كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
عَلَيْهِ لِنَفْيِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إنَّ حِكْمَتَهُ أَنَّ شَهَادَةَ الزِّنَا تَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ عَلَى اثْنَيْنِ ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ يَحْتَاجُ إلَى اثْنَيْنِ فَلَزِمَتْ الْأَرْبَعَةُ ، أَمَّا إنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى السَّتْرِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ كُلَّمَا كَثُرَتْ شُرُوطُهُ قَلَّ وُجُودُهُ ، فَإِنَّ وُجُودَهُ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى أَرْبَعَةٍ لَيْسَ كَوُجُودِهِ إذَا تَوَقَّفَ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا فَيَتَحَقَّقُ بِذَلِكَ الِانْدِرَاءُ .
وَأَمَّا إنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَلِمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ رَأَى عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كَانَ كَمَنْ أَحْيَا مَوْءُودَةً } وَإِذَا كَانَ السَّتْرُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِهِ خِلَافَ الْأُولَى الَّتِي مَرْجِعُهَا إلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ ؛ لِأَنَّهَا فِي رُتْبَةِ النَّدْبِ فِي جَانِبِ الْفِعْلِ وَكَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ فِي جَانِبِ التَّرْكِ ، وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَمْ يَعْتَدْ الزِّنَا وَلَمْ يَتَهَتَّكْ بِهِ ، أَمَّا إذَا وَصَلَ الْحَالُ إلَى إشَاعَتِهِ وَالتَّهَتُّكِ بِهِ بَلْ بَعْضُهُمْ رُبَّمَا افْتَخَرَ بِهِ فَيَجِبُ كَوْنُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا ؛ لِأَنَّ مَطْلُوبَ الشَّارِعِ إخْلَاءُ الْأَرْضِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَوَاحِشِ بِالْخِطَابَاتِ الْمُفِيدَةِ لِذَلِكَ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالتَّوْبَةِ مِنْ الْفَاعِلِينَ وَالزَّجْرِ لَهُمْ ، فَإِذَا ظَهَرَ حَالُ الشَّرَهِ فِي الزِّنَا مَثَلًا وَالشُّرْبِ وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِهِ وَإِشَاعَتُهُ فَإِخْلَاءُ الْأَرْضِ الْمَطْلُوبِ حِينَئِذٍ بِالتَّوْبَةِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ ظُهُورُ عَدَمِهَا مِمَّنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ تَحْقِيقُ
السَّبَبِ الْآخَرِ لِلْإِخْلَاءِ وَهُوَ الْحُدُودُ ، بِخِلَافِ مَنْ زَنَى مَرَّةً أَوْ مِرَارًا مُتَسَتِّرًا مُتَخَوِّفًا مُتَنَدِّمًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَحَلُّ اسْتِحْبَابِ سَتْرِ الشَّاهِدِ .
{ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِهُزَالٍ فِي مَاعِزٍ لَوْ كُنْت سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ } الْحَدِيثَ ، وَسَيَأْتِي كَانَ فِي مِثْلِ مَنْ ذَكَرْنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَعَلَى هَذَا ذِكْرُهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ فِيهِ يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنْهَا وَيَحِلُّ مِنْهُ مَا يَحِلُّ مِنْهَا .
وَأَمَّا إنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْحِكْمَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ كَمَا تَكُونُ عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ تَكُونُ مُعْتَبَرَةً عَلَى أَفْعَالٍ كَثِيرَةٍ ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةَ قَتَلُوا فُلَانًا وَنَحْوَهُ ، فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
( ، وَإِذَا شَهِدُوا سَأَلَهُمْ الْإِمَامُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى ؟ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ أَوْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي الْمُتَقَادِمِ مِنْ الزَّمَانِ أَوْ كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ لَا يَعْرِفُهَا هُوَ وَلَا الشُّهُودُ كَوَطْءِ جَارِيَةِ الِابْنِ فَيَسْتَقْصِي فِي ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ ( فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ) وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْحُدُودِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَتَعْدِيلُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ نُبَيِّنُهُ فِي الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلِاتِّهَامِ بِالْجِنَايَةِ وَقَدْ حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ ، بِخِلَافِ الدُّيُونِ حَيْثُ لَا يُحْبَسُ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ ، وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ ) عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ ( عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَمَتَى زَنَى وَبِمَنْ زَنَى ) ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا عَنْ الْكَيْفِيَّةِ وَعَنْ الْمُزَنِيَّةِ ، وَلِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ الْمَطْلُوبَ شَرْعًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا الْوَجْهُ يَعُمُّ الْخَمْسَةَ ، وَالسَّمْعِيُّ مُقْتَصِرٌ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا .
فَحَاصِلُهُ اسْتِدْلَالُهُ عَلَى اثْنَيْنِ مِنْهَا بِدَلِيلَيْنِ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ بِدَلِيلٍ وَاحِدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الْكَلَامُ فِي اسْتِفْسَارِ الشُّهُودِ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِاسْتِفْسَارِ الْمُقِرِّ وَهُوَ مَاعِزٌ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ عِلَّةَ اسْتِفْسَارِهِ بِعَيْنِهِمَا ثَابِتَةٌ فِي الشُّهُودِ كَمَا سَتُسْمَعُ فَوَجَبَ اسْتِفْسَارُهُمْ .
أَمَّا إنَّهُ اسْتَفْسَرَهُ عَنْ الْكَيْفِيَّةِ فَفِيمَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَصَابَ امْرَأَةً حَرَامًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ ، فَأَقْبَلَ فِي الْخَامِسَةِ فَقَالَ : أَنِكْتَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : حَتَّى غَابَ ذَلِكَ مِنْكَ فِي ذَلِكَ مِنْهَا ، قَالَ نَعَمْ ؟ قَالَ : كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ وَكَمَا يَغِيبُ الرِّشَاءُ فِي الْبِئْرِ ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : فَهَلْ تَدْرِي مَا الزِّنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ أَتَيْتُ مِنْهَا حَرَامًا مِثْلَ مَا يَأْتِي الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ حَلَالًا ، قَالَ : فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ تَدَعْهُ نَفْسُهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ ، فَسَكَتَ عَنْهُمَا ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً حَتَّى مَرَّ
بِجِيفَةِ حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلِهِ فَقَالَ : أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، فَقَالَا : نَحْنُ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : انْزِلَا فَكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْحِمَارِ ، فَقَالَا : وَمَنْ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : فَمَا نِلْتُمَا مِنْ عَرْضِ أَخِيكُمَا آنِفًا أَشَدُّ مِنْ الْأَكْلِ مِنْهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا } وَأَمَّا اسْتِفْسَارُهُ عَنْ الْمُزَنِيَّةِ فَفِيمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ هُزَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ : الْحَيِّ ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ بِمَا صَنَعْتَ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ لَكَ ، قَالَ : فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ فَأَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللَّهِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ فَعَادَ حَتَّى قَالَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَبِمَنْ ؟ قَالَ بِفُلَانَةَ قَالَ : هَلْ ضَاجَعْتَهَا ؛ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : هَلْ بَاشَرْتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : هَلْ جَامَعْتَهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ ، فَأُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ ، فَلَمَّا وَجَدَ مَسَّ الْحِجَارَةِ خَرَجَ يَشْتَدُّ فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ وَقَدْ عَجَزَ أَصْحَابُهُ فَنَزَعَ بِوَظِيفِ بَعِيرٍ فَرَمَاهُ بِهِ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ فَقَالَ فِيهِ { فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ ، فَلَمْ يُقْتَلْ حَتَّى رَمَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِلَحْيِ بَعِيرِهِ فَأَصَابَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ } وَأَمَّا إنَّ فِي الِاسْتِفْسَارِ عَنْ الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الِاحْتِيَاطَ فَمَا قَالَ : لِأَنَّهُ عَسَاهُ غَيْرُ الْفِعْلِ فِي الْفَرْجِ عَنَاهُ بِأَنْ ظَنَّ مُمَاسَّةَ الْفَرْجَيْنِ حَرَامًا زِنًا ، أَوْ كَانَ يَظُنُّ
أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ مُحَرَّمٍ زِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَشْهَدُ بِالزِّنَا ، فَلِهَذَا الِاحْتِمَالِ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ كَانَ مُكْرَهًا وَيَرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فَيَكُونُ مُخْتَارًا فِيهِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَشْهَدُ بِهِ فَلِهَذَا سَأَلَهُ عَنْ كَيْفِيَّتِهِ .
وَفِي التَّحْقِيقِ هُوَ حَالَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالزَّانِي نَفْسِهِ ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ عِنْدَنَا فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ أَيْنَ زَنَى ، وَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ فِي زَمَانٍ مُتَقَادِمٍ وَلَا حَدَّ فِيهِ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ فِي زَمَنِ صِبَاهُ فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ مَتَى زَنَى ، وَحَدُّ التَّقَادُمِ سَيَأْتِي ، ثُمَّ يَحْتَمِلُ كَوْنَ الْمُزْنَى بِهَا مِمَّنْ لَا يُحَدُّ بِزِنَاهَا وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ كَجَارِيَةِ ابْنِهِ أَوْ كَانَتْ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ وَلَا يَعْلَمُهَا الشُّهُودُ كَمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ حِينَ شُهِدَ عَلَيْهِ كَيْفَ حَلَّ لِهَؤُلَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي بَيْتِي وَكَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمْ كُوَّةٌ يَبْدُو مِنْهَا لِلنَّاظِرِ مَا فِي بَيْتِ الْمُغِيرَةِ ، فَاجْتَمَعُوا عِنْدَهُ فَشَهِدُوا ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ : وَاَللَّهِ مَا أَتَيْت إلَّا امْرَأَتِي ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى دَرَأَهُ عَنْهُ بِعَدَمِ قَوْلِ زِيَادٍ وَهُوَ الرَّابِعُ رَأَيْته كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ فَحَدَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يَحُدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا نَسَبَ إلَيْهِ الزِّنَا ، بَلْ قَالَ رَأَيْت قَدَمَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً وَلَحَافًا يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ وَهُوَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يَتُوبُوا فَتَابَ اثْنَانِ فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، وَأَبَى أَبُو بَكْرَةَ أَنْ يَتُوبَ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُ لَا تُقْبَلُ حَتَّى مَاتَ وَعَادَ مِثْلَ الْعُضْوِ مِنْ الْعِبَادَةِ ا هـ .
فَلِهَذَا يَسْأَلُهُمْ عَنْ الْمُزْنَى بِهَا مَنْ هِيَ ، وَقِيَاسُهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى زِنَا
امْرَأَةٍ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الزَّانِي بِهَا مَنْ هُوَ ، فَإِنَّ فِيهِ أَيْضًا الِاحْتِمَالَ الْمَذْكُورَ وَزِيَادَةً ، وَهُوَ جَوَازُ كَوْنِهِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا إنْ مَكَّنَتْ أَحَدَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ حَدٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَوْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُمَا زَنَيَا لَمْ يُحَدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَا الشُّهُودُ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالزِّنَا وَلَمْ يَثْبُتْ قَذْفُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوا مَا يَنْفِي كَوْنَ مَا ذَكَرُوهُ زِنًا لِيَظْهَرَ قَذْفُهُمْ لِغَيْرِ الزَّانِي بِالزِّنَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَصَفُوهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ فُسَّاقٌ بِالزِّنَا لَا يُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ وَلَا يُحَدُّونَ ؛ لِأَنَّهُمْ بَاقُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يُقْبَلُونَ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاذِفُ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَأَبَى الرَّابِعُ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا قَذْفٌ ، لَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الْحُجَّةِ يَخْرُجُ عَنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا ، فَلَمَّا لَمْ يَتِمَّ بِامْتِنَاعِهِ بَقِيَ كَلَامُ الثَّلَاثَةِ قَذْفًا فَيُحَدُّونَ ، وَلَوْ شَهِدُوا فَسَأَلَهُمْ فَبَيَّنَ ثَلَاثَةٌ وَلَمْ يَزِدْ وَاحِدٌ عَلَى الزِّنَا لَا يُحَدُّ ، وَمَا وَقَعَ فِي أَصْلِ الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الرَّابِعَ لَوْ قَالَ : إنَّهُ زَانٍ فَسُئِلَ عَنْ صِفَتِهِ فَلَمْ يَصِفْهُ أَنَّهُ يُحَدُّ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسٍ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي شَهِدَ فِيهِ الثَّلَاثَةُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَقَالُوا رَأَيْنَاهُ وَطِئَهَا فِي فَرْجِهَا كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ ) وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْحَاءِ ، وَهُوَ حَاصِلُ جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ كَيْفِيَّةِ الزِّنَا فِي الْحَقِيقَةِ ، وَسَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمْ فَعُدِّلُوا فِي السِّرِّ ، بِأَنْ يَبْعَثَ وَرَقَةً فِيهَا أَسْمَاؤُهُمْ وَأَسْمَاءُ مَحَلَّتِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَيَّزُ كُلٌّ مِنْهُمْ لِمَنْ يَعْرِفُهُ فَيَكْتُبُ تَحْتَ
اسْمِهِ هُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ، وَالْعَلَانِيَةُ بِأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ فَيَقُولَ هَذَا هُوَ الَّذِي عَدَّلْته حُكِمَ بِشَهَادَتِهِمْ وَهُوَ الْحُكْمُ بِوُجُوبِ حَدِّهِ ، وَهَذَا مَا وَعَدَ الْمُصَنِّفُ بَيَانَهُ فِي الشَّهَادَاتِ ، وَبَقِيَ شَرْطٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَنَقَلَ فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِحُرْمَةِ الزِّنَا إجْمَاعَ الْفُقَهَاءِ وَلَمْ يَكْتَفِ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُسْلِمًا لَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ فِسْقٌ كَمَا اكْتَفَى بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَمْوَالِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ .
وَلَمَّا كَانَ لُزُومُ هَذَا عَلَى الْحَاكِمِ مَوْقُوفًا عَلَى ثُبُوتِ إيجَابِ الدَّرْءِ مَا أَمْكَنَ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلَّا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ زِيَادٍ وَيَزِيدُ ضَعِيفٌ .
وَأَسْنَدَ فِي عِلَلِهِ عَنْ الْبُخَارِيِّ يَزِيدُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ذَاهِبٌ ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِهِ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَالْمَوْقُوفُ أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ وَهُوَ دَرْءُ الْحَدِّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ أَقْوَى ، وَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ ذِكْرًا لِمُسْتَنِدِ الْإِجْمَاعِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ عَنْ عَدَالَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ يُغْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْحَاصِلِ لَهُ مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكَّى ، وَلَوْلَا مَا ثَبَتَ مِنْ إهْدَارِ الشَّرْعِ عِلْمُهُ بِالزِّنَا
فِي إقَامَةِ الْحَدِّ بِالسَّمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَكَانَ يَحُدُّهُ بِعِلْمِهِ ، لَكِنْ ثَبَتَ ذَلِكَ هُنَاكَ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ إهْدَارُ عِلْمِهِ بِعَدَالَتِهِمْ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ ( قَوْلُهُ قَالَ فِي الْأَصْلِ ) أَيْ قَالَ إذَا وَصَفَ الشُّهُودُ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ يَحْبِسُ الْقَاضِي الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ عَدَالَةِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ وَقَدْ يَهْرُبُ ، وَلَا وَجْهَ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
فَإِنْ قِيلَ : الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ .
أَجَابَ بِأَنَّ حَبْسَهُ لَيْسَ لِلِاحْتِيَاطِ بَلْ هُوَ تَعْزِيرٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفَوَاحِشِ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ بَعْدُ ، وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِينَ تَعْزِيرًا لَهُمْ جَائِزٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا بِالدَّيْنِ لَا يُحْبَسُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ أَقْصَى الْعُقُوبَاتِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَدَالَةِ وَالْقَضَاءِ بِمُوجِبِ الشَّهَادَةِ الْحَبْسُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ ، بِخِلَافِ مَا هُنَا فَإِنَّ بَعْدَ الثُّبُوتِ عُقُوبَتَهُ أَغْلَظُ ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ الَّذِي وَعَدَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَسَيَأْتِيك الْفَرْقُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَبَسَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ ، فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ } زَادَ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ { ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ } حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي غِفَارٍ حَتَّى نَزَلَا بِضَجِنَانَ مِنْ مِيَاهِ الْمَدِينَةِ وَعِنْدَهُمَا نَاسٌ مِنْ غَطَفَانَ
مَعَهُمْ ظَهْرٌ لَهُمْ ، فَأَصْبَحَ الْغَطَفَانِيُّونَ وَقَدْ فَقَدُوا بَعِيرَيْنِ مِنْ إبِلِهِمْ وَاتَّهَمُوا الْغِفَارِيَّيْنِ ، فَأَتَوْا بِهِمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَبَسَ أَحَدَ الْغِفَارِيَّيْنِ وَقَالَ لِلْآخَرِ : اذْهَبْ فَالْتَمِسْ فَلَمْ يَكُ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى جَاءَ بِهِمَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ الْغِفَارِيَّيْنِ : اسْتَغْفِرْ لِي ، فَقَالَ : غَفَرَ اللَّهُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَلَكَ وَقَتَلَكَ فِي سَبِيلِهِ ، فَقَالَ : فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ }
قَالَ ( وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ ، كَمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي ) فَاشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَوْ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ .
وَاشْتِرَاطُ الْأَرْبَعِ مَذْهَبُنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكْتَفِي بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُظْهِرٌ ، وَتَكْرَارُ الْإِقْرَارِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ الظُّهُورِ بِخِلَافِ زِيَادَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ .
وَلَنَا حَدِيثُ مَاعِزٍ { فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَّرَ الْإِقَامَةَ إلَى أَنْ تَمَّ الْإِقْرَارُ مِنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ } فَلَوْ ظَهَرَ بِمَا دُونَهَا لَمَا أَخَّرَهَا لِثُبُوتِ الْوُجُوبِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ اخْتَصَّتْ فِيهِ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَكَذَا الْإِقْرَارُ إعْظَامًا لِأَمْرِ الزِّنَا وَتَحْقِيقًا لِمَعْنَى السَّتْرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَجَالِسِ لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ ؛ فَعِنْدَهُ يَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الِاتِّحَادِ فِي الْإِقْرَارِ ، وَالْإِقْرَارُ قَائِمٌ بِالْمُقِرِّ فَيُعْتَبَرُ اخْتِلَافُ مَجْلِسِهِ دُونَ مَجْلِسِ الْقَاضِي .
وَالِاخْتِلَافُ بِأَنْ يَرُدَّهُ الْقَاضِي كُلَّمَا أَقَرَّ فَيَذْهَبَ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ثُمَّ يَجِيءَ فَيُقِرَّ ، هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ .
( قَوْلُهُ وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ) قَدَّمَ الثُّبُوتَ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ ، وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَا أَقْوَى حَتَّى لَا يَنْدَفِعَ الْحَدُّ بِالْفِرَارِ وَلَا بِالتَّقَادُمِ ، وَلِأَنَّهَا حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ وَالْإِقْرَارُ قَاصِرٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صَرِيحًا وَلَا يَظْهَرُ كَذِبُهُ ، وَلِذَا قُلْنَا : لَوْ أَقَرَّ الْأَخْرَسُ بِالزِّنَا بِكِتَابَةٍ أَوْ إشَارَةٍ لَا يُحَدُّ لِلشُّبْهَةِ بِعَدَمِ الصَّرَاحَةِ ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَدَّعِيَ شُبْهَةً كَمَا لَوْ شَهِدُوا عَلَى مَجْنُونٍ أَنَّهُ زَنَى فِي حَالِ إفَاقَتِهِ ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى صَحَّ إقْرَارُهُ وَالشَّهَادَةُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا الْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ فَظَهَرَ مَجْبُوبًا أَوْ أَقَرَّتْ فَظَهَرَتْ رَتْقَاءَ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُخْبِرَ النِّسَاءَ بِأَنَّهَا رَتْقَاءُ قَبْلَ الْحَدِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إخْبَارَهُنَّ بِالرَّتْقِ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبِالشُّبْهَةِ يَنْدَرِئُ الْحَدُّ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِخَرْسَاءَ أَوْ أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِأَخْرَسَ لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ تَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فَنَفَاهُ الْحَسَنُ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } وَلَمْ يَقُلْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَلِأَنَّ الْغَامِدِيَّةَ لَمْ تُقِرَّ أَرْبَعًا وَإِنَّمَا رَدَّ مَاعِزًا ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ لَهُ أَبِك جُنُونٌ .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ ، فَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَنَفَاهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَحْمَدُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْهُ ، وَاكْتَفَوْا بِالْأَرْبَعِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ ظَاهِرٌ فِيهِ وَهُوَ مَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ { : أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي زَنَيْتُ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حَتَّى بَيَّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَبِكَ جُنُونٌ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : هَلْ أَحْصَنْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ ، فَرَجَمْنَاهُ بِالْمُصَلَّى ، فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ هَرَبَ ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالْحَرَّةِ فَرَجَمْنَاهُ } فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
قُلْنَا : نَعَمْ هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ لَكِنْ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إفَادَةِ أَنَّهَا فِي مَجَالِسَ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ { أَنَّ مَاعِزًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ مِنْ الْغَدِ فَرَدَّهُ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ هَلْ تَعْلَمُونَ بِعَقْلِهِ بَأْسًا ؟ فَقَالُوا مَا نَعْلَمُهُ إلَّا وَفِي الْعَقْلِ مِنْ صَالِحِينَا ، فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ أَيْضًا فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا بِعَقْلِهِ ، فَلَمَّا كَانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ لَهُ حُفْرَةً فَرَجَمَهُ } وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدَيْهِمَا وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَرَفَ وَأَنَا عِنْدَهُ مَرَّةً فَرَدَّهُ ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّانِيَةَ فَرَدَّهُ ، ثُمَّ جَاءَ فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ الثَّالِثَةَ فَرَدَّهُ ، فَقُلْتُ لَهُ : إنْ اعْتَرَفْتَ الرَّابِعَةَ رَجَمَكَ ، قَالَ : فَاعْتَرَفَ الرَّابِعَةَ فَحَبَسَهُ ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُ
فَقَالُوا : لَا نَعْلَمُ إلَّا خَيْرًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ } فَصَرَّحَ بِتَعْدَادِ الْمَجِيءِ ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ غَيْبَتَهُ ، وَنَحْنُ إنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ إذَا تَغَيَّبَ ثُمَّ عَادَ فَهُوَ مَجْلِسٌ آخَرُ .
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ الْأَبْعَدَ زَنَى ، فَقَالَ لَهُ : وَيْلَكَ وَمَا يُدْرِيكَ مَا الزِّنَا فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَمَرَ بِهِ فَطُرِدَ وَأُخْرِجَ ، ثُمَّ أَتَاهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَقَالَ : أَدْخَلْتَ وَأَخْرَجْتَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ } فَهَذِهِ وَغَيْرُهَا مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ظَاهِرٌ فِي تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَيْهَا وَأَنَّ قَوْلَهُ فَتَنَحَّى تِلْقَاءَ وَجْهِهِ مَعْدُودٌ مَعَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ إقْرَارًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ : أَيْ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ، وَقَدْ دَلَّتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى تَعَدُّدِ الْمَجَالِسِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الْمُكْتَفِينَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَأَمَّا كَوْنُ الْغَامِدِيَّةِ لَمْ تُقِرَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَمْنُوعٌ ، بَلْ أَقَرَّتْ أَرْبَعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا عِنْدَ أَبِي دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ { قَالَ : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ وَمَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا لَمْ يَطْلُبْهُمَا ، وَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ } .
فَهَذَا نَصٌّ فِي إقْرَارِهَا أَرْبَعًا ، غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ تَفَاصِيلَهَا ، وَالرُّوَاةُ كَثِيرًا مَا يَحْذِفُونَ بَعْضَ صُورَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَنَّهُ رَوَى الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ سُلَيْمٍ : حَدَّثَنَا
شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ فَذَكَرَهُ ، وَفِيهِ { أَنَّهَا أَقَرَّتْ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهُوَ يَرُدُّهَا ، ثُمَّ قَالَ لَهَا : اذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي } الْحَدِيثَ غَيْرَ أَنَّهُ فِيهِ مَجْهُولًا تَتَمَيَّزُ جَهَالَتُهُ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ رَدَّ مَاعِزًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَانَ لِاسْتِرَابَتِهِ فِي عَقْلِهِ ، فَإِنْ سَلِمَ لَا يَتَوَقَّفُ عِلْمُ ذَلِكَ عَلَى الْأَرْبَعِ ، وَالثَّلَاثَةُ مَوْضُوعَةٌ فِي الشَّرْعِ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ جُعِلَ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ عِنْدَهَا لَا يُعْذَرُ الْمَغْبُونُ ، وَالْمُرْتَدُّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَخَّرَ ثَلَاثًا لِيُرَاجِعَ نَفْسَهُ فِي شُبْهَتِهِ ، فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْأَرْبَعَةُ عَدَدًا مُعْتَبَرًا فِي اعْتِبَارِ إقْرَارِهِ لَمْ يُؤَخَّرْ رَجْمُهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَرْتِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَهُوَ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّتِهَا ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ هُزَالٍ { إنَّكَ قَدْ قُلْتَهَا أَرْبَعًا فَبِمَنْ زَنَيْتَ } وَهُوَ حَدِيثٌ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ هُزَالٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { كَانَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ فِي حِجْرِ أَبِي فَأَصَابَ جَارِيَةً مِنْ الْحَيِّ ، فَقَالَ لَهُ أَبِي : ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ .
وَزَادَ فِيهِ أَحْمَدُ .
قَالَ هِشَامٌ : فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ رَآهُ : وَاَللَّهِ يَا هُزَالُ لَوْ كُنْت سَتَرْتَهُ بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك مِمَّا صَنَعْت بِهِ } قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : إسْنَادُهُ صَالِحٌ ، وَيَزِيدُ بْنُ نُعَيْمٍ رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ وَأَبُوهُ نُعَيْمٌ ذُكِرَ فِي الثِّقَاتِ أَيْضًا وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ .
وَقَدْ رَوَى تَرْتِيبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْأَرْبَعِ جَمَاعَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ : فَمِنْهَا مَا ذَكَرْنَا ، وَمِنْهَا فِي لَفْظٍ لِأَبِي دَاوُد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { إنَّك قَدْ شَهِدْت عَلَى نَفْسِك أَرْبَعَ مَرَّاتٍ } وَفِي لَفْظٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ { أَلَيْسَ إنَّك قَدْ قُلْتهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ } وَتَقَدَّمَ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ اعْتَرَفْت الرَّابِعَةَ رَجَمَك } إلَّا أَنَّ فِي إسْنَادِهِ جَابِرًا الْجُعْفِيَّ ، وَكَوْنُهُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ رَدَّهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَمِنْ اخْتِصَارِ الرَّاوِي ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَقَرَّ أَرْبَعًا .
وَقَوْلُهُ فِي ذَلِكَ اللَّفْظِ { شَهِدْت عَلَى نَفْسِك } يُؤْنَسُ مِنْهُ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْإِقْرَارَ بِالشَّهَادَةِ ، فَكَمَا أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا أَرْبَعًا عَلَى خِلَافِ الْمُعْتَادِ فِي غَيْرِهِ فَكَذَا يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِهِ إنْزَالًا لِكُلِّ إقْرَارٍ مَنْزِلَةَ شَهَادَةِ وَاحِدٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَكَانَ النَّظَرُ وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ ، وَإِذَنْ فَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْعَسِيفِ { فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } مَعْنَاهُ الِاعْتِرَافُ الْمَعْهُودُ فِي الزِّنَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْلُومًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ خُصُوصًا لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ خَاصَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ ، هَذَا وَنُقِلَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي اسْتِفْسَارِ مَاعِزٍ أَنَّهُ رَجَمَهُ بَعْدَ الْخَامِسَةِ ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ عَدَّ آحَادَ الْأَقَارِيرِ فَإِنَّ فِيهَا إقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الْجَمْعِ فَكَانَتْ خَمْسًا .
فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ كَوْنُ رَدِّهِ لِيَرْجِعَ .
قُلْنَا : يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَهُ بِالرُّجُوعِ وَلَكِنْ فِي مَجْلِسِ الْإِقْرَارِ الْمُوجِبِ .
وَلَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ الْمُوجِبُ هُوَ الْأَوَّلَ لَلَقَّنَهُ بَعْدَهُ لَا أَنَّهُ يُطْلِقُهُ مُخْتَارًا فِي إطْلَاقِهِ لِيَذْهَبَ ، وَقَدْ لَا يَرْجِعُ هَكَذَا يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ ، وَهَذَا لِمَا عَلِمْت
أَنَّ الْإِقَامَةَ مُخَاطَبٌ بِهَا الْإِمَامُ بِالنَّصِّ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عِنْدَهُ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ وَإِلَّا فَاتَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ قَبْلَ رُجُوعِهِ فَإِيجَابُ السَّبَبِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ جَوَازَ رَدِّهِ وَإِخْرَاجِهِ لِيَذْهَبَ وَيَرْجِعَ وَقَدْ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَذْهَبُ إلَى حَالِ سَبِيلِهِ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الْإِقْرَارِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ : إنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَا الْحَقِّ لَا يُوجِبُ شَيْئًا عَلَى الْإِمَامِ فَيَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ مُصِرًّا عَلَى إقْرَارِهِ غَيْرَ رَاجِعٍ عَنْهُ خُصُوصًا فِي زَمَنٍ لَمْ تُعْرَفْ فِيهِ تَفَاصِيلُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ بَعْدُ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ { أَنَّ الْغَامِدِيَّةَ قَالَتْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَتُرِيدُ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْت مَاعِزًا ؟ وَاَللَّهِ إنِّي لَحُبْلَى مِنْ الزِّنَا } ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ لِأَحَدٍ بَلْ لَمَّا قَالَتْهُ قَالَ : { أَمَّا لَا فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي ، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بِصَبِيٍّ فِي خِرْقَةٍ فَقَالَتْ : هَذَا قَدْ وَلَدْته ، قَالَ : فَاذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ حَتَّى تَفْطِمِيهِ ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ قَالَتْ : هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ فَطَمْته وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَحَفَرَ لَهَا إلَى صَدْرِهَا وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَرْجُمُوهَا فَرَجَمُوهَا ، فَنَقَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ فَرَمَى رَأْسَهَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ فَسَبَّهَا ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ إيَّاهَا فَقَالَ : مَهْلًا يَا خَالِدُ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُ اعْتَبَرَ قَوْلَهَا فَلَمْ يَرُدَّهَا ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ رَدَّهَا وَغَيَّاهُ إلَى وِلَادَتِهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا إلَى فِطَامِهَا لِاتِّفَاقِ الْحَالِ بِأَنْ تَثْبُتَ مَعَ ثُبُوتِ حُكْمِ الرَّدِّ
مُطْلَقًا سَبَبٌ ظَاهِرٌ فِي خُصُوصِ هَذَا الرَّدِّ ، وَلَعَلَّهَا كُلَّمَا رَجَعَتْ إلَيْهِ يَصْدُرُ مِنْهَا مَا هُوَ إقْرَارٌ .
إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهَا شَيْءٌ مِمَّا هِيَ بِصَدَدِهِ ، هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يُفِيدُ أَنَّ إقْرَارَهَا كَانَ أَرْبَعًا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ جَامِعًا لِلْمُتَفَرِّقَاتِ حَتَّى يُعَدَّ الْوَاقِعُ فِيهِ وَاحِدًا وَكَانَ الْمُقَامُ مَقَامَ الِاحْتِيَاطِ فِي الدَّرْءِ اُعْتُبِرَ فِي الْحُكْمِ بِتَعَدُّدِ الْأَقَارِيرِ بِعَدَدِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ دُونَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ وَبِهِ فَارِقُ الشَّهَادَةِ .
فَإِنَّ الْأَرْبَعَ فِيهَا اُعْتُبِرَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى لَوْ جَاءُوا فِي مَجَالِسَ حُدُّوا ؛ لِأَنَّهَا كَلَامُ جَمَاعَةٍ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا وَاحِدًا ، بِخِلَافِ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فَإِنَّهُ مِنْ وَاحِدٍ فَأَمْكَنَ فِيهِ اعْتِبَارُ الِاتِّحَادِ فِي اتِّحَادِ الْمَجَالِسِ فَاعْتُبِرَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْإِمْكَانِ تَحْقِيقًا لِلِاحْتِيَاطِ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ : إنَّ اشْتِرَاطَ الْأَرْبَعِ فِي الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُتَّهَمُ بِخِلَافِ الْمُقِرِّ فَالتُّهْمَةُ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَالصَّلَاحِ مَمْنُوعَةٌ بَلْ لَا شَكَّ فِي الصِّدْقِ وَأَصْلِ التَّعَدُّدِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَ حَتَّى لَزِمَ الِاثْنَانِ لِإِمْكَانِ النِّسْيَانِ فَيَذْكُرُهُ الْآخَرُ لَا لِلتُّهْمَةِ وَزَوَالِهَا بِالْآخَرِ ، وَيُشْتَرَطُ فِي النِّسَاءِ كَذَلِكَ أَيْضًا بِالنَّصِّ ، قَالَ تَعَالَى { فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إنَّمَا تُخَالِطُ الْمَرْأَةَ لَا الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ فَلَزِمَتْ الْأُخْرَى لِتُذَكِّرَهَا ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرَدَ مَاعِزًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى تَوَارَى بِحِيطَانِ الْمَدِينَةِ ) لَا يُعْرَفُ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَأَقْرَبُ الْأَلْفَاظِ إلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ حِبَّانَ أَنَّهُ طُرِدَ وَأُخْرِجَ فَارْجِعْ إلَيْهِ
قَالَ ( فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى ، فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الْحَدُّ ) لِتَمَامِ الْحُجَّةِ ، وَمَعْنَى السُّؤَالِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ .
وَقِيلَ لَوْ سَأَلَهُ جَازَ لِجَوَازِ أَنَّهُ زَنَى فِي صِبَاهُ
( قَوْلُهُ فَإِذَا بَيَّنَ ذَلِكَ ) أَيْ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَضَمَّنُ دَافِعًا لِلْحَدِّ لَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ السُّؤَالَ فِيهِ عَنْ الزَّمَانِ فَلَا يَقُولُ مَتَى زَنَيْت ، وَذَكَرَهُ فِي الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ يَمْنَعُ الشَّهَادَةَ دُونَ الْإِقْرَارِ ، وَهَذَا السُّؤَالُ لِتِلْكَ الْفَائِدَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ التَّقَادُمُ مُسْقِطًا لَمْ يَكُنْ فِي السُّؤَالِ عَنْهُ فَائِدَةٌ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ فِي ذَلِكَ سَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ سُؤَالِ بِمَنْ زَنَيْت ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبَيِّنُ مَنْ لَا يُحَدُّ بِوَطْئِهَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي جَوَابِهِ : لَا أَعْرِفُ الَّتِي زَنَيْت بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالزِّنَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُسْقِطُ كَوْنَ فِعْلِهِ زِنًا بَلْ تَضَمَّنَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِي الْمُزَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَعَرَفَهَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْهَلُ زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا يُحَدُّ ، وَكَذَا إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَهِيَ غَائِبَةٌ يُحَدُّ اسْتِحْسَانًا { لِحَدِيثِ الْعَسِيفِ أَنَّهُ حَدَّهُ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ فَقَالَ : فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } ، وَلِأَنَّ انْتِظَارَ حُضُورِهَا إنَّمَا هُوَ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَذْكُرَ مُسْقِطًا عَنْهُ وَعَنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ لِهَذَا الِاحْتِمَالِ كَمَا يُؤَخَّرُ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرْجِعَ الشُّهُودُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَبِهِ لَا يَنْدَرِئُ الْحَدُّ ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَكَذَّبَتْهُ وَقَالَتْ لَا أَعْرِفُهُ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يُحَدُّ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا زَنَتْ بِفُلَانٍ فَأَنْكَرَ فُلَانٌ تُحَدُّ هِيَ عِنْدَهُمَا لَا عِنْدَهُ
( فَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ فِي وَسَطِهِ قُبِلَ رُجُوعُهُ وَخُلِّيَ سَبِيلُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : لِأَنَّهُ وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ وَإِنْكَارِهِ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ وَصَارَ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ .
وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ كَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ .
بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لِوُجُودِ مَنْ يُكَذِّبُهُ ، وَلَا كَذَلِكَ مَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ الشَّرْعِ
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالْمَسْطُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ قَبْلَ الْحَدِّ أَوْ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ سَقَطَ .
وَعَنْ أَحْمَدَ كَقَوْلِنَا .
وَعَنْ مَالِكٍ فِي قَبُولِ رُجُوعِهِ رِوَايَتَانِ ، فَاسْتَغْنَيْنَا عَنْ تَحْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ .
وَعَلَى تَقْدِيرِهِ فَقَوْلُهُ كَمَا إذَا وَجَبَ بِالشَّهَادَةِ تَحْرِيرُ الْجَامِعِ فِيهِ أَنَّهُ إنْكَارٌ بَعْدَ الثُّبُوتِ ، كَمَا لَوْ فَرَضَ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِ وَهُوَ سَاكِتٌ ، فَلَمَّا سَأَلَهُمْ الْحَاكِمُ الْأَسْئِلَةَ الْخَمْسَةَ وَتَمَّتْ الْحُجَّةُ أَنْكَرَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ مَحِلٌّ وَصِحَّتُهُ شَرْعًا حُكْمٌ ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَحِلِّ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارٍ بِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مُمْتَنِعًا فِي الشَّهَادَةِ .
نَعَمْ فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ : يَعْنِي لَوْ أَقَرَّ بِهِمَا ثُمَّ رَجَعَ لَا يُقْبَلُ ، فَكَذَا لَا يُقْبَلُ فِي الزِّنَا .
وَلَنَا أَنَّ الرُّجُوعَ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُكَذِّبُهُ فِيهِ فَتَتَحَقَّقُ بِهِ الشُّبْهَةُ فِي الْإِقْرَارِ السَّابِقِ عَلَيْهِ فَيَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَرْجَحُ مِنْ الْإِقْرَارِ السَّابِقِ فَافْهَمْ بِخِلَافِ مَا فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ مِنْ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يُكَذِّبُهُ فِي إخْبَارِهِ الثَّانِي فَيَنْعَدِمُ أَثَرُهُ فِي إخْبَارِهِ الْأَوَّلِ بِالْكُلِّيَّةِ
( وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ فَيَقُولَ لَهُ : لَعَلَّك لَمَسْت أَوْ قَبَّلْت ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك لَمَسْتهَا أَوْ قَبَّلْتهَا } قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ الْإِمَامُ : لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى .
( قَوْلُهُ وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ { لَعَلَّك لَمَسْتهَا } رُوِيَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ { لَعَلَّك مَسِسْتهَا لَعَلَّك قَبَّلْتهَا } وَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ { لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت } وَقَالَ فِي الْأَصْلِ : يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ : لَعَلَّك تَزَوَّجْتهَا أَوْ وَطِئْتهَا بِشُبْهَةٍ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُلَقِّنَهُ مَا يَكُونُ ذِكْرُهُ دَارِئًا لِلْحَدِّ لِيَذْكُرَهُ كَائِنًا مَا كَانَ كَمَا { قَالَ أَيْضًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْهِ أَسَرَقْت وَمَا إخَالُهُ سَرَقَ } .
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْحَدِّ وَإِقَامَتِهِ ( وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وَقَدْ أَحْصَنَ } .
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ { وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ } وَعَلَى هَذَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
قَالَ ( وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَتَجَاسَرُ عَلَى الْأَدَاءِ ثُمَّ يَسْتَعْظِمُ الْمُبَاشَرَةَ فَيَرْجِعُ فَكَانَ فِي بُدَاءَتِهِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُشْتَرَطُ بُدَاءَتُهُ اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ .
قُلْنَا : كُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الْجَلْدَ فَرُبَّمَا يَقَعُ مُهْلِكًا وَالْإِهْلَاكُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، وَلَا كَذَلِكَ الرَّجْمُ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ .
( فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ مِنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ ) لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ ، وَكَذَا إذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ إقَامَةِ الْحَدِّ ) بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَدِّ تَكُونُ إقَامَتُهُ فَذَكَرَ كَيْفِيَّتَهُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا ) هَذَا مِنْ الْأَحْرُفِ الَّتِي جَاءَ الْفَاعِلُ مِنْهَا عَلَى مُفْعَلٍ بِفَتْحٍ الْعَيْنِ ، يَقُولُ أَحْصَنَ يُحْصِنُ فَهُوَ مُحْصَنٌ فِي أَلْفَاظٍ مَعْدُودَةٍ هِيَ أَسْهَبَ فَهُوَ مُسْهَبٌ إذَا طَالَ وَأَمْعَنَ فِي الشَّيْءِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي خُطْبَةِ الْكِتَابِ مُعْرِضًا عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِسْهَابِ ، وَقِيلَ لِابْنِ عُمَرَ : اُدْعُ اللَّهَ لَنَا ، فَقَالَ : أَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْهَبِينَ ، بِفَتْحِ الْهَاءِ .
وَأَلْفَجَ بِالْفَاءِ وَالْجِيمِ : افْتَقَرَ فَهُوَ مُلْفَجٌ ، الْفَاعِلُ وَالْمَفْعُولُ فِيهِ سِيَّانِ ، وَيُقَالُ بِكَسْرِهَا أَيْضًا إذَا أَفْلَسَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ( قَوْلُهُ رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ ) عَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْكَارُ الْخَوَارِجِ الرَّجْمَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَنْكَرُوا حُجِّيَّةَ إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَجَهْلٌ مُرَكَّبٌ بِالدَّلِيلِ بَلْ هُوَ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ ، وَإِنْ أَنْكَرُوا وُقُوعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِنْكَارِهِمْ حُجِّيَّةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ فَهُوَ بَعْدَ بُطْلَانِهِ بِالدَّلِيلِ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الرَّجْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَاتِرُ الْمَعْنَى كَشَجَاعَةِ عَلِيٍّ وُجُودِ حَاتِمٍ وَالْآحَادُ فِي تَفَاصِيلِ صُوَرِهِ وَخُصُوصِيَّاتِهِ .
أَمَّا أَصْلُ الرَّجْمِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَلَقَدْ كُوشِفَ بِهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَاشَفَ بِهِمْ حَيْثُ قَالَ : خَشِيت أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ : لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّهُ خَطَبَ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ فَقَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا ، وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَمْنَا مِنْ بَعْدِهِ .
وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ فَيَقُولَ قَائِلٌ : لَا نَجَدُ الرَّجْمَ ، الْحَدِيثَ .
وَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يُقَالَ : إنَّ عُمَرَ زَادَ فِي الْكِتَابِ لَكَتَبْتهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ : أَيْ الْمَشْهُورِ الْمَرْوِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ } وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ { عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الدَّارِ وَقَالَ : أُنْشِدُكُمْ بِاَللَّهِ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، وَارْتِدَادٌ بَعْدَ إسْلَامٍ ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، قَالُوا : اللَّهُمَّ نَعَمْ ، قَالَ فَعَلَامَ تَقْتُلُونِي } الْحَدِيثَ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ : كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ ، وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارِمِيُّ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { قَوْلِ أَبِي قِلَابَةَ حَيْثُ قَالَ : وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا قَطُّ إلَّا فِي ثَلَاثِ خِصَالٍ : رَجُلٌ قَتَلَ بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ فَقُتِلَ ، وَرَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ، وَرَجُلٌ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ } .
وَلَا شَكَّ فِي رَجْمِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُخَرِّجِ حَسَنٌ أَوْ صَحِيحٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يُرَادُ بِهِ الْمَتْنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَاقِعٌ فِي خُصُوصِ ذَلِكَ السَّنَدِ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي الشُّهْرَةَ وَقَطْعِيَّةَ الثُّبُوتِ بِالتَّظَافُرِ وَالْقَبُولِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ إنْكَارَهُ إنْكَارُ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ بِالِاتِّفَاقِ ، فَإِنَّ الْخَوَارِجَ يُوجِبُونَ الْعَمَلَ بِالْمُتَوَاتِرِ مَعْنًى أَوْ لَفْظًا كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنَّ انْحِرَافَهُمْ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالصَّحَابَةِ وَالْمُسْلِمِينَ وَتَرْكَ التَّرَدُّدِ إلَى عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَالرُّوَاةِ أَوْقَعَهُمْ فِي جَهَالَاتٍ كَثِيرَةٍ لِخَفَاءِ السَّمْعِ عَنْهُمْ وَالشُّهْرَةِ ، وَلِذَا حِينَ عَابُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَوْلَ بِالرَّجْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَلْزَمَهُمْ بِأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ وَمَقَادِيرِ الزَّكَوَاتِ ، فَقَالُوا : ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ ، فَقَالَ لَهُمْ : وَهَذَا أَيْضًا فَعَلَهُ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ ( قَوْلُهُ وَيُخْرِجُهُ إلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { قَالَ فَرَجَمْنَاهُ يَعْنِي مَاعِزًا بِالْمُصَلَّى } .
وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد { فَانْطَلَقْنَا بِهِ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ } ؛ لِأَنَّ الْمُصَلَّى كَانَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مُصَلَّى الْجَنَائِزِ فَيَتَّفِقُ الْحَدِيثَانِ .
وَأَمَّا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِهِ { فَأَمَرَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَأُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ فَرُجِمَ بِالْحِجَارَةِ } فَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ عَلَى أَنَّهُ اُتُّبِعَ حِينَ هَرَبَ حَتَّى أُخْرِجَ إلَى الْحَرَّةِ وَإِلَّا فَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الصِّحَاحَ وَالْحِسَانَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ إلَيْهَا هَارِبًا لَا أَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إلَيْهَا ابْتِدَاءً لِيُرْجَمَ بِهَا ، وَلِأَنَّ الرَّجْمَ بَيْنَ الْجُدَرَانِ يُوجِبُ ضَرَرًا مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِبَعْضٍ لِلْمَضِيقِ ( قَوْلُهُ وَيَبْتَدِئُ الشُّهُودُ بِرَجْمِهِ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ) وَهَذَا
شَرْطٌ ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الشُّهُودُ عَنْ الِابْتِدَاءِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يُحَدُّونَ هُمْ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ لَيْسَ صَرِيحًا فِي رُجُوعِهِمْ .
وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا فِيهِ فَفِيهِ احْتِمَالُ كَوْنِهِمْ تَضْعُفُ نُفُوسُهُمْ عَنْ الْقَتْلِ وَإِنْ كَانَ بِحَقٍّ كَمَا تَرَاهُ فِي الْمُشَاهَدِ مِنْ امْتِنَاعِ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْحَلَالِ لِلْأَكْلِ وَالْأُضْحِيَّةِ بَلْ وَمِنْ حُضُورِهَا ، فَكَانَ امْتِنَاعُهُمْ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ شُبْهَةٌ فِي امْتِنَاعِ الْحَدِّ عَنْهُمْ .
وَقِيلَ يُحْدَوُنَّ وَالْأَوَّلُ رِوَايَةُ الْمَبْسُوطِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ شَرْطًا اعْتِبَارًا بِالْجَلْدِ : يَعْنِي إذَا ثَبَتَ الْحَدُّ بِالشَّهَادَةِ عَلَى غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا يُشْتَرَطُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ابْتِدَاءُ الشُّهُودِ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، فَقَدْ يَقَعُ لِعَدَمِ الْخِبْرَةِ مُهْلِكًا وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ ، بِخِلَافِ الرَّجْمِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْإِهْلَاكُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ابْتِدَائِهِمْ بِالْجَلْدِ عَدَمُهُ فِي الرَّجْمِ ، وَهَذَا دَفْعٌ لِإِلْحَاقِهِ .
وَأَمَّا إثْبَاتُ الْمَذْهَبِ فَبِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ تَقْلِيدِ الصَّحَابِيِّ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ مَعْنَاهُ لِيُحْمَلَ عَلَى السَّمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّلَهُ بِأَنَّ امْتِنَاعَهُمْ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ رُبَّمَا يَتَسَاهَلُ فِي الْأَدَاءِ فَعِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَتَعَاظَمُ ذَلِكَ فَيَنْدَفِعُ الْحَدُّ بِتَحَقُّقِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ .
وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ .
وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ : إنَّهُ شُبْهَةُ الرُّجُوعِ حَقِيقَةً وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ فَاحْتِمَالُهُ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَبِهَا لَا يَنْدَرِئُ الْحَدُّ عَلَى مَا عُرِفَ وَسَيَأْتِي ، إنَّمَا يَصِحُّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الِابْتِدَاءِ لَيْسَ ظَاهِرًا فِي
الرُّجُوعِ بَلْ يَحْتَمِلُهُ احْتِمَالًا مَرْجُوحًا .
فَإِنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ خَوْرُ الطِّبَاعِ عَنْ الْقَتْلِ حَتَّى يَمْتَنِعَ كَثِيرٌ عَنْ ذَبْحِ الْمُبَاحِ كَالْأُضْحِيَّةِ وَالدَّجَاجَةِ فَكَيْفَ بِالْأَعْلَى ، فَالِامْتِنَاعُ عَنْ قَتْلِهِ لَا يَكُونُ ظَاهِرًا فِي الرُّجُوعِ ، بَلْ ظَاهِرٌ فِيمَا هُوَ الْغَالِبُ وَهُوَ عَدَمُ قَتْلِ الْإِنْسَانِ فَكَانَ فِي الِامْتِنَاعِ شُبْهَةُ الرُّجُوعِ لَا دَلَالَتُهُ ، وَهُوَ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَشْتَرِطْ الِابْتِدَاءَ بِقَتْلِهِ بَلْ بِرَمْيِهِ ، حَتَّى لَوْ رَمَاهُ بِحَصَاةٍ صَغِيرَةٍ حَصَلَ الشَّرْطُ فَامْتِنَاعُهُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ دَلِيلُ رُجُوعِهِ ، لَكِنَّهُ دَلِيلٌ فِيهِ شُبْهَةٌ فَإِنَّهُ أَمَارَةٌ لَا يُقْطَعُ بِوُجُودِ الْمَدْلُولِ مَعَهُ فَكَانَ ثُبُوتُ الرُّجُوعِ عِنْدَ الِامْتِنَاعِ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَالرُّجُوعُ الَّذِي فِيهِ شُبْهَةُ رُجُوعٍ بِخِلَافِ شُبْهَةِ الرُّجُوعِ وَاحْتِمَالِهِ .
لَا يُقَالُ : احْتِمَالُ الرُّجُوعِ رُجُوعٌ وَالرُّجُوعُ شُبْهَةٌ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ شُبْهَةٌ فِي الشَّهَادَةِ لَا شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ فِيهَا ، وَحِينَ لَزِمَ كَوْنُ الثَّابِتِ بِالِامْتِنَاعِ رُجُوعًا فِيهِ شُبْهَةٌ كَانَ الثَّابِتُ قَذْفًا فِيهِ شُبْهَةٌ ، بِخِلَافِ صَرِيحِ الرُّجُوعِ فَإِنَّ بِهِ يَظْهَرُ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ قَذْفٌ بِلَا شُبْهَةٍ فَيُحَدُّ بِهِ هُنَاكَ وَلَا يُحَدُّ بِدَلَالَةِ الرُّجُوعِ إذَا لَمْ تَكُنْ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً يُوجَدُ مَعَهَا الْمَدْلُولُ قَطْعًا لِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي الْقَذْفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا ثُبُوتُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا كَانَ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ عَلَى الزِّنَا أَمَرَ الشُّهُودَ أَنْ يَرْجُمُوا ثُمَّ يَرْجُمَ هُوَ ثُمَّ يَرْجُمَ النَّاسُ ، فَإِذَا كَانَ بِإِقْرَارٍ بَدَأَ هُوَ فَرَجَمَ ثُمَّ رَجَمَ النَّاسُ بَعْدَهُ .
قَالَ : وَحَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسِ إنَّ الزِّنَا زِنَاءَانِ زِنَا السِّرِّ ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ ، فَزِنَا السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ فَيَكُونَ الشُّهُودُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ، وَزِنَا الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَظْهَرَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ فَيَكُونَ الْإِمَامُ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي ، قَالَ : وَفِي يَدِهِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ فَأَصَابَ صُدْغَهَا فَاسْتَدَارَتْ وَرَمَى النَّاسُ بَعْدَهُ ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : { كَانَ لِشُرَاحَةَ زَوْجٌ غَائِبٌ بِالشَّامِ وَأَنَّهَا حَبِلَتْ ، فَجَاءَ بِهَا مَوْلَاهَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّ هَذِهِ زَنَتْ ، فَاعْتَرَفَتْ فَجَلَدَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ وَرَجَمَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَحَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ وَأَنَا شَاهِدٌ ، ثُمَّ قَالَ : الرَّجْمُ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْ كَانَ شَهِدَ عَلَى هَذِهِ أَحَدٌ لَكَانَ أَوَّلَ مَنْ يَرْمِي الشَّاهِدُ يَشْهَدُ ثُمَّ يُتْبِعُ شَهَادَتَهُ حَجَرَهُ ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَرْمِيهَا فَرَمَاهَا بِحَجَرٍ ثُمَّ رَمَاهَا النَّاسُ } .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْأَجْلَحِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ ، وَفِيهِ " أَنَّهُ قَالَ لَهَا : لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْك وَأَنْتِ نَائِمَةٌ ، قَالَتْ لَا ، قَالَ : فَلَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَك ، قَالَتْ لَا ، قَالَ : فَأَمَرَ بِهَا فَحُبِسَتْ ، فَلَمَّا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا أَخْرَجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ فَضَرَبَهَا مِائَةً وَحَفَرَ لَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّحْبَةِ وَأَحَاطَ النَّاسُ بِهَا " الْحَدِيثَ وَفِيهِ أَيْضًا " أَنَّهُ صَفَّهُمْ ثَلَاثَ صُفُوفٍ ثُمَّ رَجَمَهَا ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ " .
وَأَوْرَدَ أَنَّ إثْبَاتَ اشْتِرَاطِ الْبُدَاءَةِ بِهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ بِمَا هُوَ دُونَ خَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَإِصْلَاحُ الْإِيرَادِ أَنَّهُ تَقْيِيدٌ لِلْقَطْعِيِّ الْمُطْلَقِ فَكَانَ كَتَقْيِيدِ مُطْلَقِ الْكِتَابِ بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ
الْحُكْمَ الْقَطْعِيَّ هُنَا هُوَ مَجْمُوعُ وُجُوبِ الرَّجْمِ وَدَرْئِهِ بِالشُّبْهَةِ ، فَإِذَا دَلَّ دَلِيلٌ ظَنِّيٌّ عَلَى أَنَّ الْبُدَاءَةَ شَرْطٌ لَزِمَ أَنَّ عَدَمَهَا شُبْهَةٌ فَيَنْدَرِئُ بِهِ الْحَدُّ بِحُكْمِ الْقَطْعِ بِوُجُوبِ دَرْءِ هَذَا الْحُكْمِ الْقَطْعِيِّ بِالشُّبْهَةِ ، وَمَوْتُ الشُّهُودِ مُسْقِطٌ أَوْ أَحَدِهِمْ ، وَكَذَا إذَا غَابُوا أَوْ غَابَ أَحَدُهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ بُدَاءَتَهُمْ مُسْتَحَبَّةٌ لَا مُسْتَحَقَّةٌ ، فَإِذَا امْتَنَعُوا أَوْ غَابُوا أَوْ مَاتُوا يُقِيمُ الْحَدَّ ، وَكَذَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِاعْتِرَاضِ مَا يَخْرُجُ عَنْ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ، كَمَا لَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمْ أَوْ عَمِيَ أَوْ خَرِسَ أَوْ فَسَقَ أَوْ قَذَفَ فَحُدَّ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُحْصَنًا .
وَفِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ قَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي : يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ الرَّمْيَ وَحَضَرُوا يَرْمِي الْقَاضِي ، وَلَوْ قُطِعَتْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ امْتَنَعَتْ الْإِقَامَةُ .
وَقَدْ يُقَالُ : إذَا كَانَ شَرْطًا فَفَوَاتُ الشَّرْطِ كَيْفَ كَانَ يَمْنَعُ الْمَشْرُوطَ .
وَأَيْضًا عَجْزُهُمْ بِالضَّعِيفِ لَيْسَ فَوْقَ عَجْزِهِمْ بِالْمَوْتِ ، إلَّا أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ فَرَّقَ بِأَنَّهُمْ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي لَمْ تَسْتَحِقَّ الْبُدَاءَةَ بِهِمْ ، وَأَمَّا هَاهُنَا فَقَدْ اسْتَحَقَّتْ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ بِالْمَوْتِ أَوْ الْغَيْبَةِ صَارَ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا ، وَهَذَا تَقْيِيدٌ لِشَرْطِيَّتِهِ بِكَوْنِ الشُّهُودِ قَادِرِينَ عَلَى الرَّجْمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُسْقِطَ يَجْمَعُهَا .
وَمِمَّا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ وَيُسْقِطُ الْحَدَّ أَنْ يَعْتَرِفَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ اعْتَرَفَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ عَنْ الْبَيِّنَةِ مَرَّةً يُسْقِطُهُ أَبُو
يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَانَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّهَادَةِ عَدَمُ الْإِقْرَارِ فَفَاتَ الشَّرْطُ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْإِمْضَاءَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي الْحُدُودِ فَكَانَ كَالْأَوَّلِ ، وَخَالَفَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
( وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا ابْتَدَأَ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
{ وَرَمَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ وَكَانَتْ قَدْ اعْتَرَفَتْ بِالزِّنَا }
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا يَبْدَأُ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ) كَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
وَقَوْلُهُ { وَرَمَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْغَامِدِيَّةَ بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ } ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عِمْرَانَ قَالَ : سَمِعْت شَيْخًا يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ فَحَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ } ثُمَّ ذَكَرَ إسْنَادًا آخَرَ وَزَادَ { ثُمَّ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ مِثْلِ الْحِمَّصَةِ ثُمَّ قَالَ : ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ ، فَلَمَّا طَفَتْ أَخْرَجَهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا } وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ مَجْهُولٌ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ أَمْرُ هَذَا الْحَدِيثِ بِالصِّحَّةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاشْتِرَاطِ .
فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ الْإِمَامُ لَا يَحِلُّ لِلْقَوْمِ رَجْمُهُ وَلَوْ أَمَرَهُمْ لِعِلْمِهِمْ بِفَوَاتِ شَرْطِ الرَّجْمِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ بِرَجْمِ مَاعِزٍ ، فَإِنَّ الْقَطْعَ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْضُرْهُ بَلْ رَجَمَهُ النَّاسُ عَنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ حَقِيقَةَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ عَلِيٍّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالِابْتِدَاءِ اخْتِبَارًا لِثُبُوتِ دَلَالَةِ الرُّجُوعِ وَعَدَمِهِ ، وَأَنْ يَبْتَدِئَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ لِيَنْكَشِفَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِي أَمْرِ الْقَضَاءِ بِأَنْ لَمْ يَتَسَاهَلْ فِي بَعْضِ شُرُوطِ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ ، فَإِذَا امْتَنَعَ حِينَئِذٍ ظَهَرَتْ أَمَارَةُ الرُّجُوعِ فَامْتَنَعَ الْحَدُّ لِظُهُورِ شُبْهَةِ تَقْصِيرِهِ فِي الْقَضَاءِ وَهِيَ دَارِئَةٌ فَكَأَنَّ الْبُدَاءَةَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ إذْ لَزِمَ عَنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ لَا أَنَّهُ جَعَلَ شَرْطًا بِذَاتِهِ ، وَهَذَا فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُنْتَفٍ فَلَمْ يَكُنْ عَدَمُ
رَجْمِهِ دَلِيلًا عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ إذَا لَمْ يَبْدَأْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ الشُّهُودُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ يَجِبُ أَنْ يُثَنِّيَ الْإِمَامُ ، فَلَوْ لَمْ يُثَنِّ الْإِمَامُ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِاتِّحَادِ الْمَأْخَذِ فِيهِمَا .
قَالُوا : وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ رَجَمَ أَنْ يَقْصِدَ قَتْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ، وَلِأَنَّهُ تَيْسِيرٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا يَقْصِدُهُ وَيَكْتَفِي بِغَيْرِهِ فِيهِ
( وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَاعِزٍ اصْنَعُوا بِهِ كَمَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ } وَلِأَنَّهُ قُتِلَ بِحَقٍّ فَلَا يَسْقُطُ الْغُسْلُ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا { وَصَلَّى النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا رُجِمَتْ }
( قَوْلُهُ وَيُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَاعِزٍ { اصْنَعُوا بِهِ } الْحَدِيثَ ) وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ أَبِي بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بُرَيْدَةَ قَالَ { لَمَّا رُجِمَ مَاعِزٌ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ : اصْنَعُوا بِهِ مَا تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ مِنْ الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ وَالْحَنُوطِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ } وَأَمَّا صَلَاتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الْغَامِدِيَّةِ فَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ { أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ } الْحَدِيثَ بِطُولِهِ ، إلَى أَنْ قَالَ { فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَتُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ ؟ فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِّمَتْ عَلَى سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ ، وَهَلْ وُجِدَتْ تَوْبَةٌ أَفْضَلُ مِنْ أَنَّهَا جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ } وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ فِي أَمْرِ مَاعِزٍ { قَالَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ ، وَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرًا وَصَلَّى عَلَيْهِ } قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : قِيلَ لِلْبُخَارِيِّ قَوْلُهُ { وَصَلَّى عَلَيْهِ } قَالَهُ غَيْرُ مَعْمَرٍ ؟ قَالَ لَا .
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَبُو دَاوُد وَصَحَّحُوهُ .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَاعِزٍ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ } فَفِيهِ مَجَاهِيلُ فَإِنَّ فِيهِ عَنْ أَبِي بِشْرٍ أَنَّهُ قَالَ : حَدَّثَنِي نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ .
نَعَمْ حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي مَاعِزٍ { وَقَالَ لَهُ
خَيْرًا وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ } مُعَارِضٌ صَرِيحٌ فِي صَلَاتِهِ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ الْمُثْبِتَ أَوْلَى مِنْ النَّافِي ، لَكِنْ عَلَى أُصُولِ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ النَّفْيَ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُعْرَفُ بِدَلِيلٍ يُسَاوِي الْإِثْبَاتَ وَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ بِغَيْرِهِ لَا يَنْتَهِضُ ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّفْيَ وَهُوَ كَوْنُهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا شَهِدَ الصَّلَاةَ بِتَمَامِهَا يَعْلَمُ عَدَمَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ صَلَاتَهُ فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُ الْإِمَامِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا شَكَّ فِيهَا ، فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ بِحَقٍّ فَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ قِصَاصًا ، بِخِلَافِ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا يُغَسَّلُ لِيَكُونَ الْأَثَرُ شَاهِدًا لَهُ ، وَالْإِظْهَارُ زِيَادَةُ تَشْرِيفِهِ بِقِيَامِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَأَمَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَّى عَلَى مَاعِزٍ فَفِي حَيِّزِ التَّعَارُضِ .
وَالْغَامِدِيَّةُ مِنْ بَنِي غَامِدٍ حَيٌّ مِنْ الْأَزْدِ .
قَالَهُ الْمُبَرِّدُ فِي الْكَامِلِ .
وَفِي كِتَابِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ غَامِدٌ بَطْنٌ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَقَدْ سَمِعْت فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ { أَتَتْ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ }
( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَبَقِيَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مَعْمُولًا بِهِ .
قَالَ ( يَأْمُرُ الْإِمَامُ بِضَرْبِهِ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا ) لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ .
وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ الْمُبَرِّحِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ لِإِفْضَاءِ الْأَوَّلِ إلَى الْهَلَاكِ وَخُلُوِّ الثَّانِي عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ ( وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ ) مَعْنَاهُ دُونَ الْإِزَارِ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ ، وَلِأَنَّ التَّجْرِيدَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْأَلَمِ إلَيْهِ .
وَهَذَا الْحَدُّ مَبْنَاهُ عَلَى الشِّدَّةِ فِي الضَّرْبِ وَفِي نَزْعِ الْإِزَارِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ فَيَتَوَقَّاهُ ( وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ ) لِأَنَّ الْجَمْعَ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ .
قَالَ ( إلَّا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ وَفَرْجَهُ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ } وَلِأَنَّ الْفَرْجَ مَقْتَلٌ وَالرَّأْسَ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ ، وَكَذَا الْوَجْهُ وَهُوَ مَجْمَعُ الْمَحَاسِنِ أَيْضًا فَلَا يُؤْمَنُ فَوَاتُ شَيْءٍ مِنْهَا بِالضَّرْبِ وَذَلِكَ إهْلَاكٌ مَعْنًى فَلَا يُشْرَعُ حَدًّا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْرِبُ الرَّأْسَ أَيْضًا رَجَعَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَضْرِبُ سَوْطًا لِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : اضْرِبُوا الرَّأْسَ فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا .
قُلْنَا : تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِيمَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ .
وَيُقَالُ : إنَّهُ وَرَدَ فِي حَرْبِيٍّ كَانَ مِنْ دُعَاةِ الْكَفَرَةِ وَالْإِهْلَاكُ فِيهِ مُسْتَحَقٌّ ( وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يُضْرَبُ الرِّجَالُ فِي الْحُدُودِ قِيَامًا وَالنِّسَاءُ قُعُودًا ،
وَلِأَنَّ مَبْنَى إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ ، وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ : غَيْرَ مَمْدُودٍ ، فَقَدْ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ وَيُمَدَّ كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطَ فَيَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ الضَّرْبِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْمُسْتَحَقِّ
( قَوْلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا وَكَانَ حُرًّا فَحَدُّهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ) وَإِنَّمَا قَدَّمَ الزَّانِيَةَ مَعَ أَنَّ الْعَادَةَ عَكْسُهُ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْأَصْلُ إذْ الدَّاعِيَةُ فِيهَا أَكْثَرُ وَلَوْلَا تَمْكِينُهَا لَمْ يَزْنِ ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الْمُحْصَنِ وَغَيْرِهِ نُسِخَ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ قَطْعًا ، وَيَكْفِينَا فِي تَعَيُّنِ النَّاسِخِ الْقَاطِعِ بِرَجْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ .
الْقَطْعِيَّةِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ ادِّعَاءِ كَوْنِ النَّاسِخِ : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .
لِعَدَمِ الْقَطْعِ بِثُبُوتِ كَوْنِهَا قُرْآنًا ثُمَّ انْتِسَاخُ تِلَاوَتِهَا وَإِنْ ذَكَرَهَا عُمَرُ وَسَكَتَ النَّاسُ ، فَإِنَّ كَوْنَ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ حُجَّةً مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَبِتَقْدِيرِ حُجِّيَّتِهِ لَا يُقْطَعُ بِأَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا إذْ ذَاكَ حُضُورًا ؛ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ ظَنِّيٌّ ، وَلِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ : إنَّ الرَّجْمَ سُنَّةٌ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَنْسُبْهُ إلَى الْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ ، وَعُرِفَ مِنْ قَوْلِهِ ذَلِكَ أَنَّهُ قَائِلٌ بِعَدَمِ نَسْخِ عُمُومِ الْآيَةِ فَيَكُونُ رَأْيُهُ أَنَّ الرَّجْمَ حُكْمٌ زَائِدٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلٌ قِيلَ بِهِ ، وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد { وَرَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ } وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ بِسَوْطٍ لَا ثَمَرَةَ لَهُ ضَرْبًا مُتَوَسِّطًا ) قِيلَ الْمُرَادُ بِثَمَرَةِ
السَّوْطِ عَذْبَتُهُ وَذَنَبُهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ وَاحِدَةِ ثَمَرِ الشَّجَرِ .
وَفِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهِ عَقْدُ أَطْرَافِهِ .
وَرَجَّحَ الْمُطَرِّزِيُّ إرَادَةَ الْأَوَّلِ هُنَا لِمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ عَلِيًّا جَلَدَ الْوَلِيدَ بِسَوْطٍ لَهُ طَرَفَانِ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً فَكَانَتْ الضَّرْبَةُ ضَرْبَتَيْنِ .
وَفِي الْإِيضَاحِ مَا يُوَافِقُهُ قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْرَبَ بِسَوْطٍ لَهُ ثَمَرَةٌ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ إذَا ضُرِبَ بِهَا تَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ ضَرْبَتَيْنِ .
وَفِي الدِّرَايَةِ : لَكِنَّ الْمَشْهُورَ فِي الْكُتُبِ لَا ثَمَرَةَ لَهُ : أَيْ لَا عُقْدَةَ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ كَسَرَ ثَمَرَتَهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَصْلًا ، بَلْ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ إمَّا الْعُقْدَةُ وَإِمَّا تَلْيِينُ طَرَفِهِ بِالدَّقِّ إذَا كَانَ يَابِسًا وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ حَنْظَلَةَ السَّدُوسِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ يُؤْمَرُ بِالسَّوْطِ فَتُقْطَعُ ثَمَرَتُهُ ثُمَّ يُدَقُّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ حَتَّى يَلِينَ ثُمَّ يُضْرَبَ بِهِ .
قُلْنَا لَهُ : فِي زَمَنِ مَنْ كَانَ هَذَا ؟ قَالَ : فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُضْرَبَ بِهِ وَفِي طَرَفِهِ يُبْسٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجْرَحُ أَوْ يُبْرِحُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ فِيهِ عُقْدَةٌ ، وَيُفِيدُ ذَلِكَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ { أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَصَبْت حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ ، فَدَعَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ شَدِيدٍ لَهُ ثَمَرَةٌ ، فَقَالَ : سَوْطٌ دُونَ هَذَا ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ لَيِّنٍ فَقَالَ : سَوْطٌ فَوْقَ هَذَا ، فَأُتِيَ بِسَوْطٍ بَيْنَ سَوْطَيْنِ فَقَالَ : هَذَا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَوْطٍ }
فَذَكَرَهُ ، وَذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ .
وَالْحَاصِلُ أَنْ يُجْتَنَبَ كُلٌّ مِنْ الثَّمَرَةِ بِمَعْنَى الْعُقْدَةِ وَمَعْنَى الْفَرْعِ الَّذِي يَصِيرُ ذَنَبَيْنِ تَعْمِيمًا لِلْمُشْتَرِكِ فِي النَّفْيِ ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ الْعَدَدَ مِائَةً ، وَلَوْ تُجُوِّزَ بِالثَّمَرَةِ فِيمَا يُشَاكِلُ الْعُقْدَةَ لِيَعُمَّ الْمَجَازُ مَا هُوَ يَابِسُ الطَّرَفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ أَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَا يُضْرَبُ بِمِثْلِهِ حَتَّى يُدَقَّ رَأْسُهُ فَيَصِيرَ مُتَوَسِّطًا ( قَوْلُهُ بَيْنَ الْمُوجِعِ وَغَيْرِ الْمُؤْلِمِ ) فَيَكُونُ مُؤْلِمًا غَيْرَ مُوجِعٍ ، فَلَزِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمُوجِعِ الْمُبَرِّحَ وَإِلَّا لَمْ يَسْتَقِمْ ، وَوَجْهُ هَذَا ظَاهِرٌ .
وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ فَخِيفَ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ يُجْلَدُ جَلْدًا خَفِيفًا يَحْتَمِلُهُ ( قَوْلُهُ وَتُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ ) إلَّا الْإِزَارَ لِيَسْتُرَ عَوْرَتَهُ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : يُتْرَكُ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ قَمِيصَانِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْجَلْدِ لَا يَقْتَضِي التَّجْرِيدَ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ زَادَ عَلَيْهِ شَارِحُ الْكَنْزِ فَقَالَ : صَحَّ أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُ بِالتَّجْرِيدِ فِي الْحُدُودِ فَأُبْعِدَ عَمَّا قَالَ الْمُخَرِّجُ إنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ عَنْ عَلِيٍّ بَلْ رُوِيَ عَنْهُ خِلَافُهُ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ عَنْهُ " أَنَّهُ أَتَى بِرَجُلٍ فِي حَدٍّ فَضَرَبَهُ وَعَلَيْهِ كِسَاءٌ قَسْطَلَّانِيٌّ قَاعِدًا " .
وَأَسْنَدَ إلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْمَحْدُودِ : أَيُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ ؟ قَالَ : لَا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فَرْوًا أَوْ مَحْشُوًّا .
وَأَسْنَدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : لَا يَحِلُّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجْرِيدٌ وَلَا مَدٌّ .
قَوْلُهُ ( وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ عَلَى أَعْضَائِهِ ) ؛ لِأَنَّ جَمْعَهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ قَدْ يُفْسِدُهُ ، وَاسْتَثْنَى الرَّأْسَ وَالْوَجْهَ وَالْفَرْجَ .
وَذَكَرَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِضَرْبِ
الْحَدِّ اتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ } وَلَمْ يَحْفَظْهُ الْمُخَرِّجُونَ مَرْفُوعًا بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ سَكْرَانَ أَوْ فِي حَدٍّ فَقَالَ اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ وَاتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ " رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ : اضْرِبْ وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ .
قَالَ : رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ } وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مُرَادًا عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّا نَقْطَعُ أَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ الْحَرْبِ مَعَ الْكُفَّارِ لَوْ تَوَجَّهَ لِأَحَدٍ ضَرْبُ وَجْهِ مَنْ يُبَارِزُهُ وَهُوَ فِي مُقَابَلَتِهِ حَالَةَ الْحَمَلَةِ لَا يَكُفُّ عَنْهُ ، إذْ قَدْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَقْتُلُهُ ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا مَنْ يُضْرَبُ صَبْرًا فِي حَدٍّ قَتْلًا أَوْ غَيْرَ قَتْلٍ .
وَفِي الْقَتْلِ صَرِيحُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ امْرَأَةً فَحَفَرَ لَهَا إلَى الثَّنْدُوَةِ ثُمَّ قَالَ : ارْمُوا وَاتَّقُوا الْوَجْهَ } وَحِينَئِذٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ هَكَذَا مُخْتَصَرًا عَلَيْهِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُرِيدَانِ قَطْعًا ضَرْبَ الْوَجْهِ وَالْمَذَاكِيرِ ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الْمَخْصُوصِ ، عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ فِي رِوَايَةٍ غَيْرِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا حَكَيْنَاهُ آنِفًا .
وَبِمَا سَمِعْته تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَوْرَدَهُ الْمُصَنِّفُ دَلِيلٌ عَلَى بَعْضِ
الْمَطْلُوبِ ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ وَهُوَ ضَرْبُ الرَّأْسِ مُلْحَقٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَنَّهُ مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنَةِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ وَهُوَ إهْلَاكٌ مَعْنًى .
وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ ظَاهِرٌ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَقْلَ فِي الرَّأْسِ إلَّا أَنْ يَئُولَ ، وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الْأُصُولِيِّينَ .
وَمَا قِيلَ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالْكَافِي إنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَخُصُّ الظُّهُورَ وَاسْتِدْلَالُ الشَّارِحِينَ عَلَيْهِ { بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك } غَيْرُ ثَابِتٍ فِي كُتُبِهِمْ ، بَلْ الَّذِي فِيهَا كَقَوْلِنَا .
وَإِنَّمَا تِلْكَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ خَصَّ الظَّهْرَ وَمَا يَلِيهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالظَّهْرِ نَفْسُهُ : أَيْ حَدٌّ عَلَيْك بِدَلِيلِ مَا ثَبَتَ عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَا اسْتَنْبَطْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ } وَأَنَّهُ فِي نَحْوِ الْحَدِّ فَمَا سِوَاهُ دَاخِلٌ فِي الضَّرْبِ ، ثُمَّ خَصَّ مِنْهُ الْفَرْجَ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّعْزِيرِ : يُضْرَبُ الظَّهْرُ وَفِي الْحُدُودِ الْأَعْضَاءُ وَالْمَذَاكِيرُ جَمْعُ ذَكَرٍ بِمَعْنَى الْعُضْوِ فَرَّقُوا فِي جَمْعِهِ بَيْنَ الذَّكَرِ بِمَعْنَى الرَّجُلِ حَيْثُ قَالُوا ذُكْرَانٌ وَذُكُورَةٌ وَذِكَارَةٌ وَبِمَعْنَى الْعُضْوِ .
ثُمَّ جَمَعَهُ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ مَا حَوْلَهُ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ ذَكَرًا كَمَا قَالُوا : شَابَتْ مَفَارِقُهُ وَإِنَّمَا لَهُ مَفْرِقٌ وَاحِدٌ ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُضْرَبُ الرَّأْسُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً رَجَعَ إلَيْهِ ) بَعْدَ أَنْ كَانَ أَوَّلًا يَقُولُ : لَا يُضْرَبُ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي ذَكَرَهُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ فَقَالَ : اضْرِبْ الرَّأْسَ
فَإِنَّ فِيهِ شَيْطَانًا .
وَالْمَسْعُودِيُّ مُضَعَّفٌ .
وَلَكِنْ رَوَى الدَّارِمِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ صُبَيْغٌ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ الْقُرْآنِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ عُمَرُ وَأَعَدَّ لَهُ عَرَاجِينَ النَّخْلِ فَقَالَ لَهُ : مَنْ أَنْتَ فَقَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صُبَيْغٌ ، فَأَخَذَ عُمَرُ عُرْجُونًا مِنْ تِلْكَ الْعَرَاجِينِ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : أَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ ، وَجَعَلَ يَضْرِبُهُ حَتَّى دَمِيَ رَأْسُهُ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك فَقَدْ ذَهَبَ الَّذِي كُنْت أَجِدُ فِي رَأْسِي .
وَهَذَا يُنَافِي جَوَابَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مُسْتَحِقِّ الْقَتْلِ .
وَلَوْ قُلْنَا : إنَّ وَاقِعَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ فِيهِ فَإِنَّ ضَرْبَ عُمَرَ الرَّأْسَ كَانَ لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ، وَكَذَا ضَرْبُ أَبِي بَكْرٍ لِلَّذِي انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ .
هَذَا وَاسْتَثْنَى بَعْضُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا الصَّدْرَ وَالْبَطْنَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، بَلْ الصَّدْرُ مِنْ الْمَحَامِلِ ، وَالضَّرْبُ بِالسَّوْطِ الْمُتَوَسِّطِ عَدَدًا يَسِيرًا لَا يَقْتُلُ فِي الْبَطْنِ فَكَيْفَ بِالصَّدْرِ .
نَعَمْ إذَا فُعِلَ بِالْعَصَا كَمَا يُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا فِي بُيُوتِ الظَّلَمَةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْرَبَ الْبَطْنُ ( قَوْلُهُ : وَيُضْرَبُ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا ) وَكَذَا التَّعْزِيرُ ( قَائِمًا غَيْرَ مَمْدُودٍ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَخْ ) رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنِّفِهِ قَالَ : أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يُضْرَبُ الرَّجُلُ قَائِمًا وَالْمَرْأَةُ قَاعِدَةً فِي الْحُدُودِ ( وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ ) زَجْرًا لِلْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِهِ ( وَالْقِيَامُ أَبْلَغُ فِيهِ ) وَالْمَرْأَةُ مَبْنَى أَمْرِهَا عَلَى السَّتْرِ فَيُكْتَفَى بِتَشْهِيرِ الْحَدِّ فَقَطْ بِلَا زِيَادَةٍ ( وَقَوْلُهُ غَيْرَ مَمْدُودٍ قِيلَ الْمَدُّ أَنْ يُلْقَى عَلَى الْأَرْضِ كَمَا يُفْعَلُ فِي
زَمَانِنَا ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّ السَّوْطُ بِأَنْ يَرْفَعَهُ الضَّارِبُ فَوْقَ رَأْسِهِ ، وَقِيلَ أَنْ يَمُدَّهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ عَلَى جَسَدِ الْمَضْرُوبِ عَلَى الْجَسَدِ ) وَفِيهِ زِيَادَةُ أَلَمٍ وَقَدْ يُفْضِي إلَى الْجُرْحِ ( وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُفْعَلُ ) فَلَفْظُ مَمْدُودٍ مُعَمَّمٌ فِي جَمِيعِ مَعَانِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي النَّفْيِ فَجَازَ تَعْمِيمُهُ ، وَإِنْ امْتَنَعَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَقِفْ وَيَصْبِرْ لَا بَأْسَ بِرَبْطِهِ عَلَى أُسْطُوَانَةٍ أَوْ يُمْسَكُ
( وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنْقِصٌ لِلنِّعْمَةِ فَيَكُونُ مُنْقِصًا لِلْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِ
( قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ عَبْدًا جَلَدَهُ خَمْسِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } نَزَلَتْ فِي الْإِمَاءِ ) وَهُوَ أَيْضًا مِمَّا يُعْرَفُ مِنْ أَوَّلِ الْكَلَامِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِتَنْقِيحِ الْمَنَاطِ فَيَرْجِعُ بِهِ إلَى دَلَالَةِ النَّصِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّلَالَةِ أَوْلَوِيَّةُ الْمَسْكُوتِ بِالْحُكْمِ مِنْ الْمَذْكُورِ ، بَلْ الْمُسَاوَاةُ تَكْفِي فِيهِ .
وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ يَدْخُلُونَ بِطَرِيقِ التَّغْلِيبِ عَكْسُ الْقَاعِدَةِ وَهِيَ تَغْلِيبُ الذُّكُورِ وَالنَّصُّ عَلَيْهِنَّ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ فِي تَزَوُّجِ الْإِمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا } إلَى قَوْلِهِ { مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } ثُمَّ تَمَّمَ حُكْمَهُنَّ إذَا زَنَيْنَ ، وَلِأَنَّ الدَّاعِيَةَ فِيهِنَّ أَقْوَى وَهُوَ حِكْمَةُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي فِي الْآيَةِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ : أَعْنِي الْإِحْصَانَ لَا مَفْهُومَ لَهُ ، فَإِنَّ عَلَى الْأَرِقَّاءِ نِصْفَ الْمِائَةِ أَحْصَنُوا أَوْ لَمْ يُحْصِنُوا .
وَأَسْنَدَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدٍ بْنِ خَالِدَ الْجُهَنِيَّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ وَهُوَ الْحَبْلُ } وَالْقَائِلُونَ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ يُجَوِّزُونَ أَنْ لَا يُرَادَ بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مَنْ أَحْصَنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصِنْ } وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا حَتَّى تُحْصِنَ بِزَوْجٍ ، وَعَلَى هَذَا هُوَ مُعْتَبَرُ الْمَفْهُومِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَقُرِئَ إذَا أَحْصَنَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَتُؤُوِّلَ عَلَى مَعْنَى أَسْلَمْنَ ، وَحِينَ أَلْزَمَ
سُبْحَانَهُ نِصْفَ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ إذَا أَحْصَنَّ لَزِمَ أَنْ لَا رَجْمَ عَلَى الرَّقِيقِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ لَا يَتَنَصَّفُ ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلنِّعْمَةِ فَتَنْقُصُ الْعُقُوبَةُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عِنْدَ تَوَافُرِ النِّعَمِ أَفْحَشُ فَيَكُونُ أَدْعَى إلَى التَّغْلِيظِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ }
( وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ النُّصُوصَ تَشْمَلُهُمَا ( غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يُنْزَعُ مِنْ ثِيَابِهَا إلَّا الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ ) لِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالْفَرْوُ وَالْحَشْوُ يَمْنَعَانِ وُصُولَ الْأَلَمِ إلَى الْمَضْرُوبِ وَالسَّتْرُ حَاصِلٌ بِدُونِهِمَا فَيُنْزَعَانِ ( وَتُضْرَبُ جَالِسَةً ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا ( وَإِنْ حُفِرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا ، وَحَفَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ وَإِنْ تَرَكَ لَا يَضُرُّهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ بِثِيَابِهَا ، وَالْحَفْرُ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَيُحْفَرُ إلَى الصَّدْرِ لِمَا رَوَيْنَا ( وَلَا يُحْفَرُ لِلرَّجُلِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا حَفَرَهُ لِمَاعِزٍ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِقَامَةِ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ ، وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
( قَوْلُهُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) لِشُمُولِ النُّصُوصِ إيَّاهُمَا ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُحْصَنًا رُجِمَ وَإِلَّا فَعَلَى كُلٍّ الْجَلْدُ ، أَوْ أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا فَعَلَى الْمُحْصَنِ الرَّجْمُ وَعَلَى الْآخَرِ الْجَلْدُ ، وَكَذَلِكَ فِي ظُهُورِ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ يَكُونُ عَلَى مَا شُرِطَ .
وَقَوْلُهُ : غَيْرَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إلَخْ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ : سَوَاءٌ فَلَا يُنْزَعُ عَنْ الْمَرْأَةِ ثِيَابُهَا إلَّا الْمَحْشُوِّ وَالْفَرْوِ ( وَلِأَنَّ فِي تَجْرِيدِهَا كَشْفَ الْعَوْرَةِ ) ؛ لِأَنَّ بَدَنَهَا كُلَّهُ عَوْرَةٌ إلَّا مَا عُرِفَ ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ( وَتُضْرَبُ ) الْمَرْأَةُ ( جَالِسَةً لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ كَلَامِ عَلِيٍّ ( وَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا ) قَوْلُهُ ( وَإِنْ حَفَرَ لَهَا فِي الرَّجْمِ جَازَ ) لِهَذَا وَلِذَلِكَ حَفَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْغَامِدِيَّةِ إلَى ثُنْدُوَتِهَا .
وَالثَّنْدُوَةُ بِضَمِّ الثَّاءِ وَالْهَمْزَةِ مَكَانَ الْوَاوِ وَبِفَتْحِهَا مَعَ الْوَاوِ مَفْتُوحَةً ، وَالدَّالُ مَضْمُومَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ : ثَدْيُ الرَّجُلِ أَوْ لَحْمُ الثَّدْيَيْنِ ، وَمَا قِيلَ الثَّدْيُ لِلْمَرْأَةِ وَالثَّنْدُوَةُ لِلرَّجُلِ هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ بِحَدِيثِ الَّذِي وَضَعَ سَيْفَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ( وَلِذَا حَفَرَ عَلِيٌّ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ ) بِسُكُونِ الْمِيمِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ كَانَتْ عَيْبَةَ عَلِيٍّ ، وَقَدْ مَدَحَهُمْ وَقَالَ فِي مَدِيحِهِ لَهُمْ : فَلَوْ كُنْت بَوَّابًا عَلَى بَابِ جَنَّةٍ لَقُلْت لِهَمْدَانَ اُدْخُلِي بِسَلَامِ وَتَقَدَّمَ حَدِيثُ شُرَاحَةَ وَفِيهِ مِنْ رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهَا إلَى السُّرَّةِ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَإِنْ تَرَكَ ) الْحَفْرَ ( لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ ) يَعْنِي لَمْ يُوجِبْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ هُوَ الْإِيجَابُ ، وَقَالَ : إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْغَامِدِيَّةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنْ لَيْسَ الْمُرَادُ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ
مَجَازًا عَنْ أَمْرِهِ ، وَإِلَّا كَانَتْ مُنَاقَضَةً غَرِيبَةً ، فَإِنَّ مِثْلَهَا إنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ بُعْدِ الْعَهْدِ ، أَمَّا مَعَهُ فِي سَطْرٍ وَاحِدٍ فَغَرِيبٌ وَهُوَ هُنَا كَذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ( قَوْلُهُ وَلَا يَحْفِرُ لِلرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَحْفِرْ لِمَاعِزٍ ) تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ ، وَتَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَتِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ أَنَّهُ حَفَرَ لَهُ وَهُوَ مُنْكَرٌ لِمُخَالَفَتِهِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةَ الْمَشْهُورَةَ وَالرِّوَايَاتِ الْكَثِيرَةَ الْمُتَضَافِرَةَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْحَدِّ عَلَى التَّشْهِيرِ فِي الرِّجَالِ ) لَا حَاجَةَ إلَى التَّخْصِيصِ ، بَلْ الْحَدُّ مُطْلَقًا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّشْهِيرِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُزَادُ فِي شُهْرَتِهِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ، وَيَكْتَفِي فِي الْمَرْأَةِ بِالْإِخْرَاجِ وَالْإِتْيَانِ بِهَا إلَى مُجْتَمَعِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ وَخُصُوصًا فِي الرَّجْمِ .
وَأَمَّا فِي الْجَلْدِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ الزَّانِيَةَ وَالزَّانِي ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَأْمُرَ الْإِمَامُ طَائِفَةً : أَيْ جَمَاعَةً أَنْ يَحْضُرُوا إقَامَةَ الْحَدِّ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاحِدَةٌ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَإِسْحَاقُ اثْنَانِ ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ ثَلَاثَةٌ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ عَشَرَةٌ ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ أَرْبَعَةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَالرَّبْطُ وَالْإِمْسَاكُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ) فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ تَجْرِيدٌ وَلَا مَدٌّ ، وَلِأَنَّ مَاعِزًا انْتَصَبَ لَهُمْ قَائِمًا لَمْ يُمْسَكْ وَلَمْ يُرْبَطْ ، إلَّا أَنْ لَا يَصْبِرَ وَأَعْيَاهُمْ فَحِينَئِذٍ يُمْسَكُ فَيُرْبَطُ ، فَإِذَا هَرَبَ فِي الرَّجْمِ ، فَإِنْ كَانَ مُقِرًّا لَا يُتْبَعُ وَتُرِكَ ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُودًا عَلَيْهِ اُتُّبِعَ وَرُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ ؛ لِأَنَّ هَرَبَهُ رُجُوعٌ ظَاهِرًا وَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إقْرَارِهِ لَا فِي
رُجُوعِ الشُّهُودِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ صِفَةَ الرَّجْمِ أَنْ يُصَفُّوا ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ كَصُفُوفِ الصَّلَاةِ كُلَّمَا رَجَمَهُ صَفٌّ تَنَحَّوْا .
وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ ، بَلْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ فِي قِصَّةِ شُرَاحَةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ الْأَجْلَحِ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَفِيهِ : أَحَاطَ النَّاسُ بِهَا وَأَخَذُوا الْحِجَارَةَ قَالَ : لَيْسَ هَكَذَا الرَّجْمُ إذَنْ يُصِيبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، صُفُّوا كَصَفِّ الصَّلَاةِ صَفًّا خَلْفَ صَفٍّ ، إلَى أَنْ قَالَ : ثُمَّ رَجَمَهَا ثُمَّ أَمَرَهُمْ فَرَجَمَ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ ثُمَّ صَفٌّ .
وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي مَسْجِدٍ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ وَلَا تَعْزِيرٌ ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالتَّأْدِيبِ فِي الْمَسْجِدِ خَمْسَةَ أَسْوَاطٍ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَقَامَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ فَخَطَّأَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ ، وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَصُفُّوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ } وَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمَحْدُودِ فَيَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ الْمَسْجِدِ
( وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ كَالْإِمَامِ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَصَارَ كَالتَّعْزِيرِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْحُدُودَ } وَلِأَنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا إخْلَاءُ الْعَالِمِ عَنْ الْفَسَادِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ فَيَسْتَوْفِيهِ مَنْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الشَّرْعِ وَهُوَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلِهَذَا يُعَزَّرُ الصَّبِيُّ ، وَحَقُّ الشَّرْعِ مَوْضُوعٌ عَنْهُ .
( قَوْلُهُ وَلَا يُقِيمُ الْمَوْلَى الْحَدَّ عَلَى عَبْدِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ : يُقِيمُهُ بِلَا إذْنٍ ، وَعَنْ مَالِكٍ إلَّا فِي الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ .
وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ امْرَأَةً .
وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى لَوْ كَانَ قَتْلًا بِسَبَبِ الرِّدَّةِ أَوْ قَطْعَ الطَّرِيقِ أَوْ قَطْعًا لِلسَّرِقَةِ ، فَفِيهِ خِلَافٌ عِنْدَهُمْ ، قَالَ النَّوَوِيُّ : الْأَصَحُّ الْمَنْصُوصُ نَعَمْ لِإِطْلَاقِ الْخَبَرِ ، وَفِي التَّهْذِيبِ : الْأَصَحُّ أَنَّ الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ إلَى الْإِمَامِ لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْأَمَةِ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ قَالَ : إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ، ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ } قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : لَا أَدْرِي أَبَعْدَ الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ .
وَالضَّفِيرُ الْحَبْلُ .
وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَعْزِيرَهُ صِيَانَةً لِمِلْكِهِ عَنْ الْفَسَادِ فَكَذَا الْحَدُّ ، وَلِأَنَّ لَهُ وِلَايَةً مُطْلَقَةً عَلَيْهِ حَتَّى مَلَكَ مِنْهُ مَا لَا يَمْلِكُ الْإِمَامُ مِنْ التَّصَرُّفِ فَمِلْكُهُ لِلْإِقَامَةِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْإِمَامِ .
وَلَنَا مَا رَوَى الْأَصْحَابُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا { أَرْبَعٌ إلَى الْوُلَاةِ : الْحُدُودُ ، وَالصَّدَقَاتُ .
وَالْجُمُعَاتُ ، وَالْفَيْءُ } وَلِأَنَّ الْحَدَّ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَسْتَوْفِيهِ إلَّا نَائِبُهُ وَهُوَ الْإِمَامُ ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَتَوَقَّفُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَكَوْنُهُ حَقَّ اللَّهِ فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِيهِ نَائِبُهُ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِنَابَةَ تُعْرَفُ بِالسَّمْعِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَنَابَ فِي حَقِّهِ الْمُتَوَجِّهِ مِنْهُ عَلَى
الْأَرِقَّاءِ مَوَالِيَهُمْ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ ، وَدَلَالَتُهُ عَلَى الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ ظَاهِرَةٌ وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْإِقَامَةَ بِنَفْسِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِهِ غَيْرَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا فَجَازَ كَوْنُ الْمُرَادِ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ ، لَكِنْ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُعَارِضُ الْمَذْكُورُ لَا يَجِبُ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ عَلَى الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَقَامَ فُلَانٌ الْحَدَّ عَلَى فُلَانٍ أَوْ جَلَدَ فُلَانٌ فُلَانًا ، وَالْمُتَبَادَرُ أَنَّهُ بَاشَرَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ ، عَلَى أَنَّ الْمُتَبَادَرَ أَحَدٌ دَائِرٌ فِيهِمَا لَا فِي ثَلَاثَةٍ وَهُمَا هَذَانِ مَعَ رَفْعِهِ إلَى الْحَاكِمِ لِيَحُدَّهُ ، نَعَمْ مَنْ اسْتَقَرَّ اعْتِقَادُهُ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ إلَى الْإِمَامِ فَالْمُتَبَادَرُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ اللَّفْظِ الْأَخِيرِ بِخُصُوصِهِ
قَالَ ( وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ ) فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ إذْ لَا خِطَابَ دُونَهُمَا ، وَمَا وَرَاءَهُمَا يُشْتَرَطُ لِتَكَامُلِ الْجِنَايَةِ بِوَاسِطَةِ تَكَامُلِ النِّعْمَةِ إذْ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ يَتَغَلَّظُ عِنْدَ تَكَثُّرِهَا ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ .
وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ .
بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُمْكِنَةٌ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ مُمْكِنٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ ، وَالْإِصَابَةُ شِبَعٌ بِالْحَلَالِ ، وَالْإِسْلَامُ يُمَكِّنُهُ مِنْ نِكَاحِ الْمُسْلِمَةِ وَيُؤَكِّدُ اعْتِقَادَ الْحُرْمَةِ فَيَكُونُ الْكُلُّ مَزْجَرَةً عَنْ الزِّنَا .
وَالْجِنَايَةُ بَعْدَ تَوَفُّرِ الزَّوَاجِرِ أَغْلَظُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ قَدْ زَنَيَا } قُلْنَا : كَانَ ذَلِكَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ نُسِخَ ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } .
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ .
وَشَرْطُ صِفَةِ الْإِحْصَانِ فِيهِمَا عِنْدَ الدُّخُولِ ، حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ أَوْ الْمَمْلُوكَةِ أَوْ الْمَجْنُونَةِ أَوْ الصَّبِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى هَذِهِ الصِّفَاتِ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ عَاقِلَةٌ بَالِغَةٌ ؛ لِأَنَّ النِّعْمَةَ بِذَلِكَ لَا تَتَكَامَلُ إذْ الطَّبْعُ يَنْفِرُ عَنْ صُحْبَةِ الْمَجْنُونَةِ ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ فِي الصَّبِيَّةِ لِقِلَّةِ رَغْبَتِهَا فِيهِ وَفِي الْمَمْلُوكَةِ حَذَرًا عَنْ رِقِّ الْوَلَدِ وَلَا
ائْتِلَافَ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُهُمَا فِي الْكَافِرَةِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ }
( قَوْلُهُ وَإِحْصَانُ الرَّجْمِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا عَاقِلًا بَالِغًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ ) قَيَّدَ بِإِحْصَانِ الرَّجْمِ ؛ لِأَنَّ إحْصَانَ الْقَذْفِ غَيْرُ هَذَا كَمَا سَيَأْتِي .
وَالْإِحْصَانُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ ، قَالَ تَعَالَى { لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ } وَأَطْلَقَ فِي اسْتِعْمَالِ الشَّارِحِ بِمَعْنَى الْإِسْلَامِ وَبِمَعْنَى الْعَقْلِ وَبِمَعْنَى الْحُرِّيَّةِ مِنْهُ { أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } وَبِمَعْنَى التَّزْوِيجِ وَبِمَعْنَى الْإِصَابَةِ فِي النِّكَاحِ وَبِمَعْنَى الْعِفَّةِ ، يُقَالُ أَحْصَنَتْ : أَيْ عَفَّتْ وَأَحْصَنَهَا زَوْجُهَا .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : الْمُتَقَدِّمُونَ يَقُولُونَ : إنَّ شَرَائِطَ الْإِحْصَانِ سَبْعَةٌ ، وَعَدَّ مَا ذَكَرْنَا ثُمَّ قَالَ : فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطَا الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ شَرْطٌ لِأَهْلِيَّةِ الْعُقُوبَةِ ، وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ } وَالثِّيَابَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالدُّخُولِ ا هـ .
وَاخْتُلِفَ فِي اثْنَيْنِ مِنْ هَذِهِ : الْإِسْلَامُ وَسَيَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ وَكَوْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ فِي شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ وَقْتَ الْإِصَابَةِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فَهُوَ شَرْطٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ أَمَةً أَوْ صَبِيَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ كِتَابِيَّةً وَدَخَلَ بِهَا لَا يَصِيرُ الزَّوْجُ مُحْصَنًا بِهَذَا الدُّخُولِ ، حَتَّى لَوْ زَنَى بَعْدَهُ لَا يُرْجَمُ عِنْدَنَا ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ الْحُرَّةُ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ الْمُسْلِمَةُ مِنْ عَبْدٍ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ صَبِيٍّ وَدَخَلَ بِهَا لَا تَصِيرُ مُحْصَنَةً فَلَا تُرْجَمُ لَوْ زَنَتْ .
وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ ذِمِّيَّةً فَأَسْلَمَتْ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا فَقَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ
بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ : أَيْ أَنْ يَطَأَهَا إذَا زَنَى لَا يُرْجَمُ ، وَكَذَا لَوْ أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ الَّتِي هِيَ زَوْجَةُ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ الْمُسْلِمِ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا لَا يُرْجَمُ لَوْ زَنَى مَا لَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ الْإِعْتَاقِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ بَلَغَتْ بَعْدَمَا دَخَلَ بِهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَكَذَا لَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ وَهُمَا مُحْصَنَانِ فَارْتَدَّا مَعًا بَطَلَ إحْصَانُهُمَا ، فَإِذَا أَسْلَمَا لَا يَعُودُ إحْصَانُهُمَا حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ .
وَقَوْلُنَا يَدْخُلُ بِهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ : يَعْنِي تَكُونُ الصِّحَّةُ قَائِمَةً حَالَ الدُّخُولِ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَ مَنْ عُلِّقَ طَلَاقُهَا بِتَزَوُّجِهَا يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، فَلَوْ دَخَلَ بِهَا عَقِيبَهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِنَا شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيَانِيَّةً : أَيْ الشَّرَائِطُ الَّتِي هِيَ الْإِحْصَانُ ، وَكَذَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِحْصَانَ الَّذِي هُوَ شَرْطُ الرَّجْمِ هُوَ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ ، فَهِيَ أَجْزَاؤُهُ ، وَهُوَ هَيْئَةٌ تَكُونُ بِاجْتِمَاعِهَا فَهِيَ أَجْزَاءُ عِلَّةٍ ، وَكُلُّ جُزْءٍ عِلَّةٌ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ حِينَئِذٍ شَرْطُ وُجُوبِ الرَّجْمِ ، وَالْمَجْمُوعُ عِلَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ الْمُسَمَّى بِالْإِحْصَانِ ، وَالشَّرْطُ يَثْبُتُ سَمْعًا أَوْ قِيَاسًا عَلَى مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ .
لَا يُقَالُ : كَمَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَثْبُتُ قِيَاسًا فَكَذَا شُرُوطُهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ يَجِبُ أَنْ تَثْبُتَ شُرُوطُهُ قِيَاسًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ نَفْسِ الْحَدِّ إمَّا لِعَدَمِ الْمَعْقُولِيَّةِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِمَا ازْدَادَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَإِثْبَاتُ الشَّرْطِ احْتِيَالٌ لِلدَّرْءِ لَا لِإِيجَابِهِ بَقِيَ الشَّأْنُ فِي تَحْقِيقِهِ ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُصَنِّفُ شَرْطَ اتِّفَاقِهِمَا فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ مَعَ غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ : ( وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ ) فَإِنَّ مِنْ النِّعَمِ كَوْنَ كُلٍّ مِنْ
الزَّوْجَيْنِ مُكَافِئًا لِلْآخَرِ فِي صِفَاتِهِ الشَّرِيفَةِ ثُمَّ قَالَ : ( وَقَدْ شُرِعَ الرَّجْمُ بِالزِّنَا عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَيُنَاطُ بِهِ ) أَيْ بِاسْتِجْمَاعِهَا ، وَإِذَا نِيطَ بِكُلِّهَا يَلْزَمُ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحَدُّ بِانْتِفَاءِ كُلٍّ مِنْهَا ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُ كُلٍّ مِثْلَ الْآخَرِ فَيَلْزَمُ اشْتِرَاطُهُ لِظُهُورِ أَثَرِ وُجُودِ الشُّبْهَةِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ ، وَعَدَمُ تَمَاثُلِهِمَا شُبْهَةٌ فِي تَصَوُّرِ الصَّارِفِ فَيَنْدَرِئُ بِهِ ، وَبَيَانُهُ مَا ذُكِرَ فِي بَيَانِ كَوْنِهَا مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ الصَّارِفَةِ عَنْ الزِّنَا بِكَمَالِ انْدِفَاعِ حَاجَتِهِ إلَى الْوَطْءِ عِنْدَهَا ، فَكَوْنُهُ بَالِغًا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَا تَكْمُلُ فِيهِ رَغْبَةُ الْكَبِيرَةِ وَبِالْعَكْسِ ، وَكَذَا الْمَجْنُونَةُ لَا يُرْغَبُ فِيهَا بَلْ هِيَ مَحَلُّ نَفْرَةِ الطِّبَاعِ ، وَكَذَا يَنْفِرُ الْمُسْلِمُ عَنْ صُحْبَةِ مَنْ يُفَارِقُهُ فِي دِينِهِ مِنْهُ وَمِنْهَا ، وَكَذَا يَرَى الْحُرُّ انْحِطَاطًا بِتَزَوُّجِ الرَّقِيقِ فَلَا تَكْمُلُ الرَّغْبَةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِذَا ظَهَرَ تَكَامُلُ الصَّارِفِ وَفِيهِ تَكَامُلُ النِّعْمَةِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عِنْدَهَا أَفْحَشَ فَنَاسَبَ كَوْنَ الْعُقُوبَةِ أَغْلَظَ فَشُرِعَتْ لِذَلِكَ وَهِيَ الرَّجْمُ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِهَا فَنِيطَ بِهِ : أَيْ بِالِاسْتِجْمَاعِ لَهَا ( بِخِلَافِ الشَّرَفِ وَالْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ مَا وَرَدَ بِاعْتِبَارِهِمَا وَنَصْبُ الشَّرْعِ بِالرَّأْيِ مُمْتَنِعٌ ) وَوَجْهُ عَدَمِ اعْتِبَارِهِمَا فِي تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ أَنَّهُمَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي تَكْمِيلِ الصَّارِفِ وَإِنْ كَانَتَا مِنْ جَلَائِلِ النِّعَمِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ ، وَأَوْرَدَ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الزَّوْجِ كَافِرًا وَهِيَ مُسْلِمَةٌ كَمَا يُفِيدُهُ مَا ذُكِرَ فِي نَفْرَةِ الْمُسْلِمِ .
وَأُجِيبَ بِأَنْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ فَتُسْلِمَ هِيَ فَيَطَأَهَا قَبْلَ عَرْضِ الْقَاضِي الْإِسْلَامَ عَلَيْهِ وَإِبَائِهِ ، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِإِبَائِهِ هُمَا زَوْجَانِ ( قَوْلُهُ وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ ) أَيْ فِي الْإِحْصَانِ (
وَكَذَا أَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِنَا : فَلَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الثَّيِّبُ الْحُرُّ ، يُجْلَدُ عِنْدَنَا وَيُرْجَمُ عِنْدَهُمْ .
لَهُمْ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُمْ وَرَجُلًا قَدْ زَنَيَا ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الزِّنَا ؟ فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ إنَّ فِيهَا الرَّجْمَ ، فَأَتَوْا بِالتَّوْرَاةِ فَنَشَرُوهَا فَوَضَعَ أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : ارْفَعْ يَدَك ، فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ ، فَقَالَ : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فَأَمَرَ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا } وَاَلَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صُورِيَّا .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ إنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، فَإِنَّهُ سَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَوَّلًا ، وَأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ عِنْدَمَا قَدِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَدِينَةَ ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ حَدِّ الزِّنَا وَلَيْسَ فِيهَا اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ فِي الرَّجْمِ ، ثُمَّ نَزَلَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ بِالرَّجْمِ بِاشْتِرَاطِهِ لِلْإِحْصَانِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَتْلُوٍّ ، وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ : أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } فَقَالَ إِسْحَاقُ رَفَعَهُ مَرَّةً فَقَالَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَّفَهُ مَرَّةً .
وَمِنْ طَرِيقِهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي
سُنَنِهِ وَقَالَ : لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ ، وَيُقَالُ إنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَلَفْظُ إِسْحَاقَ كَمَا تَرَاهُ لَيْسَ فِيهِ رُجُوعٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ عَنْ الرَّاوِي أَنَّهُ مَرَّةً رَفَعَهُ وَمَرَّةً أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْفَتْوَى فَلَمْ يَرْفَعْهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَهُ بَعْدَ صِحَّةِ الطَّرِيقِ إلَيْهِ مَحْكُومٌ بِرَفْعِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَعَارَضَ الرَّفْعُ وَالْوَقْفُ حُكِمَ بِالرَّفْعِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إذَا خُرِّجَ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا ضَعْفٌ لَمْ يَضُرَّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ } فَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ، وَمَعْنَاهُ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك } وَضُعِّفَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ لَمْ يُدْرِكْ كَعْبًا ، لَكِنْ رَوَاهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ .
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الِانْقِطَاعَ عِنْدَنَا دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ بَعْدَ عَدَالَةِ الرُّوَاةِ ، وَبَقِيَّةُ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ أَوَّلَ هَذَا الشَّرْحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ شَاهِدٌ لِلْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَجُّ بِهِ ، وَلَا مَعْنَى لِفَصْلِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِالْفُرُوعِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَهُمَا مَعًا فِي غَرَضٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الِاحْتِجَاجُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ وَمَنْ مَعَهُ بَلْ كَانَ الْوَجْهُ جَمْعُهُمَا ثُمَّ يَقُولُ هُنَا لِمَا ذَكَرْنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسْهَلَ مِمَّا ادَّعَى أَنْ يُقَالَ : حِينَ رَجَمَهُمَا كَانَ الرَّجْمُ ثَبَتَتْ
مَشْرُوعِيَّتُهُ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ } ثُمَّ الظَّاهِرُ كَوْنُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ، وَإِلَّا لَمْ يَرْجُمْهُمْ لِانْتِسَاخِ شَرِيعَتِهِمْ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا سَأَلَهُمْ عَنْ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ لِيُبَكِّتَهُمْ بِتَرْكِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ فَحَكَمَ بِرَجْمِهِمَا بِشَرْعِهِ الْمُوَافِقِ لِشَرْعِهِمْ ، وَإِذَا لَزِمَ كَوْنُ الرَّجْمِ كَانَ ثَابِتًا فِي شَرْعِنَا حَالَ رَجْمِهِمْ بِلَا اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ الْمُفِيدُ لِاشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ تَارِيخٌ يُعْرَفُ بِهِ تَقَدُّمُ اشْتِرَاطِ الْإِسْلَامِ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ أَوْ تَأَخُّرُهُ ، فَيَكُونُ رَجْمُهُ الْيَهُودِيَّيْنِ وَقَوْلُهُ الْمَذْكُورُ مُتَعَارِضَيْنِ فَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ ، وَالْقَوْلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْفِعْلِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيمَ هَذَا الْقَوْلِ يُوجِبُ دَرْءَ الْحَدِّ وَتَقْدِيمَ ذَلِكَ الْفِعْلِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ فِي إيجَابِ الْحَدِّ ، وَالْأَوْلَى فِي الْحُدُودِ تَرْجِيحُ الدَّافِعِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ مُرَجَّحٍ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِتَأَخُّرِهِ اجْتِهَادًا ، وَلَقَدْ طَاحَ بِهَذَا دَفْعُ بَعْضِ الْمُعْتَرِضِينَ ( قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ ) الْمُحَقِّقِ لِلْإِحْصَانِ ( إيلَاجٌ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ ) وَهُوَ بِغَيْبُوبَةِ الْحَشَفَةِ فَقَطْ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِالْمَنْكُوحَةِ الْكَافِرَةِ إلَخْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
قَالَ ( وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَجْمَعْ ، وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يَعْرَى عَنْ الْمَقْصُودِ مَعَ الرَّجْمِ ؛ لِأَنَّ زَجْرَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالرَّجْمِ إذْ هُوَ فِي الْعُقُوبَةِ أَقْصَاهَا وَزَجْرُهُ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ هَلَاكِهِ .
( قَوْلُهُ وَلَا يُجْمَعُ فِي الْمُحْصَنِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلْدِ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَيُجْمَعُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ ، وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إلَى أَنَّهُ يُجْمَعُ .
لِلْجُمْهُورِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُجْمَعْ ، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ فِي مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ وَصَاحِبَةِ الْعَسِيفِ ، وَقَدْ تَظَافَرَتْ الطُّرُقُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْ الْإِحْصَانِ وَتَلْقِينِهِ الرُّجُوعَ لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّجْمِ فَقَالَ : { اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ } وَقَالَ : { اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } وَلَمْ يَقُلْ فَاجْلِدْهَا ثُمَّ اُرْجُمْهَا .
وَقَالَ فِي بَاقِي الْحَدِيثِ { فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَتْ } وَكَذَا فِي الْغَامِدِيَّةِ وَالْجُهَنِيَّةِ إنْ كَانَتْ غَيْرَهَا لَمْ يَزِدْ عَلَى الْأَمْرِ بِرَجْمِهَا وَتَكَرَّرَ ، وَلَمْ يَزِدْ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَقَطَعْنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ الرَّجْمِ ، فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا : الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ أَوْ رَمْيٌ بِالْحِجَارَةِ } يَجِبُ قَطْعًا كَوْنُهُ مَنْسُوخًا .
قَالَ ( وَلِأَنَّ الْجَلْدَ يُعْرِي عَنْ الْمَقْصُودِ ) وَهُوَ الِانْزِجَارُ أَوْ قَصْدُ الِانْزِجَارِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ لَاحِقًا كَانَ الْجَلْدُ خُلُوًّا عَنْ الْفَائِدَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي شُرِعَ لَهَا الْحَدُّ وَالنَّسْخُ قَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّ الزِّنَا فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلًا الْأَذَى بِاللِّسَانِ عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ { وَاَللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } ثُمَّ نُسِخَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا } فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلَ سُورَةِ النُّورِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } وَإِلَّا لَقَالَ خُذُوا عَنْ اللَّهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ .
وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَلَزِمَ نَسْخُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ خُصُوصُ النَّاسِخِ .
وَأَمَّا جَلْدُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرَاحَةَ ثُمَّ رَجْمُهَا فَإِمَّا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ إحْصَانُهَا إلَّا بَعْدَ جَلْدِهَا ، أَوْ هُوَ رَأْيٌ لَا يُقَاوِمُ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْقَطْعِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ( وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ ) وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا حَدًّا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ بَابِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوا } جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْمُوجَبِ رُجُوعًا إلَى حَرْفِ الْفَاءِ وَإِلَى كَوْنِهِ كُلَّ الْمَذْكُورِ ، وَلِأَنَّ فِي التَّغْرِيبِ فَتْحَ بَابِ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ الْعَشِيرَةِ ثُمَّ فِيهِ قَطْعُ مَوَادِّ الْبَقَاءِ ، فَرُبَّمَا تَتَّخِذُ زِنَاهَا مَكْسَبَةً وَهُوَ مِنْ أَقْبَحِ وُجُوهِ الزِّنَا ، وَهَذِهِ الْجِهَةُ مُرَجَّحَةٌ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةٌ ، وَالْحَدِيثُ مَنْسُوخٌ كَشَطْرِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } وَقَدْ عُرِفَ طَرِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَرَى الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةً فَيُغَرِّبَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى ) وَذَلِكَ تَعْزِيرٌ وَسِيَاسَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُفِيدُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ النَّفْيُ الْمَرْوِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ
( قَوْلُهُ وَلَا يُجْمَعُ فِي الْبِكْرِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ وَالشَّافِعِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ) وَكَذَا أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ .
وَلَهُ فِي الْعَبْدِ أَقْوَالٌ يُغَرَّبُ سَنَةً ، نِصْفَ سَنَةٍ ، لَا يُغَرَّبُ أَصْلًا .
وَأَمَّا تَغْرِيبُ الْمَرْأَةِ فَمَعَ مَحْرَمٍ وَأُجْرَتُهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلٍ ، وَفِي بَيْتِ الْمَالِ فِي قَوْلٍ .
وَلَوْ امْتَنَعَ فَفِي قَوْلٍ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ ، وَفِي قَوْلٍ لَا .
وَلَوْ كَانَتْ الطَّرِيقُ آمِنَةً فَفِي تَغْرِيبِهَا بِلَا مَحْرَمٍ قَوْلَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذُوا عَنِّي } الْحَدِيثَ ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } ) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذُوا عَنِّي } الْحَدِيثَ ، وَتَقَدَّمَ ( وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الزِّنَا لِقِلَّةِ الْمَعَارِفِ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّاعِيَةُ إلَى ذَلِكَ ، وَلِذَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ : مَا حَمَلَك عَلَى الزِّنَا مَعَ فَضْلِ عَقْلِك ؟ قَالَتْ : طُولُ السَّوَادِ وَقُرْبُ الْوِسَادِ .
وَالسَّوَادُ الْمُسَارَّةُ مِنْ سَاوَدَهُ إذَا سَارَّهُ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } شَارِعًا فِي بَيَانِ حُكْمِ الزِّنَا مَا هُوَ .
فَكَانَ الْمَذْكُورُ تَمَامَ حُكْمِهِ وَإِلَّا كَانَ تَجْهِيلًا ، إذْ يُفْهَمُ أَنَّهُ تَمَامُ الْحُكْمِ وَلَيْسَ تَمَامَهُ فِي الْوَاقِعِ فَكَانَ مَعَ الشُّرُوعِ فِي الْبَيَانِ أَبْعَدَ مِنْ تَرْكِ الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُوقِعُ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ وَذَلِكَ فِي الْبَسِيطِ وَلِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْهُومُ ؛ لِأَنَّهُ جُعِلَ جَزَاءً لِلشَّرْطِ فَيُفِيدُ أَنَّ الْوَاقِعَ هَذَا فَقَطْ ، فَلَوْ ثَبَتَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ كَانَ شُبْهَةً مُعَارِضَةً لَا مُثْبِتَةً لِمَا سَكَتَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ الْمَمْنُوعَةُ .
وَأَمَّا مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ بَعْضِهِمْ مِنْ أَنَّ الزِّيَادَةَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إثْبَاتُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ
الْقُرْآنُ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وَإِلَّا بَطَلَتْ أَكْثَرُ السُّنَنِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ نَسْخًا وَتَسْمِيَتُهَا نَسْخًا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ ، وَلِذَا زِيدَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْإِحْدَادُ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ التَّرَبُّصُ ، فَهُوَ يُفِيدُ عَدَمَ مَعْرِفَةِ الِاصْطِلَاحِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الزِّيَادَةِ إثْبَاتَ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ الْقُرْآنُ وَلَمْ يَنْفِهِ .
لَا يَقُولُ بِهَذَا عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ عَالِمٍ ، بَلْ تَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مِمَّا يُرَادُ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ الْمُطْلَقِ ، وَبِاللَّفْظِ يُفَادُ الْمَعْنَى ، فَأَفَادَ أَنَّ الْإِطْلَاقَ مُرَادٌ وَبِالتَّقْيِيدِ يَنْتَفِي حُكْمُهُ عَنْ بَعْضِ مَا أَثْبَتَهُ فِيهِ اللَّفْظُ الْمُطْلَقُ .
ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ هَذَا نَسْخٌ ، وَبِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ ، وَظَنَّ الْمُعْتَرِضُ أَنَّ الْإِحْدَادَ زِيَادَةُ غَلَطٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَقْيِيدًا لِلتَّرَبُّصِ وَإِلَّا لَوْ تَرَبَّصَتْ وَلَمْ تُحَدَّ فِي تَرَبُّصِهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ الْعِدَّةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَكُونُ عَاصِيَةً بِتَرْكِ وَاجِبٍ فِي الْعِدَّةِ ، فَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْحَدِيثَ وَاجِبًا لَا أَنَّهُ قَيَّدَ مُطْلَقَ الْكِتَابِ .
نَعَمْ وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ فَتَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِهِ اتِّفَاقًا ، وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَدَلَ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَى ادِّعَاءِ نَسْخِ هَذَا الْخَبَرِ مُسْتَأْنِسًا لَهُ بِنَسْخِ شَطْرِهِ الثَّانِي وَهُوَ الدَّالُّ عَلَى الْجَمِيعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فَكَذَا نِصْفُهُ الْآخَرُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ تُرْوَى جُمَلٌ بَعْضُهَا نُسِخَ وَبَعْضُهَا لَا .
وَلَوْ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ وَادَّعَى أَنَّهُ آحَادٌ لَا مَشْهُورٌ وَتَلَقِّي الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ إنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ فَمَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الْخِلَافِ ، وَإِنْ كَانَ إجْمَاعُهُمْ عَلَى صِحَّتِهِ
بِمَعْنَى صِحَّةِ سَنَدِهِ فَكَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ كَذَلِكَ فَلَمْ تَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِهَا آحَادًا ، وَقَدْ خُطِّئَ مَنْ ظَنَّهُ يَصِيرُ قَطْعِيًّا فَادَّعَى فِيمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ذَلِكَ وَغَلِطَ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَإِذَا كَانَ آحَادًا وَقَدْ تَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمَالُ النَّسْخِ بِقَرِينَةِ نَسْخِ شَطْرِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَنْ الْآحَادِ الَّتِي لَمْ يَتَطَرَّقْ ذَلِكَ إلَيْهَا فَأَحْرَى أَنْ لَا يُنْسَخَ بِهِ مَا أَفَادَهُ الْكِتَابُ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمُوجِبِ الْجَلْدُ فَإِنَّهُ يُعَارِضُهُ فِيهِ ، لَا أَنَّ الْكِتَابَ سَاكِتٌ عَنْ نَفْيِ التَّغْرِيبِ فَكَيْفَ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ التَّغْرِيبِ بِطَرِيقِ الْحَدِّ ، فَإِنَّ أَقْصَى مَا فِيهِ دَلَالَةُ قَوْلِهِ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَهُوَ عَطْفُ وَاجِبٍ عَلَى وَاجِبٍ وَهُوَ لَا يَقْتَضِيهِ ، بَلْ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصِنْ بِنَفْيِ عَامٍ } وَإِقَامَةُ الْحَدِّ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ النَّفْيَ لَيْسَ فِي الْحَدِّ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُهُ اسْتَعْمَلَ الْحَدَّ فِي جُزْءِ مُسَمَّاهُ وَعَطَفَهُ عَلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ بَعِيدٌ وَلَا دَلِيلَ يُوجِبُهُ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَلْفَاظِ لَا يُفِيدُهُ فَجَازَ كَوْنُهُ تَغْرِيبًا لِمَصْلَحَةٍ .
وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَأَى أَنَّ الْحَدِيثَ مَا دَلَّ إلَّا عَلَى الرَّجُلِ بِقَوْلِهِ { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ } فَلَمْ تَدْخُلْ الْمَرْأَةُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي تُثْبِتُ الْأَحْكَامَ فِي النِّسَاءِ بِالنُّصُوصِ الْمُفِيدَةِ إيَّاهَا لِلرِّجَالِ بِتَنْقِيحِ الْمُنَاطِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ نَفْسَ الْحَدِيثِ يَجِبُ أَنْ يَشْمَلَهُنَّ فَإِنَّهُ قَالَ { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ } الْحَدِيثَ ، فَنَصَّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ وَالْجَلْدَ سَبِيلٌ لَهُنَّ ، وَالْبِكْرُ يُقَالُ عَلَى الْأُنْثَى ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ { الْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ
} ثُمَّ عَارَضَ مَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْمَعْنَى بِأَنَّ فِي النَّفْيِ فَتْحَ بَابِ الْفِتْنَةِ لِانْفِرَادِهَا عَنْ الْعَشِيرَةِ وَعَمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُمْ إنْ كَانَ لَهَا شَهْوَةٌ قَوِيَّةٌ فَتَفْعَلُهُ ، وَقَدْ تَفْعَلُهُ لِحَامِلٍ آخَرَ وَهُوَ حَاجَتُهَا إلَى مَا يَقُومُ بِأَوَدِهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي إفْضَائِهِ إلَى الْفَسَادِ أَرْجَحُ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ إفْضَاءِ قِلَّةِ الْمَعَارِفِ إلَى عَدَمِ الْفَسَادِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَنْ يُشَاهِدُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي الْبِكْرِ يَزْنِي بِالْبِكْرِ يُجْلَدَانِ مِائَةً وَيُنْفَيَانِ سَنَةً .
قَالَ : وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَسْبُهُمَا مِنْ الْفِتْنَةِ أَنْ يُنْفَيَا .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ : كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : غَرَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الشَّرَابِ إلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ ، فَقَالَ عُمَرُ : لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا .
نَعَمْ لَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْإِمَامِ مَصْلَحَةٌ فِي التَّغْرِيبِ تَعْزِيرًا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ مَحْمَلُ التَّغْرِيبِ الْوَاقِعِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلصَّحَابَةِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ .
فَفِي التِّرْمِذِيِّ : حَدَّثَنَا كُرَيْبٌ وَيَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ قَالَا : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ } إلَّا
أَنَّهُ قَالَ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ .
وَكَذَا رَوَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ فَرَفَعُوهُ ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ ابْنِ إدْرِيسَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ الْحَدِيثَ .
وَهَكَذَا رُوِيَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إدْرِيسَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَمِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَقُولُوا فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ا هـ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ رِوَايَةَ ابْنِ نُمَيْرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْأَشَجِّ عَنْ ابْنِ إدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ الْحَدِيثَ .
لَمْ يَقُلْ فِيهِ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ الصَّوَابُ ، لَكِنْ رَوَى النَّسَائِيّ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ بِهِ مَرْفُوعًا ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ جِهَةِ النَّسَائِيّ وَقَالَ : رِجَالُهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُسْأَلُ عَنْهُ لِثِقَتِهِ وَشُهْرَتِهِ ، وَقَالَ أَيْضًا : عِنْدِي أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ ابْنِ إدْرِيسَ فِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ جَمِيعُ مَا ذُكِرَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلَافًا عَنْ الْحُفَّاظِ وَأَمَّا عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ ، وَقَدْ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْهُمَا أَيْضًا فِي الْمُوَطَّأِ .
وَأَمَّا رِوَايَتُهُ عَنْ عُثْمَانَ فَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ ابْنِ يَسَارٍ مَوْلًى لِعُثْمَانَ قَالَ : جَلَدَ عُثْمَانُ امْرَأَةً فِي زِنًا ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ الْمَهْرِيُّ إلَى خَيْبَرَ نَفَاهَا إلَيْهِ .
فَهَذَا التَّغْرِيبُ الْمَرْوِيُّ عَمَّنْ ذَكَرْنَا كَتَغْرِيبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ وَغَيْرَهُ بِسَبَبِ أَنَّهُ
لِجَمَالِهِ اُفْتُتِنَ بِهِ بَعْضُ النِّسَاءِ حَتَّى سَمِعَ قَوْلَ قَائِلَةٍ : هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبَهَا أَوْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ إلَى فَتًى مَاجِدِ الْأَعْرَاقِ مُقْتَبَلٍ سَهْلِ الْمُحَيَّا كَرِيمٍ غَيْرِ مِلْجَاجِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَفْيًا ، وَعَلَى هَذَا كَثِيرٌ مِنْ الْمَشَايِخِ السُّلُوكِ الْمُحَقِّقِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضِيَ عَنَّا بِهِمْ وَحَشَرَنَا مَعَهُمْ كَانُوا يُغَرِّبُونَ الْمُرِيدَ إذَا بَدَا مِنْهُ قُوَّةُ نَفْسٍ وَلَجَاجٍ لِتَنْكَسِرَ نَفْسُهُ وَتَلِينَ ، وَمِثْلُ هَذَا الْمُرِيدُ أَوْ مَنْ هُوَ قَرِيبٌ مِنْهُ هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ رَأْيُ الْقَاضِي فِي التَّغْرِيبِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي نَدَمٍ وَشِدَّةٍ ، وَإِنَّمَا زَلَّ زَلَّةً لِغَلَبَةِ النَّفْسِ .
أَمَّا مَنْ لَمْ يَسْتَحِ وَلَهُ حَالٌ يَشْهَدُ عَلَيْهِ بِغَلَبَةِ النَّفْسِ فَنَفْيُهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُوَسِّعُ طُرُقَ الْفَسَادِ وَيُسَهِّلُهَا عَلَيْهِ .
( وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ رُجِمَ ) ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ( وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَمْ يُجْلَدْ حَتَّى يَبْرَأَ ) كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى الْهَلَاكِ وَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْقَطْعُ عِنْدَ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ
( قَوْلُهُ وَإِذَا زَنَى الْمَرِيضُ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ ) بِأَنْ كَانَ مُحْصَنًا حُدَّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ قَتْلُهُ وَرَجْمُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَ حَدُّهُ الْجَلْدَ لَا يُجْلَدُ حَتَّى يَبْرَأَ ) ؛ لِأَنَّ جَلْدَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ كَالسُّلِّ أَوْ كَانَ خَدْلَجًا ضَعِيفَ الْخِلْقَةِ فَعِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُضْرَبُ بِعِثْكَالٍ فِيهِ مِائَةٌ شِمْرَاخٍ فَيُضْرَبُ بِهِ دُفْعَةً ، وَقَدْ سَمِعْت فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُصُولِ كُلِّ شِمْرَاخٍ إلَى بَدَنِهِ ، وَكَذَا قِيلَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حِينَئِذٍ مَبْسُوطَةً ، وَلِخَوْفِ التَّلَفِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ وَالْحَرِّ الشَّدِيدِ ، بَلْ يُؤَخَّرُ إلَى اعْتِدَالِ الزَّمَانِ ، وَهَذَا فِي الْبَرْدِ عِنْدَ مَنْ يَرَى تَجْرِيدَ الْمَحْدُودِ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ ، أَمَّا الْحَرُّ فَلَا .
نَعَمْ لَوْ كَانَ ضَرْبُ الْحَدِّ مُبَرِّحًا صَحَّ ذَلِكَ لَكِنَّهُ شَدِيدٌ غَيْرُ مُبَرِّحٍ وَلَا جَارِحٍ فَلَا يَقْتَضِي الْحَالُ تَأْخِيرَ حَدِّهِ لِلْبَرْدِ وَالْحَرِّ ، بِخِلَافِ الْقَطْعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَإِنَّهُ جُرْحٌ عَظِيمٌ يُخَافُ مِنْهُ السِّرَايَةُ بِسَبَبِ شِدَّةِ الْفَصْلَيْنِ
( وَإِنْ زَنَتْ الْحَامِلُ لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا ) كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ وَهُوَ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ ( وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْجَلْدَ لَمْ تُجْلَدْ حَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا ) أَيْ تَرْتَفِعَ يُرِيدُ بِهِ تَخْرُجُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ فَيُؤَخَّرُ إلَى زَمَانِ الْبُرْءِ .
بِخِلَافِ الرَّجْمِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَقَدْ انْفَصَلَ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ وَلَدُهَا عَنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقُومُ بِتَرْبِيَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي التَّأْخِيرِ صِيَانَةَ الْوَلَدِ عَنْ الضَّيَاعِ ، وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِلْغَامِدِيَّةِ بَعْدَمَا وَضَعَتْ ارْجِعِي حَتَّى يَسْتَغْنِيَ وَلَدُك } ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إلَى أَنْ تَلِدَ إنْ كَانَ الْحَدُّ ثَابِتًا بِالْبَيِّنَةِ كَيْ لَا تَهْرُبَ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ عَامِلٌ فَلَا يُفِيدُ الْحَبْسُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا زَنَتْ الْحَامِلُ ) لَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَوْ جَلْدًا ( كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى هَلَاكِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مُحْتَرَمَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَا جَرِيمَةَ مِنْهُ ، فَلَوْ وَلَدَتْ أَوْ كَانَتْ نُفَسَاءَ فَحَتَّى تَتَعَالَى مِنْ نِفَاسِهَا فِي الْجَلْدِ ، وَلَوْ أَطَالَتْ فِي التَّأْخِيرِ وَتَقُولُ لَمْ أَضَعْ بَعْدُ أَوْ شُهِدَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَقَالَتْ أَنَا حُبْلَى تُرَى لِلنِّسَاءِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ حَامِلٌ أَجَّلَهَا حَوْلَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَلِدْ رَجَمَهَا ( ثُمَّ الْحُبْلَى تُحْبَسُ إنْ ثَبَتَ زِنَاهَا بِالْبَيِّنَةِ إلَى أَنْ تَلِدَ ) وَإِنْ ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا تُحْبَسُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ؛ لِأَنَّ لَهَا الرُّجُوعَ مَتَى شَاءَتْ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا وَلَدَتْ لَا تُحَدُّ حَتَّى تَفْطِمَ الْوَلَدَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ .
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ الْغَامِدِيَّةِ { أَنَّهُ رَدَّهَا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ فَرَجَعَتْ ثُمَّ جَاءَتْ بِهِ وَفِي يَدِهِ كِسْرَةٌ وَقَالَتْ هَا قَدْ فَطَمْته } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ { اذْهَبِي حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِك ، قَالَ : فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ حَتَّى وَضَعَتْ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ وَضَعَتْ الْغَامِدِيَّةُ ، فَقَالَ : إذًا لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : إلَيَّ رَضَاعُهُ ، قَالَ : فَرَجَمَهَا } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ رَجَمَهَا حِينَ وَضَعَتْ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
وَالطَّرِيقَانِ فِي مُسْلِمٍ وَهَذَا أَصَحُّ طَرِيقًا ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ وَفِيهِ مَقَالٌ .
وَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ امْرَأَتَيْنِ وَوَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ نِسْبَتُهَا إلَى الْأَزْدِ .
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { جَاءَتْ امْرَأَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِيهِ رَجَمَهَا بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ } .
( بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ ) قَالَ ( الْوَطْءُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا ) وَإِنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاللِّسَانِ : وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عِنْدَ التَّعَرِّي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } ثُمَّ الشُّبْهَةُ نَوْعَانِ : شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ ، وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً .
فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يُظَنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا وَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ لِيَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ .
وَالثَّانِيَةُ تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى ظَنِّ الْجَانِي وَاعْتِقَادِهِ .
وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِالنَّوْعَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ .
وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِيَةِ إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأُولَى وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا فِي الْأُولَى ؛ وَإِنْ سَقَطَ الْحَدُّ لِأَمْرٍ رَاجِعٍ إلَيْهِ وَهُوَ اشْتِبَاهُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَتَمَحَّضْ فِي الثَّانِيَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ : جَارِيَةُ أَبِيهِ وَأُمُّهُ وَزَوْجَتُهُ ، وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَبَائِنًا بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَأُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ، وَجَارِيَةُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، وَالْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ .
فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إذَا قَالَتْ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي .
وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَجَبَ الْحَدُّ .
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ : جَارِيَةُ ابْنِهِ ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ فِي حَقِّ
الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَالْمَرْهُونَةُ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ .
فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ .
( بَابُ الْوَطْءِ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُهُ ) لَمَّا كَانَ الْكِتَابُ إنَّمَا هُوَ مَعْقُودٌ لِبَيَانِ الْحُدُودِ كَانَ الْحَدُّ هُوَ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ ، فَلَزِمَ الِابْتِدَاءُ بِتَعْرِيفِهِ لُغَةً وَشَرْعًا فَفَعَلَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَرَادَ تَقْدِيمَ حَدِّ الزِّنَا فَقَدَّمَهُ وَأَعْطَى أَحْكَامَهُ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ ، وَذَلِكَ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ .
وَحَاصِلُ أَحْكَامِهِ كَيْفِيَّةُ ثُبُوتِهِ وَشُرُوطُهَا وَكَيْفِيَّةُ إقَامَتِهِ وَشُرُوطُهَا فَكَانَ تَصَوُّرُ حَقِيقَةِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الزِّنَا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقْصُودِ الْكِتَابِ ثَانِيًا ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى التَّحَقُّقِ فِي الْوُجُودِ أَوَّلًا فَأَخَّرَ الْمُصَنِّفُ تَعْرِيفَهُ إلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الْأَصْلِيَّةِ ، وَذَكَرَ أَنَّ الزِّنَا فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ : يَعْنِي لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَيْدٌ وَعَرَّفَهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بِأَنَّهُ ( وَطْءُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ فِي الْقُبُلِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ وَشُبْهَةِ الْمِلْكِ ) وَهَذَا لِأَنَّ فِي اللُّغَةِ مَعْنَى الْمِلْكِ أَمْرٌ ثَابِتٌ قَبْلَ مَجِيءِ هَذَا الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَمْرًا شَرْعِيًّا ، لَكِنْ ثُبُوتُهُ بِالشَّرْعِ الْأَوَّلِ بِالضَّرُورَةِ ، وَالنَّاسُ لَمْ يُتْرَكُوا سُدًى فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْمِلْكِ أَمْرًا مَشْرُوعًا مِنْ بَعْثِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ مِنْ قَبْلِ بَعْثِهِ بِوَحْيٍ يَخُصُّهُ : أَيْ يَخُصُّ الْمِلْكَ فَكَانَ ثُبُوتُهُ شَرْعًا مَعَ اللُّغَةِ مُطْلَقًا فِي الْوُجُودِ الدُّنْيَوِيِّ سَوَاءٌ كَانَتْ اللُّغَةُ عَرَبِيَّةً أَمْ غَيْرَهَا مَخْصُوصَةً بِالدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ قَبْلَهَا فَثُبُوتُ الْمُسَمَّى فِي الدُّنْيَا وَالْوَضْعِ لِمَعْنًى مَعْقُولٍ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ تَعْرِيفٌ لِلزِّنَا فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَخُصَّ اسْمَ الزِّنَا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ مِنْهُ بَلْ هُوَ أَعَمُّ ، وَالْمُوجِبُ لِلْحَدِّ مِنْهُ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ ، وَلِذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ } وَلَوْ وَطِئَ رَجُلٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ لَا يُحَدُّ لِلزِّنَا وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِالزِّنَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ زِنًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحَدُّ بِهِ ، فَلَوْلَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الزِّنَا وَهُوَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ إلَخْ لَصَحَّ تَعْرِيفُهُ وَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، لَكِنَّهُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ كَانَ ظَاهِرًا فِي قَصْدِهِ إلَى تَعْرِيفِ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ ، وَحِينَئِذٍ يُرَدُّ عَلَى طَرْدِهِ وَطْءُ الصَّبِيَّةِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى وَوَطْءُ الْمَجْنُونِ وَالْمُكْرَهِ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَطْءُ الرَّجُلِ ، فَالْأَوْلَى فِي تَعْرِيفِهِ أَنَّهُ وَطْءٌ مُكَلَّفٌ طَائِعٌ مُشْتَهَاةٌ حَالًا أَوْ مَاضِيًا فِي الْقُبُلِ بِلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَخَرَجَ زِنَا الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمُكْرَهِ وَبِالصَّبِيَّةِ الَّتِي تُشْتَهَى وَالْمَيِّتَةِ وَالْبَهِيمَةِ وَدَخَلَ وَطْءُ الْعَجُوزِ ، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَى عَكْسِهِ زِنَا الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ زِنًا وَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ جِنْسُ التَّعْرِيفِ .
وَمَا أُجِيبَ بِهِ مِنْ أَنَّ زِنَاهَا يَدْخُلُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ بِسَبَبِ التَّمْكِينِ طَوْعًا ، إنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ لَهَا زِنًا حَقِيقَةً وَأَنَّ ذَلِكَ التَّمْكِينَ هُوَ مُسَمَّى زِنًا لُغَةً وَتُسَمَّى هِيَ زَانِيَةً حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً بِالتَّمْكِينِ ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَشْمَلُهُ الْجِنْسُ الَّذِي هُوَ وَطْءُ الْمُكَلَّفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُوَ عَيْنَ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ فَفَسَادُ الْحَدِّ بِحَالِهِ .
وَكَوْنُ فِعْلِهَا تَبَعًا لِفِعْلِهِ إنَّمَا هُوَ فِي الْوُجُودِ الْخَارِجِيِّ ، وَالْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِ اللَّفْظِ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهَا لَا تُسَمَّى زَانِيَةً حَقِيقَةً أَصْلًا وَأَنَّ تَسْمِيَتَهَا فِي قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } بِطَرِيقِ الْمَجَازِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنَّهُ تَبَعٌ بَلْ لَا يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي التَّعْرِيفِ .
وَعَلَى هَذَا كَلَامُ السَّرَخْسِيِّ وَالْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِمَا فِي مَسْأَلَةِ مَا إذَا مَكَّنَتْ الْبَالِغَةُ الْعَاقِلَةُ
الْمُسْلِمَةُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ أَمْرٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا وُجِدَ فِعْلُ الْوَطْءِ بَيْنَهُمَا يَتَّصِفُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِهِ وَتُسَمَّى هِيَ وَاطِئَةً وَلِذَا سَمَّاهَا سُبْحَانَهُ زَانِيَةً .
وَأَعْجَبُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ عَلَى التَّعْرِيفِ مُغَالَطَةٌ ، وَالْقَطْعُ بِأَنَّ وَطْأَهُ لَيْسَ يَصْدُقُ عَلَى تَمْكِينِهَا بِهُوَ هُوَ ، فَإِذَا جَعَلَ الْجِنْسَ وَطْءَ الرَّجُلِ فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ اللَّفْظُ تَمْكِينَ الْمَرْأَةِ وَكَوْنُ الْفِعْلِ الْجُزْئِيِّ الْخَارِجِيِّ إذَا وُجِدَ مِنْ الرَّجُلِ فِي الْخَارِجِ يَسْتَدْعِي فِعْلًا آخَرَ مِنْهَا إذَا كَانَتْ طَائِعَةً لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّفْظَ الْخَاصَّ بِفِعْلِهِ يَشْمَلُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَالْحَقُّ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ زَانِيَةً حَقِيقَةً وَأُرِيدَ شُمُولُ التَّعْرِيفِ لِزِنَاهَا فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِهِ أَوْ تَمْكِينِهَا ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَيُقَالُ : إدْخَالُ الْمُكَلَّفِ الطَّائِعِ قَدْرَ حَشَفَتِهِ قُبُلَ مُشْتَهَاةٍ حَالًا أَوْ مَاضِيًا بِلَا مِلْكٍ وَشُبْهَةٍ أَوْ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ تَمْكِينُهَا لِيَصْدُقَ عَلَى مَا لَوْ كَانَ مُسْتَلْقِيًا فَقَعَدَتْ عَلَى ذَكَرِهِ فَتَرَكَهَا حَتَّى أَدْخَلَتْهُ فَإِنَّهُمَا يُحَدَّانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَيْسَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ سِوَى التَّمْكِينِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِعْلٌ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِأَخْذِ عَدَمِ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ فِي الزِّنَا : أَيْ إنَّمَا شُرِطَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزِّنَا مَحْظُورٌ فَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ يُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ : أَيْ يُؤَيِّدُ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَفَادَ عَدَمَ الْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ بِسَبَبِ دَرْءِ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ أَفَادَ عَدَمَهَا ، وَدَرْءُ الْحَدِّ عِنْدَ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ كَمَا فِي الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرِكَةِ بِطَرِيقٍ أَوْلَى فَهُوَ
بِدَلَالَتِهِ ، ثُمَّ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ قِيلَ لَمْ يُحْفَظْ مَرْفُوعًا ، وَذُكِرَ أَنَّهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ هُوَ النَّخَعِيُّ قَالَ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأَنْ أُعَطِّلَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ .
وَأُخْرِجَ عَنْ مُعَاذٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : إذَا اشْتَبَهَ عَلَيْك الْحَدُّ فَادْرَأْهُ .
وَنَقَلَ ابْنُ حَزْمٍ عَنْ أَصْحَابِهِمْ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحِلُّ أَنْ يُدْرَأَ بِشُبْهَةٍ ، وَشَنَّعَ بِأَنَّ الْآثَارَ الْمَذْكُورَةَ لِإِثْبَاتِ الدَّرْءِ بِالشُّبُهَاتِ لَيْسَ فِيهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ بَلْ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ طُرُقٍ لَا خَيْرَ فِيهَا ، وَأَعَلَّ مَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِمَّا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ وَهُوَ غَيْرُ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَإِنَّهَا مَعْلُولَةٌ بِإِسْحَاقَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ .
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمَنْ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ أَوْ شَكَّ أَنْ يُوقِعَ مَا اسْتَبَانَ ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ تَعَالَى } مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ فَإِنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ مَنْ جَهِلَ حُرْمَةَ شَيْءٍ وَحِلَّهُ فَالْوَرَعُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُ ، وَمَنْ جَهِلَ وُجُوبَ أَمْرٍ وَعَدَمَهُ فَلَا يُوجِبُهُ ، وَمَنْ جَهِلَ أَوْجَبَ الْحَدَّ أَمْ لَا وَجَبَ أَنْ يُقِيمَهُ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْإِرْسَالَ لَا يَقْدَحُ ، وَإِنَّ الْمَوْقُوفَ فِي هَذَا لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْوَاجِبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِشُبْهَةٍ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَقْلِ ،
بَلْ مُقْتَضَاهُ أَنَّ بَعْدَ تَحَقُّقِ الثُّبُوتِ لَا يَرْتَفِعُ بِشُبْهَةٍ ، فَحَيْثُ ذَكَرَهُ صَحَابِيٌّ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ .
وَأَيْضًا فِي إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ { الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ } كِفَايَةٌ ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : هَذَا الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَأَيْضًا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ .
وَفِي تَتَبُّعِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ مَا يُقْطَعُ فِي الْمَسْأَلَةِ .
فَقَدْ عَلِمْنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمَاعِزٍ لَعَلَّك قَبَّلْت ، لَعَلَّك لَمَسْت ، لَعَلَّك غَمَزْت } كُلُّ ذَلِكَ يُلَقِّنُهُ أَنْ يَقُولَ : نَعَمْ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالزِّنَا ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ فَائِدَةٌ إلَّا كَوْنُهُ إذَا قَالَهَا تُرِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ .
وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ لَعَلَّهُ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَك فَضَاعَتْ وَنَحْوُهُ ، وَكَذَا قَالَ لِلسَّارِقِ الَّذِي جِيءَ بِهِ إلَيْهِ { أَسَرَقْت مَا إخَالُهُ سَرَقَ } وَلِلْغَامِدِيَّةِ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِشُرَاحَةَ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ لَعَلَّهُ وَقَعَ عَلَيْك وَأَنْتِ نَائِمَةٌ ، لَعَلَّهُ اسْتَكْرَهَك ، لَعَلَّ مَوْلَاك زَوَّجَك مِنْهُ وَأَنْتِ تَكْتُمِينَهُ ، وَتُتْبَعُ مِثْلُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ طَوْلًا .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ كَوْنُ الْحَدِّ يُحْتَالُ فِي دَرْئِهِ بِلَا شَكٍّ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الِاسْتِفْسَارَاتِ الْمُفِيدَةَ لِقَصْدِ الِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ كُلُّهَا كَانَتْ بَعْدَ الثُّبُوتِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ صَرِيحِ الْإِقْرَارِ وَبِهِ الثُّبُوتُ ، وَهَذَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ وَمِنْ قَوْلِهِ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } فَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَقْطُوعًا بِثُبُوتِهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَكَانَ الشَّكُّ فِيهِ شَكًّا فِي ضَرُورِيٍّ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَائِلِهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاخْتِلَافُ أَحْيَانًا فِي بَعْضٍ أَهِيَ شُبْهَةٌ صَالِحَةٌ لِلدَّرْءِ أَوْ لَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ .
إذَا عُرِفَ هَذَا فَنَقُولُ :
الشُّبْهَةُ مَا يُثْبِتُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَا لِلْفُقَهَاءِ فِي تَقْسِيمِهَا وَتَسْمِيَتِهَا اصْطِلَاحَاتٌ ؛ فَالشَّافِعِيَّةُ قَالُوا : الشُّبْهَةُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : فِي الْمَحَلِّ ، وَالْفَاعِلِ ، وَالْجِهَةِ .
أَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فَوَطْءُ زَوْجَتِهِ الْحَائِضِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ وَأَمَتِهِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ وَجَارِيَةِ وَلَدِهِ وَلَا حَدَّ فِيهِ ، وَلَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ الْمُحَرَّمَةَ عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ كَأُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ مِنْهُمَا أَوْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ مَوْطُوءَةِ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْأَظْهَرِ .
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْفَاعِلِ فَمِثْلُ أَنْ يَجِدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَيَطَأَهَا ظَانًّا أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَلَا حَدَّ ، وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ظَنَّ ذَلِكَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ .
وَأَمَّا الشُّبْهَةُ فِي الْجِهَةِ قَالَ الْأَصْحَابُ كُلُّ جِهَةٍ صَحَّحَهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَأَبَاحَ الْوَطْءَ بِهَا لَا حَدَّ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ الْوَاطِئُ يَعْتَقِدُ التَّحْرِيمَ كَالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ .
وَأَصْحَابُنَا قَسَّمُوا الشُّبْهَةَ قِسْمَيْنِ : شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَتُسَمَّى شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ ، وَشُبْهَةُ مُشَابَهَةٍ : أَيْ شُبْهَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ .
وَشُبْهَةٌ فِي الْمَحَلِّ وَتُسَمَّى شُبْهَةً حُكْمِيَّةً وَشُبْهَةَ مِلْكٍ : أَيْ الثَّابِتُ شُبْهَةُ حُكْمِ الشَّرْعِ بِحِلِّ الْمَحَلِّ ( قَوْلُهُ فَالْأُولَى تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إلَخْ ) أَيْ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ ، وَلَا دَلِيلَ فِي السَّمْعِ يُفِيدُ الْحِلَّ ، بَلْ ظُنَّ غَيْرُ الدَّلِيلِ دَلِيلًا كَمَا يُظَنُّ أَنَّ جَارِيَةَ زَوْجَتِهِ تَحِلُّ لَهُ لِظَنِّهِ أَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ وَاسْتِخْدَامُهَا حَلَالٌ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الظَّنِّ ، وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَصْلًا لِفَرْضِ أَنْ لَا دَلِيلَ أَصْلًا لِتَثْبُتَ الشُّبْهَةُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَنُّهُ الْحِلَّ ثَابِتًا لَمْ تَكُنْ شُبْهَةٌ أَصْلًا ( وَالثَّانِيَةُ )
وَهِيَ الشُّبْهَةُ الْحُكْمِيَّةُ ( تَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الدَّلِيلِ النَّافِي لِلْحُرْمَةِ فِي ذَاتِهِ ) كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } سَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ أَوْ عَلِمَ الْحُرْمَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ بِثُبُوتِ الدَّلِيلِ قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلِمَهَا أَحَدٌ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهَا ( قَوْلُهُ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ) يَعْنِي قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } ، ( وَقَوْلُهُ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ فِي الثَّانِي ) أَيْ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ ( إذَا ادَّعَى الْوَلَدَ وَلَا يَثْبُتُ فِي الْأَوَّلِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ تَمَحَّضَ زِنًا ) لِفَرْضِ أَنْ لَا شُبْهَةَ مِلْكٍ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ لِظَنِّهِ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَهُوَ أَمْرٌ رَاجِعٌ إلَيْهِ : أَيْ إلَى الْوَاطِئِ لَا إلَى الْمَحَلِّ ، فَكَانَ الْمَحَلُّ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ حِلٍّ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبٌ بِهَذَا الْوَطْءِ ، وَكَذَا لَا تَثْبُتُ بِهِ عِدَّةٌ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ مِنْ الزَّانِي .
قِيلَ هَذَا غَيْرُ مُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ فَإِنَّ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا لِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ فَيَكْفِي ذَلِكَ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ .
وَفِي الْإِيضَاحِ : الْمُطَلَّقَةُ بِعِوَضٍ وَالْمُخْتَلِعَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا .
قَالَ شَارِحٌ : بَلْ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ .
وَثُبُوتُ نَسَبِ الْمَبْتُوتَةِ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْ خُلْعٍ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ وَطْءٍ فِي الْعِدَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ عُلُوقٍ سَابِقٍ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ نَسَبَ وَلَدِهَا يَثْبُتُ إلَى أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ : يَعْنِي لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْعُلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لِتَمَامِهِمَا ، وَأَنْتَ عَلِمْت فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ إنَّمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إذَا لَمْ يَدَّعِهِ ، أَمَّا إذَا ادَّعَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ نُصَّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ
وَيُحْمَلُ عَلَى وَطْءٍ فِي الْعِدَّةِ بِشُبْهَةٍ ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا مُطْلَقٌ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مُعَلَّلًا بِأَنَّهُ زِنًا مَحْضٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بِحَمْلِ أَحَدِ النَّصَّيْنِ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فِي النَّظَرِ ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ بَاقِي مَحَالِّ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كَجَارِيَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ لَا شُبْهَةَ عَقْدٍ فِيهِمَا فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالدَّعْوَةِ فَشُبْهَةُ الْفِعْلِ فِي ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ : أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ وَكَذَا جَدُّهُ وَجَدَّتُهُ ، وَإِنْ عَلَيَا أَوْ زَوْجَتُهُ ، أَوْ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فِي الْعِدَّةِ ، أَوْ بَائِنًا عَلَى مَالٍ ، وَكَذَا الْمُخْتَلِعَةُ بِخِلَافِ الْبَيْنُونَةِ بِلَا مَالٍ فَهِيَ مِنْ الْحُكْمِيَّةِ ، أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ الَّتِي أَعْتَقَهَا وَهِيَ فِي عِدَّتِهِ وَالْعَبْدُ يَطَأُ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ ، وَالْمُرْتَهِنُ يَطَأُ الْمَرْهُونَةَ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَالْمُسْتَعِيرُ لِلرَّهْنِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهِنِ ( فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا حَدَّ إذَا قَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ، وَلَوْ قَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ عَلَيَّ وَجَبَ الْحَدُّ ) وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ وَالْآخَرُ لَمْ يَدَّعِ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا حَتَّى يُقِرَّا جَمِيعًا بِعِلْمِهِمَا الْحُرْمَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إذَا ثَبَتَتْ فِي الْفِعْلِ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَعَدَّتْ إلَى الْآخَرِ ضَرُورَةً .
وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ : جَارِيَةُ ابْنِهِ ، وَالْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا بِالْكِنَايَاتِ ، وَالْجَارِيَةُ الْمَبِيعَةُ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي ، وَالْمَجْعُولَةُ مَهْرًا إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ تَسْلِيمِهَا إلَى الزَّوْجَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْمُشْتَرِي وَالْمَالِكُ كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى وَطْئِهَا بِتِلْكَ الْيَدِ مَعَ الْمِلْكِ ، وَمِلْكُ الْيَدِ ثَابِتٌ وَالْمِلْكُ الزَّائِلُ مُزَلْزَلٌ وَالْمُشْتَرِكَةُ بَيْنَ الْوَاطِئِ وَغَيْرِهِ
، وَالْمَرْهُونَةُ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ وَعَلِمْت أَنَّهَا لَيْسَتْ بِالْمُخْتَارَةِ ( فَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ ) لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الشُّبْهَةُ وَهِيَ هَاهُنَا قَائِمَةٌ فِي نَفْسِ الْحُكْمِ : أَيْ الْحُرْمَةِ الْقَائِمَةِ فِيهَا شُبْهَةُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ نَظَرًا إلَى دَلِيلِ الْحِلِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَنَحْوُهُ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمَعْرِفَتِهِ بِالْحُرْمَةِ وَعَدَمِهَا .
وَفِي الْإِيضَاحِ فِي الْمَرْهُونَةِ إذَا قَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ ، وَفِي كِتَابِ الْحُدُودِ يُحَدُّ ، فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ لِأَنَّهُ لَا اسْتِيفَاءَ مِنْ عَيْنِهَا بَلْ مِنْ مَعْنَاهَا ، فَلَمْ يَكُنْ الْوَطْءُ حَاصِلًا فِي مَحَلِّ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا فَلَا شُبْهَةَ فِعْلٍ وَصَارَ كَالْغَرِيمِ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الْمَيِّتِ .
