِيعًا وَلَمْ تَخْتَلِفْ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ ، وَإِلَى هَذَا مَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا كَمَا يَظْهَرُ مِنْ تَقْرِيرِهِ فِي شَرْحِهِ .
أَقُولُ : بَلْ لَيْسَ هَذَا التَّوْفِيقُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمْ عَقَدُوا فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ لِعَزْلِ الْوَكِيلِ فَصْلًا عَلَى حِدَةٍ أَوْ بَابًا عَلَى حِدَةٍ وَبَيَّنُوا فِيهِ عَدَمَ صِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْوَكِيلِ ، وَكَذَا عَدَمُ صِحَّةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ نَفْسَهُ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِشَيْءٍ ، فَهَلْ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ بِذَلِكَ مَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ عَقْدُ الْفَصْلِ أَوْ الْبَابِ لِبَيَانِ حُكْمِ الْعَزْلِ فِي مَسْأَلَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ مَسَائِلِ الْوَكَالَاتِ بِعِبَارَةٍ مُطْلَقَةٍ ، وَيَكُونُ حُكْمُ الْعَزْلِ فِي سَائِرِهَا مَتْرُوكُ الذِّكْرِ بِالْكُلِّيَّةِ فِي عَامَّةِ رِوَايَاتِ الْكُتُبِ ، وَلِعَمْرِي إنْ حَمْلَ كَلَامُ الثِّقَاتِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ سَفْسَطَةٌ لَا تَخْفَى .
وَلْنَذْكُرْ مِنْ بَيْنِهَا عِبَارَةَ الذَّخِيرَةِ لَعَلَّك تَأْخُذُ مِنْهَا حِصَّةً قَالَ فِيهَا : الْفَصْلُ الثَّانِي فِي رَدِّ الْوَكَالَةِ مِنْ الْوَكِيلِ وَفِي عَزْلِ الْوَكِيلِ ، وَقَالَ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا رَدَّ الْوَكَالَةَ تَرْتَدُّ ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا عَلِمَ
الْمُوَكِّلُ بِالرَّدِّ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلَا تَرْتَدُّ حَتَّى إنَّ مَنْ وَكَّلَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَرَدَّ الْوَكَالَةَ وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُوَكِّلُ بِهِ ثُمَّ قَبِلَ الْوَكِيلُ الْوَكَالَةَ صَحَّ قَبُولُهُ وَصَارَ وَكِيلًا .
ثُمَّ قَالَ : وَلَا يَصِحُّ عَزْلُ الْوَكِيلِ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْوَكِيلِ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ عِنْدَنَا الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فِي ذَلِكَ عَلَى السَّوَاءِ .
ثُمَّ قَالَ : وَكَذَلِكَ إذَا عَزَلَ نَفْسَهُ لَا يَصِحُّ عَزْلُهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَكَالَةِ انْتَهَى .
اُنْظُرْ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ هَلْ فِيهِ مَا يُسَاعِدُ التَّقْيِيدَ بِمَا إذَا كَانَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، عَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا يَدُلُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إلَخْ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِعِلْمِ الْمُوَكِّلِ دَفْعًا لِلْغَرَرِ وَالضَّرَرِ الْمَنْهِيَّيْنِ ، فَإِنْ يَجِبَ نَفْيُ الْغَرَرِ وَالضَّرَرِ عَنْ الْمَيِّتِ وَهُوَ أَحَقُّ بِالنَّظَرِ أَوْلَى انْتَهَى .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ هُنَاكَ لِأَنَّهُ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ يُنْتَقَضُ بِصُورَةِ رَدِّ الْوَصِيِّ الْوَصِيَّةَ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي فِي حَيَاتِهِ ، فَإِنَّ الْمُوصِيَ حَيٌّ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رَدُّ الْوَصِيِّ الْوَصِيَّةَ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْمُوصِي بَعْدَ أَنْ قَبِلَهَا فِي وَجْهِهِ لَا فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى الْإِيصَاءِ إلَى أَحَدٍ اسْتِخْلَافُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، فَالتَّصَرُّفُ الَّذِي يَرْفَعُهُ الْمُوصِي إلَى الْوَصِيِّ إنَّمَا هُوَ التَّصَرُّفُ الْكَائِنُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ فِي حَيَاتِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْحَاصِلِ
بَعْدَ مَمَاتِهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَيْهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ بِلَا شُبْهَةٍ فَلَا انْتِقَاضَ .
نَعَمْ إنَّهُ يَقْدِرُ فِي حَيَاتِهِ عَلَى الْإِيصَاءِ إلَى الْآخَرِ بَدَلَ الْأَوَّلِ إذَا عَلِمَ رَدَّ الْأَوَّلِ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي عَدَمِ صِحَّةِ رَدِّ الْوَصِيِّ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوصِي فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِوَجْهِهِ بِعِلْمِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ أَيْضًا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ كَالْوِرَاثَةِ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِخِلَافَةٍ ضَرُورِيَّةٍ كَالْوِرَاثَةِ بَلْ هِيَ خِلَافَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُوصِي إلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّهَا حَتَّى مَاتَ الْمُوصِي فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ آنِفًا ، فَإِذَا كَانَتْ خِلَافَةً يَتَوَقَّفَ ثُبُوتُهَا عَلَى اخْتِيَارِ الْمُوصِي إلَيْهِ إيَّاهَا فَعَدَمُ تَوَقُّفِ ثُبُوتِهَا عَلَى عِلْمِ الْمُوصِي إلَيْهِ بِهَا مُشْكِلٌ جِدًّا ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ اخْتِيَارَ شَيْءٍ وَقَبُولَهُ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُتَعَسِّرٌ بَلْ مُتَعَذِّرٌ فَلْيُتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ الْعِلْمِ وَشَرْطَ الْإِخْبَارِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : وَمِنْ تِلْكَ الْكُتُبِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَوَارِيثِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَعْلَمَهُ النَّاسُ بِالْوَكَالَةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ ، وَلَا يَكُونُ النَّهْيُ عَنْ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ : أَيْ الْوَاحِدُ فِيهِمَا يَكْفِي انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ " مَا " عِبَارَةٌ عَنْ الْكُتُبِ ، وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ : أَيْ بَيَّنَّاهُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَرَادَ
كِتَابَ الْقَضَاءِ وَلَيْسَ مَا عِبَارَةً عَنْ الْكُتُبِ ، وَمِنْ لِلتَّبْيِينِ كَمَا فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ ، إذْ لَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ أَثَرٌ فِي غَيْرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ أَصْلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ مَا قَالَهُ هَذَا الْبَعْضُ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَفِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ عَزْلِ الْوَكِيلِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ : فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعَزْلُ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ وَتَصَرُّفُهُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْلَمَ ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : وَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدَالَةَ فِي الْمُخْبِرِ فَلَا نُعِيدُهُ .
وَقَالَ فِي بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا مِنْ كِتَابِ الشُّفْعَةِ : وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الدَّارِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ حَتَّى يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَاحِدٌ عَدْلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَ إذَا أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْخَبَرُ حَقًّا ، وَأَصْلُ الِاخْتِلَافِ فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِدَلَائِلِهِ وَأَخَوَاتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى .
وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَنَّهُ كَيْفَ اجْتَرَأَ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنْ لَيْسَ لِمَا ذَكَرَهُ أَثَرٌ فِي غَيْرِ كِتَابِ الْقَضَاءِ أَصْلًا بِدُونِ التَّتَبُّعِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكُتُبِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ يَصِحُّ ذَلِكَ ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ : قَوْلُهُ " إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ " اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ اقْبَلْ فَلَهُ ذَلِكَ : يَعْنِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْهَا حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ لَا يَصِحُّ قَبُولُهُ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَيَّدَ قَوْلَهُ فَلَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ ، وَذَلِكَ الْقَيْدُ يُفِيدُ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا
أَخْرَجَهُ عَنْ الْوِصَايَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ : أَيْ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ ، وَالْمَفْهُومُ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْقَ احْتِيَاجُ إلَى اسْتِثْنَاءِ مَا إذَا أَخْرَجَهُ الْقَاضِي عَنْ الْوَصَايَا مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ هُنَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَلَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُ الِاسْتِدْرَاكُ فِي الْكَلَامِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هُنَا إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْرَجَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ فِي قُرْبِهِ وَدَفْعُ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَعْلَى أَوْلَى ، فَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ دَاخِلًا فِي حَيِّزِ تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَيَكُونُ نَاظِرًا إلَى مَفْهُومِ قَيْدِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ حِينَ قَالَ لَا أَقْبَلُ ، كَمَا أَنَّ مَا قَبْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ كَانَ نَاظِرًا إلَى مَنْطُوقِ أَصْلِهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا فِي الْبِدَايَةِ أَصْلًا مَعَ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورَةً هُنَاكَ أَيْضًا بِحَالِهَا
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ أَخْرَجَهُمْ الْقَاضِي عَنْ الْوِصَايَةِ وَنَصَّبَ غَيْرَهُمْ ) وَهَذَا اللَّفْظُ يُشِيرُ إلَى صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ يَكُونُ بَعْدَهَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ .
قِيلَ مَعْنَاهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ سَتَبْطُلُ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ فِي الْعَبْدِ بَاطِلٌ حَقِيقَةً لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ وَاسْتِبْدَادِهِ ، وَفِي غَيْرِهِ مَعْنَاهُ سَتَبْطُلُ ، وَقِيلَ فِي الْكَافِرِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ .
وَوَجْهُ الصِّحَّةِ ثُمَّ الْإِخْرَاجُ أَنَّ الْأَصْلَ النَّظَرُ ثَابِتٌ لِقُدْرَةِ الْعَبْدِ حَقِيقَةً ، وَوِلَايَةُ الْفَاسِقِ عَلَى أَصْلِنَا وَوِلَايَةُ الْكَافِرِ فِي الْجُمْلَةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ النَّظَرُ لِتَوَقُّفِ وِلَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْحَجْرِ بَعْدَهَا وَالْمُعَادَاةِ الدِّينِيَّةِ الْبَاعِثَةِ لِلْكَافِرِ عَلَى تَرْكِ النَّظَرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاتِّهَامِ الْفَاسِقِ بِالْخِيَانَةِ فَيُخْرِجُهُ الْقَاضِي مِنْ الْوِصَايَةِ وَيُقِيمُ غَيْرَهُ مُقَامَهُ إتْمَامًا لِلنَّظَرِ .
وَشَرَطَ فِي الْأَصْلِ أَنْ يَكُونَ الْفَاسِقُ مَخُوفًا عَلَيْهِ فِي الْمَالِ ، وَهَذَا يَصْلُحُ عُذْرًا فِي إخْرَاجِهِ وَتَبْدِيلِهِ بِغَيْرِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَرَثَةِ كِبَارٌ لَمْ تَصِحَّ الْوَصِيَّةُ ) لِأَنَّ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَمْنَعَهُ أَوْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فَيَمْنَعَهُ الْمُشْتَرِي فَيَعْجِزُ عَنْ الْوَفَاءِ بِحَقِّ الْوِصَايَةِ فَلَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا كُلُّهُمْ فَالْوَصِيَّةُ إلَيْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ، يَرْوِي مَرَّةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَتَارَةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوِلَايَةَ مُنْعَدِمَةٌ لِمَا أَنَّ الرِّقَّ يُنَافِيهَا ، وَلِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ الْوِلَايَةِ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذَا قَلْبُ الْمَشْرُوعِ ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ الصَّادِرَةَ مِنْ الْأَبِ لَا تَتَجَزَّأُ ، وَفِي اعْتِبَارِ هَذِهِ تَجْزِئَتُهَا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ رَقَبَتِهِ وَهَذَا نَقْضُ الْمَوْضُوعِ .
وَلَهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوِصَايَةِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ ، وَإِيصَاءُ الْمَوْلَى إلَيْهِ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ نَاظِرًا لَهُمْ وَصَارَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَالْوِصَايَةُ قَدْ تَتَجَزَّأُ عَلَى مَا هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ نَقُولُ : يُصَارُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى إبْطَالِ أَصْلِهِ ، وَتَغْيِيرِ الْوَصْفِ لِتَصْحِيحِ الْأَصْلِ أَوْلَى .
( قَوْلُهُ وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ يَرْوِي مَرَّةً مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَرَّةً مَعَ أَبِي يُوسُفَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَنَا فِي هَذَا الْقِيلِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ كِبَارَ الثِّقَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى صَاحِبِ الْهِدَايَةِ كُلُّهُمْ ذَكَرُوا قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ بِلَا اضْطِرَابٍ ، كَالطَّحَاوِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَالْكَرْخِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَأَبِي اللَّيْثِ فِي نُكَتِ الْوَصَايَا وَالْقُدُورِيِّ فِي التَّقْرِيبِ وَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَصَاحِبِ الْمَنْظُومَةِ فِيهَا وَفِي شَرْحِهَا وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِنَا ا هـ .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي كُتُبِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ عَدَّهُمْ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلُهُ مُضْطَرِبًا فِي نَقْلِ أَحَدٍ أَصْلًا ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : وَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا كُلُّهُمْ فَإِنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ أَوْصَى إلَى عَبْدِ نَفْسِهِ فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّهَا بَاطِلَةٌ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْكِتَابِ مُضْطَرِبٌ ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي بَعْضِهَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى .
نَعَمْ الَّذِي وَقَعَ فِي كُتُبِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ كَوْنُ قَوْلِهِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَلِهَذَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ ذَكَرَ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، وَأَشَارَ إلَى وُقُوعِ رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ حَيْثُ قَالَ : وَقِيلَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ فَلَا غُبَارَ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِلْوِصَايَةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، فَإِنَّ الصِّغَارَ وَإِنْ كَانُوا مُلَّاكًا لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَلَا مُنَافَاةَ ) قِيلَ : عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ فَيَتَحَقَّقَ الْمَنْعُ وَالْمُنَافَاةُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا
ثَبَتَ الْإِيصَاءُ إلَيْهِ لَمْ يَبْقَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْبَيْعِ ، كَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْأَسْرَارِ .
أَقُولُ : فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ عَدَمَ بَقَاءِ وِلَايَةِ الْبَيْعِ لِلْقَاضِي مَوْقُوفٌ عَلَى جَوَازِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِ شَرْعًا ، وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا وَالْمَقَامُ مَقَامُ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَلَوْ بَنَى تَمَامَ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَيْهِ لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ عَلَى الْمَطْلُوبِ لَا مَحَالَةَ ، فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَوْرَدَ فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانُوا صِغَارًا فَالْقَاضِي يَلِي عَلَى بَيْعِهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ .
قِيلَ وِلَايَةُ الْقَاضِي عَلَى الْوَصِيِّ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْوَصِيَّةِ ، لِأَنَّهُ يَلِي عَلَى الْأَحْرَارِ مَعَ وُجُودِ الْوَصِيَّةِ إلَيْهِمْ انْتَهَى
قَالَ ( وَمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ ضَمَّ إلَيْهِ الْقَاضِي غَيْرَهُ ) رِعَايَةً لِحَقِّ الْمُوصِي وَالْوَرَثَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَكْمِيلَ النَّظَرِ يَحْصُلُ بِضَمِّ الْآخَرِ إلَيْهِ لِصِيَانَتِهِ وَنَقْصِ كِفَايَتِهِ فَيَتِمُّ النَّظَرُ بِإِعَانَةِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ شَكَا إلَيْهِ الْوَصِيُّ ذَلِكَ لَا يُجِيبُهُ حَتَّى يَعْرِفَ ذَلِكَ حَقِيقَةً ، لِأَنَّ الشَّاكِيَ قَدْ يَكُونُ كَاذِبًا تَخْفِيفًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي عَجْزُهُ أَصْلًا اسْتَبْدَلَ بِهِ رِعَايَةً لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ أَمِينًا فِيهِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ ، لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَارَ غَيْرَهُ كَانَ دُونَهُ لِمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارَ الْمَيِّتِ وَمَرْضِيَّهُ فَإِبْقَاؤُهُ أَوْلَى وَلِهَذَا قُدِّمَ عَلَى أَبِي الْمَيِّتِ مَعَ وُفُورِ شَفَقَتِهِ فَأَوْلَى أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَا إذَا شَكَا الْوَرَثَةُ أَوْ بَعْضُهُمْ الْوَصِيَّ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ مِنْهُ خِيَانَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوِلَايَةَ مِنْ الْمَيِّتِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا نَصَّبَهُ وَصِيًّا لِأَمَانَتِهِ وَقَدْ فَاتَتْ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْأَحْيَاءِ لَأَخْرَجَهُ مِنْهَا ، فَعِنْدَ عَجْزِهِ يَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَأَنَّهُ لَا وَصِيَّ لَهُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى إلَى اثْنَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ دُونَ صَاحِبِهِ ) إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ سَبِيلُهَا الْوِلَايَةُ وَهِيَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا تَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَامِلًا كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ لِلْأَخَوَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِصَايَةَ خِلَافَةٌ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ إذَا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي وَقَدْ كَانَ بِوَصْفِ الْكَمَالِ ، وَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْأَبِ إيَّاهُمَا يُؤْذِنُ بِاخْتِصَاصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّفَقَةِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ قَرَابَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ بِالتَّفْوِيضِ فَيُرَاعَى وَصْفُ التَّفْوِيضِ وَهُوَ وَصْفُ الِاجْتِمَاعِ إذْ هُوَ شَرْطٌ مُقَيَّدٌ ، وَمَا رَضِيَ الْمُوصِي إلَّا بِالْمُثَنَّى وَلَيْسَ الْوَاحِدُ كَالْمُثَنَّى ، بِخِلَافِ الْأَخَوَيْنِ فِي الْإِنْكَاحِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَالِكَ الْقَرَابَةُ وَقَدْ قَامَتْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمُلَا ، وَلِأَنَّ الْإِنْكَاحَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا عَلَى الْوَلِيِّ ، حَتَّى لَوْ طَالَبَتْهُ بِإِنْكَاحِهَا مِنْ كُفُؤٍ يَخْطُبُهَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَهَاهُنَا حَقُّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ ، وَلِهَذَا يَبْقَى مُخَيَّرًا فِي التَّصَرُّفِ ، فَفِي الْأَوَّلِ أَوْفَى حَقًّا عَلَى صَاحِبِهِ فَصَحَّ ، وَفِي الثَّانِي اسْتَوْفَى حَقًّا لِصَاحِبِهِ فَلَا يَصِحُّ أَصْلُهُ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِمَا وَلَهُمَا ، بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ، وَمَوَاضِعُ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ أَبَدًا ، وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَأَخَوَاتِهَا .
فَقَالَ ( إلَّا فِي شِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ فَسَادَ الْمَيِّتِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْجِيرَانُ عِنْدَ ذَلِكَ ( وَطَعَامِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتِهِمْ ) لِأَنَّهُ يَخَافُ
مَوْتَهُمْ جُوعًا وَعُرْيًا ( وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ الْمَالِكُ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ .
وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ( وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ) لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ( وَالْخُصُومَةِ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ ) لِأَنَّ الِاجْتِمَاعَ فِيهَا مُتَعَذِّرٌ وَلِهَذَا يَنْفَرِدُ بِهَا أَحَدُ الْوَكِيلَيْنِ ( وَقَبُولِ الْهِبَةِ ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خِيفَةَ الْفَوَاتِ ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ الْأُمَّ وَاَلَّذِي فِي حِجْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ( وَبَيْعِ مَا يَخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفَ ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً لَا تُخْفَى ( وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ) لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ خَشْيَةَ الْفَوَاتِ ، وَلِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُ كُلَّ مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَبِيعَ وَيَتَقَاضَى ، وَالْمُرَادُ بِالتَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ ، كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا جَمِيعًا فِي الْقَبْضِ ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَلَوْ أَوْصَى إلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ قِيلَ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّصَرُّفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلَيْنِ إذَا وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَفْرَدَ فَقَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ .
وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ وُجُوبَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَتَعَاقَبُ ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا جَعَلَ الْقَاضِيَ مَكَانَهُ وَصِيًّا آخَرَ ، أَمَّا عِنْدَهُمَا
فَلِأَنَّ الْبَاقِيَ عَاجِزٌ عَنْ التَّفَرُّدِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَضُمُّ الْقَاضِي إلَيْهِ وَصِيًّا آخَرَ نَظَرًا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ عَجْزِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى التَّصَرُّفِ فَالْمُوصِي قَصَدَ أَنْ يَخْلُفَهُ مُتَصَرِّفًا فِي حُقُوقِهِ ، وَذَلِكَ مُمْكِنُ التَّحَقُّقِ بِنَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ مَكَانَ الْمَيِّتِ .
( قَوْلُهُ وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَأَخَوَاتُهَا ) يَعْنِي وَهِيَ : أَيْ الْأَشْيَاءُ الْمَعْدُودَةُ مَا اسْتَثْنَاهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ إلَّا فِي شِرَاءِ كَفَنِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ ، وَطَعَامِ الصِّغَارِ وَكِسْوَتِهِمْ ، وَرَدِّ وَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا ، وَقَضَاءِ دَيْنٍ وَتَنْفِيذِ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا ، وَعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، وَالْخُصُومَةِ فِي حُقُوقِ الْمَيِّتِ انْتَهَى .
وَهَذِهِ تِسْعَةُ أَشْيَاءَ كَمَا تَرَى قَصَرَ الْقُدُورِيُّ الِاسْتِثْنَاءَ عَلَيْهَا فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْبِدَايَةِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا وَأَخَوَاتُهَا بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى " مَا " فِي قَوْلِهِ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ : أَيْ وَالْمَسَائِلُ الَّتِي هِيَ أَخَوَاتُ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَثْنَاةِ فِي الْكِتَابِ وَهِيَ مَا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْهِدَايَةِ بِقَوْلِهِ وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَبَيْعِ مَا يَخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفَ وَجَمْعِ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ، وَهَذِهِ الَّتِي زَادَهَا الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ ، فَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ كَمَا لَا يَخْفَى .
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : قَوْلُهُ وَهِيَ مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ : أَيْ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ كَمَا سَبَقَ ، وَقَوْلُهُ وَأَخَوَاتُهَا بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى " مَا " إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُزَادُ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ أُخَرُ وَهِيَ مَا ذَكَرْته فِيمَا سَبَقَ : يَعْنِي قَوْلَهُ وَزَادَ عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ رَدَّ الْمَغْصُوبِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ .
وَقَالَ : ثُمَّ إنْ جَعَلْنَا شِرَاءَ الْكَفَنِ وَالتَّجْهِيزَ وَاحِدًا كَمَا جُعِلَ فِي الْأَسْرَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ دَاخِلٌ فِي الثَّانِي ، وَكَذَا رَدُّ الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يَكُونُ الْمُسْتَثْنَى فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَحَدَ عَشَرَ ، وَمَا زَادَهُ ثَلَاثَةٌ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ
مِنْ لَفْظِ الْأَخَوَاتِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ كَوْنِهِ نَاشِئًا عَنْ الْغَفْلَةِ عَمَّا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْآخَرِ مِنْ أَشْيَاءَ ثَلَاثَةٍ : وَهِيَ قَبُولُ الْهِبَةِ ، وَبَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى وَالتَّلَفُ ، وَجَمْعُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ مُخْتَلٌّ فِي ذَاتِهِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَحَدَ عَشَرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَهُ اثْنَيْنِ ، وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا زَادَهُ ثَلَاثَةً ، لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّلَاثَةِ عَلَى الِاثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَجْمُوعُ بِزِيَادَةِ الِاثْنَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ وَبِزِيَادَةِ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِزِيَادَةِ الثَّلَاثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَطَعَامُ الصِّغَارِ وَكِسْوَتُهُمْ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَطَعَامُ الصِّغَارِ وَكِسْوَتُهُمْ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَرَدُّ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا ، وَرَدُّ الْمَغْصُوبِ ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا ، وَحِفْظُ الْأَمْوَالِ ، وَقَضَاءُ الدُّيُونِ ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْجَرِّ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَتَنْفِيذُ وَصِيَّةٍ بِعَيْنِهَا ، وَعِتْقُ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، وَالْخُصُومَةُ ، وَقَبُولُ الْهِبَةِ ، وَبَيْعُ مَا يُخْشَى عَلَيْهِ التَّوَى ، وَجَمْعُ الْأَمْوَالِ الضَّائِعَةِ ، كُلُّ ذَلِكَ بِالْجَرِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُسَاعِدُهُ تَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِعْرَابِ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِي الشَّرْحِ الْمَزْبُورِ ، لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ فِي كِتَابِهِ هَذَا وَاقِعٌ فِي حَيِّزِ قَالَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ : وَلَا رَيْبَ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي قَوْلِهِ فَقَالَ رَاجِعٌ إلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِيمَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْقُدُورِيُّ ، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ مُخْتَصَرُهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأُمُورِ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى
شِرَاءِ الْكَفَنِ بِالْجَرِّ فِي الْهِدَايَةِ مِنْ مَقُولِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا عَرَفْته مِمَّا بَيَّنَّاهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَقَالَ إلَّا فِي شِرَاءِ الْكَفَنِ إلَخْ عَلَى تَغْلِيبِ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ عَلَى مَا زَادَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِطَرِيقِ الْإِلْحَاقِ بِهِ تَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : قَوْلُهُ وَحِفْظُ الْمَالِ بِالرَّفْعِ هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ : يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّيْنِ يَمْلِكُ قَضَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إلَّا حِفْظُ الْمَالِ إلَى أَنْ يَقْضِيَ صَاحِبُ الدَّيْنِ ، وَكُلُّ مَنْ يَقَعُ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَهُوَ يَمْلِكُ حَقَّهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَهَبَا إلَيْهِ تَكَلُّفٌ بَارِدٌ ، بَلْ تَعَسُّفٌ فَاسِدٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ وَقَضَاءُ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْقَضَاءِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْحِفْظِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبِيلَهُ وَحِفْظِ الْأَمْوَالِ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ حِينَئِذٍ تَوْجِيهُ التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَحِفْظُ الْمَالِ يَمْلِكُهُ مَنْ يَقَعُ فِي يَدِهِ مَسُوقٌ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَحِفْظُ الْأَمْوَالِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالتَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ يُوهِمُ أَنْ لَا يَكُونَ الِاقْتِضَاءُ الَّذِي هُوَ الْقَبْضُ مَعْنَى التَّقَاضِي فِي الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ ، بَلْ كَانَ مَعْنَاهُ فِي الْعُرْفِ ، مَعَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ مِنْ كِتَابِ الْوَكَالَةِ حَيْثُ قَالَ : الْوَكِيلُ
بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عَلَى أَصْلِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ وَضْعًا ، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ وَهُوَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ انْتَهَى .
وَيَدُلُّ عَلَى كَوْنِ مَعْنَاهُ ذَلِكَ فِي الْوَضْعِ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : تَقَاضَاهُ الدَّيْنَ : قَبَضَهُ مِنْهُ .
وَقَالَ فِي الْأَسَاسِ : تَقَاضَيْته دَيْنِي وَبِدَيْنِي وَاقْتَضَيْته دَيْنِي وَاقْتَضَيْت مِنْهُ حَقِّي : أَيْ أَخَذْته انْتَهَى .
ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ : لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ كَذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي عُرْفِهِمْ نَفْيَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي اللُّغَةِ وَالْوَضْعِ ، بَلْ بَيَانُ أَنَّ عُرْفَهُمْ يُطَابِقُ اللُّغَةَ وَالْوَضْعَ .
وَفَائِدَتُهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنْ يُقَالَ كَوْنُ مَعْنَى التَّقَاضِي الِاقْتِضَاءُ فِي الْوَضْعِ غَيْرُ كَافٍ لِأَنَّ الْعُرْفَ قَاضٍ عَلَى الْوَضْعِ : أَيْ رَاجِحٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قُلْت : بَقِيَ الْمُخَالَفَةُ حِينَئِذٍ بَيْنَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَبَيْنَ كَلَامِهِ هُنَاكَ إلَّا أَنَّ الْعَارِفَ بِخِلَافِهِ .
