كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي

وَدَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى ) ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ سُكْنَاهَا لَهُ مُدَّةَ عُمُرِهِ .
وَجَعَلَ قَوْلُهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لَك ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ بِدَلَالَةٍ آخِرِهِ .

كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ) .
قَدْ مَرَّ وَجْهُ مُنَاسَبَةِ هَذَا الْكِتَابِ لِمَا قَبْلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَدِيعَةِ ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي تَفْسِيرِ الْعَارِيَّةِ لُغَةً وَشَرِيعَةً ، أَمَّا لُغَةً فَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ : الْعَارِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ ، لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ وَعَيْبٌ ، وَالْعَارَةُ مِثْلُ الْعَارِيَّةِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ : الْعَارِيَّةُ أَصْلُهَا عَوَرِيَّةٌ فَعْلِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارَةِ اسْمٌ مِنْ الْإِعَارَةِ كَالْغَارَةِ مِنْ الْإِغَارَةِ ، وَأَخْذُهَا مِنْ الْعَارِ الْعَيْبِ أَوْ الْعُرَى خَطَأٌ .
انْتَهَى .
وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاشَرَ الِاسْتِعَارَةَ فَلَوْ كَانَ فِي طَلَبِهَا عَارٌ لَمَا بَاشَرَهَا .
وَفِي الْقَامُوسُ وَالْمُغْرِبِ : وَقَدْ تُخَفَّفُ الْعَارِيَّةُ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ قِيلَ : هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَاوُرِ وَهُوَ التَّنَاوُبُ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ عَلَى أَنْ تَعُودَ النَّوْبَةُ إلَيْهِ بِالِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ لِتَكُونَ عَارِيَّةً حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي مِثْلِهَا .
وَأَمَّا شَرِيعَةً فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ وَالشَّافِعِيُّ : هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ إبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ ، وَسَيَأْتِي دَلِيلُ الطَّرَفَيْنِ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ : وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ ، وَهِيَ الْعَطِيَّةِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ إلَخْ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ الْعَارِيَّةِ مِنْ الْعَرِيَّةِ

الَّتِي هِيَ الْعَطِيَّةُ ، وَيَقُولُ بَلْ هِيَ مِنْ الْعَارِ كَمَا ذَكَرَ فِي الصِّحَاحِ ، أَوْ مِنْ الْعَارَةِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمُغْرِبِ ، أَوْ مِنْ التَّعَاوُرِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ ثِقَاتِ الْأَئِمَّةِ لَا يَثْبُتُ إنْبَاءُ لَفْظِ الْعَارِيَّةِ عَنْ التَّمْلِيكِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ : انْعِقَادُ الْعَارِيَّةِ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ دُونَ الْإِبَاحَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ التَّمْلِيكِ هُنَاكَ مُسْتَعَارًا لِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ لِعَلَاقَةِ لُزُومِ الْإِبَاحَةِ لِلتَّمْلِيكِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الْجَوَابِ عَنْ انْعِقَادِهَا بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ : إنَّ لَفْظَةَ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلِ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ فِي التَّعْرِيفَاتِ وَهِيَ لَا تَقْبَلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَرِّفَ إذَا عَرَّفَ شَيْئًا بِالْجَامِعِ وَالْمَانِعِ ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ النَّقْضِ فَذَاكَ ، وَإِنْ انْتَقَضَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ جَامِعٍ أَوْ مَانِعٍ يُجَابُ عَنْ النَّقْضِ إنْ أَمْكَنَ ، وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي التَّصْدِيقَاتِ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْقِيَاسِ تَعْدِيَةَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ بِعَيْنِهِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ وَلَا نَصَّ فِيهِ ، وَالْمَوْضُوعَاتُ لَيْسَتْ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ .
وَالثَّالِثِ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مُتَعَدِّيًا إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْجُهِ بَحْثِهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ عَلَى نَفْسِ التَّعْرِيفِ الَّذِي هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَوُّرَاتِ بَلْ عَلَى الْحُكْمِ الضِّمْنِيِّ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْمُعَرِّفُ ، كَأَنْ يُقَالَ هَذَا التَّعْرِيفُ هُوَ الصَّحِيحُ أَوْ

هُوَ الْحَقُّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْحُكْمِ مِنْ قَبِيلِ التَّصْدِيقَاتِ الَّتِي يَجْرِي فِيهَا الِاسْتِدْلَال ، وَقَدْ صَرَّحُوا فِي مَوْضِعِهِ بِأَنَّ الِاعْتِرَاضَاتِ الْمُورَدَةَ فِي التَّعْرِيفَاتِ مِنْ الْمَنْعِ وَالنَّقْضِ وَالْمُعَارَضَةِ إنَّمَا تُورَدُ عَلَى الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ صَحِيحٌ جَامِعٌ مَانِعٌ لَا عَلَى نَفْسِ التَّعْرِيفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ التَّصَوُّرَاتِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَمْرَ الِاسْتِدْلَالِ هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقْصِدْ إثْبَاتَ كَوْنِ لَفْظِ الْعَارِيَّةِ مَوْضُوعًا فِي عُرْفِ الشَّرْعِ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِالْقِيَاسِ حَتَّى يُرَدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ ، بَلْ أَرَادَ إثْبَاتَ قَبُولِ الْمَنَافِعِ لِنَوْعَيْ التَّمْلِيكِ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَبُولِ الْأَعْيَانِ لَهُمَا ، وَقَصَدَ بِإِثْبَاتِ هَذَا دَفْعَ تَوَهُّمِ الْخَصْمِ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَعْرَاضٌ لَا تَبْقَى فَلَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَبُولَ الْأَعْيَانِ لِنَوْعَيْ التَّمْلِيكِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ إلَى قَبُولِ الْمَنَافِعِ لَهُمَا أَيْضًا .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَهَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا إذْ لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ اشْتِرَاكُ الْفَرْعِ مَعَ الْأَصْلِ فِي جَمِيعِ الْجِهَاتِ ، بَلْ يَكْفِي اشْتِرَاكُهُمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَظِيرَهَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْقَبُولُ لِنَوْعَيْ التَّمْلِيكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا هِيَ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَهُمَا أَيْ الْأَعْيَانُ وَالْمَنَافِعُ مُشْتَرَكَتَانِ فِي هَذِهِ الْعِلَّةِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ .

ثُمَّ قَالَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا بِأَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إمَّا لَفْظِيٌّ أَوْ رَسْمِيٌّ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَمَا ذَكَرْته فِي بَيَانِهِ يُجْعَلُ لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لَا اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جُعِلَ بَيَانًا لِخَوَاصَّ يَعْرِفُ بِهَا الْعَارِيَّةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا التَّعْرِيفَ إنْ كَانَ لَفْظِيًّا كَانَ قَابِلًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ أَنَّ مَآلَ التَّعْرِيفِ اللَّفْظِيِّ إلَى التَّصْدِيقِ ، وَالْحُكْمُ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِإِزَاءِ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ كَانَ قَابِلًا لِلْمَنْعِ ، بِخِلَافِ التَّعْرِيفِ الْحَقِيقِيِّ إذْ لَا حُكْمَ فِيهِ بَلْ هُوَ تَصَوُّرٌ وَنَقْشٌ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ، فَمَا ذَكَرَ فِي بَيَانِهِ يُجْعَلُ لِبَيَانِ الْمُنَاسَبَةِ لَا اسْتِدْلَالًا عَلَى ذَلِكَ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَيْضًا أَنَّ التَّعْرِيفَ الرَّسْمِيَّ الَّذِي بِالْخَوَاصِّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْخَوَاصِّ اللَّازِمَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّوَازِمَ الْبَيِّنَةَ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي جُعِلَ بَيَانًا لِخَوَاصَّ يَعْرِفُ بِهَا الْعَارِيَّةَ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ضَمِيرَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهَا رَاجِعٌ إلَى وَجْهِ بَحْثِهِ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ عَلَى تَقْرِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَكُونُ جَوَابًا عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ تِلْكَ الْأَوْجُهِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَوْ جَعَلْنَا الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ وَعَرَّفْنَاهَا بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ لَبَقِيَ الْبَحْثُ الثَّالِثُ قَطْعًا فَلَمْ يَتِمَّ

قَوْلُهُ : كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِحَمْلِ التَّمْلِيكِ عَلَيْهَا بِالْمُوَاطَأَةِ يُنَافِي ظَاهِرًا كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ ، إذْ حُكْمُ الشَّيْءِ لَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ : وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُنَافِيهِ ظَاهِرًا .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ تَوْجِيهَهُ هَذَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ حَيْثُ قَالَ : وَاخْتُلِفَ فِي تَعْرِيفِهَا اصْطِلَاحًا ، فَقَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : هِيَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ انْتَهَى .
فَإِنَّ تَوْجِيهَهُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي حُكْمِهَا لَا فِي تَعْرِيفِهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ سَالِمًا مِنْ الشُّكُوكِ : أَمَّا مِنْ الْأَوَّلِ فَمُسَلَّمٌ ، وَأَمَّا مِنْ الْأَخِيرَيْنِ فَلَا انْتَهَى .
أَقُولُ : سَلَامَتُهُ مِنْ الثَّانِي أَيْضًا ظَاهِرٌ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْعَارِيَّةِ دُونَ مَعْنَاهُ شَرْعًا لَمْ يُتَصَوَّرُ وَضْعٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ لَفْظِ الْعَارِيَّةِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَى دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي الْمَوْضُوعَاتِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ قَوْلُهُ : وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ إلَى النِّزَاعِ هِيَ الْمَانِعَةُ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْعَارِيَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ التَّمْلِيكُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ

لِلْمُعِيرِ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ؛ لِكَوْنِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ ، وَالْجَهَالَةُ الَّتِي لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ خَلَلٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْعَارِيَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ التَّمْلِيكُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا بِصِحَّةِ الْعَارِيَّةِ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ اعْتَرَفُوا بِعَدَمِ صِحَّةِ التَّمْلِيكِ أَصْلًا مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُتِمَّ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ : وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الْعَارِيَّةَ هِيَ الْإِبَاحَةُ دُونَ التَّمْلِيكِ لَا عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ مَعَ الْجَهَالَةِ : فَالْأَوْلَى فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ : وَإِنَّمَا صَحَّتْ الْعَارِيَّةُ مَعَ جَهَالَةِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ التَّمْلِيكُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ إلَخْ تَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ صَرِيحٌ فِيهِ : أَيْ حَقِيقَةٌ فِي عَقْدِ الْعَارِيَّةِ ، وَفِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ : أَيْ مَجَازٌ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَفِي عِبَارَتِهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَنَّهُ مَجَازٌ فَهُوَ صَرِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مَجَازٌ مُتَعَارَفٌ ، وَالْمَجَازُ الْمُتَعَارَفُ صَرِيحٌ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، فَلَا فَرْقَ إذًا بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ ، وَالْجَوَابُ : كِلَاهُمَا صَرِيحٌ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا حَقِيقَةٌ وَالْآخَرَ مَجَازٌ ، فَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ مُسْتَعْمَلٌ : أَيْ مَجَازٌ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْآخَرَ حَقِيقَةٌ إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ : فِيهِ تَأَمُّلٌ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَ الْأُولَى بِكَوْنِهَا صَرِيحَةً يُوهِمُ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ فَلَا

تَنْحَسِمُ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مَا انْكَشَفَ الْمُرَادُ مِنْهُ فِي نَفْسِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْحَقِيقَةَ الْغَيْرَ الْمَهْجُورَةَ وَالْمَجَازَ الْمُتَعَارَفَ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالصَّرِيحِ هَاهُنَا الْحَقِيقَةَ فَقَطْ بِقَرِينَةِ مَا ذَكَرَهُ فِي مُقَابِلِهِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْبَعْضُ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأُولَى بِكَوْنِهَا صَرِيحَةً يُوهِمُ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ : أَيْ لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالصَّرِيحِ هَاهُنَا مَعْنَى الْحَقِيقَةِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأُولَى بِذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ بِمَعْنَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا إشْكَالَ فِيهِ حَتَّى لَا تَنْحَسِمَ مَادَّتُهُ ( قَوْلُهُ : وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا بِدَلِيلِ التَّعْلِيلِ .
وَقَالَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ إلَى الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ الطَّعْنِ وَالْجَوَابِ : قُلْت : الْمَذْكُورُ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ : وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ ، وَالْآخَرُ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَدَارُ مَا قَالَهُ عَلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَفْهُومِ وَبَيْنَ مَا صَدَّقَ هُوَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الشَّيْئَيْنِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ .
وَمَبْنَى التَّأْوِيلِ هَاهُنَا وَفِي قَوْله تَعَالَى { عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ } هُوَ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا غُبَارَ فِي الْجَوَابِ .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بَيَانَ الْوَاقِعِ لَا رَدَّ الْجَوَابِ .
؛ لِأَنَّا نَقُولُ

: كَوْنُ الْمَذْكُورِ شَيْئَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ غَنِيًّا عَنْ الْبَيَانِ جِدًّا يَأْبَى عَنْهُ قَطْعًا ذِكْرَهُ لَفْظَةَ قُلْت سِيَّمَا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّعْنِ وَالْجَوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ

قَالَ : ( وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ } وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُمْلَكُ شَيْئًا فَشَيْئًا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِهَا فَالتَّمْلِيكُ فِيمَا لَمْ يُوجَدْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ .

قَالَ : ( وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ فَيَضْمَنُهُ ، وَالْإِذْنُ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ ، وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الرَّدُّ مُؤْنَةً كَنَفَقَةِ الْمُسْتَعَارِ فَإِنَّهَا عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَا لِنَقْضِ الْقَبْضِ .

