كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
إيَّاهَا فَلَا يَفْتَاتُ عَلَيْهَا بِتَزْوِيجِهَا قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ رِضَاهَا بِالْخَاطِبِ ، وَيُعَضِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الثَّابِتَةُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيُّ وَمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَالْأَيِّمُ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي إثْبَاتِ الْأَحَقِّيَّةِ لِلْبِكْرِ ثُمَّ تَخْصِيصِهَا بِالِاسْتِئْذَانِ وَذَلِكَ لِمَا قُلْنَاهُ مِنْ السَّبَبِ وَبِهِ تَتَّفِقُ الرِّوَايَتَانِ ، بِخِلَافِ مَا مَشَوْا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَهُمَا وَتَخْصِيصُ الْمَنْطُوقِ وَهُوَ الْأَيِّمُ لِإِعْمَالِ الْمَفْهُومِ ، مَعَ أَنَّ بَاقِيَ نَفْسِ رِوَايَةِ الثَّيِّبِ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ الْمَفْهُومِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَصَرِيحُ الرَّدِّ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا مَرَّ فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَمَّا ذَهَبْنَا إلَيْهِ فِي تَقْرِيرِ الْحَدِيثِ خُصُوصًا وَهُوَ جَمْعٌ ظَاهِرٌ لَا بِطَرِيقِ الْحَمْلِ وَالتَّخْصِيصِ وَلَا يَدْفَعُهُ قَاعِدَةٌ لُغَوِيَّةٌ وَلَا أَصْلِيَّةٌ وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا أَخْبَرَتْ أَنَّ فَتَاةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا فَقَالَتْ : إنَّ أَبِي زَوَّجَنِي ابْنَ أَخِيهِ لِيَرْفَعَ خَسِيسَتَهُ وَأَنَا كَارِهَةٌ ، فَقَالَتْ اجْلِسِي حَتَّى يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ ، فَأَرْسَلَ إلَى أَبِيهَا فَجَعَلَ الْأَمْرَ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَجَزْتُ مَا صَنَعَ أَبِي ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُعَلِّمَ النِّسَاءَ أَنْ لَيْسَ إلَى الْآبَاءِ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ } وَهَذَا يُفِيدُ بِعُمُومِهِ أَنْ لَيْسَ لَهُ الْمُبَاشَرَةُ حَقًّا ثَابِتًا بَلْ اسْتِحْبَابٌ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ مِنْ جِهَةِ تَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهَا ذَلِكَ أَيْضًا ، وَهُوَ حَدِيثٌ حُجَّةٌ ،
وَمَا قِيلَ هُوَ مُرْسَلُ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ فَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّ سَنَدَ النَّسَائِيّ قَالَ : حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَرَّابٍ عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ كَهَمْسِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : جَاءَتْ فَتَاةٌ ، وَحَمْلُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ خِلَافُ الْأَصْلِ مَعَ أَنَّ الْعَرَبَ إنَّمَا يَعْتَبِرُونَ فِي الْكَفَاءَةِ النَّسَبَ ، وَالزَّوْجُ كَانَ ابْنَ عَمِّهَا .
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْبِكْرِ الْبَالِغَةِ إلَّا بِإِذْنِهَا ، وَكُلُّ الْمَالِ دُونَ النَّفْسِ فَكَيْفَ يَمْلِكُ أَنْ يُخْرِجَهَا قَسْرًا إلَى مَنْ هُوَ أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيْهَا وَيُمَلِّكُهُ رِقَّهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَهَابَ جَمِيعِ مَالِهَا أَهْوَنُ عَلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِمَّا يَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ .
وَأَمَّا الِاقْتِضَاءُ فَجَمِيعُ مَا فِي السُّنَّةِ مِنْ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ الْمُصَرِّحَةِ بِاسْتِئْذَانِ الْبِكْرِ وَمَنْعِ التَّنْفِيذِ عَلَيْهَا بِلَا إذْنِهَا كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { لَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ } الْحَدِيثَ ، وَسَيَأْتِي لَا يُعْقَلُ لَهُ فَائِدَةٌ إلَّا الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ اسْتِئْذَانِهَا أَنْ تُخَالِفَ ، فَلَوْ كَانَ الْإِجْبَارُ ثَابِتًا لَزِمَ ذَلِكَ وَعَرَى الْأَمْرُ بِالِاسْتِئْذَانِ عَنْ الْفَائِدَةِ بَلْ لَزِمَتْ الْإِحَالَةُ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الِاقْتِضَاءُ الْمُصْطَلَحُ قُلْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ إنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ فَظَهَرَ ظُهُورًا لَا مَرَدَّ لَهُ أَنَّ إيجَابَ اسْتِئْذَانِهَا صَرِيحٌ فِي نَفْيِ إجْبَارِهَا وَالْوِلَايَةِ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا تَحْقِيقُ مَقْصُودِ شَرْعِيَّةِ الْعَقْدِ فَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ انْتِظَامُ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ لِيَحْصُلَ النَّسْلُ وَيَتَرَبَّى بَيْنَهُمَا وَلَا يَتَحَقَّقُ
هَذَا مَعَ غَايَةِ الْمُنَافَرَةِ .
فَإِذَا عُرِفَ قِيَامُ سَبَبِ انْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ قَبْلَ الشُّرُوعِ وَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَقْدٌ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَتُهُ ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ظَاهِرًا ثُمَّ يَطْرَأُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَمْلِكُ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِقَبْضِ الْآبَاءِ أَصْدِقَةَ الْأَبْكَارِ لِيُجَهِّزُوهُنَّ بِهَا مَعَ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُعَارَضَةِ الْبَنَاتِ فِي ذَلِكَ لِآبَائِهِنَّ ، وَلِاسْتِحْيَاءِ الْبَنَاتِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ وَالِاقْتِضَاءِ فَكَانَ الْإِذْنُ مِنْهُنَّ ثَابِتًا دَلَالَةً نَظَرًا إلَى مَا ذَكَرْنَا فَعَنْ ذَلِكَ يَبْرَأُ الزَّوْجُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ نَهْيُهَا صَرِيحًا ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تُعْتَبَرُ مَعَ الصَّرِيحِ بِخِلَافِ مُتَعَلِّقِهَا .
وَمِنْ فُرُوعِ قَبْضِ الْأَبِ صَدَاقَهَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا قَبْضَ الْمُسَمَّى حَتَّى لَوْ كَانَتْ بِيضًا لَا يَلِي قَبْضَ السُّودِ وَبِالْعَكْسِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِبْدَالٌ وَلَا يَمْلِكُهُ .
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : هَذَا مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا ، وَعَنْ عُلَمَاءِ بَلْخٍ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ .
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : وَإِنْ قَبَضَ الضِّيَاعَ : يَعْنِي بَدَلَ الْمُسَمَّى لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَكَان جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ بِذَلِكَ كَمَا فِي رساتيقنا يَأْخُذُونَ بِبَعْضِ الْمَهْرِ ضِيَاعًا ، هَذَا إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً بِكْرًا ، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً جَازَ قَبْضُ الضِّيَاعِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَخْتَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَالْأَبُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ بِنْتِهِ الصَّغِيرَةِ .
وَفِي النَّوَازِلِ : وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَعَارَفُونَ قَبْضَ الضِّيَاعِ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضُ الْمَهْرِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ وَلَيْسَ شِرَاءً فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلِلْأَبِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ صَغِيرَةً لَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ الِاحْتِبَاسِ ، وَوُجُوبُ الْمَهْرِ حُكْمُ نَفْسِ
الْعَقْدِ .
وَالْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كَالْأَبِ وَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُمَا قَبْضَ الْمَهْرِ وَلَا الْأُمُّ إلَّا بِحُكْمِ الْوِصَايَةِ وَالزَّوْجَةُ صَغِيرَةٌ ، حَتَّى لَوْ قَبَضَتْ الْأُمُّ بِلَا وِصَايَةٍ فَكَبُرَتْ الْبِنْتُ لَهَا مُطَالَبَةُ الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْأُمِّ ، كَذَا ذَكَرَ .
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ زَادَ : لِلْقَاضِي قَبْضُ صَدَاقِ الْبِكْرِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً إلَّا إذَا زُفَّتْ .
وَلَوْ طَلَبَ الْأَبُ مَهْرَهَا ، أَعْنِي الْبِكْرَ الْبَالِغَةَ فَقَالَ الزَّوْجُ دَخَلْتُ بِهَا : يَعْنِي فَلَا تَمْلِكَ قَبْضَهُ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنْ حُكْمِ الْأَبْكَارِ وَقَالَ الْأَبُ بَلْ هِيَ بِكْرٌ فِي مَنْزِلِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي حَادِثًا بِلَا بَيِّنَةٍ ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ حَلِّفْهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنِّي دَخَلْتُ بِهَا قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَحْلِفَ وَهُوَ صَوَابٌ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَكَانَتْ الْمُطَالَبَةُ لِلْبِنْتِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ مُفِيدًا .
قَالَ : وَرَأَيْت فِي أَدَبِ الْخَصَّافِ بِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ ، وَلَوْ طَالَبَتْ الزَّوْجَ فَادَّعَى دَفْعَهُ لِلْأَبِ وَلَا بَيِّنَةَ غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ إنْ كَانَتْ الْبِنْتُ بِكْرًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ صُدِّقَ أَوْ ثَيِّبًا فَلَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حَالَةَ الْبَكَارَةِ فِي حَالِ وِلَايَةِ قَبْضِهِ بِخِلَافِ حَالِ الثُّيُوبَةِ ، وَلَا يُشْكِلُ عَدَمُ تَصْدِيقِهِ حَالَ الثُّيُوبَةِ إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً ، فَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً صُدِّقَ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ بَلَغَتْ فَطَلَبَتْ الْمَهْرَ فَقَالَ الزَّوْجُ دَفَعْته إلَى أَبِيك وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ وَصَدَّقَهُ الْأَبُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا الْيَوْمَ .
وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمَهْرَ مِنْ الزَّوْجِ ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِاسْتِحْقَاقِهِ الْقَبْضَ إلَّا إنْ قَالَ عِنْدَ الْقَبْضِ الْمَهْرُ أَخَذْته مِنْك عَلَى أَنْ أَبْرَأْتُك مِنْ
صَدَاقِ بِنْتِي ، فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَتْ
قَالَ ( وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ فَهُوَ إذْنٌ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا ، فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ رَضِيَتْ } وَلِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ رَاجِحَةٌ ، لِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي عَنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ لَا عَنْ الرَّدِّ ، وَالضَّحِكُ أَدَلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ السُّكُوتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَكَتْ لِأَنَّهُ دَلِيلُ السُّخْطِ وَالْكَرَاهَةِ .
وَقِيلَ إذَا ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ بِمَا سَمِعَتْ لَا يَكُونُ رِضًا ، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَمْ يَكُنْ رَدًّا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْذَنَهَا فَسَكَتَتْ إلَخْ ) ظَاهِرٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا ، وَالْمُرَادُ بِالسُّكُوتِ الِاخْتِيَارِيُّ ، فَلَوْ أَخَذَهَا سُعَالٌ أَوْ عُطَاسٌ أَوْ أَخَذَ فَمَهَا فَخَلَصَتْ فَرَدَّتْ ارْتَدَّ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ .
فِي التَّجْنِيسِ : حَتَّى لَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا فَسَكَتَتْ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ أَنَّ السُّكُوتَ رِضًا جَازَ ، وَلَوْ تَبَسَّمَتْ يَكُونُ إذْنًا فِي الصَّحِيحِ ، وَمَا حَكَاهُ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ إذَا ضَحِكَتْ كَالْمُسْتَهْزِئَةِ لَا يَكُونُ رِضًا ، وَضِحْكُ الِاسْتِهْزَاءِ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَحْضُرُهُ ، وَإِذَا بَكَتْ بِلَا صَوْتٍ لَا يَكُونُ رَدًّا اُخْتِيرَ لِلْفَتْوَى .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي ا الْبُكَاءِ أَنَّهُ رِضًا ؛ لِأَنَّهُ لِشِدَّةِ الْحَيَاءِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رُدَّ ؛ لِأَنَّ وَضْعَهُ لِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ .
وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ فِي الْبُكَاءِ وَالضَّحِكِ ، فَإِنْ تَعَارَضَتْ أَوْ أُشْكِلَ اُحْتِيطَ ، وَعَنْ هَذَا مَا اعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ دُمُوعَهَا إنْ كَانَتْ حَارَّةً فَهُوَ رَدٌّ أَوْ بَارِدَةً فَهُوَ رِضًا ، لَكِنَّهُ اعْتِبَارٌ قَلِيلُ الْجَدْوَى أَوْ عَدِيمُهُ ، إذْ الْإِحْسَاسُ بِكَيْفِيَّتَيْ الدَّمْعِ لَا يَتَهَيَّأُ إلَّا لِخَدِّ الْبَاكِي ، وَلَوْ ذَهَبَ إنْسَانٌ يُحِسُّهُ لَا يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْمَقْصُودِ وَلَيْسَ بِمُعْتَادٍ وَلَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ ، إلَّا أَنَّهُ كَذَا ذَكَرَ .
وَذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ مَسَائِلَ اعْتَبَرْت السُّكُوتَ فِيهَا رِضًا مِنْهَا هَذِهِ ، وَضَمَمْت إلَيْهَا مَا تَيَسَّرَ وَقَدْ جَمَعْتهَا فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ تَسْهِيلًا لِحِفْظِهَا : سُكُوتُ بِكْرٍ فِي النِّكَاحِ وَفِي قَبْضِ الْأَبْيَنِ صَدَاقُهَا إذْنُ قَبْضُ الْمُمَلَّكِ وَالْمَبِيعِ وَلَوْ فِي فَاسِدٍ وَإِذَا اشْتَرَى قِنُّ وَكَذَا الصَّبِيُّ وَذُو الشِّرَاءِ إذَا كَانَ الْخِيَارُ لَهُ كَذَا سَنُّوا مَوْلَى الْأَسِيرِ يُبَاعُ وَهُوَ يَرَى وَأَبُو الْوَلِيدِ إذَا انْقَضَى الزَّمَنُ وَعَقِيبَ شَقِّ الزِّقِّ أَوْ حَلِفٍ يُنْفَى بِهِ الْإِسْكَانُ إذْ ضَنُّوا وَعَقِيبَ قَوْلِ مَوَاضِعَ نُمْضِي أَوْ وَضْعِ مَالٍ ذَا لَهُ
يَرْنُو وَبُلُوغِ جَارِيَةٍ وَزَوَّجَهَا غَيْرُ الْأَبْيَنِ بِذَاكَ قَدْ مَنُّوا وَكَذَا الشَّفِيعُ وَذُو الْجَهَالَةِ فِي نَسَبٍ شَرَاهُ مَنْ بِهِ ضَغَنُ وَإِذَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ فَسَكَتْ هَذَا مَتَاعِي بِعْهُ يَا مَعْنُ وَإِذَا رَأَى مِلْكًا يُبَاعُ لَهُ وَتَصَرَّفُوا زَمَنًا فَلَمْ يَدْنُو قَوْلِي سُكُوتُ بِكْرٍ يَشْمَلُ مَا قَبْلَ النِّكَاحِ وَمَا بَعْدَهُ : أَعْنِي إذَا زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا فَسَكَتَتْ ، وَقَبْضُ الْمُمَلَّكِ يَدْخُلُ فِيهِ الْمَوْهُوبُ وَالْمُتَصَدَّقُ بِهِ إذَا قَبَضَ بِمَرْأًى مِنْ الْمُمَلَّكِ فَسَكَتَ كَانَ قَبْضًا مُعْتَبَرًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ ، وَكَذَا الْمَبِيعُ وَلَوْ فِي بَيْعٍ فَاسِدٍ إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِمَرْأًى مِنْ الْبَائِعِ فَسَكَتَ صَحَّ فَيَسْقُطُ حَقُّ حَبْسِ الْبَائِعِ إيَّاهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ بَلْ يُطَالِبُ بِالثَّمَنِ .
وَفِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ لَا يَكُونُ إذْنًا صَحِيحًا فِي الْفَاسِدِ .
وَإِذَا اشْتَرَى قِنٌّ : يَعْنِي إذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ شَيْئًا بِحَضْرَةِ سَيِّدِهِ فَسَكَتَ كَانَ إذْنًا .
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : لَكِنْ نَفْسُ مَا وَقَعَتْ الرُّؤْيَةُ فِيهِ لَا يَجُوزُ بَلْ مَا بَعْدَهُ ، وَالصَّبِيُّ إذَا اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِمَرْأًى مِنْ وَلِيِّهِ فَسَكَتَ كَالْعَبْدِ ، وَذُو الشِّرَاءِ : أَيْ الْمُشْتَرِي عَبْدًا إذَا كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فَرَأَى الْعَبْدَ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي فَسَكَتَ سَقَطَ خِيَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَرْعُ نَفَاذِ الْبَيْعِ .
وَمَوْلَى الْأَسِيرِ : أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي أُسِرَ إذَا ظَهَرَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَوَقَعَ فِي سَهْمِ مُسْلِمٍ كَانَ مَوْلَاهُ أَحَقَّ بِهِ بِالْقِيمَةِ ، فَلَوْ بَاعَهُ مِنْ آخَرَ وَمَوْلَاهُ يَرَاهُ فَسَكَتَ بَطَلَ حَقُّهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ .
وَأَبُو الْوَلِيدِ إذَا سَكَتَ وَلَمْ يَنْفِهِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّهْنِئَةِ عَلَى الْخِلَافِ فِي مِقْدَارِ زَمَنِهِ أَهُوَ الْأُسْبُوعُ أَوْ مُدَّةُ النِّفَاسِ لَزِمَهُ فَلَا يَنْتَفِي بَعْدُ ، وَالسُّكُوتُ عَقِيبَ شَقِّ رَجُلٍ زِقَّهُ حَتَّى سَالَ مَا فِيهِ لَا يَضْمَنُ الشَّاقُّ مَا سَالَ وَعَقِيبَ الْحَلِفِ عَلَى أَنْ لَا أُسْكِنَ
فُلَانًا وَفُلَانٌ سَاكِنٌ فَيَحْنَثُ ، فَإِنْ قَالَ عَقِبَهُ اُخْرُجْ فَأَبَى لَمْ يَحْنَثْ .
وَعَقِيبَ قَوْلِ مُوَاضِعٍ أَيْ رَجُلٍ وَاضَعَ غَيْرَهُ عَلَى أَنْ يَظْهَرَ بَيْعُ تَلْجِئَةٍ ثُمَّ قَالَ بَدَا لِي أَنْ أَجْعَلَهُ بَيْعًا نَافِذًا بِمِسْمَعٍ مِنْ الْآخَرِ فَسَكَتَ ثُمَّ عَقَدَ كَانَ نَافِذًا .
وَعَقِيبَ وَضْعِ رَجُلٍ مَتَاعَهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ يَكُونُ قَبُولًا لِلْوَدِيعَةِ فَيَلْزَمُهُ حِفْظُهَا وَيَضْمَنُ بِتَرْكِهِ .
وَالشَّفِيعُ إذَا بَلَغَهُ بَيْعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ فَسَكَتَ كَانَ تَسْلِيمًا ، وَذُو الْجَهَالَةِ : أَيْ مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا بِيعَ فَسَكَتَ فَهُوَ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ فَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهُ الْحُرِّيَّةَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، زَادَ الطَّحَاوِيُّ فِي اعْتِبَارِ سُكُوتِهِ رِضًا .
وَقِيلَ لَهُ قُمْ مَعَ سَيِّدِك فَقَامَ .
وَإِذَا يَقُولُ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ بِعْ مَتَاعِي فَسَكَتَ ثُمَّ بَاعَهُ بَعْدُ يَكُونُ سُكُوتُهُ قَبُولًا لِلْوَكَالَةِ فَلَا يَكُونُ بَيْعَ فُضُولِيٍّ ؛ وَلَيْسَ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ مَا فِي الْجَوَامِعِ : لَوْ اسْتَأْمَرَ بِنْتَ عَمِّهِ لِنَفْسِهِ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ فَسَكَتَتْ فَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ وَكِيلًا بِسُكُوتِهَا .
وَإِذَا رَأَى مِلْكًا لَهُ مَنْقُولًا أَوْ عَقَارًا يُبَاعُ فَسَكَتَ حَتَّى قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَتَصَرَّفَ فِيهِ زَمَانًا سَقَطَ دَعْوَاهُ إيَّاهُ ذَكَرَهُ فِي مُنْيَةِ الْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ سُكُوتَهُ عِنْدَ مُجَرَّدِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ رِضًا اعْتِرَافًا بِأَنْ لَا حَقَّ فِيهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِابْنِ أَبِي لَيْلَى .
وَاَلَّتِي زِدْتهَا مَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُفِيدُ عَدَمَ الْحَصْرِ وَهَذِهِ الْمَشْهُورَةُ الْمَحْصُورَةُ
قَالَ ( وَإِنْ ) ( فَعَلَ هَذَا غَيْرُ وَلِيٍّ ) يَعْنِي اسْتَأْمَرَ غَيْرُ الْوَلِيِّ ( أَوْ وَلِيُّ غَيْرُهُ أَوْلَى مِنْهُ ) ( لَمْ يَكُنْ رِضًا حَتَّى تَتَكَلَّمَ بِهِ ) لِأَنَّ هَذَا السُّكُوتَ لِقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا ، وَلَوْ وَقَعَ فَهُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَالِاكْتِفَاءُ بِمِثْلِهِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لِتَظْهَرَ رَغْبَتُهَا فِيهِ مِنْ رَغْبَتِهَا عَنْهُ
( قَوْلُهُ وَإِنْ فَعَلَ هَذَا ) أَيْ الِاسْتِئْذَانَ ( غَيْرُ وَلِيٍّ ) بِأَنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا ( أَوْ وَلِيُّ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ ) كَالْأَخِ مَعَ الْأَبِ ( لَمْ يَكُنْ ) سُكُوتُهَا وَلَا ضَحِكُهَا ( رِضًا ) بَلْ نُطْقُهَا بِهِ وَهَذَا يَشْمَلُ رَسُولَ الْوَلِيِّ فَأَخْرَجَهُ آخِرًا بِقَوْلِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْمَرُ رَسُولَ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَيَكُونُ سُكُوتُهَا عِنْدَ اسْتِئْذَانِهِ رِضًا .
وَعَنْ الْكَرْخِيِّ : يَكْفِي سُكُوتُهَا وَإِنْ كَانَ اسْتَأْمَرَ أَجْنَبِيًّا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْيَاءَهَا مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْهُ مَعَ الْوَلِيِّ .
قُلْنَا : السُّكُوتُ فِيهِ لَهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ قِلَّةُ الِالْتِفَاتِ إلَى كَلَامِهِ فَصَارَ مُحْتَمَلًا عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا إلَّا لِلْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِاعْتِبَارِهِ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ الْمُزَوِّجُونَ غَالِبًا فَكَانَ اعْتِبَارُهُ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إذْ لَا يُعْتَبَرُ الْمُحْتَمَلُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ حَاجَةً لِأَنَّهَا لَا تَنْطِقُ ، فَلَوْ لَمْ يَكْتَفِ بِالْمُحْتَمَلِ تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُهَا ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ عَلَى السَّوَاءِ .
وَيُنَافِيهِ قَوْلُهُ لِأَنَّ جَنْبَةَ الرِّضَا فِيهِ غَالِبٌ فَكَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَى قَوْلِهِ فَلَمْ يَقَعْ دَلَالَةً عَلَى الرِّضَا .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : وَلَوْ وَقَعَ كَانَ مُحْتَمَلًا ، ظَاهِرُ الْعِبَارَةِ : وَلَوْ وَقَعَ دَلَالَةً كَانَ مُحْتَمَلًا إنْ أَرَادَ احْتِمَالًا مُسَاوِيًا لَمْ يَصِحَّ جَعْلُهُ دَلَالَةً .
وَإِنْ أَرَادَ مَرْجُوحًا كَانَ الرِّضَا مَظْنُونًا فَهُوَ دَلَالَةٌ فَيَكُونُ كَافِيًا مُطْلَقًا لَا يَتَقَيَّدُ بِحَالَةِ كَوْنِ الْمُسْتَأْمَرِ وَلِيًّا .
فَإِنْ قِيلَ : يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ إطْلَاقُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذْنُهَا أَنْ تَسْكُتَ } وَنَحْوِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ الْمُسْتَأْمَرِ وَلِيًّا .
قُلْنَا : يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ
وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لِلْبِكْرِ لَيْسَ إلَّا الْوَلِيُّ بَلْ لَا يَخْلُصُ إلَيْهَا غَيْرُهُ .
( قَوْلُهُ وَيُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِئْمَارِ ) أَيْ يُعْتَبَرُ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا فِي الِاسْتِئْمَارِ ( تَسْمِيَةُ الزَّوْجِ عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ بِهِ الْمَعْرِفَةُ لَهَا ) إمَّا بِاسْمِهِ كَأُزَوِّجُكِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ أَوْ فِي ضِمْنِ الْعَامِّ لَا كُلِّ عَامٍّ نَحْوَ مِنْ جِيرَانِي أَوْ بَنِي عَمِّي وَهُمْ مَحْصُورُونَ مَعْرُوفُونَ لَهَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يُعَارِضُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا مُعَارِضٌ ، بِخِلَافِ : مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَوْ مِنْ رَجُلٍ ؛ لِأَنَّهُ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ يَضْعُفُ الظَّنُّ .
وَلَوْ زَوَّجَهَا بِحَضْرَتِهَا فَسَكَتَتْ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا أَوْ عَرَفَتْهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ زَوَّجَهَا بِحَضْرَتِهَا بِغَيْرِ كُفْءٍ فَسَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ رِضًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ : وَهُوَ يُوَافِقُ قَوْلَهُمَا فِي الصَّغِيرَةِ
( وَلَا تُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ هُوَ الصَّحِيحُ ) لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بِدُونِهِ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَسَكَتَتْ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ فِي السُّكُوتِ لَا يَخْتَلِفُ ، ثُمَّ الْمُخْبِرُ إنْ كَانَ فُضُولِيًّا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ أَوْ الْعَدَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ إجْمَاعًا وَلَهُ نَظَائِرُ
( قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ ) أَيْ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا ، وَقِيلَ يُشْتَرَطُ لِاخْتِلَافِ الرَّغْبَةِ بِاخْتِلَافِ الصَّدَاقِ قِلَّةً وَكَثْرَةً ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صِحَّةٌ بِدُونِهِ .
وَصَحَّحَ فِي شَرْحِ الْوَافِي أَنَّ الْمُزَوِّجَ إنْ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ لَا يُشْتَرَطُ وَإِلَّا اُشْتُرِطَ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ نَزَلَ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ تَرْبُو عَلَيْهِ ، فَإِنْ سَمَّى الْمَهْرَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا ا هـ .
وَالْأَوْجَهُ الْإِطْلَاقُ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي تَزْوِيجِهِ الصَّغِيرَةَ بِحُكْمِ الْجَبْرِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْكَبِيرَةِ الَّتِي وَجَبَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهَا وَالْأَبُ فِي ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ لَا يَصْدُرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهَا إلَّا بِرِضَاهَا ، غَيْرَ أَنَّ رِضَاهَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ عِنْدَ عَدَمِ مَا يُضْعِفُ ظَنَّ كَوْنِهِ رِضًا .
وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنْ لَا يَصِحَّ بِلَا تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ لَهَا لِجَوَازِ كَوْنِهَا لَا تَرْضَى إلَّا بِالزَّائِدِ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ ، فَمَا لَمْ تَعْلَمْ ثُبُوتَهَا لَا تَرْضَى ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ بِلَا تَسْمِيَةٍ هُوَ فِيمَا إذَا رَضِيَتْ بِالتَّفْوِيضِ وَقَنَعَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ بِدَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى السُّكُوتِ ، وَكَوْنُ الظَّاهِرِ مِنْ الْأَبِ أَنْ لَا يَتْرُكَهُ إلَّا لِمَا يَرْبُو عَلَيْهِ لَا يَقْتَضِي رِضَاهَا بِتَرْكِهِ لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ لَا تَخْتَارُ ذَلِكَ ، وَالْكَلَامُ فِي الْبِكْرِ الْكَبِيرَةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ فِيهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا هُوَ فِي الصَّغِيرَةِ ، أَمَّا الْكَبِيرَةُ فَنَفَاذُ تَزْوِيجِ الْأَبِ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَاهَا كَالْوَكِيلِ ، غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَهَا جُعِلَ دَلَالَةً شَرْعًا ، فَإِذَا عَارَضَهُ تَرْكُ التَّسْمِيَةِ أَوْ تَسْمِيَةُ النَّاقِصِ صَارَ مُحْتَمِلًا عَلَى السَّوَاءِ لِكَوْنِهِ لِلرِّضَا أَوْ لِخَوْفِ الرَّدِّ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِهِ فَلَا يَثْبُتُ الرِّضَا بِهِ ، وَفِي غَيْرِهِ لَيْسَ الِاحْتِمَالُ
مُتَسَاوِيًا بَلْ الرَّاجِحُ جَنْبَةُ الرِّضَا ، فَمَا اكْتَفَى إلَّا بِالْمَظْنُونِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا .
وَقَدْ يُقَالُ : سُكُوتُهَا إذًا لَمْ يُسَمِّ لَهَا الْوَلِيُّ مَهْرًا مَعَ عِلْمِهَا بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ رِضًا وَيَنْفُذُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا تَفْوِيضٌ وَرِضًا بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَبِكُلِّ مَهْرٍ ، لَكِنْ يُدْفَعُ بِأَنَّ عِلْمَهَا بِأَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا مَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ بِكُلِّ مَهْرٍ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ فَلَا يَلْزَمُ عِلْمُهَا .
وَفِي التَّجْنِيسِ فِي بَابِ مَا يَكُونُ رِضًا وَإِجَازَةً : إذَا ذَكَرَ الزَّوْجَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَهْرَ فَسَكَتَتْ ، إنْ وَهَبَهَا يَعْنِي إنْ فَوَّضَهَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ ، وَإِنْ زَوَّجَهَا بِمَهْرٍ مُسَمًّى لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَهَبَهَا فَتَمَامُ الْعَقْدِ بِالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةُ عَالِمَةٌ بِهِ ، وَإِذَا سَمَّى مَهْرًا فَتَمَامُهُ بِهِ أَيْضًا .
وَهُوَ فَرْعُ اشْتِرَاطِ التَّسْمِيَةِ فِي كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا ، وَيَجِبُ كَوْنُ الْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مُقَيَّدًا بِمَا إذَا عَلِمْت بِالتَّفْوِيضِ تَفْرِيعًا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ أَنَّهَا إنْ سَكَتَتْ أَوْ ضَحِكَتْ بِلَا اسْتِهْزَاءٍ أَوْ بَكَتْ بِغَيْرِ صَوْتٍ فَهُوَ رِضًا وَإِلَّا فَلَا ا هـ .
وَقَالَ ابْنُ مُقَاتِلٍ : لَا يَكُونُ السُّكُوتُ بَعْدَ الْعَقْدِ رِضًا ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَبْلَهُ رِضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الْإِجَازَةِ وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ إجَازَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ ، فَإِنَّ السُّكُوتَ عِنْدَ الِاسْتِئْمَارِ لَيْسَ مُلْزِمًا وَبَعْدَهُ إذَا بَلَغَهَا الْخَبَرُ مُلْزِمٌ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : السُّكُوتُ بَعْدَ الْعَقْدِ رَدَّ ذِكْرَهُ فِي الْبَدَائِعِ ، قَالَ : وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَالْأَصَحُّ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ وَجْهَ كَوْنِ السُّكُوتِ رِضًا لَا يَخْتَلِفُ قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ ، فَكَمَا كَانَ إذْنًا قَبْلَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى الرِّضَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بَعْدَهُ
لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا أَثَرَ لِلْفَرْقِ بِكَوْنِهِ مُلْزِمًا وَعَدَمِهِ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ أَنَّهُ مُلْزِمٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ فِي تَقَدُّمِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ بِهِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ وَقَبْلَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّزْوِيجِ مِنْ الْمُسْتَأْذِنِ .
فَإِنْ قِيلَ يُوَجَّهُ قَوْلُ ابْنِ مُقَاتِلٍ وَرِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ بِالنَّصِّ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَئِمَّةِ السِّتَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إذْنُهَا ؟ قَالَ : أَنْ تَسْكُتَ } فَهَذَا صَرِيحٌ فِي مَنْعِ النِّكَاحِ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَوْ صَرَّحَتْ بِالرِّضَا بَعْدَ الْعَقْدِ نُطْقًا جَازَ النِّكَاحُ مَعَ أَنَّهُ مُتَنَاوِلٌ ظَاهِرَ النَّهْيِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّهْيِ الْمَنْعُ عَنْ تَنْفِيذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا وَإِبْرَامُهُ قَبْلَ إذْنِهَا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْإِجَازَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَاذَا تَكُونُ ، فَقُلْنَا : دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَوْنِهَا بِمَا كَانَ الْإِذْنُ بِهِ قَبْلَهُ ، وَلَا يُعَارِضُهُ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا ، وَعَلَى هَذَا فَرَّعُوا أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْذَنَهَا فِي مُعَيَّنٍ فَرَدَّتْ ثُمَّ زَوَّجَهَا مِنْهُ فَسَكَتَتْ جَازَ عَلَى الْأَصَحِّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَلَغَهَا فَرَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ رَضِيتُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَطَلَ بِالرَّدِّ فَالرِّضَا بَعْدَ ذَلِكَ بِعَقْدٍ مَفْسُوخٌ ، وَلِذَا اسْتَحْسَنُوا التَّجْدِيدَ عِنْدَ الزِّفَافِ فِيمَا إذَا زَوَّجَ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ ، إذْ غَالِبُ حَالِهِنَّ إظْهَارُ النَّفْرَةِ عِنْدَ فَجْأَةِ السَّمَاعِ .
هَذَا وَالْأَوْجَهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الرَّدَّ الصَّرِيحَ لَا يَنْزِلُ عَنْ تَضْعِيفِ كَوْنِ ذَلِكَ السُّكُوتِ دَلَالَةَ الرِّضَا ، وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ قَدْ كُنْت قُلْتُ لَا أُرِيدُهُ وَلَمْ تَزِدْ عَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ
النِّكَاحُ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهَا عَلَى امْتِنَاعِهَا .
[ فُرُوعٌ ] وَلَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ مُسْتَوِيَانِ كُلٌّ مِنْ وَاحِدٍ فَسَكَتَتْ ؛ فَعَنْ مُحَمَّدٍ بَطَلَا كَمَا لَوْ أَجَازَتْهُمَا مَعًا وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهَا رِضًا .
وَظَاهِرُ الْجَوَابِ أَنَّهُمَا يَتَوَقَّفَانِ حَتَّى تُجِيزَ أَحَدَهُمَا بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ ، وَنَقَلَهُ فِي الْبَدَائِعِ عَنْ مُحَمَّدٍ فَعَنْهُ حِينَئِذٍ رِوَايَتَانِ .