قُلْت : مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كَانَ كَذَا فِي عُرْفِ الْمُجْتَهِدِينَ ، وَمُرَادُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْعُرْفَ بِخِلَافِهِ فِي زَمَانِنَا أَوْ فِي دِيَارِنَا ، وَلَا غَرْوَ فِي اخْتِلَافِ الْعُرْفَيْنِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الزَّمَانَيْنِ أَوْ الْمَكَانَيْنِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمُحِيطِ قَالَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ : الْوَكِيلُ بِالتَّقَاضِي يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ كَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
ثُمَّ قَالَ : وَذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي فِي عُرْفِ دِيَارِنَا لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ كَذَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي دِيَارِنَا ، وَجَعَلَ التَّقَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُطَالَبَةِ مَجَازًا لِأَنَّهُ سَبَبُ الِاقْتِضَاءِ وَصَارَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ عَلَى مَا عُرِفَ
فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ كَانَ الِاقْتِضَاءُ فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَانَ الْقَضَاءُ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُبَادَلَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُقْتَضِيًا كَانَ الْآخَرُ قَاضِيًا أَلْبَتَّةَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقَضَاءُ أَيْضًا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ مَعَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ فِيمَا قَبْلُ
وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ مِنْهُمَا أَوْصَى إلَى الْحَيِّ فَلِلْحَيِّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى شَخْصٍ آخَرَ .
وَلَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى نَصْبِ وَصِيٍّ آخَرَ لِأَنَّ رَأْيَ الْمَيِّتِ بَاقٍ حُكْمًا بِرَأْيِ مَنْ يَخْلُفُهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ مَا رَضِيَ بِتَصَرُّفِهِ وَحْدَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِرَأْيِ الْمُثَنَّى كَمَا رَضِيَهُ الْمُتَوَفَّى .
وَإِذَا مَاتَ الْوَصِيُّ وَأَوْصَى إلَى آخَرَ فَهُوَ وَصِيُّهُ فِي تَرِكَتِهِ وَتَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ وَصِيًّا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ اعْتِبَارًا بِالتَّوْكِيلِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ ، الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِرَأْيِهِ لَا بِرَأْيِ غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَصِيَّ يَتَصَرَّفُ بِوِلَايَةٍ مُنْتَقِلَةٍ إلَيْهِ فَيَمْلِكُ الْإِيصَاءَ إلَى غَيْرِهِ كَالْجَدِّ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْوِلَايَةَ الَّتِي كَانَتْ ثَابِتَةً لِلْمُوصِي تَنْتَقِلُ إلَى الْوَصِيِّ فِي الْمَالِ وَإِلَى الْجَدِّ فِي النَّفْسِ ، ثُمَّ الْجَدُّ قَائِمٌ مُقَامَ الْأَبِ فِيمَا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيصَاءَ إقَامَةُ غَيْرِهِ مُقَامَهُ فِيمَا لَهُ وِلَايَتُهُ ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي التَّرِكَتَيْنِ فَيَنْزِلُ الثَّانِي مَنْزِلَتَهُ فِيهِمَا .
وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَعَانَ بِهِ فِي ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ قَدْ تَعْتَرِيهِ الْمَنِيَّةُ قَبْلَ تَتْمِيمِ مَقْصُودِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ تَلَافِي مَا فَرَّطَ مِنْهُ صَارَ رَاضِيًا بِإِيصَائِهِ إلَى غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ حَيٌّ يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَصِّلَ مَقْصُودَهُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَرْضَى بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَيْهِ .
قَالَ ( وَمُقَاسَمَةُ الْوَصِيِّ الْمُوصَى لَهُ عَنْ الْوَرَثَةِ جَائِزَةٌ وَمُقَاسَمَتُهُ الْوَرَثَةَ عَنْ الْمُوصَى لَهُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَرُدَّ بِالْعَيْبِ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ بِهِ وَيَصِيرَ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ وَالْوَصِيُّ خَلِيفَةُ الْمَيِّتِ أَيْضًا فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَارِثِ إذَا كَانَ غَائِبًا فَصَحَّتْ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ وَقَدْ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْمُوصَى لَهُ ، أَمَّا الْمُوصَى لَهُ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُوصِي فَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ خَلِيفَةً عَنْهُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا أَفْرَزَ لَهُ عِنْدَ الْوَصِيِّ كَانَ لَهُ ثُلُثُ مَا بَقِيَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَمْ تَنْفُذْ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَارِثِ فَيَتْوَى مَا تَوِيَ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى الشَّرِكَةِ وَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ قَاسَمَ الْوَرَثَةَ وَأَخَذَ نَصِيبَ الْمُوصَى لَهُ فَضَاعَ رَجَعَ الْمُوصَى لَهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ) لِمَا بَيَّنَّا .
.
( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ فِي التَّرِكَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ بَعْضُ التَّرِكَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مَا أَفْرَزَهُ لِلْوَرَثَةِ فِي يَدِهِ ، لِأَنَّ الْحِفْظَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي ذَلِكَ ، أَمَّا لَوْ سَلَّمَهُ إلَيْهِمْ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ بِالدَّفْعِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ مُقْتَضَى تَحْرِيرِهِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُوصِي لَهُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ تَضْمِينِ الْقَابِضِ وَتَضْمِينِ الدَّافِعِ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْوَصِيُّ مَا أَفْرَزَهُ لِلْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مَا سَلَّمَهُ إلَيْهِمْ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ هَالِكًا ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ لَا فِي النِّهَايَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ إنْ كَانَ مَا أَعْطَاهُ الْوَصِيُّ لِلْوَرَثَةِ بَاقِيًا فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ وَهُوَ ثُلُثُ مَا أَعْطَاهُمْ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ فِي تَضْمِينِ الْحِصَّةِ الَّتِي دَفَعَهَا الْوَصِيُّ إلَى الْوَرَثَةِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الدَّافِعَ بِالدَّفْعِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ حِصَّةَ الْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ حَتَّى هَلَكَ الْكُلُّ فِي يَدِ الْوَصِيِّ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْوَصِيَّ شَيْئًا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانَةِ فِي الْمَالِ فَكَذَا فِي هَلَاكِ قَدْرِ نَصِيبِهِ ، إلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : فَإِنْ هَلَكَ حِصَّةُ الْمُوصَى لَهُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ وَبَقِيَ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ مَا بَقِيَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ، وَإِنْ هَلَكَ حِصَّةُ الْوَرَثَةِ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَهَلَكَ حِصَّةُ
الْمُوصَى لَهُ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَيْضًا فَمَا هَلَكَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ مِنْ حِصَّةِ الْمُوصَى لَهُ فَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَصِيَّ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَارِثَ انْتَهَى
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ فِي الْوَرَثَةِ فَهَلَكَ مَا فِي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَدِهِ حَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ ، وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَضَاعَ فِي يَدِهِ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ مُسْتَغْرِقًا لِلثُّلُثِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ، وَإِلَّا يَرْجِعُ بِتَمَامِ الثُّلُثِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقُّ الْمُوصِي ، وَلَوْ أَفْرَزَ الْمُوصِي بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، فَكَذَا إذَا أَفْرَزَهُ وَصِيُّهُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا مَا بَقِيَ مَحَلُّهَا ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ بَطَلَتْ لِفَوَاتِ مَحَلِّهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تُرَادُ لِذَاتِهَا بَلْ لِمَقْصُودِهَا وَهُوَ تَأْدِيَةُ الْحَجِّ فَلَمْ تُعْتَبَرْ دُونَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَيَحُجُّ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ ، وَلِأَنَّ تَمَامَهَا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْجِهَةِ الْمُسَمَّاةِ ، إذْ لَا قَابِضَ لَهَا ، فَإِذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَمْ يَتِمَّ فَصَارَ كَهَلَاكِهِ قَبْلَهَا .
.
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ الْوَرَثَةُ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَقَاسَمَ الْوَرَثَةَ : أَيْ قَاسَمَ الْوَصِيُّ الْوَرَثَةَ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ : أَيْ مَا فِي يَدِ الْحَاجِّ فَالْوَصِيُّ وَالْحَاجُّ مَدْلُولٌ عَلَيْهِمَا غَيْرُ مَذْكُورٍ بِهِمَا .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا الشَّرْحُ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَوْ رَجَعَ ضَمِيرُ مَا فِي يَدِهِ إلَى الْحَاجِّ فَصَارَ الْمَعْنَى فَهَلَكَ مَا فِي يَدِ الْحَاجِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحَانِ الْمَذْكُورَانِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيمَا بَعْدُ وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ عَنْهُ فَضَاعَ مِنْ يَدِهِ مُسْتَدْرِكًا مَحْضًا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالصَّوَابُ أَنَّ ضَمِيرَ مَا فِي يَدِهِ فِي قَوْلِهِ فَهَلَكَ مَا فِي يَدِهِ رَاجِعٌ إلَى الْوَصِيِّ ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى وَلَا يَلْزَمُ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ الْآتِي كَمَا تَرَى .
( قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقُّ الْمُوصِي ، وَلَوْ أَفْرَزَ الْمُوصِي بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَفْرَزَهُ وَصِيُّهُ الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : قُلْت هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ، لِأَنَّ الْمُوصِيَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِشَيْءٍ إذْ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ الْوَصِيَّةِ رَأْسًا ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ شَيْءٍ لِهَذَا عَدَمُ لُزُومِهِ لِذَاكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ الْمُوصِيَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُلْزَمًا بِشَيْءٍ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ تَلْزَمُ وَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ فَتَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ أَلْبَتَّةَ ، وَالْمُرَادُ بِمَا ذُكِرَ فِي دَلِيلِ مُحَمَّدٍ هُوَ أَنَّ الْمُوصِيَ لَوْ أَفْرَزَ بِنَفْسِهِ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ لَا يُؤْخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ بَلْ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ أَصْلًا .
وَقَدْ أَفْصَحَ
عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْرِيرِهِ : وَأَمَّا مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ دَفْعَ الْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ دَفْعِ الْمَيِّتِ ، وَلَوْ أَنَّ الْمَيِّتَ هُوَ الَّذِي دَفَعَ قَبْلَ مَوْتِهِ إلَى رَجُلٍ مَالًا لِيَحُجَّ عَنْهُ فَسَرَقَ الْمَالَ لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ مَرَّةً أُخْرَى ، كَذَلِكَ هَذَا انْتَهَى .
فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ فَهِمَ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْمُوصِي شَيْءٌ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَدَفَعَهَا الْوَرَثَةُ إلَى الْقَاضِي فَقَسَمَهَا وَالْمُوصَى لَهُ غَائِبٌ فَقِسْمَتُهُ جَائِزَةٌ ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ صَحِيحَةٌ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ قَبْلَ الْقَبُولِ تَصِيرُ الْوَصِيَّةُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَالْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لَا سِيَّمَا فِي حَقِّ الْمَوْتَى وَالْغُيَّبِ ، وَمِنْ النَّظَرِ إفْرَازُ نَصِيبِ الْغَائِبِ وَقَبْضِهِ فَنَفَذَ ذَلِكَ وَصَحَّ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَ الْغَائِبُ وَقَدْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ سَبِيلٌ .
قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الْوَصِيُّ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مُقَامَ الْمُوصِي ، وَلَوْ تَوَلَّى حَيًّا بِنَفْسِهِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْغُرَمَاءِ وَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ فَكَذَا إذَا تَوَلَّاهُ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَالِيَّةِ لَا بِالصُّورَةِ وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُ الْمَالِيَّةَ لِفَوَاتِهَا إلَى خَلَفٍ وَهُوَ الثَّمَنُ .
بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ لِلْغُرَمَاءِ حَقَّ الِاسْتِسْعَاءِ وَأَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبَاعَ عَبْدُهُ وَيَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَبَاعَهُ الْوَصِيُّ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَضَاعَ فِي يَدِهِ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدُ ضَمِنَ الْوَصِيُّ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ ، وَهَذِهِ عُهْدَةٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مِنْهُ مَا رَضِيَ بِبَذْلِ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلِّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَقَدْ أَخَذَ الْوَصِيُّ الْبَائِعُ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ فِيمَا تَرَكَ الْمَيِّتُ ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِقَبْضِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا وَيَرْجِعُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي الثُّلُثِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْوَصِيَّةِ فَأَخَذَ حُكْمَهَا ، وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ وَذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ وَالدَّيْنُ يُقْضَى مِنْ جَمِيعِ التَّرِكَةِ ، بِخِلَافِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ إذَا تَوَلَّى الْبَيْعَ حَيْثُ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهَا الْقَاضِيَ تَعْطِيلُ الْقَضَاءِ ، إذْ يَتَحَامَى عَنْ تَقَلُّدِ هَذِهِ الْأَمَانَةِ حَذَرًا عَنْ لُزُومِ الْغَرَامَةِ فَتَتَعَطَّلُ مَصْلَحَةُ الْعَامَّةِ وَأَمِينُهُ سَفِيرٌ عَنْهُ كَالرَّسُولِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْوَصِيُّ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَتْ التَّرِكَةُ قَدْ هَلَكَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا وَفَاءٌ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ كَمَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ آخَرُ .
قَالَ ( وَإِنْ قَسَمَ الْوَصِيُّ الْمِيرَاثَ فَأَصَابَ صَغِيرًا مِنْ الْوَرَثَةِ عَبْدٌ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ وَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ رَجَعَ فِي مَالِ الصَّغِيرِ ) لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ ، وَيَرْجِعُ الصَّغِيرُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِحِصَّتِهِ لِانْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ بِاسْتِحْقَاقِ مَا أَصَابَهُ .
قَالَ ( وَإِذَا احْتَالَ الْوَصِيُّ بِمَالِ الْيَتِيمِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ جَازَ ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَمْلَأَ ، إذْ الْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَمْلَأَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِ تَضْيِيعَ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَصِيِّ وَلَا شِرَاؤُهُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ) لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ ، بِخِلَافِ الْيَسِيرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، فَفِي اعْتِبَارِهِ انْسِدَادِ بَابِهِ .
وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ يَجُوزُ بَيْعُهُمْ وَشِرَاؤُهُمْ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ الشَّرْعِيَّةِ نَظَرًا فَيَتَقَيَّدُ بِمَوْضِعِ النَّظَرِ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُونَهُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ تَبَرُّعٌ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ ( وَإِذَا كَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى وَصِيٍّ كَتَبَ كِتَابَ الْوَصِيَّةِ عَلَى حِدَةٍ وَكِتَابَ الشِّرَاءِ عَلَى حِدَةٍ ) لِأَنَّ ذَلِكَ أَحْوَطُ ، وَلَوْ كَتَبَ جُمْلَةً عَسَى أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدُ شَهَادَتَهُ فِي آخِرِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ حَمْلًا لَهُ عَلَى الْكَذِبِ .
ثُمَّ قِيلَ : يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَلَا يَكْتُبُ مِنْ فُلَانٍ وَصِيِّ فُلَانٍ لِمَا بَيَّنَّا .
وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْوِصَايَةَ تُعْلَمُ ظَاهِرًا .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ : لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِحُكْمِ الْمَالِكِيَّةِ : أَيْ يَتَصَرَّفُونَ بِأَهْلِيَّتِهِمْ لَا بِأَمْرِ الْمَوْلَى ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ ، فَلَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُهُمْ نِيَابَةً عَنْ أَحَدٍ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ بِأَنْ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ كَانَ عَامًّا لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُدَّعِيَ كَانَ عَامًّا لِلصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ الْحَجْرِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا فِي حَقِّهِمَا أَيْضًا .
أَمَّا فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ فَظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّهِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ لَهُ بِسَبَبِ صِبَاهُ ، كَمَا أَنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ لَهُ بِسَبَبِ رِقِّهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا صَرَاحَةً إلَّا أَنْ صَارَ مَأْذُونًا فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا مَحَالَةَ ، فَإِنَّ أَدَاءَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْكَسْبِ مُحَالٌ ، وَالْإِذْنُ فِي الشَّرْعِ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ لَا غَيْرُ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ فَلَا غُبَارَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ
قَالَ ( وَبَيْعُ الْوَصِيِّ عَلَى الْكَبِيرِ الْغَائِبِ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْعَقَارِ ) لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي مَا سِوَاهُ وَلَا يَلِيهِ ، فَكَذَا وَصِيُّهُ فِيهِ .
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَاهُ لِمَا أَنَّهُ حُفِظَ لِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَيْهِ ، وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحِفْظَ ، أَمَّا الْعَقَارُ فَمُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَتْجُرُ فِي الْمَالِ ) لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهِ الْحِفْظُ دُونَ التِّجَارَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : وَصِيُّ الْأَخِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْغَائِبِ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأَبِ فِي الْكَبِيرِ الْغَائِبِ ، وَكَذَا وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْعَمِّ .
وَهَذَا الْجَوَابُ فِي تَرِكَةِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ وَصِيَّهُمْ قَائِمٌ مُقَامَهُمْ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مَا يَكُونُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ فَكَذَا وَصِيُّهُمْ .
قَوْلُهُ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ ) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ فِي صُورَةِ التَّنَاقُضِ لِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْأَبَ يَلِي مَا سِوَاهُ وَيَتَقَصَّى عَنْهُ بِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُهُ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَيَمْلِكُهُ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْ التَّنَاقُضِ لَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ أَيْضًا لَا يَمْلِكُ غَيْرَ الْعِقَابِ عَلَى الْكَبِيرِ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ، بَلْ إنَّمَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْوَصِيُّ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ أَيْضًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ السِّيَاقِ وَالسِّيَاقُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ عَلَى الْكَبِيرِ : أَيْ لَا يَمْلِكُهُ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْحِفْظِ وَالنَّظَرِ أَيْضًا ، وَهَذَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي وَجْهِ التَّقَصِّي عَنْ التَّنَاقُضِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْوَصِيُّ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ مَتْرُوكًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُتْرَكْ قَطُّ ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْوَصِيَّ يَمْلِكُهُ عَلَى الْكَبِيرِ بِالْوِلَايَةِ الْحَقِيقِيَّةِ .
فَالْوَجْهُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ حَيْثُ قَالَ : وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَصِيُّ غَيْرَ الْعَقَارِ أَيْضًا وَلَا الْأَبُ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِيهِ حِفْظُ مَالِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، لِأَنَّ حِفْظَ ثَمَنِهِ أَيْسَرُ وَهُوَ
يَمْلِكُ الْحِفْظَ فَكَذَا وَصِيُّهُ .
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الْبَيْعِ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا فِي الْكِفَايَةِ رَدَّهُ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يُوَافِقُهُ قَوْلُهُ وَلَا يَلِيهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَلَا يَلِيهِ لَا يُوَافِقُ مَا فِي الْكِفَايَةِ مِنْ التَّوْجِيهِ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ وَلَا يَلِي الْأَبُ الْعَقَارَ كَمَا يَلِي غَيْرُهُ إذْ فِي غَيْرِهِ حِفْظُ مَالِهِ وَهُوَ يَمْلِكُ الْحِفْظَ ، وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَلِيهِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا فِي الْكِفَايَةِ بَلْ يُوَافِقُهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ .
قَالَ ( وَالْوَصِيُّ أَحَقُّ بِمَالِ الصَّغِيرِ مِنْ الْجَدِّ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْجَدُّ أَحَقُّ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَهُ مُقَامَ الْأَبِ حَالَ عَدَمِهِ حَتَّى أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ فَيُقَدَّمُ عَلَى وَصِيِّهِ .
وَلَنَا أَنَّ بِالْإِيصَاءِ تَنْتَقِلُ وِلَايَةُ الْأَبِ إلَيْهِ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً مَعْنًى فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ كَالْأَبِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ الْوَصِيَّ مَعَ عِلْمِهِ بِقِيَامِ الْجَدِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ أَنْظَرُ لِبَنِيهِ مِنْ تَصَرُّفِ أَبِيهِ ( فَإِنْ لَمْ يُوصِ الْأَبُ فَالْجَدُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ) لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْإِنْكَاحَ دُونَ وَصِيٍّ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ وَصِيُّ الْأَبِ فِي التَّصَرُّفِ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
( فَصْلٌ فِي الشَّهَادَةِ ) قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيَّانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى فُلَانٍ مَعَهُمَا فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهَا لِإِثْبَاتِهِمَا مُعَيَّنًا لِأَنْفُسِهِمَا .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَهُوَ فِي الْقِيَاسِ كَالْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ التُّهْمَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ ابْتِدَاءً أَوْ ضَمَّ آخَرَ إلَيْهِمَا بِرِضَاهُ بِدُونِ شَهَادَتِهِمَا فَيَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ ، أَمَّا الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ بِنَصْبِ الْقَاضِي .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ ) مَعْنَاهُ إذَا شَهِدَ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُنْكِرُ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا بِنَصْبِ حَافِظٍ لِلتَّرِكَةِ
( فَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِالْوَصِيَّةِ أَخَّرَ ذِكْرَهَا لِعَدَمِ عِلَاقَتِهَا فِيهَا انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَقْلًا عَنْهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِالْوَصِيَّةِ إنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ الشَّهَادَةِ ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ فَمُخْتَصَّةٌ بِهَا قَطْعًا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ فِي الْوَصِيَّةِ أَمْرًا مُخْتَصًّا بِالْوَصِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالظَّاهِرُ فِي وَجْهِ التَّأْخِيرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّمَا أَخَّرَ ذِكْرَ الشَّهَادَةِ فِي الْوَصِيَّةِ لِكَوْنِهَا عَارِضَةً غَيْرَ أَصْلِيَّةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْعَارِضِ انْتَهَى .
( قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَصْبِ الْوَصِيِّ ابْتِدَاءً أَوْ ضَمِّ آخَرَ إلَيْهِمَا بِرِضَاهُ بِدُونِ شَهَادَتِهِمَا فَيَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ ، أَمَّا الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ بِنَصْبِ الْقَاضِي ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ لِلْمَيِّتِ وَصِيَّانِ فَالْقَاضِي لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنَصِّبَ عَنْ الْمَيِّتِ وَصِيًّا آخَرَ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إذَا تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِيهِ .
قُلْنَا : الْقَاضِي وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَصْبِ الْوَصِيِّ لَكِنَّ الْمُوصَى إلَيْهِمَا مَتَى شَهِدَا بِذَلِكَ كَانَ مِنْ زَعْمِهِمَا أَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لَنَا فِي هَذَا الْمَالِ إلَّا بِالثَّالِثِ .
فَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيٌّ وَهُنَاكَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا .
كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي بَابِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ قَضَاءِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَاقْتَفَى أَثَرَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي .
أَمَّا
السُّؤَالُ فَلَا اتِّجَاهَ لَهُ أَصْلًا ، فَإِنَّ الْوَصِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ نَصَّبَهُمَا الْمَيِّتُ إذَا كَانَا عَاجِزَيْنِ عَنْ الْقِيَامِ بِالْوَصِيَّةِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا وَصِيًّا آخَرَ بِلَا رَيْبٍ كَمَا تَقَرَّرَ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْوَصِيِّ وَمَا يَمْلِكُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُونَا عَاجِزَيْنِ عَنْهُ وَلَكِنْ سَأَلَا الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا الْآخَرَ وَرَضِيَ بِهِ الْآخَرُ فَلَهُ أَيْضًا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا الْآخَرَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِقَوْلِهِ أَوْ ضَمَّ آخَرَ إلَيْهِمَا بِرِضَاهُ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِهِ : يَعْنِي لَوْ سَأَلَا مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الرَّجُلَ وَصِيًّا مَعَهُمَا بِرِضَاهُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُجِيبَهُمَا فِي ذَلِكَ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ هَذَا حَالَ الضَّمِّ إلَى الْوَصِيَّيْنِ مُطْلَقًا ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ الثَّالِثَ إلَيْهِمَا أَلْبَتَّةَ وَإِنْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، مِنْهَا التَّبْيِينُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : فَإِذَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمَا ضَمَّ الْقَاضِي إلَيْهِمَا ثَالِثًا ، لِأَنَّ فِي ضِمْنِ شَهَادَتِهِمَا إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِوَصِيٍّ آخَرَ مَعَهُمَا لِلْمَيِّتِ ، وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَلَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ ذَلِكَ بِدُونِهِ فَصَارَ فِي حَقِّهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْأَوْصِيَاءِ الثَّلَاثَةِ .
ثُمَّ قَالَ فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي صُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِمَا ثَالِثًا عَلَى مَا بَيَّنَّا آنِفًا فَيَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ فَيَكُونُ وَصِيًّا مَعَهُمَا بِنَصْبِ الْقَاضِي إيَّاهُ انْتَهَى .
وَمِنْهَا الْمُحِيطُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَإِذَا كَذَّبَهُمَا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَدْخَلْت مَعَهُمَا رَجُلًا آخَرَ سِوَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا ذُكِرَ أَنَّهُ
يَدْخُلُ مَعَهُمَا ثَالِثًا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمَا ثَالِثًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا ، بَلْ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَهُوَ الظَّاهِرُ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا .
وَإِنْ صَدَّقَهُمَا وَقَالَ لَا أَقْبَلُ الْوَصِيَّةَ قَالَ أَدْخَلْت مَعَهُمَا ثَالِثًا .
بِخِلَافِ مَا لَوْ قَبِلَ ثُمَّ أَبَى فَإِنَّهُ لَا يَعْمَلُ رَدُّهُ وَإِبَاؤُهُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّ قِيَاسَ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ وَصِيٌّ بِقَوْلِهِ وَهُنَاكَ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ إذْ لَا تُهْمَةَ هُنَاكَ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ تُهْمَةٌ كَمَا بَيَّنُوا ، وَأَيْضًا الْقَاضِي يَحْتَاجُ هُنَاكَ إلَى نَصْبِ الْوَصِيِّ وَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي زَعْمِ الْمُجِيبِ .
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَاكَ ، وَمُجَرَّدُ الْمُشَابَهَةِ فِي جِهَةٍ لَا يُصَحِّحُ الْقِيَاسَ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَشْكَلَ هَذَا الْمَقَامَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ فِيهِ : إنَّ وُجُوبَ كَوْنِ الْمَضْمُونِ هَذَا الْمُدَّعَى أَثَرُ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ مَعَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُتَّهَمِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ حَقٍّ شَرْعِيٍّ وَإِيجَابِهِ ، لَا فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ كَمُؤْنَةِ التَّعْيِينِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا تُسْقِطُ عَنْ الْقَاضِي مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ الْوِصَايَةُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَتَسْقُطُ بِشَهَادَتِهِمَا مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ عَنْهُ .
أَمَّا الْوِصَايَةُ تَثْبُتُ بِنَصْبِ الْقَاضِي ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ حُجَّةً فِي الدَّفْعِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِي الْإِثْبَاتِ كَالِاسْتِصْحَابِ وَنَحْوِهِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَثَرُ الدَّفْعِ ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ
أَنَّ الْقَاضِيَ مَلَكَ نَصْبَ الْوَصِيِّ إذَا كَانَ طَالِبًا وَالْمَوْتُ مَعْرُوفًا فَلَا يُثْبِتُ الْقَاضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وِلَايَةً لَمْ تَكُنْ ، وَإِنَّمَا أُسْقِطَتْ عَنْهُ مُؤْنَةُ التَّعْيِينِ .
وَمِثَالُهُ أَنَّ الْقُرْعَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، وَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِي تَعْيِينِ الْأَنْصِبَاءِ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي فَصَلَحَتْ دَافِعَةً لَا مُوجِبَةً ، فَكَذَلِكَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ مُؤْنَةَ التَّعْيِينِ انْتَهَى .
( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ا هـ .