( قَوْلُهُ : وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَلِهَذَا أَيْ وَلِكَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ : يَعْنِي مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِإِذْنٍ لَكِنْ لَمَّا كَانَ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ إذَا هَلَكَ ضَمِنَ فَكَذَا هَذَا .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : حَمَلَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورَ قَوْلَ الْمُصَنَّفِ وَلِهَذَا عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَسَكَتَ سَائِرُ الشُّرَّاحِ عَنْ الْبَيَانِ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ ، فَالْمَعْنَى وَلِكَوْنِهِ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ ، وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ عِنْدِي لِوَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ ، فَبِمُقْتَضَى كَوْنِ الْمَعْطُوفِ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ هَذَا إشَارَةً إلَى كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا ، وَلِكَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا صَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِذْنَ لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرْته فَيَصِيرُ الْمَعْنَى وَلِكَوْنِهِ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ صَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ حَدِيثَ كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ لَا عُمْدَةَ فِي الِاسْتِدْلَالِ ،

بِخِلَافِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ أَحَقُّ بِأَنْ يُفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : وَلِهَذَا كَانَ وَاجِبَ الرَّدِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي أَخَّرَ حَدِيثَ كَوْنِ الْإِذْنِ ضَرُورِيًّا عَنْ تَفْرِيعِ هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ ( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ اللَّفْظَ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا ، وَالْقَبْضُ لَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِي حَمْلِ هَذَا الْمَحَلِّ : يَعْنِي أَنَّ الضَّمَانَ إمَّا أَنْ يَجِبَ بِالْعَقْدِ أَوْ بِالْقَبْضِ أَوْ بِالْإِذْنِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُوجِبٍ لَهُ .
أَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْعَارِيَّةُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْتِزَامِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْ لِإِبَاحَتِهَا عَلَى اخْتِلَافِ الْقَوْلَيْنِ ، وَمَا وُضِعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْعَيْنِ حَتَّى يُوجِبَ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ .
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَإِنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا وَقَعَ تَعَدِّيًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِيهِ .
وَأَمَّا الْإِذْنُ فَلِأَنَّ إضَافَةَ الضَّمَانِ إلَيْهِ فَسَادٌ فِي الْوَضْعِ ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْمَالِكِ فِي قَبْضِ الشَّيْءِ يَنْفِي الضَّمَانَ فَكَيْفَ يُضَافُ إلَيْهِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ احْتِمَالَ كَوْنِ الْإِذْنِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ مِمَّا لَا يَخْطِرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَصْلًا ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِنَفْيِ ذَلِكَ قَطُّ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ حُجَّتِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَدَرَجَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورَ إيَّاهُ فِي احْتِمَالَاتِ إيجَابِ الضَّمَانِ وَنِسْبَتِهِ ذَلِكَ إلَى الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي خُرُوجًا عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ ( قَوْلُهُ : وَالْإِذْنُ وَإِنْ ثَبَتَ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ مَا قَبَضَهُ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَقَعْ تَعَدِّيًا

) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِذْنُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَهُ .
وَتَقْرِيرُهُ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ : يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَكُنْ إلَّا لِضَرُورَةِ الِانْتِفَاعِ ، لَكِنَّ الْقَبْضَ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ إلَّا لِلِانْتِفَاعِ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ تَعَدٍّ وَلَا ضَمَانَ بِدُونِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَبْضُ أَيْضًا إلَّا لِضَرُورَةِ الِانْتِفَاعِ كَانَتْ صِحَّةُ الْقَبْضِ مُقَدَّرَةً بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ إنَّمَا هِيَ فِي حَالَةِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَإِنْ هَلَكَتْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا ضَمَانَ قَطْعًا .
وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فِي غَيْرِهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الضَّمَانُ لِكَوْنِ هَلَاكِهَا فِيمَا وَرَاءَ الضَّرُورَةِ .
فَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْإِذْنُ يُثْبِتُ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ فَلَا يُظْهِرُ فِيمَا وَرَاءَهُ طَرِيقَةَ الْمَنْعِ لَا الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهَا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ وَالْإِذْنُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ ثَبَتَ ضَرُورَةَ الِانْتِفَاعِ .
قُلْنَا : لَمَّا مَسَّتْ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ إلَى إظْهَارِ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي حَالَةِ الِانْتِفَاعِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى إظْهَارِ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِانْتِفَاعِ أَيْضًا وَهِيَ حَالَةُ الْإِمْسَاكِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ غَيْرِهِ كَمَا يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا سَاعَةً وَيُمْسِكُ أُخْرَى ، وَلَوْ انْتَفَعَ بِالْعَارِيَّةِ دَائِمًا يَضْمَنُ كَمَا إذَا رَكِبَهَا لَيْلًا وَنَهَارًا فِيمَا لَا يَكُونُ الْعُرْفُ كَذَلِكَ ، فَثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ حَالَةِ الِانْتِفَاعِ أَيْضًا مَأْذُونٌ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، إلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأُشِيرَ إلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْجَوَابِ فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا فَتَبَصَّرْ .

وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ مَا اسْتَعَارَهُ ؛ فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ فَوْقَهُ ، وَلِإِنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لَازِمًا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُعِيرِ ، وَفِي وُقُوعِهِ لَازِمًا زِيَادَةُ ضَرَرٍ بِالْمُعِيرِ لِسَدِّ بَابِ الِاسْتِرْدَادِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَأَبْطَلْنَاهُ ، وَضَمِنَهُ حِينَ سَلَّمَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْعَارِيَّةُ كَانَ غَصْبًا ، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمَّنَ الْمُسْتَأْجِرَ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ عَارِيَّةً فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغُرُورِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ .
قَالَ ( وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَهُ ؛ لِأَنَّهُ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مَعْدُومَةٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ .
وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ هَاهُنَا .
وَنَحْنُ نَقُولُ : هُوَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَيَمْلِكُ الْإِعَارَةَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ، وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ فِيمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ .
قَالَ الْعَبْدُ

الضَّعِيفُ : وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً .
وَهِيَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً فِي الْوَقْتِ وَالِانْتِفَاعِ وَلِلْمُسْتَعِيرِ فِيهِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ أَيَّ نَوْعٍ شَاءَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ عَمَلًا بِالْإِطْلَاقِ .
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِيهِمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ فِيهِ مَا سَمَّاهُ عَمَلًا بِالتَّقْيِيدِ إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ وَالْحِنْطَةُ مِثْلُ الْحِنْطَةِ ، وَالشَّعِيرُ خَيْرٌ مِنْ الْحِنْطَةِ إذَا كَانَ كَيْلًا .
وَالثَّالِثُ أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً فِي حَقِّ الْوَقْتِ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الِانْتِفَاعِ .
وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى مَا سَمَّاهُ ، فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ .
وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُطْلِقَ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ ، حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَهُ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ .

( قَوْلُهُ : وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَصَارَ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ بِالْقَبْضِ بَلْ بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ تَحْرِيرَهُ هَذَا فِي تَقْرِيرِ الْجَوَابِ مُخْتَلٌّ فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي فَصَارَ رَاجِعٌ إلَى الْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ ، فَيَصِيرُ الْمَعْنَى : فَصَارَ الْمَأْخُوذُ بِالْعَقْدِ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ فَيَلْزَمُ تَشْبِيهُ الشَّيْءَ بِنَفْسِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِعِنَايَةٍ ، وَهِيَ أَنْ يَحْمِلَ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْعَقْدِ عَلَى الْمُلَابَسَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ فَصَارَ كَالْمَأْخُوذِ بِالْعَقْدِ عَلَى السَّبَبِيَّةِ ، فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِهِ : لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُلَابَسَةِ الْعَقْدِ : أَيْ مَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ بِأَنْ كَانَ مِنْ مُبَادِيهِ لَهُ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمَأْخُوذِ بِسَبَبِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَيَئُولُ إلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ الضَّمَانَ فِي الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ لَا يَلْزَمُ بِالْقَبْضِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ بِالْقَبْضِ بِجِهَةِ الشِّرَاءِ ، إذْ الْقَبْضُ بِحَقِيقَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ فَكَذَا بِجِهَتِهِ ا هـ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَا حَاجَةَ فِي حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا إلَى مَا ارْتَكَبَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ التَّحْرِيرِ الرَّكِيكِ الْمُشْعِرِ بِالِاخْتِلَالِ كَمَا عَرَفْت ، بَلْ لَهُ مَحْمَلَانِ صَحِيحَانِ سَالِمَانِ عَنْ شَائِبَةِ الْخَلَلِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْعَقْدِ بِالْمُبَاشَرَةِ لِبَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ

لَهُ حُكْمُ نَفْسِ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْأَخْذُ مِنْ أَخَذَ فِيهِ بِمَعْنَى شَرَعَ فِيهِ لَا مِنْ أَخَذَهُ .
وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ : أَيْ الْمَأْخُوذَ لِأَجْلِ الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ " فِي " فِي قَوْلِهِ فِي الْعَقْدِ بِمَعْنَى اللَّامِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا } عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ ، فَالْأَخْذُ حِينَئِذٍ مِنْ أَخَذَهُ بِمَعْنَى تَنَاوَلَهُ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ : فَإِنْ قِيلَ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْأَخْذَ فِي الْعَقْدِ لَهُ حُكْمُ الْعَقْدِ وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعَقْدَ ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا حَقِيقَةً جُعِلَ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ عَنْ الضَّيَاعِ إذْ الْمَالِكُ لَمْ يَرْضَ بِخُرُوجِ مِلْكِهِ مَجَّانًا ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَوَجَّهُ هَاهُنَا أَصْلًا ، إذْ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلْأَخْذِ فِي الْعَقْدِ حُكْمُ الْعَقْدِ تَحَقُّقُ الْعَقْدِ ، بَلْ يَقْتَضِي عَدَمَ تَحَقُّقِهِ ، إذْ عِنْدَ تَحَقُّقِهِ يَكُونُ الْحُكْمُ لِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا لِلْأَخْذِ فِيهِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَلَكِنْ لَا عَقْدَ هَاهُنَا .
ثُمَّ إنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ مَنْظُورٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي جَعْلِ الْعَقْدِ مَوْجُودًا تَقْدِيرًا صِيَانَةً لِمَالِ الْبَائِعِ عَنْ الضَّيَاعِ لَكِنْ فِيهِ تَضْيِيعٌ لِمَالِ الْمُشْتَرِي ، إذْ قَدْ يَكُونُ هَلَاكُ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِلَا تَعَدٍّ مِنْهُ بَلْ بِسَبَبٍ اضْطِرَارِيٍّ ، وَقَدْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ مَالِكِهِ بِإِذْنٍ ، فَإِذَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ خَرَجَ مَالُهُ الَّذِي أَدَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ مَجَّانًا : أَيْ بِلَا عَقْدٍ وَلَا تَعَدٍّ فِي شَيْءٍ فَيَلْزَمُ النَّظَرُ لِأَحَدِ الْمُتَآخِذَيْنِ فِي الْعَقْدِ وَتَرْكُ

النَّظَرِ عَنْ الْآخَرِ تَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ : كَالْحَمْلِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : كَذَا ذَكَرَهُ فِي النَّظَائِرِ الْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيُّ .
أَقُولُ : فِي أَكْثَرِ هَذِهِ الْأَمْثِلَةِ إشْكَالٌ : أَمَّا فِي مِثَالِ الْحَمْلِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ انْتَهَى .
إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ مِنْ الْإِجَارَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَنَّ الْحَمْلَ كَالرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ .
وَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ اضْطَرَبَ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي شَأْنِ الْحَمْلِ حَيْثُ قَالُوا فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ : إنَّهُ مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ ، وَقَالُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إنَّهُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ ، وَمِمَّنْ ظَهَرَتْ الْمُخَالَفَةُ جِدًّا بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ صَاحِبُ الْكَافِي ، فَإِنَّهُ قَالَ هَاهُنَا : سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ شَيْئًا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ فِي الدَّابَّةِ أَوْ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ .
وَقَالَ فِي الْإِجَارَاتِ : وَيَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ ، فَمَا لَمْ يُبَيِّنْ لَا يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا فَلَا يُحْكَمُ بِجَوَازِ الْإِجَارَةِ انْتَهَى .
وَأَمَّا فِي مِثَالِ الزِّرَاعَةِ فَلِأَنَّهُ سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي اسْتِئْجَارِ الْأَرَاضِي لِلزِّرَاعَةِ حَتَّى يُسَمِّيَ مَا يَزْرَعُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ

مَا يَزْرَعُ فِيهَا مُتَفَاوِتٌ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَيْ لَا تَقَعَ الْمُنَازَعَةُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهُ أَنَّ الزِّرَاعَةَ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ ، وَعَنْ هَذَا مَثَّلَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ لِمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِأَمْثِلَةٍ ، وَعَدَّ مِنْهَا الزِّرَاعَةَ حَيْثُ قَالَ : كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّرَاعَةِ .
وَأَمَّا فِي مِثَالِ السُّكْنَى فَلِأَنَّ سُكْنَى الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ دُونَ سُكْنَى غَيْرِهِمَا ، وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ سُكْنَاهُمَا فِي اسْتِئْجَارِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ لِلسُّكْنَى كَمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ ، فَكَانَ السُّكْنَى أَيْضًا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْإِضْرَارَ بِالْبِنَاءِ أَثَرُ الْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ لَا أَثَرُ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّكْنَى لَا يُؤَثِّرُ فِي انْهِدَامِ الْبِنَاءِ يُضَافُ الِانْهِدَامُ إلَى الْحِدَادَةِ وَالْقِصَارَةِ كَمَا بَيَّنَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فَلَمْ يَقَعْ الِاخْتِلَافُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ فِي نَفْسِ السُّكْنَى بَلْ فِي أَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ ، وَالْمِثَالُ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ نَفْسُ السُّكْنَى فَلَا إشْكَالَ فِيهِ ( قَوْلُهُ : وَالْمَنَافِعُ اُعْتُبِرَتْ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ كَذَلِكَ فِي الْإِعَارَةِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَنَافِعُ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ .
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهَا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلْمِلْكِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ فَتُجْعَلُ فِي الْإِعَارَةِ كَذَلِكَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْقِيَاسُ عَلَى الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ تَدَارَكَ الشَّافِعِيُّ دَفْعَهُ حَيْثُ قَالَ فِي ذَيْلِ تَعْلِيلِهِ : وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهَا مَوْجُودَةً فِي الْإِجَارَةِ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِبَاحَةِ : يَعْنِي أَنَّ عِلَّةَ اعْتِبَارِ

الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ فِي الْإِجَارَةِ ضَرُورَةَ دَفْعِ حَاجَةِ النَّاسِ ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْإِعَارَةِ لِانْدِفَاعِ حَاجَتِهِمْ بِالْإِبَاحَةِ فَلَمْ يُتِمَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا جَوَابًا عَنْهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : النَّاسُ كَمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالشَّيْءِ ؛ لِأَنْفُسِهِمْ كَذَلِكَ يَحْتَاجُونَ إلَى نَفْعِ غَيْرِهِمْ بِذَلِكَ الشَّيْءِ .
وَعِنْدَ كَوْنِ الْإِعَارَةِ إبَاحَةً لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِ غَيْرِهِمْ بِالْعَارِيَّةِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُمْ الْأُخْرَى ، فَضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَتِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ دَعَتْ إلَى اعْتِبَارِ الْمَنَافِعِ قَابِلَةً لِلْمِلْكِ فِي الْعَارِيَّةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ تَقْرِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ : أَقُولُ : لَمْ يَمُرَّ مِنْهُ كَلَامٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَقَامِ سِوَى بَحْثِهِ الثَّالِثِ مِنْ أَبْحَاثِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ ، وَدَفَعْنَا كُلَّهُ هُنَاكَ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَشٍّ هُنَا ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ قِيَاسَ الْمَنَافِعِ عَلَى الْأَعْيَانِ لَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْقِيَاسِ كَوْنَ الْفَرْعِ نَظِيرَ الْأَصْلِ وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ نَظِيرَ الْأَعْيَانِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقِيسَ وَالْمَقِيسَ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كِلَاهُمَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنَافِعِ فَكَانَ الْفَرْعُ نَظِيرَ الْأَصْلِ قَطْعًا .
( قَوْلُهُ : وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ : أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً .
أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ الْمُسْتَعَارَ فِيمَا إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةَ الْإِعَارَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ حَتَّى الْمُتُونِ أَنَّ

اخْتِصَاصَ وِلَايَةِ الْإِعَارَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ بِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ إنَّمَا هُوَ إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً فَلِلْمُسْتَعِيرِ وِلَايَةُ الْإِعَارَةِ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ أَوْ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ ، وَهَذَا مِمَّا أَطْبَقَ عَلَيْهِ كَلِمَةُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ حَتَّى الْمُصَنِّفِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ فِي آخِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرَكِّبَ غَيْرَهُ ، وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُخْتَلِفًا ا هـ .
.
فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرِيدَ بِكَلِمَةِ هَذَا الْإِشَارَةَ إلَى مَا قَالَهُ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ إنَّمَا يَتِمُّ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا قَبْلُ مُقَيَّدًا بِقَوْلِهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ .
وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُقَيَّدًا بِهِ لَمْ يُتِمَّ قَوْلَهُ الْمَزْبُورَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً عَلَى مُقْتَضَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ قَاطِبَةً كَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَالْعَجَبُ مِنْ عَامَّةِ الشُّرَّاحِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْمُشَارَ إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرُوا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا .
ثُمَّ إنَّ الشَّارِحَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ كَأَنَّهُ تَنَبَّهَ لِلْمَحْذُورِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةَ الْإِشَارَةِ لَا تَعُودُ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ بَلْ إلَى أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْعَارِيَّةِ مَا شَاءَ إذَا أُطْلِقَتْ الْعَارِيَّةُ .
ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ

هَذَا الشَّارِحُ وَجَعَلَهُ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الْإِشَارَةُ مِمَّا لَمْ يَذْكُرْ فِيمَا قَبْلُ قَطُّ فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ، وَلَا يُشَارُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لَا إلَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ ، أَوْ إلَى مَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَكَأَنَّهُ هَرَبَ عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى .
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَوْ تَرَكَ قَوْلَهُ وَهَذَا إذَا صَدَرَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً وَشَرَعَ فِي الْكَلَامِ الَّذِي بَسَطَهُ بِأَنْ يَقُولَ وَالْإِعَارَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ لَكَانَ أَحْرَى ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ أَوَّلًا : وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ ، وَذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ وَبَيَّنَ دَلِيلَ الطَّرَفَيْنِ .
ثُمَّ قَالَ : ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا إنْ حَصَلَتْ الْإِعَارَةُ مُطْلَقَةً فِي حَقِّ الْمُنْتَفِعِ بِأَنْ أَعَارَ ثَوْبًا لِلُّبْسِ وَلَمْ يُبَيِّنْ اللَّابِسَ أَوْ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الرَّاكِبَ أَوْ دَابَّةً لِلْحَمْلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْحَامِلَ ، وَفِي هَذَا الْوَجْهِ لَهُ أَنْ يُعِيرَ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعَارُ شَيْئًا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ فِي الثَّوْبِ وَالرُّكُوبِ فِي الدَّابَّةِ أَوْ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَالْحَمْلِ عَلَى الدَّابَّةِ عَمَلًا بِإِطْلَاقِ اللَّفْظِ ، وَإِنْ حَصَلَتْ الْإِعَارَةُ مُقَيَّدَةً بِأَنْ اسْتَعَارَ لِيَلْبَسَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَرْكَبَ بِنَفْسِهِ أَوْ لِيَحْمِلَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَمَا فِي الْحَمْلِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ فِي إعَارَةِ الْمُسْتَعِيرِ .
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي انْتِفَاعِهِ فِي الْمُسْتَعَارِ فَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ ، فَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ (

قَوْلُهُ : إلَّا إذَا كَانَ خِلَافًا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ إلَى خَيْرٍ مِنْهُ ) كَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى أَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا قَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ .
وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ .
فَإِنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ الْحِنْطَةِ ، إذْ مَقْصُودُهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَنْ دَابَّتِهِ .
وَمِثْلُ كَيْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ أَخَفُّ عَلَى الدَّابَّةِ .
وَالتَّقْيِيدُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا كَذَا فِي الْعَصَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ مُنْتَقَضٌ بِالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ .
مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ هَذَا الِاسْتِحْسَانِ هَاهُنَا جَارٍ هُنَاكَ أَيْضًا بِعَيْنِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ بَيْعُهُ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ .

قَالَ : ( وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ قَرْضٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ ، وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَاقْتَضَى تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ضَرُورَةً وَذَلِكَ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْقَرْضِ وَالْقَرْضُ أَدْنَاهُمَا فَيَثْبُتُ .
أَوْ ؛ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ .
قَالُوا : هَذَا إذَا أَطْلَقَ الْإِعَارَةَ .

( قَوْلُهُ : أَوْ ؛ لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعَ وَرَدَّ الْعَيْنِ فَأُقِيمَ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَهُ ) أَقُولُ : يُرَى هَذَا التَّعْلِيلُ خَالِيًا عَنْ التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِعَارَةِ مُنْتَفِيَةٌ فِي عَارِيَّةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْعَارِيَّةِ بِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنُ الْمُسْتَعَارِ قَابِلًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَةَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَتَعَذَّرَ حَقِيقَةُ الْإِعَارَةِ فِيهَا فَجَعَلْنَاهَا كِنَايَةً عَنْ الْقَرْضِ ، وَكَذَا حُكْمُ الْإِعَارَةِ مُنْتَفٍ فِي عَارِيَّةِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْهَلَاكِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ مِنْ الْقَابِضِ ، فَإِذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ حَقِيقَةُ الْإِعَارَةِ وَلَا حُكْمُهَا فِي عَارِيَّةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَلَا تَأْثِيرَ فِيهَا أَصْلًا ؛ لَأَنْ يَكُونَ مِنْ قَضِيَّةِ الْإِعَارَةِ الِانْتِفَاعُ وَرَدُّ الْعَيْنِ وَلَا لِإِقَامَةِ رَدِّ الْمِثْلِ مَقَامَ رَدِّ الْعَيْنِ .
نَعَمْ يُفْهَمُ مِنْ مَضْمُونِ هَذَا التَّعْلِيلِ مُنَاسَبَةٌ فِي الْجُمْلَةِ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ صَالِحَةٌ ؛ لَأَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ الْإِعَارَةِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً عَنْ مَعْنَى الْإِقْرَاضِ ، وَلَكِنَّ كَلَامَنَا فِي صَلَاحِيَّةِ ذَلِكَ ؛ لَأَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُسْلُوبِ التَّحْرِيرِ فَعَلَيْك بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ .

وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ ، وَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَحَمَّلُ بِهَا أَوْ سَيْفًا مُحَلًّى يَتَقَلَّدُهُ .
( قَوْلُهُ : وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ الْجِهَةَ بِأَنْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ لِيُعَايَرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يُزَيِّنَ بِهَا دُكَّانًا لَمْ يَكُنْ قَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُسَمَّاةُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إمْكَانُ الِانْتِفَاعِ بِعَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا وَاعْتِبَارُ ذَلِكَ شَرْعًا أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ مَا ذَكَرَ سَابِقًا مِنْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا ؟ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ سَابِقًا بِنَاءً عَلَى الْأَكْثَرِ الْأَغْلَبِ ، فَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِنَحْوِ الدَّرَاهِمِ فِي الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا ، فَيُدَارُ الْحُكْمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى مَا هُوَ الْأَغْلَبُ ، وَأَمَّا عِنْدَ تَعْيِينِ الْجِهَةِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْت : عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ لَا تُسَاعِدُ التَّوْجِيهَ الَّذِي ذَكَرْته فَإِنَّ الْحَصْرَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ إمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بِالْكُلِّيَّةِ بِدُونِ اسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا .
قُلْت : يُمْكِنُ حَمْلُ الْحَصْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَقَلِّ فَلَا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ ذَلِكَ بِالْكُلِّيَّةِ .

قَالَ ( وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ لِيَغْرِسَ فِيهَا جَازَ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ) أَمَّا الرُّجُوعُ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَا بِالْإِعَارَةِ .
وَإِذَا صَحَّ الرُّجُوعُ بَقِيَ الْمُسْتَعِيرُ شَاغِلًا أَرْضَ الْمُعِيرِ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغَهَا ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اعْتَمَدَ إطْلَاقَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُ الْوَعْدُ وَإِنْ كَانَ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ ( وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِالْقَلْعِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَضْمَنُ رَبُّ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ .
قَالُوا : إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ .
؛ لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً ، وَفِي التَّرْكِ مُرَاعَاةُ الْحُقَّيْنِ ، بِخِلَافِ الْغَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ .

( قَوْلُهُ : وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : أَيْ نُقْصَانُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَنَّ مَا مَصْدَرِيَّةٌ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى الَّذِي ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ مَنْصُوبَيْنِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونَانِ مَرْفُوعَيْنِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَا يَظْهَرُ وَجْهَ صِحَّةٍ لِكَوْنِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَنْصُوبَيْنِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي نَقَصَ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ إنَّمَا هُوَ الْقَلْعُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ نَصْبِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يُضْمَنُ بَلْ هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا الْمَضْمُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ الْمُنْتَقَضَةِ بِالْقَلْعِ ، وَيَمْنَعُ أَيْضًا صِحَّةَ الْمَعْنَى عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ قَوْلُهُ : بِالْقَلْعِ إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ الْقَلْعَ بِالْقَلْعِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
فَالْوَجْهُ عِنْدِي هَاهُنَا رَفْعُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَا غَيْرُ .
أَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ مَا مَصْدَرِيَّةً فَوَاضِحٌ .
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مَوْصُولَةً فَبِتَقْدِيرِ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَيْهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِيهِ بِالْقَلْعِ ، وَهُوَ الْقِيمَةُ .
فَيَكُونُ كَلِمَةُ نَقَصَ هَاهُنَا مِنْ نَقَصَ فِي دِينِهِ وَعَقْلِهِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْقَامُوسِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَوَجْهُ قَوْلِهِ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ يَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ ، وَالْغَرْسِ إذَا بَقِيَ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ ، يَعْنِي إذَا كَانَ قِيمَةُ الْبِنَاءِ إلَى الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ عَشْرَةُ دَنَانِيرَ مَثَلًا ، وَإِذَا قَلَعَ فِي الْحَالِ تَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ يَرْجِعُ بِهِمَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ

ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْمَقَامِ وَمِثَالُهُ عَلَى الْمِنْوَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا بَدَلَ قَوْلِهِ يَرْجِعُ بِهِمَا فَيَرْجِعُ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَكَأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَخَذَ مِمَّا قَالَاهُ حِصَّةً فَأَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْعَ مَا نَقَصَ دِينَارَيْنِ بَلْ نَقَصَ ثَمَانِيَةَ دَنَانِيرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ بِهَا كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى .
أَقُولُ : لَعَلَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ أَرَادَ بِقِيمَةِ النَّقْصِ فِي قَوْلِهِ تَكُونُ قِيمَةُ النَّقْصِ دِينَارَيْنِ نُقْصَانَ الْقِيمَةِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقَلْبِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ إذَا كَانَ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِالْقَلْعِ دِينَارَيْنِ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِدِينَارَيْنِ فَيَرْجِعُ بِهِمَا قَطْعًا .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ فَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا بِقِيمَةِ النَّقْصِ مَعْنَى قِيمَةِ النَّاقِصِ ، وَإِذَا كَانَ قِيمَةُ النَّاقِصِ بِالْقَلْعِ دِينَارَيْنِ يَكُونُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ فَيَرْجِعُ بِثَمَانِيَةِ دَنَانِيرَ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ تَوْجِيهُ كَلَامِ كُلٍّ مِنْ طَائِفَتَيْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ .
وَانْدَفَعَ مَا أَوْرَدَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فَأَقُولُ الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ أَيْ الْقِيمَةِ الْمَنْقُوصَةِ فَلَا إشْكَالَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ وَلَا إضَافَةُ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ عَلَى الْمَذْهَبِ الْمَنْصُورِ الْمُخْتَارِ حَتَّى تَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ مُتُونِ النَّحْوِ وَشَاعَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يُضَافُ إلَى صِفَتِهِ وَلَا الصِّفَةُ إلَى مَوْصُوفِهَا ، وَإِنَّمَا جَوَازُ ذَلِكَ مَذْهَبٌ سَخِيفٌ كُوفِيٌّ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الثِّقَاتِ ، عَلَى أَنَّ النَّقْصَ

فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلْقِيمَةِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يُجْعَلَ مَجَازًا عَنْ الْمَفْعُولِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَنْقُوصَةِ ، وَهَذَا تَعَسُّفٌ بَعْدَ تَعَسُّفٍ ، وَلَعَمْرِي إنَّ مِنْ عَادَةِ ذَلِكَ الْفَاضِلِ أَنْ يَتَشَبَّثَ بِذَلِكَ الْمَذْهَبِ السَّخِيفِ مَعَ تَكَلُّفِ آخَرَ فِي تَوْجِيهِ بَعْضِ الْمَقَامَاتِ ، وَقَدْ مَرَّ مِنْهُ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ يَزْعُمُهُ مَعْنَى لَطِيفًا ظَاهِرًا كَمَا يُلَوِّحُ بِهِ .
قَوْلُهُ : هَاهُنَا فَأَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ قِيمَةُ النَّقْصِ مِنْ إضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إلَى الصِّفَةِ وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الْغَرْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيُقْلَعُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ وَقْتٌ فِي الْغَرْسِ كَانَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالتَّوْقِيتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُؤْخَذَ الْأَرْضُ مِنْهُ هُنَا أَيْضًا إلَى تَمَامِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْغَرْسَ لَيْسَ لَهُ فِي نَفْسِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَبِالتَّوْقِيتِ لَا يَتَقَرَّرُ لَهُ نِهَايَةٌ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْلَعَهُ الْمُسْتَعِيرُ فِي تَمَامِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، إمَّا بِعَمْدٍ مِنْهُ لِخِيَانَةِ نَفْسِهِ ، أَوْ بِمَانِعٍ يَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَتَضَرَّرَ الْمَالِكُ ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّ لَهُ فِي نَفْسِهِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بِالضَّرُورَةِ فَافْتَرَقَا .
وَأَمَّا مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ أَنَّ الضَّرَرَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مُتَعَيِّنٌ سَوَاءٌ وَقَّتَ أَوْ لَا ، إذْ لَيْسَ لَهُمَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَا يُمْكِنُ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الضَّرَرِ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ مَمْنُوعٌ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَسْكُنَ صَاحِبُ الْبِنَاءِ فِي الْبِنَاءِ شِتَاءً ثُمَّ يَنْقُضَ الْبِنَاءَ إذَا جَاءَ الصَّيْفُ ، وَأَنْ يَغْرِسَ صَاحِبُ الْغَرْسِ الشَّجَرَ ثُمَّ يَقْلَعَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ لِيَبِيعَهُ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ ،

فَإِذَا وَقَّتَ الْمُعِيرُ الْعَارِيَّةَ بِالْمُدَّةِ الْمُعْتَادَةِ فِي نَقْضِ مِثْلِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَقَلْعِ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّجَرِ وَلَمْ تُؤْخَذْ الْأَرْضُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى تَمَامِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَتَضَرَّرْ صَاحِبُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ أَصْلًا ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَتَاجُ الشَّرِيعَةِ عِنْدَ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ ، حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَغْرُورٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَقِّتْ صَرِيحًا لَكِنْ وَقَّتَ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ لِلدَّوَامِ فَكَانَتْ الْإِعَارَةُ لَهُ تَوْقِيتًا .
قُلْنَا : الْبِنَاءُ قَدْ يُبْنَى لِمُدَّةٍ قَلِيلَةٍ بِأَنْ يَسْكُنَ شِتَاءً ثُمَّ يَنْقُضَ إذَا جَاءَ الصَّيْفُ ، وَالشَّجَرُ قَدْ يُغْرَسُ ثُمَّ يُقْلَعُ بَعْدَ زَمَانٍ لِيُبَاعَ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ .
انْتَهَى كَلَامُهُمَا تَأَمَّلْ تَرْشُدْ .

قَالَ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ) ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَالْأُجْرَةُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَتَكُونُ عَلَيْهِ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ رَدِّهِ ( وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ فَتَكُونَ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِ .

( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ ، فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ مَعْنًى فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مُؤْنَةٌ رَدِّهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : كَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ سَالِمَةٌ لِلْمُؤَجِّرِ فَكَذَلِكَ هِيَ سَالِمَةٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا وَهِيَ الِانْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ .
قُلْنَا : إنَّ الْمَنْفَعَةَ الْحَاصِلَةَ لِلْمُؤَجِّرِ مَالٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَمَا حَصَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْفَعَةٌ وَلَيْسَ بِمَالٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ اعْتِبَارُ مَنْفَعَةِ الْمُؤَجِّرِ أَوْلَى ، إلَى هَذَا أَشَارَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ وَغَيْرُهُ فِي بَابِ مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ إجَارَاتِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَيْثُ قَالُوا : وَفِي الْمُسْتَأْجَرِ الْمَنْفَعَةُ عَائِدَةٌ إلَى الْآجِرِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مِلْكِ الْآجِرِ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ مَنْفَعَةً ، لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَيْنِ وَمِلْكُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمَنْفَعَةُ تَابِعَةٌ لِلْعَيْنِ انْتَهَى .
وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يُعَارَضُ بِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ انْتَفَعَ بِمَنَافِعِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ وَمَنْفَعَةُ الْمُسْتَأْجَرِ مَنْفَعَةٌ وَالْعَيْنُ لِكَوْنِهِ مَتْبُوعًا أَوْلَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْمَنْفَعَةِ فِي قَوْلِهِمْ : إنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ هُوَ الْأُجْرَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي ، وَالْأُجْرَةُ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ عَيْنًا أَلْبَتَّةَ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ بِأَنَّ الْأُجْرَةَ قَدْ تَكُونُ عَيْنًا وَقَدْ تَكُونُ دِينًا وَقَدْ تَكُونُ مَنْفَعَةً مِنْ خِلَافِ جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْآجِرِ عَيْنٌ عَلَى الْكُلِّيَّةِ فَلَمْ يَتِمَّ الْجَوَابُ .

قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ مَالِكِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أُتِيَ بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعَوَارِيِّ إلَى دَارِ الْمُلَّاكِ مُعْتَادٌ كَآلَةِ الْبَيْتِ ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْمَرْبِطِ .
( قَوْلُهُ : وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَدَّهَا إلَى مَالِكِهَا بَلْ ضَيَّعَهَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَحْرِيرِ الْمَقَامِ : وَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ لَا رَدٌّ ، وَصَارَ كَرَدِّ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ إلَى دَارِ الْمَالِكِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَعَلَى الْمُودِعِ الرَّدُّ إلَى الْمَالِكِ لَا إلَى دَارِهِ وَمَنْ فِي عِيَالِهِ .
؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَى بِالرَّدِّ إلَى عِيَالِهِ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا تَحْرِيرٌ مُخْتَلٌّ .
فَإِنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ إلَخْ كَلَامُهُ الْمَزْبُورُ يُشْعِرُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْقِيَاسِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ سِوَاهُ هَاهُنَا ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرُوهُ فِي مَحَلِّهِ فِيمَا سَيَأْتِي كَمَا تَرَى .

( وَإِنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا فَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ رَدَّ الْمَغْصُوبَ أَوْ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ ضَمِنَ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ ، وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ ، الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي الْعِيَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَاهُ لَمَا أَوْدَعَهَا إيَّاهُ ، بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ ؛ لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عُقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ ؛ لِعَدَمِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعُرْفِ فِيهِ .

قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ ) وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ ، وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ، بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ .
( وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ رَبِّ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ ، وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ دَائِمًا يُدْفَعُ إلَيْهِ أَحْيَانًا ( وَإِنْ رَدّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ ) وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ قَصْدًا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَمْلِكُهُ لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ ، وَأَوَّلُوا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِانْتِهَاءِ الْإِعَارَةِ لِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ .

قَالَ : ( وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا بَيْضَاءَ لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ إنَّك أَطْعَمْتنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَكْتُبُ إنَّك أَعَرْتنِي ) ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ لَهُ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ .
وَلَهُ أَنَّ لَفْظَةَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ ؛ لِأَنَّهَا تَخُصُّ الزِّرَاعَةَ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُهَا وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

كِتَابُ الْهِبَةِ الْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ( وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ ) أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ ، وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمَلِكِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّدَقَةُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } وَالْمُرَادُ نَفْيُ الْمِلْكِ ، لِأَنَّ الْجَوَازَ بِدُونِهِ ثَابِتٌ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ ، وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا إلْزَامَ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ ؛ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ اللُّزُومِ ، وَحَقُّ الْوَارِثِ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْهَا .

( كِتَابُ الْهِبَةِ ) ذَكَرْنَا وَجْهَ الْمُنَاسَبَةِ وَالتَّرْتِيبِ فِي الْوَدِيعَةِ وَهُوَ التَّرَقِّي مِنْ الْأَدْنَى إلَى الْأَعْلَى ، وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ كَالْمُفْرَدِ وَالْهِبَةَ كَالْمَرْكَبِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَمْلِيكَ الْعَيْنِ مَعَ الْمَنْفَعَةِ .
ثُمَّ مَحَاسِنُ الْهِبَةِ لَا تُحْصَى وَلَا تَخْفَى عَلَى ذَوِي النُّهَى .
فَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى ذَاتَهُ بِالْوَهَّابِ فَقَالَ { إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ } وَهَذَا يَكْفِي لِمَحَاسِنِهَا .
ثُمَّ إنَّ الْهِبَةَ فِي اللُّغَةِ أَصْلُهَا مِنْ الْوَهْبِ ، وَالْوَهْبُ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ وَتَحْرِيكِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مُعْتَلِّ الْفَاءِ كَالْوَعْدِ وَالْعِدَّةِ وَالْوَعْظِ وَالْعِظَةِ فَكَانَتْ مِنْ الْمَصَادِرِ الَّتِي تُحْذَفُ أَوَائِلُهَا وَيُعَوَّضُ فِي أَوَاخِرِهَا التَّاءُ ، وَمَعْنَاهَا : إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى الْغَيْرِ بِمَا يَنْفَعُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ ، يُقَالُ وَهَبَ لَهُ مَالًا وَهْبًا وَهِبَةً ، وَيُقَالُ وَهَبَ اللَّهُ فُلَانًا وَلَدًا صَالِحًا ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي } وَيُقَالُ وَهَبَهُ مَالًا وَلَا يُقَالُ وَهَبَ مِنْهُ ، وَيُسَمَّى الْمَوْهُوبُ هِبَةً وَمَوْهِبَةً وَالْجَمْعُ هِبَاتٌ وَمَوَاهِبُ ، وَاتَّهَبَهُ مِنْهُ قِبَلَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ طَلَبَ الْهِبَةَ ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا فِي الشَّرِيعَةِ فَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بَلْ الْمُتُونِ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ النَّقْضُ عَكْسًا بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا تَرَى ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ شُرَّاحِ الْكِتَابِ حَامَ حَوْلَ التَّعَرُّضِ لِلْجَوَابِ عَنْ هَذَا النَّقْضِ وَلَا لِإِيرَادِهِ مَعَ ظُهُورِ وُرُودِهِ جِدًّا ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ قَصَدَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ : هِيَ تَمْلِيكُ عَيْنٍ بِلَا عِوَضٍ .
وَقَالَ فِي شَرْحِهِ : أَيْ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْعِوَضِ شَرْطٌ فِيهِ لِيَنْتَقِضَ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَتَدَبَّرْ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ

بِقَوْلِهِمْ بِلَا عِوَضٍ فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ مَعْنَى بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ لِيَعُمَّ مَا كَانَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ مِنْ الْهِبَةِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ مِنْ أَنَّ بِلَا شَرْطٍ شَيْءٌ أَعَمُّ مِنْ بِشَرْطِ شَيْءٍ ، وَمِنْ بِشَرْطِ لَا شَيْءٍ لَكَانَ تَعْرِيفُ الْهِبَةِ صَادِقًا عَلَى الْبَيْعِ أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى ، فَلَزِمَ أَنْ يَنْتَقِضَ بِهِ طَرْدًا عَلَى عَكْسِ مَا فِي الْمَعْنَى الظَّاهِرِ فَلَا يَنْدَفِعُ الْمَحْذُورُ بِذَلِكَ بَلْ يَشْتَدُّ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ الْجَوَابَ عَنْ أَصْلِ النَّقْضِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ بِلَا عِوَضٍ فِي تَعْرِيفِ الْهِبَةِ بِلَا اكْتِسَابِ عِوَضٍ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْهِبَةَ هِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ اكْتِسَابِ الْعِوَضِ فَلَا يُنْتَقَضُ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إلَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطِ الِاكْتِسَابِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ ، وَقَالُوا خَرَجَ بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ فِي التَّعْرِيفِ الْمَزْبُورِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ ، فَإِنَّهَا أَيْضًا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا اكْتِسَابِ عِوَضٍ فَلَمْ يَكُنْ مَانِعًا عَنْ دُخُولِ الْأَغْيَارِ ، فَلَوْ زَادُوا قَيْدَ فِي الْحَالِ فَقَالُوا : هِيَ تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَا عِوَضٍ فِي الْحَالِ لَخَرَجَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا فِي الْحَالِ .
( قَوْلُهُ : وَتَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ تَصِحُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ ، وَبِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ فَصَارَ هُوَ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ .
وَثَمَرَةُ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ

الْأَيْمَانِ فِي قَوْلِهِ : وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ فَقَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَحَالِّ ، وَنَسَجَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ أَيْضًا وَعَزَاهُ إلَى الْحَصْرِ وَالْمُخْتَلَفِ .
وَبَنَى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا كَلَامَهُ هَاهُنَا عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ جِهَةِ الْعَاقِدَيْنِ ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ فَلِأَنَّ الْإِيجَابَ كَافٍ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بِدُونِ الْقَبْضِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ا هـ .
وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَيْضًا اقْتَفَى أَثَرَ هَؤُلَاءِ ، وَبِالْجُمْلَةِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا جِدًّا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُهُ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِثْلُهُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ وَلِهَذَا يُقَالُ وَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ ا هـ .
إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَلِأَنَّهُ عَقْدٌ ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِي أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ ، وَيَشْهَدُ بِهَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ : وَالْقَبْضُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ

وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْقَبْضِ لَقَالَ وَالْقَبُولُ وَالْقَبْضُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ قَدْ كَانَا صَرَّحَا قُبَيْلَ هَذَا الْكَلَامِ بِأَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَاكَ التَّصْرِيحَ مِنْهُمَا يُنَافِي الْقَوْلَ مِنْهُمَا هَاهُنَا بِأَنَّ الْهِبَةَ تَتِمُّ بِالْإِيجَابِ وَحْدَهُ ، إذَا لَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتِمُّ بِبَعْضِ أَرْكَانِهِ بِدُونِ حُصُولِ الْآخَرِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْكُلِّ بِانْتِفَاءِ جُزْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَصَاحِبَ الْكِفَايَةِ سَلَكَا هَاهُنَا مَسْلَكًا آخَرَ فَقَالَا وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهَا عَقْدٌ ، وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْغَيْرِ بِدُونِ تَمْلِيكِهِ ، وَإِلْزَامُ الْمِلْكِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ بِدُونِ قَبُولِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْنَثُ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْنَعُ نَفْسَهُ عَمَّا هُوَ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ الْإِيجَابُ لَا الْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُ الْغَيْرِ .
ا هـ كَلَامُهُمَا .
أَقُولُ : هَذَا التَّقْرِيرُ وَإِنْ كَانَ مُنَاسِبًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُلَائِمٍ لِمَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ كَمَا نَقَلْنَاهُ آنِفًا ، وَأَيْضًا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لِلْحِنْثِ فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَهَبَ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَقْتَضِي أَنْ يَحْنَثَ أَيْضًا فِيمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ فَبَاعَ وَلَمْ يُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْدُورَ لَهُ فِي كُلِّ عَقْدٍ هُوَ الْإِيجَابُ لَا الْقَبُولُ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي صُورَةِ الْبَيْعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلِمَاتِ الْقَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لَا تَخْلُو عَنْ الِاضْطِرَابِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَأَمَّا رُكْنُهَا فَقَدْ

اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ : هُوَ مُجَرَّدُ إيجَابِ الْوَاهِبِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَهَبْت وَلَمْ يَجْعَلْ قَبُولَ الْمَوْهُوبِ لَهُ رُكْنًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ إيجَابِ الْوَاهِبِ ، وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا حَلَفَ لَا يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ صَاحِبُ التُّحْفَةِ : رُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ هُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ : أَمَّا رُكْنُ الْهِبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ ، فَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ .
وَفِي قَوْلٍ قَالَ : الْقَبْضُ أَيْضًا رُكْنٌ .
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَوَهَبَهُ لَهُ فَلَمْ يَقْبَلْ أَنَّهُ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ ، وَفِي قَوْلٍ مَا لَمْ يَقْبَلْ وَيَقْبِضْ ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ فَلَمْ يُقْبَلْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَفِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ فَلَا يَصِحُّ ) يَعْنِي لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ فَيُؤَدِّي إلَى إيجَابِ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ وَهُوَ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ ، وَإِيجَابُ شَيْءٍ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعَاتِ ، بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَاتِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَبَعْضِ الشُّرُوحِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُتَبَرِّعَ بِالشَّيْءِ قَدْ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ تَمَامِهِ ضَرُورَةُ تَصْحِيحِهِ ، كَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ وَهُوَ مُحْدِثٌ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ ، وَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ .

وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مُغَالَطَةٌ ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الشَّيْءُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا كَمَا ذَكَرْت مِنْ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِالنَّذْرِ أَوْ الشُّرُوعِ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَيْفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجِبُ مَا يَتِمُّ بِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ وَسَلَّمَ جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فَكَيْفَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مَنْقُوضٌ بِالْهِبَةِ لِلْقَرِيبِ وَبِالْهِبَةِ الْمُعَوَّضِ عَنْهَا وَبِغَيْرِهِمَا مِمَّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمَانِعُ عَنْ الرُّجُوعِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْقَبْضِ إلْزَامُ الْمُتَبَرِّعِ شَيْئًا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ التَّسْلِيمُ ، إذْ بِجَوَازِ الرُّجُوعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يَنْتَفِي لُزُومُ التَّسْلِيمِ فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ إلْزَامُ التَّسْلِيمِ فَلْيَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ .

قَالَ : ( فَإِنْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَاهِبِ جَازَ ) اسْتِحْسَانًا ( وَإِنْ قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْوَاهِبُ فِي الْقَبْضِ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ ، إذْ مِلْكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاقٍ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ إذْنِهِ ، وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتَنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ ، وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ ، فَكَذَا مَا يُلْحَقُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَهَاهُ عَنْ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا تَعْمَلُ فِي مُقَابَلَةِ الصَّرِيحِ .

قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : قَوْلُهُ : فِي الْهِبَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ لَا بِالْقَبُولِ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الْإِيضَاحِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَلَا أَدْرِي مَا الْمَانِعُ عَنْ تَعَلُّقِهِ بِالْقَبُولِ ، فَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْإِيجَابَ التَّامَّ ا هـ .
أَقُولُ : لَعَلَّ الْمَانِعَ عَنْهُ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَهُ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ كَالْقَبْضِ وَالْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ ، فَإِنْ كُلًّا مِنْهُمَا حِينَئِذٍ يُعْطَى حُكْمَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَأْخُذُ أَحَدُهُمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَلَا يُوجَدُ نُزُولُ أَحَدِهِمَا مَنْزِلَةَ الْآخَرِ وَقِيَامُهُ مَقَامَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ وَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا حُكْمَ الْآخَرِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَلَمَّا كَانَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ أَخَذَ حُكْمَ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ التَّوَقُّفَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ الْإِيجَابَ التَّامَّ إلَّا أَنَّ الْقَبُولَ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَا يُوجِبُ ثُبُوتُ حُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ أَيْضًا ثُبُوتُ حُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الْقَبُولِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَهَبْتُك هَذَا الشَّيْءَ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ صَحَّ وَمَلَكَهُ ؛ لِوُجُودِ الْقَبْضِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ وَذَكَرَ فِي

الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ قَطْعًا ، وَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْبَيْعِ أَصْلًا بِدُونِ تَحَقُّقِ الْقَبُولِ فِيهِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي قَطْعِيٌّ فِي الْمَنْعِ كَمَا تَرَى .
وَطَعَنَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ إلَخْ حَيْثُ قَالَ : وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْخَصْمِ فِي الْمَتْنِ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ : وَلَنَا مُنَاسِبًا .
ا هـ .
وَقَصَدَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ دَفْعَ ذَلِكَ فَقَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ قُلْت : لَمَّا كَانَ الْقِيَاسُ هُوَ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُنَا نَاسَبَ أَنْ يَقُولَ وَلَنَا وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ الشَّافِعِيِّ ا هـ .
أَقُولُ : إنْ تَحَقَّقَ خَصْمٌ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : وَلَنَا إيمَاءٌ إلَى وُقُوعِ مُنَازِعٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَمَّا مُنَاسَبَةُ هَذَا الْقَوْلِ وَحُسْنُهُ فَإِنَّمَا يَحْصُلَانِ عِنْدَ ذِكْرِ مُخَالَفَةِ الْخَصْمِ فِيمَا قَبْلُ كَمَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ الْمُعْتَادُ ، وَمُرَادُ صَاحِبِ الْغَايَةِ مُؤَاخَذَةُ الْمُصَنِّفِ بِتَقْوِيَةِ الْمُنَاسَبَةِ فِي تَحْرِيرِهِ لَا نَفْيُ الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ عَنْ كَلَامِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا يَدْفَعُهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَاعْتَرَضَ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ لَمَا صَحَّ الْأَمْرُ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ كَمَا لَا يَصِحُّ أَمْرُ الْبَائِعِ الْمُشْتَرِيَ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِيجَابَ مِنْ الْبَائِعِ شَطْرُ الْعَقْدِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ ، فَأَمَّا إيجَابُ الْوَاهِبِ فَعَقْدٌ تَامٌّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا

يَهَبُ فَوَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ يَحْنَثُ اسْتِحْسَانًا فَيَقِفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْقَبْضِ وَقَبَضَهُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ ، وَهَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ مَذْكُورَانِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمُخْتَلِفَاتِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَرِّرُهُ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ السُّؤَالِ الْقَدَحُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ فِي الْقَبْضِ مَا لَا يَصِحُّ فِي الْقَبُولِ مِنْ التَّأْخِيرِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ .
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ إيجَابِ الْوَاهِبِ وَإِيجَابِ الْبَائِعِ ، بِأَنَّ الْأَوَّلَ عَقْدٌ تَامٌّ وَالثَّانِي شَطْرُ الْعَقْدِ وَجَعْلُ هَذَا الْفَرْقِ مَدَارًا لِصِحَّةِ الْقَبْضِ بِالْإِذْنِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فِي الْهِبَةِ وَعَدَمُ صِحَّةِ الْقَبُولِ بِالْأَمْرِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فِي الْبَيْعِ .
وَخُلَاصَةُ هَذَا بَيَانٌ لَمِّيَّةِ صِحَّةِ الْقَبْضِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَعَدَمِ صِحَّةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بَعْدَهُ ، وَهَذَا لَا يَدْفَعُ الْقَدْحَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ بَلْ يُقَرِّرُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْهِبَةِ لِافْتِقَارِهِ أَيْضًا إلَى الْقَبْضِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي .
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ : وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَمَشَّى فِي تِلْكَ الصُّورَةِ رَأْسًا ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ، وَالْإِيجَابَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ شَيْئَانِ فِي كَوْنِهِمَا شَطْرَ الْعَقْدِ لِإِتْمَامِهِ ، فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ الْمَزْبُورُ هُنَاكَ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ

لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَ لَجَازَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ ، وَأَيْضًا هَذَا الْكَلَامُ مُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ .
ا هـ .
أَقُولُ : كِلَا وَجْهَيْ بَحْثِهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ فِي قَوْلِهِ لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرَ لَجَازَ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ مُسَلَّمَةٌ ، فَأَمَّا بُطْلَانُ التَّالِي فَمَمْنُوعٌ إذْ قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ آنِفًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَهَبْتُك هَذَا الشَّيْءَ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ صَحَّ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي التَّبْيِينِ ، وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا : فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَصْلًا فَلَأَنْ يَصِحَّ بِالْقَبُولِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْوَاهِبِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّا قَدْ نَقَلْنَا عَنْ الْبَدَائِعِ فِيمَا مَرَّ أَنَّ رُكْنَ الْهِبَةِ هُوَ الْإِيجَابُ مِنْ الْوَاهِبِ ، وَأَمَّا الْقَبُولُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا ، فَمَدَارُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ وَمَدَارُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْقِيَاسِ فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَهُمَا ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ فِي مَسَائِلَ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ كِتَابِ الْأَيْمَانِ بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرِّعِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ وَهَبَ وَلَمْ يُقْبَلْ ، وَالْعَاقِلُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُنَاقِضُ كَلَامَ نَفْسِهِ فَوَجْهُ التَّوْفِيقِ حَمْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالْآخَرِ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ .
( قَوْلُهُ : وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ ) يَعْنِي أَنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ الْإِيجَابُ مِنْهُ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِ فَكَانَ إذْنًا دَلَالَةً ، وَنُقِضَ هَذَا بِفَصْلِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ

إيجَابِ عَقْدِ الْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ هُنَاكَ وَالْمَبِيعُ حَاضِرٌ لَا يُجْعَلُ إيجَابُ الْبَائِعِ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ ، حَتَّى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جَازَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ وَيَحْبِسَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الثَّمَنَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ عَقْدِ الْبَيْعِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بَلْ مَقْصُودَهُ مِنْهُ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ لَا غَيْرُ ، وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ضِمْنِيٌّ لَا قَصْدِيٌّ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : لَا يَرِدُ النَّقْضُ الْمَذْكُورُ رَأْسًا ، إذْ لَوْ سُلِّمَ أَنَّ مَقْصُودَ الْبَائِعِ مِنْ إيجَابِ عَقْدِ الْبَيْعِ هُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَكَذَاك الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبْضِ ، فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَلَا مُقْتَضَى لِجَعْلِ إيجَابِ الْبَائِعِ تَسْلِيطًا عَلَى الْقَبْضِ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ بِدُونِ ذَلِكَ بِخِلَافِ فَصْلِ الْهِبَةِ كَمَا تَقَرَّرَ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَثْبَتْنَا التَّسْلِيطَ فِيهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْقَبُولِ وَالْقَبُولُ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَا مَا يُلْحَقُ بِهِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا أُلْحِقَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ بِالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ آنِفًا لَا مِنْ جَمِيعِ الْحَيْثِيَّاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِرُكْنِ الْعَقْدِ بَلْ هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ رُكْنٌ دَاخِلٌ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِدُونِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ يَتَقَيَّدَ الْقَبُولُ بِالْمَجْلِسِ أَنْ يَتَقَيَّدَ مَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ

الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْمَجْلِسِ أَيْضًا ، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْقَبُولِ بِالْمَجْلِسِ مِنْ أَحْكَامِ كَوْنِهِ رُكْنًا دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَيْضًا فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا لَيْسَ بِرُكْنٍ دَاخِلٍ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ الْقَبْضُ ، وَإِنْ كَانَ مُلْحَقًا بِالْقَبُولِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لِثُبُوتِ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَبْضُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ بِالْإِذْنِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ .
وَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَنَقَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِبَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مَتَى فَاتَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَا يَبْقَى الْإِيجَابُ صَحِيحًا ، وَإِذَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْإِيجَابِ مِنْ الْوَاهِبِ عَلَى الصِّحَّةِ وُجُودُ الْقَبْضِ لَا مَحَالَةَ كَانَ الْإِقْدَامُ عَلَى الْإِيجَابِ لَهُ إذْنًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ اقْتِضَاءً كَمَا فِي بَابِ الْبَيْعِ جَعَلْنَا إقْدَامَ الْبَائِعِ عَلَى الْإِيجَابِ إذْنًا لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبُولِ مُقْتَضِيًا بَقَاءِ الْإِيجَابِ عَلَى الصِّحَّةِ ، إلَّا أَنَّ مَا ثَبَتَ اقْتِضَاءً يَثْبُتُ ضَرُورَةً ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، وَالضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ يَبْقَى صَحِيحًا مَتَى قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَا يُعْتَبَرُ ثَابِتًا فِيمَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ثَبَتَ نَصًّا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ نَصًّا ثَابِتٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَثْبُتُ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ .
انْتَهَى .

قَالَ : ( وَتَنْعَقِدُ الْهِبَةُ بِقَوْلِهِ وَهَبْت وَنَحَلْت وَأَعْطَيْت ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ صَرِيحٌ فِيهِ وَالثَّانِي مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَكُلَّ أَوْلَادِك نَحَلْتَ مِثْلَ هَذَا ؟ } وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ ، يُقَالُ : أَعْطَاك اللَّهُ وَوَهَبَك اللَّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ( وَكَذَا تَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ وَجَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَأَعْمَرْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا نَوَى بِالْحُمْلَانِ الْهِبَةَ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَكْلَ غَلَّتِهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ } وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ عَارِيَّةً لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ ، يُقَالُ حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ .

( قَوْلُهُ : أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَلَنَا فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْإِطْعَامَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يُرَادُ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِطْعَامِ فِي الْكَفَّارَةِ التَّمْلِيكَ لَا الْإِبَاحَةَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْإِطْعَامِ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَالطَّعَامُ يُؤْكَلُ عَيْنُهُ فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِي الْآيَةِ مُضَافًا إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَافْهَمْ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا النَّظَرِ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ وَيُجْعَلَ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِلْإِطْعَامِ ، وَفِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، فَكَانَ الْإِطْعَامُ فِيهَا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ ، وَيُرْشِدُك إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّهُ قَالَ فِي تَنْقِيحِ الْأُصُولِ فِي أَوَائِلِ التَّقْسِيمِ الرَّابِعِ : وَفِي قَوْله تَعَالَى { إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ ، وَالتَّمْلِيكُ مُلْحَقٌ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا ، وَأَلْحَقَ بِهِ التَّمْلِيكَ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ فَأُقِيمَ التَّمْلِيكُ مَقَامَهَا انْتَهَى .
وَقَالَ فِي التَّلْوِيحِ : وَأَمَّا نَحْوُ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَإِنَّمَا كَانَ هِبَةً وَتَمْلِيكًا بِقَرِينَةِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ طَاعِمًا .
قَالُوا : وَالضَّابِطُ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فَهُوَ لِلتَّمْلِيكِ ، وَإِلَّا فَلِلْإِبَاحَةِ .
انْتَهَى فَتَأَمَّلْ تَرْشُدْ .
ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ : وَإِذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ عَارِيَّةٌ ، وَلَوْ قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ ، فَإِنْ قَالَ

فَاقْبِضْهُ فَهُوَ هِبَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَاقْبِضْهُ يَكُونُ هِبَةً أَوْ عَارِيَّةً انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ إطْلَاقَ رِوَايَةِ الْكِتَابِ وَتَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرَ لَا يُطَابِقَانِ رِوَايَةَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ هِبَةً مُطْلَقًا ، وَرِوَايَةُ الْأَصْلِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَكُونُ هِبَةً إذَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ فَاقْبِضْهُ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَيِّدْهُ بِذَلِكَ فَيَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ : أَيْ الْهِبَةَ وَالْعَارِيَّةَ ، وَأَنَّ النَّظَرَ الْمَذْكُورَ لَا يَتَّجِهُ أَصْلًا عَلَى مَا فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ إنَّمَا يُسْتَفَادُ عَلَى هَاتِيك الرِّوَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَاقْبِضْهُ لَا مِنْ لَفْظِ الْإِطْعَامِ ، فَلَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْإِطْعَامُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ .
( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ حَيْثُ تَكُونُ عَارِيَّةً ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ فَيَكُونُ الْمُرَادُ إطْعَامَ غَلَّتِهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : كَوْنُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَيْهَا عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ مَجَازًا كَمَا أُرِيدَ بِهِ ذَلِكَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا هُنَاكَ عَلَى تَمْلِيكِ الْعَيْنِ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِطْعَامِ جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا : أَيْ آكِلًا لَا جَعْلُهُ مَالِكًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُرَادَ بِالْإِطْعَامِ الْمُضَافِ إلَى مِثْلِ الْأَرْضِ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ مَجَازًا لَكِنَّ هَذَا التَّجَوُّزَ لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْمُتَعَارَفُ أَنْ يُرَادَ إطْعَامُ الْغَلَّةِ عَلَى طَرِيقِ ذِكْرِ الْمَحَلِّ وَإِرَادَةِ الْحَالِ ، كَمَا أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيمَا إذَا أُضِيفَ الْإِطْعَامُ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ،

وَكَلَامُ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ لَا عَلَى كُلِّ مَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَكَذَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى لِمَا قُلْنَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ : لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ : فَلِأَنَّ حَرْفَ اللَّامِ لِلتَّمْلِيكِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ وَسَكَتَ غَيْرُهُمَا عَنْ الْبَيَانِ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَرِيبِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ } وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا ذِكْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ فِي ذَيْلِ الثَّالِثِ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا قَالَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لَذَكَرَهَا فِي ذَيْلِ الثَّانِي ، بَلْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَمَا ذَكَرَهَا أَصْلًا ، إذْ قَدْ سَبَقَ ذِكْرُ مَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذَا الثَّوْبَ لَك وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ وَأَمَّا الثَّانِي ، وَلَا يَرَى أَثَرَ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا قَالَ جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك عُمْرَى إلَّا بِاشْتِمَالِ هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى لَفْظَةِ عُمْرَى دُونَ مَا سَبَقَ ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا كَوْنَ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لَك لِلتَّمْلِيكِ لَا كَوْنَ لَفْظَةِ الْعُمْرَى لِإِثْبَاتِ الْمَلِكِ لَلْمُعَمَّرِ لَهُ لَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الصُّورَةِ مُسْتَدْرَكًا كَمَا لَا يَخْفَى .
فَإِنْ قُلْت : لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا ذَكَرْته لَقَالَ لِمَا رَوَيْنَا كَمَا هُوَ دَأْبُهُ عِنْدَ قَصْدِهِ الْإِشَارَةَ إلَى السُّنَّةِ .
قُلْت : كَأَنَّ الشَّارِحَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ اغْتَرَّا بِذَلِكَ ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ التَّوْجِيهُ بِجَعْلِ " مَا " فِي قَوْلِهِ لِمَا قُلْنَا عِبَارَةً عَنْ قَوْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا عَنْ نَفْسِ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَحْرِيرِ مُرَادِهِ فَتَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً فَيَكُونُ عَارِيَّةً لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْهِبَةَ ، يُقَالُ

حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسٍ وَيُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الْحَمْلَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ عَارِيَّةً ، إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَرَدْت الْهِبَةَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، فَإِذَا نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ : إنَّ حَقِيقَتَهُ الْإِرْكَابُ وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْعَارِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ حَمَلْتُك لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ .
قُلْنَا : حَقِيقَتُهُ الْإِرْكَابُ نَظَرًا إلَى الْوَضْعِ ، وَهُوَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ فِي الْعُرْفِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، لَكِنَّ الْحَقِيقَةَ مَا صَارَتْ مَهْجُورَةً بِالْعُرْفِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ انْتَهَى .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَحْوَى ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَالَ : لَا يُقَالُ هَذَا يُنَاقِضُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ مَجَازًا لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ هُنَالِكَ أَنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ : يَعْنِي فِي الْعُرْفِ ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْمَنَافِعِ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فَيَكُونُ قَوْلُهُ : هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ هُوَ الْإِرْكَابُ حَقِيقَةً : يَعْنِي فِي اللُّغَةِ ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْحَقِيقَةِ الْعُرْفِيَّةِ مَجَازٌ لُغَوِيٌّ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَقِيَ إشْكَالٌ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُسْتَعْمَلَةً ، وَالْمَجَازُ مُتَعَارَفًا ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ أَوْلَى وَالْعَمَلُ بِهِ .
وَعِنْدَهُمَا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ أَوْلَى وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً فَالْعَمَلُ بِالْمَجَازِ اتِّفَاقًا .
إذَا عَرَفْت ذَلِكَ فَفِي مَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تَكُنْ الْحَقِيقَةُ مَهْجُورَةً كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَعَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ يَلْزَمُ أَنْ

يَكُونَ الْعَمَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا هُوَ حَقِيقَةٌ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَهُوَ الْإِرْكَابُ ، وَعِنْدَهُمَا بِمَا هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ وَهُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ الْحَمْلُ عَلَى الْعَارِيَّةِ عِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا عَلَى أَصْلِهِمَا ، مَعَ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُذْكَرَ الْخِلَافُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَلْيُتَأَمَّلْ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْكِفَايَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشْتَرَكِ التَّأَمُّلُ فِيهِ حَتَّى يَتَرَجَّحَ أَحَدُ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ بِالْأَدِلَّةِ أَوْ الْأَمَارَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنْ نَوَى الْهِبَةَ يُحْمَلُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا يُحْمَلُ عَلَى الْعَارِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ وَلَا تَوَقُّفٍ ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ .

( وَلَوْ قَالَ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ يَكُونُ هِبَةً ) ؛ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّمْلِيكُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } وَيُقَالُ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا ثَوْبًا : أَيْ مَلَّكَهُ مِنْهُ ( وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ كَانَتْ عَارِيَّةً لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ } كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هَاهُنَا كَلَامٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْفَصِلَةً عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَمْلِ ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِهَا بِعَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ ، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : مَنَحْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ عَارِيَّةً وَإِنْ نَوَى بِالْمِنْحَةِ الْهِبَةَ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ أَنَّ قَوْلَهُ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ ، وَقَوْلَهُ حَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ عَارِيَّةٌ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِمَا الْهِبَةَ .
وَقَالَ فِي التَّعْلِيلِ : لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَةِ الْهِبَةِ يُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ نَوْعُ تَنَافُرٍ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَعْلِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ } مَنْظُورٌ فِيهِ ، إذْ قَدْ ذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ أَوْ هَذَا الطَّعَامَ فَهُوَ هِبَةٌ ، وَلَوْ قَالَ مَنَحْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهُوَ عَارِيَّةٌ .
وَقَالَ : فَالْأَصْلُ أَنَّ لَفْظَةَ الْمِنْحَةِ إذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ هِبَةٌ ، وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ فَهُوَ عَارِيَّةٌ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ } لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، فَتَعْلِيلُ الْفَصْلِ الثَّانِي بِهِ يَنْتَقِضُ بِالْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ .

( وَلَوْ قَالَ دَارِي لَك هِبَةً سُكْنَى أَوْ سُكْنَى هِبَةً فَهِيَ عَارِيَّةٌ ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ مُحْكَمٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةُ تَحْتَمِلُهَا وَتَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ فَيُحْمَلُ الْمُحْتَمَلُ عَلَى الْمُحْكَمِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ عُمْرَى سُكْنَى أَوْ نَحْلِي سُكْنَى أَوْ سُكْنَى صَدَقَةً أَوْ صَدَقَةٌ عَارِيَّةً أَوْ عَارِيَّةٌ هِبَةً لِمَا قَدَّمْنَاهُ .
( وَلَوْ قَالَ هِبَةٌ تَسْكُنُهَا فَهِيَ هِبَةٌ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ وَهُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَقْصُودِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ هِبَةُ سُكْنَى ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِتَفْسِيرٍ ) إذْ الْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ فَلَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ الْمُتَكَلِّمِ ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقِيلٍ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مُخْتَارَ الْعَامَّةِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِفِعْلِ الْمُخَاطَبِ ، وَإِنَّمَا فِعْلُ الْمُخَاطَبِ السُّكْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ تَسْكُنُهَا ، وَالْكَلَامُ فِي عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ هَذَا اللَّفْظِ لِلتَّفْسِيرِ ، فَهَلْ يَقُولُ الْعَاقِلُ إنَّ لَفْظَ التَّكَلُّمِ فِعْلُ الْمُخَاطَبِ .

قَالَ : ( وَلَا تَجُوزُ الْهِبَةُ فِيمَا يُقَسَّمُ إلَّا مَحُوزَةً مَقْسُومَةً ، وَهِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ جَائِزَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ وَغَيْرِهِ كَالْبَيْعِ بِأَنْوَاعِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ ، وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ فَيُشْتَرَطُ كَمَالُهُ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ إلَّا بِضَمِّ غَيْرِهِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْهُوبٍ ، وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ ، وَلِهَذَا امْتَنَعَ جَوَازُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ التَّسْلِيمُ ، بِخِلَافِ مَا لَا يُقَسَّمُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ الْقَاصِرَ هُوَ الْمُمْكِنُ فَيُكْتَفَى بِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ .
وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَالْهِبَةُ لَاقَتْ الْعَيْنَ ، وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهَا الْقَبْضُ ، وَكَذَا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ ، وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَالصَّرْفُ وَالسَّلَمُ فَالْقَبْضُ فِيهَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهَا عُقُودُ ضَمَانٍ فَتُنَاسِبُ لُزُومَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ، وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ مِنْ وَجْهٍ وَعَقْدُ ضَمَانٍ مِنْ وَجْهٍ ، فَشَرَطْنَا الْقَبْضَ الْقَاصِرَ فِيهِ دُونَ الْقِسْمَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَلَوْ وَهَبَ مِنْ شَرِيكِهِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى نَفْسِ الشُّيُوعِ .
قَالَ ( وَمَنْ وَهَبَ شِقْصًا مُشَاعًا فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( فَإِنْ قَسَّمَهُ وَسَلَّمَهُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْقَبْضِ وَعِنْدَهُ لَا شُيُوعَ .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ دَقِيقًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ دُهْنًا فِي سِمْسِمٍ فَالْهِبَةُ فَاسِدَةٌ ، فَإِنْ طَحَنَ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ ) وَكَذَا السَّمْنُ فِي اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْدُومٌ ، وَلِهَذَا لَوْ

اسْتَخْرَجَهُ الْغَاصِبُ يَمْلِكُهُ ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْمِلْكِ فَوَقَعَ الْعَقْدُ بَاطِلًا ، فَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ مَحَلٌّ لَلتَّمْلِيكِ ، وَهِبَةُ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّمْرِ فِي النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشَاعِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الْجَوَازِ لِلِاتِّصَالِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ كَالشَّائِعِ .

( قَوْلُهُ : وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ ، وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْكَلَامِ : وَهَذَا : أَيْ جَوَازُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ : أَيْ حُكْمِ عَقْدِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِرْثِ وَكُلُّ مَا هُوَ قَابِلٌ لِحُكْمِ عَقْدٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ عَيْنُ الْقَابِلِيَّةِ أَوْ لَازِمٌ مِنْ لَوَازِمِهَا فَكَانَ الْعَقْدُ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ، وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ فَكَانَ جَائِزًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا نُسَلِّمُ انْتِفَاءَ الْمَانِعِ فَإِنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّيُوعُ مُبْطِلًا ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا : يَعْنِي لَمْ يَعْهَدْ ذَلِكَ مُبْطِلًا فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ بِأَنْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ قَرْضًا عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِشَرِكَتِهِ ، وَبِأَنْ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يُبْطِلُ التَّبَرُّعَ حَتَّى يَكُونَ مَانِعًا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : تَعَسُّفُ الشَّارِحِ الْمَذْكُورُ فِي بَيَانِهِ هَذَا مِنْ وُجُوهِ : الْأَوَّلِ أَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَ هَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ عَقْدِ الْهِبَةِ فَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ إلَخْ دَلِيلًا عَلَى أَصْلِ مُدَّعَى الشَّافِعِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ : تَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ فَيَكُونُ دَلِيلًا ثَانِيًا عَلَيْهِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ : وَلِأَنَّ الْمُشَاعَ بَدَلَ قَوْلِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ ارْتَكَبَ تَقْدِيرَ مُقَدِّمَاتٍ حَيْثُ قَالَ : فَكَانَ الْعَقْدُ صَادِرًا مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ، وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ فَكَانَ جَائِزًا ، وَالْبَاعِثُ عَلَيْهِ جَعْلُهُ لَفْظَ هَذَا

إشَارَةً إلَى جَوَازِهِ .
وَالثَّالِثِ أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا إلَخْ عَلَى الْجَوَابِ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ بِطَرِيقِ الْمَنْعِ عَلَى مُقَدِّمَةٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي قَدَّرَهَا وَهِيَ قَوْلُهُ : وَلَا مَانِعَ ثَمَّةَ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَقْصُودَ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ إلَخْ إثْبَاتُ كُبْرَى الدَّلِيلِ السَّابِقِ وَهِيَ قَوْلُهُ : فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ لَا إثْبَاتِ أَصْلِ الْمُدَّعَى ، وَلَفْظُ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَضْمُونِ هَاتِيك الْكُبْرَى ، فَالْمَعْنَى وَهَذَا : أَيْ صِحَّتُهُ فِي الْمُشَاعِ أَوْ كَوْنُهُ صَحِيحًا فِي الْمُشَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ قَابِلٌ لِحُكْمِهِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَكُونُ مَحَلًّا لَهُ ، فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْوَجْهَانِ الْأَوَّلَانِ مِنْ وُجُوهِ التَّعَسُّفِ اللَّازِمَةِ لِتَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَظَاهِرٌ جِدًّا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِسُقُوطِ الِاحْتِيَاجِ حِينَئِذٍ إلَى مَا قَدَّرَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ الزَّائِدَةِ كَمَا يَظْهَرُ بِأَدْنَى التَّأَمُّلِ الصَّادِقِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَكَوْنُهُ تَبَرُّعًا لَا يُبْطِلُهُ الشُّيُوعُ جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ يَرِدُ عَلَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، فَلَوْ قُلْنَا بِجَوَازِهِ فِي الْمُشَاعِ لَزِمَ فِي ضِمْنِهِ وُجُوبُ ضَمَانِ الْقِسْمَةِ وَالْوَاهِبُ لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ فَيَكُونُ إلْزَامًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَقَالَ : كَوْنُهُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ لَا يَمْنَعُهُ الشُّيُوعُ كَالْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ : يَعْنِي أَنَّ الشُّيُوعَ فِي الْقَرْضِ وَالْوَصِيَّةِ ، كَمَا لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُمَا عَقْدَ تَبَرُّعٍ كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فِي الْهِبَةِ فَلَا يَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَيْضًا مِنْ وُجُوهِ التَّعَسُّفِ اللَّازِمَةِ لِتَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ، وَهُوَ حَمْلُ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْجَوَابِ عَمَّا يَرِدُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ كَمَا عَرَفْت فَتَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ

شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمُهُ ، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ ) يَعْنِي أَنَّ فِي تَجْوِيزِ عَقْدِ الْهِبَةِ فِي الْمُشَاعِ إلْزَامَ الْوَاهِبِ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِزِيَادَةِ الضَّرَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا ضَرَرٌ مَرَضِيٌّ ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى هِبَةِ الْمُشَاعِ يَدُلُّ عَلَى الْتِزَامِهِ ضَرَرَ الْقِسْمَةِ وَالضَّائِرُ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَمْ يَكُنْ مَرَضِيًّا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَرَضِيَّ مِنْهُ لَيْسَ الْقِسْمَةَ وَلَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِالْمِلْكِ الْمُشَاعِ وَهُوَ لَيْسَ بِقِسْمَةٍ وَلَا يَسْتَلْزِمُهَا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَتَبِعَهُمَا الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ الْمُشَاعُ قِسْمَةً وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهَا لَمْ يَتِمَّ نَفْسُ هَذَا الدَّلِيلِ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَلِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إلْزَامَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهُوَ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ تَجْوِيزُ هِبَةِ الشَّيْءِ إنَّمَا هُوَ إلْزَامُ وَاهِبِهِ حُكْمَ الْهِبَةِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَشَيْئًا يَسْتَلْزِمُهُ حُكْمُهَا .
وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ حُكْمِهَا فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ تَجْوِيزُ الْهِبَةِ فِي شَيْءٍ ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ نَفْسَ حُكْمِ الْهِبَةِ وَلَا شَيْئًا يَسْتَلْزِمُهُ حُكْمُهَا فَأَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ تَجْوِيزِ هِبَةِ الْمُشَاعِ إلْزَامُ الْوَاهِبِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَلْزَمَ إلْزَامُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ .
لَا يُقَالُ : الَّذِي لَا يَسْتَلْزِمُ الْقِسْمَةَ هُوَ الْمِلْكُ الْمُشَاعُ ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ وَمَا هُوَ حُكْمُ الْهِبَةِ هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ ، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْقِسْمَةَ ؟ لِأَنَّا نَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ حُكْمَ الْهِبَةِ مُطْلَقًا هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ بَلْ حُكْمُهَا هُوَ الْمِلْكُ مُطْلَقًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَحُكْمُهَا ثَابِتٌ قَطْعًا ،

مَعَ أَنَّ حُكْمَهَا هُنَاكَ لَيْسَ الْمَلِكَ الْمُفْرَزَ بِلَا رَيْبٍ بَلْ هُوَ الْمِلْكُ الْمُشَاعُ .
وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ حُكْمَهَا مُطْلَقًا هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُ الْمُجِيبِ إنَّ الْمَرَضِيَّ مِنْهُ لَيْسَ الْقِسْمَةَ وَلَا مَا يَسْتَلْزِمُهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْهِبَةِ يَرْضَى بِحُكْمِهَا قَطْعًا ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا مُطْلَقًا هُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ تَعَيَّنَ الرِّضَا مِنْهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْقِسْمَةَ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُفْرَزُ .
هَذَا وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا طَلَبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ لَا يَنْفَعُهُ إبَاؤُهُ ، عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ هِبَتِهِ وَلَا تَلْزَمُهُ الْمُؤْنَةُ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَصْلِ بَحْثِهِ وَعِلَاوَتِهِ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ ؛ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إذَا طَلَبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ لَا يَنْفَعُهُ إبَاؤُهُ إلَّا أَنَّ طَلَبَ شَرِيكِهِ إيَّاهَا غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ بَلْ مُحْتَمَلٌ ، وَالْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ إنَّمَا يَقْتَضِي الرِّضَا بِمَا هُوَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَلَوَازِمِهِ لَا بِمَا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ عَنْ هِبَتِهِ ضَرَرًا آخَرَ لَهُ وَهُوَ حِرْمَانُهُ عَنْ ثَوَابِ الْهِبَةِ فَلَزِمَ أَنْ يَتَوَقَّفَ دَفْعُ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى ارْتِكَابِ ضَرَرٍ آخَرَ لِنَفْسِهِ ، فَكَانَ فِي تَجْوِيزِ هِبَةِ الْمُشَاعِ إلْزَامُ الْوَاهِبِ أَحَدَ الضَّرَرَيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَأَيْضًا هَلْ يُجَوِّزُ الْعَاقِلُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ جَوَازِ هِبَةِ الْمَتَاعِ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ عَنْهَا وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بِنَاءِ تَحَقُّقِ الشَّيْءِ عَلَى انْتِفَائِهِ ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْ هِبَتِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَادِّ وَهِيَ الَّتِي تَحَقَّقَ فِيهَا الْمَوَانِعُ عَنْ الرُّجُوعِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ فَيَلْزَمُ الْمَحْذُورُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ شَيْءٌ فِي أَصْلِ