وَلَوْ زَوَّجَهَا مِنْ رَجُلٍ فَبَلَغَهَا فَرَدَّتْ ثُمَّ قَالَتْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ بَعْدَمَا قَالَ لَهَا إنَّ أَقْوَامًا يَخْطُبُونَك : أَنَا رَاضِيَةٌ بِمَا تَفْعَلُ فَزَوَّجَهَا مِنْ الْأَوَّلِ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا إلَّا بِإِجَازَةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ كَلَامِهِ إذَا رَغِبْت عَنْ فُلَانٍ فَإِنَّ أَقْوَامًا آخَرِينَ يَخْطُبُونَك فَلَا يَنْصَرِفُ رِضَاهَا الْآنَ إلَى مَا يَعُمُّ الْأَوَّلَ ، وَهَذَا كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ إنِّي كَرِهْت فُلَانَةَ فَطَلَّقْتهَا فَزَوِّجْنِي بِامْرَأَةٍ تَرْضَاهَا فَزَوَّجَهُ الْمُطَلَّقَةَ لَا يَصِحُّ .
وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا ثُمَّ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ فَاشْتَرَى لَهُ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا فَبَلَغَهَا فَقَالَتْ لَا أُرِيدُ النِّكَاحَ فَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَقَوْلُهَا غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ قَبْلَ الْعَقْدِ رَدٌّ ، وَبَعْدَهُ إذْنٌ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ فَلَا يَجُوزُ قَبْلَ النِّكَاحِ بِالشَّكِّ وَلَا يَبْطُلُ بَعْدَهُ بِالشَّكِّ ، كَذَا فِي الْوَاقِعَاتِ .
وَقَوْلُهَا ذَلِكَ إلَيْك إذْنٌ ، وَقَوْلُهَا أَنْت أَعْلَمُ لَيْسَ بِإِذْنٍ ؛ لِأَنَّهُ تَعْرِيبُ قَوْلِهَا أَوْ يُقَارِبُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ " توبه دان " وَلَوْ اسْتَأْذَنَهَا فَقَالَتْهُ لَا يَكُونُ إذْنًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّعْرِيضِ لِعَدَمِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ .
وَحَقِيقَةُ توبه دان أَنْت بِالْمَصْلَحَةِ أَخْبَرُ أَوْ بِالْأَحْسَنِ أَعْلَمُ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا ذَلِكَ إلَيْك فَإِنَّهُ إذْنٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُذْكَرُ لِلتَّوْكِيلِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَسْأَلَةَ : غَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيَّ مُشْكِلَةٌ
، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ قَوْلِهِ لَا يَبْطُلُ بَعْدَهُ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بَعْدَ الصِّحَّةِ وَهِيَ بَعْدَ الْإِذْنِ .
( قَوْلُهُ وَلَهُ نَظَائِرُ ) كَإِخْبَارِ الْوَكِيلِ بِالْعَزْلِ وَالْمَأْذُونِ بِالْحَجْرِ وَالْمَوْلَى بِجِنَايَةِ عَبْدِهِ لِيَكُونَ بَيْعُهُ وَإِعْتَاقُهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ وَالشَّفِيعُ يَبِيعُ مَا يَشْفَعُ فِيهِ وَبِفَسْخِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَوُجُوبِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يُهَاجِرْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا لَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقًا وَلَوْ فَاسِقًا أَوْ عَبْدًا ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ فَإِخْبَارُهُ كَإِخْبَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ فُضُولِيًّا فَعَلَى الْخِلَافِ عِنْدَهُ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْحُكْمِ الْعَدَدُ أَوْ عَدَالَةُ الْوَاحِدِ ، فَلَوْ أَخْبَرَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ إلَّا بِاثْنَيْنِ أَوْ عَدَالَةِ الْوَاحِدِ
( وَلَوْ اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ } وَلِأَنَّ النُّطْقَ لَا يُعَدُّ عَيْبًا مِنْهَا وَقَلَّ الْحَيَاءُ بِالْمُمَارَسَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ النُّطْقِ فِي حَقِّهَا
( قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْذَنَ الثَّيِّبَ ) أَيْ الْكَبِيرَةَ ، أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَلَا اسْتِئْذَانَ فِي حَقِّهَا أَصْلًا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا بِالْقَوْلِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ } ) وَلَا تَكُونُ الْمُشَاوَرَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ ؛ لِأَنَّهَا طَلَبُ الرَّأْيِ ، ثُمَّ هِيَ مُفَاعَلَةٌ فَتَقْتَضِي وُجُودَهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمِ وَالدَّلِيلِ نَظَرٌ .
أَمَّا الدَّلِيلُ فَلِعَدَمِ دَلَالَتِهِ عَلَى لُزُومِ الْقَوْلِ .
سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُشَاوَرَةَ طَلَبُ الرَّأْيِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي إفَادَةِ الرَّأْيِ فِعْلُ اللِّسَانِ بَلْ قَدْ يُفَادُ بِغَيْرِهِ وَلُزُومُ الْقَوْلِ فِي حَقِّ الطَّالِبِ ضَرُورِيٌّ لَا مَفْهُومُ اللُّغَةِ ، وَحِينَئِذٍ فَكَوْنُ الْمُشَاوَرَةِ تَسْتَدْعِي جَوَابًا بِاللَّفْظِ مَمْنُوعٌ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ السَّابِقِ { لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ } وَالْأَمْرُ يَكُونُ بِالْقَوْلِ لَا بِغَيْرِهِ ، وَمُنِعَ بِمَا فِي السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ حَقِيقَتِهِ هُنَا بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ { وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَيُوجَدُ مِثْلُهَا فِي الثَّيِّبِ فَتَجِبُ حَقِيقَتُهُ .
وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا } لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُهُ وَهُوَ النَّظَرُ الثَّانِي ، بَلْ إمَّا بِهِ كَنَعَمْ أَوْ رَضِيتُ أَوْ بَارَكَ اللَّهُ لَنَا أَوْ أَحْسَنْتَ ، وَبِالدَّلَالَةِ كَطَلَبِ الْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ أَوْ تَمْكِينِهَا مِنْ الْوَطْءِ وَقَبُولِ التَّهْنِئَةِ وَالضَّحِكِ سُرُورًا لَا اسْتِهْزَاءً ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا ، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ لَا بُدَّ فِي حَقِّهَا مِنْ دَلَالَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مُجَرَّدِ السُّكُوتِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ ، إلَّا التَّمْكِينَ
فَيَثْبُتُ بِدَلَالَةِ نَصِّ إلْزَامِ الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ الْقَوْلِ .
( وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ فَهِيَ فِي حُكْمِ الْأَبْكَارِ ) لِأَنَّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا أَوَّلُ مُصِيبٍ لَهَا وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ وَالْبُكْرَةُ وَلِأَنَّهَا تَسْتَحْيِي لِعَدَمِ الْمُمَارَسَةِ ( وَلَوْ زَالَتْ ) بَكَارَتُهَا ( بِزِنًا فَهِيَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا لِأَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً لِأَنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ وَالْمَثَابَةُ وَالتَّثْوِيبُ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّاسَ عَرَفُوهَا بَكْرًا فَيُعَيِّبُونَهَا بِالنُّطْقِ فَتَمْتَنِعُ عَنْهُ فَيُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا كَيْ لَا تَتَعَطَّلَ عَلَيْهَا مَصَالِحُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَظْهَرَهُ حَيْثُ عَلَّقَ بِهِ أَحْكَامًا ، أَمَّا الزِّنَا فَقَدْ نُدِبَ إلَى سَتْرِهِ ، حَتَّى لَوْ اُشْتُهِرَ حَالُهَا لَا يُكْتَفَى بِسُكُوتِهَا
( قَوْلُهُ وَإِذَا زَالَتْ بَكَارَتُهَا إلَخْ ) أَيْ إذَا زَالَتْ بِوَثْبَةٍ أَوْ حَيْضَةٍ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ تَعْنِيسٍ وَهُوَ أَنْ تَصِيرَ عَانِسًا : أَيْ نَصَفًا لَمْ تَتَزَوَّجْ ، أَوْ خَرْقَ اسْتِنْجَاءٍ أَوْ عُودٍ أَوْ حِمْلٍ ثَقِيلٍ تُزَوَّجُ كَالْأَبْكَارِ اتِّفَاقًا ، وَكَذَا إذَا فَارَقَهَا الزَّوْجُ لِجَبٍّ أَوْ عُنَّةٍ أَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَوْ بَعْدَ الْخَلْوَةِ ، وَهَذَا مِمَّا تُخَالِفُ حُكْمَ الْخَلْوَةِ وَالدُّخُولِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا بِكْرٌ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهَا لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ ، وَلِهَذَا لَوْ أَوْصَى بِأَبْكَارِ بَنِي فُلَانٍ دَخَلَتْ هَذِهِ وَمَنَعَ بِالْجَارِيَةِ تُبَاعُ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ حَيْثُ تُرَدُّ إذَا وُجِدَتْ زَائِلَةَ الْبَكَارَةِ بِوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا ، فَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا لَمْ تُرَدَّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِكْرَ يُقَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ ، وَمِنْهُ الْبَاكُورَةُ لِأَوَّلِ الثِّمَارِ وَالْبُكْرَةُ لِأَوَّلِ النَّهَارِ ، وَعَلَى الْعَذْرَاءِ وَهِيَ أَخَصُّ أَوْ هِيَ مَنْ لَمْ يُصِبْهَا مُصِيبٌ وَمِنْ أَفْرَادِهِ قَائِمَةُ الْعُذْرَةِ فَهُوَ مُتَوَاطِئٌ ، وَحُمِلَ عَلَى هَذَا الْفَرْدُ فِي الْبَيْعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُشَاحَحَةِ فَتُرَدُّ لِفَوَاتِ الْعُذْرَةِ وَهِيَ تِلْكَ الْجِلْدَةُ .
وَعَلَى الْأَعَمِّ الْأَوْسَعِ فِي النِّكَاحِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَشِدَّةِ التَّثَبُّتِ حَتَّى لَزِمَ مِنْ الْهَازِلِ وَالْمُكْرَهِ وَبِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إذَا اعْتَرَفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّ زَوَالَهَا بِوَثْبَةٍ لَا تُرَدُّ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ إرَادَةُ الْعُذْرَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْبَكَارَةِ فِي الْبَيْعِ فَيَتَقَيَّدُ بِهَا .
وَأَيْضًا لَوْ أَوْصَى لِأَبْكَارِ بَنِي فُلَانٍ دَخَلَتْ هَذِهِ .
وَأَيْضًا الِاسْتِحْيَاءُ قَائِمٌ وَأَنَّهَا عِلَّةٌ مَنْصُوصَةٌ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي مَوَاضِعِ وُجُودِهَا بِالنَّصِّ ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ الِاسْتِحْيَاءُ حِكْمَةٌ نُصَّ عَلَيْهَا لَا يُنَاطُ الْحُكْمُ عَلَيْهَا لِعَدَمِ انْضِبَاطِهَا ، وَلِذَا لَوْ فُرِضَ
أَنَّ اسْتِحْيَاءَ مَنْ زَالَتْ بَكَارَتُهَا بِزِنًا أَشَدُّ مِنْ الْعَذْرَاءِ لَا تُزَوَّجُ كَالْبِكْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الْمَقْصُودَةُ مِنْ شَرْعِ الْحُكْمِ لَا يُنَاطُ بِهَا إذَا كَانَ فِيهَا مَرَاتِبُ مُتَفَاوِتَةٌ أَوْ خَفَاءٌ فِي تَحَقُّقِهَا فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ ، وَلَا يُنَاطُ إلَّا بِظَاهِرٍ ضَابِطٍ لِكُلِّ مَرْتَبَةٍ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمَظِنَّةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إلَى الْحِكْمَةِ وُجِدَتْ أَوْ عُدِمَتْ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هُنَا حَيَاءُ الْبِكْرِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْضَبِطُ اتَّحَدَ الْحَاصِلُ إذْ يَسْتَلْزِمُ قِيَامَ الْبَكَارَةِ فِي ثُبُوتِ الْحُكْمِ ، وَإِنْ زَالَتْ بِزِنًا مَشْهُورٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ زُوِّجَتْ كَالثَّيِّبَاتِ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ زَالَتْ بِزِنًا غَيْرِ مَشْهُورٍ فَهُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ ، فَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ تُزَوَّجُ كَالثَّيِّبِ وَعِنْدَهُ كَالْبِكْرِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهَا ثَيِّبٌ حَقِيقَةً فَإِنَّ مُصِيبَهَا عَائِدٌ إلَيْهَا ، وَمِنْهُ الْمَثُوبَةُ ؛ لِأَنَّهَا جَزَاءُ عَمَلِهِ يَعُودُ إلَيْهِ ، وَالْمَثَابَةُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ حَتَّى تَدْخُلَ فِي الْوَصِيَّةِ لِلثَّيِّبَاتِ مِنْ بَنَاتِ فُلَانٍ .
وَلَهُ أَنَّهَا عُرِفَتْ بِكْرًا فَتَمْتَنِعُ عَنْ النُّطْقِ مَخَافَةَ أَنْ يُعْلَمَ زِنَاهَا حَيَاءً مِنْ ظُهُورِهِ ، وَذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ حَيَائِهَا بِكْرًا مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فَيَثْبُتُ الْجَوَازُ بِدَلَالَةِ نَصِّ سُكُوتِ الْبِكْرِ ، وَهَذَا يُفِيدُ لَوْ كَانَ الْحَيَاءُ مُطْلَقًا هُوَ الْعِلَّةُ لَكِنَّهُ حَيَاءُ الْبِكْرِ الصَّادِرِ عَنْ كَرَمِ الطَّبِيعَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ .
وَبِهِ يَنْدَفِعُ جَوَابُ مَا أَوْرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ ، وَالثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا } مِنْ أَنَّهُ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الثَّيِّبُ الْمَجْنُونَةُ وَالْأَمَةُ فَيُخَصُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ جَعْلِ الشَّارِعِ الْحَيَاءَ عِلَّةً وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْمُزَنِيَّةِ ، وَنَفْسُ الْمُجِيبِ صَرَّحَ
بَعْدَهُ فِي مَسْأَلَةِ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ عَلَى الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ بِأَنَّ الْأَيِّمَ مَنْ لَا زَوْجَ لَهَا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا بَعْدَمَا نَقَلَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ لَوْ أَوْصَى لِأَيَامَى بَنِي فُلَانٍ لَا تَدْخُلُ الْأَبْكَارُ وَصَحَّحَ دُخُولَهُنَّ كَقَوْلِ الْكَرْخِيِّ ا هـ .
وَالْأَوْلَى أَنَّ الْفَرْضَ أَنَّ الزِّنَا غَيْرُ مَشْهُورٍ ، فَفِي إلْزَامِهَا النُّطْقَ دَلِيلُ الْمَنْعِ مِنْ إشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَالْمَنْعُ يُقَدَّمُ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُعْمَلُ دَلِيلُ نُطْقِ الثَّيِّبِ فِيمَا وَرَاءَ هَذِهِ ، وَأَيْضًا الظَّاهِرُ مِنْ مُرَادِ الشَّارِعِ مِنْ الْبِكْرِ الْمُعْتَبَرِ سُكُوتُهَا رِضَا الْبِكْرِ ظَاهِرًا كَمَا هُوَ فِي أَمْثَالِهِ لَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلِذَا لَمْ يُوجِب عَلَى الْوَلِيِّ اسْتِكْشَافَ حَالِهَا عِنْدَ اسْتِئْذَانِهَا ، أَهِيَ بِكْرٌ الْآنَ لِيَكْتَفِيَ بِسُكُوتِهَا أَمْ لَا ؟ اكْتَفَى بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ خِلَافًا ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي ثُيُوبَةٍ بِزِنًا لَمْ يَظْهَرْ فَيَجِبُ كَوْنُهَا بِكْرًا شَرْعًا ، وَلِذَا قُلْنَا لَوْ ظَهَرَ لَا يَكْفِي سُكُوتُهَا
( وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك النِّكَاحُ فَسَكَتَتْ وَقَالَتْ رَدَدْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ السُّكُوتَ أَصْلٌ وَالرَّدَّ عَارِضٌ ، فَصَارَ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يَدَّعِي لُزُومَ الْعَقْدِ وَتَمَلُّكَ الْبُضْعِ وَالْمَرْأَةُ تَدْفَعُهُ فَكَانَتْ مُنْكِرَةً ، كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ اللُّزُومَ قَدْ ظَهَرَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا ثَبَتَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، وَسَتَأْتِيك فِي الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
( قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ بَلَغَك إلَخْ ) صُورَتُهَا : ادَّعَى عَلَى بِكْرٍ بَالِغَةٍ أَنَّ وَلِيَّهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ قَبْلَ اسْتِئْذَانِهَا فَلَمَّا بَلَغَهَا سَكَتَتْ وَقَالَتْ بَلْ رَدَدْت فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْكَلَامِ .
وَنَظِيرُ هَذَا الْخِلَافِ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا قَالَ سَيِّدُ الْعَبْدِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ قَوْلُ الْعَبْدِ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَبْسُوطِ : إنَّ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِنَاءٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ الْعَبْدِ إذْ لَيْسَ كَوْنُ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مَبْنَى الْخِلَافِ فِي الْآخَرِ بِأَوْلَى مِنْ الْقَلْبِ بَلْ الْخِلَافُ فِيهِمَا مَعًا ابْتِدَاءً .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِيهِمَا التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ الْمُتَبَادَرِ وَهُوَ عَدَمُ الدُّخُولِ وَعَدَمُ الْكَلَامِ قِيَاسًا عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إذَا ادَّعَى بَعْدَ مُدَّةِ الْخِيَارِ رَدَّ الْبَيْعِ قَبْلَ مُضِيِّهَا وَقَالَ الْبَائِعُ بَلْ سَكَتَ حَتَّى انْقَضَتْ فَإِنَّ الْقَوْلَ لِلْبَائِعِ اتِّفَاقًا لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ ، وَالشَّفِيعُ إذَا قَالَ عَلِمْت بِالْبَيْعِ أَمْسِ وَطَلَبْت الشُّفْعَةَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ سَكَتَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ، أَمَّا لَوْ قَالَ طَلَبْت الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمْت بِالْبَيْعِ فَالْقَوْلُ لَهُ ، وَالْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةٌ مِنْ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ إذَا قَالَتْ بَعْدَ الْبُلُوغِ كُنْت رَدَدْت حِينَ بَلَغَنِي الْخَبَرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ حِينَ بَلَغْت وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَهُ .
وَعِنْدَنَا الْقَوْلُ لِمَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الظَّاهِرُ هُوَ الْأَصْلُ بِحَسَبِ مَا يَتَبَادَرُ أَوْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى ، وَلَا يَخْفَى تَرَجُّحُ هَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ ادَّعَى بِدَعْوَاهُ سُكُوتَهَا تَمَلُّكَ بُضْعِهَا مِنْ غَيْرِ
ظَاهِرٍ مَعَهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ، وَالظَّاهِرُ الِاسْتِمْرَارُ عَلَى الْحَالَةِ الْمُتَيَقَّنَةِ مِنْ عَدَمِ وُرُودِ مِلْكٍ عَلَيْهَا الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ ، فَكَانَتْ هِيَ مُتَمَسِّكَةً بِأَصْلِ مَعْنًى هُوَ الظَّاهِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ لَهَا كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَالْمُودِعِ يُنْكِرُ فَإِنَّ الْقَوْلَ لَمُدَّعِي الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ الظَّاهِرِ وَهُوَ فَرَاغُ ذِمَّتِهِ لِكَوْنِهِ ظَاهِرًا لَا لِكَوْنِهِ أَصْلًا ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ ثَبَتَ صَحِيحًا فِي الْأَصْلِ وَقَدْ لَزِمَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا فَالتَّمَسُّكُ بِعَدَمِهِ تَمَسُّكٌ بِالظَّاهِرِ ، وَكَذَا الْمُزَوَّجَةُ صَغِيرَةً تَدَّعِي زَوَالَ مِلْكِهِ بَعْدَمَا نَفَذَ عَلَيْهَا حَالِ صِغَرِهَا يَقِينًا وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَمِثْلُهُ الشَّفِيعُ .
ثُمَّ إنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى سُكُوتِهَا عَمِلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ عَلَى النَّفْيِ بَلْ عَلَى حَالَةٍ وُجُودِيَّةٍ فِي مَجْلِسٍ خَاصٍّ يُحَاطُ بِطَرَفَيْهِ ، أَوْ هُوَ نَفْيٌ يُحِيطُ بِهِ الشَّاهِدُ فَيَقْبَلُ ، كَمَا لَوْ ادَّعَتْ أَنَّ زَوْجَهَا تَكَلَّمَ بِمَا هُوَ رِدَّةٌ فِي مَجْلِسٍ فَأَقَامَهَا عَلَى عَدَمِ التَّكَلُّمِ فِيهِ يُقْبَلُ ، وَكَذَا إذَا قَالَ الشُّهُودُ كُنَّا عِنْدَهَا وَلَمْ نَسْمَعْهَا تَتَكَلَّمُ ثَبَتَ سُكُوتُهَا بِذَلِكَ ، كَذَا فِي الْجَوَامِعِ .
وَإِنْ أَقَامَاهَا فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ : أَعْنِي الرَّدَّ ، فَإِنَّهُ زَائِدٌ عَلَى السُّكُوتِ ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهَا رَضِيَتْ أَوْ أَجَازَتْ حِينَ عَلِمَتْ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْإِثْبَاتِ وَزِيَادَةِ بَيِّنَتِهِ بِإِثْبَاتِ اللُّزُومِ .
كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ لِلتُّمُرْتَاشِيِّ ، وَكَذَا هُوَ فِي غَيْرِ نُسْخَةٍ مِنْ الْفِقْهِ ، لَكِنْ فِي الْخُلَاصَةِ نَقْلًا عَنْ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : لَوْ أَقَامَ الْأَبُ أَوْ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِجَازَةِ وَالْمَرْأَةُ عَلَى الرَّدِّ فَبَيِّنَتُهَا أَوْلَى ، فَتَحَصَّلُ فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ السُّكُوتَ لَمَّا كَانَ مِمَّا تَتَحَقَّقُ الْإِجَازَةُ بِهِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالْإِجَازَةِ كَوْنُهَا بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى السُّكُوتِ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِذَلِكَ فَلَمْ يَجْزِمْ بِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي الْإِثْبَاتِ .
وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَوْ قَالَتْ لَمْ أُجْزِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا إنْ كَانَتْ مُكْرَهَةً فَحِينَئِذٍ الْقَوْلُ لَهَا لِظُهُورِ دَلِيلِ السَّخَطِ دُونَ الرِّضَا ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا قَوْلُ وَلِيِّهَا بِالرِّضَا ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ بُلُوغِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِي لُزُومِهِ أَيْضًا كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ بَيِّنَةٌ تَذْهَبُ مِنْ عِصْمَتِهِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ تَلْزَمُ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا ، فَإِنْ نَكَلَتْ بَقِيَ النِّكَاحُ عِنْدَهُمَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، وَزِيدَ عَلَيْهَا دَعْوَى الْأَمَةِ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَجَمَعْتهَا فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ : نِكَاحٌ وَفَيْئَةُ إيلَائِهِ وَرِقٌّ وَرَجْعُ وَلَاءِ نَسَبْ وَدَعْوَى الْإِمَاءِ أُمُومِيَّةً فَلَيْسَ بِهَا مِنْ يَمِينٍ وَجَبْ وَسَيَأْتِي فِي الدَّعْوَى صُوَرُهَا ، وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِيهَا .
وَقِيلَ يَتَأَمَّلُ الْقَاضِي فِي حَالِ الْمُدَّعِي ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ التَّعَنُّتُ قَضَى بِقَوْلِهِ وَإِلَّا بِقَوْلِهِمَا .
وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ زَوَّجَهُ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي الْكَبِيرَةِ لَا اعْتِبَارَ بِالْإِقْرَارِ فِيهِمَا .
وَاسْتَشْكَلَ عَلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْيَمِينِ عِنْدَهُ لِامْتِنَاعِ الْبَذْلِ لَا لِامْتِنَاعِ الْإِقْرَارِ ، أَلَا تَرَى
أَنَّ امْرَأَةً لَوْ أَقَرَّتْ لِرَجُلٍ بِنِكَاحٍ نَفَذَ إقْرَارُهَا وَمَعَ هَذَا لَا تَحْلِفُ لَوْ ادَّعَى عَلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ فَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلَهُمَا
( وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ بِكْرًا كَانَتْ الصَّغِيرَةُ أَوْ ثَيِّبًا وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ ) وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ ، وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَيْضًا .
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا لِانْعِدَامِ الشَّهْوَةِ ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ .
قُلْنَا : لَا بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَتَضَمَّنُ الْمَصَالِحَ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، فَأَثْبَتْنَا الْوِلَايَةَ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ إحْرَازًا لِلْكُفْءِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّظَرَ لَا يَتِمُّ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ وَبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ مَعَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتْبَةً ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِي النَّفْسِ وَإِنَّهُ أَعْلَى وَأَوْلَى .
وَلَنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ دَاعِيَةٌ إلَى النَّظَرِ كَمَا فِي الْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ أَظْهَرْنَاهُ فِي سَلْبِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ فَلَا يُمْكِنُ تَدَارُكُ الْخَلَلِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ إلَّا مُلْزِمَةً وَمَعَ الْقُصُورِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ الثِّيَابَةَ سَبَبٌ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ لِوُجُودِ الْمُمَارَسَةِ فَأَدَرْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهَا تَيْسِيرًا .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَوُفُورِ الشَّفَقَةِ ، وَلَا مُمَارَسَةَ تُحْدِثُ الرَّأْيَ بِدُونِ الشَّهْوَةِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى الصِّغَرِ ، ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } وَالتَّرْتِيبُ فِي
الْعَصَبَاتِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ .
( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } فَأَثْبَتَ الْعِدَّةَ لِلصَّغِيرَةِ وَهُوَ فَرْعُ تَصَوُّرِ نِكَاحِهَا شَرْعًا فَبَطَلَ بِهِ مَنْعُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَصَمِّ مِنْهُ ، وَتَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ نَصٌّ قَرِيبٌ مِنْ الْمُتَوَاتِرِ ، وَتَزَوُّجُ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ بِنْتَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ وُلِدَتْ مَعَ عِلْمِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ نَصٌّ فِي فَهْمِ الصَّحَابَةِ عَدَمَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي نِكَاحِ عَائِشَةَ .
( قَوْلُهُ وَالْوَلِيُّ هُوَ الْعَصَبَةُ ، وَمَالِكٌ يُخَالِفُنَا فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالشَّافِعِيُّ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَفِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ ) فَعِنْدَهُ لَا يَلِي عَلَيْهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ فَتُزَوَّجَ بِإِذْنِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا .
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْحُرَّةِ إنَّمَا تَثْبُتُ لِحَاجَتِهَا وَلَا حَاجَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ ، إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْحُرِّيَّةِ دَفَعَ سَلْطَنَةَ الْغَيْرِ وَهُوَ تَزْوِيجُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهِيَ بِنْتُ سِتٍّ ، وَالْجَدُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْأَبِ لِيَلْحَقَ بِهِ دَلَالَةً لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَلِذَا يُقَدَّمُ وَصِيُّ الْأَبِ عَلَيْهِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ .
قُلْنَا : بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِلْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُرَادُ لِمَقَاصِدِهِ وَلَا تَتَوَفَّرُ إلَّا بَيْنَ الْمُتَكَافِئِينَ عَادَةً ، وَلَا يَتَّفِقُ الْكُفْءُ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، فَإِثْبَاتُ وِلَايَةِ الْأَبِ بِالنَّصِّ بِعِلَّةِ إحْرَازِ الْكُفْءِ إذَا ظَفِرَ بِهِ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، إذْ قَدْ لَا يَظْفَرُ بِمِثْلِهِ إذَا فَاتَ بَعْدَ حُصُولِهِ فَيَتَعَدَّى إلَى الْجَدِّ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا مُخِلٌّ بِهَا لِقُصُورِ شَفَقَتِهِ لِبُعْدِ قَرَابَتِهِ وَدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقُصُورِ
سَالِبًا لِلْوِلَايَةِ وَهُوَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ وِلَايَتِهِ فِي الْمَالِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ وَهُوَ أَدْنَى مِنْ النَّفْسِ فَسَلْبُهَا فِي النَّفْسِ أَوْلَى .
وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ } وَالْيَتِيمَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ } وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونَ مِنْ ابْنِ عُمَرَ ، فَرَدَّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : إنَّهَا يَتِيمَةٌ ، وَإِنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ } وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ أَنَّ مُزَوِّجَهَا قَاصِرُ الشَّفَقَةِ حَتَّى لَمْ تَثْبُتْ لَهُ وِلَايَةٌ فِي الْمَالِ فَفِي النَّفْسِ أَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } الْآيَةَ مَنَعَ مِنْ نِكَاحِهِنَّ عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهِنَّ ، وَهَذَا فَرْعُ جَوَازِ نِكَاحِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ .
وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ نِكَاحِ غَيْرِ الْمُحَرَّمَاتِ مُطْلَقًا ، فَمُنِعَ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ خَوْفِ عَدَمِ الْعَدْلِ فِيهِنَّ ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ يَثْبُتُ الْجَوَازُ بِالْأَصْلِ الْمُمَهَّدِ لَا مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ ، وَيُصَرِّحُ بِجَوَازِ نِكَاحِهَا قَوْلُ عَائِشَةَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا يَرْغَبُ فِي مَالِهَا وَلَا يُقْسِطُ فِي صَدَاقِهَا فَنَهَوْا عَنْ نِكَاحِهِنَّ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِنَّ سُنَّتَهُنَّ فِي الصَّدَاقِ ، وَقَالَتْ فِي قَوْله تَعَالَى { فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتَوْنَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } الْآيَةَ ، نَزَلَتْ فِي يَتِيمَةٍ تَكُونُ فِي حِجْرِ وَلِيِّهَا وَلَا يُرْغَبُ فِي نِكَاحِهَا لِدَمَامَتِهَا وَلَا يُزَوِّجُهَا مِنْ غَيْرِهِ كَيْ لَا يُشَارِكَهُ فِي مَالِهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ، فَهَذِهِ الْآيَةُ أَمْرٌ بِتَزْوِيجِهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ أَوْ
تَزَوُّجِهِنَّ مَعَ الْإِقْسَاطِ .
{ وَزَوَّجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ } ، وَإِنَّمَا زَوَّجَهَا بِالْعُصُوبَةِ لَا بِوِلَايَةٍ ثَبَتَتْ بِالنُّبُوَّةِ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُزَوِّجْ بِهَا قَطُّ ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَحَدٌ إلَّا عَنْهُ ، لَكِنْ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ وَحُضُورِهِ عَلَى مَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ عَنْ تَزَوُّجِهِ فَذَكَرَ أَنَّهَا ثَيِّبٌ ، فَقَالَ : هَلَّا بِكْرًا } الْحَدِيثَ .
{ وَرَأَى عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الصُّفْرَةَ فَقَالَ مَهْيَمْ ؟ قَالَ تَزَوَّجْتُ ، وَسَأَلَهُ كَمْ سَاقَ لَهَا } .
وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ وَجَوَازِهِ شَهِيرَةٌ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكُفْءِ ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ مَقَاصِدَ النِّكَاحِ إنَّمَا تَتِمُّ مَعَهُ ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ بِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، وَالْوِلَايَةُ لِعِلَّةِ الْحَاجَةِ فَيَجِبُ إثْبَاتُهَا إحْرَازًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ مَعَ أَنَّ أَصْلَ الْقَرَابَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الشَّفَقَةِ ، غَيْرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْقَرَابَةِ قُصُورًا أَظْهَرْنَاهُ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهَا إذَا بَلَغَتْ ، وَإِذَا قَامَ دَلِيلُ الْجَوَازِ وَجَبَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالْيَتِيمَةِ فِي الْحَدِيثِ الْيَتِيمَةَ الْبَالِغَةَ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيَّا الْمَنْعَ بِالِاسْتِئْمَارِ { وَإِنَّمَا تُسْتَأْمَرُ الْبَالِغَةُ } وَحَدِيثُ قُدَامَةَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ خَيَّرَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَتْ الْفَسْخَ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ اُنْتُزِعَتْ مِنِّي بَعْدَ أَنْ مَلَكْتهَا .
وَأَمَّا الْمَالُ فَإِنَّهُ يُعَارِضُ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الشَّفَقَةِ كَوْنُهُ مَحْبُوبَ الطَّبْعِ حُبًّا يُفْضِي إلَى الْقَطِيعَةِ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ فِي قَرَابَةِ الْعَصَبَاتِ بِالْخِيَانَةِ
فِيهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِالْمُحَابَاةِ وَيَخْفَى لِتَعَذُّرِ إحْضَارِهِ بِتَدَاوُلِ الْأَيْدِي عَلَيْهِ أَوْ لِحُمُولَتِهِ أَوْ نِسْيَانِهِ أَوْ الْتَوَى فِي الْعِوَضِ فِي الْمُقَايَضَةِ فَلَا تُفِيدُ الْوِلَايَةُ غَيْرُ الْمُلْزِمَةِ فَائِدَةَ عَدَمِ اللُّزُومِ وَهُوَ التَّدَارُكُ فَانْتَفَتْ وَالْمُلْزِمَةُ مُنْتَفِيَةٌ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ مَعَ قُصُورِ الشَّفَقَةِ مُقْتَضَاهَا وِلَايَةٌ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ وَقَدْ تَعَذَّرَ مُقْتَضَاهَا فِي الْمَالِ فَانْتَفَتْ فِيهِ وَأَمْكَنَ فِي النَّفْسِ فَثَبَتَتْ فِيهَا ، وَهَذَا لِمَا أَثْبَتْنَا فِيهِ مِنْ الْخِيَارِ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَالرَّدِّ مِنْ الْقَاضِي عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى عَدَمِ النَّظَرِ مِنْ تَنْقِيصِ مَهْرٍ أَوْ عَدَمِ كَفَاءَةٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ أَنَّهَا لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ لِحُدُوثِ الرَّأْيِ فِي أَمْرِ النِّكَاحِ لِمُمَارَسَتِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الثَّيِّبُ تُشَاوَرُ } أَفَادَ مَنْعَ النِّكَاحِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ وَلَا مُشَاوَرَةَ حَالَةَ الصِّغَرِ فَلَا نِكَاحَ حَالَةَ الصِّغَرِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَلَنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَى إحْرَازِ الْكُفْءِ ، وَالْوِلَايَةُ عَلَيْهَا فِي النِّكَاحِ مَعَ عَدَمِ الشَّهْوَةِ لَيْسَ إلَّا لِتَحْصِيلِهِ ، وَلَا رَأْيَ حَالَةَ الصِّغَرِ بِاعْتِرَافِهِ حَيْثُ مَنَعَ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ حَتَّى أَخَّرَ جَوَازَ نِكَاحِهَا إلَى الْبُلُوغِ ، فَكَانَ حَاصِلُ هَذَا الْكَلَام تَنَاقُضًا ، فَإِنَّ سَلْبَ الْوِلَايَةِ بِعِلَّةِ حُدُوثِ الرَّأْيِ تَصْرِيحٌ بِحُدُوثِ الرَّأْيِ ، وَتَأْخِيرُ نِكَاحِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمُشَاوَرَةِ يُنَاقِضُهُ ، فَلَزِمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِالثَّيِّبِ فِي الْحَدِيثِ الْبَالِغَةَ حَيْثُ عَلَّقَ بِالثُّيُوبَةِ مَا لَا يُعْتَبَرُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْدُثْ الرَّأْيُ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَالْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ قَبْلَهُ ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَمَدَارُ
الْوِلَايَةِ الصِّغَرُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( ثُمَّ الَّذِي يُؤَيِّدُ كَلَامَنَا فِيمَا تَقَدَّمَ ) يَعْنِي مِنْ جَوَازِ نِكَاحِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا زَوَّجَهُمَا الْوَلِيُّ الْعَصَبَةُ مُطْلَقًا بَعْدَ مَا كُفِينَا مَئُونَةَ إثْبَاتِهِ بِمَا تَقَدَّمَ .
( قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النِّكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } ) بَيْنَ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْعَصَبَاتِ فِي صُورَةِ الصِّغَرِ أَوَّلًا .
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا وَذَكَرَهُ سَبْطُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَتَقَدَّمَ { تَزْوِيجُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَامَةَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقَالَ لَهَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَتْ } .
هَذَا ( وَالتَّرْتِيبُ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْإِرْثِ وَالْأَبْعَدُ مَحْجُوبٌ بِالْأَقْرَبِ ) فَتُقَدَّمُ عَصَبَةُ النَّسَبِ .
وَأَوْلَاهُمْ الِابْنُ وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ ، وَلَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْمَعْتُوهَةِ وَهَذَا قَوْلُهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْأَبَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِابْنِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ ، وَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْأُمِّ الْمَعْتُوهَةِ إذَا أَفَاقَتْ وَقَدْ زَوَّجَهَا الِابْنُ ؟ فِي الْخُلَاصَةِ : وَلَوْ زَوَّجَهَا الِابْنُ فَهُوَ كَالْأَبِ بَلْ أَوْلَى ، ثُمَّ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ ثُمَّ الْأَخُ الشَّقِيقُ ثُمَّ لِأَبٍ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْأَخَ وَالْجَدَّ يَشْتَرِكَانِ فِي الْوِلَايَةِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقَدَّمُ الْجَدُّ كَمَا هُوَ الْخِلَافُ فِي الْمِيرَاثِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَدَّ أَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ اتِّفَاقًا ، ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمُّ الشَّقِيقُ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ ابْنُ الْعَمِّ لِأَبٍ ثُمَّ أَعْمَامُ الْأَبِ ، كَذَلِكَ الشَّقِيقُ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ لِأَبٍ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ الشَّقِيقِ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ ثُمَّ أَبْنَاؤُهُ وَإِنْ سَفَلُوا ، كُلُّ هَؤُلَاءِ يَثْبُتُ لَهُمْ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ عَلَى
الْبِنْتِ وَالذَّكَرِ فِي حَالِ صِغَرِهِمَا وَحَالِ كِبَرِهِمَا إذَا جُنَّا .
مَثَلًا غُلَامٌ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فَزَوَّجَهُ أَبُوهُ وَهُوَ رَجُلٌ جَازَ إذَا كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا ، وَلَمْ يُقَدِّرْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ قَدْرًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، فَإِنْ أَفَاقَ فَلَا خِيَارَ لَهُ ، وَإِذَا زَوَّجَهُ أَخُوهُ فَأَفَاقَ فَلَهُ الْخِيَارُ .
ثُمَّ الْمُعْتَقُ وَإِنْ كَانَ امْرَأَةً ثُمَّ بَنُوهُ وَإِنْ سَفَلُوا ثُمَّ عَصَبَتُهُ مِنْ النَّسَبِ عَلَى تَرْتِيبِ عَصَبَاتِ النَّسَبِ ، وَإِذَا عُدِمَ الْعَصَبَاتُ هَلْ يَثْبُتُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ ؟ يَأْتِي
قَالَ ( فَإِنْ ) ( زَوَّجَهُمَا الْأَبُ وَالْجَدُّ ) يَعْنِي الصَّغِيرَ وَالصَّغِيرَةَ ( فَلَا خِيَارَ لَهُمَا بَعْدَ بُلُوغِهِمَا ) لِأَنَّهُمَا كَامِلَا الرَّأْي وَافِرَا الشَّفَقَةِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِمُبَاشَرَتِهَا كَمَا إذَا بَاشَرَاهُ بِرِضَاهُمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ( وَإِنْ زَوَّجَهُمَا غَيْرُ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ إذَا بَلَغَ ، إنْ شَاءَ أَقَامَ عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا خِيَارَ لَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ .
وَلَهُمَا أَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ وَالنُّقْصَانُ يُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ إلَى الْمَقَاصِدِ عَسَى وَالتَّدَارُكُ مُمْكِنٌ بِخِيَارِ الْإِدْرَاكِ ، وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ يَتَنَاوَلُ الْأُمَّ ، وَالْقَاضِي هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الرِّوَايَةِ لِقُصُورِ الرَّأْيِ فِي أَحَدِهِمَا وَنُقْصَانِ الشَّفَقَةِ فِي الْآخَرِ فَيَتَخَيَّرُ .
قَالَ ( وَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَضَاءُ ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْفَسْخَ هَاهُنَا لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ وَهُوَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ وَلِهَذَا يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَجُعِلَ إلْزَامًا فِي حَقِّ الْآخَرِ فَيُفْتَقَرُ إلَى الْقَضَاءِ .
وَخِيَارُ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ( وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى فَاعْتُبِرَ دَفْعًا وَالدَّفْعُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَضَاءِ ) ثُمَّ عِنْدَهُمَا إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ وَقَدْ عَلِمَتْ بِالنِّكَاحِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا ، ( وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ فَلَهَا الْخِيَارُ حَتَّى تَعْلَمَ فَتَسْكُتَ ) شَرَطَ الْعِلْمَ بِأَصْلِ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِهِ ، وَالْوَلِيُّ يَنْفَرِدُ بِهِ فَعُذِرَتْ بِالْجَهْلِ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْعِلْمُ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَالدَّارُ دَارُ الْعِلْمِ فَلَمْ تُعْذَرْ بِالْجَهْلِ ، بِخِلَافِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَتَفَرَّغُ لِمَعْرِفَتِهَا
فَتُعْذَرُ بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ
( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) يَعْنِي آخِرًا ، وَقَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَقَوْلِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنْ لَا خِيَارَ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ اعْتِبَارًا بِالْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَمْ تُشْرَعْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّظَرِ ، وَإِذَا حَكَمَ بِالنَّظَرِ قَامَ عَقْدُ الْوَلِيِّ مَقَامَ عَقْدِ نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ قَرَابَةَ الْأَخِ نَاقِصَةٌ فَتُشْعِرُ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فَيَتَطَرَّقُ الْخَلَلُ فِي الْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ أَظْهَرَ الشَّرْعُ أَثَرَ هَذَا النُّقْصَانِ حَيْثُ مَنَعَ وِلَايَتَهُ فِي الْمَالِ فَيَجِبُ إظْهَارُهُ فِي النَّفْسِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ نَاظِرٌ إلَى إظْهَارِ أَثَرِهِ فَيَجِبُ التَّدَارُكُ بِإِثْبَاتِ خِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَلِمَا قَدَّمْنَا مِنْ { تَزْوِيجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ وَقَالَ لَهَا الْخِيَارُ } .
( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةِ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ الْمَرْوَزِيِّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إذَا كَانَ الْمُزَوِّجُ الْقَاضِيَ لِلْيَتِيمَةِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ أَتَمُّ مِنْ وِلَايَةِ الْعَمِّ ؛ لِأَنَّهَا فِي النَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا ، وَعَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ فِيمَا إذَا زَوَّجَتْ الْأُمُّ ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهَا فَوْقَ شَفَقَةِ الْأَبِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ لَفًّا وَنَشْرًا مُرَتَّبًا .
( قَوْلُهُ وَيُشْتَرَطُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْفَسْخِ .
وَيُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ فِي الْفُرْقَةِ فِي مَوَاضِعَ : هَذِهِ وَالْفُرْقَةُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانُ الْمَهْرِ وَكُلُّهَا فَسْخٌ ، وَالْفُرْقَةُ بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَاللِّعَانِ وَكُلُّهَا طَلَاقٌ ، وَبِإِبَاءِ زَوْجِ الذِّمِّيَّةِ الَّتِي أَسْلَمَتْ وَهِيَ طَلَاقٌ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِرَاقَ الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ وَمَا يَحْتَاجُ مِنْهَا إلَى الْقَضَاءِ فِي قَوْلِهِ : فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْإِعْتَاقِ فُرْقَةٌ حُكْمُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ
فَقْدُ كُفْءٍ كَذَا وَنُقْصَانُ مَهْرٍ وَنِكَاحٌ فَسَادُهُ بِاتِّفَاقِ مِلْكُ إحْدَى الزَّوْجَيْنِ أَوْ بَعْضِ زَوْجٍ وَارْتِدَادٍ كَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ ثُمَّ جَبٌّ وَعُنَّةٌ وَلِعَانٌ وَإِبَا الزَّوْجِ فُرْقَةٌ بِطَلَاقِ وَقَضَاءٌ لِلْقَاضِي فِي الْكُلِّ شَرْطٌ غَيْرَ مِلْكٍ وَرِدَّةٍ وَعَتَاقِ وَقَوْلُهُ بِاتِّفَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْحَامِلِ مِنْ زِنًا فَإِنَّ نِكَاحَهَا جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَالْفُرْقَةُ مِنْهُ طَلَاقٌ عِنْدَ هُمَا وَفَسْخٌ عِنْدَهُ .
وَقَوْلُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرِّدَّةِ مِنْ الزَّوْجِ فَهِيَ فُرْقَةٌ بِطَلَاقٍ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ فَهِيَ فَسْخٌ ، وَكُلُّ فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ إذَا أَوْقَعَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طَلْقَةً وَقَعَتْ إلَّا فِي اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً ، كُلُّ فُرْقَةٍ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بَعْدَهَا .
وَوَجْهُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْقَضَاءِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَسْخَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَفِيٍّ .
وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ تَحَقُّقُ الضَّرَرِ وَخَفَاؤُهُ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِدَفْعِ ضَرَرٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ بَلْ نُظِرَ إلَى سَبَبِهِ وَهُوَ قُصُورُ الْقَرَابَةِ الْمُشْعِرِ بِقُصُورِ الشَّفَقَةِ ، وَقَدْ يَظْهَرُ خِلَافُهُ مِمَّا هُوَ أَثَرُ النَّظَرِ مِنْ كَوْنِ الزَّوْجِ كُفْئًا وَالْمَهْرُ تَامًّا وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَغَيْرِهَا ، فَقَدْ يُنْكِرُ الزَّوْجُ عَدَمَ النَّظَرِ فَيَرَى أَنَّ فَسْخَهَا لَا يُصَادِفُ مَحَلًّا فَاحْتِيجَ إلَى الْقَضَاءِ لِإِلْزَامِهِ بِنَاءً عَلَى تَعْلِيقِ حُكْمِ الْخِيَارِ بِمَظِنَّةِ تَرْكِ النَّظَرِ لَا بِحَقِيقَتِهِ ، وَلَا بِدْعَ فِي خُلُوِّ الْمَظِنَّةِ الْمُعَلَّلِ بِهَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا فِي سَفَرِ الْمَلِكِ الْمُرَفَّهِ فِي عَمَلِهِ بِبِلَادٍ مُتَقَارِبَةٍ كُلَّ يَوْمٍ نِصْفَ فَرْسَخٍ عَلَى الْمَرَاكِبِ الْهَيِّنَةِ تَنَزُّهًا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ ، وَلِأَنَّ فِي سَبَبِهِ ضَعْفًا وَخِلَافًا بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ جَلِيٍّ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِاسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَلِهَذَا يَخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لِاقْتِصَارِ السَّبَبِ وَهُوَ زِيَادَةُ الْمِلْكِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ فَاعْتُبِرَ خِيَارُهَا دَفْعًا لِضَرَرِ زِيَادَةِ مَمْلُوكِيَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِيهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى الْقَضَاءِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ دَفْعَهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ التَّابِعَةُ لِأَصْلِ النِّكَاحِ بِرَفْعِهِ ، وَفِيهِ جُعِلَ التَّابِعُ مَتْبُوعًا وَهُوَ نَقْضُ الْأُصُولِ ؛ لِأَنَّهُ عَكْسُ الْمَعْقُولِ .
لَا يُقَالُ : الشَّيْءُ إذَا كَانَ تَابِعًا لِشَيْءٍ بِاعْتِبَارِ الْوُجُودِ يَكُونُ مَتْبُوعًا فِي النَّفْيِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ لَازِمٍ نَفْيُهُ مُسْتَلْزِمٌ لِنَفْيِ الْمَلْزُومِ مَعَ أَنَّ وُجُودَهُ لَازَمَ وُجُودَهُ ، فَاسْتِتْبَاعُ الزِّيَادَةِ أَصْلَ النِّكَاحِ فِي النَّفْيِ لَا يَكُونُ عَكْسَ الْمَعْقُولِ بَلْ وَفْقَهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْفَى التَّابِعُ إذَا كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِنَفْيِ الْمَتْبُوعِ اللَّازِمِ الثَّابِتِ لِتَضَمُّنِهِ رَفْعَ الْأَقْوَى لِغَرَضِ رَفْعِ الْأَدْنَى .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ وَجَبَ وَيَكُونُ حِينَئِذٍ رَفْعُ الْمَتْبُوعِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ بِوَاسِطَةِ اقْتِضَائِهِ مَلْزُومَهُ وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا وَهُوَ النَّصُّ ، فَالْوَجْهُ فِي السُّؤَالِ طَلَبُ حِكْمَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرَ الزَّوْجِ فَلِمَ رُجِّحَ دَفْعُ ضَرَرِهَا عَلَى دَفْعِ ضَرَرِهِ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ دَفْعَ ضَرَرِهَا يُبْطِلُ حَقًّا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَهُوَ بِاسْتِيفَاءِ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ لَهُ وَلَهَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ حَقًّا عَلَيْهَا فَدَفْعُهَا أَوْلَى وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِهَذَا الضَّرَرِ حَيْثُ تَزَوَّجَهَا مَعَ الْعِلْمِ بِثُبُوتِ خِيَارِ الْعِتْقِ شَرْعًا .
( قَوْلُهُ فَتُعْذَرُ ) أَيْ الْأَمَةُ الْمُعْتَقَةُ ( بِالْجَهْلِ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ ) لَهَا إذْ كَانَتْ مَشْغُولَةً بِالْخِدْمَةِ الْوَاجِبَةِ الشَّاغِلَةِ لَهَا عَنْ التَّعَلُّمِ ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ لَا تُعْذَرُ بِهِ لِانْتِفَاءِ
هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّهَا
( ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيت أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ) اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الزَّوْجِ بَلْ لِتَوَهُّمِ الْخَلَلِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالرِّضَا غَيْرَ أَنَّ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْإِعْتَاقُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَجْلِسُ كَمَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ، ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا ، وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي مَلَكَهَا وَهُوَ مَالِكٌ لِلطَّلَاقِ ( فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْبُلُوغِ وَرِثَهُ الْآخَرُ ) وَكَذَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبُلُوغِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِهِ وَقَدْ انْتَهَى بِالْمَوْتِ ، بِخِلَافِ مُبَاشَرَةِ الْفُضُولِيِّ إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ ثَمَّةَ مَوْقُوفٌ فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَهَاهُنَا نَافِذٌ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ ) إنَّمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ مَا قَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَسَكَتَتْ فَهُوَ رِضًا لِبَيَانِ أَنَّ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا فِيمَا تَقَدَّمَ هُوَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَإِنَّ الْعِبَارَةَ هُنَاكَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَلْيُمَهِّدْ الْفَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْغُلَامِ وَالثَّيِّبِ حَيْثُ قَالَ ( وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْغُلَامِ مَا لَمْ يَقُلْ رَضِيتُ أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا ) كَالْوَطْءِ وَدَفْعِ الْمَهْرِ وَالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ ، وَيُحْتَمَلُ كَوْنُ دَفْعِ الْمَهْرِ رِضًا إذَا لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، أَمَّا إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ دَفْعُ الْمَهْرَ بَعْدَ بُلُوغِهِ رِضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ ، أَقَامَ أَوْ فَسَخَ ( وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ) يَعْنِي لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِالسُّكُوتِ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَا لَمْ تَقُلْ رَضِيت ، أَوْ يَجِيءُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ رِضًا كَالتَّمْكِينِ مِنْ الْوَطْءِ وَطَلَبِ الْمَهْرِ وَالْوَاجِبِ ( اعْتِبَارًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ ) أَيْ حَالَةِ ثُبُوتِ الِاخْتِيَارِ ( بِحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ) فَكَمَا لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا لَوْ زُوِّجَتْ ثَيِّبًا بَالِغَةً لَا يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا حَالَةَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهِيَ ثَيِّبٌ بَالِغَةٌ ، وَلَوْ زُوِّجَتْ بِكْرًا بَالِغَةً اُكْتُفِيَ بِسُكُوتِهَا فَكَذَا إذَا ثَبَتَ لَهَا الْخِيَارُ الْعِلْمُ بِالنِّكَاحِ وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ ، وَلَمَّا كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ خِيَارُ الْبِكْرِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ خِيَارَ الثَّيِّبِ لَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِمَا يَبْطُلُ بِهِ خِيَارُ الثَّيِّبِ صَرَّحَ بِمَفْهُومِهِ لِيُفِيدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ إلَخْ ( قَوْلُهُ وَخِيَارُ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْبِكْرِ لَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ) بَلْ يَبْطُلُ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهَا وَالْمُرَادُ بِالْمَجْلِسِ مَجْلِسُ بُلُوغِهَا بِأَنْ حَاضَتْ فِي مَجْلِسٍ وَقَدْ كَانَ بَلَغَهَا النِّكَاحُ ، أَوْ مَجْلِسِ بُلُوغِ خَبَرِ
النِّكَاحِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا بَالِغَةً ، وَجَعَلَ الْخَصَّافُ خِيَارَ الْبِكْرِ مُمْتَدًّا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ مَالَ هُوَ إلَيْهِ ، وَهُوَ خِلَافُ رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَإِنَّ فِيهِ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا فِي السَّاعَةِ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا بَالِغَةً إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِالنِّكَاحِ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ تَطْلُبَ مَعَ رُؤْيَةِ الدَّمِ فَإِنْ رَأَتْهُ لَيْلًا تَطْلُبُ بِلِسَانِهَا فَتَقُولُ فَسَخْت نِكَاحِي وَتُشْهِدُ إذَا أَصْبَحَتْ وَتَقُولُ رَأَيْت الدَّمَ الْآنَ .
وَقِيلَ لِمُحَمَّدٍ كَيْفَ وَهُوَ كَذِبٌ ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَتْ قَبْلَ هَذَا ؟ فَقَالَ لَا تُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ فَجَازَ لَهَا أَنْ تَكْذِبَ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهَا ، ثُمَّ إذَا اخْتَارَتْ وَأَشْهَدَتْ وَلَمْ تَتَقَدَّمْ إلَى الْقَاضِي الشَّهْرَ وَالشَّهْرَيْنِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا كَخِيَارِ الْعَيْبِ .
وَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ أَنَّهَا لَوْ بَعَثَتْ خَادِمَهَا حِينَ حَاضَتْ لِلشُّهُودِ فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَيْهِمْ وَهِيَ فِي مَكَان مُنْقَطِعٍ لَزِمَهَا وَلَمْ تُعْذَرْ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَفْسَخْ بِلِسَانِهَا حَتَّى فَعَلَتْ .
وَمَا قِيلَ لَوْ سَأَلَتْ عَنْ اسْمِ الزَّوْجِ أَوْ عَنْ الْمَهْرِ أَوْ سَلَّمَتْ عَلَى الشُّهُودِ بَطَلَ خِيَارُهَا تَعَسُّفٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ .
وَغَايَةُ الْأَمْرِ كَوْنُ هَذِهِ الْحَالَةِ كَحَالَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، وَلَوْ سَأَلَتْ الْبِكْرُ عَنْ اسْمِ الزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا ، وَكَذَا عَنْ الْمَهْرِ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ ذِكْرِهِ لَا يُبْطِلُ كَوْنَ سُكُوتِهَا رِضًا عَلَى الْخِلَافِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَسْأَلْ عَنْهُ لِظُهُورِ أَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِكُلِّ مَهْرٍ ، وَالسُّؤَالُ يُفِيدُ نَفْيَ ظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ وَأَنَّهَا يَتَوَقَّفُ رِضَاهَا عَلَى مَعْرِفَةِ كَمَيِّتِهِ ، وَكَذَا السَّلَامُ عَلَى الْقَادِمِ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا ، كَيْفَ وَإِنَّمَا أَرْسَلَتْ لِغَرَضِ الْإِشْهَادِ عَلَى الْفَسْخِ .
وَلَوْ اجْتَمَعَ خِيَارُ الْبُلُوغِ وَالشُّفْعَةِ تَقُولُ أَطْلُبُ الْحَقَّيْنِ ثُمَّ تَبْدَأُ فِي التَّفْسِيرِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ
، وَلَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ الصَّغِيرَةَ ثُمَّ أَعْتَقَهَا ثُمَّ بَلَغَتْ لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْبُلُوغِ لِكَمَالِ وِلَايَةِ الْمَوْلَى كَالْأَبِ وَلِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يُغْنِي عَنْهُ ، وَالْعَبْدُ الصَّغِيرُ إذَا بَلَغَ كَذَلِكَ فِي الْأَصَحِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ خِيَارُ الْعِتْقِ فَيُطَلِّقُ إنْ شَاءَ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ ) وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهَا إذَا بَلَغَتْ ثَيِّبًا فَوَقَفَ خِيَارُهَا الْعُمْرَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ عَدَمُ الرِّضَا فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِالنِّكَاحِ ، وَكَذَا الْغُلَامُ ، وَعَلَى هَذَا تَظَافَرَتْ كَلِمَاتُهُمْ .
وَمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مِمَّا نُقِلَ عَنْ الطَّحَاوِيِّ حَيْثُ قَالَ خِيَارُ الْمُدْرِكَةِ يَبْطُلُ بِالسُّكُوتِ إذَا كَانَتْ بِكْرًا وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا لَمْ يَبْطُلْ بِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلزَّوْجِ لَا يَبْطُلُ إلَّا بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ أَوْ يَجِيءُ مِنْهُ دَلِيلٌ عَلَى إبْطَالِ الْخِيَارِ كَمَا إذَا اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ أَوْ أَعْرَضَتْ عَنْ الِاخْتِيَارِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مُشْكِلٍ ، إذْ يَقْتَضِي أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعَمَلٍ آخَرَ يُبْطِلُهُ وَهُوَ تَقْيِيدٌ بِالْمَجْلِسِ ضَرُورَةَ أَنْ تُبَدِّلَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا يَسْتَلْزِمُهُ ظَاهِرًا .
وَفِي الْجَوَامِعِ : وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا حِينَ بَلَغَهَا أَوْ كَانَ غُلَامًا لَمْ يَبْطُلْ بِالسُّكُوتِ وَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهُ أَيَّامًا ، إلَّا أَنْ تَرْضَى بِلِسَانِهَا أَوْ يُوجَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الْوَطْءِ أَوْ التَّمْكِينِ مِنْهُ طَوْعًا أَوْ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَهْرِ أَوْ النَّفَقَةِ وَفِيهَا لَوْ قَالَتْ كُنْت مُكْرَهَةً فِي التَّمْكِينِ صُدِّقَتْ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ، وَفِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ أَكَلَتْ مِنْ طَعَامِهِ أَوْ خِدْمَتِهِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا .
لَا يُقَالُ : كَوْنُ الْقَوْلِ لَهَا فِي دَعْوَى الْإِكْرَاهِ فِي التَّمْكِينِ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُصَدِّقُهَا .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ ) مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ لَا يَمْتَدُّ إلَى
آخِرِ الْمَجْلِسِ : أَيْ فَيَمْتَدُّ خِيَارُ الْعِتْقِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ ثَبَتَ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُ الْعِتْقِ الثَّابِتِ بِإِثْبَاتِهِ فَاقْتَضَى جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَالتَّمْلِيكِ فِي الْمُخَيَّرَةِ .
وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْفَرْقِ بَيْنَ خِيَارَيْ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ خَمْسَةُ أَوْجُهٍ : احْتِيَاجُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَوْ فَسَخَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي حَتَّى مَاتَ وَرَثَةُ الْآخَرِ .
وَكَذَا الْوَطْءُ بَعْدَ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهِ ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ فَسْخِهَا ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْعِتْقِ بِالسُّكُوتِ إلَى آخِرِهِ ، وَيَبْطُلُ خِيَارُ الْبُلُوغِ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ وَهِيَ بِكْرٌ ، بِخِلَافِ الْغُلَامِ وَالثَّيِّبِ ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ لَمْ يُجْعَلْ فِي حَقِّهِمَا رِضًا .
وَيَثْبُتُ خِيَارُ الْبُلُوغِ لِكُلٍّ مِنْ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، بِخِلَافِ خِيَارِ الْعِتْقِ لَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ لِدَفْعِ ضَرَرِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الذَّكَرِ ، وَخِيَارُ الْبُلُوغِ لِمَا يَنْشَأُ عَنْ قُصُورِ الشَّفَقَةِ وَهُوَ يَعُمُّهُمَا لَا يُقَالُ : الْغُلَامُ يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْبُلُوغِ مِنْ التَّخَلُّصِ بِالطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ لَلذُّكْرَانِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ ، وَمَا ثَبَتَ الْخِيَارُ إلَّا لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَا يَتَخَلَّصُ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ يَلْزَمُهُ .
وَهُنَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيَلْزَمُهُ كُلُّهُ ، لَكِنْ لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَلَكَ عَلَيْهَا الثَّلَاثَ .
وَفِي الْجَوَامِعِ : إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ فَقَالَ فَسَخْت يَنْوِي الطَّلَاقَ فَهِيَ طَالِقٌ بَائِنٌ ، وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ فَثَلَاثٌ وَهَذَا أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْفَسْخِ يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ .
وَالرَّابِعُ أَنَّ الْجَهْلَ بِثُبُوتِ الْخِيَارِ شَرْعًا مُعْتَبَرٌ
فِي خِيَارِ الْعِتْقِ دُونَ الْبُلُوغِ .
وَالْخَامِسُ أَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُ الْبُلُوغِ فِي الثَّيِّبِ وَالْغُلَامِ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَيَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ أَمَتِهِمَا الَّتِي زَوَّجَاهَا نَفْسَهَا إذَا أَعْتَقَاهَا ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَاصِبِينَ الْمُزَوِّجِينَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَنَّهَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرَّدِّ قَدْ انْقَطَعَ فِي الْأُولَى بِالْعِتْقِ وَلَمْ يَنْقَطِعْ فِي الثَّانِيَةِ إذْ هُوَ النَّسَبُ وَهُوَ بَاقٍ قَوْلُهُ ثُمَّ الْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ لَيْسَتْ بِطَلَاقٍ ) بَلْ فَسْخٌ لَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ فَلَوْ جَدَّدَا بَعْدَهُ مَلَكَ الثَّلَاثَ ( وَكَذَا بِخِيَارِ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْأُنْثَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهَا ، وَمِنْ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ الْمَوْلَى وَلَا طَلَاقَ إلَيْهِ ، وَكَذَا الْفُرْقَةُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ الْمَهْرِ فَسْخٌ ( بِخِلَافِ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ ) لِمَا ذَكَرَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَهَا مَا يَمْلِكُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ وَلَوْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ نِصْفُ الْمُسَمَّى ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَهَلْ يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْفُرْقَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ : أَيْ الصَّرِيحُ أَوْ لَا ؟ لِكُلِّ وَجْهٍ ، وَالْأَوْجَهُ الْوُقُوعُ
قَالَ ( وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ وَلَا صَغِيرٍ وَلَا مَجْنُونٍ ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ عَلَى غَيْرِهِمْ وَلِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى هَؤُلَاءِ ( وَلَا ) وِلَايَةَ ( لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَارَثَانِ ، أَمَّا الْكَافِرُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ عَلَى وَلَدِهِ الْكَافِرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَلِهَذَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ وَيُجْزِئُ بَيْنَهُمَا التَّوَارُثُ
( قَوْلُهُ وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ ) لِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِإِنْفَاذِ الْقَوْلِ عَلَى الْغَيْرِ إذَا كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً ، وَالْقَاصِرَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي هَؤُلَاءِ فَالْمُتَعَدِّيَةُ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : صِحَّةُ إقْرَارِ الْعَبْدِ تَدُلُّ عَلَى وِلَايَتِهِ الْقَاصِرَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهَا فِي الْمَعْنَى مُعَلَّقَةٌ فِي غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
وَأَمَّا هُمَا فَمُسْتَثْنَيَانِ عِنْدَنَا .
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِ وِلَايَتِهِ فِي النِّكَاحِ لِعَجْزِهِ ، وَإِلَّا فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ رِوَايَتُهُ الْحَدِيثَ وِلَايَةٌ حَيْثُ كَانَ إلْزَامًا ، وَكَذَا أَمَانُهُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ وَشَهَادَتُهُ بِهِلَالِ رَمَضَانَ .
وَإِنْ أُجِيبَ عَنْ هَذِهِ فَالْمُشَاحَحَةُ مُمْكِنَةٌ فِي الْأَجْوِبَةِ .
وَالْأَسْلَمُ جَعْلُ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا وِلَايَةَ لِعَبْدٍ : أَيْ فِي النِّكَاحِ لَا نَفْيِ الْوِلَايَةِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِعَدَمِ الْقَاصِرَةِ عَلَى عَدَمِ الْمُتَعَدِّيَةِ ، فَلَوْ أُرِيدَ الْأَعَمُّ كَانَ مُسْتَدِلًّا بِبَعْضِ الدَّعْوَى وَلَا الْمُتَعَدِّيَةُ مُطْلَقًا ، إذْ قَدْ يُشَاحِحُ بِأَنَّ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْمُتَعَدِّيَةِ لِوِلَايَتِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ الْحُرَّةِ فِي أُمُورِ الزَّوْجِيَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ وَالتَّمْكِينِ وَطَلَبِ الزِّينَةِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ يَصْدُقُ فِي الْكُلِّ أَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ مُلْزِمَةٌ .
وَالْمُرَادُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَهُوَ عَلَى مَا قِيلَ سَنَةٌ ، وَقِيلَ أَكْثَرُ السَّنَةِ ، وَقِيلَ شَهْرٌ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَفِي التَّجْنِيسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُوَقِّتُ فِي الْجُنُونِ الْمُطْبِقِ شَيْئًا كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي التَّقْدِيرَاتِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حَالَةِ إفَاقَتِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَقَدْ يُقَالُ : لَا حَاجَةَ إلَى تَقْيِيدِهِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُزَوَّجُ حَالَ جُنُونِهِ مُطْبِقًا أَوْ غَيْرَ مُطْبِقٍ وَيُزَوَّجُ حَالَ إفَاقَتِهِ عَنْ جُنُونٍ مُطْبِقٍ أَوْ غَيْرِ مُطْبِقٍ ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مُطْبِقًا
تُسْلَبُ وِلَايَتُهُ فَتُزَوَّجُ وَلَا تَنْتَظِرُ إفَاقَتَهُ ، وَغَيْرُ الْمُطْبِقِ الْوِلَايَةُ ثَابِتَةٌ لَهُ فَلَا تُزَوَّجُ وَتَنْتَظِرُ إفَاقَتَهُ كَالنَّائِمِ .
وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّ الْكُفْءَ الْخَاطِبَ إذَا فَاتَ بِانْتِظَارِ إفَاقَتِهِ تُزَوَّجُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطْبِقًا وَإِلَّا اُنْتُظِرَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي غَيْبَةِ الْوَلِيِّ الْأَقْرَبِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ لِهَذَا الدَّلِيلِ ( لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ ( وَلَا يَتَوَارَثَانِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِيمَا يَلِيهِ مِلْكًا وَيَدًا وَتَصَرُّفًا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوِرَاثَةَ لَيْسَتْ وِلَايَةً عَلَى الْمَيِّتِ بَلْ وِلَايَةٌ قَاصِرَةٌ تَحْدُثُ شَرْعًا بَعْدَ انْقِضَاءِ وِلَايَةٍ أُخْرَى فَنَفْيُ الْمُتَعَدِّيَةِ لَيْسَ نَفْيَ الْوِرَاثَةِ فَلَيْسَ نَفْيُهَا بِهَذَا الدَّلِيلِ .
وَكَمَا لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ فَكَذَا لَا تَثْبُتُ لِمُسْلِمٍ عَلَى كَافِرٍ : أَعْنِي وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ بِالْقَرَابَةِ وَوِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ .
قِيلَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ سَيِّدَ أَمَةٍ كَافِرَةٍ أَوْ سُلْطَانًا ، وَقَائِلُهُ صَاحِبُ الدِّرَايَةِ وَنَسَبَهُ إلَى الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ قَالَ : وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا وَرَأَيْتُ فِي مَوْضِعٍ مَعْزُوٍّ إلَى الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْوِلَايَةَ بِالسَّبَبِ الْعَامِّ تَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ كَوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ وَالشَّهَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَقَدْ ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءِ .
فَأَمَّا الْفِسْقُ فَهُوَ يَسْلُبُ الْأَهْلِيَّةَ كَالْكُفْرِ ، الْمَشْهُورُ أَنَّ عِنْدَنَا لَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْمَنْظُومَةِ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ اخْتِلَافٌ فِيهِ .
أَمَّا الْمَسْتُورُ فَلَهُ الْوِلَايَةُ بِلَا خِلَافٍ فَمَا فِي الْجَوَامِعِ أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ فَاسِقًا فَلِلْقَاضِي أَنْ يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ .
نَعَمْ إذَا كَانَ مُتَهَتِّكًا لَا يَنْفُذُ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا بِنَقْصٍ وَمِنْ غَيْرِ كُفْءٍ وَسَتَأْتِي هَذِهِ .
( وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تَثْبُتُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي ذَلِكَ مُضْطَرِبٌ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ .
لَهُمَا مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ الْبَاعِثَةِ عَلَى الشَّفَقَةِ ( وَمَنْ لَا وَلِيَّ لَهَا ) يَعْنِي الْعَصَبَةَ مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ ( إذَا زَوَّجَهَا مَوْلَاهَا الَّذِي أَعْتَقَهَا ) ( جَازَ ) لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ، وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ }
( قَوْلُهُ وَلِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ مِنْ الْأَقَارِبِ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَعْنَاهُ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ ) النَّسَبِيَّةِ وَالسَّبَبِيَّةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوِلَايَةَ تَثْبُتُ أَوَّلًا لِعَصَبَةِ النَّسَبِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ثُمَّ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ ثُمَّ لِعَصَبَتِهِ عَلَى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ بِالِاتِّفَاقِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَثْبُتُ لِلْأُمِّ ثُمَّ لِلْبِنْتِ إذَا كَانَتْ أُمُّهَا مَجْنُونَةً ثُمَّ بِنْتِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتِ الْبِنْتِ ثُمَّ بِنْتِ ابْنِ الِابْنِ ثُمَّ بِنْتِ بِنْتِ الْبِنْتِ ثُمَّ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتِ لِأَبٍ ثُمَّ لِوَلَدِ الْأُمِّ يَسْتَوِي ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ مُعَلِّمًا بِعَلَامَةِ فَتَاوَى الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ عُمَرَ النَّسَفِيِّ : غَابَ الْأَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً وَلَهُ بِنْتٌ صَغِيرَةٌ فَزَوَّجَتْهَا أُخْتُهَا وَالْأُمُّ حَاضِرَةٌ يَجُوزُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا عَصَبَةٌ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ ، وَلَيْسَتْ الْأُمُّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ، وَالنِّسَاءُ اللَّوَاتِي مِنْ قِبَلِ الْأَبِ لَهُنَّ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَهِيَ الْأُخْتُ وَالْعَمَّةُ وَبِنْتُ الْأَخِ وَبِنْتُ الْعَمِّ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : هَكَذَا ذُكِرَ هُنَا ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ أَنَّ الْأُمَّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ ا هـ .
قِيلَ هَذَا يَسْتَقِيمُ فِي الْأُخْتِ لَا الْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْأَخِ ؛ لِأَنَّهُنَّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَوِلَايَتُهُنَّ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، وَمِثْلُ مَا عَنْ الشَّيْخِ نَجْمِ الدِّينِ النَّسَفِيِّ مَنْقُولٌ فِي الْمُصَفَّى عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خواهر زاده ، وَمُقْتَضَاهُ تَقَدُّمُ الْأُخْتِ عَلَى الْجَدِّ الْفَاسِدِ وَبَعْدَ أَوْلَادِ الْأَخَوَاتِ الْعَمَّاتُ ثُمَّ الْأَخْوَالُ ثُمَّ الْخَالَاتُ ثُمَّ بَنَاتُ الْأَعْمَامِ ثُمَّ بَنَاتُ الْعَمَّاتِ ، وَالْجَدُّ
الْفَاسِدُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْوِلَايَةُ لَهُمَا كَمَا فِي الْمِيرَاثِ ، كَذَا فِي الْمُسْتَصْفَى .
وَقِيَاسُ مَا صُحِّحَ فِي الْجَدِّ وَالْأَخِ مِنْ تَقَدُّمِ الْجَدِّ تَقَدُّمِ الْجَدِّ الْفَاسِدِ عَلَى الْأُخْتِ ثُمَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَهُوَ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِ أَبِي الصَّغِيرَةِ وَوَالَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَرِثُ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ ، ثُمَّ السُّلْطَانُ ثُمَّ الْقَاضِي إذَا شَرَطَ فِي عَهْدِهِ تَزْوِيجَ الصَّغَائِرِ وَالصِّغَارِ ، ثُمَّ مَنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا وِلَايَةَ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا لِمَوْلَى الْمُوَالَاةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ فِيهِ وَالْأَشْهَرُ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ ) عَلَى مَا فِي الْهِدَايَةِ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي : الْجُمْهُورُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ ( لَهُمَا مَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِنْكَاحُ إلَى الْعَصَبَاتِ } أَثْبَتَ لَهُمْ الْجِنْسَ ، وَلَيْسَ مِنْ وَرَاءِ الْجِنْسِ شَيْءٌ فَيَثْبُتُ لِغَيْرِهِمْ فَلَا إنْكَاحَ لِغَيْرِهِمْ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا ) أَيْ إلَى الْقَرَابَةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَقَارِبِ أَوْ عَلَى الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ ( وَإِلَى الْعَصَبَاتِ الصِّيَانَةُ ) عَنْ ذَلِكَ لَا إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى قَبِيلَةٍ أُخْرَى فَلَا يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِذَلِكَ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوِلَايَةَ نَظَرِيَّةٌ وَالنَّظَرُ يَتَحَقَّقُ بِالتَّفْوِيضِ إلَى مَنْ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْقَرَابَةِ ) إذْ مُطْلَقُهَا بَاعِثٌ عَلَى الشَّفَقَةِ الْمُوجِبَةِ لِاخْتِيَارِ الْكُفْءِ وَذَوُو الْأَرْحَامِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَإِنَّا نَرَى شَفَقَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهِ
كَشَفَقَتِهِ عَلَى ابْنَةِ أَخِيهِ ، بَلْ قَدْ تَتَرَجَّحُ عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ السُّلْطَانِ وَلَا مَنْ وَلَّاهُ فَكَانُوا أَوْلَى مِنْهُمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّمَا ثَبَتَتْ الْوِلَايَةُ صَوْنًا لِلْقَرَابَةِ عَنْ نِسْبَةِ غَيْرِ الْكُفْءِ إلَيْهَا فَالْحَصْرُ مَمْنُوعٌ ، بَلْ ثُبُوتُهَا بِالذَّاتِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الصَّغِيرَةِ بِتَحْصِيلِ الْكُفْءِ ؛ لِأَنَّهَا بِالذَّاتِ لِحَاجَتِهَا لَا لِحَاجَتِهِمْ ، وَكُلٌّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ فِيهِ دَاعِيَةُ تَحْصِيلِ حَاجَتِهَا فَثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَصَبَاتِ بِكُلٍّ مِنْ حَاجَتِهَا بِالذَّاتِ إلَى ذَلِكَ وَحَاجَتِهِ وَسَتَزْدَادُ وُضُوحًا فِي مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ إجَازَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ تَزْوِيجَ امْرَأَتِهِ بِنْتَهَا وَكَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَأَمَّا إثْبَاتُ جِنْسِ وِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ إلَى الْعَصَبَاتِ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّمَا هُوَ حَالَ وُجُودِهِمْ ، وَلَا تُعْرَضُ لَهُ حَالَ عَدَمِهِمْ بِنَفْيِ الْوِلَايَةِ عَنْ غَيْرِهِمْ وَلَا إثْبَاتِهَا فَأَثْبَتْنَاهَا بِالْمَعْنَى وَقِصَّةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَيْضًا لَا شَكَّ أَنَّهُ خُصَّ مِنْهُ السُّلْطَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْعَصَبَاتِ لِقَوْلِهِ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } أَوْ بِالْإِجْمَاعِ فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَعْنَى .
وَهَذَا الْوَجْهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ تَعَرُّضِ الْحَدِيثِ لِغَيْرِ الْعَصَبَاتِ بِالنَّفْيِ وَحُجِّيَّتِهِ ، وَقَوْلُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ قِيَاسٌ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ مَعَ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ لِمُحَمَّدٍ ، وَبِالْمَعْنَى الصِّرْفِ لِأَبِي حَنِيفَةَ يُنَاقَشُ فِيهِ : بِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بِالْأَثَرِ لَا الْقِيَاسِ فَإِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ نَصٌّ .
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ عَلَى بَابِهِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْحُكْمِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ قِيَاسٌ يُقَابِلُهُ الِاسْتِحْسَانُ الَّذِي قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا ظَنَّهُ خِلَافَهُ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ فَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنْ لَا مُتَمَسِّكَ لَهُ بِهِ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُجِيبَ بِهِ الْمُصَنِّفُ .
وَحَاصِلُ بَحْثِهِ مُعَارَضَةٌ مُجَرَّدَةٌ وَهِيَ لَا تُفِيدُ ثُبُوتَ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ التَّرْجِيحِ وَقَالُوا : الْعَصَبَاتُ تَتَنَاوَلُ الْأُمَّ ؛ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ فِي وَلَدِ الزِّنَا وَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ فَتَثْبُتُ لِأَهْلِهَا ، إلَّا أَنَّ أَقَارِبَ الْأَبِ مُقَدَّمُونَ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا عُدِمَ الْأَوْلِيَاءُ ) أَيْ كُلٌّ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ ( فَالْوِلَايَةُ إلَى الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ ) أَيْ الْقَاضِي بِشَرْطِ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ ، فَلَوْ زَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مَعَ عَدَمِ كَتْبِ ذَلِكَ فِي مَنْشُورِهِ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَأَجَازَهُ قِيلَ لَا يَجُوزُ وَقِيلَ يَجُوزُ عَلَى الْأَصَحِّ اسْتِحْسَانًا .
[ فُرُوعٌ ] الْأَوَّلُ لَيْسَ لِوَلِيِّ الصَّغِيرَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا وَإِنْ أَوْصَى إلَيْهِ الْأَبُ بِالنِّكَاحِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُوصِي عَيَّنَ رَجُلًا فِي حَيَاتِهِ لِلتَّزْوِيجِ فَيُزَوِّجُهَا الْوَصِيُّ بِهِ كَمَا لَوْ وَكَّلَ فِي حَيَاتِهِ بِتَزْوِيجِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ انْتَظَرَ بُلُوغَهَا لِتَأْذَنَ كَذَا قِيلَ ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ يُزَوِّجُهَا إلَّا إذَا كَانَ الْوَصِيُّ قَرِيبًا فَيُزَوِّجُهَا بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ لَا الْوِصَايَةِ وَإِلَّا فَالْحَاكِمُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي أُخْرَى لَهُ التَّزْوِيجُ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ .
قُلْنَا : إنَّمَا قَامَ مَقَامَهُ فِي الْمَالِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ أَوْصَى إلَيْهِ فِي التَّزْوِيجِ جَازَ وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
الثَّانِي لَوْ زَوَّجَ الْقَاضِي الصَّغِيرَةَ الَّتِي هُوَ وَلِيُّهَا وَهِيَ الْيَتِيمَةُ مِنْ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ .
كَالْوَكِيلِ مُطْلَقًا إذَا زَوَّجَ مُوَكِّلَتَهُ مِنْ ابْنِهِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ وَحُكْمُهُ لِابْنِهِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْوَلِيِّ ، ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ
مُعَلِّمَا لَهُ بِعَلَامَةِ غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ الْإِمَامِ أَبِي شُجَاعٍ ، وَالْإِلْحَاقُ بِالْوَكِيلِ يَكْفِي لِلْحُكْمِ مُسْتَغْنًى عَنْ جَعْلِ فِعْلِهِ حُكْمًا مَعَ انْتِفَاءِ شَرْطِهِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ مَالَ يَتِيمِهِ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْأَوْجَهُ مَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَصَّبَ وَصِيًّا عَلَى الْيَتِيمِ ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ لَا الْقَاضِي .
الثَّالِثُ إقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِالتَّزْوِيجِ لَمْ يُصَدَّقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ يُدْرِكُ الصَّغِيرَ فَيُصَدِّقُهُ ، مَعْنَاهُ إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَصَدَّقَهُ الْأَبُ ، وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِإِقْرَارِهِ .
قَالَ فِي الْمُصَفَّى عَنْ أُسْتَاذِهِ يَعْنِي الشَّيْخَ حُمَيْدٍ الدِّينِ : إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا أَقَرَّ الْوَلِيُّ فِي صِغَرِهِمَا فَإِنَّ إقْرَارَهُ مَوْقُوفٌ إلَى بُلُوغِهِمَا ، فَإِذَا بَلَغَا وَصَدَّقَاهُ يَنْفُذُ إقْرَارُهُ وَإِلَّا يَبْطُلُ ، وَعِنْدَهُمَا يَنْفُذُ فِي الْحَالِ وَقَالَ : إنَّهُ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ ، قَالَ : هُوَ الصَّحِيحُ .
وَقِيلَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا بَلَغَ الصَّغِيرُ وَأَنْكَرَ النِّكَاحَ فَأَقَرَّ الْوَلِيُّ ، أَمَّا لَوْ أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ فِي صِغَرِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ ، كَذَا فِي الْمُغْنِي .
وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ : إذَا أَقَرَّ الْأَبُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ عَلَى قَوْلِهِ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الزَّوْجُ فِي ذَلِكَ أَوْ الْمَرْأَةُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُصَدَّقُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : عَلَى مَنْ تُقَامُ الْبَيِّنَةُ وَلَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ وَالْمُنْكِرُ هُوَ الصَّبِيُّ ، وَلَا عِبْرَةَ بِإِنْكَارِهِ وَالْأَبُ وَالزَّوْجُ أَوْ الْمَرْأَةُ مُقِرَّانِ ؟ قُلْنَا : يُنَصِّبُ الْقَاضِي خَصْمًا عَنْ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ حَتَّى يُنْكِرَ فَيُقِيمَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ ا هـ كُلُّهُ مِنْ الْمُصَفَّى .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا بَلَغَا فَأَنْكَرَ النِّكَاحَ ، أَمَّا إذَا أَقَرَّ عَلَيْهِمَا فِي صِغَرِهِمَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ أَوْجَهُ .
وَإِقْرَارُ وَكِيلِ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ بِتَزْوِيجِهِمَا وَإِقْرَارُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِتَزْوِيجِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنِكَاحِ أَمَتِهِ فَنَافِذٌ اتِّفَاقًا .
الرَّابِعُ فِي النَّوَازِلِ : امْرَأَةٌ جَاءَتْ إلَى قَاضٍ فَقَالَتْ أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ وَلَا وَلِيَّ لِي ، فَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ كَمَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ لَهَا وَلِيًّا .
وَبِمِثْلِهِ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ السُّغْدِيُّ ، وَمَا نَقَلَ فِيهِ مِنْ إقَامَتِهَا الْبَيِّنَةَ فَخِلَافُ الْمَشْهُورِ ، وَمَا نَقَلَ مِنْ قَوْلِ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ لَهَا الْقَاضِي إنْ لَمْ تَكُونِي قُرَشِيَّةً وَلَا عَرَبِيَّةً وَلَا ذَاتَ بَعْلٍ فَقَدْ أَذِنْت لَك ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّرْطَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مَحْمُولَانِ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ ، وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ فَمَعْلُومٌ .
الِاشْتِرَاطِ الْخَامِسُ لَا يَمْلِكُ الْوَصِيُّ وَلَا الْأَبُ تَزْوِيجَ عَبْدِ الصَّغِيرِ ، وَكَذَا تَزْوِيجُ عَبْدِهِ مِنْ أَمَتِهِ ، كَذَا فِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَيَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ
( وَإِذَا غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً جَازَ لِمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ قَائِمَةٌ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ فَلَا تَبْطُلُ بِغَيْبَتِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ جَازَ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْأَبْعَدِ مَعَ وِلَايَتِهِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ التَّفْوِيضُ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ فَفَوَّضْنَاهُ إلَى الْأَبْعَدِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ كَمَا إذَا مَاتَ الْأَقْرَبُ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ لِلْأَبْعَدِ بُعْدُ الْقَرَابَةِ وَقُرْبُ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ عَكْسُهُ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ فَأَيُّهُمَا عَقَدَ نَفَذَ وَلَا يُرَدُّ ( وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ لَا تَصِلُ إلَيْهَا الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ) وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ .
وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ .
وَقِيلَ : إذَا كَانَ بِحَالٍ يَفُوتُ الْكُفْءُ الْخَاطِبُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِهِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الْفِقْهِ لِأَنَّهُ لَا نَظَرَ فِي إبْقَاءِ وِلَايَتِهِ حِينَئِذٍ
( قَوْلُهُ وَقَالَ زُفَرُ : إذْ غَابَ الْوَلِيُّ الْأَقْرَبُ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ حَتَّى تَبْلُغَ ) بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ عَلَى وِلَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَبَتَتْ حَقًّا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي دَلِيلِ مُحَمَّدٍ وَقَدَّمْنَا جَوَابَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ لَا الْأَبْعَدُ .
وَعِنْدَنَا يُزَوِّجُهَا الْأَبْعَدُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وِلَايَةٌ نَظَرِيَّةٌ تَثْبُتُ نَظَرًا لِلْيَتِيمَةِ لِحَاجَتِهَا إلَيْهَا ، وَلَا نَظَرَ فِي التَّفْوِيضِ إلَى مَنْ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَى الْأَقْرَبِ لَيْسَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ بَلْ لِأَنَّ فِي الْأَقْرَبِيَّةَ زِيَادَةُ مَظِنَّةٍ لِلْحِكْمَةِ وَهِيَ الشَّفَقَةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى زِيَادَةِ إتْقَانِ الرَّأْيِ لِلْمُوَلِّيَةِ ، فَحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ أَصْلًا سُلِبَتْ إلَى الْأَبْعَدِ ، إذْ لَوْ أَبْقَيْنَا وِلَايَةَ الْأَقْرَبِ أَبْطَلْنَا حَقَّهَا وَفَاتَتْ مَصْلَحَتُهَا .
أَمَّا الْوَلِيُّ فَحَقُّهُ فِي الصِّيَانَةِ عَنْ غَيْرِ الْكُفْءِ يَكُونُ مُقْتَضِيًا لِإِثْبَاتِ وِلَايَةِ الْفَسْخِ إذَا وَقَعَ بِفِعْلِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ لَهُ ، فَحَيْثُ ثَبَتَتْ فَإِنَّمَا هِيَ لِحَاجَتِهَا حَقًّا لَهَا .
وَلَوْ سَلَّمَ فَفَوَاتُ حَقِّهِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ غَيْبَتُهُ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ لَهُ لَا يَفُوتُ إذْ يَخْلُفُهُ فِيهِ الْوَلِيُّ الْأَبْعَدُ ؛ لِأَنَّهُ تِلْوُهُ فِي نَفْيِ غَيْرِ الْكُفْءِ وَالِاحْتِرَاسِ عَنْ التَّلَطُّخِ بِنِسْبَتِهِ فَتَضَافَرَا عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَا قُلْنَا وَظَهَرَ وَجْهُ تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سُلِبَتْ وِلَايَتُهُ بِمَوْتِهِ كَانَ الْأَبْعَدُ أَوْلَى مِنْ السُّلْطَانِ ، فَكَذَا إذَا سُلِبَتْ بِعَارِضٍ آخَرَ .
فَالْحَاصِلُ فِي عِلَّةِ تَقْدِيمِهِ عَلَى السُّلْطَانِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِرَأْيِهِ بِالرَّسُولِ
وَبِالْكِتَابِ وَكِتَابِ الْخَاطِبِ إلَيْهِ حَيْثُ هُوَ فَخِلَافُ الْمُعْتَادِ فِي الْغَائِبِ وَالْخَاطِبِ فَلَا يُفَرَّعُ الْفِقْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَقَدْ لَا يُعْرَفُ مَكَانُهُ ، وَنَظِيرُهُ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ يُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقْرَبُ ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْقُرْبَى وَثَبَتَ مَظِنَّةُ شُغْلِهَا بِالزَّوْجِ صَارَتْ لِلْبُعْدَى ، وَكَذَا النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْأَقْرَبِ فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ لِبُعْدِ مَالِهِ وَجَبَتْ فِي مَالِ الْأَبْعَدِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ فِيهِ مُنِعَ ) جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ عَلَى قِيَاسِ وِلَايَتِهِ حَالَ غَيْبَتِهِ بِأَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا حَيْثُ هُوَ صَحَّ اتِّفَاقًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْلُبْ الْوِلَايَةَ ، شَرْعًا بِغَيْبَتِهِ .
أَجَابَ بِمَنْعِ صِحَّةِ تَزْوِيجِهِ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ : لَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ سَلَّمَ فَلِأَنَّهَا انْتَفَعَتْ بِرَأْيِهِ وَهَذَا تَنَزُّلٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ لِلْأَبْعَدِ قُرْبَ التَّدْبِيرِ وَلِلْأَقْرَبِ قُرْبَ الْقَرَابَةِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ وَلِيَّيْنِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَأَيُّهُمَا عَقَدَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالْمَعْنَى الْمُعَلَّقِ بِهِ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ وَسَلْبُهَا .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ سَلْبَ الْوِلَايَةِ إنَّمَا كَانَ لِسَلْبِ الِانْتِفَاعِ بِرَأْيِهِ ، فَلَمَّا زَوَّجَهَا مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا عَلَّقَ بِهِ سَلْبَ الْوِلَايَةِ ثَابِتًا بَلْ الْقَائِمُ مَنَاطُ ثُبُوتِهَا .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ : لَا رِوَايَةَ فِيهِ ، فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ عَقْدُهُ حَيْثُ هُوَ لَأَدَّى إلَى مَفْسَدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَوْ زَوَّجَهَا بَعْدَ تَزْوِيجِ الْغَائِبِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ لَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ وَهِيَ فِي عِصْمَةِ غَيْرِهِ ، وَمَا قَالُوهُ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّ الْغَائِبَ لَوْ كَتَبَ لِيُقَدِّمَ رَجُلًا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلِلْأَبْعَدِ مَنْعُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ بَاقِيَةٌ لَمَا كَانَ لَهُ مَنْعُهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا
وَقَدَّمَ غَيْرَهُ .
وَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلِيَّيْنِ إذَا اسْتَوَيَا كَأَخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ أَيُّهُمَا زَوَّجَ نَفَذَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يَجْتَمِعَا عَلَى الْعَقْدِ وَالْعَمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ زَوَّجَهَا كُلٌّ مِنْهُمَا فَالصِّحَّةُ لِلسَّابِقِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ السَّابِقُ أَوْ وَقَعَا مَعًا بَطَلَا لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِالتَّصْحِيحِ ، وَلَوْ زَوَّجَهَا أَبُوهَا وَهِيَ بِكْرٌ بَالِغَةٌ بِأَمْرِهَا وَزَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ آخَرَ فَأَيُّهُمَا قَالَتْ هُوَ الْأَوَّلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَهُوَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا وَإِقْرَارُهَا حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَيْهَا ، وَإِنْ قَالَتْ لَا أَدْرِي الْأَوَّلَ وَلَا يُعْلَمُ مِنْ غَيْرِهَا فُرِّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا ، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ بِأَمْرِهَا .
( قَوْلُهُ وَلَا يُرَدُّ إلَخْ ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْأَقْرَبُ بَعْدَ عَقْدِ الْأَبْعَدِ لَا يُرَدُّ عَقْدُهُ وَإِنْ عَادَتْ وِلَايَتُهُ بِعَوْدِهِ .
( قَوْلُهُ وَالْغَيْبَةُ الْمُنْقَطِعَةُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِ الْقَوَافِلُ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدُورِيِّ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِنْ جَابْلَقَا إلَى جَابْلَسَا : وَهُمَا قَرْيَتَانِ إحْدَاهُمَا بِالْمَشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ ، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى قَوْلِ زُفَرَ ، وَإِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا مَثَلًا ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى مِنْ بَغْدَادَ إلَى الرَّيِّ ، وَهَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الرَّيِّ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ : حَدُّ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَحَوِّلًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِ ، أَوْ يَكُونُ مَفْقُودًا لَا يُعْرَفُ خَبَرُهُ .
وَقِيلَ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَقَعُ الْكِرَاءُ إلَيْهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَيْسَتْ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً أَوْ بِدَفَعَاتٍ فَمُنْقَطِعَةٌ ، وَقِيلَ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لِأَقْصَاهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ الْقَاضِي
الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ النَّسَفِيُّ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَبُو عِصْمَةَ الْمَرْوَزِيِّ وَابْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ وَأَبُو عَلِيٍّ السُّغْدِيُّ وَأَبُو الْيُسْرِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ ، قَالُوا : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَقَالَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَوْ انْتَظَرَ حُضُورَهُ وَاسْتِطْلَاعَ رَأْيِهِ يَفُوتُ الْكُفْءُ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ قَاضِي خَانْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَوْ كَانَ مُخْتَفِيًا فِي الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ تَكُونُ غَيْبَتُهُ مُنْقَطِعَةً ، وَهَذَا حَسَنٌ ؛ لِأَنَّهُ النَّظَرُ .
وَفِي النِّهَايَةِ : عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ مِنْهَا الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ : أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَأَكْثَرِ الْمَشَايِخِ وَالْأَشْبَهُ بِالْفِقْهِ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمَشَايِخِ
( وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ أَبُوهَا وَابْنُهَا فَالْوَلِيُّ فِي نِكَاحِهَا ابْنُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا ) لِأَنَّهُ أَوْفَرُ شَفَقَةً مِنْ الِابْنِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الِابْنَ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ ، وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الشَّفَقَةِ كَأَبِي الْأُمِّ مَعَ بَعْضِ الْعَصَبَاتِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَجْنُونَةِ ) جُنُونًا أَصْلِيًّا بِأَنْ بَلَغَتْ مَجْنُونَةً أَوْ عَارِضِيًّا بِأَنْ طَرَأَ الْجُنُونُ بَعْدَ الْبُلُوغِ ( أَبُوهَا ) أَوْ جَدُّهَا ( مَعَ ابْنِهَا فَالْوَلِيُّ فِي تَزْوِيجِهَا ابْنُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَبُوهَا ) وَقَالَ زُفَرُ فِي الْعَارِضِيِّ : لَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ زَالَتْ عِنْدَ بُلُوغِهَا عَاقِلَةً فَلَا تَرْجِعُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا تَرْجِعُ عِنْدَ وُجُودِ مَنَاطِ الْحَجْرِ بَلْ هِيَ أَحْوَجُ إلَى الْوِلَايَةِ بِالْجُنُونِ مِنْهَا إلَيْهَا بِالصِّغَرِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهَا فِي الصِّغَرِ لِتَحْصِيلِ الْكُفْءِ وَفِي الْجُنُونِ لِذَلِكَ وَدَفْعِ الشَّهْوَةِ وَالْمُمَارَسَةِ ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ يَجْتَمِعُ فِيهِ أَبُوهُ وَابْنُهُ أَوْ جَدُّهُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى : أَيُّهُمَا مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ زَوَّجَ جَازَ ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُعَلَّى جَعَلَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ ، وَلَا يَبْعُدُ إذْ فِي الِابْنِ قُوَّةُ الْعُصُوبَةِ وَفِي الْأَبِ زِيَادَةُ الشَّفَقَةِ فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا جِهَةٌ .
( قَوْلُهُ ) فِي وَجْهِ قَوْلِهِمَا ( وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُصُوبَةِ ) بِالنَّصِّ السَّابِقِ ، وَالِابْنُ هُوَ الْمُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ شَرْعًا لِانْفِرَادِهِ بِالْأَخْذِ بِالْعُصُوبَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِ مَعَهُ .
ثُمَّ إذَا زَوَّجَ الْمَجْنُونَةَ أَوْ الْمَجْنُونَ الْكَبِيرَيْنِ أَبُوهُمَا أَوْ جَدُّهُمَا لَا خِيَارَ لَهُمَا إذَا أَفَاقَا لِتَمَامِ شَفَقَتِهِمَا ، وَلَوْ زَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَجْنُونُ أَوْ الْمَرْأَةُ ابْنَهُمَا فَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهُمَا خِيَارٌ ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ وَلَا خِيَارَ لَهُمَا فِي تَزْوِيجِهِمَا فَالِابْنُ أَوْلَى .
فَصْلٌ فِي الْكَفَاءَةِ ( الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ ) قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ } وَلِأَنَّ انْتِظَامَ الْمَصَالِحِ بَيْنَ الْمُتَكَافِئَيْنِ عَادَةً ، لِأَنَّ الشَّرِيفَةَ تَأْبَى أَنْ تَكُونَ مُسْتَفْرَشَةً لِلْخَسِيسِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهَا ، بِخِلَافِ جَانِبِهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُسْتَفْرِشٌ فَلَا تَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ
( فَصْلٌ فِي الْكَفَاءَةِ ) الْكُفْءُ الْمُقَاوَمُ وَيُقَالُ لَا كِفَاءَ لَهُ بِالْكَسْرِ .
وَلَمَّا كَانَتْ الْكَفَاءَةُ شَرْطَ اللُّزُومِ عَلَى الْوَلِيِّ إذَا عَقَدَتْ بِنَفْسِهَا حَتَّى كَانَ لَهُ الْفَسْخُ عِنْدَ عَدَمِهَا كَانَتْ فَرْعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ وَهُوَ بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ ، فَقَدَّمَ بَيَانَ الْأَوْلِيَاءِ وَمَنْ تَثْبُتُ لَهُ ثُمَّ أَعْقَبَهُ فَصْلَ الْكَفَاءَةِ ( قَوْلُهُ مُعْتَبَرَةٌ ) قَالُوا : مَعْنَاهُ مُعْتَبَرَةٌ فِي اللُّزُومِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى إنَّ عِنْدَ عَدَمِهَا جَازَ لِلْوَلِيِّ الْفَسْخُ ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ } فَهَاهُنَا نَظَرَانِ فِي إثْبَاتِ حُجِّيَّتِهِ ، ثُمَّ وَجْهُ دَلَالَتِهِ عَلَى الدَّعْوَى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ مَعْنَاهَا .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مُبَشِّرَ بْنَ عُبَيْدٍ عَنْ الْحَجَّاجِ بْن أَرْطَاةَ وَالْحَجَّاجُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَمُبَشِّرٌ ضَعِيفٌ مَتْرُوكٌ نَسَبَهُ أَحْمَدُ إلَى الْوَضْعِ وَسَيَأْتِي تَخْرِيجُهُ لَكِنَّهُ حُجَّةٌ بِالتَّضَافُرِ وَالشَّوَاهِدِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الْآثَارِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَأَمْنَعَنَّ فُرُوجَ ذَوَاتِ الْأَحْسَابِ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لَهُ : { يَا عَلِيُّ ثَلَاثٌ لَا تُؤَخِّرْهَا : الصَّلَاةُ إذَا أَتَتْ ، وَالْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ ، وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ كُفُؤًا } ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ فِيهِ لَا أَرَى إسْنَادَهُ مُتَّصِلًا مُنْتَفٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ .
وَقَالَ فِي سَنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيُّ مَكَانَ قَوْلِ الْحَاكِمِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُمَحِيُّ فَلْيُنْظَرْ فِيهِ .
وَمَا عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَخَيَّرُوا لَنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الْأَكْفَاءَ }
رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ وَعُمَرَ مِنْ طُرُقٍ عَدِيدَةٍ فَوَجَبَ ارْتِفَاعُهُ إلَى الْحُجِّيَّةِ بِالْحَسَنِ لِحُصُولِ الظَّنِّ بِصِحَّةِ الْمَعْنَى وَثُبُوتِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ ، ثُمَّ وَجَدْنَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ لِلشَّيْخِ بُرْهَانِ الدِّينِ الْحَلَبِيِّ ذَكَرَ أَنَّ الْبَغَوِيّ قَالَ : إنَّهُ حَسَنٌ ، وَقَالَ فِيهِ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ بِسَنَدِهِ ثُمَّ أَوْجَدَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا صُورَةَ السَّنَدِ عَنْ الْحَافِظِ قَاضِي الْقُضَاةِ الْعَسْقَلَانِيِّ الشَّهِيرِ بِابْنِ حَجَرٍ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ : حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ : سَمِعْت جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ } مِنْ الْحَدِيثِ الطَّوِيلِ .
قَالَ الْحَافِظُ : إنَّهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ حَسَنٌ وَلَا أَقَلَّ مِنْهُ .
وَأَغْنَى عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ : إذَا كَانَتْ الْكَفَاءَةُ مُعْتَبَرَةً فِي الْحَرْبِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ فَفِي النِّكَاحِ وَهُوَ لِلْعُمْرِ أَوْلَى .
وَذَكَرَ { مَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ أَنَّهُ لَمَّا بَرَزَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ ، وَخَرَجَ إلَيْهِمْ عَوْفٌ وَمُعَوِّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ قَالُوا لَهُمْ : مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : رَهْطٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالُوا : أَبْنَاءُ قَوْمٍ كِرَامٍ ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقُوا ، ثُمَّ أَمَرَ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ } إلَخْ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقُوا فَلَمْ أَرَهُ ، وَاَلَّذِي فِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُمْ : أَنْتُمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ ،
وَلَكِنَّا نُرِيدُ بَنِي عَمِّنَا .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ لَنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُمْ يَا حَمْزَةُ وَقُمْ يَا عَلِيُّ } إلَخْ .
وَنَحْنُ نَقْطَعُ أَنَّ عَدُوَّ اللَّهِ لَوْ بَرَزَ لِلْمُسْلِمِينَ يُرِيدُ إطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ أَنْسَابِهِمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ عَبْدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَهُ كَانَ مَشْكُورًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ النَّسَبُ إلَّا بُعْدًا .
نَعَمْ الْكَفَاءَةُ الْمَطْلُوبَةُ هُنَا كَفَاءَةُ الشِّدَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ كُفْؤُهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نُصْرَةُ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا ، وَكَلَامُهُ إنَّمَا يُفِيدُ فِي النَّسَبِ ، وَإِنَّمَا أَجَابَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ إمَّا لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنْ الَّذِينَ خَرَجُوا إلَيْهِمْ أَوَّلًا أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالْمَطْلُوبِينَ عَجْزٌ أَوْ جُبْنٌ ، أَوْ دَفْعًا لِمَا قَدْ يَظُنُّ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنْ أَنَّهُ يَضِنُّ بِقَرَابَتِهِ دُونَ الْأَنْصَارِ .
النَّظَرُ الثَّانِي لَا يُخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ { لَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ } أَنَّ الْخِطَابَ لِلْأَوْلِيَاءِ نَهْيًا لَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوهُنَّ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْفَسْخِ .
فَإِنْ قُلْت : يُمْكِنُ كَوْنُ فَاعِلِ يُزَوَّجْنَ الْمَحْذُوفُ أَعَمَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يُزَوِّجَهُنَّ مُزَوِّجٌ هِيَ لِنَفْسِهَا أَوْ الْأَوْلِيَاءُ لَهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ تَزْوِيجِهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ الْكُفْءِ فَإِذَا بَاشَرَتْهُ لَزِمَتْهَا الْمَعْصِيَةُ وَلَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ لِلْوَلِيِّ فَسْخَهُ إلَّا الْمَعْنَى الصِّرْفَ وَهُوَ أَنَّهَا أَدْخَلَتْ عَلَيْهِ ضَرَرًا فَلَهُ دَفْعُهُ ، وَهَذَا لَيْسَ مَدْلُولَ النَّصِّ ، وَلَوْ عَلَّلَ نَهْيَهَا التَّضَمُّنِيَّ لِلنَّصِّ بِإِدْخَالِهَا الضَّرَرَ عَلَيْهِ
لَمْ يَكُنْ فَسْخُهُ مَدْلُولَ النَّصِّ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا التَّضَمُّنِيَّ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَعَلِّقٌ بِهَا وَبِالْأَوْلِيَاءِ ، فَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ إنَّمَا يُعَلَّلُ بِتَرْكِ النَّظَرِ لَهَا ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بِإِدْخَالِ الضَّرَرِ عَلَى الْوَلِيِّ ، وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَلَيْسَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ .
وَلَا يُشْكِلُ عَلَى سَامِعٍ أَنَّ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُزَوِّجُهُنَّ أَحَدٌ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ } نَبْوَةٌ لِلدَّلِيلِ عَنْ الْمُدَّعِي .
فَالْحَقُّ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِاعْتِبَارِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ فِي الْكِتَابِ .