أَقُولُ : تَفْسِيرُ الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ بِقَوْلِهِ مَعْنَاهُ إذَا شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُنْكِرُ يَقْتَضِي أَيْضًا بِظَاهِرِهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ ، لَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي مَا دَعَاهُمْ إلَى جَعْلِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَقَطْ دُونَ مَجْمُوعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَعَ صِحَّةِ الْمَعْنَى فِي الثَّانِي أَيْضًا وَزِيَادَةُ الْإِفَادَةِ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى إذْ ذَاكَ وَكَذَلِكَ حُكْمُ شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ فِي صُورَةِ أَنْ يُنْكِرَ الْمَشْهُودُ لَهُ مَا شَهِدَا بِهِ ، وَفِي صُورَةِ أَنْ يَدَّعِيَهُ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا تَبْطُلُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَتُقْبَلُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا جَيِّدٌ جِدًّا فَإِنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الِابْنَيْنِ كَجَوَابِ مَسْأَلَةِ شَهَادَةِ الْوَصِيَّيْنِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ ، وَأَمَّا إذَا جَعَلَ قَوْلَهُ وَكَذَلِكَ الِابْنَانِ مَعْطُوفًا عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَقَطْ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ إحْدَى صُورَتَيْ مَسْأَلَةِ شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ مَتْرُوكَةَ الْبَيَانِ فِي الْكِتَابِ بِالْكُلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ
مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا مَحَالَةَ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ شَهَادَتِهِمَا فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ وَصِيِّ الْأَبِ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي تَرِكَتِهِ لَا فِي غَيْرِهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ تَجُوزَ شَهَادَتُهُمَا لِوَارِثٍ صَغِيرٍ أَيْضًا فِي غَيْرِ تَرِكَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِجَرَيَانِهِ بِعَيْنِهِ هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ شَهَادَتِهِمَا لِوَارِثٍ صَغِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَغَيْرُهَا مُتَّفِقٌ فِي الْكِتَابِ آنِفًا فَلْيَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ
( وَلَوْ شَهِدَا ) يَعْنِي الْوَصِيَّيْنِ ( لِوَارِثٍ صَغِيرٍ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَوْ غَيْرِهِ ) ( فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّهُمَا يُظْهِرَانِ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ لِأَنْفُسِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ شَهِدَ لِوَارِثٍ كَبِيرٍ فِي مَالِ الْمَيِّتِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَالِ الْمَيِّتِ جَازَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنْ شَهِدَا لِوَارِثٍ كَبِيرٍ تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، لَأَنْ لَا يَثْبُتَ لَهُمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي التَّرِكَةِ إذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا فَعَرِيَتْ عَنْ التُّهْمَةِ .
وَلَهُ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُمَا وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَوِلَايَةُ بَيْعِ الْمَنْقُولِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْوَارِثِ فَتَحَقَّقَتْ التُّهْمَةُ بِخِلَافِ شَهَادَتِهَا فِي غَيْرِ التَّرِكَةِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ وَصِيِّ الْأَبِ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْمَيِّتَ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي تَرِكَتِهِ لَا فِي غَيْرِهَا .
.
قَالَ ( وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى مَيِّتٍ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرَانِ لِلْأَوَّلَيْنِ بِمِثْلِ ذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ، فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَةُ كُلِّ فَرِيقٍ لِلْآخَرِ بِوَصِيَّةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا تُقْبَلُ فِي الدَّيْنِ أَيْضًا .
وَأَبُو حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَجْهُ الْقَبُولِ أَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَهِيَ قَابِلَةٌ لِحُقُوقٍ شَتَّى فَلَا شَرِكَةَ ، وَلِهَذَا لَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ .
وَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الدَّيْنَ بِالْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ إذْ الذِّمَّةُ خَرِبَتْ بِالْمَوْتِ ، وَلِهَذَا لَوْ اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ التَّرِكَةِ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُثْبِتَةً حَقَّ الشَّرِكَةِ فَتَحَقَّقَتْ التُّهْمَةُ ، بِخِلَافِ حَالِ حَيَاةِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّهُ فِي الذِّمَّةِ لِبَقَائِهَا لَا فِي الْمَالِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى مَيِّتٍ إلَى آخِرِ الْفَصْلِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : جِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالدَّيْنِ .
وَالثَّانِي مَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ التَّرِكَةِ كَالشَّهَادَةِ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَوْ بِثُلُثِ الْمَالِ .
وَالثَّالِثُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَا لِرَجُلَيْنِ بِجَارِيَةٍ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةِ عَبْدٍ .
وَالرَّابِعُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ آخِرًا هُوَ أَنْ يَشْهَدَا لِرَجُلَيْنِ بِعَيْنٍ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَوْ بِثُلُثِ الْمَالِ ، وَمَبْنَى ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى تُهْمَةِ الشَّرِكَةِ ، فَمَا ثَبَتَ فِيهِ التُّهْمَةُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِ وَهُوَ الثَّانِي وَالرَّابِعُ ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ التُّهْمَةُ قُبِلَتْ كَمَا فِي الثَّالِثِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا انْتَهَى .
أَقُولُ : تَقْسِيمُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَتَقْرِيرُهُ هُنَا مُخْتَلٌّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَوْجُهِ الْأَقْسَامَ الْكُلِّيَّةَ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ لَا غَيْرُ : أَحَدُهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ .
وَثَانِيهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ .
وَثَالِثُهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَمَا عَدَّهُ وَجْهًا رَابِعًا دَاخِلٌ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي لَا مَحَالَةَ .
وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْأَمْثِلَةَ فَهِيَ خَمْسَةٌ لَا أَرْبَعَةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ الِاثْنَيْنِ مِنْهَا وَجْهًا وَاحِدًا ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَالثَّانِي مَا اتَّفَقُوا عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ ، وَالثَّالِثُ مَا اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِهِ لَا يُسَاعِدُ كَوْنَ مُرَادِهِ بِالْأَوْجُهِ هُوَ الْأَمْثِلَةُ ، بَلْ يَقْتَضِي كَوْنَ مُرَادِهِ بِهَا هُوَ الْأَقْسَامُ الْكُلِّيَّةُ الْمَذْكُورَةُ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ
صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَإِنْ ذَهَبَا أَيْضًا إلَى كَوْنِ الْأَوْجُهِ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعَةِ ، إلَّا أَنَّ تَقْرِيرَهُمَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَوْجُهِ هُوَ الْأَمْثِلَةُ وَالْمَسَائِلُ دُونَ الْأَقْسَامِ الْكُلِّيَّةِ وَالْأُصُولِ كَمَا يُنَافِيهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُمَا قَالَا فِيهِ : وَجِنْسُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ بِوَصِيَّةِ عَيْنٍ لِرَجُلَيْنِ كَالْعَبْدِ وَيَشْهَدَ الْمُوصَى لَهُمَا لِهَذَيْنِ الشَّاهِدَيْنِ بِوَصِيَّةِ عَيْنٍ أُخْرَى كَالْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ لِلْمَشْهُودِ فِيهِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ ، هُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ بِالْوَصِيَّةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ كَالْوَصِيَّةِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ مُرْسَلَةٍ أَيْضًا .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا .
وَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ الرَّجُلَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَيْنٍ كَالْعَبْدِ وَيَشْهَدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُثْبِتَةٌ لِلشَّرِكَةِ .
وَفِي الْوَجْهِ الرَّابِعِ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ بِالدَّيْنِ انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ .
ثُمَّ إنَّ الْحَقَّ أَنْ تُثَلَّثَ الْقِسْمَةُ هُنَا كَمَا فَعَلَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي كِتَابِ نُكَتِ الْوَصَايَا حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ شَهِدَ هَذَانِ لِهَذَيْنِ وَهَذَانِ لِهَذَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي وَجْهٍ لَا تُقْبَلُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَفِي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فِيهِ ، ثُمَّ فَصَّلَ كُلَّ وَجْهٍ بِأَمْثِلَتِهِ وَدَلِيلِهِ .
وَكَمَا فَصَّلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ حَيْثُ قَالَ : وَهَاهُنَا ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : أَحَدُهَا مَا
لَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالثَّانِي مَا تُقْبَلُ فِيهِ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالثَّالِثُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَأَمَّلْ
قَالَ ( وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِجَارِيَتِهِ وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِعَبْدِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ ) لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فَلَا تُهْمَةَ
( وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَا إذَا شَهِدَ الْأَوَّلَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِهَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ بِعَبْدٍ وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّهُ أَوْصَى لِلْأَوَّلَيْنِ بِثُلُثِ مَالِهِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ ) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُثْبِتَةٌ لِلشَّرِكَةِ .
.
( كِتَابُ الْخُنْثَى ) ( فَصْلٌ فِي بَيَانِهِ ) قَالَ ( وَإِذَا كَانَ لِلْمَوْلُودِ فَرْجٌ وَذَكَرٌ فَهُوَ خُنْثَى ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ الذَّكَرِ فَهُوَ غُلَامٌ ، وَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ الْفَرْجِ فَهُوَ أُنْثَى ) { لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْهُ كَيْفَ يُورَثُ ؟ فَقَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ .
وَلِأَنَّ الْبَوْلَ مِنْ أَيِّ عُضْوٍ كَانَ فَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعُضْوُ الْأَصْلِيُّ الصَّحِيحُ وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ ( وَإِنْ بَال مِنْهُمَا فَالْحُكْمِ لِلْأَسْبَقِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْعُضْوُ الْأَصْلِيُّ ( وَإِنْ كَانَا فِي السَّبْقِ عَلَى السَّوَاءِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يُنْسَبُ إلَى أَكْثَرِهِمَا بَوْلًا ) لِأَنَّهُ عَلَامَةُ قُوَّةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ وَكَوْنُهُ عُضْوًا أَصْلِيًّا ، وَلِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ فَيَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ .
وَلَهُ أَنَّ كَثْرَةَ الْخُرُوجِ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِاتِّسَاعٍ فِي أَحَدِهِمَا وَضِيقٍ فِي الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَهُوَ مُشْكِلٌ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا مُرَجِّحَ .
قَالَ ( وَإِذَا بَلَغَ الْخُنْثَى وَخَرَجَتْ لَهُ اللِّحْيَةُ أَوْ وَصَلَ إلَى النِّسَاءِ فَهُوَ رَجُلٌ ) وَكَذَا إذَا احْتَلَمَ كَمَا يَحْتَلِمُ الرَّجُلُ أَوْ كَانَ لَهُ ثَدْيٌ مُسْتَوٍ ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ عَلَامَاتِ الذُّكْرَانِ ( وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ ثَدْيٌ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ نَزَلَ لَهُ لَبَنٌ فِي ثَدْيِهِ أَوْ حَاضَ أَوْ حَبِلَ أَوْ أَمْكَنَ الْوُصُولُ إلَيْهِ مِنْ الْفَرْجِ فَهُوَ امْرَأَةٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ عَلَامَاتِ النِّسَاءِ ( وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ إحْدَى هَذِهِ الْعَلَامَاتِ فَهُوَ خُنْثَى مُشْكِلٌ ) وَكَذَا إذَا تَعَارَضَتْ هَذِهِ الْمَعَالِمُ .
( فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْمَبَالِ مِنْ آلَتَيْ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ فِيهِ ، وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْأَوَّلِ لِمَا أَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ ، أَوْ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْأَعَمُّ وَالْأَغْلَبُ وَهَذَا كَالنَّادِرِ فِيهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ لَيْسَ بِمَخْصُوصٍ بِمَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ ، بَلْ يَعُمُّ مَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ وَمَنْ لَهُ آلَتَانِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَارَّةَ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مَثَلًا جَارِيَةٌ بِأَسْرِهَا فِي حَقِّ الْخُنْثَى أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَةٌ وَاحِدَةٌ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ لَيْسَ بِتَامٍّ ، إذْ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ لِكِتَابِ الْخُنْثَى فَصْلَيْنِ ، وَوَضَعَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ لِبَيَانِهِ وَالْفَصْلَ الثَّانِيَ لِأَحْكَامِهِ حَيْثُ قَالَ : فَصْلٌ فِي بَيَانِهِ .
ثُمَّ قَالَ : فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ ، فَهُوَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إنَّمَا شَرَعَ حَقِيقَةً فِي بَيَانِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ لَا فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَحْكَامَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ بَيَانَ نَفْسِهِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُقَالَ شَرَعَ فِي أَحْكَامِهِ أَيْضًا بِتَأْوِيلٍ مَا فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ الشُّرُوعِ بِالثَّانِي فِي قَوْلِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَنْ لَهُ آلَتَانِ ، وَيُمْكِنُ التَّوْجِيهُ بِعِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ مَنْ غَلَبَ وُجُودُهُ ذَكَرَ أَحْكَامَ مَنْ هُوَ نَادِرُ الْوُجُودِ ا هـ .
أَقُولُ : يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ بَلْ بَعْضُ الْبَحْثِ
الثَّانِي أَيْضًا فَتَأَمَّلْ .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : أَخَّرَ كِتَابَ الْخُنْثَى لِوُقُوعِهِ نَادِرًا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ شَخْصٍ آلَةٌ وَاحِدَةٌ ، إمَّا آلَةُ الرَّجُلِ ، وَإِمَّا آلَةُ الْأُنْثَى ، وَاجْتِمَاعُ الْآلَتَيْنِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ ، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حُكْمِهِ ، فَلِأَجْلِ هَذَا ذَكَرَهُ وَأَخَّرَهُ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ لِنُدْرَتِهِ وَقِلَّةِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ بَيَانُهُ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا جَيِّدٌ إلَّا قَوْلُهُ وَقِلَّةُ الِاحْتِيَاجِ إلَى بَيَانِهِ ، فَإِنَّ مَا يَكُونُ نَادِرَ الْوُقُوعِ وَخِلَافَ الْمُعْتَادِ يَكُونُ أَحْوَجَ إلَى الْبَيَانِ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْ الْأَذْهَانِ مَوْقُوفًا حَالُهُ عَلَى أَمْرٍ خَفِيٍّ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَمِنْ مَحَاسِنِ أَحْكَامِ الْخُنْثَى تَرْكُ الْإِهْمَالِ فِي الْبَيَانِ وَإِنْ نَدَرَ وُجُودُهُ فِي الْأَزْمَانِ .
( فَصْلٌ فِي بَيَانِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ الْفَصْلُ إنَّمَا يَذْكُرُ لِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ بِاعْتِبَارِ نَوْعِ مُغَايِرَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَهَاهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْفَصْلِ .
قُلْت : كَلَامُهُ فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْكِتَابُ فِيهِ فَصْلَانِ : فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْخُنْثَى وَفَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ ، وَمَا ذَكَرْت فَإِنَّمَا هُوَ فِي وُقُوعِهِ فِي التَّفْصِيلِ لَا فِي الْإِجْمَالِ ا هـ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ : وَلَك أَنْ تَقُولَ انْفِصَالُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَنْ أُخْرَى مِنْهَا يَسْتَلْزِمُ انْفِصَالَ الْأُخْرَى عَنْ الْأُولَى ، فَإِذَا عُنْوِنَتْ الثَّانِيَةُ بِالْفَصْلِ كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ كَانَ ذَلِكَ فِي قُوَّةِ تَعْنُونِ الْأُولَى بِهِ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْعَادَةِ ، لَكِنْ صَرَّحَ بِهِ هُنَا إشَارَةً فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ إلَى أَنَّ هُنَا فَصْلًا آخَرَ يُذْكَرُ بُعَيْدَهُ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ فَتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ خَارِجٌ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ .
أَمَّا
أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْفَصْلَ إنَّمَا يُذْكَرُ لِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ لِقَطْعِهِ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ مُطْلَقًا ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْفَصْلِ ؟ فَاسْتِلْزَامُ انْفِصَالِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ عَنْ أُخْرَى مِنْهَا انْفِصَالُ الْأُخْرَى عَنْ الْأُولَى إنَّمَا يَقْتَضِي تَحَقُّقَ مَعْنَى الِانْفِصَالِ مُطْلَقًا فِي الْأُولَى لَا تَحَقُّقَ الِانْفِصَالِ عَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْأُولَى أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَالْفَصْلُ إنَّمَا يُذْكَرُ لِقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَحْصُلُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْفَصْلِ هُنَا الْإِشَارَةُ فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ إلَى هُنَا فَصْلًا آخَرَ يُذْكَرُ بُعَيْدَهُ وَذِكْرُ فَصْلٍ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَ فَصْلٍ آخَرَ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَقْتَضِيَ ذِكْرُ فَصْلٍ فِي أَحْكَامِهِ ذِكْرَ فَصْلٍ آخَرَ أَيْضًا بُعَيْدَهُ وَلَمْ يُذْكَرْ بَعْدَهُ فَصْلٌ آخَرُ قَطْعًا ، وَعَنْ هَذَا تَرَاهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ فَصْلًا وَاحِدًا وَلَا يَذْكُرُونَ بَعْدَهُ فَصْلًا آخَرَ أَصْلًا .
( فَصْلٌ فِي أَحْكَامِهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْأَصْلُ فِي الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ أَنْ يُؤْخَذَ فِيهِ بِالْأَحْوَطِ وَالْأَوْثَقِ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، وَأَنْ لَا يَحْكُمَ بِثُبُوتِ حُكْمٍ وَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ كَيْ لَا يُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ وَلَا النِّسَاءَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ .
أَيْ فِي أَحْكَامِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَظْهَرْ فِيهِ إحْدَى الْعَلَامَاتِ ، وَتَعَارَضَتْ اللَّامَّاتُ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُشْكِلِ إمَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ، وَحُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ فِيمَا مَضَى مِنْ الْكُتُبِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ كَيْ لَا يُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ ، وَلَا النِّسَاءَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ فَتَفْسُدَ صَلَاتُهُ ) أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِ هَذَا التَّعْلِيلِ نَوْعُ خَلَلٍ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا النِّسَاءَ عَطْفٌ عَلَى الرِّجَالِ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ .
وَقَوْلُهُ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ مُتَفَرِّعٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَلَا النِّسَاءَ مُتَفَرِّعًا أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ ، فَيَصِيرُ الْحَاصِلُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ وَلَا النِّسَاءَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِتَفَرُّعِ عَدَمِ تَخَلُّلِهِ النِّسَاءَ عَلَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ، إذْ لَا تَأْثِيرَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ فِي عَدَمِ تَخَلُّلِهِ النِّسَاءَ ، بَلْ مُجَرَّدُ احْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ مِمَّا يُجَوِّزُ تَخَلُّلَهُ النِّسَاءَ ، وَإِنَّمَا التَّأْثِيرُ فِي عَدَمِ تَخَلُّلِهِ النِّسَاءَ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي ذَاقَ هَذِهِ الْبَشَاعَةَ فَغَيَّرَ تَحْرِيرَ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ وَقَفَ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَ بَيْنَ صَفِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَتَخَلَّلُ الرِّجَالَ حَتَّى لَا يُفْسِدَ صَلَاتَهُمْ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ، وَلَا يَتَخَلَّلُ النِّسَاءَ حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاتُهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ انْتَهَى
( فَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ ( وَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ الرِّجَالِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَيُعِيدُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ وَاَلَّذِي خَلْفَهُ بِحِذَائِهِ صَلَاتَهُمْ احْتِيَاطًا ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ قَامَ فِي صَفِّ النِّسَاءِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتهُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ ) هَذَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : إنَّمَا قَالَ بِاسْتِحْبَابِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ دُونَ الْوُجُوبِ وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ ، لِأَنَّ الْمُسْقِطَ وَهُوَ الْأَدَاءُ مَعْلُومٌ ، وَالْمُفْسِدَ وَهُوَ مُحَاذَاةُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ مَوْهُومٌ ، فَلِلتَّوَهُّمِ أُحِبُّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ انْتَهَى .
وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ كَوْنَ الْمُفْسِدِ مَوْهُومًا لَا يَرْفَعُ وُجُوبَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ تَقَرُّرِ كَوْنِ الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ وَاجِبًا فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ يَقْتَضِي الِاحْتِرَازَ عَنْ الْمَوْهُومِ أَيْضًا ، فَالظَّاهِرُ عِنْدِي مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا عَنْهَا ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُعِيدَ صَلَاتَهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ مُرَاهِقًا ، فَإِنَّ الْإِعَادَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّهِ تَخَلُّقًا وَاعْتِيَادًا .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَالِغًا فَالْإِعَادَةُ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا كَانَ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى لَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فَتَجِبُ الْإِعَادَةُ احْتِيَاطًا عَلَى مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ .
قَالَ ( وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُصَلِّيَ بِقِنَاعٍ ) لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ( وَيَجْلِسَ فِي صَلَاتِهِ جُلُوسَ الْمَرْأَةِ ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ السِّتْرَ عَلَى النِّسَاءِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ( وَإِنْ صَلَّى بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَمَرْته أَنْ يُعِيدَ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ وَهُوَ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَإِنْ لَمْ يُعِدْ أَجْزَأَهُ ( وَتَبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ ) لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً .
وَيُكْرَهُ أَنْ يَخْتِنَهُ رَجُلٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ أُنْثَى أَوْ تَخْتِنُهُ امْرَأَةٌ لِأَنَّهُ لَعَلَّهُ رَجُلٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قُلْنَا ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ ابْتَاعَ لَهُ الْإِمَامُ أَمَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ أُعِدَّ لِنَوَائِب الْمُسْلِمِينَ ( فَإِذَا خَتَنَتْهُ بَاعَهَا وَرَدَّ ثَمَنَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ) لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا
( قَوْلُهُ وَيَجْلِسُ فِي صَلَاتِهِ جُلُوسَ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ رَجُلًا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ السَّتْرَ عَلَى النِّسَاءِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ أَنَّهُ جَائِزٌ بِلَا عُذْرٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ مَكْرُوهٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ بِعُذْرٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَهُوَ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ ، وَكَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ ، وَبَيَّنَ وَجْهَ الْعُذْرِ هُنَا حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الرَّجُلَ يَجْلِسُ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ وَاشْتِبَاهُ الْحَالِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَعْذَارِ ا هـ .
فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ يُرَدُّ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَقَدْ ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا أَنْ يُقَالَ : ارْتِكَابُ الْمَكْرُوهِ أَيْضًا جَائِزٌ عِنْدَ الْعُذْرِ ، وَاشْتِبَاهُ الْحَالِ مِنْ أَبْيَنِ الْأَعْذَارِ فَمَا الرُّجْحَانُ فِي جُلُوسِهِ جُلُوسَ الْمَرْأَةِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ .
( قَوْلُهُ وَتُبْتَاعُ لَهُ أَمَةٌ تَخْتِنُهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا التَّعْلِيلُ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ الرَّجُلِ وَلَكِنْ هُوَ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْ سَيِّدَتِهَا مُطْلَقًا ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي اسْتِحْبَابِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ لِلْأَمَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَوْلَاتِهَا كَمَا لِلْأَجْنَبِيَّاتِ ، فَعَلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى سَيِّدَتِهَا .
وَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ هُنَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ فَقَالَ : لِأَنَّهُ مَتَى اشْتَرَى الْوَلِيُّ جَارِيَةً لِلْخُنْثَى فَإِنَّهُ يَمْلِكُهَا الْخُنْثَى ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْخُنْثَى ذَكَرًا فَهَذَا نَظَرُ الْمَمْلُوكَةِ إلَى مَالِكِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْخُنْثَى أُنْثَى
فَإِنَّهُ نَظَرُ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ وَإِنَّهُ مُبَاحٌ حَالَةَ الْعُذْرِ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ شِرَاءَ الْجَارِيَةِ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْخُنْثَى أُنْثَى ، بِاعْتِبَارِ أَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ مِنْ نَظَرِهِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، لَا أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ تَأْثِيرًا فِي إبَاحَةِ نَظَرِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى سَيِّدَتِهَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ اعْتِرَاضَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ عَلَى تَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لَا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَصَابَ الْمَرْأَةَ قُرْحٌ أَوْ جُرْحٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ تُدَاوِيهِ الْمَرْأَةُ ، وَكَذَا نَظَرُ الْقَابِلَةِ إلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ يَحِلُّ ، فَإِذَا جَازَ النَّظَرُ بِالْعُذْرِ فَإِقَامَة السُّنَّةُ أَيْضًا عُذْرٌ جَازَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، إذْ يَشْتَرِكُ فِي جَوَازِ النَّظَرِ بِالْعُذْرِ إلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ مِنْ الْأَمَةِ الْمَرْأَةُ وَالْحُرَّةُ وَالْمَمْلُوكَةُ وَغَيْرُ الْمَمْلُوكَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرٌ فِي إبَاحَةِ نَظَرِ الْمَمْلُوكَةِ إلَى سَيِّدَتِهَا أَصْلًا .
وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَيْهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً يُشْعِرُ لَا مَحَالَةَ بِتَأْثِيرِ الْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى سَيِّدَتِهَا كَتَأْثِيرِهِ فِي إبَاحَةِ النَّظَرِ إلَى سَيِّدِهَا ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الرَّجُلِ فَاسِدٌ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ ، وَعَنْ هَذَا أَمْضَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي التَّعْلِيلِ : لِأَنَّهُ يُبَاحُ لِمَمْلُوكَتِهِ النَّظَرُ إلَى ذَكَرِهِ إنْ كَانَ رَجُلًا
( وَيُكْرَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لُبْسُ الْحُلِيِّ وَالْحَرِيرِ ، وَأَنْ يَتَكَشَّفَ قُدَّامَ الرِّجَالِ أَوْ قُدَّامَ النِّسَاءِ .
وَأَنْ يَخْلُوَ بِهِ غَيْرُ مَحْرَمٍ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ، وَأَنْ يُسَافِرَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ مِنْ الرِّجَالِ ) تَوَقِّيًا عَنْ احْتِمَالِ الْمَحْرَمِ ( وَإِنْ أَحْرَمَ وَقَدْ رَاهَقَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا عِلْمَ لِي فِي لِبَاسِهِ ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا يُكْرَهُ لَهُ لُبْسُ الْمِخْيَطِ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يُكْرَهُ لَهُ تَرْكُهُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَلْبَسُ لِبَاسَ الْمَرْأَةِ ) لِأَنَّ تَرْكَ لُبْسِ الْمِخْيَطِ وَهُوَ امْرَأَةٌ أَفْحَشُ مِنْ لُبْسِهِ وَهُوَ رَجُلٌ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ
( قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لُبْسُ الْحُلِيِّ وَالْحَرِيرِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَلَيْسَ فِي قَيْدِ قَوْلِهِ فِي حَيَاتِهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ ، لِأَنَّ الْحَيَاةَ تُسْتَفَادُ مِنْ ذِكْرِ اللُّبْسِ وَمِنْ ذِكْرِ اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ لِمَا أَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ لَوْ وُجِدَ ذَاكَ اللِّبَاسُ لَا لَبِسَ ، وَالْكَرَاهَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْمُلْبِسِ لَا لِلْمَيِّتِ ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَقَصَدَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ رَدَّ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ وَهُوَ مُنَاقَشَةٌ سَهْلَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُذْكَرُ فِي التَّرَاكِيبِ يَكُونُ قَيْدًا لِلْإِخْرَاجِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا بَيَانًا لِلْوَاقِعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ حَاصِلَ دَخَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ فِي حَيَاتِهِ قَيْدٌ مُسْتَدْرَكٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ هُنَا لَا نَفْهَمُ مَعْنَاهُ مِمَّا ذُكِرَ فِيمَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ كَوْنَهُ بَيَانًا لِلْوَاقِعِ لَا يَدْفَعُ اسْتِدْرَاكَهُ وَعَدَمُ الْفَائِدَةِ فِي ذِكْرِهِ إذَا كَانَ الْوَاقِعُ مُبَيَّنًا بِدُونِهِ ، فَالْوَجْهُ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ أَنْفُسُهُمْ حَيْثُ قَالُوا : إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ تَبِعَ فِي ذَلِكَ لَفْظَ الْمَبْسُوطِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي لَفْظِ الْمَبْسُوطِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَعْدَ ذِكْرِ تَكْفِينِ الْخُنْثَى إذَا مَاتَ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَيَاةِ هُنَاكَ لِتَبْيِينِ الْمُقَابَلَةِ لَا لِلْقَيْدِ انْتَهَى .