هَذَا التَّعْلِيلِ ، وَهُوَ أَنَّ وَاهِبَ الْمُشَاعِ إمَّا أَنْ يَرْضَى بِالْقِسْمَةِ أَوْ يَمْتَنِعَ عَنْهَا ، فَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَانَ مُلْتَزِمًا إيَّاهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي إلْزَامِهِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ إلْزَامُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، وَإِنْ امْتَنَعَ عَنْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ عِنْدَهُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ فَلَمْ يَتِمَّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى قَوْلِهِ .
( قَوْلُهُ : وَالْمُهَايَأَةُ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ وَالْهِبَةُ لَاقَتْ الْعَيْنَ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ تَلْزَمْهُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْمُهَايَأَةُ ، وَفِي إيجَابِهَا إلْزَامُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ ، وَمَعَ ذَلِكَ الْعَقْدُ جَائِزٌ فَلْتَكُنْ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ كَذَلِكَ .
فَأَجَابَ بِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ تَلْزَمُهُ فِيمَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ وَالْهِبَةِ الَّتِي هِيَ عَقْدُ التَّبَرُّعِ إنَّمَا لَاقَتْ الْعَيْنُ وَلَا إلْزَامَ فِيهِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَمَانًا فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ بِخِلَافِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي هَاهُنَا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إلْزَامُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْ الْوَاهِبُ بِعَقْدِ الْهِبَةِ إنْ كَانَ مَانِعًا عَنْ جَوَازِهَا فَقَدْ وُجِدَ ، وَإِنْ خَصَّصْتُمْ بِعَوْدِهِ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ كَانَ تَحَكُّمًا ، وَالْجَوَابُ بِتَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ .
وَيُدْفَعُ التَّحَكُّمُ بِأَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى ذَلِكَ إلْزَامَ زِيَادَةِ عَيْنٍ هِيَ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ بِإِخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يُرَى فِي الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ كَثِيرُ طَائِلٍ فِي دَفْعِ سُؤَالِ سَائِلٍ

؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ فِي عَوْدِهِ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ إلْزَامَهُ إخْرَاجَ عَيْنٍ هِيَ أُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمُهَايَأَةِ ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمُهَايَأَةِ إلْزَامُهُ إخْرَاجَ عَيْنٍ عَنْ مِلْكِهِ فَفِيهِ إلْزَامُهُ إزَالَةً تَقَعُ فِي زَمَانٍ مُعَيَّنٍ عَنْ تَصَرُّفِهِ ، وَكَوْنُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ ضَرَرًا مِنْ الثَّانِي مُطْلَقًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، فَكَمْ مِنْ مَنْفَعَةٍ كَمَنْفَعَةِ دَارٍ وَنَحْوِهَا تَكُونُ أَعَزَّ وَأَشْرَفَ مِنْ مِقْدَارِ عَيْنٍ يَصِيرُ أُجْرَةَ قِسْمَتِهِ فَتَكُونُ إزَالَتُهَا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَشَقَّ عَلَى الْإِنْسَانِ وَأَكْثَرَ ضَرَرًا لَهُ مِنْ إخْرَاجِ مِقْدَارِ عَيْنٍ يَصِيرُ أُجْرَةَ قِسْمَتِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ فَمُتَحَقِّقَةٌ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا ، غَيْرَ أَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهَا فِي إحْدَاهُمَا الْعَيْنُ وَفِي الْأُخْرَى الْمَنْفَعَةُ .
وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ : تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِمَا إذَا عَادَ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ التَّحَكُّمُ ؛ لِأَنَّ الْمَحْذُورَ فِي إلْزَامِهِ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ فِيمَا إذَا عَادَ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ لُزُومُ الْمُنَافَاةِ ، فَإِنَّ التَّبَرُّعَ ضِدُّ اللُّزُومِ فَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَفِيمَا إذَا لَمْ يَعُدْ إلَى مَا تَبَرَّعَ بِهِ لَا تَلْزَمُ الْمُنَافَاةُ ، فَإِنَّ الْمُهَايَأَةَ لَاقَتْ الْمَنْفَعَةَ وَالْهِبَةَ لَاقَتْ الْعَيْنَ ، فَلَمْ يُصَادِفْ الْإِلْزَامُ وَالتَّبَرُّعُ إذْ ذَاكَ مَحَلًّا وَاحِدًا فَلَا مَحْذُورَ فِيهِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمَزْبُورِ قَالَ : وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لِمَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهَا ضَمَانُ الْقِسْمَةِ عَلَى الْوَاهِبِ صَحَّتْ .
وَقَوْلُهُمْ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إلْزَامِ التَّهَايُؤِ فَنَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ

صَاحِبِهِ وَالْإِعَارَةُ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَعَلَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ يَجِبُ وَيَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي إذَا طَلَبَهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ سِيَّمَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ نُصَّ عَلَيْهِ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْمُهَايَأَةِ مِنْ كِتَابِ الْقِسْمَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ فِيهِ إعَارَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ إلَخْ وَجْهُ الْقِيَاسِ ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَهُوَ الْمُهَايَأَةُ بِعَيْنِهَا ، وَلِلْحَاجَةِ إلَيْهِ إذْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَأَشْبَهَ الْقِسْمَةَ ، فَقَوْلُهُمْ فِي هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إلْزَامِ التَّهَايُؤِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ أَصْلًا .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي قَبْضِهِ وَالْقَبْضُ هُوَ الشَّرْطُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْبَيْعِ مَضْمُونٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْهُ قَبْضُ الْأَمَانَةِ ، أَمَّا قَبْضُ الْهِبَةِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ .

( قَوْلُهُ : وَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مَلَكَهَا بِالْهِبَةِ وَإِنْ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهَا قَبْضًا إلَى قَوْلِهِ : أَمَّا قَبْضُ الْهِبَةِ فَغَيْرُ مَضْمُونٍ فَيَنُوبُ عَنْهُ ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَجَانُسَ الْقَبْضَيْنِ يُجَوِّزُ نِيَابَةَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَتَغَايُرُهُمَا يُجَوِّزُ نِيَابَةَ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى دُونَ الْعَكْسِ ، فَإِذَا كَانَ الشَّيْءُ وَدِيعَةً فِي يَدِ شَخْصٍ أَوْ عَارِيَّةً فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ قَبْضٍ ؛ لِأَنَّ كِلَا الْقَبْضَيْنِ لَيْسَ قَبْضَ ضَمَانٍ فَكَانَا مُتَجَانِسَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَغْصُوبًا أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَجْدِيدِهِ ، ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَقْوَى فَيَنُوبُ عَنْ الضَّعِيفِ وَلَوْ كَانَتْ وَدِيعَةً فَبَاعَهُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْأَمَانَةِ ضَعِيفٌ فَلَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِهِ أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي بَعْدَ أَسْطُرٍ بِقَوْلِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً هُنَاكَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ هِبَةُ الْمَقْبُوضِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ حَتَّى يَصِحَّ قَوْلُهُ : فَوَهَبَهُ إيَّاهُ بَعْدَ قَوْلِهِ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ أَيْضًا فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَسْخَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ رَفْعًا لِلْفَسَادِ ، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَوَهَبَهُ إيَّاهُ فَوَهَبَهُ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بَعْدَ أَنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْبَائِعِ فَتَصِحُّ هِبَتُهُ إيَّاهُ ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ تُجْعَلَ نَفْسُ الْهِبَةِ فَسْخًا

لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ اقْتِضَاءً ، وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ تَوْجِيهَ هَذَا الْمَحَلِّ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَيَّدَ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَوْ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ بِقَوْلِهِ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ وَقَالَ : فَلَا يَرِدُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْقَابِضِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ فَكَيْفَ تَصِحُّ هِبَتُهُ .
ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّهُ لَا حَاصِلَ لِمَا ذَكَرَهُ ، إذَا لَا يُتَصَوَّرُ بَيْعٌ فَاسِدٌ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُطْلَقًا لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ ، وَالْإِيجَابُ هُوَ الْإِذْنُ مِنْ الْبَائِعِ .
لَا يُقَالُ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالْبَائِعِ فِي قَوْلِهِ بِلَا إذْنِ الْبَائِعِ هُوَ الْمَالِكُ فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ فُضُولِيٌّ مَالَ أَحَدٍ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ بَيْعًا فَاسِدًا وَيَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي .
لِإِنَّا نَقُولُ : فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ الْبَيْعُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ : أَيْ الْمَالِكِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ أَصْلًا ، فَتَكُونُ يَدُ الْقَابِضِ يَدَ الْغَصْبِ أَوْ يَدَ الْأَمَانَةِ لَا يَدَ الْقَبْضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ تَدَبُّرٌ .

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ الْأَبُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً مَلَكَهَا الِابْنُ بِالْعَقْدِ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي قَبْضِ الْأَبِ فَيَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الْهِبَةِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ مُودِعِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَرْهُونًا أَوْ مَغْصُوبًا أَوْ مَبِيعًا بَيْعًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ أَوْ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَالصَّدَقَةُ فِي هَذَا مِثْلُ الْهِبَةِ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهَا وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ .
( وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْنَبِيٌّ هِبَةً تَمَّتْ بِقَبْضِ الْأَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَلَيْهِ الدَّائِرَ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّائِرِ فَأَوْلَى أَنْ يَمْلِكَ الْمَنَافِعَ .
قَالَ ( وَإِذَا وَهَبَ لِلْيَتِيمِ هِبَةً فَقَبَضَهَا لَهُ وَلِيُّهُ وَهُوَ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ جَدُّ الْيَتِيمِ أَوْ وَصِيُّهُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةً عَلَيْهِ لِقِيَامِهِمْ مَقَامَ الْأَبِ ( وَإِنْ كَانَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ فَقَبْضُهَا لَهُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ لَهَا الْوِلَايَةَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِهِ وَحِفْظِ مَالِهِ .
وَهَذَا مِنْ بَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَّا بِالْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ وِلَايَةِ التَّحْصِيلِ ( وَكَذَا إذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَجْنَبِيٍّ يُرَبِّيهِ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَيْهِ يَدًا مُعْتَبَرَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ فَيَمْلِكُ مَا يَتَمَحَّضُ نَفْعًا فِي حَقِّهِ ( وَإِنْ قَبَضَ الصَّبِيُّ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ جَازَ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَاقِلًا ؛ لِأَنَّهُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَفِيمَا وَهَبَ لِلصَّغِيرَةِ يَجُوزُ قَبْضُ زَوْجِهَا لَهَا بَعْدَ الزِّفَافِ لِتَفْوِيضِ الْأَبِ أُمُورَهَا إلَيْهِ دَلَالَةً ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الزِّفَافِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ ، بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ هَؤُلَاءِ لِلضَّرُورَةِ لَا بِتَفْوِيضِ الْأَبِ

، وَمَعَ حُضُورِهِ لَا ضَرُورَةَ .

( قَوْلُهُ : وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ ) أَيْ قَبْضُ الْهِبَةِ ؛ لِأَجْلِ الْيَتِيمِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ مَنْ يَعُولُهُ نَحْوَ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْأَجْنَبِيِّ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ : أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ جَوَازَ قَبْضِ هَؤُلَاءِ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْقَبْضِ لِهَؤُلَاءِ إذَا لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ أَبُو الْأَبِ بَعْدَ الْأَبِ وَوَصِيُّهُ ، فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَا ، سَوَاءٌ كَانَ الصَّبِيُّ فِي عِيَالِ الْقَابِضِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ مِنْهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا .
لِأَنَّهُ لَيْسَ لِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ .
فَقِيَامُ وِلَايَةِ مَنْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ قَبْضُ مَنْ كَانَ الصَّبِيِّ فِي عِيَالِهِ لِثُبُوتِ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ حِينَئِذٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَدِّبُهُ وَيُسَلِّمُهُ فِي الصَّنَائِعِ ، فَقِيَامُ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْوِلَايَةِ يُطْلِقُ حَقَّ قَبْضِ الْهِبَةِ ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ بَابِ الْمَنْفَعَةِ .
ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ بِقَلِيلٍ : وَأَرَى أَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ ، وَلَكِنَّهُ اقْتَصَرَ فِي التَّقْيِيدِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ يَعُولُهُ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ إذَا وَهَبَتْ لَهُ أُمُّهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِقَوْلِهِ وَالْأَبُ مَيِّتٌ وَلَا وَصِيَّ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمَعْطُوفِ أَيْضًا ، لَكِنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْجَدَّ الصَّحِيحَ مِثْلُ الْأَبِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ وَوَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْأَبِ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِتَوْجِيهٍ صَحِيحٍ ، إذَا قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقَيْدَ إذَا كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ تَقْيِيدُ الْمَعْطُوفِ بِهِ كَقَوْلِنَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ سِرْت

وَضَرَبْت زَيْدًا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَطْعِيٍّ وَلَكِنَّهُ السَّابِقُ إلَى الْفَهْمِ فِي الْخَطَابِيَّاتِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَقْيِيدُ الْمَعْطُوفِ بِهِ أَيْضًا أَصْلًا ، وَقَيْدُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مُؤَخَّرٌ فَلَا يَدُلُّ عَلَى تَقْيِيدِ الْمَعْطُوفِ بِهِ فِي شَيْءٍ فَيَضْمَحِلُّ مَا تَوَهُّمُهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
( قَوْلُهُ : وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ بِخِلَافِ الْأُمِّ ، وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فِي الصَّحِيحِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : قَوْلُهُ : فِي الصَّحِيحِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ : أَيْ وَيَمْلِكُ الزَّوْجُ قَبْضَ الْهِبَةِ لِأَجْلِ امْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ مَعَ حَضْرَةِ أَبِيهَا فِي الصَّحِيحِ ، وَكَانَ هَذَا احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ بِقَوْلِهِ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا ، وَقَالَ : إنَّمَا قُلْت هَذَا ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهَا غَيْرَهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً لَيْسَتْ رِوَايَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَقَعَ قَوْلُهُ : فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْهَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ شَيْخَ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ قَالَ فِي مَبْسُوطِهِ : فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ سَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ الْأَجْنَبِيِّ وَالْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْأَخِ .
وَقَالُوا : يَجُوزُ قَبْضُ هَؤُلَاءِ عَنْ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ حَاضِرًا كَمَا فِي الزَّوْجِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ وَقَالَ بِأَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ يَجُوزُ عَلَى امْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ إذَا كَانَتْ فِي عِيَالِهِ حَالَ حَضْرَةِ الْأَبِ وَحَالَ غَيْبَتِهِ ، وَفِي الْأَجْنَبِيِّ يَجُوزُ قَبْضُهُ لِلصَّغِيرِ حَالَ عَدَمِ قَرِيبٍ آخَرَ لِلصَّغِيرِ .
وَفِيمَا

ذَكَرَ مِنْ الْأَقَارِبِ حَقُّ الْقَبْضِ حَالَ غَيْبَةِ الْأَبِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ الْقَبْضُ عَنْ الصَّغِيرِ حَالَ حَضْرَةِ الْأَبِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْأُمِّ وَكُلِّ مَنْ يَعُولُهُ غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ أَوْ غَيْبَتِهِ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً قَوْلًا آخَرَ يُخَالِفُ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ فَيَصِحُّ أَنْ يَقَعَ قَوْلُهُ : فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ رَأَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ مِنْ اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورًا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ مَعَ تَفْصِيلَاتٍ أُخَرَ بِطَرِيقِ النَّقْلِ عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ الْهُمَامُ كَيْفَ تَبِعَ رَأْيَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ فِي جَعْلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّحِيحِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ وَيَمْلِكُهُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ، أَمَّا بُعْدُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَقَعُ حِينَئِذٍ فَصْلٌ كَثِيرٌ بَيْنَ الْمُتَعَلَّقِ وَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إلَيْهِ ، وَأَمَّا بُعْدُهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ هُوَ الِاحْتِرَازَ عَمَّا ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ مِنْ أَنَّ قَبْضَ الزَّوْجِ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ حَيًّا لَقَالَ وَيَمْلِكُ مَعَ حَيَاةِ الْأَبِ بَدَلَ قَوْلِهِ يَمْلِكُ مَعَ حَضْرَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْحَضْرَةَ إنَّمَا تُقَابِلُ الْغَيْبَةَ دُونَ عَدَمِ الْحَيَاةِ تَأَمَّلْ تَقِفْ .