فَإِنْ قُلْت : كَوْنُ الشَّيْءِ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ : أَعْنِي مُعْتَبَرًا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ .
قُلْنَا : نَعَمْ لَكِنَّهُ لَمْ تُقْصَدْ الْخُصُوصِيَّةُ فَإِنْ قُلْت : فَمَا هُوَ ؟ قُلْنَا : مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا الْوُجُوبُ : أَعْنِي وُجُوبَ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ وَتَعْلِيلُهَا بِانْتِظَامِ الْمَصَالِحِ يُؤَيِّدُهُ لَا يَنْفِيهِ .
ثُمَّ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهُ أَوَّلَ كُفْءٍ خَاطِبٍ إلَّا مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا خَطَبَ إلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } وَلَوْلَا أَنَّ شَرْطَ الْمَشْرُوعِ الْقَطْعِيِّ لَا يَثْبُتُ بِظَنِّيٍّ لَقُلْنَا بِاشْتِرَاطِ الْكَفَاءَةِ لِلصِّحَّةِ .
ثُمَّ هَذَا الْوُجُوبُ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوْلِيَاءِ حَقًّا لَهَا وَبِهَا حَقًّا لَهُمْ عَلَى مَا تَبَيَّنَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ ، لَكِنْ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمَعْصِيَةُ فِي حَقِّهِمْ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً لَا يَنْفُذُ عَلَيْهَا تَزْوِيجُهُمْ إلَّا بِرِضَاهَا : فَهِيَ تَارِكَةٌ لِحَقِّهَا ، كَمَا إذَا
رَضِيَ الْوَلِيُّ بِتَرْكِ حَقِّهِ حَيْثُ يَنْفُذُ .
هَذَا كُلُّهُ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ غَيْرِهَا ، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا يُشْكِلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْأَبَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ .
فَإِنْ قُلْت : خَطَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ وَهِيَ قُرَشِيَّةٌ عَلَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَلَيْسَ قُرَشِيًّا ، وَزُوِّجَتْ أُخْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ مِنْ بِلَالٍ وَهُوَ حَبَشِيٌّ ، وَزَوَّجَ أَبُو حُذَيْفَةَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ مَوْلَاهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمِ الصَّحَابَةِ وَبَعْضُهُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ وُقُوعَ هَذِهِ لَيْسَ يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ تِلْكَ النِّسَاءِ صَغَائِرَ بَلْ الْعِلْمُ مُحِيطٌ بِأَنَّهُنَّ كَبَائِرُ خُصُوصًا بِنْتَ قَيْسٍ كَانَتْ ثَيِّبًا كَبِيرَةً حِينَ تَزَوَّجَهَا أُسَامَةُ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِإِسْقَاطِهِنَّ حَقَّ الْكَفَاءَةِ هُنَّ وَأَوْلِيَاؤُهُنَّ .
هَذَا وَفِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ خِلَافُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا لِمَا رَوَى عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ ، لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إنَّمَا الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى } قُلْنَا مَا رَوَيْنَاهُ يُوجِبُ حَمْلَ مَا رَوَوْهُ عَلَى حَالِ الْآخِرَةِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ انْتِظَامَ إلَخْ ) يَعْنِي أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ النِّكَاحِ انْتِظَامُ مَصَالِحِ كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِالْآخَرِ فِي مُدَّةِ الْعُمْرِ ؛ لِأَنَّهُ وُضِعَ لِتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ الصِّهْرِيَّةِ لِيَصِيرَ الْبَعِيدُ قَرِيبًا عَضُدًا وَسَاعِدًا يَسُرُّهُ مَا يَسُرُّكَ وَيَسُوءُهُ مَا يَسُوءُكَ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَالتَّقَارُبِ ، وَلَا مُقَارَبَةَ لِلنُّفُوسِ عِنْدَ مُبَاعَدَةِ الْأَنْسَابِ وَالِاتِّصَافِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ رَأَيْنَا الشَّرْعَ فَسَخَ عَقْدَ النِّكَاحِ إذَا وَرَدَ مِلْكُ الْيَمِينِ لَهَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مُعَلَّلًا
أَيْضًا بِعِلَّةٍ أُخْرَى عَامَّةٍ لِلطَّرَفَيْنِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ فَعَقْدُهُ مَعَ غَيْرِ الْمُكَافِئِ قَرِيبُ الشَّبَهِ مِنْ عَقْدٍ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقَاصِدُهُ ، وَإِذَا كَانَ إيَّاهُ فَسَدَ ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقَهُ كُرِهَ وَلَمْ يَلْزَمْ لِمُولِيهِ إذَا انْفَرَدَ بِهِ الْوَلِيُّ لِظُهُورِ الْإِضْرَارِ بِهَا
( وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ) دَفْعًا لِضَرَرِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ ) وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مَحَارِمَ كَابْنِ الْعَمِّ ( أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ) مَا لَمْ يَجِئْ مِنْ الْوَلِيِّ دَلَالَةُ الرِّضَا كَقَبْضِهِ الْمَهْرَ أَوْ النَّفَقَةَ أَوْ الْمُخَاصَمَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ وَكَالتَّجْهِيزِ وَنَحْوِهِ ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهَا عَلَى السَّكْتِ فَظَهَرَ عَدَمُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَطَ الْعَاقِدُ الْكَفَاءَةَ أَوْ أَخْبَرَهُ الزَّوْجُ بِمَا حَيْثُ كَانَ لَهُ التَّفْرِيقُ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَمْ يُخْبِرْهُ فَذَكَرَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِيمَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِمَّا لَا يُعْلَمُ حَالُهُ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ بَلْ لِلْأَوْلِيَاءِ ، أَوْ زَوَّجَهَا الْأَوْلِيَاءُ مِمَّنْ لَا يَعْلَمُونَ وَلَمْ يُخْبِرْهُمْ بِحُرِّيَّتِهِ وَرِقِّهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ لَهُمْ الْفَسْخُ .
وَلَوْ أَخْبَرَ بِحُرِّيَّتِهِ أَوْ شَرَطُوا ذَلِكَ فَظَهَرَ بِخِلَافِهِ كَانَ لِلْعَاقِدِ الْفَسْخُ ، وَلَا يَكُونُ سُكُوتُ الْوَلِيِّ رِضًا إلَّا إنْ سَكَتَ إلَى أَنْ وَلَدَتْ فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ التَّفْرِيقُ .
وَعَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ أَنَّ لَهُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَيْضًا ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ فَسْخٌ لَا يُنْقِصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ وَلَا يَجِبُ عِنْدَهَا شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ إنْ وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَبَعْدَهُ لَهَا الْمُسَمَّى ، وَكَذَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً .
وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ وَكُلٌّ مِنْ الْخَصْمَيْنِ يَتَشَبَّثُ بِدَلِيلٍ فَلَا يَنْقَطِعُ النِّزَاعُ إلَّا بِفَصْلِ الْقَاضِي ، وَالنِّكَاحُ قَبْلَهُ صَحِيحٌ يَتَوَارَثَانِ بِهِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ ، هَذَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، أَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ أَصْلًا إذَا كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ
غَيْرِ كُفْءٍ .
وَهَلْ لِلْمَرْأَةِ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْ أَنْ يَطَأَهَا ؟ مُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ نَعَمْ .
قَالَ فِي التَّجْنِيسِ : هَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ظَاهِرِ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّ مِنْ حُجَّةِ الْمَرْأَةِ أَنْ تَقُولَ : إنَّمَا تَزَوَّجْتُكَ عَلَى رَجَاءِ أَنْ يُجِيزَ الْوَلِيُّ وَعَسَى لَا يَرْضَى فَيُفَرِّقُ فَيَصِيرُ هَذَا وَطْئًا بِشُبْهَةٍ .
وَرِضَا بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ فِي دَرَجَةٍ كَرِضَا كُلِّهِمْ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْكُلِّ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِرِضَا الْكُلِّ ، كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ ، قُلْنَا : هُوَ حَقٌّ لَهُمْ لَكِنْ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَثْبُتُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ عَلَى الْكَمَالِ كَوِلَايَةِ الْأَمَانِ ، فَإِذَا أَبْطَلَهُ أَحَدُهُمْ لَا يَبْقَى كَحَقِّ الْقِصَاصِ ، أَمَّا لَوْ رَضِيَ الْأَبْعَدُ كَانَ لِلْأَقْرَبِ الِاعْتِرَاضُ .
وَلَوْ زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ بِإِذْنِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ ثَانِيًا كَانَ لِذَلِكَ الْوَلِيِّ التَّفْرِيقُ ، وَلَا يَكُونُ الرِّضَا بِالْأَوَّلِ رِضًا بِالثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَبْعُدُ رُجُوعُهُ عَنْ خُلَّةٍ دَنِيَّةٍ ، وَكَذَا لَوْ زَوَّجَهَا هُوَ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَتْ آخَرَ غَيْرَ كُفْءٍ وَلَوْ تَزَوَّجَتْهُ ثَانِيًا فِي الْعِدَّةِ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا لَزِمَهُ مَهْرٌ ثَانٍ وَاسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الثَّانِي ، وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
( ثُمَّ الْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النَّسَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ بِهِ التَّفَاخُرُ ( فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ } وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ لِمَا رَوَيْنَا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا كَأَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ ، كَأَنَّهُ قَالَ تَعْظِيمًا لِلْخِلَافَةِ وَتَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ .
وَبَنُو بَاهِلَةَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءَ لِعَامَّةِ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْخَسَاسَةِ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ الْكَفَاءَةُ تُعْتَبَرُ فِي النَّسَبِ ) جَمِيعُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَفَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَسَيُورِدُهُ ، إلَّا الْكَفَاءَةَ فِي الْعَقْلِ ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا رِوَايَةَ فِي اعْتِبَارِ الْعَقْلِ فِي الْكَفَاءَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقِيلَ يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِعَدَمِهِ مَقْصُودُ النِّكَاحِ ، وَقِيلَ لَا ؛ لِأَنَّهُ مَرَضٌ ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ عِنْدَنَا فِي السَّلَامَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي يُفْسَخُ بِهَا الْبَيْعُ كَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ وَالْبَرَصِ وَالْبَخَرِ وَالدَّفَرِ إلَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ : أَعْنِي الْجُنُونَ وَالْجُذَامَ وَالْبَرَصَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَهُ فَالْحَقُّ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الْعَقْلِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، إلَّا أَنَّ الَّذِي لَهُ التَّفْرِيقُ وَالْفَسْخُ الزَّوْجَةَ لَا الْوَلِيَّ وَكَذَا فِي أَخَوَيْهِ عِنْدَهُ .
[ فَرْعٌ ] انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ نَسَبِهِ لِامْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَتْهُ ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُكَافِئْهَا بِهِ كَقُرَشِيَّةٍ انْتَسَبَ لَهَا إلَى قُرَيْشٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَيْرُ قُرَشِيٍّ فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَلَوْ رَضِيَتْ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ التَّفْرِيقُ وَإِنْ كَافَأَهَا بِهِ كَعَرَبِيَّةٍ لَيْسَتْ قُرَشِيَّةً انْتَسَبَ لَهَا إلَى قُرَيْشٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ عَرَبِيٌّ غَيْرُ قُرَشِيٍّ فَلَا حَقَّ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ عِنْدَنَا إنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ خِلَافًا لِزُفَرَ .
وَلَنَا أَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهَا فِي النِّكَاحِ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ابْنُهَا صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَنَلْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ ، كَشِرَاءِ الْعَبْدِ عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ فَظَهَرَ خِلَافُهُ .
وَأَيْضًا الِاسْتِفْرَاشُ ذُلٌّ فِي جَانِبِهَا فَقَدْ تَرْضَى بِهِ مِمَّنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا لَا مِنْ مِثْلِهَا ، فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ فَقَدْ غَرَّهَا وَتَبَيَّنَ عَدَمُ رِضَاهَا بِالْعَقْدِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الِانْتِسَابُ مِنْ جَانِبِهَا
وَالْغُرُورُ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ غُرُورِهَا وَلِتَخَلُّصِهِ مِنْهَا بِطَرِيقٍ يُمْكِنُهُ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ وَيَحْتَاجُ بَعْدَ هَذَا إلَى فَضْلِ تَقْرِيرٍ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إثْبَاتِ خِيَارِ الْبُلُوغِ لِلْغُلَامِ وَهُوَ سَهْلٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ فَقُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ) رَوَى الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٌ ، فَإِنَّ شُجَاعَ بْنَ الْوَلِيدِ قَالَ : حَدَّثَنَا بَعْضُ إخْوَانِنَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ ، وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَرَجُلٌ بِرَجُلٍ إلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا } وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ فِيهِ عِمْرَانُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ الْأَيْلِيُّ ، وَضُعِّفَ بِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ وَأَنَّ عِمْرَانَ هَذَا يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ عَنْ الْأَثْبَاتِ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { النَّاسُ أَكْفَاءٌ قَبِيلَةٌ لِقَبِيلَةٍ وَعَرَبِيٌّ لِعَرَبِيٍّ وَمَوْلًى لِمَوْلًى إلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا } وَضُعِّفَ بِبَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ وَهُوَ مُخَيَّلٌ إنْ عَنْعَنَ الْحَدِيثَ لَيْسَ غَيْرُ ، وَبِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ مَطْعُونٌ فِيهِ .
وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَعُمَرَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ ، وَفِيهِ عَلِيُّ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ هُوَ الطَّرَائِفِيُّ مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ يَرْوِي الْمَجَاهِيلَ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ ا هـ كَلَامُهُ .
وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَرْفَعُهُ { الْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ } ا هـ .
وَابْنُ مَعْدَانَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ ، وَفِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ
قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَلِلْحَدِيثِ أَصْلٌ ، فَإِذًا ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ فَيُمْكِنُ ثُبُوتُ تَفْصِيلِهَا أَيْضًا بِالنَّظَرِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيمَا يَحْقِرُونَهُ وَيُعَيِّرُونَ بِهِ فَيُسْتَأْنَسُ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي ذَلِكَ ، خُصُوصًا وَبَعْضُ طُرُقِهِ كَحَدِيثِ بَقِيَّةَ لَيْسَ مِنْ الضَّعْفِ بِذَاكَ ، فَقَدْ كَانَ شُعْبَةُ مُعَظِّمًا لِبَقِيَّةِ وَنَاهِيكَ بِاحْتِيَاطِ شُعْبَةَ ، وَأَيْضًا تَعَدُّدُ طُرُقِ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ يَرْفَعُهُ إلَى الْحَسَنِ ، ثُمَّ الْقُرَشِيَّانِ مَنْ جَمَعَهُمَا أَبٌ هُوَ النَّضْرُ بْنُ كَنَانَةَ فَمَنْ دُونَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُنْسَبْ إلَّا إلَى أَبٍ فَوْقَهُ فَهُوَ عَرَبِيٌّ غَيْرُ قُرَشِيٍّ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ أَوْلَادُ النَّضْرِ قُرَيْشًا تَشْبِيهًا لَهُمْ بِدَابَّةٍ فِي الْبَحْرِ تُدْعَى قِرْشًا تَأْكُلُ دَوَابَّهُ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ دَوَابِّ الْبَرِّ عِزَّةً وَفَخْرًا وَنَسَبًا ، وَعَلَى هَذَا قَالَ اللِّهْبِيُّ : وَقُرَيْشٌ هِيَ الَّتِي تَسْكُنُ الْبَحْرَ بِهَا سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا وَقِيلَ ؛ لِأَنَّ النَّضْرَ كَانَ يُسَمَّى قُرَيْشًا وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّعْبِيِّ سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْرِشُ عَنْ خِلَّةِ النَّاسِ لِيَسُدَّ حَاجَاتِهِمْ بِمَالِهِ وَالتَّقْرِيشُ التَّفْتِيشُ ، قَالَ الْحَارِثُ : أَيّهَا النَّاطِقُ الْمُقَرِّشُ عَنَّا عِنْدَ عَمْرٍو فَهَلْ لَنَا إبْقَاءُ وَقِيلَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى نَادِي قَوْمِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : اُنْظُرْ إلَى النَّضْرِ كَأَنَّهُ جَمَلٌ قُرَيْشٌ ، وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِقُرَيْشِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَخْلَدٍ كَانَ صَاحِبَ عِيرِهِمْ فَكَانُوا يَقُولُونَ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ وَخَرَجَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ وَلِهَذَا الرَّجُلِ ابْنٌ يُسَمَّى بَدْرًا وَهُوَ الَّذِي حَفَرَ بِئْرَ بَدْرٍ وَسُمِّيَتْ بِهِ ، وَقِيلَ لِتِجَارَتِهِمْ وَالْقِرْشُ الْكَسْبُ .
وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ : قِيلَ إنَّ اسْمَهُ قُرَيْشٌ ، وَإِنَّمَا فِهْرٌ لَقَبُهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُعَاوِيَةَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ
قُرَشِيًّا إلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ فِهْرٍ ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ الْجَمْعِ ، وَالتَّقْرِيشُ التَّجْمِيعُ ؛ لِأَنَّ قُصَيًّا جَمَّعَ بَنِي النَّضْرِ فِي الْحَرَمِ مِنْ بَعْدِ تَفَرُّقِهِمْ ، وَقِيلَ لَمَّا نَزَلَ قُصَيٌّ الْحَرَمَ فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً فَقِيلَ لَهُ الْقِرْشُ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سُمِّيَ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي كَوْنُ الْقُرَشِيِّينَ مَنْ جَمَعَهُمَا أَبٌ هُوَ قُصَيٌّ ، وَالظَّاهِرُ الْأَوَّلُ ، وَيَكُونُ مِنْ التَّجَمُّعِ لَا التَّجْمِيعِ الَّذِي هُوَ فِعْلُ قُصَيٍّ وَالتَّجَمُّعُ كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ النَّضْرِ وَإِنْ كَانَ الْقَائِلُ قَالَ : أَبُوكُمْ قُصَيٌّ كَانَ يُدْعَى مُجَمِّعًا بِهِ جَمَّعَ اللَّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ غَيْرَ أَنَّ الْقَافِيَّةَ اتَّفَقَتْ كَذَلِكَ ، وَإِلَّا فَبَعْدَ نَقْلِ أَنَّ قُصَيًّا سُمِّيَ مُجَمِّعًا لِجَمْعِهِ أَوْلَادَ النَّضْرِ عُرِفَ أَنَّ الْقُرَشِيِّينَ مَنْ جَمَعَهُمَا النَّضْرُ .
هَذَا وَقُرَيْشٌ عِمَارَةٌ تَحْتَهَا بُطُونٌ لُؤَيُّ بْنُ غَالِبٍ وَقُصَيٌّ وَعَدِيٌّ وَمِنْهُمْ الْفَارُوقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمُرَّةُ وَمِنْ مُرَّةَ تَيْمٌ وَمِنْهُمْ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمَخْزُومٌ وَمِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُمَا فَخْذَانِ .
وَهَاشِمٌ فَخْذٌ وَالْعَبَّاسُ فَصِيلَةٌ ، وَأَعَمُّ الطَّبَقَاتِ الشُّعَبُ مِثْلُ حِمْيَرَ وَرَبِيعَةَ وَمُضَرَ ثُمَّ الْقَبِيلَةُ مِثْلُ كِنَانَةَ وَلِذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي قُرَيْشٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ ، وَفِي الْعَرَبِ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ } وَنَظَمَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ تَرْتِيبَ الطَّبَقَاتِ فَقَالَ : قَبِيلَةٌ فَوْقَهَا شَعْبٌ وَبَعْدَهُمَا عِمَارَةٌ ثُمَّ بَطْنٌ تَلُوهُ فَخِذُ وَلَيْسَ يُؤْوِي الْفَتَى إلَّا فَصِيلَتُهُ وَلَا سَدَادَ لِسَهْمٍ مَا لَهُ قُذَذُ وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ الْعَشِيرَةَ بَعْدَ الْفَصِيلَةِ فَقَالَ : اقْصِدْ الشَّعْبَ فَهْوَ أَكْثَرُ حَيٍّ عَدَدًا فِي الْجِوَاءِ ثُمَّ الْقَبِيلَهْ ثُمَّ يَتْلُوهُمَا الْعِمَارَةُ ثُمَّ الْبَطْنُ وَالْفَخِذُ بَعْدَهَا وَالْفَصِيلَهْ ثُمَّ
مِنْ بَعْدِهَا الْعَشِيرَةُ لَكِنْ هِيَ فِي جَنْبِ مَا ذَكَرْنَا قَلِيلَهْ .
( قَوْلُهُ وَالْمَوَالِي ) هُمْ الْعُتَقَاءُ ، وَالْمُرَادُ هُنَا غَيْرُ الْعَرَبِ وَإِنْ لَمْ يَمَسَّهُمْ رِقٌّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ضَلُّوا أَنْسَابَهُمْ كَانَ التَّفَاخُرُ بَيْنَهُمْ بِالدِّينِ وَمَا نَذْكُرُهُ فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْهَاشِمِيَّ وَالْمُطَّلِبِيَّ أَكْفَاءٌ دُونَ غَيْرِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ .
قَالُوا : وَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنْتَيْهِ مِنْ عُثْمَانَ وَهُوَ أُمَوِيٌّ ، وَزَوَّجَ أُمَّ كُلْثُومٍ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَدَوِيٌّ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ إذْ قَدْ يَقُولُ يَجُوزُ كَوْنُهُ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْكَفَاءَةِ نَظَرًا إلَى مَصْلَحَةٍ أُخْرَى لَكِنَّهُ يَرَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِي النَّسَبِ فَيَلْزَمُهُ مَا ذَكَرْنَا ، وَعَلَى أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النَّسَبِ فِي الْعَجَمِ ، وَعَلَى مُحَمَّدٍ فِي اعْتِبَارِهِ الزِّيَادَةَ بِالْخِلَافَةِ حَتَّى لَا يُكَافِئَ أَهْلُ بَيْتِ الْخِلَافَةِ غَيْرَهُمْ مِنْ الْقُرَشِيِّينَ ، هَذَا إنْ قَصَدَ بِذَلِكَ عَدَمَ الْمُكَافَأَةِ لَا إنْ قَصَدَ بِهِ تَسْكِينَ الْفِتْنَةِ .
وَفِي الْجَامِعِ لِقَاضِي خَانْ : قَالُوا الْحَسِيبُ يَكُونُ كُفْئًا لِلنَّسِيبِ ، فَالْعَالِمُ الْعَجَمِيُّ كُفْءٌ لِلْجَاهِلِ الْعَرَبِيِّ وَالْعَلَوِيَّةِ ، لِأَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ فَوْقَ شَرَفِ النَّسَبِ وَالْحَسَبِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَفِي الْمُحِيطِ عَنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ : الْحَسِيبُ هُوَ الَّذِي لَهُ جَاهٌ وَحِشْمَةٌ وَمَنْصِبٌ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ : وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ كُفْئًا لِلْعَلَوِيَّةِ .
وَأَصْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ أُعْتِقَ إذَا أَحْرَزَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا يُقَابِلُ بِهِ نَسَبَ الْآخَرِ كَانَ كُفْئًا لَهُ وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْبِلَادِ .
فِي تَتِمَّةِ الْفَتَاوَى أَنَّ الْقَرَوِيَّ كُفْءٌ لِلْمَدَنِيِّ ( قَوْلُهُ وَبَنُو بَاهِلَةَ إلَخْ )
اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ ، وَبَاهِلَةُ فِي الْأَصْلِ اسْمُ امْرَأَةٍ مِنْ هَمْدَانَ كَانَتْ تَحْتَ مَعْنِ بْنِ أَعَصْرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ فَنُسِبَ وَلَدُهُ إلَيْهَا وَهُمْ مَعْرُوفُونَ بِالْخَسَاسَةِ .
قِيلَ كَانُوا يَأْكُلُونَ بَقِيَّةَ الطَّعَامِ مَرَّةً ثَانِيَةً ، وَكَانُوا يَأْخُذُونَ عِظَامَ الْمَيْتَةِ يَطْبُخُونَهَا وَيَأْخُذُونَ دُسُومَتَهَا فَلِذَا قِيلَ : وَلَا يَنْفَعُ الْأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ إذَا كَانَتْ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلِهِ وَقِيلَ : إذَا قِيلَ لِلْكَلْبِ يَا بَاهِلِيُّ عَوَى الْكَلْبُ مِنْ لُؤْمِ هَذَا النَّسَبِ وَلَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، فَإِنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَعْلَمَ بِقَبَائِل الْعَرَبِ وَأَخْلَاقِهِمْ وَقَدْ أَطْلَقَ ، وَلَيْسَ كُلُّ بَاهِلِيٍّ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِمْ الْأَجْوَادُ ، وَكَوْنُ فَصِيلَةٍ مِنْهُمْ أَوْ بَطْنٍ صَعَالِيكَ فَعُلُوُّ ذَلِكَ لَا يَسْرِي فِي حَقِّ الْكُلِّ .
( وَأَمَّا الْمَوَالِي فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَكْفَاءِ ) يَعْنِي لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ .
وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَأَبُو يُوسُفَ أَلْحَقَ الْوَاحِدَ بِالْمُثَنَّى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْرِيفِ .
وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاخُرَ فِيمَا بَيْنَ الْمَوَالِي بِالْإِسْلَامِ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْمَوَالِي فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَصَاعِدًا فَهُوَ مِنْ الْأَكْفَاءِ : يَعْنِي لِمَنْ لَهُ آبَاءٌ فِيهِ ، وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّسَبِ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَأَلْحَقَ أَبُو يُوسُفَ الْوَاحِدَ بِالْمُثَنَّى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْرِيفِ ) أَيْ فِي الشَّهَادَاتِ وَالدَّعَاوَى ، قِيلَ كَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُعَدُّ كُفْرُ الْجَدِّ عَيْبًا بَعْدَ أَنْ كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا ، وَهُمَا قَالَاهُ فِي مَوْضِعٍ يُعَدُّ عَيْبًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا جَمِيعًا إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَيْبًا فِي حَقِّ الْعَرَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعَيَّرُونَ بِذَلِكَ وَهَذَا حَسَنٌ وَبِهِ يَنْتَفِي الْخِلَافُ ، .
وَلَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ وَلِيُّهَا لَيْسَ هَذَا كُفْئًا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ هُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ .
قَالَ فِي الْأَصْلِ : إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا كَبِنْتِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ خَدَعَهَا حَائِكٌ أَوْ سَائِسٌ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَا لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِتَسْكِينِهَا بَيْنَهُمْ كَمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .
وَالْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ نَظِيرُهَا فِي الْإِسْلَامِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ فَيُعْتَبَرُ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ
( قَوْلُهُ وَالْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ نَظِيرُهَا فِي الْإِسْلَامِ ) يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ حُرَّانِ كَافَأَ مَنْ كَانَ لَهُ آبَاءٌ أَحْرَارٌ ، وَمَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ حُرٌّ لَا يُكَافِئُ مَنْ لَهُ أَبَوَانِ حُرَّانِ ، وَمَنْ عَتَقَ بِنَفْسِهِ لَا يُكَافِئُ مَنْ لَهُ أَبٌ حُرٌّ .
وَفِي التَّجْنِيسِ : لَوْ كَانَ أَبُوهَا مُعْتَقًا وَأُمُّهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ لَا يُكَافِئُهَا الْمُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَثَرَ الرِّقِّ وَهُوَ الْوَلَاءُ ، وَالْمَرْأَةُ لَمَّا كَانَتْ أُمُّهَا حُرَّةَ الْأَصْلِ كَانَتْ هِيَ أَيْضًا حُرَّةَ الْأَصْلِ .
وَفِي الْمُجْتَبَى : مُعْتَقَةُ الشَّرِيفِ لَا يُكَافِئُهَا مُعْتَقُ الْوَضِيعِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ مَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ كُفْئًا لِمَنْ عَتَقَ بِنَفْسِهِ .
قَالَ ( وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الدِّينِ ) أَيْ الدِّيَانَةِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَى الْمَفَاخِرِ ، وَالْمَرْأَةُ تُعَيَّرُ بِفِسْقِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا تُعَيَّرُ بِضَعَةِ نَسَبِهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا تُبْتَنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا إلَّا إذَا كَانَ يُصْفَعُ وَيُسْخَرُ مِنْهُ أَوْ يَخْرُجُ إلَى الْأَسْوَاقِ سَكْرَانَ وَيَلْعَبُ بِهِ الصِّبْيَانُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَخَفٌّ بِهِ .
( قَوْلُهُ وَتُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي الدِّينِ : أَيْ الدِّيَانَةُ ) فَسَّرَ بِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّقْوَى لَا اتِّفَاقَ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ تَفَاصِيلَهُ تُعْرَفُ فِي نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَلَا كَوْنُهُ مُكَافِئًا بِإِسْلَامِ نَفْسِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مَرَّ قَبْلَهُمَا ( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) أَيْ أَنَّ الصَّحِيحَ اقْتِرَانُ قَوْلَيْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَرَجَّحَهُ السَّرَخْسِيُّ وَقَالَ : الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَاءَةَ مِنْ حَيْثُ الصَّلَاحُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِر الْكَفَاءَةَ فِي الدِّينِ وَقَالَ : إذَا كَانَ الْفَاسِقُ ذَا مُرُوءَةٍ كَأَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَالْمُبَاشِرِينَ الْمَكَسَةِ ، وَكَذَا عَنْهُ إنْ كَانَ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ سِرًّا وَلَا يَخْرُجُ وَهُوَ سَكْرَانُ يَكُونُ كُفْئًا وَإِلَّا لَا ، وَحِينَئِذٍ الْأَوْلَى كَوْنُ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَمَّا رُوِيَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ فَاسِقًا كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ فَسْخُهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُبَاشِرِي السُّلْطَانِ قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُعْتَبَرُ إلَّا إذَا كَانَ يَسْخَرُ مِنْهُ وَيَخْرُجُ سَكْرَانَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ فَلَا تُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الدُّنْيَا ) وَفِي كَوْنِ هَذَا قَاعِدَةً مُمَهَّدَةً نَظَرٌ إذْ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْمُلَازَمَةِ وَالْحَقُّ أَنَّهُ قَدْ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ فِيهِ مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَعَدَمِهِ ، عَلَى أَنَّا لَمْ نَبْنِ إلَّا عَلَى أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِفِسْقِ الزَّوْجِ فَوْقَ مَا تُعَيَّرُ بِضَعْفِ نَسَبِهِ : يَعْنِي يُعَيِّرُهَا أَشْكَالُهَا إنْ كَانَتْ مِنْ بَنَاتِ الصَّالِحِينَ .
وَفِي الْمُحِيطِ : الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ مُوَافِقٌ
لِاخْتِيَارِ السَّرَخْسِيِّ الرِّوَايَةَ الْمُوَافِقَةَ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ كُفْءٌ فِي الدِّيَانَةِ ثُمَّ صَارَ دَاعِرًا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ وَقْتَ النِّكَاحِ .
قَالَ ( وَ ) تُعْتَبَرُ ( فِي الْمَالِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ) وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، حَتَّى إنَّ مَنْ لَا يَمْلِكُهُمَا أَوْ لَا يَمْلِكُ أَحَدَهُمَا لَا يَكُونُ كُفْئًا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ إيفَائِهِ وَبِالنَّفَقَةِ قِوَامُ الِازْدِوَاجِ وَدَوَامُهُ .
وَالْمُرَادُ بِالْمَهْرِ قَدْرُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهُ مُؤَجَّلٌ عُرْفًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى النَّفَقَةِ دُونَ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَجْرِي الْمُسَاهَلَةُ فِي الْمَهْرِ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِيَسَارِ أَبِيهِ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ ) أَيْ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي الْمَالِ هُوَ ( أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ) وَتَقْيِيدُهُ بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي الْكَفَاءَةِ فِي الْغِنَى بِمَا نَسَبَهُ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ هُوَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْمَهْرِ مِلْكُ مَا تَعَارَفُوا تَعْجِيلَهُ وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ حَالًّا .
وَفِي الْمُجْتَبَى : قُلْت فِي عُرْفِ أَهْلِ خُوَارِزْمَ كُلُّهُ مُؤَجَّلٌ فَلَا تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُرَادَ بِمِلْكِ النَّفَقَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِيهِ : قِيلَ الْمُعْتَبَرُ مِلْكُ نَفَقَةِ شَهْرٍ ، وَقِيلَ نَفَقَةُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَفِي جَامِعِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ سَنَةٍ ، وَفِي الْمُجْتَبَى : الصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى النَّفَقَةِ عَنْ طَرِيقِ الْكَسْبِ كَانَ كُفْئًا ، وَمَعْنَاهُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إيفَاءِ مَا يُعَجِّلُ لَهَا بِالْيَدِ وَيَكْتَسِبُ مَا يُنْفِقُ لَهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ كَانَ كُفْئًا لَهَا .
وَفِي غَرِيبِ الرِّوَايَةِ لِلسَّيِّدِ أَبِي شُجَاعٍ جَعَلَ الْأَصَحَّ مِلْكَ نَفَقَةِ شَهْرٍ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : إنْ كَانَ يَجِدُ نَفَقَتَهَا وَلَا يَجِدُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ فَهُوَ كُفْءٌ وَإِلَّا لَا يَكُونُ كُفْئًا وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً ا هـ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، ثُمَّ هَذَا إذَا كَانَتْ تُطِيقُ النِّكَاحَ ، فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا تُطِيقُهُ فَهُوَ كُفْءٌ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا ( قَوْلُهُ وَيُعَدُّ الْمَرْءُ قَادِرًا بِيَسَارِ أَبِيهِ ) وَأُمِّهِ وَجَدِّهِ وَجَدَّتِهِ وَلَا تُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى النَّفَقَةِ بِيَسَارِ الْأَبِ
فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي الْغِنَى فَمُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى إنَّ الْفَائِقَةَ فِي الْيَسَارِ لَا يُكَافِئُهَا الْقَادِرُ عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِالْغِنَى وَيَتَعَيَّرُونَ بِالْفَقْرِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ثَبَاتَ لَهُ إذْ الْمَالُ غَادٍ وَرَائِحٌ
( قَوْلُهُ فَأَمَّا الْكَفَاءَةُ فِي الْغِنَى ) يَعْنِي بَعْدَ مِلْكِهِ لِلْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ هَلْ تُعْتَبَرُ مُكَافَأَتُهُ إيَّاهَا فِي غِنَاهَا ، قَالَ : مُعْتَبَرَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، لَكِنْ صَرَّحَ السَّرَخْسِيُّ فِي مَبْسُوطِهِ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ بِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ مَذْمُومَةٌ .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ : لَا مُعْتَبَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْغِنَى هُوَ الصَّحِيحُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّ مَنْ مَلَكَهُمَا لَا يَكُونُ كُفْئًا لِلْفَائِقَةِ فِي الْغِنَى وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، فَنَصَّ عَلَى أَنَّ مَا فِي الْهِدَايَةِ غَيْرُ رِوَايَةِ الْأُصُولِ ، وَكَذَا فِي الدِّرَايَةِ قَالَ : وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ .
وَفِي كِتَابِ النِّكَاحِ : لَا تُشْتَرَطُ الْقُدْرَةُ إلَّا عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمَبْسُوطِ عَنْ الْأَوَائِلِ ، قَالَ : وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتَبَرُوا الْكَفَاءَةَ فِي الْمَالِ بَعْدَمَا صَرَّحَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِنَفْيِهِ
( وَ ) تُعْتَبَرُ ( فِي الصَّنَائِعِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ إلَّا أَنْ تَفْحُشَ كَالْحَجَّامِ وَالْحَائِكِ وَالدَّبَّاغِ .
وَجْهُ الِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاخَرُونَ بِشَرَفِ الْحِرَفِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِدَنَاءَتِهَا .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْحِرْفَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ ، وَيُمْكِنُ التَّحَوُّلُ عَنْ الْخَسِيسَةِ إلَى النَّفِيسَةِ مِنْهَا .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ ) أَظْهَرُهُمَا لَا تُعْتَبَرُ فِي الصَّنَائِعِ حَتَّى يَكُونَ الْبَيْطَارُ كُفْئًا لِلْعَطَّارِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَعَنْهُ فِي أُخْرَى : الْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ إلَّا الْحَائِكُ وَالْحَجَّامُ ، وَكَذَا الدَّبَّاغُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْكِتَابِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَأَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ مُحَمَّدٍ فَصَارَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِوَايَتَانِ : الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَدَمُ الِاعْتِبَارِ ، وَالظَّاهِرُ عَنْ مُحَمَّدٍ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تُفْحِشَ وَهُوَ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ بَقِيَّةَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ إلَّا حَائِكًا أَوْ حَجَّامًا ، مَا يُفِيدُ اعْتِبَارَهَا فِي الصَّنَائِعِ ، لَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ أَنَّ الصِّنَاعَاتِ الْمُتَقَارِبَةَ أَكْفَاءٌ كَالْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ ، بِخِلَافِ الْمُتَبَاعِدَةِ ، وَعَدَّ الْخَيَّاطَ مَعَ الدَّبَّاغِ وَالْحَجَّامِ وَالْكَنَّاسِ قَالَ : فَهَؤُلَاءِ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ وَلَا يُكَافِئُونَ سَائِرَ الْحِرَفِ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَكَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ قَالَ : وَكَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ اعْتِبَارَهَا ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُعْتَبَرُ وَنَحْوُهُ فِي النَّافِعِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا لَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْكَفَاءَةِ فِي الصَّنَائِعِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِكَوْنِهِمَا مِنْ صِنَاعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَفِي الْمُحِيطِ وَغَيْرِهِ : وَهَاهُنَا خَسَاسَةٌ هِيَ أَخَسُّ مِنْ الْكُلِّ وَهُوَ الَّذِي يَخْدُمُ الظَّلَمَةَ يُدْعَى شَاكِرْبَاهْ تَابِعًا وَإِنْ كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ وَمَالٍ .
قِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُعَدُّ الدَّنَاءَةُ فِي الْحِرْفَةِ مَنْقَصَةً فَلَا تُعْتَبَرُ ، وَفِي زَمَنِهِمَا تُعَدُّ فَتُعْتَبَرُ .
وَالْحَقُّ اعْتِبَارُ ذَلِكَ سَوَاءٌ
كَانَ هُوَ الْمَبْنِيُّ أَوَّلًا ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ هُوَ اسْتِنْقَاصُ أَهْلِ الْعُرْفِ فَيَدُورُ مَعَهُ ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَائِكُ كُفْئًا لِلْعَطَّارِ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِمَا هُنَاكَ مِنْ حُسْنِ اعْتِبَارِهَا وَعَدَمِ عَدِّهَا نَقْصًا أَلْبَتَّةَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ خَسَاسَةٌ غَيْرُهَا
قَالَ ( وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَوْ يُفَارِقَهَا ) وَقَالَا : لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ .
وَهَذَا الْوَضْعُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عَلَى اعْتِبَارِ قَوْلِهِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ الْوَلِيِّ ، وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَيْهِ .
لَهُمَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ حَقُّهَا وَمَنْ أَسْقَطَ حَقَّهُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ كَمَا بَعْدَ التَّسْمِيَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَفْتَخِرُونَ بِغَلَاءِ الْمَهْرِ وَيَتَعَيَّرُونَ بِنُقْصَانِهِ فَأَشْبَهَ الْكَفَاءَةَ ، بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَعَيَّرُ بِهِ .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يَتِمَّ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَوْ يُفَارِقَهَا ) فَالثَّابِتُ إلْزَامُ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ فَرْعُ قِيَامِ مُكْنَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا ؛ فَعَنْ هَذَا مَا فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ : لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ بِتَكْمِيلِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُمْ لَيْسَ إلَّا أَنْ يَفْسَخَ أَوْ يُكْمِلَ ، فَإِذَا امْتَنَعَ هُنَا عَنْ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ لَا يُمْكِنُ الْفَسْخُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَدَارَ عَلَى التَّسْمِيَةِ حَتَّى لَوْ سَمَّتْ مَهْرَ مِثْلِهَا وَلَمْ تَأْخُذْهُ بَلْ أَبْرَأَتْ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهَا .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا الْوَضْعُ ) أَيْ قَوْلُنَا إذَا تَزَوَّجَتْ وَنَقَصَتْ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَلِلْأَوْلِيَاءِ الِاعْتِرَاضُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ : لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَمَعْنَاهُ يَجِبُ تَنْقِيَةُ الْعَقْدِ فَرْعَ صِحَّةِ عَقْدِ الْمَرْأَةِ بِنَفْسِهَا فَإِنَّمَا يَصِحُّ مِنْ مُحَمَّدٍ عَلَى اعْتِبَارِ رُجُوعِهِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِمَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مُبَاشَرَتُهَا بِنَفْسِهَا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ ، قَالَ : وَهَذِهِ شَهَادَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى رُجُوعِهِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ تَعَيَّنَ هَذَا الْوَضْعُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهَا الْوَلِيُّ بِالتَّزْوِيجِ وَلَمْ يُسَمِّ مَهْرًا فَعَقَدَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَكَذَا لَوْ أَكْرَهَ السُّلْطَانُ امْرَأَةً وَوَلِيَّهَا عَلَى تَزْوِيجِهَا بِمَهْرٍ قَلِيلٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ زَالَ الْإِكْرَاهُ وَرَضِيَتْ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يَرْضَ الْوَلِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَضْعُ دَلَالَةً عَلَى رُجُوعِ مُحَمَّدٍ إلَى قَوْلِهِمَا ا هـ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَنَا إذَا تَزَوَّجَتْ وَنَقَصَتْ لَا يَنْقُصُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ عَامٌّ فِي الصُّوَرِ عَلَى
مَا هُوَ حَالُ أَسْمَاءِ الشَّرْطِ ، فَبِاعْتِبَارِ عُمُومِهِ يَكُونُ شَهَادَةً صَادِقَةً وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُصَنِّفُ ، وَبِاعْتِبَارِ حَمْلِهِ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ أَعَمُّ مِنْهَا لَا يَكُونُ شَهَادَةً وَعَلَيْهِ مَشَى الْمُعْتَرِضُ ، وَالْأَصْلُ خِلَافُهُ إلَّا أَنْ يُوجِبَ الْحَمْلُ عَلَى بَعْضِ الصُّوَرِ مُوجِبٌ وَتَمَامُ الِاعْتِرَاضِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ .
فَتَوْجِيهُ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُقَالَ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى كَذَا لِلصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ شَهَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَجِبُ هَذَا الْحَمْلُ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ هُنَا وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَرُجُوعُهُ مَرْوِيٌّ أَنَّهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَصْنِيفَهُ لِلْجَامِعِ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْحَقُّ أَنَّهُ رَجَعَ وَلَا شَهَادَةَ فِي هَذِهِ .
( وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ بِنْتَه الصَّغِيرَةَ وَنَقَصَ مِنْ مَهْرِهَا أَوْ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَزَادَ فِي مَهْرِ امْرَأَتِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَجُوزُ الْحَطُّ وَالزِّيَادَةُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ) وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَطَّ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ فِي شَيْءٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ غَيْرُهُمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ النَّظَرِ وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ ، وَفِي النِّكَاحِ مَقَاصِدُ تَرْبُو عَلَى الْمَهْرِ .
أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَهِيَ الْمَقْصُودُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ وَالدَّلِيلُ عَدِمْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَنَقَصَ مِنْ مَهْرِهَا أَوْ ابْنَهُ الصَّغِيرَ وَزَادَ فِي مَهْرِ امْرَأَتِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ) وَلَزِمَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ أَوْ قَلِيلٍ وَثَبَتَ الْمَالُ كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي الثَّانِيَةِ لَا فِي ذِمَّةِ الْأَبِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَيَقْضِيهِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ( وَقَالَا : لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ فِيهِ النَّاسُ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَتَهُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا عَدَمُ الْكَفَاءَةِ فِي غَيْرِ الدِّيَانَةِ .
أَمَّا فِيهَا فَلَا ، لِمَا قَالُوا : لَوْ كَانَ الْأَبُ مَعْرُوفًا بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ مَجَانَةً وَفِسْقًا كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَمَنْ زَوَّجَ بِنْتَهُ الصَّغِيرَةَ الْقَابِلَةَ لِلتَّخَلُّقِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ شِرِّيرٌ فَاسِقٌ ظَهَرَ سُوءُ اخْتِيَارِهِ ، وَلِأَنَّ تَرْكَ النَّظَرِ هُنَا مَقْطُوعٌ بِهِ فَلَا يُعَارِضُهُ ظُهُورُ إرَادَةِ مَصْلَحَةٍ تَفُوقُ ذَلِكَ نَظَرًا إلَى شَفَقَةِ الْأُبُوَّةِ .
وَمَا فِي النَّوَازِلِ زَوَّجَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ فَإِذَا هُوَ مُدْمِنٌ لَهُ وَقَالَتْ : لَا أَرْضَى بِالنِّكَاحِ : يَعْنِي بَعْدَمَا كَبِرَتْ إنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ الْأَبُ بِشُرْبِهِ وَكَانَ غَلَبَةُ أَهْلِ بَيْتِهِ صَالِحِينَ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا زَوَّجَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ كُفْءٌ يُفِيدُ خِلَافَهُ إذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ عَرَفَهُ الْأَبُ أَنَّهُ يَشْرَبُهُ فَالنِّكَاحُ نَافِذٌ ، وَهُوَ يُنَافِي مَا قُرِّرَ مِنْ أَنَّ الْأَبَ إذَا عُرِفَ بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ لَا يَنْفُذُ تَزْوِيجُهُ مِنْ غَيْرِ الْكُفْءِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ ثُبُوتِ سُوءِ الِاخْتِيَارِ وَتَيَقُّنِهِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْرُوفًا بِهِ فَلَا يَلْزَمُ بُطْلَانُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ سُوءِ الِاخْتِيَارِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ لِلنَّاسِ كَوْنُ الْأَبِ الْعَاقِدِ مَعْرُوفًا
بِمِثْلِهِ ( قَوْلُهُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَهُمَا ) أَيْ قَوْلُهُمَا لَا يَجُوزُ هَلْ مَعْنَاهُ نَفْيُ صِحَّةِ الْعَقْدِ أَوْ نَفْيُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَالْعَقْدُ صَحِيحٌ فَيُزَادُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، قِيلَ بِالْأَوَّلِ وَقِيلَ بِالثَّانِي ، وَاخْتَارَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فَعِنْدَ فَوَاتِهِ ظَاهِرًا بِإِيجَابِ الْمَالِ عِوَضُ نَفْسِهَا نَاقِصًا أَوْ إبْطَالُهُ بِدُونِ عِوَضٍ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ كَالْمَأْمُورِ بِالْعَقْدِ بِشَرْطٍ لَا يَصِحُّ عَقْدُهُ إذَا لَمْ يَجْرِ عَلَى شَرْطِهِ ؛ وَلِذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ فِي مَالِهِمَا ، فَإِيجَابُ الْمَالِ عِوَضُ نَفْسِهَا نَاقِصًا أَوْلَى بِعَدَمِ النَّفَاذِ ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ لَوْ زَوَّجَ أَمَتَهَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَجُوزُ فَتَزْوِيجُهَا كَذَلِكَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْجَوَازِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّظَرَ وَعَدَمَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَيْسَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ بَاطِنٍ ، فَالضَّرَرُ كُلُّ الضَّرَرِ بِسُوءِ الْعِشْرَةِ وَإِدْخَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَكْرُوهَ عَلَى الْآخَرِ ، وَالنَّظَرُ كُلُّ النَّظَرِ فِي ضِدِّهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ ، وَأَمْرُ الْمَالِ سَهْلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فِيهِ بَلْ الْمَقْصُودُ فِيهِ مَا قُلْنَا ، فَإِذَا كَانَ بَاطِنًا يُعْتَبَرُ دَلِيلُهُ فَيُعَلَّقُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ .
وَدَلِيلُ النَّظَرِ قَائِمٌ هُنَا وَهُوَ قُرْبُ الْقَرَابَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى وُفُورِ الشَّفَقَةِ مَعَ كَمَالِ الرَّأْيِ ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ مِنْ الْعَصَبَاتِ وَالْأُمِّ لِقُصُورِ الشَّفَقَةِ فِي الْعَصَبَاتِ وَنُقْصَانِ الرَّأْيِ فِي الْأُمِّ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَالدَّلِيلُ عَدِمْنَاهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَصِحُّ عَقْدُهُمْ لِذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا انْبَنَى الْفَرْعُ الْمَعْرُوفُ : لَوْ زَوَّجَ الْعَمُّ الصَّغِيرَةَ حُرَّةَ الْجَدِّ مِنْ مُعْتَقِ الْجَدِّ فَكَبِرَتْ وَأَجَازَتْ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَقْدًا مَوْقُوفًا إذْ لَا مُجِيزَ لَهُ
فَإِنَّ الْعَمَّ وَنَحْوَهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ التَّزْوِيجُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْأَبُ مَعْرُوفًا بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ أَوْ الْمَجَانَةِ وَالْفِسْقِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ .
أَمَّا الْمَالُ فَهُوَ الْمَقْصُودُ فِي التَّصَرُّفِ الْمَالِيِّ لَا فِي أَمْرٍ آخَرَ بَاطِنٍ لِيُحَالَ النَّظَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ ظُهُورِ التَّقْصِيرِ فِي الْمَالِ ، فَلِذَا لَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهُ أَمَتَهُمَا بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ؛ لِأَنَّهُ إضَاعَةُ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ مِلْكُهُمَا وَلَا مَقْصُودَ آخَرَ بَاطِنٍ يُصْرَفُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ تَزْوِيجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ دُونَ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ النِّسَاءِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْأَمْهَرَ أَكْثَرُ مِنْهُ بَلْ إلَّا وَهُوَ أَقَلُّ مِنْهُ أَوْ أَنَّهَا دُونَ مَهْرِ مِثْلِهَا وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ فَلَزِمَ الثَّانِي ، وَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِ أَنَّ تَزْوِيجَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا كَانَ قَبْلَ بُلُوغِهَا وَإِلَّا لَا يُفِيدُ .
وَقَدْ يُقَالُ : إذَا كَانَ الْمَدَارُ عِنْدَهُ دَلِيلَ النَّظَرِ وَهُوَ الْقَرَابَةُ الْخَاصَّةُ : أَعْنِي قَرَابَةَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مَعْرُوفًا بِسُوءِ الِاخْتِيَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَظِنَّةَ يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِانْتِفَاءِ حِكْمَتِهَا وَهَذَا كَذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَظِنَّةَ مَا يَغْلِبُ مَعَهَا الْحِكْمَةُ إنْ لَمْ تَلْزَمْ فَالْمَعْرُوفُ بِذَلِكَ حِينَئِذٍ لَيْسَ مَظِنَّةً .
وَالْحَاصِلُ إمَّا تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ أَوْ الْقَوْمِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ مَجْمُوعُ قَرَابَةِ الْأَبِ غَيْرِ الْمَعْرُوفِ بِسُوءِ الِاخْتِبَارِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي جَوَازِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَعَدَمِهِ .
( وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ عَبْدًا أَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ أَمَةً فَهُوَ جَائِزٌ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْكَفَاءَةِ لِمَصْلَحَةِ تَفَوُّقِهَا وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَا يَجُوزُ .
وَمَسْأَلَةُ تَزْوِيجِ الْأَبِ بِنْتَهُ مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ عَبْدًا أَوْ غَيْرَهُ قَدَّمْنَاهَا ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاحِدٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا ( وَيَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ ( وَإِنْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَقَدَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ جَازَ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ .
لَهُمَا أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَلَّاهُ سِوَاهُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ ، وَالتَّمَانُعُ فِي الْحُقُوقِ دُونَ التَّعْبِيرِ وَلَا تَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ حَتَّى رَجَعَتْ الْحُقُوقُ إلَيْهِ ، وَإِذَا تَوَلَّى طَرَفَيْهِ فَقَوْلُهُ زَوَّجْت يَتَضَمَّنُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ .
.
( فَصْلٌ فِي الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ وَغَيْرِهَا ) مِنْ أَحْكَامِ الْوَلِيِّ وَالْفُضُولِيِّ وَيَبْقَى الرَّسُولُ نَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَمَّا كَانَتْ الْوَكَالَةُ نَوْعًا مِنْ الْوِلَايَةِ إذْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ غَيْرَ أَنَّهَا تُسْتَفَادُ مِنْ الْوَلِيِّ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتْ ثَانِيَةً لِلْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَأَوْرَدَهَا ثَانِيَةً فِي التَّعْلِيمِ لِبَابِ الْأَوْلِيَاءِ ، ثُمَّ ذَكَرَ غَيْرَهَا مِنْ الْفُضُولِيِّ لِتَأَخُّرِهِ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّفَاذَ بِالْإِجَازَةِ إنَّمَا يُنْسَبُ إلَى الْوَلِيِّ الْمُجِيزِ فَنَزَلَ عَقْدُ الْفُضُولِيِّ كَالشَّرْطِ لَهُ حَيْثُ لَمْ يَسْتَعْقِبْ بِنَفْسِهِ حُكْمَهُ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي السَّبَبِ ، غَيْرَ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ بِالْوَلِيِّ إنْ نَظَرَ فِيهِ إلَى أَنَّهُ أَقْوَى نَاسَبَ الِابْتِدَاءَ بِهِ ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى أَنَّ عَقْدَ الْفَصْلِ لِلْوَكِيلِ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ كَانَ الْمُنَاسِبُ الِابْتِدَاءَ بِمَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ ( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِابْنِ الْعَمِّ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ ) الصَّغِيرَةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَالْبَالِغَةِ بِإِذْنِهَا ، فَيَقُولُ اشْهَدُوا أَنِّي تَزَوَّجْت بِنْتَ عَمِّي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ أَوْ زَوَّجْتُهَا مِنْ نَفْسِي ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ لِرَجُلٍ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ فَعَقَدَ بِحَضْرَةِ شَاهِدَيْنِ جَازَ ، وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ) وَصُورَتُهَا أَنْ يَقُولَ اشْهَدُوا أَنَّ فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَكَّلَتْنِي أَنْ أُزَوِّجَهَا مِنْ نَفْسِي وَقَدْ فَعَلْت ذَلِكَ ، فَلَوْ لَمْ يَنْسُبْهَا إلَى الْجَدِّ وَلَمْ يَعْرِفْهَا الشُّهُودُ فَفِي التَّفَارِيقِ وَسِعَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَطَأَهَا .
وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ : لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الْغَائِبَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالتَّسْمِيَةِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ تَزَوَّجْت امْرَأَةً وَكَّلَتْنِي لَا يَجُوزُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ كُلُّ وَكِيلٍ لِامْرَأَةٍ بِتَزْوِيجِ نَفْسِهَا .
وَذَكَرَ
الْخَصَّافُ : رَجُلٌ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَجَابَتْهُ وَكَرِهَتْ أَنْ يَعْلَمَ أَوْلِيَاؤُهَا فَجَعَلْت أَمْرَهَا فِي تَزْوِيجِهَا إلَى الْخَاطِبِ وَاتَّفَقَا عَلَى الْمَهْرِ فَكَرِهَ الزَّوْجُ تَسْمِيَتَهَا عِنْدَ الشُّهُودِ قَالَ : يَقُولُ إنِّي خَطَبْت امْرَأَةً بِصَدَاقِ كَذَا وَرَضِيَتْ بِهِ وَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَيَّ بِأَنْ أَتَزَوَّجَهَا فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي تَزَوَّجْت الْمَرْأَةَ الَّتِي أَمْرُهَا إلَيَّ عَلَى صَدَاقِ كَذَا فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : الْخَصَّافُ كَبِيرٌ فِي الْعِلْمِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ .
وَقَالَ فِي التَّجْنِيسِ : وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْرِيفِ يَكْفِي ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً مُتَنَقِّبَةً وَلَا يَعْرِفُهَا الشُّهُودُ ، فَعَنْ الْحَسَنِ وَبِشْرٍ يَجُوزُ ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ تَرْفَعْ نِقَابَهَا وَيَرَاهَا الشُّهُودُ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ فِيمَا يَظْهَرُ بَعْدَ سَمَاعِ الشَّطْرَيْنِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَيْسَ شَهَادَةً تُعْتَبَرُ لِلْأَدَاءِ لِيُشْتَرَطَ الْعِلْمُ عَلَى التَّحْقِيقِ بِذَاتِ الْمَرْأَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ رَأَيْت فِي التَّجْنِيسِ أَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَارُ ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ يَعْرِفُ بِالْإِشَارَةِ ، وَالِاحْتِيَاطُ كَشْفُ نِقَابِهَا وَتَسْمِيَتُهَا وَنِسْبَتُهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا الشُّهُودُ ، أَمَّا إذَا كَانُوا يَعْرِفُونَهَا وَهِيَ غَائِبَةٌ فَذَكَرَ الزَّوْجُ اسْمَهَا لَا غَيْرَ جَازَ النِّكَاحُ إذَا عَرَفَ الشُّهُودُ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَرْأَةَ الَّتِي يَعْرِفُونَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّسْمِيَةِ التَّعْرِيفُ وَقَدْ حَصَلَ ا هـ .
وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالظَّاهِرِيَّةُ .
وَقَوْلُهُ مِنْ نَفْسِهِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ وَكَّلَتْهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مُطْلَقًا فَإِنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا لَوْ وَكَّلَتْ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً بِأَنْ تُزَوِّجَهُ فَزَوَّجَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا لَا يَصِحُّ أَيْضًا ( لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا
يَتَصَوَّرُ ) عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ( أَنْ يَكُونَ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا كَمَا فِي الْبَيْعِ ) لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِتَضَادِّ حُكْمَيْ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ ، وَيُوَافِقُهُ الْأَثَرُ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ : خَاطِبٌ ، وَوَلِيٌّ ، وَشَاهِدَا عَدْلٍ } ( إلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ ) عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ( فِي الْوَلِيِّ ضَرُورَةٌ إذْ لَا يَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ ) فَلَوْ مَنَعَ مَنْ تَوَلَّى شَطْرَيْهِ امْتَنَعَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِتَزْوِيجِهَا مِنْهُ كَانَ قَائِمًا مَقَامَهُ وَانْتَقَلَتْ عِبَارَتُهُ إلَيْهِ كَتَكَلُّمِهِ هُوَ بِنَفْسِهِ فَلَا فَرْقَ فِي التَّحْقِيقِ .
وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ جَاءَ عَلَى اعْتِقَادِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِالْجَوَازِ كَقَوْلِنَا ؛ وَلِذَا اقْتَصَرَ فِي نَقْلِ الْخِلَافِ فِيهَا عَلَى خِلَافِ زُفَرَ ، لَكِنَّ الْوَاقِعَ ثُبُوتُ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِيهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ إجْبَارٍ لِغَيْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُجِيزَ تَزْوِيجَ ابْنِ الْعَمِّ بِنْتَ عَمِّهِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَاَلَّذِي يُجِيزُهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ تَوَلِّي الْوَلِيِّ الطَّرَفَيْنِ هُوَ تَزْوِيجُ الْجَدِّ بِنْتَ ابْنِهِ مِنْ ابْنِ ابْنِهِ وَلَيْسَ هُوَ فِي هَذَا مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَثْنًى ، وَلَوْ جُعِلَ مُنْقَطِعًا لَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بِالضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْمُبَاشِرُ مُمَلِّكًا وَمُتَمَلِّكًا شَرْعًا إلَّا فِي الْوَلِيِّ صَحَّ ذَلِكَ ضَرُورَةً لَكِنَّهُ مُنْتَفٍ ( وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ فِي النِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ ) حَتَّى لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا نَذْكُرُ ، وَلَا تَرْجِعُ حُقُوقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ حَتَّى لَا يُطَالِبَ بِالْمَهْرِ وَتَسْلِيمِ الزَّوْجَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ فِيهِ وَكِيلًا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ فِيهِ
مُبَاشِرٌ تَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ وَيَسْتَغْنِي عَنْ الْإِضَافَةِ .
وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ وَالتَّمَانُعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُقُوقِ لَا فِي نَفْسِ التَّلَفُّظِ ، فَاَلَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ لَا امْتِنَاعَ فِيهِ ، وَاَلَّذِي فِيهِ الِامْتِنَاعُ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ، وَلِلِانْتِقَالِ لِكَوْنِهِ مُعَبِّرًا بِعِبَارَةِ الْغَيْرِ يَكُونُ ذَلِكَ الْعَقْدُ قَامَ بِأَرْبَعَةٍ الِاثْنَيْنِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُمَا وَالشَّاهِدَيْنِ عَلَى مَا هُوَ فِي الْأَثَرِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ مَسْأَلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ الْأَبُ ، فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ مَالَ ابْنِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَاهُ وَلَوْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ صَحَّ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا عَلَى التَّشْبِيهِ وَإِلَّا فَبَيْعُ الْأَبِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ بَلْ الْوِلَايَةِ وَالْأَصَالَةِ .
ثُمَّ إذَا تَوَلَّى طَرَفَيْهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ فَقَوْلُهُ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ نَفْسِي يَتَضَمَّنُ الشَّطْرَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَهُ ، وَكَذَا وَلِيُّ الصَّغِيرَيْنِ الْقَاضِي وَغَيْرِهِ ، وَالْوَكِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَقُولُ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ : هَذَا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا هُوَ أَصِيلٌ فِيهِ ، أَمَّا إذَا ذَكَرَ لَفْظًا هُوَ نَائِبٌ فِيهِ فَلَا يَكْفِي ، فَإِنْ قَالَ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ كَفَى ، وَإِنْ قَالَ زَوَّجْتهَا مِنْ نَفْسِي لَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِيهِ .
وَعِبَارَةُ الْهِدَايَةِ وَهِيَ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا صَرِيحَةٌ فِي نَفْيِ هَذَا الِاشْتِرَاطِ ، وَصَرَّحَ بِنَفْيِهِ فِي التَّجْنِيسِ أَيْضًا فِي عَلَامَةِ غَرِيبِ الرِّوَايَةِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى قَالَ : رَجُلٌ زَوَّجَ بِنْتَ أَخِيهِ مِنْ ابْنِ أَخِيهِ فَقَالَ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ يَكْفِي وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ قَبِلْت ، وَكَذَا كُلُّ مَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ إذَا أَتَى بِأَحَدِ شَطْرَيْ الْإِيجَابِ يَكْفِيهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الشَّطْرِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ يَقَعُ دَلِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
قَالَ ( وَتَزْوِيجُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُمَا مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ ، وَإِنْ رَدَّهُ بَطَلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا أَوْ رَجُلًا بِغَيْرِ رِضَاهُ ) وَهَذَا عِنْدَنَا فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَدَرَ مِنْ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَصَرُّفَاتُ الْفُضُولِيِّ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ وُضِعَ لِحُكْمِهِ ، وَالْفُضُولِيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ الْحُكْمِ فَيَلْغُو .
وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ، وَلَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا .
حَتَّى إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ يُنَفِّذُهُ ، وَقَدْ يَتَرَاخَى حُكْمُ الْعَقْدِ عَنْ الْعَقْدِ ( وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَأَجَازَتْ جَازَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَائِبًا فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ جَازَ .
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ وَأَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ .
وَلَوْ جَرَى الْعَقْدُ بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ أَوْ بَيْنَ الْفُضُولِيِّ وَالْأَصِيلِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ .
هُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَنْفُذُ ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا يَتَوَقَّفُ وَصَارَ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَوْجُودَ شَطْرُ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ شَطْرٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ فَكَذَا عِنْدَ الْغَيْبَةِ ، وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ ، وَمَا جَرَى بَيْنَ الْفُضُولِيَّيْنِ عَقْدٌ تَامٌّ ، وَكَذَا الْخُلْعُ
وَأُخْتَاهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ مِنْ جَانِبِهِ حَتَّى يَلْزَمَ فَيَتِمَّ بِهِ
( قَوْلُهُ فَإِنَّ كُلَّ عَقْدٍ ) كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهِمَا ( صَدَرَ مِنْ الْفُضُولِيِّ وَلَهُ مُجِيزٌ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ ) فَإِذَا أَجَازَ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ ثَبَتَ حُكْمُهُ مُسْتَنِدًا إلَى الْعَقْدِ .
فَسَّرَ الْمُجِيزَ فِي النِّهَايَةِ بِقَابِلٍ يَقْبَلُ الْإِيجَابَ سَوَاءٌ كَانَ فُضُولِيًّا أَوْ وَكِيلًا أَوْ أَصِيلًا .
وَقَالَ فِي فَصْلِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ مِنْ النِّهَايَةِ : الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْعُقُودَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ إذَا كَانَ لَهَا مُجِيزٌ حَالَةَ الْعَقْدِ جَازَتْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَبْطُلُ .
وَالشِّرَاءُ إذَا وُجِدَ نَفَاذًا نَفَذَ عَلَى الْعَاقِدِ وَإِلَّا تَوَقَّفَ .
بَيَانُهُ : الصَّبِيُّ إذَا بَاعَ مَالَهُ أَوْ اشْتَرَى أَوْ تَزَوَّجَ أَوْ زَوَّجَ أَمَتَهُ أَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ أَوْ نَحْوَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ ، فَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ الْوَلِيُّ فَأَجَازَ بِنَفْسِهِ نَفَذَ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُتَوَقِّفَةً وَلَا يَنْفُذُ بِمُجَرَّدِ بُلُوغِهِ ، وَلَوْ طَلَّقَ الصَّبِيُّ امْرَأَتَهُ أَوْ خَلَعَهَا أَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ دُونَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ أَوْ بَاعَ مَالَهُ مُحَابَاةً فَاحِشَةً أَوْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ مَالًا يَتَغَابَنُ فِيهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ وَلِيُّهُ لَا يَنْفُذُ كَانَتْ هَذِهِ الصُّوَرُ بَاطِلَةً غَيْرَ مُتَوَقِّفَةٍ ، وَلَوْ أَجَازَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ لِعَدَمِ الْمُجِيزِ وَقْتَ الْعَقْدِ إلَّا إذَا كَانَ لَفْظُ الْإِجَازَةِ يَصْلُحُ لِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ عَلَى وَجْهِ الْإِنْشَاءِ كَأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَوْ أَوْقَعْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ ا هـ .
وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُفَسَّرَ الْمُجِيزُ هُنَا بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إمْضَاءِ الْعَقْدِ لَا بِالْقَابِلِ مُطْلَقًا وَلَا بِالْوَلِيِّ .
إذْ لَا تَوَقُّفَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ ، وَإِنْ قَبِلَ فُضُولِيٌّ آخَرُ أَوْ وَلِيٌّ لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْوَلِيِّ عَلَى إمْضَائِهَا ، وَلَوْ أَرَادَ هُنَا بِالْمُجِيزِ الْمُخَاطَبَ مُطْلَقًا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ
وَلَهُ مُجِيزٌ وَمَنْ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ لِيَصِحَّ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ انْعَقَدَ مَوْقُوفًا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فُضُولِيٌّ ، وَلَوْ قَبِلَ عَقْدَهُ آخَرُ لَا يَتَوَقَّفُ لِعَدَمِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إنْفَاذِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ الْعَقْدُ شَامِلًا لِلْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى مُخَاطَبٍ بَلْ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةُ إمْضَائِهِ فَقَطْ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَجْنَبِيٌّ لِامْرَأَةِ رَجُلٍ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ مَثَلًا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ أَجَازَ تَعَلَّقَ فَتَطْلُقُ بِالدُّخُولِ ، وَلَوْ دَخَلَتْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا تَطْلُقُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، فَإِنْ عَادَتْ وَدَخَلَتْ بَعْدَهَا طَلُقَتْ ، كَذَا فِي الْجَامِعِ .
وَفِي الْمُنْتَقَى ، إذَا دَخَلَتْ قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَقَالَ الزَّوْجُ أَجَزْت الطَّلَاقَ عَلَيَّ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَوْ قَالَ أَجَزْت هَذِهِ الْيَمِينَ عَلَيَّ لَزِمَتْهُ الْيَمِينُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ حَتَّى تَدْخُلَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ .
وَعُرِفَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا تَزَوَّجَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ غَيْرَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى رَأْيِ الْوَلِيِّ ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُجِيزُ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةُ الْإِمْضَاءِ وَيَنْدَرِجُ الْمُخَاطَبُ فِي ذِكْرِ الْعَقْدِ مِنْ قَوْلِهِ كُلُّ عَقْدٍ يَعْقِدُهُ الْفُضُولِيُّ فَإِنَّ اسْمَ الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالشَّطْرَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا ، فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ وَمَا لَا مُجِيزَ لَهُ ، أَيْ مَا لَيْسَ لَهُ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِجَازَةِ يَبْطُلُ كَمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَزَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أَمَةً أَوْ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ خَامِسَةً أَوْ زَوْجَةً مُعْتَدَّةً أَوْ مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً يَتِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ، أَوْ إذَا لَمْ يَكُنْ سُلْطَانٌ وَلَا قَاضٍ لَا يَتَوَقَّفُ لِعَدَمِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِمْضَاءِ حَالَةَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ لَهُ وِلَايَةُ حُكْمٍ لِيُمْكِنَ
تَزْوِيجُهُ الْيَتِيمَةَ فَكَانَ كَالْمَكَانِ الَّذِي فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ لَهُ حَاكِمٌ وَلَا سُلْطَانٌ فَإِنَّهُ أَيْضًا يَتَعَذَّرُ تَزْوِيجُ الصَّغَائِرِ فِيهِ اللَّاتِي لَا عَوَاصِبَ لَهُنَّ فَوَقَعَ بَاطِلًا ، حَتَّى لَوْ زَالَ الْمَانِعُ بِمَوْتِ امْرَأَتِهِ السَّابِقَةِ وَانْقِضَاءِ عِدَّةِ الْمُعْتَدَّةِ فَأَجَازَ لَا يَنْفُذُ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَيَجِبُ أَنْ يَتَوَقَّفَ لِوُجُودِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِمْضَاءِ .
وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْمُكَاتَبُ إذَا تَكَفَّلَ بِمَالٍ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ تَصِحُّ هَذِهِ الْكَفَالَةُ حَتَّى يُؤْخَذَ فِيهَا بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهَا ، وَكَذَا إذَا وَكَّلَ الْمُكَاتَبُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ أَجَازَ هَذِهِ الْوَكَالَةَ بَعْدَ الْعِتْقِ نَفَذَتْ الْوَكَالَةُ ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِعَيْنٍ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ عَتَقَ فَأَجَازَ الْوَصِيَّةَ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ كَفَالَتَهُ الْتِزَامُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ قَابِلَةٌ لِلِالْتِزَامِ ، لَكِنْ لَا يَظْهَرُ لِلْحَالِ لِحَقِّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ بِالْإِعْتَاقِ ظَهَرَ مُوجِبُهُ .
أَمَّا التَّوْكِيلُ وَالْوَصِيَّةُ فَالْإِجَازَةُ فِيهِمَا إنْشَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يُعْقَدَانِ بِلَفْظِ الْإِجَازَةِ ، وَالْإِنْشَاءُ لَا يُسْتَدْعَى عَقْدًا سَابِقًا .
وَلِذَا لَوْ قَالَ لِآخَرَ أَجَزْت أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتِي أَوْ أَنْ تُعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أَنْ تَكُونَ وَكِيلِي أَوْ أَنْ يَكُونَ مَالِي وَصِيَّةً كَانَ تَوْكِيلًا وَوَصِيَّةً ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ لَوْ قَالَ أَجَزْت عِتْقَ عَبْدِي أَوْ أَنْ تَكُونَ فُلَانَةُ زَوْجَتِي أَوْ أَنْ يَكُونَ مَالِي لِفُلَانٍ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ .
ثُمَّ شَرَعَ يَسْتَدِلُّ عَلَى تَوَقُّفِ عَقْدِ الْفُضُولِيِّ فَقَالَ إنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَهُوَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ عَلَى التَّوَقُّفِ ، إنَّمَا الضَّرَرُ فِي إبْرَامِهِ بِدُونِ اخْتِيَارِ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْعَقِدَ مَوْقُوفًا
عَلَى الْإِجَازَةِ حَتَّى إذَا رَأَى مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ يُنْفِذُهُ وَإِلَّا يَتْرُكْهُ ، فَمَا فِيهِ الضَّرَرُ لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعَقْدِ ، وَمَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ وَهُوَ تَوَقُّفُهُ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ ظُهُورِ وَجْهِ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ هُوَ الثَّابِتُ ، فَكَانَ تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ عَلَى تَحْصِيلِ غَرَضِ الْمُسْلِمِ مِنْ تَحْصِيلِ الْكُفْءِ وَالْمَهْرِ وَجَبْرِ السِّلْعَةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ ( وَقَدْ يَتَرَاخَى حُكْمُ الْعَقْدِ عَنْ الْعَقْدِ ) كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ يَتَرَاخَى مِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَى اخْتِيَارِ الْبَائِعِ الْبَيْعَ فَعَدَمُ تَرَتُّبِهِ فِي الْحَالِ عَلَى عَقْدِ الْفُضُولِيِّ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ يُرْجَى نَفْعُهُ وَاسْتِعْقَابُهُ حُكْمَهُ وَلَا ضَرَرَ فِي انْعِقَادِهِ مَوْقُوفًا فَوَجَبَ انْعِقَادُهُ كَذَلِكَ حَتَّى إذَا رَأَى إلَخْ ، فَقَوْلُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إثْبَاتِ حُكْمِهِ فَيَلْغُو مَمْنُوعَ الْمُلَازَمَةِ بَلْ إذَا أَيِسَ مِنْ مَصْلَحَتِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مِمَّا يُمْنَعُ ، وَيَقُولُ الشَّافِعِيُّ إنْ أُرِيدَ أَهْلُ الْعَقْدِ فِي الْجُمْلَةِ فَمُسَلَّمٌ وَلَا يُفِيدُ ، وَإِنْ أُرِيدَ هَذَا الْعَقْدُ الَّذِي هُوَ فِيهِ فُضُولِيٌّ فَمَمْنُوعٌ بَلْ أَهْلُهُ مَنْ لَهُ وِلَايَةُ إثْبَاتِ حُكْمِهِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ ) يَعْنِي الْغَائِبَةَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ سَابِقٍ مِنْهَا لَهُ ( فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهَا مِنْهُ فَقَبِلَ آخَرُ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ جَازَ ) وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ لَمْ يَجُزْ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي قَالَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ ) يَعْنِي يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا إذَا قَالَتْ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْت فُلَانًا : يَعْنِي الْغَائِبَ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ سَابِقٍ لَهَا مِنْهُ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ ،
وَإِنْ قَالَ آخَرُ اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ زَوَّجْتُهُ مِنْهَا فَقَبِلَ آخَرُ عَنْ الْغَائِبِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ عَنْ الْغَائِبِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ أَجَازَ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) يَعْنِي هَذَا التَّفْصِيلُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيهِمَا يَجُوزُ إذَا أَجَازَ الْغَائِبُ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ .
وَبَقِيَتْ صُورَةٌ ثَالِثَةٌ هِيَ أَنْ يَقُولَ رَجُلٌ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ فَيَكُونُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ إنْ قَبِلَ مِنْهُ فُضُولِيٌّ آخَرُ تَوَقَّفَ اتِّفَاقًا وَإِلَّا فَعَلَى الْخِلَافِ فَتَحْصُلُ سِتُّ صُوَرٍ : ثَلَاثٌ اتِّفَاقِيَّةٌ وَهِيَ قَوْلُ الرَّجُلِ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ الْمَرْأَةِ تَزَوَّجْت فُلَانًا أَوْ الْفُضُولِيِّ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَقَبِلَ آخَرُ فِيهَا ، وَثَلَاثٌ خِلَافِيَّةٌ هِيَ هَذِهِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ أَحَدٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَحَاصِلُ الْخِلَافِ إلَخْ : يَعْنِي أَصْلَ هَذَا الْخِلَافِ اخْتِلَافُهُمْ فِي أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْ فُضُولِيًّا مِنْ جَانِبٍ أَصِيلًا مِنْ جَانِبٍ أَوْ وَكِيلًا أَوْ وَلِيًّا .
وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِمَا إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ .
أَمَّا إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ بِالِاتِّفَاقِ ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَالْحَوَاشِي ، وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْقَيْدِ فِي كَلَامِ أَصْحَابِ الْمَذْهَبِ ، بَلْ كَلَامُ مُحَمَّدٍ عَلَى مَا فِي الْكَافِي لِلْحَاكِمِ أَبِي الْفَضْلِ الَّذِي جَمَعَ كَلَامَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقٌ عَنْهُ ، وَأَصْلُ الْمَبْسُوطِ خَالٍ عَنْهُ .
قَالَ : وَيَجُوزُ لِلْوَاحِدِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ النِّكَاحِ عِنْدَ الشُّهُودِ عَلَى اثْنَيْنِ إذَا كَانَ وَلِيًّا لَهُمَا أَوْ وَكِيلًا عَنْهُمَا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا كَانَ وَلِيًّا أَوْ وَكِيلًا لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا وَلَا وَكِيلًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَعِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْشَأَ مَا نُقِلَ مِنْ الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَنَّ
شَطْرَ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ عِنْدَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، وَقَالَ آخِرًا : لَا يَتَوَقَّفُ ، فَأُخِذَ مِنْهُ أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ بِأَنْ قَالَ زَوَّجْت فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ وَقَبِلْت عَنْهُ تَوَقَّفَ بِالِاتِّفَاقِ : يَعْنِي ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ عَقْدٌ لَا شَطْرٌ ، وَأَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ وَاحِدٍ ، وَقَيَّدَ بِهِ بَعْضُهُمْ قَوْلَ الْهِدَايَةِ وَالْحَقُّ الْإِطْلَاقُ ، وَبِتَكَلُّمِهِ بِكَلَامَيْنِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَقَوْلُهُ فِي الْهِدَايَةِ فِي وَجْهِ قَوْلِهِمَا وَشَطْرُ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ عَدَمَ تَوَقُّفِ الشَّطْرِ اتِّفَاقِيٌّ ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ لَا يَقَعُ إلَّا بِمُتَّفَقٍ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ فَيُخَالِفُ مَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَهُوَ الرَّاجِحُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَوْ النِّكَاحِ فَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ فِي الْمَجْلِسِ بَطَلَ وَهَذَا مَعْنَى الِاتِّفَاقِ ، عَلَى أَنَّ شَطْرَ الْعَقْدِ لَا يَتَوَقَّفُ وَإِلَّا لَجَازَ أَنْ يَقْبَلَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، وَيُتِمَّ النِّكَاحَ وَالْبَيْعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى الْخِلَافِ فِي أَنَّ مَا يَقُومُ بِالْفُضُولِيِّ عَقْدٌ تَامٌّ أَوْ شَطْرُهُ ؛ فَعِنْدَهُمَا شَطْرٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَهُ تَمَامٌ فَيَتَوَقَّفُ وَعَلَى هَذَا تَقَرَّرَ الدَّلِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
( قَوْلُهُ هُوَ يَقُولُ لَوْ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ نَفَذَ اتِّفَاقًا ) وَهُوَ فَرْعُ اعْتِبَارِ الصَّادِرِ مِنْهُ عَقْدًا تَامًّا وَهُوَ فَرْعُ قِيَامِ كَلَامِهِ مَقَامَ كَلَامَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ فُضُولِيًّا مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَتَوَقَّفُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَارِقَ إلَّا وُجُودُ الْإِذْنِ وَعَدَمُهُ ، وَأَثَرُهُ لَيْسَ إلَّا فِي النَّفَاذِ فَيَبْقَى مَا سِوَى النَّفَاذِ مِنْ كَوْنِهِ عَقْدًا تَامًّا فَيَتَوَقَّفُ .
وَحَاصِلُهُ قِيَاسُ صُورَةِ عَدَمِ الْإِذْنِ عَلَى صُورَةِ الْإِذْنِ فِي كَوْنِهِ
عَقْدًا تَامًّا وَيَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ لَازِمُهُ وَهُوَ التَّوَقُّفُ بِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ كَالْخُلْعِ ) يَعْنِي مِنْ جَانِبِهِ ( وَالطَّلَاقِ وَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ ) قِيَاسٌ عَلَى صُوَرٍ أُخَرَ هِيَ مَا إذَا قَالَ خَلَعْت امْرَأَتِي أَوْ طَلَّقْتهَا عَلَى أَلْفٍ وَهِيَ غَائِبَةٌ فَبَلَغَهَا الْخَبَرُ فَأَجَازَتْ جَازَ ، وَكَذَا أَعْتَقْت عَبْدِي عَلَى أَلْفٍ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ جَازَ كَالْأُولَى .
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَائِمَ بِهِ شَطْرُ الْعَقْدِ وَشَطْرُهُ لَا يَتَوَقَّفُ ، أَمَّا الثَّانِيَةُ فَبِالِاتِّفَاقِ ، وَأَمَّا الْأُولَى فَلِأَنَّهُ شَطْرٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ : أَيْ خِطَابُ الْحَاضِرِ وَقَبُولُهُ ، فَكَذَا حَالَةُ الْغَيْبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بِحَالٍ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ حَالَةَ الْغَيْبَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ صَيْرُورَتَهُ عَقْدًا تَامًّا ؛ لِأَنَّ كَوْنَ كَلَامَيْ الْوَاحِدِ عَقْدًا تَامًّا هُوَ أَثَرُ كَوْنِهِ مَأْمُورًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ مِنْ طَرَفٍ وَلَهُ وِلَايَةُ الطَّرَفِ الْآخَرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اثْنَيْنِ يَتَبَادَلَانِ بَدَلَيْنِ ، وَكَلَامُ الْوَاحِدِ لَيْسَ كَلَامَ اثْنَيْنِ إلَّا حُكْمًا لِإِذْنِهِمَا لَهُ أَوْ وِلَايَةً لَهُ ، وَلَا إذْنَ لِلْفُضُولِيِّ فَلَا عَقْدَ تَامَّ يَقُومُ بِهِ ، فَتَضَمَّنَ هَذَا التَّقْرِيرُ مَنْعَ كَوْنِ الْإِذْنِ لَيْسَ أَثَرُهُ إلَّا فِي النَّفَاذِ بَلْ تَأْثِيرُهُ فِي النَّفَاذِ يَسْتَلْزِمُ تَأْثِيرَهُ فِي كَوْنِهِ عَقْدًا تَامًّا ، وَفِي كَوْنِ كَلَامِهِ كَكَلَامَيْنِ لِتَوَقُّفِ النَّفَاذِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ سَلِمَ عَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِيهِمَا لَمْ يَلْزَمْ كَوْنُ كَلَامِ الْفُضُولِيِّ عَقْدًا تَامًّا ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْكَلَامِ عَقْدًا تَامًّا لَازِمٌ شَرْعِيٌّ مُسَاوٍ لِلنَّفَاذِ وَلَا إذْنَ لِلْفُضُولِيِّ فَانْتَفَى حُكْمُهُ بِلَازِمِهِ الْمُسَاوِي ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ وَأُخْتَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ يَمِينٍ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ بِقَبُولِهِمَا الْمَالَ فَيَتِمُّ بِهِ إذْ لَيْسَ عَقْدًا حَقِيقِيًّا ، وَلِذَا لَوْ كَانَتْ هِيَ
الْمُخَالِعَةُ بِأَنْ قَالَتْ خَالَعْت زَوْجِي عَلَى أَلْفٍ لَمْ يَتَوَقَّفْ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَانِبِهَا مُبَادَلَةٌ .
وَعُورِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَعْلِيقًا لَمَا بَطَلَ لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك بِكَذَا فَقَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ لَكِنَّهُ يَبْطُلُ ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَقْبَلَ بَعْدَهُ .
أُجِيبَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ تَعْلِيقًا أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْقِيَامِ بَلْ مِنْ التَّعْلِيقَاتِ مَا يَبْطُلُ بِهِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى وُجُودِ الشَّرْطِ فِي الْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت يُقْتَصَرُ عَلَى وُجُودِ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَهَذَا مِثْلُهُ .
[ فُرُوعٌ ] لِلْفُضُولِيِّ فِي النِّكَاحِ أَنْ يَفْسَخَهُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، حَتَّى لَوْ أَجَازَ مَنْ لَهُ الْإِجَازَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ قَاسَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَيُفَرَّقُ بِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ تَرْجِعُ إلَى الْفُضُولِيِّ بَعْدَ الْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْوَكِيلِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ .
هَذَا وَتَثْبُتُ الْإِجَازَةُ بِأَجَزْتُ وَنَحْوِهِ بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَا بِقَوْلِهِ نِعْمَ مَا صَنَعْت وَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا وَأَحْسَنْت وَأَصَبْت عَلَى الْمُخْتَارِ ، وَاحْتِمَالُهُ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفِي ظُهُورَهُ فِي الْإِجَازَةِ ، وَكَذَا هَذَا فِي طَلَاقِ الْفُضُولِيِّ وَبَيْعِهِ ، وَكَذَا إذَا هَنَّأَهُ فَقَبِلَ التَّهْنِئَةَ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الرِّضَا ، وَكَذَا إذَا قَالَ طَلِّقْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقْهَا لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ تَمَرُّدَهُ يَقْتَضِي حَمْلَهُ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْمُتَارَكَةِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِ .
وَلَوْ زَوَّجَهُ الْفُضُولِيُّ أَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ فَطَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْ فَرِيقٍ كَانَ إجَازَةً لِنِكَاحِ ذَلِكَ الْفَرِيقِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الصَّحِيحَ فَرْعُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَكَذَا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى رَجُلٍ نِكَاحًا فَأَنْكَرَ ثُمَّ طَلَّقَهَا أَوْ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلِّقْنِي يَكُونُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا لَمْ يُظَنَّ كَوْنُهَا كَذِبًا
وَتَمَرُّدًا لِيَكُونَ ظَاهِرًا فِي الْمُتَارَكَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاشَرَهُ الْعَبْدُ بِلَا إذْنِ سَيِّدِهِ .
وَقَوْلُهُ بِالْفَارِسِيَّةِ " مَال أُنِيسَتْ " إجَازَةٌ عَلَى مَا اخْتَارَهُ أَبُو اللَّيْثِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ لِلْإِجَازَةِ ظَاهِرًا ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَرْأَةِ ، وَقَبُولُ الْمَهْرِ إجَازَةٌ ، وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ لَيْسَ بِإِجَازَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ سَلَامَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ .
( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ اثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى تَنْفِيذِهِمَا لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا إلَى التَّنْفِيذِ فِي إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ ثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَمْ تَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ) هَذَا شُرُوعٌ فِي مَسَائِلِ الْوَكِيلِ ، وَلَا تُشْتَرَطُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ بَلْ عَلَى عَقْدِ الْوَكِيلِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الْوَكَالَةِ إذَا خِيفَ جَحْدُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهَا .
وَقَوْلُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا : يَعْنِي إذَا لَمْ يُعَيِّنْهَا لِلْوَكِيلِ ، وَكَأَنَّهُ اكْتَفَى بِالتَّنْكِيرِ دَلَالَةً عَلَى ذَلِكَ ، أَمَّا إذَا عَايَنَهَا فَزَوَّجَهُ إيَّاهَا مَعَ أُخْرَى فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ نَفَذَ فِي الْمُعَيَّنَةِ ، وَلَوْ زَوَّجَهُ إيَّاهُمَا فِي عُقْدَتَيْنِ لَزِمَتْهُ الْأُولَى وَتَتَوَقَّفُ الثَّانِيَةُ ؛ لِأَنَّهُ فُضُولِيٌّ فِيهِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَزَوَّجَهُ وَاحِدَةً جَازَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبَيْنِ فِي صَفْقَةٍ لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ ؛ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ فِي الْبَيْعِ مَظِنَّةُ الرُّخْصِ فَاعْتُبِرَ تَقْيِيدُهُ ، وَلَيْسَ فِي النِّكَاحِ كَذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا إنْ قَالَ : لَا تُزَوِّجْنِي إلَّا امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ أَفَادَ وَجْهَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَلَا وَجْهَ إلَى تَنْفِيذِهِمَا لِلْمُخَالَفَةِ وَلَا إلَى تَنْفِيذِ إحْدَاهُمَا غَيْرَ عَيْنٍ لِلْجَهَالَةِ وَلَا إلَى التَّعْيِينِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ وَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهَا عَدَمُ لُزُومِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لَا لُزُومِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُسَاوِيهَا إذْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ نِكَاحَهَا أَوْ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا ، وَلَا هُوَ لَازِمٌ مِمَّا ذَكَرَهُ ، بَلْ اللَّازِمُ عَدَمُ إمْكَانِ تَنْفِيذِهِمَا إحْدَاهُمَا مُبْهَمَةٌ وَمُعَيَّنَةٌ فَانْتَفَى اللُّزُومُ مُطْلَقًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا : يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ ، ثُمَّ رَجَعَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَجْهُولِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ .
إذَا وَقَعَ
التَّعْلِيلُ بِالْمُخَالَفَةِ لِعَدَمِ النَّفَاذِ فَلْنَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ فُرُوعِهِ ، فَالْوَكِيلُ إذَا خَالَفَ إلَى خَيْرٍ لَوْ كَانَ خِلَافُهُ كَلَا خِلَافٍ نَفَذَ عَقْدُهُ ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَزَوَّجَهُ صَحِيحًا ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْوَكَالَةِ بِالنِّكَاحِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَيْسَ نِكَاحًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ حُكْمَهُ وَهُوَ الْمِلْكُ .
وَأَمَّا الْعِدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَيْسَ حُكْمًا لَهُ بَلْ لِلْفِعْلِ إذَا لَمْ يَتَمَحَّضْ زِنًا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنَّهُ بَيْعٌ يُفِيدُ حُكْمَهُ مِنْ الْمِلْكِ فَكَانَ الْخِلَافُ فِيهِ إلَى الْبَيْعِ الصَّحِيحِ خِلَافًا إلَى خَيْرٍ فَيَلْزَمُ ، وَلَيْسَ مِنْهُ مَا إذَا وَكَّلَهُ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ فَلَمْ تَرْضَ الْمَرْأَةُ حَتَّى زَادَهَا الْوَكِيلُ ثَوْبًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ ، وَالنِّكَاحُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى ضَرَرٍ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَوْ اُسْتُحِقَّ وَجَبَتْ عَلَى الزَّوْجِ لَا الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُتَبَرِّعٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، وَلَا يَكُونُ الدُّخُولُ بِهَا رِضًا بِمَا صَنَعَ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالدُّخُولُ فِيهِ يُوجِبُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ بِعَمْيَاءَ فَزَوَّجَهُ بَصِيرَةً جَازَ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِبَيْضَاءَ فَزَوَّجَهُ سَوْدَاءَ أَوْ عَلَى الْقَلْبِ أَوْ مِنْ قَبِيلَةٍ فَزَوَّجَهُ مِنْ أُخْرَى أَوْ بِأَمَةٍ فَزَوَّجَهُ حُرَّةً لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ زَوَّجَهُ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ جَازَ
( وَمَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ بِأَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ التُّهْمَةِ ( وَقَالَا : لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُزَوِّجَهُ كُفْئًا ) ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَصَرَّفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ التَّزَوُّجُ بِالْأَكْفَاءِ .
قُلْنَا الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا .
وَذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي هَذَا اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزَوُّجِ بِمُطْلَقِ الزَّوْجِ فَكَانَتْ الِاسْتِعَانَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِالْكُفْءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَمَرَهُ أَمِيرٌ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ أَمَةَ غَيْرِهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رُجُوعًا إلَى إطْلَاقِ اللَّفْظِ وَعَدَمِ التُّهْمَةِ ، وَقَالَا : لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يُزَوِّجَهُ كُفْئًا ) وَالتَّقْيِيدُ بِالْأَمِيرِ مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِيُعْلَمَ ذَلِكَ فِيمَنْ دُونَهُ بِطَرِيقٍ أَوْلَى .
فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِتَزْوِيجِهِ فَزَوَّجَهُ امْرَأَةً لَا تُكَافِئُهُ وَلَا تُهْمَةَ ، وَلَوْ زَوَّجَهُ أَمَةً لِغَيْرِهِ أَوْ عَمْيَاءَ أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ مَفْلُوجَةً أَوْ مَجْنُونَةً جَازَ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَلَوْ زَوَّجَهُ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا جَازَ اتِّفَاقًا ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَلَوْ زَوَّجَ وَكِيلُ الْمَرْأَةِ غَيْرَ كُفْءٍ ، قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقِيلَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُعَيَّرُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ فَيَتَقَيَّدُ إطْلَاقُهَا بِهِ ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ لَا يُعَيِّرُهُ أَحَدٌ بِعَدَمِ كَفَاءَتِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَفْرِشٌ وَاطِئٌ لَا يَغِيظُهُ دَنَاءَةُ الْفِرَاشِ ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ أَمَةً لِلْوَكِيلِ فَلَا يَجُوزُ لِلتُّهْمَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَكَّلَ امْرَأَةً فَزَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا أَوْ وَكَّلَتْ رَجُلًا فَزَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا إذَا زَوَّجَ وَكِيلُ الرَّجُلِ بِنْتَهُ وَلَدَهُ أَوْ بِنْتَ أَخِيهِ وَهُوَ وَلِيُّهَا لَا يَجُوزُ لِلتُّهْمَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَهُوَ التَّزْوِيجُ بِالْأَكْفَاءِ ( قُلْنَا الْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ ) أَيْ الْوَاقِعُ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ تَزْوِيجُهُمْ بِالْمُكَافِئَاتِ وَغَيْرِ الْمُكَافِئَاتِ فَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِتَزْوِيجِ الْمُكَافِئَاتِ لِيَنْصَرِفَ الْإِطْلَاقُ إلَيْهِ ( أَوْ هُوَ عُرْفٌ عَمَلِيٌّ فَلَا يَصْلُحُ مُقَيِّدًا ) لِلَّفْظِ إذْ اللَّفْظُ الْمُقَيَّدُ عِبَارَةٌ عَنْ لَفْظٍ ضُمَّ إلَيْهِ لَفْظٌ يُقَيِّدُهُ ، وَلَا يُخْفَى مَا فِي هَذَا الْوَجْهِ .
وَقَوْلُهُمْ فِي الْأُصُولِ
الْحَقِيقَةُ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ يَنْفِيهِ ، إذْ لَيْسَتْ الْعَادَةُ إلَّا عُرْفًا عَمَلِيًّا ، فَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ .
قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ : قَوْلُهُمَا أَحْسَنُ لِلْفَتْوَى وَاخْتَارَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي سُكُوتِ الشَّيْخِ عَقِيبَ قَوْلِهِ ( وَذَكَرَ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكَفَاءَةِ فِي هَذَا اسْتِحْسَانٌ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزَوُّجِ بِمُطْلَقِ الزَّوْجَةِ فَكَانَتْ الِاسْتِعَانَةُ فِي التَّزَوُّجِ بِالْمُكَافِئَةِ ) إشَارَةً إلَى اخْتِيَارِهِ قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْسَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ إلَّا فِي الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَ قِيَاسًا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ الْمَنْصُوصِ فَكَانَ النَّظَرُ فِي أَيِّ الِاسْتِحْسَانَيْنِ أَوْلَى .
وَفِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ دَفْعٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ الْمَشَايِخِ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَهُمَا فِي النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ ؛ إذَا ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِنَاءً عَلَيْهِ بَلْ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ لَا تُقْصَدُ إلَّا لِتَحْصِيلِ الْمُنَاسِبِ لَا فِيمَا صَدَقَ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الِاسْمِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ .
هَذَا وَالْوَكِيلُ بِتَزْوِيجِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا يَمْلِكُهُ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ إجْمَاعًا ، وَالْفَاحِشِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَالْفَرْقُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ اتِّفَاقًا أَنَّ التُّهْمَةَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مُنْتَفِيَةٌ بِسَبَبِ عَدَمِ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مُوَكِّلِهِ فَيَجُوزُ مِنْهُ بِالْغَبْنِ الْكَثِيرِ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْهُ فَتَمَكَّنَتْ تُهْمَةٌ أَنَّهُ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَوَجَدَهُ خَاسِرًا فَجَعَلَهُ لِمُوَكِّلِهِ ، وَمَعْنَى لَا يَجُوزُ هُنَا لَا يَنْفُذُ النِّكَاحُ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ ، وَكَذَا إنْ سَمَّى لِلْوَكِيلِ أَلْفًا مَثَلًا فَزَوَّجَهُ بِأَكْثَرَ ،
فَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ قَبْلَهُ ثُمَّ عَلِمَ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الدُّخُولَ لَيْسَ رِضًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يُخَالِفْ إذْ لَمْ يَعْلَمْ بِخِلَافِهِ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ فَدَخَلَ بِهَا .
فَإِنْ فَارَقَهَا فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ أَوْ الرَّسُولُ ضَمِنَ الْمَهْرَ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ الزَّوْجُ النِّكَاحَ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ لَزِمَ الْوَكِيلَ أَوْ الرَّسُولَ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ النِّكَاحَ وَيَغْرَمَ هُوَ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ صَارَ فُضُولِيًّا ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُوَكِّلَةَ وَسَمَّتْ أَلْفًا مَثَلًا فَزَوَّجَهَا الْوَكِيلُ ثُمَّ قَالَ الزَّوْجُ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ تَزَوَّجْتُك بِدِينَارٍ وَصَدَّقَهُ الْوَكِيلُ إنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ تُوَكِّلْهُ بِدِينَارٍ فَهِيَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَتْ أَجَازَتْ النِّكَاحَ بِدِينَارٍ وَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْهُ ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ ، وَلَا نَفَقَةَ عِدَّةٍ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا رَدَّتْ تَبَيَّنَ أَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ فِي نِكَاحٍ مَوْقُوفٍ فَيُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ دُونَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا .
فَإِنْ رَدَّتْ فَبَاقِي الْجَوَابِ بِحَالِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّجْنِيسِ : يَجِبُ أَنْ يُحْتَاطَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا وَقَدْ حَصَلَ لَهَا مِنْهُ أَوْلَادٌ ثُمَّ تُنْكِرُ الْمَرْأَةُ قَدْرَ مَا زَوَّجَهَا بِهِ الْوَكِيلُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا فَتَرُدُّ النِّكَاحَ ، وَكَذَا هَذَا فِي سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ بَالِغَةً ، وَهَذَا مَا ذُكِرَ فِي الرَّسُولِ مِنْ مَسَائِلِ أَصْلِ الْمَبْسُوطِ قَالَ : إذَا أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ رَسُولًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَهُوَ سَوَاءٌ إذَا بَلَغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا يَسْأَلُك أَنْ تُزَوِّجِيهِ نَفْسَك فَأَشْهَدَتْ
أَنَّهَا زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا وَسَمِعَ الشُّهُودُ كَلَامَهَا وَكَلَامَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرِّسَالَةِ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَانَ الْآخَرُ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِصُنْعِهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا بِعَيْنِهِ فِي الْوَكِيلِ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الرَّسُولِ فُرُوعًا كُلُّهَا تَجْرِي فِي الْوَكِيلِ لَا بَأْسَ بِذِكْرِهَا لِفَوَائِدِهَا .
قَالَ : فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ زَوَّجَهَا وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ وَقَالَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ إنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ أَوْ بِبَيِّنَةٍ ، وَالضَّمَانُ لَازِمٌ لِلرَّسُولِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ ، فَإِنْ جَحَدَ وَلَا بَيِّنَةَ بِالْأَمْرِ فَلَا نِكَاحَ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ وَأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَهُ ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ قَالَ : وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَى الْوَكِيلِ الْمَهْرُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ جُحُودَ الزَّوْجِ لَيْسَ بِفُرْقَةٍ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنْ لَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : فَقِيلَ إنَّ مَا ذُكِرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلَ ، وَهُنَاكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ ، فَنَفَذَ بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَسَقَطَ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا فَيَبْقَى جَمِيعُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ فَيَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ لِإِقْرَارِهِ بِهِ ، وَقِيلَ بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ : وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ ، وَإِنْكَارُهُ لِلنِّكَاحِ لَيْسَ طَلَاقًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ بِزَعْمِ الْكَفِيلِ وَوَجْهُ .
هَذِهِ أَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَمْلِكُ
إسْقَاطَ نِصْفِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يَكْسِبُهُ فَيُجْعَلُ مُسْقِطًا فِيمَا يُمْكِنُهُ .
قَالَ : فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ لَمْ يَأْمُرْنِي وَلَكِنِّي أُزَوِّجُهُ وَأَضْمَنُ عَنْهُ الْمَهْرَ فَفَعَلَ ثُمَّ أَجَازَ الزَّوْجُ ذَلِكَ جَازَ وَلَزِمَ الزَّوْجَ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّسُولِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ قَدْ انْتَفَى بِرَدِّهِ ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْمَهْرِ ( وَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ مَهْرًا ) ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ انْضِمَامٍ وَازْدِوَاجٍ لُغَةً فَيَتِمُّ بِالزَّوْجَيْنِ ، ثُمَّ الْمَهْرُ وَاجِبٌ شَرْعًا إبَانَةً لِشَرَفِ الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا لِمَا بَيَّنَّا ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ
( بَابُ الْمَهْرِ ) الْمَهْرُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَيَتَعَقَّبُهُ فِي الْوُجُودِ فَعَقَّبَهُ إيَّاهُ فِي الْبَيَانِ لِيُحَاذِيَ بِتَحْقِيقِهِ الْوُجُودِيِّ تَحْقِيقَهُ التَّعْلِيمِيَّ ( قَوْلُهُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ فِيهِ مَهْرًا ) لَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ ( لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ انْضِمَامٍ ) يَعْنِي لَيْسَ مَأْخُوذًا فِي مَفْهُومِهِ الْمَالُ جُزْءًا فَيَتِمُّ بِدُونِهِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ عَقْدٌ لَا يَسْتَلْزِمُهُ إلَّا إذَا لَمْ يُثْبِتْ فِي مَفْهُومِهِ زِيَادَةَ شُرُوطٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ إذْ قَدْ ثَبَتَ زِيَادَةُ عَدَمِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَنَحْوِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ شَرْعًا عَلَى الدَّعْوَى ، وَيُرَدُّ حِينَئِذٍ أَنَّ الْمَهْرَ أَيْضًا وَاجِبٌ شَرْعًا فِيهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ وَجَبَ شَرْعًا حُكْمًا لَهُ حَيْثُ أَفَادَهُ بِقَوْلِهِ ( فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ ) إذَا لَمْ يُسَمِّ إبَانَةً لِشَرَفِ الْمَحَلِّ .
أَمَّا أَنَّهُ وَجَبَ شَرْعًا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } فَقَيَّدَ الْإِحْلَالَ بِهِ ، وَأَمَّا اعْتِبَارُهُ حُكْمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } فَإِنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنْ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْفَرْضِ فَرْعُ صِحَّةِ النِّكَاحِ قَبْلَهُ فَكَانَ وَاجِبًا لَيْسَ مُتَقَدِّمًا وَهُوَ الْحُكْمُ ، وَأَمَّا أَنَّهُ إبَانَةٌ لِشَرَفِهِ فَلِعَقْلِيَّةِ ذَلِكَ إذْ لَمْ يَشْرَعْ بَدَلًا كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَإِلَّا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ تَسْمِيَتِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَدَلَ النَّفَقَةُ وَهَذَا لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ فَلَا يُسْتَهَانُ بِهِ ، وَإِذَنْ فَقَدْ تَأَكَّدَ شَرْعًا بِإِظْهَارِ شَرَفِهِ مَرَّةً بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ وَمَرَّةً بِإِلْزَامِ الْمَهْرِ فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْمَهْرَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ التَّنْصِيصُ عَلَى حُكْمِهِ ، كَالْمِلْكِ لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ ذِكْرُهُ ثُمَّ يَثْبُتُ هُوَ كَذَلِكَ فَيَثْبُتُ مَهْرُ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ لَهَا ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا
بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا ) أَيْ فَيَصِحُّ النِّكَاحُ ( وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ ) وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ وَالْمَهْرِ كَالثَّمَنِ وَالْبَيْعِ بِشَرْطٍ أَنْ لَا ثَمَنَ لَا يَصِحُّ .
فَكَذَا النِّكَاحُ بِشَرْطِ أَنْ لَا مَهْرَ ، وَكَانَ مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَفْسُدَ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ السَّابِقِ ثُمَّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُفَوِّضَةِ وَسَنَذْكُرُهُ .
قُلْنَا : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ اُعْتُبِرَ حُكْمًا شَرْعًا ، وَإِلَّا لَمَا تَمَّ بِدُونِ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ إذْ لَا وُجُودَ لِلشَّيْءِ بِلَا رُكْنِهِ وَشَرْطِهِ ، فَحَيْثُ كَانَ وَاجِبًا وَلَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَيْهِ الْوُجُودُ كَانَ حُكْمًا ، وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حُكْمًا كَانَ شَرْطُ عَدَمِهِ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَبِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ رُكْنُهُ فَلَا يَتِمُّ دُونَ رُكْنِهِ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ بِعْت بِكَذَا لَا مُجَرَّدَ قَوْلِهِ بِعْت .