( قَوْلُهُ وَأَنْ يَتَكَشَّفَ قُدَّامَ الرِّجَالِ أَوْ قُدَّامَ النِّسَاءِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ لَجَازَ لِلْخُنْثَى التَّكَشُّفُ لِلنِّسَاءِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ التَّكَشُّفِ إبْدَاءَ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ الْخُنْثَى أَيْضًا ،
وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ عِنْدِي إذْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ يَصِحُّ الْحُكْمُ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِعَدَمِ جَوَازِ أَنْ يَتَكَشَّفَ لِلنِّسَاءِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى رِوَايَةِ كَوْنِ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ كَمَا ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ نَقْلًا عَنْ كِتَابِ الْخُنْثَى مِنْ الْأَصْلِ ، إذْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَشُّفُ لِلنِّسَاءِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ رَجُلًا ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكَشُّفُ لِلرِّجَالِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ امْرَأَةً ، فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَبْنَاهَا كَوْنُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا كَوْنُ نَظَرِ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ كَمَا زَعَمُوا تَبَصَّرْ
( وَمَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ إنْ كَانَ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَوَلَدَتْ خُنْثَى لَمْ يَقَعْ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُ الْخُنْثَى ) لِأَنَّ الْخَنَثَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ ( وَلَوْ قَالَ كُلُّ عَبْدٍ لِي حُرٌّ أَوْ قَالَ كُلُّ أَمَةٍ لِي حُرَّةٌ وَلَهُ مَمْلُوكٌ خُنْثَى لَمْ يُعْتَقْ حَتَّى يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ ) لِمَا قُلْنَا ( وَإِنْ قَالَ الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا عَتَقَ ) لِلتَّيَقُّنِ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُهْمَلٍ ( وَإِنْ قَالَ الْخُنْثَى أَنَا رَجُلٌ أَوْ أَنَا امْرَأَةٌ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إذَا كَانَ مُشْكِلًا ) لِأَنَّهُ دَعْوَى يُخَالِفُ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ ) لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ( وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ أَمْرُهُ لَمْ يُغَسِّلْهُ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ ) لِأَنَّ حَلَّ الْغُسْلِ غَيْرُ ثَابِتٍ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ( فَيَتَوَقَّى لِاحْتِمَالِ الْحُرْمَةِ وَيُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ ) لِتَعَذُّرِ الْغُسْلِ ( وَلَا يَحْضُرُ إنْ كَانَ مُرَاهِقًا غُسْلَ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ( وَإِنْ سَجَّى قَبْرَهُ فَهُوَ أَحَبُّ ) لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أُنْثَى يُقِيمُ وَاجِبًا ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَالتَّسْجِيَةُ لَا تَضُرُّهُ .
( وَإِذَا مَاتَ فَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَعَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُضِعَ الرَّجُلُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَالْخُنْثَى خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْخُنْثَى فَيُؤَخَّرُ عَنْ الرَّجُلِ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ( وَيُقَدَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ
( قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ مُشْكِلًا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ إحْدَى الْعَلَامَاتِ ، فَعِنْدَ ظُهُورِهَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَدَارُ هَذَا النَّظَرِ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُشْكِلٌ لَا عِلْمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْكِلٍ ، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ إذَا كَانَ مُشْكِلًا : إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ نَقْلًا عَنْ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ دَعْوَى تُخَالِفُ قَضِيَّةِ الدَّلِيلِ ، فَإِنَّ مُخَالَفَةَ دَعْوَاهُ قَضِيَّةَ الدَّلِيلِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ إذَا كَانَ مُشْكِلًا ، إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا : وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُشْكِلٌ ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمُقَابِلُ لِمَا قَبْلَهُ فَيَسْقُطُ النَّظَرُ قَطْعًا ، إذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُشْكِلٍ حَتَّى يَحْكُمَ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى بِلَا حَاجَةٍ إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَنَّهُ مُشْكِلٌ أَمْ لَا بِأَنْ لَا يَعْلَمَ ظُهُورَ إحْدَى الْعَلَامَاتِ وَلَا عَدَمَ ظُهُورِهَا ، فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى قَوْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ هُنَا ، وَمَحَلُّ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا غُبَارَ فِيهِ .
وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ حَسِبَ مَعْنَى الْمَقَامِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ نَظَرُهُ كَيْفَ أَوْرَدَ النَّظَرَ عَلَى التَّعْلِيلِ دُونَ نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ أَحَقُّ بِوُرُودِهِ
عَلَيْهَا عَلَى مَدَارِ فَهْمِهِ مَعْنَى الْمَقَامِ بِأَنْ يُقَالَ لَا مَعْنَى لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ مُشْكِلًا إذَا ظَهَرَتْ فِيهِ إحْدَى الْعَلَامَاتِ ، فَبَعْدَ ظُهُورِهَا يُحْكَمُ بِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْكِلًا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ
( وَلَوْ دُفِنَ مَعَ رَجُلٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ مِنْ عُذْرٍ جُعِلَ الْخُنْثَى خَلْفَ الرَّجُلِ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ امْرَأَةٌ ( وَيُجْعَلُ بَيْنهمَا حَاجِزٌ مِنْ صَعِيدٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ امْرَأَةٍ قُدِّمَ الْخُنْثَى ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ رَجُلٌ ( وَإِنْ جُعِلَ عَلَى السَّرِيرِ نَعْشُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ) لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَوْرَةٌ ، ( وَيُكَفَّنُ كَمَا تُكَفَّنُ الْجَارِيَةُ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ ) يَعْنِي يُكَفَّنُ فِي خَمْسِ أَثْوَابٍ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ أُنْثَى فَقَدْ أُقِيمَتْ سُنَّةٌ ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَقَدْ زَادُوا عَلَى الثَّلَاثِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
( وَلَوْ مَاتَ أَبُوهُ وَخَلَفَ ابْنًا فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَثْلَاثًا لِلِابْنِ سَهْمَانِ ، وَلِلْخُنْثَى سَهْمٌ وَهُوَ أُنْثَى عِنْدَهُ فِي الْمِيرَاثِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ غَيْرَ ذَلِكَ ) وَقَالَا : لِلْخُنْثَى نِصْفُ مِيرَاثِ ذَكَرٍ وَنِصْفُ مِيرَاثِ أُنْثَى وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ .
وَاخْتَلَفَا فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ : الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا لِلِابْنِ سَبْعَةٌ وَلِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْمَالُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةٍ لِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ وَلِلْخُنْثَى ثَلَاثَةٌ ، لِأَنَّ الِابْنَ يَسْتَحِقُّ كُلَّ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالْخُنْثَى ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ ، فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا هَذَا يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ وَذَلِكَ يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سَبْعَةً .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْخُنْثَى لَوْ كَانَ ذَكَرًا يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا احْتَجْنَا إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ سِتَّةٌ ، فَفِي حَالٍ يَكُونُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ ثَلَاثَةٌ ، وَفِي حَالٍ يَكُونُ أَثْلَاثًا لِلْخُنْثَى سَهْمَانِ وَلِلِابْنِ أَرْبَعَةٌ ، فَسَهْمَانِ لِلْخُنْثَى ثَابِتَانِ بِيَقِينٍ .
وَوَقَعَ الشَّكُّ فِي السَّهْمِ الزَّائِدِ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ فَانْكَسَرَ فَيُضَعَّفُ لِيَزُولَ الْكَسْرُ فَصَارَ الْحِسَابُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْخُنْثَى خَمْسَةٌ وَلِلِابْنِ سَبْعَةٌ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا إلَى إثْبَاتِ الْمَالِ ابْتِدَاءً ، وَالْأَقَلُّ وَهُوَ مِيرَاثُ الْأُنْثَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَيْهِ شَكٌّ ، فَأَثْبَتْنَا الْمُتَيَقَّنَ قَصْرًا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ وَصَارَ كَمَا إذَا كَانَ الشَّكُّ فِي وُجُوبِ الْمَالِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالْمُتَيَقَّنِ ، كَذَا هَذَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ الْأَقَلَّ لَوْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُعْطَى نَصِيبَ الِابْنِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ
لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْوَرَثَةُ زَوْجًا ، وَأُمًّا وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ هِيَ خُنْثَى أَوْ امْرَأَةً وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأُخْتًا لِأَبٍ وَأُمٍّ هِيَ خُنْثَى .
فَعِنْدَنَا فِي الْأُولَى لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى ، وَفِي الثَّانِيَةِ لِلْمَرْأَةِ الرُّبْعُ وَلِلْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْخُنْثَى لِأَنَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ فِيهِمَا .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ الْأَقَلَّ لَوْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مِيرَاثُ الْأُنْثَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ : يَعْنِي أَوْجَبْنَا لِلْخُنْثَى مِيرَاثَ الْأُنْثَى لِلتَّيَقُّنِ ، وَمَا تَجَاوَزْنَا عَنْهُ إلَى نَصِيبِ الذَّكَرِ لِأَنَّ الْمَالَ ابْتِدَاءً لَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، إلَّا أَنْ يُصِيبَ الْخُنْثَى أَقَلُّ مِنْ نَصِيبِ الْأُنْثَى إنْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا فَحِينَئِذٍ يُعْطَى نَصِيبَ الِابْنِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا بِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ اخْتِلَالٍ .
لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي أَوْجَبْنَا لِلْخُنْثَى مِيرَاثَ الْأُنْثَى لِلتَّيَقُّنِ إلَخْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ الْأَقَلُّ لَوْ قَدَّرْنَاهُ ذَكَرًا اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ فَأَوْجَبْنَا الْمُتَيَقَّنَ بِهِ قَصْرًا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، فَيُخَالِفُ هَذَا قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ مِيرَاثُ الْأُنْثَى مُتَيَقَّنٌ بِهِ تَدَبَّرْ .
.
( مَسَائِلُ شَتَّى ) قَالَ ( وَإِذَا قُرِئَ عَلَى الْأَخْرَسِ كِتَابُ وَصِيَّتِهِ فَقِيلَ لَهُ أَنَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ : أَيْ نَعَمْ أَوْ كَتَبَ ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الَّذِي يُعْتَقَلُ لِسَانُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْمُجَوِّزَ إنَّمَا هُوَ الْعَجْزُ وَقَدْ شَمِلَ الْفَصْلَيْنِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ كَالْوَحْشِيِّ وَالْمُتَوَحِّشِ مِنْ الْأَهْلِيِّ فِي حَقِّ الذَّكَاةِ ، وَالْفَرْقُ لِأَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْإِشَارَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا صَارَتْ مَعْهُودَةً مَعْلُومَةً وَذَلِكَ فِي الْأَخْرَسِ دُونَ الْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ .
حَتَّى لَوْ امْتَدَّ ذَلِكَ وَصَارَتْ لَهُ إشَارَاتٌ مَعْلُومَةٌ قَالُوا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْرَسِ ، وَلِأَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ ، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ الْعَارِضِيَّ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ دُونَ الْأَصْلِيِّ فَلَا يَنْقَاسَانِ ، وَفِي الْآبِدَةِ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْأَخْرَسُ يَكْتُبُ كِتَابًا أَوْ يُومِئُ إيمَاءً يُعْرَفُ بِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَبَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَمِنْهُ ، وَلَا يُحَدُّ وَلَا يُحَدُّ لَهُ ) أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَدَّى وَاجِبَ التَّبْلِيغِ مَرَّةً بِالْعِبَارَةِ وَتَارَةً بِالْكِتَابَةِ إلَى الْغُيَّبِ ، وَالْمُجَوِّزُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ الْعَجْزُ وَهُوَ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَظْهَرُ وَأَلْزَمُ .
ثُمَّ الْكِتَابُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ : مُسْتَبِينٌ مَرْسُومٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا .
وَمُسْتَبِينٌ غَيْرُ مَرْسُومٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْجِدَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ ، وَيَنْوِي فِيهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ صَرِيحِ الْكِتَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ
النِّيَّةِ .
وَغَيْرُ مُسْتَبِينٍ كَالْكِتَابَةِ عَلَى الْهَوَاءِ وَالْمَاءِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَلَامٍ غَيْرِ مَسْمُوعٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُكْمُ .
وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَجُعِلَتْ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَلَا تَخْتَصُّ بِلَفْظٍ دُونَ لَفْظٍ ، وَقَدْ تَثْبُتُ بِدُونِ اللَّفْظِ .
وَالْقِصَاصُ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحُدُودَ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَعَلَّهُ كَانَ مُصَدِّقًا لِلْقَاذِفِ فَلَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ ، وَلَا يُحَدُّ أَيْضًا بِالْإِشَارَةِ فِي الْقَذْفِ لِانْعِدَامِ الْقَذْفِ صَرِيحًا وَهُوَ الشَّرْطُ .
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ بِبَيَانٍ فِيهِ شُبْهَةٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ أَوْ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَلَوْ شَهِدُوا بِالْقَتْلِ الْمُطْلَقِ أَوْ أَقَرَّ بِمُطْلَقِ الْقَتْلِ يَجِبُ الْقِصَاصُ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَفْظُ التَّعَمُّدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ .
أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي قِصَاصٍ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ هُنَا كَذَلِكَ فَيَكُونُ فِيهِمَا رِوَايَتَانِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفَارِقًا لِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى نُطْقِ الْغَائِبِ فِي الْجُمْلَةِ لِقِيَامِ أَهْلِيَّةِ النُّطْقِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْأَخْرَسُ لِتَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى النُّطْقِ لِلْآفَةِ الْمَانِعَةِ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ ، بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ .
لِأَنَّهُ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّهُ جَمَعَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ : أَشَارَ أَوْ كَتَبَ ، وَإِنَّمَا اسْتَوَيَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ ، وَفِي الْكِتَابَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْإِشَارَةِ ، وَفِي الْإِشَارَةِ زِيَادَةُ أَثَرٍ لَمْ يُوجَدْ فِي الْكِتَابِ لَمَّا أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى النُّطْقِ مِنْ آثَارِ الْأَقْلَامِ فَاسْتَوَيَا ( وَكَذَلِكَ الَّذِي صَمَتَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لِعَارِضٍ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ أَنَّ آلَةَ النُّطْقِ قَائِمَةٌ ، وَقِيلَ هَذَا تَفْسِيرٌ لِمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ .
مَسَائِلُ شَتَّى ) قَدْ كَانَتْ عَادَةُ الْمُصَنِّفِينَ أَنْ يَذْكُرُوا فِي آخِرِ الْكِتَابِ مَا شَذَّ ذِكْرُهُ فِي الْأَبْوَابِ السَّالِفَةِ مِنْ الْمَسَائِلِ اسْتِدْرَاكًا لِلْفَائِتِ ، وَيُتَرْجِمُونَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ بِمَسَائِلَ شَتَّى أَوْ بِمَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ بِمَسَائِلَ مَنْثُورَةٍ ، فَعَمِلَ الْمُصَنِّفُ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِمْ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا قُرِئَ عَلَى الْأَخْرَسِ كِتَابُ وَصِيَّتِهِ فَقِيلَ لَهُ نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِي الْكِتَابِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ : أَيْ نَعَمْ أَوْ كَتَبَ ، فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ فَهُوَ جَائِزٌ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ لِأَنَّ مَا يَجِيءُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ عَلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَالَةً لِإِنْكَارٍ ، مِثْلُ أَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ عَرْضًا .