وَجْهُ عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ انْعَقَدَ فِيهَا سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا وَمَالِكًا بِالْهَلَاكِ مِنْ وَقْتِ الرَّهْنِ فَصَارَ كَجَارِيَةٍ اشْتَرَاهَا وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بِحَالٍ فَهِيَ كَالْمُسْتَأْجَرَةِ لِلْخِدْمَةِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ ، وَإِنْ اشْتَبَهَ إلَّا أَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ فِي الْجُمْلَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الرَّهْنِ سَبَبًا ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنَّ الثَّابِتَ بِهَا مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُمْكِنُ كَوْنُهُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالْخِيَارِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْمِلْكَ حَالَ قِيَامِ الْجَارِيَةِ ، بِخِلَافِ الْمَرْهُونَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ إلَّا مَعَ هَلَاكِهَا ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مِلْكِهَا سَبَبًا لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَكَانَ كَمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ .
هَذَا وَقَدْ دَخَلَ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ صُوَرٌ مِثْلُ وَطْءِ جَارِيَةِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ
وَالْمَدْيُونِ وَمُكَاتَبِهِ وَوَطْءِ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَلَّتِي فِيهَا الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ جَارِيَتَهُ الَّتِي هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَجَارِيَتَهُ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُك غَيْرَ ذَلِكَ أَيْضًا كَالزَّوْجَةِ الَّتِي حَرُمَتْ بِرِدَّتِهَا أَوْ بِمُطَاوَعَتِهَا لِابْنِهِ أَوْ جِمَاعِهِ أُمَّهَا ثُمَّ جَامَعَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ لَمْ يُحَرِّمْ بِهِ فَاسْتُحْسِنَ أَنْ يُدْرَأَ بِذَلِكَ الْحَدُّ فَالِاقْتِصَارُ عَلَى السِّتَّةِ لَا فَائِدَةَ فِيهِ
ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ عَلَى مَا يَأْتِيك إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا
( قَوْلُهُ ثُمَّ الشُّبْهَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ ، وَعِنْدَ الْبَاقِينَ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الشُّبْهَةُ إذَا عَلِمَ بِتَحْرِيمِهِ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ ) فَصَارَتْ الشُّبْهَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةً : شُبْهَةُ الْفِعْلِ ، وَشُبْهَةُ الْمَحَلِّ ، وَشُبْهَةُ الْعَقْدِ ، وَكَذَا قَسَّمَهَا فِي الْمُحِيطِ .
وَذَكَرَ فِي شُبْهَةِ الْعَقْدِ أَنْ يَطَأَ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا وَهِيَ أَمَةٌ أَوْ وَطِئَ الْعَبْدُ مَنْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ .
قَالَ : وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ أَوْ خَمْسًا فِي عَقْدٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ بِوَطْءٍ وَقَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ الْحَدُّ .
( وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ ) لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُحَلَّلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مُنْتَفِيَةً وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لَا اخْتِلَافٌ ، وَلَوْ قَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ فِي حَقِّ النَّسَبِ وَالْحَبْسِ وَالنَّفَقَةِ فَاعْتُبِرَ ظَنُّهُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَقِيَامِ بَعْضِ الْآثَارِ فِي الْعِدَّةِ
قَوْلُهُ وَقَدْ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْمَحَلِّ ) إذْ قَالَ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا } يَعْنِي الثَّالِثَةَ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ( وَعَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ) أَيْ فِي الْمَحَلِّ وَهُمْ الْإِمَامِيَّةُ وَالزَّيْدِيَّةُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ بِكَلِمَةٍ لَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةٌ فَتَكُونُ حَلَالًا لِزَوْجِهَا ( لِأَنَّهُ خِلَافٌ ) بَعْدَ تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ فَلَا يُعْتَبَرُ ( لَا اخْتِلَافٌ ) كَائِنٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ حَالَ تَرَدُّدِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُمْ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْإِجْمَاعِ لِيُعْتَبَرَ ، وَهَذَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَنَّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ تَقَرَّرَ فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي أَنَّهَا تَكُونُ وَاحِدَةً يَجِبُ كَوْنُهَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً إلَى آخِرِ مَا يُعْلَمُ فِيمَا أَسْلَفْنَاهُ ، وَصَحَّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وُقُوعُ الثَّلَاثِ خِلَافَ مَا نَقَلُوا عَنْهُ .
ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَرْتِيبَ الْمُصَنِّفِ بِالْفَاءِ قَوْلَهُ فَلَا يُعْتَبَرُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْإِجْمَاعِ لَا عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْهُ وَمِنْ قَوْلِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ بِانْتِفَاءِ الْحِلِّ لِأَنَّ مَحَلَّ انْتِفَاءِ الْحِلِّ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا أَوْقَعَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ تَقَدُّمِ ثِنْتَيْنِ ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهَا ، إنَّمَا خِلَافُهُمْ فِي الثَّلَاثِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ هُوَ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْمِلْكِ قَائِمٌ ) بِقِيَامِ الْعِدَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ إذَا وَلَدَتْ ، وَلَهُ حَبْسُهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَعَلَيْهِ نَفَقَتُهَا ، وَلِذَا يَحْرُمُ عِنْدَنَا نِكَاحُ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا وَتَمْتَنِعُ شَهَادَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، فَأَمْكَنَ أَنْ نَقِيسَ حِلَّ الْوَطْءِ عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَنَجْعَلَ الِاشْتِبَاهَ عَلَيْهِ عُذْرًا فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَطِئَ
امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي أَوْ جَارِيَةً أَجْنَبِيَّةً عَلَى مَا يَأْتِي لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ( قَوْلُهُ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا ) وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ( وَالْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ عَلَى مَالٍ كَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِالْإِجْمَاعِ ) يُرِيدُ حُرْمَةَ أَنْ يَطَأَهَا فِي الْعِدَّةِ ، بِخِلَافِ الرَّجْعِيَّةِ فَإِنَّهُ لَا إجْمَاعَ فِي حُرْمَتِهِ ،
( وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ بَرِّيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَمْ يُحَدَّ ) لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيهِ ؛ فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي سَائِرِ الْجِنَايَاتِ وَكَذَا إذَا نَوَى ثَلَاثًا لِقِيَامِ الِاخْتِلَافِ مَعَ ذَلِكَ
وَبِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا بِالْكِنَايَةِ كَأَنْ ( قَالَ أَنْتِ خَلِيَّةٌ أَوْ أَمْرُك بِيَدِك فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ) وَنَحْوُهُ ( ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ ) فِي الْكِنَايَةِ ( فَمِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ أَنَّهَا ) أَيْ الْكِنَايَاتِ ( رَجْعِيَّةٌ ) وَكَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
فَفِي مُصَنِّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورٍ ، حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ : جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ امْرَأَتِي كَلَامٌ فَقَالَتْ : لَوْ كَانَ الَّذِي بِيَدِك مِنْ أَمْرِي بِيَدِي لَعَلِمْت كَيْفَ أَصْنَعُ ، قَالَ : فَقُلْت لَهَا : قَدْ جَعَلْت أَمْرَك بِيَدِك فَقَالَتْ : أَنَا طَالِقٌ ثَلَاثًا .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : أَرَاهَا وَاحِدَةً وَأَنْتَ أَحَقُّ بِالرَّجْعَةِ ، وَسَأَلْنَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : مَاذَا قُلْت ؟ قَالَ : قُلْت أَرَاهَا وَاحِدَةً وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ، قَالَ : وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ ، وَزَادَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ : وَلَوْ رَأَيْت غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ تُصِبْ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُمَا فِي مُصَنَّفِهِ أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْبَرِّيَّةِ وَالْخَلِيَّةِ هِيَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَجْعَتِهَا .
وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْآثَارِ : أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَرْأَةِ إذَا خَيَّرَهَا زَوْجُهَا فَاخْتَارَتْهُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَزَوْجُهَا أَمْلَكُ بِهَا .
وَمِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ فِي خَلِيَّةٍ وَبَرِّيَّةٍ أَنَّهَا ثَلَاثٌ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا عَنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا أَنَّهَا وَاحِدَةٌ أَوْ ثَلَاثٌ ، وَبِهَذَا يُعْرَفُ خَطَأُ مَنْ بَحَثَ فِي الْمُخْتَلِعَةِ وَقَالَ : يَنْبَغِي كَوْنُهَا مِنْ ذَوَاتِ الشُّبْهَةِ
الْحُكْمِيَّةِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي الْخُلْعِ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِيهِ إنَّمَا هُوَ فِي كَوْنِهِ فَسْخًا أَوْ طَلَاقًا ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : إنَّ الْمُخْتَلِعَةَ عَلَى مَالٍ تَقَعُ فُرْقَتُهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا ، وَكَذَا لَوْ نَوَى ثَلَاثًا بِالْكِنَايَةِ فَوَقَعْنَ فَوَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ عَنْ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَقَالَ عَلِمْت أَنَّهَا حَرَامٌ لَا يُحَدُّ لِتَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ الشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ ، وَعُرِفَ أَنَّ تَحَقُّقَهَا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ ، وَالثَّابِتُ هُنَا قِيَامُ الْخِلَافِ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْهُ أَبُو حَنِيفَةَ حَتَّى لَمْ يُخَفِّفْ النَّجَاسَةَ بِهِ ؛ فَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ عَنْ دَلِيلٍ قَائِمٍ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَعْمُولٍ بِهِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَنْت وَمَالُك لِأَبِيك } غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ فِي إثْبَاتِ حَقِيقَةِ مِلْكِ الْأَبِ لِمَالِ ابْنِهِ نَفْسِهِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يُلْغَزُ بِهَا فَيُقَالُ : مُطَلَّقَةٌ ثَلَاثًا وُطِئَتْ فِي الْعِدَّةِ وَقَالَ عَلِمْت حُرْمَتَهَا لَا يُحَدُّ ، وَهِيَ مَا وُقُوعُ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا بِالْكِنَايَةِ
( وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ ) لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ لِأَنَّهَا نَشَأَتْ عَنْ دَلِيلٍ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتِ وَمَالُك لِأَبِيك } وَالْأُبُوَّةُ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْجَدِّ .
قَالَ ( وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ
( قَوْلُهُ وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ ) ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ حَيًّا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِ ابْنِهِ حَالَ قِيَامِ ابْنِهِ ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ نِكَاحِ الرَّقِيقِ ثُمَّ فِي الِاسْتِيلَادِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ حُكْمِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهَا عَنْ دَلِيلٍ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ جَابِرٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْمُنْذِرِيُّ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا وَأَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي ، فَقَالَ : أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَصْغَرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنْ جَابِرٍ { جَاءَ رَجُلٌ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِيهْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِيَهْ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : اُدْعُهُ لِيَهْ ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ ابْنَك يَزْعُمُ أَنَّك تُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ ، فَقَالَ : سَلْهُ هَلْ هُوَ إلَّا عَمَّاتِهِ أَوْ قَرَابَاتِهِ أَوْ مَا أُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِي وَعِيَالِي ، قَالَ : فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ الشَّيْخَ قَالَ فِي نَفْسِهِ شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاهُ ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : قُلْت فِي نَفْسِك شِعْرًا لَمْ تَسْمَعْهُ أُذُنَاك فَهَاتِهِ ، فَقَالَ : لَا يَزَالُ يَزِيدُنَا اللَّهُ بِك بَصِيرَةً وَيَقِينًا ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا تَعُلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسَّقَمِ لَمْ أَبَتْ لِسَقَمِك إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْهَا وَإِنَّهَا لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ حَتْمٌ مُوَكَّلُ كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي طَرَقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تُهْمِلُ فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي إلَيْك مَرَامًا فِيك كُنْت أُؤَمِّلُ جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً كَأَنَّك أَنْتَ
الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ فَلَيْتُك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ فَأَوْلَيْتَنِي حَقَّ الْجِوَارِ وَلَمْ تَكُنْ عَلَيَّ بِمَالٍ دُونَ مَالِكِ تَبْخَلُ قَالَ : فَبَكَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَخَذَ بِتَلْبِيبِ ابْنِهِ وَقَالَ : اذْهَبْ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
وَرُوِيَ حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَوَّلُ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ هَذَا ( وَيَثْبُتُ النَّسَبُ ) يَقْتَضِي بِإِطْلَاقِهِ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ مِنْ وَطْءِ وَالِدِ سَيِّدِهَا وَجَدِّهِ ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُهُ الَّذِي هُوَ سَيِّدُ الْأَمَةِ حَيًّا فَإِنَّهُ قَالَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ : لَا حَدَّ عَلَى مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَيَثْبُتُ النَّسَبُ : أَيْ مِنْ وَاطِئِ جَارِيَةِ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ ، لَكِنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِهِ فَقَطْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَهُوَ فَرْعُ تَمَلُّكِهَا وَالْجَدُّ لَا يَتَمَلَّكُهَا حَالَ حَيَاةِ الْأَبِ .
وَمَا وَقَعَ فِي نُسَخِ النِّهَايَةِ مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ خِزَانَةِ الْفِقْهِ لِأَبِي اللَّيْثِ : إذَا زَنَى بِجَارِيَةِ نَافِلَتِهِ وَالْأَبُ فِي الْأَحْيَاءِ ، وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ لَا يُحَدُّ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِغَلَطِهِ ، وَأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ لَفْظَةُ لَا لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّارِحِينَ لِهَذَا الْمَكَانِ مُصَرِّحُونَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ ، وَنَفْسُ أَبِي اللَّيْثِ صَرَّحَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْأَبِ .
وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : أَنَّ مَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ وَلَدِ وَلَدِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَيًّا لَمْ تَثْبُتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ إذَا كَذَّبَهُ .
وَكَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِيلَادِ تَبْتَنِي عَلَى وِلَايَةِ نَقْلِ الْجَارِيَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْجَدِّ وِلَايَةُ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْأَبِ ، وَلَكِنْ إنْ أَقَرَّ بِهِ وَلَدُ الْوَلَدِ عَتَقَ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ ثَابِتُ
النَّسَبِ مِنْ الْجَدِّ وَأَنَّهُ عَمُّهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ مِنْ قِيمَةِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا ، وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَسَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ الْحُكْمِيَّةِ وَهِيَ الْبُنُوَّةُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ فِي حَيَاةِ الْأَب وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْجَدِّ عِنْدَ ذَلِكَ وِلَايَةُ نَقْلِهَا إلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الدَّعْوَةِ ، صَدَّقَهُ ابْنُ الِابْنِ أَوْ كَذَّبَهُ ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حَصَلَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ ، وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كَالْأَبِ فِي الْوِلَايَةِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى نَفْسِهِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَادِ
( وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ حُدَّ ، وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ ) لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظَنَّهُ فِي الِاسْتِمْتَاعِ فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ : ظَنَنْت أَنَّهُ يَحِلُّ لِي وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ فِي الظَّاهِرِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ
( قَوْلُهُ وَإِذَا وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَقَالَ ظَنَنْت حِلَّهَا لِي فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى قَاذِفِهِ ) وَزُفَرُ يَحُدُّهُ لِقِيَامِ الْوَطْءِ الْخَالِي عَنْ الْمِلْكِ وَشُبْهَتِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِتَأْوِيلِهِ الْفَاسِدِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ عَلَى ظَنِّ الْحِلِّ ( وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ مَوْلَاهُ ) فَقَالَ : ظَنَنْت حِلَّهَا لِي لَا يُحَدُّ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت حُرْمَتَهَا حُدَّ ( لِأَنَّ بَيْنَ هَؤُلَاءِ ) أَيْ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَزَوْجَتِهِ وَالْعَبْدِ وَأَمَةِ سَيِّدِهِ ( انْبِسَاطًا فِي الِانْتِفَاعِ فَظُنَّ مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ ) بِخِلَافِ مَا بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَأَخِيهِ وَعَمِّهِ عَلَى مَا يَأْتِي ( فَكَانَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ إلَّا أَنَّهُ زِنًا حَقِيقَةً فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ ) وَقَوْلُهُ ( وَكَذَا الْجَارِيَةُ ) أَيْ إذَا قَالَتْ الْجَارِيَةُ ظَنَنْت أَنَّ عَبْدَ مَوْلَايَ أَوْ ابْنَ مَوْلَايَ أَوْ مَوْلَاتِي يَحِلُّ لِي أَوْ زَوْجَ سَيِّدَتِي وَكَذَا فِي الْأُخْرَيَيْنِ ( وَالْفَحْلُ لَمْ يَدَّعِ ) ذَلِكَ لَا يُحَدُّ ( فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ ) وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحَدُّ الْفَحْلُ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَمَكَّنَتْ فِي التَّبَعِ وَهِيَ الْمَرْأَةُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ فِي الزِّنَا فَلَا تَكُونُ مُتَمَكِّنَةً فِي الْأَصْلِ ، بِخِلَافِ ثُبُوتِهَا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إذَا قَالَ : ظَنَنْت حِلَّهَا لِأَنَّ الثُّبُوتَ فِي الْأَصْلِ يَسْتَتْبِعُ التَّبَعَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْفِعْلَ لَمَّا كَانَ وَاحِدًا لَهُ نِسْبَةٌ إلَيْهِمَا كَانَ مَا يَثْبُت فِيهِ مَا يَتَعَلَّقُ بِكُلٍّ مِنْ طَرَفَيْهِ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَا لَوْ زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ يُحَدُّ هُوَ دُونَهَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ الصَّبِيَّةِ لَا لِلشُّبْهَةِ فِي الْفِعْلِ فَإِنَّهُ لَمْ تَثْبُتْ شُبْهَةٌ فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ إيجَابُهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِلْعُقُوبَةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ لَمَّا تَحَقَّقَتْ فِي
الْفِعْلِ نَفَتْ الْحَدَّ عَنْ طَرَفَيْهِ ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ كَانَ عَلَيْهِ الْعُقْرُ لِزَوْجَتِهِ وَغَيْرِهَا ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا لَوْ جَاءَتْ بِهِ جَارِيَةُ الزَّوْجَةِ وَغَيْرُهَا ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ أَنَّهُ وَلَدُهُ
( وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ ) لِأَنَّهُ لَا انْبِسَاطَ فِي الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَكَذَا سَائِرُ الْمَحَارِمِ سِوَى الْوِلَادِ لِمَا بَيَّنَّا .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ عَمِّهِ ) وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ قَرَابَةٍ غَيْرِ الْوِلَادِ كَالْخَالِ وَالْخَالَةِ ( وَقَالَ ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي حُدَّ ) لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي الْمِلْكِ وَلَا فِي الْفِعْلِ لِعَدَمِ انْبِسَاطِ كُلٍّ فِي مَالِ الْآخَرِ ، فَدَعْوَى ظَنِّهِ الْحِلَّ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّ وَطْأَهُ هَذِهِ لَيْسَ زِنًا مُحَرَّمًا فَلَا يُعَارِضُ مَا فِي الْمُحِيطِ مِنْ قَوْلِهِ : شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا يَنْفِيهِ مَسْأَلَةُ الْحَرْبِيِّ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فَزَنَى وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهُ حَلَالٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَيُحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ أَوَّلَ يَوْمٍ دَخَلَ الدَّارَ لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ لَا تَخْتَلِفُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَكَيْفَ يُقَالُ : إذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ أَصْلِيٌّ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حُرْمَةَ الزِّنَا لَا يُحَدُّ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الْحَدِّ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عِلْمُهُ بِالْحُرْمَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ كَانَ قَلِيلَ الْجَدْوَى أَوْ غَيْرَ صَحِيحٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا أَوْجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحُدَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي ثَبَتَ زِنَاهُ عِنْدَهُ عَرَفَ ثُبُوتَ الْوُجُوبِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِكَوْنِهِ وَاجِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ إلَّا وُجُوبُهُ عَلَى الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الزَّانِي أَنْ يَحُدَّ نَفْسَهُ وَلَا أَنْ يُقِرَّ بِالزِّنَا ، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِالْإِمَامِ ثُبُوتُهُ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى الْإِمَامِ .
هَذَا وَأُورِدَ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ أَخِيهِ وَعَمِّهِ وَنَحْوِهِمْ لَا يُقْطَعُ ، فَظَهَرَ أَنَّ بَيْنَهُمَا انْبِسَاطًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقَطْعَ مَنُوطٌ بِالْأَخْذِ مِنْ الْحِرْزِ وَدُخُولِهِ فِي بَيْتِ
هَؤُلَاءِ بِلَا حِشْمَةٍ وَاسْتِئْذَانٍ عَادَةً يَنْفِي مَعْنَى الْحِرْزِ فَانْتَفَى الْقَطْعُ .
أَمَّا الْحَدُّ فَمَنُوطٌ بِعَدَمِ الْحِلِّ وَشُبْهَتِهِ وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا
( وَمَنْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَتْ النِّسَاءُ : إنَّهَا زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ) قَضَى بِذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِالْعِدَّةِ ، وَلِأَنَّهُ اعْتَمَدَ دَلِيلًا وَهُوَ الْإِخْبَارُ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا فِي أَوَّلِ الْوَهْلَةِ فَصَارَ كَالْمَغْرُورِ ، وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً
( قَوْلُهُ وَمَنْ زُفَّتْ ) أَيْ بُعِثَتْ ( إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقَالَ النِّسَاءُ هِيَ زَوْجَتُك فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ) وَهَذِهِ إجْمَاعِيَّةٌ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ ، ثُمَّ الشُّبْهَةُ الثَّابِتَةُ فِيهَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ .
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ هَذَا الْوَطْءِ وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْوَطْءِ عَنْ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ نَسَبٌ .
فَالْأَوْجَهُ أَنَّهَا شُبْهَةُ دَلِيلٍ ، فَإِنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ : هِيَ زَوْجَتُك دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ مُبِيحٌ لِلْوَطْءِ ، فَإِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَلِذَا حَلَّ وَطْءُ الْأَمَةِ إذَا جَاءَتْ إلَى رَجُلٍ وَقَالَتْ : مَوْلَايَ أَرْسَلَنِي إلَيْك هَدِيَّةً ، فَإِذَا كَانَ دَلِيلًا غَيْرَ صَحِيحٍ فِي الْوَاقِعِ أَوْجَبَ الشُّبْهَةَ الَّتِي يَثْبُتُ مَعَهَا النَّسَبُ وَعَلَى الْمَزْفُوفَةِ الْعِدَّةُ ( قَوْلُهُ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) فَإِنَّ إحْصَانَهُ لَا يَسْقُطُ عِنْدَهُ بِهَذَا الْوَطْءِ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا عَلَى أَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ مُعْتَمَدًا دَلِيلًا وَلِذَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْمَهْرُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ وَطْئًا حَلَالًا ظَاهِرًا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ خِلَافُ الظَّاهِرِ بَقِيَ الظَّاهِرُ مُعْتَبَرًا فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ وَبِالشُّبْهَةِ سَقَطَ الْحَدُّ .
لَكِنْ سَقَطَ إحْصَانُهُ لِوُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا ، وَهَذَا التَّوْجِيهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى كَوْنِهَا شُبْهَةَ مَحَلٍّ لِأَنَّ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ الْفِعْلُ زِنًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ شُبْهَةَ اشْتِبَاهٍ أَشْكَلَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَأَطْلَقُوا أَنَّ فِيهَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَإِنْ اُعْتُبِرَ شُبْهَةَ مَحَلٍّ اقْتَضَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلِمْتهَا حَرَامًا عَلَيَّ لِعِلْمِي بِكَذِبِ النِّسَاءِ لَا يُحَدُّ وَيُحَدُّ قَاذِفًا .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَكَوْنُ الْإِخْبَارِ يُطْلِقُ الْجِمَاعَ شَرْعًا لَيْسَ هُوَ الدَّلِيلَ الْمُعْتَبَرَ فِي شُبْهَةِ الْمَحَلِّ
لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ هُوَ مَا مُقْتَضَاهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ نَحْوُ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَالْمِلْكُ الْقَائِمُ لِلشَّرِيكِ لَا مَا يُطْلَقُ شَرْعًا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ غَيْرَ أَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ الْحُكْمِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ : أَعْنِي عَدَمَ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِلْإِجْمَاعِ فِيهِ .
وَبِهَذِهِ وَالْمُعْتَدَّةِ ظَهَرَ عَدَمُ انْضِبَاطِ مَا مَهَّدُوهُ مِنْ أَحْكَامِ الشُّبْهَتَيْنِ
( وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ بَعْدَ طُولِ الصُّحْبَةِ فَلَمْ يَكُنْ الظَّنُّ مُسْتَنِدًا إلَى دَلِيلٍ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى فِرَاشِهَا غَيْرُهَا مِنْ الْمَحَارِمِ الَّتِي فِي بَيْتِهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ ، إلَّا إنْ كَانَ دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ : أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌ
( قَوْلُهُ وَمَنْ وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ قَاسُوهَا عَلَى الْمَزْفُوفَةِ بِجَامِعِ ظَنِّ الْحِلِّ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْقِطَ شُبْهَةُ الْحِلِّ وَلَا شُبْهَةَ هَاهُنَا أَصْلًا سِوَى أَنْ وَجَدَهَا عَلَى فِرَاشِهِ ، وَمُجَرَّدُ وُجُودِ امْرَأَةٍ عَلَى فِرَاشِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْحِلِّ لِيَسْتَنِدَ الظَّنُّ إلَيْهِ ( وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَنَامُ عَلَى الْفِرَاشِ غَيْرُ الزَّوْجَةِ ) مِنْ حَبَائِبِهَا الزَّائِرَاتِ لَهَا وَقَرَابَاتِهَا فَلَمْ يَسْتَنِدْ الظَّنُّ إلَى مَا يَصْلُحُ دَلِيلَ حِلٍّ ، فَكَانَ كَمَا لَوْ ظَنَّ الْمُسْتَأْجَرَةَ لِلْخِدْمَةِ وَالْمُودَعَةَ حَلَالًا فَوَطِئَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ .
قَالَ ( وَكَذَا إذَا كَانَ أَعْمَى ) لِأَنَّ الْوُجُودَ عَلَى الْفِرَاشِ كَمَا ذَكَرْنَا لَيْسَ صَالِحًا لِاسْتِنَادِ الظَّنِّ إلَيْهِ ( وَغَيْرَهُ ) مِثْلُ مَا يَحْصُلُ بِالنِّعْمَةِ وَالْحَرَكَاتِ الْمَأْلُوفَةِ فَيُحَدُّ أَيْضًا ( إلَّا إذَا دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ وَقَالَتْ أَنَا زَوْجَتُك فَوَاقَعَهَا لِأَنَّ الْإِخْبَارَ دَلِيلٌ ) وَجَازَ تَشَابُهُ النَّغْمَةِ خُصُوصًا لَوْ لَمْ تَطُلْ الصُّحْبَةُ ، وَقَيَّدَ بِقَوْلِهِ وَقَالَتْ : أَنَا زَوْجَتُك لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَقُلْهُ بَلْ اقْتَصَرَتْ عَلَى الْجَوَابِ بِنَعَمْ وَنَحْوِهِ فَوَطِئَهَا يُحَدُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَالُ مُتَوَسِّطًا فِي اطْمِئْنَانِ النَّفْسِ إلَى أَنَّهَا هِيَ
( وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَوَطِئَهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً إذَا كَانَ عَلِمَ بِذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ فَيَلْغُو كَمَا إذَا أُضِيفَ إلَى الذُّكُورِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يَكُونُ مَحَلًّا لِحُكْمِهِ ، وَحُكْمُهُ الْحِلُّ وَهِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَقْدَ صَادَفَ مَحَلَّهُ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ مَا يُقْبَلُ مَقْصُودُهُ ، وَالْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ قَابِلَةٌ لِلتَّوَالُدِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ إفَادَةِ حَقِيقَةِ الْحِلِّ فَيُورِثُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ لَا نَفْسَ الثَّابِتِ ، إلَّا أَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ
( قَوْلُهُ وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ) بِأَنْ كَانَتْ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهِ بِنَسَبٍ كَأُمِّهِ أَوْ ابْنَتِهِ ( فَوَطِئَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَزُفَرَ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْمَهْرُ وَيُعَاقَبُ عُقُوبَةً هِيَ أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْزِيرِ سِيَاسَةً لَا حَدًّا مُقَدَّرًا شَرْعًا إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا لَا حَدَّ وَلَا عُقُوبَةَ تَعْزِيرٍ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ ) وَكَذَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( يَجِبُ الْحَدُّ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ ) وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُوَسَّطَ الضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ فَيَقُولَ وَقَالَا هُمَا وَالشَّافِعِيُّ لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْعَطْفَ عَلَى ضَمِيرِ الرَّفْعِ الْمُتَّصِلِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَفْصِلَ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى قَوْلٍ وَإِلَّا فَشَاذٌّ ضَعِيفٌ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ مُحَرَّمَةٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَفِي الْكَافِي لِحَافِظِ الدِّينِ : مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ وَمُعْتَدَّتُهُ وَمُطَلَّقَتُهُ الثَّلَاثَ بَعْدَ التَّزَوُّجِ كَالْمُحَرَّمِ .
قَالَ : وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ مُخْتَلَفًا فِيهِ كَالنِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ عِنْدَ الْكُلِّ ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً أَوْ أَمَةً بِلَا إذْنِ سَيِّدِهَا أَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا ، أَمَّا عِنْدَهُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَهُمَا إذَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ : أَرَادَ بِنِكَاحِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا نِكَاحَ الْمَحَارِمِ وَالْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ وَمَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ وَمُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ وَنِكَاحَ الْخَامِسَةِ وَأُخْتِ الْمَرْأَةِ فِي عِدَّتِهَا وَالْمَجُوسِيَّةِ وَالْأَمَةِ عَلَى
الْحُرَّةِ وَنِكَاحَ الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ بِلَا إذْنِ الْمَوْلَى وَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، فَفِي كُلِّ هَذَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْت أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ وَعِنْدَهُمْ يَجِبُ إذَا عَلِمَ بِالتَّحْرِيمِ وَإِلَّا فَلَا ، ثُمَّ قَالَ : وَلَكِنَّهُمَا قَالَا فِيمَا لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَى التَّأْبِيدِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ كَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَقَدْ تَعَارَضَا حَيْثُ جَعَلَ فِي الْكَافِي الْأَمَةَ عَلَى الْحُرَّةِ وَالْمَجُوسِيَّةَ وَالْأَمَةَ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ ، وَتَزَوُّجَ الْعَبْدِ بِلَا إذْنِ السَّيِّدِ مَحَلَّ الِاتِّفَاقِ عَلَى سُقُوطِ الْحَدِّ ، وَجَعَلَهَا هَذَا الشَّارِحُ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ ، فَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ وَأَضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا سَمِعْت ، ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي عِبَارَتِهِ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيرِ ، ثُمَّ قَوْلُ حَافِظِ الدِّينِ فِي الْكَافِي فِي تَعْلِيلِ سُقُوطِ الْحَدِّ فِي تَزَوُّجِ الْمَجُوسِيَّةِ وَمَا مَعَهَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ إنَّمَا تَنْتَفِي عِنْدَهُمَا : يَعْنِي حَتَّى يَجِبَ الْحَدُّ إذَا كَانَ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلَى التَّأْبِيدِ يَقْتَضِي حِينَئِذٍ أَنْ لَا يُحَدَّ عِنْدَهُمَا فِي تَزَوُّجِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ وَمَا مَعَهَا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَإِنَّ حُرْمَتَهَا مُقَيَّدَةٌ بِبَقَاءِ نِكَاحِهَا وَعِدَّتِهَا ؛ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْمَجُوسِيَّةِ مُغَيَّاةٌ بِتَمَجُّسِهَا حَتَّى لَوْ أَسْلَمَتْ حَلَّتْ ، كَمَا أَنَّ تِلْكَ لَوْ طَلُقَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّتْ وَأَنَّهُ لَا يُحَدُّ عِنْدَهُمَا إلَّا فِي الْمَحَارِمِ فَقَطْ .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّي .
وَاَلَّذِينَ يُعْتَمَدُ عَلَى نَقْلِهِمْ وَتَحْرِيرِهِمْ مِثْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ كَذَلِكَ ذَكَرُوا ، فَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمَا أَنَّهُ يُحَدُّ فِي ذَاتِ الْمَحْرَمِ وَلَا يُحَدُّ فِي غَيْرِ ذَلِكَ ، قَالَ : مِثْلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً أَوْ خَامِسَةً أَوْ مُعْتَدَّةً .
وَعِبَارَةُ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ تُفِيدُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا فَدَخَلَ بِهَا
قَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَلَى عِلْمٍ لَمْ يُحَدَّ أَيْضًا وَيَوْجَعُ عُقُوبَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إلَى هُنَا لَفْظُهُ ، فَعُمِّمَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، ثُمَّ خَصَّ مُخَالَفَتَهُمَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ ، فَاللَّفْظُ ظَاهِرٌ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الرِّوَايَاتِ .
وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَحَارِمِ رِوَايَةً عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُضْرَبُ عُنُقُهُ ، وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَقَصَرَ ابْنُ حَزْمٍ قَتْلَهُ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ امْرَأَةَ أَبِيهِ قَصْرًا لِلْحَدِيثِ الْآتِي عَلَى مَوْرِدِهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ تُضْرَبُ عُنُقُهُ ، وَيُؤْخَذُ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ الْبَرَاءِ قَالَ : { لَقِيت خَالِي وَمَعَهُ رَايَةٌ فَقُلْت لَهُ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَاقْتُلُوهُ } وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ عَقَدَ مُسْتَحِلًّا فَارْتَدَّ بِذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَيْسَ ضَرْبَ الْعُنُقِ وَأَخْذَ الْمَالِ بَلْ ذَلِكَ لَازِمٌ لِلْكُفْرِ .
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ عَنْ { مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ جَدَّهُ مُعَاوِيَةَ إلَى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ وَيُخَمِّسَ مَالَهُ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ فَارْتَدَّ بِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَرَّسَ بِهَا وَتَعْرِيسُهُ بِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ وَطْأَهُ
إيَّاهَا ، وَغَيْرُ الْوَطْءِ لَا يُحَدُّ بِهِ فَضْلًا عَنْ الْقَتْلِ فَحَيْثُ كَانَ الْقَتْلُ كَانَ لِلرِّدَّةِ .
وَهَذَا لَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَمَّا كَانَ عَدَمُ الْحَدِّ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ كَانَ قَتْلُهُ جَائِزًا كَوْنُهُ لِوَطْئِهِ وَكَوْنُهُ لِرِدَّتِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِلرِّدَّةِ .
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِلْوَطْءِ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ يَكْفِينَا .
وَقَالُوا : جَازَ فِيهِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ أَنَّهُ لِلِاسْتِحْلَالِ ، أَوْ أَمَرَ بِذَلِكَ سِيَاسَةً وَتَعْزِيرًا .
وَجْهُ الْقَائِلِ بِالْحَدِّ أَنَّهُ وَطْءٌ فِي فَرْجٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا شُبْهَةِ مِلْكٍ وَالْوَاطِئُ أَهْلٌ لِلْحَدِّ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ فَيَجِبُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْعَقْدُ وَلَيْسَ الْعَقْدُ شُبْهَةً لِأَنَّهُ نَفْسَهُ جِنَايَةٌ هُنَا تُوجِبُ الْعُقُوبَةَ انْضَمَّتْ إلَى الزِّنَا فَلَمْ تَكُنْ شُبْهَةً كَمَا لَوْ أَكْرَهَهَا وَعَاقَبَهَا ثُمَّ زَنَى بِهَا ؛ وَمَدَارُ الْخِلَافِ أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يُوجِبُ شُبْهَةً أَمْ لَا ، فَعِنْدَهُمْ لَا كَمَا ذُكِرَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ وَزُفَرَ نَعَمْ ، وَمَدَارُ كَوْنِهِ يُوجِبُ شُبْهَةً عَلَى أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَا هُوَ مَحَلُّهُ أَوْ لَا ، فَعِنْدَهُمْ لَا لِأَنَّ مَحَلَّ الْعَقْدِ مَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ وَحُكْمُهُ الْحِلُّ ، وَهَذِهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي سَائِرِ الْحَالَاتِ فَكَانَ الثَّابِتُ صُورَةَ الْعَقْدِ لَا انْعِقَادَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا انْعِقَادَ فِي غَيْرِ الْمَحَلِّ كَمَا لَوْ عُقِدَ عَلَى ذَكَرٍ ، وَعِنْدَهُ نَعَمْ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ لَيْسَتْ لِقَبُولِ الْحِلِّ بَلْ لِقَبُولِ الْمَقَاصِدِ مِنْ الْعَقْدِ وَهُوَ ثَابِتٌ وَلِذَا صَحَّ مِنْ غَيْرِهِ عَلَيْهَا ، وَبِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ يَظْهَرُ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَارَدُوا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدَةٍ فِي الْمَحَلِّيَّةِ ، فَهُمْ حَيْثُ نَفَوْا مَحَلِّيَّتَهَا أَرَادُوا بِالنِّسْبَةِ إلَى خُصُوصِ هَذَا الْعَاقِدِ : أَيْ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِعَقْدِ هَذَا الْعَاقِدِ وَلِذَا عَلَّلُوهُ بِعَدَمِ حِلِّهَا ، وَلَا
شَكَّ فِي حِلِّهَا لِغَيْرِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لَا مَحَلِّيَّتِهَا لِلْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ هُوَ الْعَقْدُ ، وَهُوَ حَيْثُ أَثْبَتَ مَحَلِّيَّتَهَا أَرَادَ مَحَلِّيَّتَهَا لِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى خُصُوصِ عَاقِدٍ وَلِذَا عَلَّلَ بِقَبُولِهَا مَقَاصِدَهُ .
فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ أَطْلَقَ الْكُلَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ عَدَمُ مَحَلِّيَّةِ الْمَحَارِمِ لِنِكَاحِ الْمُحَرَّمِ .
فَفِي الْأُصُولِ حَيْثُ قَالُوا : إنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ مَجَازٌ عَنْ النَّفْيِ لِعَدَمِ مَحَلِّهِ ، وَفِي الْفِقْهِ كَثِيرٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَحَلُّ النِّكَاحِ أُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْمَحَلِّيَّةِ لِعَقْدِ النَّاكِحِ الْخَاصِّ .
وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَثْبَتَ مَحَلِّيَّتَهَا لِلنِّكَاحِ فِي الْجُمْلَةِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى خُصُوصِ نَاكِحٍ وَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ .
بَقِيَ النَّظَرُ فِي أَنَّ أَيُّ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي ثُبُوتِ الْمَحَلِّيَّةِ أَوْلَى كَوْنُهُ قَابِلًا لِلْمَقَاصِدِ أَوْ كَوْنُهُ حَلَالًا ، إنْ نَظَرْنَا إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَتْبَعَ الْحِلُّ قِيَامَ الْحَاجَةِ لِتُدْفَعَ بِهِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ ، أَوْ إلَى السَّمْعِ أَعْنِي مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ قَوْلُ الْكُلِّ : إنَّ الْمَيْتَةَ لَيْسَتْ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ مَعَ أَنَّهَا إنَّمَا فِيهَا عَدَمُ الْحِلِّ تَرَجَّحُوا ، وَقَدْ رُجِّحَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا } حُكِمَ بِالْبُطْلَانِ وَأَوْجَبَ الْمَهْرَ وَهُوَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَوْنُهُ لَا يَعْتَقِدُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَا يَضُرُّ لِأَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِتَأْوِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ آيِلٌ إلَى الْبُطْلَانِ بِاعْتِرَاضِ الْوَلِيِّ بِأَنْ كَانَ غَيْرَ كُفْءٍ وَالْآخَرُ تَخْصِيصُهُ بِمَا إذَا
لَمْ يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهَا كَالْأَمَةِ وَالصَّبِيَّةِ ، عَلَى هَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَهُوَ أَقْرَبُ التَّأْوِيلَيْنِ لِنُدْرَةِ فَسْخِ وَلِيٍّ بِسَبَبِ عَدَمِ كَفَاءَةِ مَنْ زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْهُ وَقَدْ حُكِمَ فِيهِ بِالْمَهْرِ إنْ دَخَلَ ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ قَالَ : الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ تَحَقُّقَ الشُّبْهَةِ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْحِلِّ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا مَحَالَةَ شُبْهَةُ الْحِلِّ لَكِنْ حِلُّهَا لَيْسَ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ وَثَبَتَ النَّسَبُ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ الْتَزَمَ ذَلِكَ .
وَعَلَى التَّسْلِيمِ فَثُبُوتُ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ أَقَلُّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ وُجُودُ الْحِلِّ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمَحَارِمِ ، وَشُبْهَةُ الْحِلِّ لَيْسَ ثُبُوتَ الْحِلِّ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الشُّبْهَةَ مَا يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَلَا ثُبُوتَ لِمَا لَهُ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَلْزَمَ عُقُوبَتَهُ بِأَشَدَّ مَا يَكُونُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُثْبِتْ عُقُوبَةً هِيَ الْحَدُّ فَعُرِفَ أَنَّهُ زِنًا مَحْضٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةً فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ .
وَمِنْ شُبْهَةِ الْعَقْدِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِيَزْنِيَ بِهَا فَفَعَلَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَيُعَزَّرُ ، وَقَالَ : هُمَا وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ : يُحَدُّ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْبُضْعُ فَصَارَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ ثُمَّ زَنَى بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ اتِّفَاقًا .
وَلَهُ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالزِّنَا الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَكِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْحَقِيقَةِ تَكُونُ مَحَلًّا لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِلطَّبْخِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُضَفْ إلَى الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فِيهِ لَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ .
وَفِي
الْكَافِي : لَوْ قَالَ أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِكَ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ، وَهَكَذَا لَوْ قَالَ : اسْتَأْجَرْتُك أَوْ خُذِي هَذِهِ الدَّرَاهِمَ لِأَطَأَك .
وَالْحَقُّ فِي هَذَا كُلِّهِ وُجُوبُ الْحَدِّ إذْ الْمَذْكُورُ مَعْنًى يُعَارِضُهُ كِتَابُ اللَّهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا } فَالْمَعْنَى الَّذِي يُفِيدُ أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا مَعَ قَوْلِهِ : أَزْنِي بِك لَا يُجْلَدُ مَعَهُ لِلَفْظَةِ الْمَهْرِ مُعَارِضٌ لَهُ
( وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يُعَزَّرُ ) لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ
( قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ) بِأَنْ أَوْلَجَ فِي مَغَابِنِ بَطْنِهَا وَنَحْوِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَا يَعُمُّ الدُّبُرَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْآتِيَةُ ( يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ ) مُحَرَّمٌ ( لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ ) فَفِيهِ التَّعْزِيرُ ، وَمِثْلُهُ مَا إذَا أَتَتْ امْرَأَةٌ امْرَأَةً أُخْرَى فَإِنَّهُمَا يُعَزَّرَانِ لِذَلِكَ
( وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُعَزَّرُ ، وَزَادَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَيُودَعُ فِي السِّجْنِ ، وَقَالَا : هُوَ كَالزِّنَا فَيُحَدُّ ) وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَقَالَ فِي قَوْلٍ يُقْتَلَانِ بِكُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ } وَيُرْوَى { فَارْجُمُوا الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ } وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ عَلَى وَجْهٍ تَمَحَّضَ حَرَامًا لِقَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مُوجِبِهِ مِنْ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ وَهَدْمِ الْجِدَارِ وَالتَّنْكِيسِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ بِاتِّبَاعِ الْأَحْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إضَاعَةُ الْوَلَدِ وَاشْتِبَاهُ الْأَنْسَابِ ، وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّاعِي إلَى الزِّنَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ أَوْ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ عِنْدَهُ لِمَا بَيَّنَّاهُ
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَتَى امْرَأَةً ) أَيْ أَجْنَبِيَّةً ( فِي الْمَوْضِعِ الْمَكْرُوهِ ) أَيْ دُبُرِهَا ( أَوْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ ) وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ ، وَلَوْ اعْتَادَ اللِّوَاطَةَ قَتَلَهُ الْإِمَامُ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ سِيَاسَةً ، أَمَّا الْحَدُّ الْمُقَدَّرُ شَرْعًا فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ وَقَالَا هُوَ كَالزِّنَا ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُفِيدُ اعْتِرَافَهُمَا بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الزِّنَا بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَا فَيُحَدُّ جَلْدًا إنْ لَمْ يَكُنْ أَحْصَنَ وَرَجْمًا إنْ أَحْصَنَ .
وَذَكَرَ فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْغُلَامِ .
أَمَّا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا حُدَّ بِلَا خِلَافٍ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا بِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ لَا يُحَدُّ إجْمَاعًا ، كَذَا فِي الْكَافِي .
نَعَمْ فِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّعْزِيرِ وَالْقَتْلِ لِمَنْ اعْتَادَهُ إنْ رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ ، لَكِنْ لِلشَّافِعِيِّ فِي عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَمَنْكُوحَتِهِ قَوْلَانِ ، وَهَلْ تَكُونُ اللِّوَاطَةُ فِي الْجَنَّةِ : أَيْ هَلْ يَجُوزُ كَوْنُهَا فِيهَا ، قِيلَ إنْ كَانَ حُرْمَتُهَا عَقْلًا وَسَمْعًا لَا تَكُونُ ، وَإِنْ كَانَ سَمْعًا فَقَطْ جَازَ أَنْ تَكُونَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ فِيهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى اسْتَبْعَدَهُ وَاسْتَقْبَحَهُ فَقَالَ { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } وَسَمَّاهُ خَبِيثَةً فَقَالَ { كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ } وَالْجَنَّةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْهُمَا ( وَقَالَ ) الشَّافِعِيُّ ( فِي قَوْلٍ : يُقْتَلَانِ ) فَفِي وَجْهٍ بِالسَّيْفِ ( بِكُلِّ حَالٍ ) أَيْ بِكْرَيْنِ كَانَا أَوْ ثَيِّبَيْنِ ، وَفِي قَوْلٍ يُرْجَمَانِ بِكُلِّ حَالٍ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ وَهُوَ الْمُصَحَّحُ مِنْ مَذْهَبِهِ يُحَدُّ جَلْدًا وَتَغْرِيبًا إنْ كَانَ بِكْرًا وَرَجْمًا إنْ أَحْصَنَ .
وَجْهُ الْقَتْلِ مَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ ، الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : إنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فَقَالَ { مَلْعُونٌ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ } وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْقَتْلَ .
وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ ، وَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ رَوَاهُ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ غَيْرُ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ الْعُمْرِيُّ ، وَهُوَ يُضَعِّفُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَبْلِ حِفْظِهِ ، وَبِسَنَدِ السُّنَنِ رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو صَدُوقٌ ، لَكِنَّهُ رَوَى عَنْ عِكْرِمَةَ مَنَاكِيرَ .
وَقَالَ النَّسَائِيّ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ : ثِقَةٌ يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } وَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ الْجَمَاعَةُ وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَسَكَتَ عَنْهُ .
وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْعُمَرِيَّ سَاقِطٌ ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ التَّرَدُّدِ فِي أَمْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقْدَمَ بِهِ عَلَى الْقَتْلِ مُسْتَمِرًّا عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ ، وَلَوْ سَلِمَ حُمِلَ عَلَى قَتْلِهِ سِيَاسَةً .
وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الزِّنَا لِأَنَّهُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي مَحَلٍّ مُشْتَهًى عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لِمُجَرَّدِ قَصْدِ سَفْحِ الْمَاءِ بَلْ أَبْلَغُ حُرْمَةً وَتَضْيِيعًا لِلْمَاءِ لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ قَدْ تَنْكَشِفُ فِي الزِّنَا بِالْعَقْدِ وَقَدْ يُتَوَهَّمُ الْوَلَدُ فِيهِ ، بِخِلَافِ اللِّوَاطَةِ فِيهِمَا فَيَثْبُتُ حُكْمُ الزِّنَا لَهُ بِدَلَالَةِ نَصِّ حَدِّ الزِّنَا لَا بِالْقِيَاسِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا وَلَا مَعْنَاهُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَدٌّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي مُوجِبِهِ : فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ التَّحْرِيقَ بِالنَّارِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يُهْدَمُ عَلَيْهِ الْجِدَارُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْقِيهِ مِنْ مَكَان مُرْتَفِعٍ مَعَ إتْبَاعِ الْأَحْجَارِ ، فَلَوْ كَانَ زِنًا فِي اللِّسَانِ أَوْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ يَخْتَلِفُوا بَلْ كَانُوا يَتَّفِقُونَ عَلَى إيجَابِ حَدِّ الزِّنَا عَلَيْهِ .
فَاخْتِلَافُهُمْ فِي مُوجِبِهِ وَهُمْ أَهْلُ اللِّسَانِ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُسَمَّى لَفْظِ الزِّنَا لُغَةً وَلَا مَعْنَاهُ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ الْقَائِلِ : مِنْ كَفِّ ذَاتِ حِرٍ فِي زِيِّ ذِي ذَكَرٍ لَهَا مُحِبَّانِ لُوطِيٌّ وَزَنَّاءٌ فَلِعَدَمِ مَعْرِفَةِ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْبَيْتُ ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ حَيْثُ قَالَ قَائِلُهُمْ وَذِكْرُ الْبَيْتِ غَلَطٌ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ بَلْ هُوَ مِنْ شِعْرِ أَبِي نُوَاسٍ مِنْ قَصِيدَتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا : دَعْ عَنْك لَوْمِي فَإِنَّ اللُّوَّمَ إغْرَاءُ وَدَاوِنِي بِاَلَّتِي كَانَتْ هِيَ الدَّاءُ وَهِيَ قَصِيدَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي دِيوَانِهِ ، وَهُوَ مُوَلَّدٌ لَا تَثْبُتُ اللُّغَةُ بِكَلَامِهِ مَعَ أَنَّهُ يَنْبَغِي تَطْهِيرُ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ عَنْ أَمْثَالِهِ .
وَأَيْضًا لَا يُثْبِتُ دَلَالَةً لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرَّمَ فِي الزِّنَا لَيْسَ إضَاعَةَ الْمَاءِ مِنْ حَيْثُ هُوَ إضَاعَتُهُ لِجَوَازِ إضَاعَتِهِ بِالْعَزْلِ بَلْ إفْضَاؤُهُ إلَى إضَاعَةِ الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ إهْلَاكٌ مَعْنًى ، فَإِنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَيْسَ لَهُ أَبٌ يُرَبِّيهِ وَالْأُمُّ بِمُفْرَدِهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ فَيَشِبُّ عَلَى أَسْوَإِ الْأَحْوَالِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَدَّعِيهِ بَعْضُ السُّفَهَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ شَرْعًا لِيَخْتَصَّ بِهِ وَيَنْفَعَهُ وَيَشْتَبِهَ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ فَيَقَعَ التَّقَاتُلُ
وَالْفِتْنَةُ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اللِّوَاطِ ( وَكَذَا هُوَ أَنْدَرُ وُقُوعًا مِنْ الزِّنَا لِانْعِدَامِ الدَّاعِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ ) عَلَى الِاسْتِمْرَارِ ، بِخِلَافِ الزِّنَا لِتَحَقُّقِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِمْرَارِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِ الزِّنَا بِصَبِيَّةٍ لَا تُشْتَهَى أَصْلًا إذْ قَلَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ ، وَلَا عِبْرَةَ بِأَوْكَدِيَّةِ الْحُرْمَةِ فِي ثُبُوتِ عَيْنِ مُوجِبِ الْآخَرِ ، وَلِذَا لَا يُحَدُّ بِشُرْبِ الْبَوْلِ الْمُجْمَعِ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَيُحَدُّ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ، فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَثْبُتَ الْحَدُّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ إلَّا إذَا كَانَ فِي الْمُسَاوِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ دُونَ الْأَعْلَى بَلْ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لَهُ زَاجِرٌ قَوِيٌّ وَقَدْ لَا إلَّا إيعَادَ عِقَابِ الْآخِرَةِ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ مَا عَنْ الصَّحَابَةِ فَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعُزَيْرِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ دَاوُد بْنِ بَكْرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ : أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا فِي بَعْضِ نَوَاحِي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ، فَجَمَعَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحَابَةَ فَسَأَلَهُمْ ، فَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلًا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : هَذَا ذَنْبٌ لَمْ يَعْصِ بِهِ إلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ ، نَرَى أَنْ نُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ قَالَ : وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي كِتَابِ الرِّدَّةِ فِي آخِرِ رِدَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا غَسَّانُ بْنُ مُضَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ قَالَ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا حَدُّ اللِّوَاطَةِ ؛ قَالَ : يُنْظَرُ إلَى أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْقَرْيَةِ فَيُرْمَى مِنْهُ مُنَكَّسًا ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ .
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا ، وَكَأَنَّ مَأْخَذَ هَذَا أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ
أُهْلِكُوا بِذَلِكَ حَيْثُ حُمِلَتْ قُرَاهُمْ وَنُكِّسَتْ بِهِمْ ، وَلَا شَكَّ فِي اتِّبَاعِ الْهَدِيمِ بِهِمْ وَهُمْ نَازِلُونَ .
وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ يُحْبَسَانِ فِي أَنْتَنِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَمُوتَا نَتِنًا .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَسْمِيَتِهَا فَاحِشَةً فِي قَوْله تَعَالَى { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } فَمَدْفُوعٌ بِأَنَّ الْفَاحِشَةَ لَا تَخُصُّ لُغَةً الزِّنَا ، قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ " إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا " أَيْ مِنْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ
( وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً لَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الزِّنَا فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً وَفِي وُجُودِ الدَّاعِي لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عَنْهُ وَالْحَامِلُ عَلَيْهِ نِهَايَةُ السَّفَهِ أَوْ فَرْطُ الشَّبَقِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ التَّحَدُّثِ بِهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
( قَوْلُهُ وَمَنْ وَطِئَ بَهِيمَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) وَكَذَا إذَا زَنَى بِمَيِّتَةٍ لِأَنَّهُ لِلزَّجْرِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الزَّجْرِ فِيمَا طَرِيقُ وُجُودِهِ مُنْفَتِحٌ سَالِكٌ .
وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ وَلَا السُّفَهَاءُ ، وَإِنْ اتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ ذَلِكَ لِغَلَبَةِ الشَّبَقِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الزَّاجِرِ لِزَجْرِ الطَّبْعِ عَنْهُ ( وَلِهَذَا لَا يَجِبُ سَتْرُهُ فِي الْبَهِيمَةِ إلَّا أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّهُ مُنْكَرٌ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ ( وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّهُ تُذْبَحُ الْبَهِيمَةُ وَتُحْرَقُ فَذَلِكَ لِقَطْعِ ) امْتِدَادِ ( التَّحَدُّثِ بِهِ ) كُلَّمَا رُئِيَتْ فَيَتَأَذَّى الْفَاعِلُ بِهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَإِذَا ذُبِحَتْ وَهِيَ مِمَّا لَا تُؤْكَلُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا إنْ كَانَ مَالِكُهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِأَجْلِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ أُكِلَتْ ، وَضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تُؤْكَلُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرْوِيِّ مَا رَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا } قُلْت لَهُ : مَا شَأْنُ الْبَهِيمَةِ قَالَ : مَا أَرَاهُ قَالَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُؤْكَلَ لَحْمُهَا أَوْ يُنْتَفَعُ بِهَا وَقَدْ عَمِلَ بِهَا مَا عَمِلَ .
وَلَعَلَّ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا هُوَ الْمُتَمَسِّكُ لِأَبِي يُوسُفَ فِي عَدَمِ أَكْلِهَا إلَّا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ الْأَصْحَابُ مِنْ قَطْعِ التَّعْيِيرِ أَقْرَبُ إلَى النَّفْسِ .
رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْبَاقُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى عَمْرٍو هَذَا ، وَأَمَّا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ أَحْمَدُ ثِقَةٌ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْحُفَّاظِ ، وَضَعَّفَ أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ بِطَرِيقٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ
رُوِيَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ : " لَيْسَ عَلَى الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ حَدٌّ " وَهُوَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ الرَّفْعُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمَا وَتَأْوِيلِهِ الْمَذْكُورِ آنِفًا ، وَمُحَالٌ أَنْ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَتْلُ ثُمَّ يُخَالِفُهُ ، وَكَذَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَلَفْظُهُ { مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ } .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو بِزِيَادَةٍ .
وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ
( وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَهُ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِانْزِجَارُ وَوِلَايَةُ الْإِمَامِ مُنْقَطِعَةٌ فِيهِمَا فَيُعَرَّى الْوُجُوبُ عَنْ الْفَائِدَةِ ، وَلَا تُقَامُ بَعْدَ مَا خَرَجَ لِأَنَّهَا لَمْ تَنْعَقِدْ مُوجِبَةً فَلَا تَنْقَلِبُ مُوجِبَةً .
( قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا ) فَأَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِهِ ( لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ) وَمَالِكٍ ( يُحَدُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِإِسْلَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ أَيْنَمَا كَانَ مَقَامُهُ ) قُلْنَا : سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُلْتَزَمٌ لِلْأَحْكَامِ ، لَكِنَّ الْحَدَّ لَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ مُلْتَزَمَهُ بِالْتِزَامِهِ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، بَلْ إنَّمَا يَتَضَمَّنُ الْتِزَامُهُ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ الْقَاضِي فَقَضَى بِإِقَامَتِهِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذَا بَلْ فِي نَفْسِ وُجُوبِ الْحَدِّ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ فَهَذَا الدَّلِيلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ .
فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ الْإِقَامَةُ عَلَى الزَّانِي مُطْلَقًا أَيْنَمَا كَانَ زِنَاهُ .
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ : امْتَنَعَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ } وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ مَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ وَلَا قُدْرَةَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا وُجُوبَ ، وَإِلَّا عُرِّيَ عَنْ الْفَائِدَةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ لِيَحْصُلَ الزَّجْرُ ، وَالْفَرْضُ أَنْ لَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا خَرَجَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْإِيجَابِ حَالَ وُجُودِهِ لَمْ يَنْقَلِبْ مُوجِبًا لَهُ حَالَ عَدَمِهِ ، لَكِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ } لَمْ يُعْلَمْ لَهُ وُجُودٌ .
وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ زَنَى أَوْ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَصَابَ بِهَا حَدًّا ثُمَّ هَرَبَ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ } ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : حَدَّثَنَا بَعْضُ أَشْيَاخِنَا عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ زَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ
قَالَ : لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ أَهْلُهَا بِالْعَدُوِّ .
قَالَ : وَحَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَإِلَى عُمَّالِهِ : أَنْ لَا تُقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى أَرْضِ الْمُصَالَحَةِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَمَنْ هَذَا الشَّيْخُ وَمَكْحُولٌ لَمْ يُدْرِكْ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا نَوْعُ انْقِطَاعٍ ، وَمُعْتَقَدُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْإِرْسَالِ ، وَأَنَّ حَذْفَ الشَّيْخِ لَا يَكُونُ مِنْ الْعَدْلِ الْمُجْتَهَدِ إلَّا لِلْعِلْمِ بِثِقَتِهِ فَلَا يَضُرُّ عَلَى رَأْيِ مُثْبِتِي الْمُرْسَلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ كَوْنِ الْمُرْسَلِ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّأْنِ وَالْعَدَالَةِ ، وَهَذَا الْأَخِيرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْن أَبِي مَرْيَمَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهِ ، وَزَادَ : لِئَلَّا تَحْمِلَهُ حَمِيَّةُ الشَّيْطَانِ أَنْ يَلْحَقَ بِالْكُفَّارِ انْتَهَى .
أَثَرٌ آخَرُ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا : حَدَّثَتَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ حُمَيْدٍ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ رُومَانٍ : أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ نَهَى أَنْ يُقَامَ عَلَى أَحَدٍ حَدٌّ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ بُسْرِ بْنِ أَرْطَاةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ } انْتَهَى .
وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ " فِي الْغَزْوِ " وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ الْأَوْزَاعِيُّ يَرَوْنَ أَنْ لَا يُقَامَ الْحَدُّ فِي الْغَزْوِ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَلْحَقَ مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِالْعَدُوِّ ، فَإِذَا رَجَعَ الْإِمَامُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ
مَعَ الْأَوْزَاعِيِّ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ ، فَمَذْهَبُهُمْ تَأْخِيرُ الْحَدِّ إلَى الْقُفُولِ ، وَبُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي أَرْطَاةَ اُخْتُلِفَ فِي صُحْبَتِهِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ يُنْكِرُونَ سَمَاعَ بُسْرٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ يَقُولُ : بُسْرُ بْنُ أَرْطَاةَ رَجُلُ سُوءٍ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَذَلِكَ لِمَا اُشْتُهِرَ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرَّةِ ا هـ .
فَلَوْ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَةُ مَنْ رَضِيَ مَا وَقَعَ عَامَ الْحَرَّةِ وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِهَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ لَوْ ثَبَتَتْ بِطَرِيقٍ مُوجِبٍ لِلْعَمَلِ مُعَلَّلَةً بِمَخَافَةِ لَحَاقِ مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ بِأَهْلِ الْحَرْبِ وَأَنَّهُ يُقَامُ إذَا خَرَجَ وَكَوْنُهُ يُقِيمُهُ إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ حَتَّى يَخْرُجُوا إلَى أَرْضِ الْمُصَالَحَةِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَا الَّذِي كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَلْ إنَّهُ إذَا صَارَ إلَى أَرْضِ الْمُصَالَحَةِ يُقِيمُ عَلَيْهِ حَدَّ الزِّنَا إذَا زَنَى .
قُلْنَا : أَظْهَرُ الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَوَّلُ ، وَلَوْ سَلِمَ احْتِمَالُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ فَلَا يَتَرَجَّحُ الثَّانِي ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ هُوَ خِلَافُ الْمَذْهَبِ مَعَ أَنَّهُ مُعَارَضَةٌ بِمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ } وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ .
قَالَ : وَرَوَيْنَاهُ بِإِسْنَادٍ مَوْصُولٍ فِي السُّنَنِ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِاحْتِجَاجِ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَأَيْضًا مُعَارِضٌ إطْلَاقَ { فَاجْلِدُوا } وَنَحْوِهِ فَيَكُونُ زِيَادَةً .
فَإِنْ
أُجِيبَ بِأَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ مَوَاضِعُ الشُّبْهَةِ فَهُوَ مَدْفُوعٌ بِأَنَّ الزِّنَا نَفْسَهُ مَأْخُوذٌ فِيهِ عَدَمُهَا فَإِنَّهُ الْوَطْءُ فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَشُبْهَتِهِ ، فَتَرْتِيبُهُ سُبْحَانَهُ إيجَابَ الْحَدِّ عَلَى الزِّنَا تَرْتِيبُ ابْتِدَاءٍ عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْأَخْبَارُ مُخَصِّصًا أَوَّلُ ، وَأَمَّا الدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ الْمَذْكُورُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ عَجْزَ الْإِمَامِ عَنْ الْإِقَامَةِ حَالَ دُخُولِ الزِّنَا فِي الْوُجُودِ يُوجِبُ أَنْ لَا فَائِدَةَ فِي الْإِيجَابِ ، إنَّمَا ذَلِكَ لَوْ عَجَزَ مُطْلَقًا فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْوُجُوبُ فِي الْحَالِ مُعَلَّقًا بِالْقُدْرَةِ ، وَلَكِنَّهُ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِهَذَا الْكَلَامِ .
وَتَصْحِيحُهُ أَنْ يُقَالَ : جَازَ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْحَالِ تَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِالْقُدْرَةِ : أَيْ إذَا قَدَرْت فَأَقِمْ عَلَيْهِ ، فَالْوُجُوبُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ وَمَوْجُودٌ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَأْكَلِ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَذَلِكَ ، وَحِينَئِذٍ جَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُمْكِنٌ لَكِنْ أَيْنَ دَلِيلُهُ ، فَإِنَّ الْآيَاتِ إنَّمَا تُفِيدُ تَنْجِيزَ الْوُجُوبِ لَا تَعْلِيقَهُ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُدْرَةَ شَرْطُ التَّكْلِيفِ فَنَعْلَمُ انْتِفَاءَ مُقْتَضَاهَا فِي الزَّانِي فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَيْنَ دَلِيلُ تَعْلِيقِ الْإِيجَابِ حَالَ زِنَا الزَّانِي فِي دَارِ الْحَرْبِ بِاقْتِدَارِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَمْ يَثْبُتْ تَعْلِيقُهُ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ تَنْجِيزُهُ .
فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ تَعْلِيقَهُ يَثْبُتُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآثَارِ الْمُفِيدَةِ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَقَامَهُ يُدْفَعُ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد وَهُوَ يُرَجِّحُ الِاحْتِمَالَ الْمُخَالِفَ لِلْمَذْهَبِ مِنْ ذَيْنِك الِاحْتِمَالَيْنِ .
وَأَيْضًا قَدْ يُقَالُ عَلَيْهِ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حَالَ الزِّنَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْإِقَامَةُ ، بَلْ إنَّمَا يَجِبُ إذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ ، فَقَبْلَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبٌ أَصْلًا .
وَفَرْضُ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ زَنَى فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بَعْدَ الْخُرُوجِ أَوْ شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ تَقَادُمٍ وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ قَادِرٌ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ إيجَابُ الْإِقَامَةِ وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ مِصْرَ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ ، بِخِلَافِ أَمِيرِ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ .
قَالَ ( وَلَوْ غَزَا مَنْ لَهُ وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ بِنَفْسِهِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَمِيرِ الْمِصْرِ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ زَنَى فِي مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِهِ فَالْقُدْرَةُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ ) بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ مِنْ الْمُعَسْكَرِ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَزَنَى ثُمَّ عَادَ إلَى الْمُعَسْكَرِ لَا يُقِيمُهُ .
وَيُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ زَنَى فِي الْعَسْكَرِ وَالْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَيَّامِ الْمُحَارَبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِلْوِلَايَةِ حِينَئِذٍ ، أَمَّا أَمِيرُ الْعَسْكَرِ وَالسَّرِيَّةِ فَلَا يُقِيمُهُ لِأَنَّهُ لَمْ تُفَوَّضْ إلَيْهِمَا الْإِقَامَةُ
( وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ أَوْ زَنَى ذِمِّيٌّ بِحَرْبِيَّةٍ يُحَدُّ الذِّمِّيُّ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحَدُّ الْحَرْبِيُّ وَالْحَرْبِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الذِّمِّيِّ ) يَعْنِي إذَا زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ ، فَأَمَّا إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ بِذِمِّيَّةٍ لَا يُحَدَّانِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحَدُّونَ كُلُّهُمْ ) وَهُوَ قَوْلُهُ الْآخَرُ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهُ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَا دَخَلَ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ كَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا فَلَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلِهَذَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا طَمِعَ فِي الْإِنْصَافِ يَلْتَزِمْ الِانْتِصَافَ ، وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَمَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ .
وَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَابِعَةٌ لَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ ، أَمَّا الِامْتِنَاعُ فِي حَقِّ التَّبَعِ لَا يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ فِي حَقِّ الْأَصْلِ .
نَظِيرُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَتَمْكِينُ الْبَالِغَةِ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْحُرُمَاتِ عَلَى مَا هُوَ الصَّحِيحُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا
بِالشَّرَائِعِ عَلَى أَصْلِنَا وَالتَّمْكِينُ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ ، وَنَظِيرُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إذَا زَنَى الْمُكْرَهُ بِالْمُطَاوِعَةِ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا تُحَدُّ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَنَا بِأَمَانٍ ) وَهُوَ الْمُسْتَأْمَنُ ( فَزَنَى بِذِمِّيَّةٍ إلَخْ ) حَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ دُونَ الْحَرْبِيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَوَّلًا : لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : عَلَيْهِمَا الْحَدُّ جَمِيعًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، فَصَارَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ تُحَدُّ الْمَزْنِيُّ بِهَا الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ يُحَدُّ كُلُّهُمْ .
وَتَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِالْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ زَنَى بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحُدَّانِ .
ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَلِفِ ، وَإِنْ زَنَى الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِالْحَرْبِيَّةِ الْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الرَّجُلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَحُدَّانِ جَمِيعًا .
وَالْأَصْلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْحَرْبِيِّ حَدٌّ مِنْ الْحُدُودِ سِوَى حَدِّ الْقَذْفِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَدُّ زِنًا وَلَا سَرِقَةٍ وَلَا شُرْبِ خَمْرٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ الْكُلُّ إلَّا حَدَّ الشُّرْبِ ، فَحَدُّ الشُّرْبِ لَا يَجِبُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ حِلَّهُ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ يَجِبُ اتِّفَاقًا لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَجِبُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَجِبُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الْتَزَمَ أَحْكَامَنَا مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالسِّيَاسَاتِ ، كَمَا أَنَّ الذِّمِّيَّ الْتَزَمَهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلِهَذَا يُحَدُّ لِلْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيُمْنَعُ مِنْ الزِّنَا وَشِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِمَا ، بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّهُ مُعْتَقِدٌ إبَاحَتَهُ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَدْخُلْ لِلْقَرَارِ بَلْ لِحَاجَةٍ يَقْضِيهَا وَيَرْجِعُ وَعَلَيْنَا أَنْ نُمَكِّنَهُ مِنْ الرُّجُوعِ بِشَرْطِهِ لَمْ يَكُنْ بِالِاسْتِئْمَانِ مُلْتَزِمًا جَمِيعَ أَحْكَامِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ ، بَلْ مَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَى تَحْصِيلِ مَقْصِدِهِ وَهُوَ حُقُوقُ الْعِبَادِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ مُلْتَزِمًا الْإِنْصَافَ وَكَفَّ الْأَذَى ، إذْ قَدْ الْتَزَمْنَا لَهُ بِأَمَانِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَالْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ مِنْ حُقُوقِهِمْ فَلَزِمَاهُ ، أَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَكَذَا الْمُغَلَّبُ فِي السَّرِقَةِ حَقُّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَصَاحِبُهُ تَعَالَى مَنَعَنَا مِنْ اسْتِيفَائِهِ عِنْدَ إعْطَاءِ أَمَانِهِ ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ شِرَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ وَالْإِجْبَارِ عَلَى بَيْعِهِمَا فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ فِي اسْتِخْدَامِهِ قَهْرًا وَإِذْلَالًا لِلْمُسْلِمِ ، وَكَذَلِكَ فِي اسْتِخْفَافِهِ بِالْمُصْحَفِ وَالزِّنَا مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عُهُودِهِمْ .
وَلِمُحَمَّدٍ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ إذَا زَنَى بِمُسْتَأْمَنَةٍ حَيْثُ يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَى الْفَاعِلِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ إذَا زَنَتْ بِمُسْتَأْمَنٍ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عِنْدَهُ عَلَيْهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الزِّنَا فِعْلُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ تَبَعٌ لِكَوْنِهَا مَحَلًّا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَامْتِنَاعُ الْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي التَّبَعِ ، بِخِلَافِ امْتِنَاعِهِ فِي التَّبَعِ لَا يُوجِبُ امْتِنَاعَهُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ أَيْ دَلِيلُهُ إذَا زَنَى الْبَالِغُ الْعَاقِلُ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ يُحَدُّ هُوَ دُونَهَا ، وَفِي تَمْكِينِ الْبَالِغَةِ الصَّبِيَّ أَوْ الْمَجْنُونَ لَا تُحَدُّ ، وَتَمْكِينُهَا إنَّمَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا إذَا مَكَّنَتْ مِنْ فِعْلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَفِعْلُ الْحَرْبِيِّ لَيْسَ مُوجِبًا لَهُ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا مُوجِبًا عَلَيْهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِعْلَ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًا لِكَوْنِهِ
مُخَاطَبًا بِالْحُرُمَاتِ كَحُرْمَةِ الْكُفْرِ وَالزِّنَا فِي حَقِّ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْعِرَاقِيِّينَ إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ حَدُّهُ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِالْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ مُنْدَفِعَةٌ عَنْهُ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ إلَّا فِيمَا الْتَزَمَهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَقَدْ مَكَّنَتْ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا لَا قُصُورَ فِيهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ عَلَيْهَا وَصَارَ كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ مُسْلِمًا فَهَرَبَ تُحَدُّ هِيَ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَصَّهُ وَتَبَعِيَّتُهَا فِي الْفِعْلِ لَا فِي حُكْمِهِ ، بِخِلَافِ تَمْكِينِهَا صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لِأَنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يُخَاطَبَا لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُمَا زِنًا فَلَمْ تُمَكِّنْ مِنْ الزِّنَا ، وَنَظِيرُهُ لَوْ زَنَى مُكْرَهٌ بِمُطَاوِعَةٍ تُحَدُّ الْمُطَاوِعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُحَدُّ
قَالَ ( وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا ) .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ
( قَوْلُهُ وَإِذَا زَنَى الصَّبِيُّ أَوْ الْمَجْنُونُ بِامْرَأَةٍ طَاوَعَتْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهَا .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَهُوَ ) أَيْ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ( رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ
( وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ .
وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَالْمَرْأَةُ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا ، إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ كَالرَّاضِيَةِ فِي مَعْنَى الْمَرْضِيَّةِ ، أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ مِنْ قَبِيحِ الزِّنَا وَهُوَ فِعْلُ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَمُؤْتَمٌّ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ .
، ( وَإِنْ زَنَى صَحِيحٌ ) أَيْ عَاقِلٌ بَالِغٌ ( بِمَجْنُونَةٍ أَوْ صَغِيرَةٍ يُجَامَعُ مِثْلُهَا حُدَّ الرَّجُلُ خَاصَّةً ) ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ الْعُذْرَ مِنْ جَانِبِهَا لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ مِنْ جَانِبِهِ فَكَذَا الْعُذْرُ مِنْ جَانِبِهِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ مِنْ جَانِبِهَا ( وَهَذَا لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ ) وَقَدْ فَعَلَتْ مَا هِيَ بِهِ زَانِيَةٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ زِنَاهَا انْقِضَاءُ شَهْوَتِهَا بِآلَتِهِ وَقَدْ وُجِدَ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَهُوَ لَيْسَ إلَّا بِذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا زَانِيَةٌ حَقِيقَةً كَوْنُهَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا ، فَلَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ زِنَاهَا لَمْ يُحَدَّ قَاذِفُهَا كَالْمَجْبُوبِ ( وَلَنَا أَنَّ فِعْلَ الزِّنَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ ) لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَخَذُوا جِنْسَ تَعْرِيفِهِ وَطْءَ الرَّجُلِ فَكَانَتْ خَارِجَةً ( وَإِنَّمَا هِيَ مَحَلٌّ وَلِهَذَا يُسَمَّى هُوَ وَاطِئًا وَزَانِيًا وَهِيَ مَوْطُوءَةً وَمَزْنِيًّا بِهَا إلَّا أَنَّهَا سُمِّيَتْ زَانِيَةً مَجَازًا تَسْمِيَةً لِلْمَفْعُولِ بِاسْمِ الْفَاعِلِ ) كَ { عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } وَ { مَاءٍ دَافِقٍ } أَيْ مُرْضَيَةٍ وَمَدْفُوقٍ ( أَوْ لِكَوْنِهَا مُسَبِّبَةً ) لِزِنَا الزَّانِي ( بِالتَّمْكِينِ فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ حِينَئِذٍ فِي حَقِّهَا بِالتَّمْكِينِ ) مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنَاهَا وَالزِّنَا فِعْلُ مَنْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ آثِمٌ بِهِ ( وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا يُنَاطُ بِهِ الْحَدُّ ) وَعَلَى هَذَا لَوْ قُلْنَا : إنَّهَا بِالتَّمْكِينِ زَانِيَةٌ حَقِيقَةً لُغَةً لَا يَضُرُّنَا لِأَنَّهَا إنَّمَا تُسَمَّى زَانِيَةً حَقِيقَةً بِالتَّمْكِينِ مِمَّا هُوَ زِنًا وَهُوَ مُنْتَفٍ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهَا زَانِيَةٌ حَقِيقَةً مَعَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا مَزْنِيٌّ بِهَا حَقِيقَةً فَيَلْزَمُ كَوْنُ إطْلَاقِ اسْمِ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِالنِّسْبَةِ إلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ حَقِيقَةً وَهُوَ بَاطِلٌ ؟ فَالْجَوَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ لَوْ كَانَ مِنْ
جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ فَإِنَّ تَسْمِيَتَهَا زَانِيَةً بِاعْتِبَارِ تَمْكِينِهَا طَائِعَةٌ لِقَضَاءِ شَهْوَتِهَا مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا وَمُزْنِيَةٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ زِنًا ، فَلَوْ مَنَعَ وَقِيلَ بَلْ تَرَتُّبُ الْحَدِّ إنَّمَا هُوَ عَلَى تَمْكِينِهَا مِنْ الْوَطْءِ الْمُفْضِي إلَى اشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ وَهُوَ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمُ لِلزِّنَا سَوَاءٌ وَقَعَ زِنًا أَوْ لَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ تَسْمِيَتَهَا زَانِيَةً حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا كَوْنُهُ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا أَنْسَبُ مِنْ كَوْنِهِ بِمَا لَيْسَ زِنًا ، وَلَوْ لَمْ يَلْزَمْ جَازَ كَوْنُهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فَدَارَ تَمْكِينُهَا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ بَيْنَ كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُوجِبٍ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِوُجُوبِ الدَّرْءِ فِي مِثْلِهِ بِذَلِكَ ، لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : كَوْنُ الزِّنَا فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ مِمَّنْ هُوَ مُخَاطَبٌ مَمْنُوعٌ بَلْ إدْخَالُ الرَّجُلِ قَدْرَ حَشَفَتِهِ قُبُلَ مُشْتَهَاةٍ حَالًا أَوْ مَاضِيًا بِلَا مِلْكٍ وَشُبْهَةٍ ، وَكَوْنُهُ بَالِغًا عَاقِلًا لِاعْتِبَارِهِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ شَرْعًا فَقَدْ مَكَّنَتْ مِنْ فِعْلٍ هُوَ زِنًا لُغَةً ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى فَاعِلِهِ حَدٌّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّفْصِيلَ بَيْنَ تَمْكِينِهَا صَبِيًّا فَلَا تُحَدُّ وَمَجْنُونًا فَتُحَدُّ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَطِئَ الرَّجُلُ يَخُصُّ الْبَالِغَ لَكِنْ لَا قَائِلَ بِالْفَصْلِ .
وَاَلَّذِي يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ قُوَّةِ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ لَا يُسَمُّونَ فِعْلَ الْمَجْنُونِ زِنًا وَلَوْ احْتَمَلَ ذَلِكَ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ احْتِيَاطٍ فِي الدَّرْءِ لَا فِي الْإِيجَابِ فَلَا تُحَدُّ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِمَّا ذَكَرْنَاهُ يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ لَوْ كَانَ تَمْكِينُ الْمَرْأَةِ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا يَمْنَعُ الْحَدَّ عَنْهَا لَاسْتَفْسَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَامِدِيَّةَ حِينَ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا هَلْ زَنَى بِك مَجْنُونٌ أَوْ صَبِيٌّ ، كَمَا أَنَّهُ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا فَقَالَ :
أَبِك جُنُونٌ حِينَ كَانَ جُنُونُهُ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ : زَنَيْت فَقَدْ اعْتَرَفَتْ بِتَمْكِينِ غَيْرِ صَبِيٍّ وَمَجْنُونٍ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِفْسَارِهَا عَنْ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَاعِزٍ فَإِنَّهُ اسْتَرَابَ أَمْرَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَلِذَا لَمْ يَسْأَلْ الْغَامِدِيَّةَ أَبِك جُنُونٌ مَعَ أَنَّهَا مِثْلُ مَاعِزٍ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ بِجُنُونِهَا .
وَأُورِدَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْعُقْرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمَلِكِ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا ، أَمَّا الْعُقْرُ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوْ الْحَدُّ كَمَا لَوْ زَنَى الصَّبِيُّ بِصَبِيَّةٍ أَوْ مُكْرَهَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَهُنَا لَا يَجِبُ .
أُجِيبَ بِالْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّ الْإِيجَابَ عَلَيْهِ هُنَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، لِأَنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ لَرَجَعَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا طَاوَعَتْهُ صَارَتْ آمِرَةً لَهُ بِالزِّنَا مَعَهَا وَقَدْ لَحِقَ الصَّبِيُّ غُرْمٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ وَصَحَّ الْأَمْرُ مِنْهَا لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَلَا يُفِيدُ الْإِيجَابُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ مُكْرَهَةً أَوْ صَبِيَّةً لَا يَرْجِعُ وَلِيُّ الصَّبِيِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِعَدَمِ صِحَّةِ أَمْرِهَا لِعَدَمِ وِلَايَتِهَا ، وَفِي الْمُكْرَهَةِ عَدَمُ الْأَمْرِ أَصْلًا فَكَانَ الْإِيجَابُ مُفِيدًا .
وَأَمَّا إيرَادُ أَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّمَا انْتَفَى الْحَدُّ عَنْ الرَّجُلِ انْتَفَى عَنْ الْمَرْأَةِ وَهِيَ مَنْقُوضَةٌ بِزِنَا الْمُكْرَهِ بِالْمُطَاوَعَةِ وَالْمُسْتَأْمَنِ بِالذِّمِّيَّةِ وَالْمُسْلِمَةِ فَوُرُودُهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ هَذِهِ قَاعِدَةً وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِيرَادِ ثُمَّ تَكَلُّفِ الدَّفْعِ
قَالَ ( وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ) وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا يُحَدُّ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ .
ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ فَقَالَ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْمُلْجِئَ قَائِمٌ ظَاهِرًا ، وَالِانْتِشَارُ دَلِيلٌ مُتَرَدِّدٌ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَصْدٍ لِأَنَّ الِانْتِشَارَ قَدْ يَكُونُ طَبْعًا لَا طَوْعًا كَمَا فِي النَّائِمِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، وَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُمَا قَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ خَوْفُ الْهَلَاكِ وَأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَلَهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَدُومُ إلَّا نَادِرًا لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِعَانَةِ بِالسُّلْطَانِ أَوْ بِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ بِنَفْسِهِ بِالسِّلَاحِ ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ ، بِخِلَافِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا الْخُرُوجُ بِالسِّلَاحِ عَلَيْهِ فَافْتَرَقَا
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَكْرَهَهُ السُّلْطَانُ حَتَّى زَنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ يُحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ ( لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ انْتِشَارِ الْآلَةِ وَهَذَا آيَةُ الطَّوَاعِيَةِ ) فَاقْتُرِنَ بِالْإِكْرَاهِ مَا يَنْفِيهِ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْفِعْلِ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ حَالَ فِعْلِهِ إيَّاهُ غَيْرَ مُكْرَهٍ فَبَطَلَ أَثَرُ الْإِكْرَاهِ السَّابِقِ وَوَجَبَ الْحَدُّ ، بِخِلَافِ إكْرَاهِ الْمَرْأَةِ عَلَى الزِّنَا فَإِنَّهُ بِالتَّمْكِينِ وَلَيْسَ مَعَ التَّمْكِينِ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَلَا تُحَدُّ إجْمَاعًا ( ثُمَّ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ الْمُكْرَهُ أَيْضًا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُلْجِئَ إلَى الْفِعْلِ قَائِمٌ ظَاهِرًا ) وَهُوَ قِيَامُ السَّيْفِ وَنَحْوِهِ ، وَالِانْتِشَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّوَاعِيَةَ بَلْ هُوَ مُحْتَمِلٌ لَهُ إذْ يَكُونُ مَعَهُ وَيَكُونُ طَبْعًا لِقُوَّةِ الْفُحُولِيَّةِ .
وَقَدْ يَكُونُ لِرِيحٍ تُسْفَلُ إلَى الْحَجَرِ حَتَّى يُوجَدَ مِنْ النَّائِمِ وَلَا قَصْدَ مِنْهُ فَلَا يُتْرَكُ أَثَرُ الْيَقِينِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ إلَى الْمُحْتَمَلِ ( فَإِنْ أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ حُدَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّنَا ، وَكَذَا عِنْدَ زُفَرَ وَأَحْمَدَ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ تَحَقَّقَ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ عِنْدَهُمَا لَكِنْ قَالَا الِانْتِشَارُ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ فَقَالَا يُحَدُّ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُحَدُّ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ ) وَالِانْتِشَارُ لَا يَسْتَلْزِمُ الطَّوَاعِيَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
قَالَ الْمَشَايِخُ : وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ، فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِالسُّلْطَانِ ، وَفِي زَمَنِهِمَا ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَيُفْتَى بِقَوْلِهِمَا وَعَلَيْهِ مَشَى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي الْإِكْرَاهِ حَيْثُ قَالَ : وَالسُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ
سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ
( وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ هِيَ : تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ بِالزِّنَا وَقَالَ الرَّجُلُ تَزَوَّجْتهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي ذَلِكَ ) لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَهُوَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ تَعْظِيمًا لِخَطَرِ الْبُضْعِ
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إلَخْ ) هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ ؛ أَحَدُهُمَا أَنْ يُقِرَّ الرَّجُلُ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ حَتَّى كَانَ إقْرَارُهُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَقَالَتْ هِيَ بَلْ تَزَوَّجَنِي أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ كَذَلِكَ بِالزِّنَا مَعَ فُلَانٍ وَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ تَزَوَّجْتُهَا لَمْ يُحَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فِي الصُّورَتَيْنِ لِأَنَّ دَعْوَى النِّكَاحِ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَبِتَقْدِيرِ صِدْقِ مُدَّعِي النِّكَاحِ مِنْهُمَا يَكُونُ النِّكَاحُ ثَابِتًا فَلَا حَدَّ ، وَبِتَقْدِيرِ كَذِبِهِ لَا نِكَاحَ فَيَجِبُ الْحَدُّ فَلَا يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ فِي صُورَتَيْ دَعْوَاهُ النِّكَاحَ وَدَعْوَاهُ الزِّنَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي صُورَةِ دَعْوَاهُ النِّكَاحَ مُعْتَرِفَةً بِأَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لِدَعْوَاهَا الزِّنَا لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ الشَّرْعُ بِسُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا مَعَ ثُبُوتِ الْوَطْءِ بِاعْتِرَافِهِمَا بِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِهَتِهِ كَانَتْ مُكَذَّبَةً شَرْعًا ، وَالْوَطْءُ لَا يَخْلُو عَنْ عَقْدٍ أَوْ عُقْرٍ فَلَزِمَ لَهَا الْمَهْرُ ، وَإِنْ رَدَّتْهُ إلَّا أَنْ تُبْرِئَهُ مِنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ الْمُقِرُّ ، فَإِنْ حُدَّ ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ النِّكَاحَ لَا مَهْرَ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُنْقَضُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ .
ثَانِيهِمَا أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعًا كَذَلِكَ أَنَّهُ زَنَى بِفُلَانَةَ وَقَالَتْ فُلَانَةُ : مَا زَنَى بِي وَلَا أَعْرِفُهُ ، أَوْ أَقَرَّتْ هِيَ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مَعَ فُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ : مَا زَنَيْت بِهَا وَلَا أَعْرِفُهَا لَا يُحَدُّ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : يُحَدُّ الْمُقِرُّ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَعَدَمُ ثُبُوتِ الزِّنَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُقِرِّ لَا يُورِثُ شُبْهَةَ الْعَدَمِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَمَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً وَسَمَّاهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَدَّ انْتَفَى فِي حَقِّ الْمُنْكَرِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِلنَّفْيِ عَنْهُ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ
الِانْتِفَاءِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِأَنَّ الزِّنَا فِعْلٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ بِهِمَا ، فَإِنْ تَمَكَّنَتْ فِيهِ شُبْهَةٌ تَعَدَّتْ إلَى طَرَفَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالزِّنَا مُطْلَقًا إنَّمَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ وَقَدْ دَرَأَ الشَّرْعُ عَنْ فُلَانَةَ وَهُوَ عَيْنُ مَا أَقَرَّ بِهِ فَيَنْدَرِئُ عَنْهُ ضَرُورَةً ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْلَقَ فَقَالَ : زَنَيْت فَإِنَّهُ ، وَإِنْ احْتَمَلَ كَذِبَهُ لَكِنْ لَا مُوجِبٌ شَرْعِيٌّ يَدْفَعُهُ ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً لِأَنَّ الزِّنَا لَمْ يَنْتَفِ فِي حَقِّهَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ النَّفْيَ وَهُوَ الْإِنْكَارُ ، حَتَّى لَوْ حَضَرَتْ وَأَقَرَّتْ أَرْبَعًا حُدَّتْ فَظَهَرَ أَنَّ الْغَيْبَةَ لَيْسَتْ مُعْتَبَرَةً ، بَلْ الِاعْتِبَارُ لِلْإِنْكَارِ وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ ، فَإِذَا أَنْكَرَتْ ثَبَتَتْ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ إنْكَارَهَا فَلَا شُبْهَةَ فَيُحَدُّ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمَا كَمَا فِي صُورَةِ دَعْوَى النِّكَاحِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَمَّا سَقَطَ بِإِنْكَارِ وَصْفِ الْفِعْلِ وَهُوَ الزِّنَا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ بِدَعْوَى النِّكَاحِ فَإِنْكَارُ أَصْلِ الْفِعْلِ أَوْلَى .
قُلْنَا : خَصَّا تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الرَّجُلِ لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، فَإِنَّهُ رَوَى { أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِالزِّنَا أَرْبَعًا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ ، فَحَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، وَلَوْ لَمْ تَدَّعِ الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ وَأَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ عَلَى الرَّجُلِ الْقَذْفَ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا
( وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ ) مَعْنَاهُ : قَتَلَهَا بِفِعْلِ الزِّنَا لِأَنَّهُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَيُوَفِّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لَمِلْكِ الْأَمَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بَعْدَ مَا زَنَى بِهَا وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمِلْكِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ يُوجِبُ سُقُوطَهُ ، كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِأَنَّهُ ضَمَانُ دَمٍ ، وَلَوْ كَانَ يُوجِبُهُ فَإِنَّمَا يُوجِبُهُ فِي الْعَيْنِ كَمَا فِي هِبَةِ الْمَسْرُوقِ لَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ لِأَنَّهَا اُسْتُوْفِيَتْ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا فَلَا يَظْهَرُ فِي الْمُسْتَوْفَى لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِهَا فَأَذْهَبَ عَيْنَهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَيَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ فِي الْجُثَّةِ الْعَمْيَاءِ وَهِيَ عَيْنٌ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً .
( قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا ) أَيْ بِفِعْلِ الزِّنَا ( فَإِنَّهُ يُحَدُّ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ) ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْجَارِيَةِ لِتَكُونَ صُورَةَ الْخِلَافِ ، فَإِنَّهُ لَوْ زَنَى بِحُرَّةٍ فَقَتَلَهَا يُحَدُّ اتِّفَاقًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ .
وَقَوْلُهُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ ) ذَكَرَهُ بِلَفْظِ عَنْ لِيُفِيدَ أَنَّهُ لَيْسَ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ عَنْهُ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا خِلَافَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَعَادَتُهُ إذَا كَانَ خِلَافُهُ ثَابِتًا ذَكَرَهُ ، وَكَذَا الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكَافِي خِلَافًا ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ خِلَافَهُ فَقَالَ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَحَيْثُ نَقَلَ قَوْلَهُ خَاصَّةً ذَكَرَهُ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي بَابِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا قَوْلَ لِمُحَمَّدٍ فِيهَا .
وَقِيلَ الْأَشْبَهُ كَوْنُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَا قَوْلَ لَهُ بِأَنْ تُوقَفَ لِذِكْرِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خَاصَّةً لِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ فِي عِدَادِ تَلَامِذَتِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ مَا قَالَهُ قَوْلًا يَنْقُلُهُ هُوَ ، وَعَلَى كَوْنِ الْخِلَافِ هَكَذَا مَشَى الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ : وَلَهُمَا أَنَّهُ ضَمَانُ قَتْلٍ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّانِي بِسَبَبِ أَنَّ قَتْلَهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ ، وَإِذَا مَلَكَهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ سَقَطَ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ مَلَكَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ قَبْلَ الْقَطْعِ حَيْثُ يَسْقُطُ ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ فِيمَا لَوْ زَنَى بِهَا ثُمَّ قَتَلَهَا أَوْ مَلَكَهَا بِالْفِدَاءِ بِأَنْ زَنَى بِجَارِيَةٍ جَنَتْ عَلَيْهِ فَدُفِعَتْ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ بِالشِّرَاءِ أَوْ النِّكَاحِ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