هَذَا وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمُسَمَّى فِي كَوْنِهِ دَيْنًا ، فَإِنْ هَلَكَ وَبِهِ وَفَاءٌ كَانَتْ مُسْتَوْفِيَةً ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَهَا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْمُتْعَةِ .
وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ قَائِمًا وَقْتَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَهُ بِالْمُتْعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَهَا حَبْسُهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا خَلْفُهُ ، وَالرَّهْنُ بِالشَّيْءِ يُحْبَسُ بِخَلْفِهِ كَالرَّهْنِ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ تَكُونُ مَحْبُوسَةً بِالْقِيمَةِ .
وَجْهُ الْآخَرِ أَنَّهَا دَيْنٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهَا ثِيَابٌ وَهِيَ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَفِيلَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا بِالْمُتْعَةِ .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَا إذَا هَلَكَ بَعْدَ طَلَبِ الزَّوْجِ الرَّهْنَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَمَنَعَتْهُ حَتَّى هَلَكَ هَلْ تَضْمَنُ تَمَامَ قِيمَتِهِ ؟ فَفِي قَوْلِهِ
الْأَوَّلِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْهُ بِحَقٍّ ، وَفِي الْآخَرِ تَضْمَنُ تَمَامَهُ ؛ لِأَنَّهَا غَاصِبَةٌ ، وَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ مَنْعِهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّهَا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلْمُتْعَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِهَا .
( وَأَقَلُّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهَا وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ } وَلِأَنَّهُ حَقُّ الشَّرْعِ وُجُوبًا إظْهَارًا لِشَرَفِ الْمَحَلِّ فَيَتَقَدَّرُ بِمَا لَهُ خَطَرٌ وَهُوَ الْعَشَرَةُ اسْتِدْلَالًا بِنِصَابِ السَّرِقَةِ ( وَلَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ ) عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَانْعِدَامِهِ وَلَنَا أَنَّ فَسَادَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ صَارَ مُقْتَضِيًا بِالْعَشَرَةِ ، فَأَمَّا مَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّهَا فَقَدْ رَضِيَتْ بِالْعَشَرَةِ لِرِضَاهَا بِمَا دُونَهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَرْضَى بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ تَكَرُّمًا ، وَلَا تَرْضَى فِيهِ بِالْعِوَضِ الْيَسِيرِ .
وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا تَجِبُ خَمْسَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُ تَجِبُ الْمُتْعَةُ كَمَا إذَا لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا ( وَمَنْ سَمَّى مَهْرًا عَشْرَةً فَمَا زَادَ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ) ؛ لِأَنَّهُ بِالدُّخُولِ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمُبْدَلِ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ ، وَبِالْمَوْتِ يَنْتَهِي النِّكَاحُ نِهَايَتَهُ ، وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ وَيَتَأَكَّدُ فَيَتَقَرَّرُ بِجَمِيعِ مَوَاجِبِهِ ( وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَالْخَلْوَةِ فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } الْآيَة وَالْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ ، فَفِيهِ تَفْوِيتُ الزَّوْجِ الْمِلْكَ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ وَفِيهِ عَوْدُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهِ سَالِمًا فَكَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ النَّصَّ ، وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَالدُّخُولِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
.
( قَوْلُهُ وَأَقَلُّ الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ) فِضَّةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَسْكُوكَةً بَلْ تِبْرًا ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الْمَسْكُوكَةُ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ لِلْقَطْعِ تَقْلِيلًا لِوُجُودِ الْحَدِّ ، وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَعِنْدَ النَّخَعِيِّ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ : مَا يَجُوزُ ثَمَنًا ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهَا إذْ جُعِلَ بَدَلُ بُضْعِهَا وَلِذَا تَتَصَرَّفُ فِيهِ إبْرَاءً وَاسْتِيفَاءً ( فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ إلَيْهَا ) وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَعْيِينِ الْعَشَرَةِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَيْثُ قَالَ فِيهِ { : كَمْ سُقْتَ إلَيْهَا ؟ قَالَ : وَزْنُ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ : بَارَكَ اللَّهُ لَكَ ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ } رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ .
وَالنَّوَاةُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَقِيلَ ثَلَاثٌ وَثُلُثٌ ، وَقِيلَ النَّوَاةُ فِيهِ نَوَاةُ التَّمْرِ .
وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقًا أَوْ تَمْرًا فَقَدْ اسْتَحَلَّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ } يُوجِبُ وُجُودَ الْمَالِ مُطْلَقًا ، فَالتَّعْيِينُ الْخَاصُّ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَاءَةِ فَوَجَبَ الْجَمْعُ فَيُحْمَلُ كُلُّ مَا أَفَادَ ظَاهِرُهُ كَوْنَهُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ الْمُعَجَّلُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ عِنْدَهُمْ كَانَتْ تَعْجِيلَ بَعْضِ الْمَهْرِ قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ بِهَا حَتَّى يُقَدِّمَ شَيْئًا لَهَا .
نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ تَمَسُّكًا بِمَنْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فِيمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا تَزَوَّجَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، فَمَنَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يُعْطِيَهَا شَيْئًا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ ، فَقَالَ : أَعْطِهَا دِرْعَكَ ، فَأَعْطَاهَا دِرْعَهُ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا } لَفْظُ أَبِي دَاوُد ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّدَاقَ كَانَ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَهِيَ فِضَّةٌ ، لَكِنَّ الْمُخْتَارَ الْجَوَازُ قَبْلَهُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ { أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُدْخِلَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا شَيْئًا } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، فَيُحْمَلُ الْمَنْعُ الْمَذْكُورُ عَلَى النَّدْبِ : أَيْ نَدْبُ تَقْدِيمِ شَيْءٍ إدْخَالًا لِلْمَسَرَّةِ عَلَيْهَا تَأَلُّفًا لِقَلْبِهَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْهُودًا وَجَبَ حَمْلُ مَا يُخَالِفُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ ، وَكَذَا يُحْمَلُ أَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْتِمَاسِ خَاتَمٍ مِنْ حَدِيدٍ عَلَى أَنَّهُ تَقْدِيمُ شَيْءٍ تَأَلُّفًا ، وَلَمَّا عَجَزَ قَالَ قُمْ فَعَلِّمْهَا عِشْرِينَ آيَةً وَهِيَ امْرَأَتُكَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد ، وَهُوَ مَحْمَلُ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ { زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } فَإِنَّهُ لَا يُنَافِيهِ وَبِهِ تَجْتَمِعُ الرِّوَايَاتُ .
قِيلَ لَا تَعَارُضَ لِيَحْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ ، فَإِنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِيهِ مُبَشِّرُ بْنُ عُبَيْدٍ وَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ وَهُمَا ضَعِيفَانِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ ، قُلْنَا : لَهُ شَاهِدٌ يُعَضِّدُهُ وَهُوَ مَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَلَا يَكُونُ الْمَهْرُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ ، وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ
إلَى جَابِرٍ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا مِنْ الْمُقَدَّرَاتِ ، فَلَا يُدْرَكُ إلَّا سَمَاعًا لَكِنْ فِيهِ رَوَاهُ الْأَوْدِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ ، وَدَاوُد هَذَا ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ .
وَالْحَقُّ أَنَّ وُجُودَ مَا يَنْفِي بِحَسَبِ الظَّاهِرِ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ بِعَشْرَةٍ فِي السُّنَّةِ كَثِيرٌ مِنْهَا حَدِيثُ { الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ } وَحَدِيثُ جَابِرٍ { مَنْ أَعْطَى فِي صَدَاقِ امْرَأَةٍ مِلْءَ كَفَّيْهِ سَوِيقًا } الْحَدِيثَ ، وَحَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ عَلَى نَعْلَيْنِ } صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَدُّوا الْعَلَائِقَ ، قِيلَ وَمَا الْعَلَائِقُ ؟ قَالَ : مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ وَلَوْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ } وَحَدِيثُ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ الْخُدْرِيِّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَضُرُّ أَحَدَكُمْ بِقَلِيلِ مَالِهِ تَزَوَّجَ أَمْ بِكَثِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يُشْهِدَ } إلَّا أَنَّهَا كُلَّهَا مُضَعَّفَةٌ مَا سِوَى حَدِيثِ " الْتَمِسْ " فَحَدِيثُ " مَنْ أَعْطَى " فِيهِ إِسْحَاقُ بْنُ جِبْرِيلَ قَالَ فِي الْمِيزَانِ : لَا يُعْرَفُ وَضَعَّفَهُ الْأَوْدِيُّ وَمُسْلِمُ بْنُ رُومَانَ مَجْهُولٌ أَيْضًا .
وَحَدِيثُ النَّعْلَيْنِ وَإِنْ صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ فِيهِ عَاصِمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَالَ ابْنُ مَعِينٍ : ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : فَاحِشُ الْخَطَأِ فَتُرِكَ ، وَحَدِيثُ الْعَلَائِقِ مَعْلُولٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : قَالَ الْبُخَارِيُّ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ وَفِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهِ ضَعْفٌ .
وَحَدِيثُ الْخُدْرِيِّ فِيهِ أَبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ : كَانَ كَذَّابًا .
وَقَالَ
السُّغْدِيُّ مِثْلَهُ مَعَ احْتِمَالِ كَوْنِ تَيْنِكَ النَّعْلَيْنِ تُسَاوِيَانِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَكَوْنُ الْعَلَائِقِ يُرَادُ بِهَا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَنَحْوُهَا إلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَاحْتِمَالُ الْتَمِسْ خَاتَمًا فِي الْمُعَجَّلِ وَإِنْ قِيلَ إنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَكِنْ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهِ بَعْدَهُ { زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } فَإِنْ حُمِلَ عَلَى تَعْلِيمِهِ إيَّاهَا مَا مَعَهُ أَوْ نَفْيِ الْمَهْرِ بِالْكُلِّيَّةِ عَارَضَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ عَدِّ الْمُحَرَّمَاتِ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ } فَقَيَّدَ الْإِحْلَالَ بِالِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ ، فَوَجَبَ كَوْنُ الْخَبَرِ غَيْرَ مُخَالِفٍ لَهُ وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ مَا لَمْ يَبْلُغْ رُتْبَةَ التَّوَاتُرِ وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ فِي دَلَالَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِلْقَطْعِيِّ فَيَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ قَطْعِيًّا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا ، فَكَيْفَ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ غَيْرَ تَمَامِ الْمَهْرِ ثَابِتٌ بِنَاءً عَلَى مَا عُهِدَ مِنْ أَنَّ لُزُومَ تَقْدِيمِ شَيْءٍ أَوْ نَدْبِهِ كَانَ وَاقِعًا فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى ذَلِكَ ، لَكِنْ يَبْقَى كَوْنُ الْحَمْلِ عَلَى ذَلِكَ إعْمَالًا لِخَبَرٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فَيَسْتَلْزِمُ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي تَقْيِيدَ الْإِحْلَالِ بِمُطْلَقِ الْمَالِ ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ اقْتَرَنَ النَّصُّ نَفْسُهُ بِمَا يُفِيدُ تَقْدِيرَهُ بِمُعَيَّنٍ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى عَقِيبُهُ { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ مَحْمَلٌ فَيَلْتَحِقُ بَيَانًا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
قُلْنَا : إنَّمَا أَفَادَ النَّصُّ مَعْلُومِيَّةَ الْمَفْرُوضِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَالِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهُ فِي الزَّوْجَاتِ وَالْمَمْلُوكِينَ مَا يَكْفِي كُلًّا مِنْ النَّفَقَةِ
وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى فَهُوَ مُرَادٌ مِنْ الْآيَةِ قَطْعًا .
وَكَوْنُ الْمَهْرِ أَيْضًا مُرَادًا بِالسِّيَاقِ ؛ لِأَنَّهُ عَقِيبَ قَوْلِهِ { خَالِصَةً لَكَ } يَعْنِي نَفْيَ الْمَهْرِ خَالِصَةً لَكَ وَغَيْرِكَ { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } مِنْ ذَلِكَ فَخَالَفَ حُكْمُهُمْ حُكْمَكَ لَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَهُ بِمُعَيَّنٍ وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ فِي تَقْدِيرِ الْمَهْرِ قِيَاسٌ حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَهْرَ حَقُّ الشَّرْعِ بِالْآيَةِ ، وَسَبَبُهُ إظْهَارُ الْخَطَرِ لِلْبُضْعِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَمُطْلَقُ الْمَالِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْخَطَرَ كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ وَكَسْرَةٍ ، وَقَدْ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ تَقْدِيرُ مَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الْعُضْوُ بِمَا لَهُ خَطَرٌ وَذَلِكَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ فَيُقَدَّرُ بِهِ فِي اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ ، وَهَذَا مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إلَى الْمُخْتَلِفِ فِيهِ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُمْ لَا يُقَدِّرُونَ نِصَابَ السَّرِقَةِ بِعَشْرَةٍ ، وَأَيْضًا الْمُقَدَّرُ فِي الْأَصْلِ عَشْرَةٌ مَسْكُوكَةٌ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَهْرِ ذَلِكَ ، فَلَوْ سَمَّى عَشْرَةَ تِبْرٍ تُسَاوِي تِسْعَةً مَسْكُوكَةً جَازَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّهُ مُقَدَّرٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي نَفْيِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ سَمَّى أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ فَلَهَا الْعَشَرَةُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ) قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ التَّسْمِيَةِ هَكَذَا تَسْمِيَةُ الْأَقَلِّ تَسْمِيَةٌ لَا يَصْلُحُ مَهْرًا ، وَتَسْمِيَةُ مَا لَا يَصْلُحُ مَهْرًا كَعَدَمِهَا ، فَتَسْمِيَةُ الْأَقَلِّ كَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ ، وَعَدَمُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، فَتَسْمِيَةُ الْأَقَلِّ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ .
وَقَوْلُنَا اسْتِحْسَانٌ ، وَلَهُ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا صَدَاقًا لَا تَتَجَزَّأُ شَرْعًا ، وَتَسْمِيَةُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَكُلِّهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ نِصْفَهَا أَوْ طَلَّقَ نِصْفَ تَطْلِيقَةٍ حَيْثُ يَنْعَقِدُ وَيَقَعُ طَلْقَةً ، فَكَذَا تَسْمِيَةُ بَعْضِ الْعَشَرَةِ .
وَالثَّانِي وَهُوَ
الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ حَاصِلُهُ أَنَّ فِي الْمَهْرِ حَقَّيْنِ : حَقُّهَا وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَحَقُّ الشَّرْعِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ ، وَلِلْإِنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِالْإِسْقَاطِ دُونَ حَقِّ غَيْرِهِ .
فَإِذَا رَضِيَتْ بِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَقَدْ أَسْقَطَتْ مِنْ الْحَقَّيْنِ فَيُعْمَلُ فِيمَا لَهَا الْإِسْقَاطُ مِنْهُ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ دُونَ مَا لَيْسَ لَهَا وَهُوَ حَقُّ الشَّرْعِ فَيَجِبُ تَكْمِيلُ الْعَشَرَةِ قَضَاءً لِحَقِّهِ ، فَإِيجَابُ الزَّائِدِ بِلَا مُوجِبٍ .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيَاسُ الْمَذْكُورُ مُوجِبٌ لَهُ وَلَمْ يَبْطُلْ بَعْدُ ؛ لِأَنَّهُ مُعَارَضَةٌ .
قُلْنَا : إبْطَالُهُ أَنَّ التَّشْبِيهَ الْمَذْكُورَ إمَّا فِي الْحُكْمِ ابْتِدَاءً بِأَنْ يَدَّعِيَ انْدِرَاجَ تَسْمِيَةِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي عَدَمِهَا ، فَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِيهِ أَعْنِي وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ حِينَئِذٍ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ دُونَ الْقِيَاسِ وَحِينَئِذٍ يُمْنَعُ الِانْدِرَاجُ ، وَإِمَّا فِي الْجَامِعِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْجَامِعِ فِي مَحَلِّ ثُبُوتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِهِ لِيَعْلَمَ ثُبُوتَهُ فِي الْفَرْعِ إذْ قِيَاسُ الشَّبَهِ الطَّرْدِيِّ بَاطِلٌ ، وَلَا يُعْلَمُ مَا هُوَ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ شَيْءٍ إذْ لَا قُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الْعَدَمِ بِوَجْهٍ وَحِينَئِذٍ تُمْنَعُ كُلِّيَّةُ الْكُبْرَى ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقُدْرَةِ يَخُصُّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَجْهُولِ فَاحِشًا ، وَإِنْ عَيَّنَهُ فَوَاتُ الْخَطَرِ الَّذِي وَجَبَ لِأَجْلِهِ الْمَهْرُ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ .
قُلْنَا : فَيَجِبُ مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَهْرُ الْمِثْلِ لِتَحَقُّقِهِ بِالْعَشَرَةِ فَالزَّائِدُ بِلَا مُوجِبٍ ، وَأَمَّا إفْسَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِعَدَمِ التَّسْمِيَةِ إلَخْ يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ مَهْرًا يَكُونُ كَعَدَمِ التَّسْمِيَةِ فِي إيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَهَا قُصَارَاهُ أَنْ يَكُونَ لِرِضَاهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِطَلَبِهَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِمَعْرِفَةِ
أَنَّهُ حُكْمُهُ وَرِضَاهَا بِلَا مَهْرٍ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهَا بِالْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَرْضَى بِعَدَمِهِ تَكَرُّمًا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا تَرْضَى بِالْعِوَضِ الْيَسِيرِ تَرَفُّعًا فَبَعِيدٌ عَنْ الْمَبْنَى .
وَلَوْ قِيلَ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ ظَاهِرٌ فِي الْقَصْدِ إلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِ مِنْ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَيْسَ الثَّابِتُ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ظُهُورُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَتَرَكُوا التَّسْمِيَةَ رَأْسًا ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ التَّسْمِيَةِ تَكَلُّفُ أَمْرٍ مُسْتَغْنًى عَنْهُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ قَصْدُ مَهْرِ الْمِثْلِ مَعَ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي كَوْنِ حُكْمِ تَسْمِيَةِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْعَشَرَةِ لَمَّا صَرَّحَتْ بِالرِّضَا بِمَا دُونَهَا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْأَصْلِ فِيهِ لَكَانَ أَقْرَبَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّ الْمَبْنَى .
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْخِلَافِ فَقَالَ ( وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ) أَيْ فِي صُورَةِ تَسْمِيَةِ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ ( فَلَهَا خَمْسَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ) ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ عَشْرَةٌ ( وَعِنْدَهُ الْمُتْعَةُ ) وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةً فَلَهَا الثَّوْبُ وَخَمْسَةٌ خِلَافًا لَهُ .
وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الثَّوْبِ وَدِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ وَعِنْدَهُ الْمُتْعَةُ ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الثَّوْبِ يَوْمَ التَّزَوُّجِ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ سَمَّى مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ وَاعْتِبَارَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ فِي الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَوْمَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَالثَّوْبُ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلِذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْقَبْضِ ا هـ .
وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَوْبٌ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَمَّا لَوْ كَانَ بِعَيْنِهِ
فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا سَتَعْلَمُ ( قَوْلُهُ فَلَهَا الْمُسَمَّى إنْ دَخَلَ بِهَا إلَخْ ) هَذَا إذَا لَمْ تَكْسُدْ الدَّرَاهِمُ الْمُسَمَّاةُ ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ نَقْدُ الْبَلَدِ فَكَسَدَتْ وَصَارَ النَّقْدُ غَيْرَهَا فَإِنَّمَا عَلَى الزَّوْجِ قِيمَتُهَا يَوْمَ كَسَدَتْ عَلَى الْمُخْتَارِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَيْثُ يَبْطُلُ بِكَسَادِ الثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُ ( قَوْلُهُ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ الْبَدَلُ ) أَيْ يَتَأَكَّدُ لُزُومُهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَبْلُ لَازِمًا ، لَكِنْ كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ بِارْتِدَادِهَا وَتَقْبِيلِهَا ابْنَ الزَّوْجِ بِشَهْوَةٍ ( قَوْلُهُ وَالشَّيْءُ بِانْتِهَائِهِ يَتَقَرَّرُ ) ؛ لِأَنَّ انْتِهَاءَهُ عِبَارَةٌ عَنْ وُجُودِهِ بِتَمَامِهِ فَيَسْتَعْقِبُ مَوَاجِبَهُ الْمُمْكِنَ إلْزَامُهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالْإِرْثِ وَالنَّسَبِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ، وَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ مَوْتَهَا أَيْضًا كَذَلِكَ ، فَالِاقْتِصَارُ عَلَى مَوْتِهِ اتِّفَاقٌ ، وَلَا خِلَافَ لِلْأَرْبَعَةِ فِي هَذِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً ( قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخَلْوَةِ ) أَيْ بَعْدَمَا سَمَّى ( فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ) ثُمَّ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ فَحُكْمُ هَذَا التَّنْصِيفِ يَثْبُتُ عِنْدَ زُفَرَ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ وَيَعُودُ النِّصْفُ الْآخَرُ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ .
وَعِنْدَنَا لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَرْأَةِ فِي النِّصْفِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْجَبَ فَسَادَ سَبَبِ مِلْكِهَا فِي النِّصْفِ ، وَفَسَادُ السَّبَبِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ مِلْكِهَا بِالْقَبْضِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَهُ فَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَ الزَّوْجُ الْجَارِيَةَ : أَيْ الْمَمْهُورَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ لِلْمَرْأَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي نِصْفِهَا عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا لَا يَنْفُذُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا .
وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بَعْدَ عِتْقِهَا بِنِصْفِهَا لَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ سَبَقَ
مِلْكَهُ كَالْمَقْبُوضِ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ إذَا أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الرَّدِّ ، وَلَوْ أَعْتَقَتْهَا الْمَرْأَةَ قَبْلَ الطَّلَاقِ نَفَذَ فِي الْكُلِّ ، وَكَذَا إنْ بَاعَتْ أَوْ وَهَبَتْ لِبَقَاءِ مِلْكِهَا فِي الْكُلِّ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَالتَّرَاضِي عِنْدَنَا ، وَإِذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ النِّصْفِ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَتَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلزَّوْجِ يَوْمَ قَبَضَتْ .
وَلَوْ وُطِئَتْ الْجَارِيَةُ بِشُبْهَةٍ فَحُكْمُ الْعُقْرِ كَحُكْمِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَإِنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَإِزَالَةُ الْبَكَارَةِ بِلَا دُخُولٍ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِبِكْرٍ فَدَفَعَهَا فَزَالَتْ بَكَارَتُهَا لَيْسَ كَالدُّخُولِ بِهَا فَلَا يُوجِبُ إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ كَمَالُهُ ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَقِيلَ هُوَ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَقِيلَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
( قَوْلُهُ وَالْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ ) جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنَّ الْآيَةَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } عَامٌّ فِي الْمَفْرُوضِ أَعْطَى حُكْمَ التَّنْصِيفِ ، وَقَدْ خَصَّ مِنْهُ مَا إذَا كَانَ الْمَفْرُوضُ نَحْوَ الْخَمْرِ وَمَا إذَا سَمَّى بَعْدَ الْعَقْدِ الْخَالِي عَنْ التَّسْمِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَجَازَ أَنْ يُعَارِضَهُ الْقِيَاسُ إنْ وُجِدَ وَقَدْ وُجِدَ ، وَهُوَ أَنَّ فِي طَلَاقِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ تَفْوِيتَ الْمِلْكِ عَلَى نَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ كَإِعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ أَوْ إتْلَافِ الْمَبِيعِ وَمُقْتَضَاهُ وُجُوبُ تَمَامِ الْمُسَمَّى .
أَوْ يُقَالُ هُوَ رُجُوعُ الْمُبْدَلِ إلَيْهَا سَالِمًا فَكَانَ كَمَا إذَا تَقَايَلَا قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ يَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ ؛ فَقَالَ : الْأَقْيِسَةُ مُتَعَارِضَةٌ فَإِنَّ مُقْتَضَى
الْأَوَّلِ وُجُوبُ الْمُسَمَّى بِتَمَامِهِ كَمَا ذَكَرْنَا ؛ وَمُقْتَضَى الثَّانِي لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ أَصْلًا فَتَسَاقَطَا فَبَقِيَ النِّصْفُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فَكَانَ الْمَرْجِعُ إلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى الْعِبَارَةِ أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى النَّصِّ بَعْدَ تَعَارُضِ الْقِيَاسَيْنِ لَكِنَّ الْحُكْمَ عَلَى عَكْسِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي نَصٍّ لَا يُعَارِضُهُ الْقِيَاسُ ، وَمِنْ أَنَّ الْقِيَاسَيْنِ إذَا تَعَارَضَا لَا يُتْرَكَانِ بَلْ يَعْمَلُ الْمُجْتَهِدُ بِشَهَادَةِ قَلْبِهِ فِي أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ عُمُومُ نَصٍّ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، لَكِنْ تَقْرِيرُ السُّؤَالِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يُتَوَجَّهُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْآيَةِ هُوَ انْتِصَافُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } فَتَوْجِيهُ السُّؤَالِ بِأَنَّ النَّصَّ قَدْ خُصَّ ، وَقِيَاسُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى إتْلَافِ الْمَبِيعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ نَسْخٌ لِتَمَامِ مُوجِبِ النَّصِّ لَا تَخْصِيصٌ إذَا لَمْ يَبْقَ تَحْتَ النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ شَيْءٌ ، وَلَيْسَ يُنْسَخُ الْعَامُّ الْمَخْصُوصُ بِالْقِيَاسِ بَلْ يُخَصُّ بِهِ فَلَا يُتَوَجَّهُ لِيُعَارَضَ بِآخَرَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِخْرَاجِ ، وَتَقْرِيرُهُ لَا عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ سُؤَالٍ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْرِيرِ فَلَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ فِي الِاسْتِدْلَالِ سِوَى التَّعَرُّضِ لِلنَّصِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ ذِكْرَ الْوَاقِعِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ( قَوْلُهُ وَشَرَطَ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ فِي لُزُومِ نِصْفِ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ( أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَالدُّخُولِ عِنْدَنَا ) فِي تَأَكُّدِ تَمَامِ الْمَهْرِ بِهَا
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا فَلَهُ مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ شَيْءٌ فِي الْمَوْتِ ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي الدُّخُولِ .
لَهُ أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا فَتَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ انْتِهَاءً وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ وُجُوبًا حَقُّ الشَّرْعِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقَّهَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ دُونَ النَّفْيِ
( قَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا إلَخْ ) الْحَاصِلُ أَنَّ وُجُوبَ مَهْرِ الْمِثْلِ حُكْمُ كُلِّ نِكَاحٍ لَا مَهْرَ فِيهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ سَكَتَ عَنْ الْمَهْرِ أَوْ شَرَطَ نَفْيَهُ أَوْ سَمَّى فِي الْعَقْدِ وَشَرَطَ رَدَّهَا مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَصُورَةُ هَذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ إلَيْهِ أَلْفًا صَحَّ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهَا فَبَقِيَ النِّكَاحُ بِلَا تَسْمِيَةٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ جَازَ ، وَتَنْقَسِمُ الْأَلْفُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ وَمَهْرِ مِثْلِهَا ، فَمَا أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ صَرْفًا مَشْرُوطًا فِيهِ التَّقَابُضُ ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَكُونُ مَهْرًا ، فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَدَّتْ نِصْفَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ هُنَا بِخِلَافِ الْجِنْسِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَكُونُ الْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَ حِصَّةُ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ .
وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إنْ كَانَتْ حِصَّةُ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ يُكْمِلُ لَهَا عَشْرَةً .
وَمِنْ صُوَرِ وُجُوبِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهَا أَوْ حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْجَهَالَةِ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ إنْ حَكَمَ لَهَا بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ صَحَّ ، أَوْ دُونَهُ فَلَا إلَّا إنْ تَرْضَى ، وَإِلَيْهَا إنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ جَازَ أَوْ أَكْثَرَ فَلَا إلَّا أَنْ يَرْضَى ، وَإِلَى الْأَجْنَبِيِّ إنْ حَكَمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ لَا بِالْأَقَلِّ إلَّا أَنْ تَرْضَى ، وَلَا بِالْأَكْثَرِ إلَّا أَنْ يَرْضَى ، وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ أَغْنَامِهِ لَا يَصِحُّ ، بِخِلَافِ خُلْعِهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا وَنَحْوِهِ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ بِعُرْضِيَّةِ
أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِالِانْفِصَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا فِي الْحَالِ ، وَالْعِوَضُ فِي الْخُلْعِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَالْخُلْعِ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُهَا فَلَا يَحْتَمِلُهَا بَدَلُهُ ، وَمِثْلُهُ مَا يُخْرِجُهُ نَخْلُهُ وَمَا يَكْسِبُهُ غُلَامُهُ ( قَوْلُهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا ) وَكَذَا إذَا مَاتَتْ هِيَ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا مَهْرُ الْمِثْلِ لِوَرَثَتِهَا ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) يَعْنِي فِي قَوْلٍ عَنْهُ ( لَا يَجِبُ فِي الْمَوْتِ شَيْءٌ ) لِلْمُفَوِّضَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي صُورَةِ نَفْيِ الْمَهْرِ وَقَوْلُهُ الْآخَرُ كَقَوْلِنَا ( قَوْلُهُ وَأَكْثَرُهُمْ ) أَيْ أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ( قَوْلُهُ لَهُ أَنَّ الْمَهْرَ خَالِصُ حَقِّهَا فَتَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً كَمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهِ انْتِهَاءً ) أَيْ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يَقْتَضِي نَفْيَ وُجُوبِهِ مُطْلَقًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْأَكْثَرِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ وَابْنَهُ وَعَلِيًّا وَزَيْدًا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا فِي الْمُفَوِّضَةِ نَفْسَهَا : حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ .
وَلَنَا أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْهَا فِي صُورَةِ مَوْتِ الرَّجُلِ فَقَالَ : بَعْدَ شَهْرٍ أَقُولُ فِيهِ بِنَفْسِي ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ نَفْسِي ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ : فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ بَرِيئَانِ .
أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ ، فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ وَأَبُو الْجَرَّاحِ حَامِلٌ رَايَةَ الْأَشْجَعِيِّينَ فَقَالَا : نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا بِرْوَعَ بِنْتَ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةِ بِمِثْلِ قَضَائِكَ هَذَا ، فَسُرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ مِثْلَهُ قَطُّ بَعْدَ إسْلَامِهِ .
وَبِرْوَعُ بِكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَيُرْوَى بِفَتْحِهَا هَكَذَا رَوَاهُ
أَصْحَابُنَا .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ بِلَفْظٍ أَخْصَرَ ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَمَاتَ عَنْهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا الصَّدَاقَ : لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ .
فَقَالَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ : سَمِعْتُ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ بِمِثْلِهِ } .
هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد ، وَلَهُ رِوَايَاتٌ أُخَرُ بِأَلْفَاظٍ أُخَرَ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : جَمِيعُ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ وَأَسَانِيدُهَا صِحَاحٌ .
وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ رَدِّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُ فَلِمَذْهَبٍ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ تَحْلِيفُ الرَّاوِي إلَّا أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، وَلَمْ يَرَ هَذَا الرَّجُلَ لِيُحَلِّفَهُ لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ذَلِكَ ، وَمِمَّنْ أَنْكَرَ ثُبُوتَهَا عَنْهُ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَهْرَ وَجَبَ حَقًّا لِلشَّرْعِ ) أَيْ وُجُوبُهُ ابْتِدَاءَ حَقِّ الشَّرْعِ لِمَا قَدَّمْنَا آنِفًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ حَقَّهَا فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ : أَيْ بَعْدَ وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجِ ابْتِدَاءً بِالشَّرْعِ يَثْبُتُ لَهَا شَرْعًا حَقُّ أَخْذِهِ فَتَتَمَكَّنُ حِينَئِذٍ مِنْ الْإِبْرَاءِ لِمُصَادَفَتِهِ حَقَّهَا دُونَ نَفْيِهِ ابْتِدَاءً عَنْ أَنْ يَجِبَ
( وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا الْمُتْعَةُ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ } الْآيَة ثُمَّ هَذِهِ الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ رُجُوعًا إلَى الْأَمْرِ ، وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ ( وَالْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا ) وَهِيَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ .
وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقَوْلُهُ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ فِي الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَالُهُ عَمَلًا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } ثُمَّ هِيَ لَا تُزَادُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَا تَنْقُصُ عَنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ
( قَوْلُهُ ثُمَّ هَذِهِ الْمُتْعَةُ ) أَيْ مُتْعَةُ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ فِي الْعَقْدِ ( وَاجِبَةٌ ) عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَخَصَّهَا احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْمُتْعَةَ لِغَيْرِهَا مُسْتَحَبَّةٌ إلَّا لِمَنْ سَنَذْكُرُ .
وَقَوْلُهُ ( رُجُوعًا إلَى الْأَمْرِ ) هُوَ قَوْله تَعَالَى { وَمَتِّعُوهُنَّ } عَقِيبَ قَوْلِهِ { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } أَيْ وَلَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فَانْصَرَفَ إلَى الْمُطَلَّقَاتِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَالْمَسِيسِ ، بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّ الْمُتْعَةَ مُسْتَحَبَّةٌ لَهَا فَرَضَ لَهَا أَوْ لَا ( قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ مَالِكٍ ) فَمَذْهَبُهُ اسْتِحْبَابُ الْمُتْعَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصُّوَرِ إلَّا الْمُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الْفَرْضِ إلَّا أَنْ تَجِيءَ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ تَعْلِيقُهُ بِالْمُحْسِنِ : أَعْنِي الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ عَقِيبَهُ { حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وَهُمْ الْمُتَطَوِّعُونَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرِينَةَ صَرْفِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ إلَى النَّدْبِ .
وَالْجَوَابُ مَنْعُ قَصْرِ الْمُحْسِنِ عَلَى الْمُتَطَوِّعِ بَلْ هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَمِنْ الْقَائِمِ بِالْوَاجِبَاتِ أَيْضًا فَلَا يُنَافِي الْوُجُوبَ فَلَا يَكُونُ صَارِفًا لِلْأَمْرِ عَنْ الْوُجُوبِ مَعَ مَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ لَفْظِ حَقًّا وَعَلَى ( قَوْلِهِ وَالْمُتْعَةُ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِنْ كِسْوَةِ مِثْلِهَا وَهِيَ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ ) قُدِّرَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا اللُّبْسُ الْوَسَطُ ؛ لِأَنَّهَا تُصَلِّي وَتَخْرُجُ غَالِبًا فِيهَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : أَدْنَى الْمُتْعَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ ( وَهَذَا التَّقْدِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ) وَمَنْ بَعْدَهُمْ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالشَّعْبِيُّ ، وَحَيْثُ قَدَّرُوهَا بِهِ مَعَ فَهْمِ اللُّغَةِ يُعْرَفُ مِنْهُ أَنَّ لَفْظَ مُتْعَةٍ لَا يُقَالُ