وَالثَّانِي مَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلَالَةَ الْإِقْرَارِ بِأَنْ يُحَرِّكَ رَأْسَهُ طُولًا إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْهُودًا مِنْهُ فِي نَعَمْ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الْإِيمَاءَ بِرَأْسِهِ فِي تَقْرِيرِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ : أَيْ نَعَمْ تَعَيَّنَ أَنَّ وَضْعَهَا فِيمَا جَاءَ مِنْهُ دَلَالَةُ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَبْقَ حَاجَةٌ فِي تَقْرِيرِ جَوَابِهَا إلَى قَوْلِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ إقْرَارٌ ، بَلْ كَانَ يَكْفِي قَوْلُهُ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ أَخَّرَ الْوَصِيَّةَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ ، أَمَّا الْأَخْرَسُ فَلَا تَفْرِيطَ مِنْهُ ) أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ إشَارَةُ الْمُعْتَقَلِ لِسَانُهُ ، وَلَوْ امْتَدَّ اعْتِقَالُهُ ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْوَصِيَّةِ قَدْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ هُنَاكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْرَسِ فِي الْحُكْمِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قِيلَ آنِفًا ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ طَرَحَ هَذَا
التَّعْلِيلَ مِنْ الْبَيِّنِ ( قَوْلُهُ أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابُ مِمَّنْ دَنَا إلَخْ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ .
وَهُوَ أَنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِ الْمُدَّعِي وَلَا يَدُلُّ عَلَى بَعْضِهِ الْآخَرِ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ ، فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ أَنَّ كِتَابَةَ الْأَخْرَسِ حُجَّةٌ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَلَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي الْحُدُودِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ ، إذْ لَا فَارِقَ فِيهِ بَيْنَ الْحُدُودِ وَمَا سِوَاهَا ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا إذَا كَانَتْ مُسْتَبِينَةً مَرْسُومَةً بِاقْتِضَاءِ قَوْلِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي الْغَائِبِ وَالْحَاضِرِ عَلَى مَا قَالُوا ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً ضَرُورِيَّةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ أَيْضًا كَمَا كَانَ النُّطْقُ حُجَّةً فِيهَا أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْمُخْلَصِ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فَجُعِلَتْ حُجَّةً فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الطَّلَاقُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ فِيهِ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَهُوَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذَا لَمْ تُشْتَرَطْ الدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ .
كَمَا لَمْ تُشْتَرَطْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ أَيْضًا بِالِاتِّفَاقِ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً وَمَرَّ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ عِتْقِ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ .
فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ الطَّلَاقُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الصِّرْفَةِ ، بَلْ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ أَيْضًا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الزَّوْجَيْنِ بِهِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى ذَلِكَ .
قُلْت : مُجَرَّدُ تَحَقُّقِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ لَا
يَكْفِي فِي كَوْنِ إشَارَةِ الْأَخْرَسِ حُجَّةً فِيهِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ إشَارَتَهُ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ حَدِّ الْقَذْفِ مَعَ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ .
كَمَا أَنَّ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى ، بَلْ لَا بُدَّ فِي كَوْنِ إشَارَتِهِ حُجَّةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَطْ أَوْ مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَالْقِصَاصِ ، لَا مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى حَقِّ الْعَبْدِ كَحَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَ عَامَّةِ عُلَمَائِنَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَكَوْنُ الطَّلَاقِ مِمَّا غَلَبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مَمْنُوعٌ .
كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِدُونِ الدَّعْوَى ، فَإِنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ ، حَتَّى أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ فِيهِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْمَقْذُوفِ وَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاصُ عَنْهُ وَلَا يَجْرِي الْإِرْثُ فِيهِ عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ ، فَمَا ظَنُّك بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى فِي ثُبُوتِ الطَّلَاقِ لَوْ كَانَ حَقُّ الْعَبْدِ فِيهِ غَالِبًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَفَكَّرْ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِيهِ مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ لِأَنَّهُ شُرِعَ جَابِرًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ الْعَبْدِ ، أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِوَضِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ جَوَازِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ مَعَ الشُّبْهَةِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِيمَا مَرَّ فِي عِدَّةِ مَوَاقِعَ : مِنْهَا كِتَابُ الْكَفَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّ مَبْنَى الْكُلِّ عَلَى
الدَّرْءِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الِاسْتِيثَاقُ .
وَمِنْهَا كِتَابُ الشَّهَادَاتِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَلَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ ، لِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
ثُمَّ قَالَ فِيهِ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ : الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا فِي كُلِّ حَقٍّ لَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَمِنْهَا كِتَابُ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : وَتَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِالْخُصُومَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَكَذَا بِإِيفَائِهَا وَاسْتِيفَائِهَا إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
فَإِنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَصِحُّ بِاسْتِيفَائِهَا مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عَنْ الْمَجْلِسِ لِأَنَّهَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَشُبْهَةُ الْعَفْوِ ثَابِتَةٌ حَالَ غَيْبَتِهِ .
وَمِنْهَا كِتَابُ الدَّعْوَى فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فِي بَابِ الْيَمِينِ : وَمَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ اُسْتُحْلِفَ بِالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِيهِمَا ، لِأَنَّ النُّكُولَ إقْرَارٌ فِيهِ شُبْهَةٌ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْقِصَاصُ وَيَجِبُ بِهِ الْمَالُ .
وَمِنْهَا كِتَابُ الْجِنَايَاتِ ، فَإِنَّهُ صَرَّحَ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْهُ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْقِصَاصِ بِالشُّبْهَةِ بَلْ جَعَلَهَا أَصْلًا مُؤَثِّرًا فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ سُقُوطِ الْقِصَاصِ بِتَحَقُّقِ نَوْعٍ مِنْ الشُّبْهَةِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْكِتَابِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَيْدَ الْخَالِصَةِ فِي قَوْلِهِ أَمَّا الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَشُرِعَتْ زَوَاجِرَ مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُخِلٌّ هُنَا ، فَإِنَّ حَدَّ الْقَذْفِ غَيْرُ خَالِصٍ لِلَّهِ
تَعَالَى ، بَلْ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّ الْعَبْدِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا زَاجِرٌ لَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَا تَكُونُ إشَارَةُ الْأَخْرَسِ حُجَّةً فِيهِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِيهِ مَرَّ آنِفًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ عَلَى التَّقْيِيدِ الْمَزْبُورِ .
( قَوْلُهُ وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ .
إلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ جَمَعَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا فَقَالَ أَشَارَ أَوْ كَتَبَ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَلَنَا فِي دَعْوَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِذَا كَانَ الْأَخْرَسُ يَكْتُبُ أَوْ يُومِئُ وَكَلِمَةٌ أَوْ لِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ لَا لِلْجَمْعِ ، عَلَى أَنْ نَقُولَ : قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَإِنْ كَانَ الْأَخْرَسُ لَا يَكْتُبُ وَكَانَتْ لَهُ إشَارَةٌ تُعْرَفُ فِي نِكَاحِهِ وَطَلَاقِهِ وَشِرَائِهِ وَبَيْعِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، فَيُعْلَمُ مِنْ إشَارَةِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأَخْرَسِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ بَيَّنَ حُكْمَ إشَارَةِ الْأَخْرَسِ بِشَرْطِ أَنْ يَكْتُبَ ، فَافْهَمْ إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَادَّةٍ مِنْ مَوَادِّ إعْلَامِ الْأَخْرَسِ ، بَلْ مُرَادُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي جَوَازِ إعْلَامِ الْأَخْرَسِ مُرَادُهُ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا شَكَّ فِي دَلَالَةِ كَلِمَةٍ أَوْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهَا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَعْيِينٍ ، فَإِذَا أَتَى الْأَخْرَسُ بِأَيِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِتْيَانُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الشَّرْعِ ، أَيْ يُقْبَلُ وَيَعْمَلُ بِهِ بِمُوجَبِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَأَمَّا عِلَاوَتُهُ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ إلَخْ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ أَيْضًا ، لِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ دَلَالَةُ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
عَلَى اسْتِوَاءِ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ مِنْ الْأَخْرَسِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَمَعَ هَاهُنَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ جَمَعَ هُنَا بَيْنَهُمَا : أَيْ جَمَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا لَا يُنَافِي إشَارَةَ مَسْأَلَةِ الْأَصْلِ إلَى أَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
فَإِنْ قُلْت : فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ فَإِنَّ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مَبْنِيًّا عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، فَمَا مَعْنَى نِسْبَةِ التَّوَهُّمِ إلَيْهِمْ ؟ قُلْت : مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ مَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْإِشَارَةُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكِتَابَةِ أَصْلًا : أَيْ فِي رِوَايَةٍ مَا .
وَلَك أَنْ تَقُولَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نِسْبَةُ التَّوَهُّمِ إلَيْهِمْ بِالنَّظَرِ إلَى الدِّرَايَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ تَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْغَنَمُ مَذْبُوحَةً وَفِيهَا مَيْتَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ تَحَرَّى فِيهَا وَأَكَلَ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَكْثَرَ أَوْ كَانَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَأْكُلْ ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ .
أَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ .
لِأَنَّ الْمَيْتَةَ الْمُتَيَقَّنَةَ تَحِلُّ لَهُ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ ، فَاَلَّتِي تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ ذَكِيَّةً أَوْلَى ، غَيْرَ أَنَّهُ يَتَحَرَّى لِأَنَّهُ طَرِيقٌ يُوَصِّلُهُ إلَى الذَّكِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَتْرُكُهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ دَلِيلٌ ضَرُورِيٌّ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ الْحَالَةَ حَالَةُ الِاخْتِيَارِ .
وَلَنَا أَنَّ الْغَلَبَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ فِي إفَادَةِ الْإِبَاحَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَسْوَاقَ الْمُسْلِمِينَ لَا تَخْلُو عَنْ الْمُحَرَّمِ الْمَسْرُوقِ وَالْمَغْصُوبِ وَمَعَ ذَلِكَ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ اعْتِمَادًا عَلَى الْغَالِبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ دَفْعًا لِلْحَرَجِ كَقَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَقَلِيلِ الِانْكِشَافِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا نِصْفَيْنِ أَوْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَغْلَبَ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَتْ الْغَنَمُ مَذْبُوحَةً وَفِيهَا مَيْتَةٌ فَإِنْ كَانَتْ الْمَذْبُوحَةُ أَكْثَرَ تَحَرَّى فِيهَا وَأَكَلَ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَيْتَةُ أَكْثَرَ أَوْ كَانَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَأْكُلْ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : طُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الثِّيَابِ ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إذَا كَانَ مَعَهُ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا نَجَسٌ وَالْآخَرُ طَاهِرٌ وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرَهُمَا فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ ، فَقَدْ جَوَّزَ التَّحَرِّيَ هُنَاكَ فِيمَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ النَّجَسُ وَالطَّاهِرُ نِصْفَيْنِ وَفِي الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ لَمْ يُجَوِّزْ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ وَجْهَ الْفَرْقِ هُوَ أَنَّ حُكْمَ الثِّيَابِ أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهَا ، لِأَنَّ الثِّيَابَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْغَنَمِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا ثَوْبٌ نَجَسٌ فَإِنْ كَانَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ نَجَسًا وَرُبْعُهُ طَاهِرٌ يُصَلِّي فِيهِ وَلَا يُصَلِّي عُرْيَانًا بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَمَّا جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ وَهُوَ نَجَسٌ بِيَقِينٍ فَلَأَنْ تَجُوزَ بِالتَّحَرِّي حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا الشُّبْهَةُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ عِنْدِي .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تَجْوِيزَ التَّحَرِّي فِيمَا إذَا كَانَ الثَّوْبُ النَّجَسُ وَالطَّاهِرُ نِصْفَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرُهُمَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَعَدَمُ تَجْوِيزِهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمَيْتَةُ وَالذَّكِيَّةُ نِصْفَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَصَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِقَوْلِهِ وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْحَالَةُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ ، أَمَّا فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَلَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ
الْمَسْأَلَتَيْنِ رَأْسًا لِظُهُورِ اخْتِلَافِ حُكْمَيْ حَالَتَيْ الِاخْتِيَارِ وَالِاضْطِرَارِ قَطْعًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ حُكْمِ الثِّيَابِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهَا .
لِأَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الثِّيَابِ عِنْدَ كَوْنِ كُلِّهَا نَجِسَةً وَعَدَمَ لُزُومِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ إذْ ذَاكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُجِيبُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى الصَّلَاةِ فِيهَا ، وَكَوْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْغَنَمِ بِخِلَافِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا تَحَقَّقْته ، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ كَوْنُ حُكْمِ الثِّيَابِ أَخَفَّ مِنْ حُكْمِ غَيْرِهَا مُطْلَقًا حَتَّى يَصْلُحَ أَنْ يُجْعَلُ مَدَارَ الْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِك الْمَسْأَلَتَيْنِ .
قَالَ مُؤَلِّفُ الْكِتَابِ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا آخِرُ مَا تَيَسَّرَ لَنَا مِنْ شَرْحِ الْهِدَايَةِ بِتَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ وَهِدَايَةٍ ، أَلَّفْتُهُ مَعَ تَوَزُّعِ الْخَاطِرِ وَتَشَتُّتِ الْبَالِ مِنْ تَرَاكُمِ الْهُمُومِ وَكَثْرَةِ الْبَلْبَالِ ، وَسَمَّيْتُهُ : ( نَتَائِجُ الْأَفْكَارِ فِي كَشْفِ الرُّمُوزِ وَالْأَسْرَارِ ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَمْ يَسْبِقْنِي إلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الثِّقَاتِ ، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، فَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةِ وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ، رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالْأَنْصَارِ تَمَّ .