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُمَا سَلَّمَاهَا جُمْلَةً وَهُوَ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ ( وَإِنْ وَهَبَهَا وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَصِحُّ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ هِبَةُ الْجُمْلَةِ مِنْهُمَا ، إذْ التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ .
وَلَهُ أَنَّ هَذِهِ هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يُقَسَّمُ فَقِبَلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ ، وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلًا ، إذْ لَا تَضَايُفَ فِيهِ فَلَا شُيُوعَ وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا تَصَدَّقَ عَلَى مُحْتَاجِينَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا جَازَ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَنِيَّيْنِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُمَا لَمْ يَجُزْ ، وَقَالَا : يَجُوزُ لِلْغَنِيَّيْنِ أَيْضًا ) جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجَازًا عَنْ الْآخَرِ ، وَالصَّلَاحِيَّةُ ثَابِتَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَمْلِيكٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ فِي الْحُكْمِ .
وَفِي الْأَصْلِ سَوَّى بَيْنَهُمَا فَقَالَ : وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مَانِعٌ فِي الْفَصْلَيْنِ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى الْقَبْضِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ وَاحِدٌ ، وَالْهِبَةُ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ الْغَنِيِّ وَهُمَا اثْنَانِ .
وَقِيلَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ الصَّدَقَةُ عَلَى غَنِيَّيْنِ .

( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الدَّلِيلِ : وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَازٍ فَكَانَ الشُّيُوعُ ، وَهُوَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ ، وَلَيْسَ مَنْعُ الشُّيُوعِ لِجَوَازِ الْهِبَةِ إلَّا لِذَلِكَ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ مُشَاعًا ، وَهُوَ حُكْمُ التَّمْلِيكِ ثَبَتَ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ، إذْ الْحُكْمُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ دَلِيلِهِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ كَانَ تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ مَا حَرَّرَهُ الشَّارِحُ لَغَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ، وَقَالَ : وَالظَّاهِرُ مِنْ مَسَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كِلَا الدَّلِيلَيْنِ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ التَّمْلِيكِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ فَهِمَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ يَتِمُّ بِجَانِبِ الْمِلْكِ فَقَطْ ، فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَغَا حِينَئِذٍ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ مَبْدَأَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ هُوَ جَانِبُ الْمِلْكِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مِنْ الِابْتِدَائِيَّةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ جَانِبِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ كَوْنُ التَّمْلِيكِ أَيْضًا كَذَلِكَ فَيَحْصُلُ مِنْ الْمَجْمُوعِ تَمَامُ الدَّلِيلِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَالظَّاهِرُ مِنْ مَسَاقِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كِلَا الدَّلِيلَيْنِ اسْتِدْلَالٌ مِنْ جَانِبِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي الْكِتَابِ .

وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ .
وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، فَأَبُو حَنِيفَةَ مُرَّ عَلَى أَصْلِهِ ، وَكَذَا مُحَمَّدٌ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْأَبْعَاضِ يَظْهَرُ أَنَّ قَصْدَهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ فَيَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إذَا رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَنَصَّ عَلَى الْأَبْعَاضِ .

( قَوْلُهُ : وَلَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ دَارًا لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ .
وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ) اعْلَمْ أَنَّ التَّفْصِيلَ فِي الْهِبَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ الْإِجْمَالِ ، أَوْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ ، سَوَاءٌ كَانَ التَّفْصِيلُ بِالتَّفْضِيلِ كَالثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ أَوْ بِالتَّسَاوِي كَالتَّنْصِيفِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَسَاوِيًا وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ مُطْلَقًا ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ الْمُفَاضَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ ؛ فَفِي الْمُفَاضَلَةِ لَمْ يُجَوِّزْ وَفِي الْمُسَاوَاةِ جَوَّزَ فِي رِوَايَةٍ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَفْصِيلًا ابْتِدَائِيًّا حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ فَصَلَ ابْتِدَائِيًّا بِالتَّنْصِيفِ مِنْ غَيْرِ سَابِقَةِ الْإِجْمَالِ بِأَنْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا وَهَبْت لِهَذَا نِصْفَ الدَّارِ وَلِهَذَا نِصْفَهَا لَمْ يَجُزْ بِلَا خِلَافٍ هَكَذَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَالْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِمَا ، وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا : وَلَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَطَفَ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ .
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ ابْتِدَائِيًّا انْتَهَى .
أَقُولُ : يُرْشِدُ إلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ : وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفُهَا وَلِلْآخَرِ نِصْفُهَا وَلَمْ يَقُلْ وَلَوْ وَهَبَ لِأَحَدِهِمَا نِصْفَهَا وَلِلْآخِرِ

نِصْفَهَا ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْعَطْفَ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً مُبْتَدَأَةً فَيَجِبُ أَنْ يَقُولَ وَلَوْ وَهَبَ بَدَلَ وَلَوْ قَالَ كَمَا فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْهِبَةِ ، وَلَمَّا قَالَ : وَلَوْ قَالَ عُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى مَا فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ التَّفْصِيلِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِوُقُوعِ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فِي الْأُولَى بِطَرِيقِ الْمُفَاضَلَةِ وَفِي الْأُخْرَى بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .

بَابُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا رُجُوعَ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ } وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ التَّمْلِيكَ ، وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِي مَا يُضَادُّهُ ، بِخِلَافِ هِبَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ ؛ لِكَوْنِهِ جُزْءًا لَهُ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا } أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ ، فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، إذْ الْعَقْدُ يَقْبَلُهُ ، وَالْمُرَادُ بِمَا رُوِيَ نَفْيُ اسْتِبْدَادٍ وَالرُّجُوعُ وَإِثْبَاتُهُ لِلْوَالِدِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ لِلْحَاجَةِ وَذَلِكَ يُسَمَّى رُجُوعًا .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَهُ الرُّجُوعُ لِبَيَانِ الْحُكْمِ ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلَازِمَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ .

( بَابُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ) لَمَّا كَانَ حُكْمُ الْهِبَةِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكًا غَيْرَ لَازِمٍ حَتَّى يَصِحَّ الرُّجُوعُ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ مَوَاضِعِ الرُّجُوعِ وَمَوَانِعِهِ وَهَذَا بَابُهُ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا اللَّفْظُ يَحْتَاجُ إلَى الْقُيُودِ : أَيْ إذَا وَهَبَ هِبَةً لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِذِي رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ أَوْ لِذِي مَحْرَمٍ لَيْسَ بِرَحِمٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالْعِوَضِ وَالزِّيَادَةِ وَغَيْرِهَا حَالَةَ عَقْدِ الْهِبَةِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا إمَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالرِّضَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْبَابٍ بَلْ هُوَ مَكْرُوهٌ ، وَبَيَّنَ كَوْنَ هَذِهِ الْقُيُودِ مُحْتَاجًا إلَيْهَا بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ هَاهُنَا مَنْ لَمْ يَكُنْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ، فَخَرَجَ مِنْهُ مَنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ وَلَيْسَ بِمَحْرَمٍ كَبَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ وَمَنْ كَانَ مَحْرَمًا لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ كَالْأَخِ الرَّضَاعِيِّ ، وَخَرَجَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ : " وَهَبَ " وَ " أَجْنَبِيٍّ " الزَّوْجَانِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدَيْنِ آخَرَيْنِ : أَحَدِهِمَا وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ .
وَالثَّانِي وَلَمْ يَقْتَرِنْ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ شَيْءٌ حَالَ عَقْدِ الْهِبَةِ ، وَلَعَلَّهُ تَرَكَهُمَا اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يُفْهَمُ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ وَخَرَجَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ " وَهَبَ " وَ " أَجْنَبِيٍّ " الزَّوْجَانِ خَلَلٌ فَاحِشٌ ، إذْ لَوْ قَصَدَ بِالتَّذْكِيرِ فِي قَوْلِهِ وَهَبَ وَأَجْنَبِيٍّ إخْرَاجَ الْمُؤَنَّثِ لَخَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّ هِبَةٍ كَانَتْ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ ، وَكُلُّ هِبَةٍ كَانَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْهَا الْهِبَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ، وَلَا يَخْفَى فَسَادُ ذَلِكَ ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ التَّذْكِيرَ الْوَاقِعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ لِإِخْرَاجِ

الْمُؤَنَّثِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْجَرْيِ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي أَمْثَالِهَا مِنْ تَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ كَمَا فِي خِطَابَاتِ الشَّرْعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَأَنَّ الزَّوْجَيْنِ إنَّمَا يَخْرُجَانِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِثَانِي الْقَيْدَيْنِ اللَّذَيْنِ اعْتَرَفَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُمَا ، وَاعْتَذَرَ عَنْ تَرْكِهِمَا بِمَا ذَكَرَ وَذَلِكَ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ مِنْ مَوَانِعِ الرُّجُوعِ شَيْءٌ حَالَ عَقْدِ الْهِبَةِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ مِنْ جُمْلَةِ تِلْكَ الْمَوَانِعِ ، ثُمَّ أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ انْفِهَامَ الْقَيْدِ الْأَوَّلِ مِنْ ذَيْنِك الْقَيْدَيْنِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَالْعُهْدَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْقُدُورِيِّ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ مُخْتَصَرِهِ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا } أَيْ مَا لَمْ يُعَوَّضْ ) لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ مَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَا يَصِحُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ ، وَذَا لَا يَكُونُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَهُ أَحَقَّ بِهَا ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقٌّ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَخَلَا قَوْلُهُ : مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا عَنْ الْفَائِدَةِ إذْ هُوَ أَحَقُّ وَإِنْ شَرَطَ الْعِوَضِ قَبْلَهُ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا إلَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ ، وَقَدْ أَشَارَ فِي الْكَافِي أَيْضًا إلَى تِلْكَ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا } أَيْ لَمْ يُعَوَّضْ ، وَالْمُرَادُ حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ

التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقَةً قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَإِضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ كَرَجُلٍ يَقُولُ أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ الْخَبَّازِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْوَاهِبِ حَقًّا أَغْلَبَ مِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْحَقَّانِ ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ أَغْلَبُ لَا بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ ، إذْ لَا حَقَّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلِأَنَّهُ مَدَّ هَذَا الْحَقَّ إلَى وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ ، وَذَا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ بَحْثٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةً قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ عَقْدِ الْهِبَةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فَكَانَ خَارِجًا عَنْ حَقِيقَةِ الْهِبَةِ .
وَلَئِنْ سَلِمَ عَدَمُ صِحَّةِ إطْلَاقِ اسْمِ الْهِبَةِ عَلَى الْمَالِ حَقِيقَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ كَمَا فِي نَحْوِ { أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } وَقَدْ جُوِّزَتْ إضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ وَهَذَا لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ ذَاكَ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ أَفْعَلَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مُؤَوَّلًا بِاسْمِ الْفَاعِلِ أَوْ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ حَالَ كَوْنِهِ عَارِيًّا عَنْ اللَّامِ وَالْإِضَافَةِ وَمِنْ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } إذْ لَيْسَ شَيْءٌ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَلَفْظُ أَحَقُّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَارٍ عَنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ الْمَزْبُورَةِ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى الْوَاهِبُ حَقِيقٌ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ

لِغَيْرِهِ فِيهَا حَقٌّ .
نَعَمْ الظَّاهِرُ الشَّائِعُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ أَفْعَلَ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى التَّفْضِيلِ ، لَكِنَّ الْمُعْتَرِضَ مَانِعٌ مُسْتَنِدٌ بِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَقْصُودًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الَّذِي اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الِاحْتِمَالَ كَافٍ فِي مَقَامِ الْمَنْعِ قَادِحٌ فِي مَقَامِ الِاسْتِدْلَالِ ، عَلَى أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ مَعْنَى التَّفْضِيلِ مَقْصُودًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فَصَارَ الْمُرَادُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْوَاهِبِ فِي هِبَتِهِ حَقٌّ أَغْلَبُ مِنْ حَقِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِيهَا لَمَّا كَانَ الرُّجُوعُ عَنْهَا مَكْرُوهًا ، وَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ فِي حُكْمِ تَفْضِيلِ الْفَاضِلِ وَتَرْجِيحِ الْغَالِبِ ، فَالْوَجْهُ تَجْرِيدُ أَحَقَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَعْنَى التَّفْضِيلِ تَطْبِيقًا لِلْمَقَامَيْنِ وَتَوْفِيقًا لِلْكَلَامَيْنِ فَتَأَمَّلْ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَدَحَ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَيْضًا مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ حَيْثُ قَالَ : هَذَا يَجُرُّ إلَى الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَقَدْ نَفَاهُ الشَّارِحُ : يَعْنِي صَاحِبَ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : صَرَّحَ الْمُحَقِّقُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يَنْفِيهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ لِلْعَادَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ لَيَصُونَهُ بِجَاهِهِ ، وَإِلَى مَنْ دُونَهُ لِيَخْدُمَهُ وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا التَّقْرِيرِ خِلَافُ الْمُدَّعَى حَيْثُ خَصَّ التَّعْوِيضَ بِالْمُتَسَاوِيَيْنِ وَالْمُدَّعَى كَانَ أَعَمَّ انْتَهَى .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الدَّخْلِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ حَيْثُ

قَالَ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : قُلْت : فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا فِي الثَّالِثِ ، وَمَعَ هَذَا لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْكُلِّ مَا لَمْ يُعَوَّضْ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَا ذَكَرَ فِي الْعِنَايَةِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْوِيضِ فِي قَوْلِهِ وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ ، وَبِالتَّعْوِيضِ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ هُوَ التَّعْوِيضُ مَا يَعُمُّ التَّعْوِيضَ بِالصِّيَانَةِ وَبِالْخِدْمَةِ وَبِالْمَالِ ، فَالْمَخْصُوصُ بِالْمُتَسَاوِيَيْنِ هُوَ التَّعْوِيضُ الْمَالِيُّ ، وَأَمَّا التَّعْوِيضُ الْمُطْلَقُ فَيُوجَدُ فِي الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى وَالْمُسَاوِي ، وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ يَشْمَلُ الصُّوَرَ الثَّلَاثَ فَلَا يَضُرُّهُ كَوْنُ الْمُدَّعَى أَعَمَّ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ فِي الْكُلِّ مَا لَمْ يُعَوَّضْ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ فِي ذَلِكَ التَّقْرِيرِ بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ فَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْهِبَةِ لِلْأَجَانِبِ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ لِيَصُونَهُ بِجَاهِهِ وَإِلَى مَنْ دُونَهُ لِيَخْدُمَهُ وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ لِيُعَوِّضَهُ ، وَمِنْهُ يُقَالُ : الْأَيَادِي قُرُوضٌ انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ التَّسْهِيلِ اعْتَرَضَ عَلَى أَصْلِ هَذَا الدَّلِيلِ حَيْثُ قَالَ : أَقُولُ : عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ لَوْ قُيِّدَ بِنَفْيِ الْعِوَضِ يَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْعِوَضَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ ، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " مَا لَمْ يُعَوَّضْ " يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الرُّجُوعِ وَإِنْ قُيِّدَ بِنَفْيِ الْعِوَضِ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِإِنَّا لَا نُسَلِّمُ ظُهُورَ أَنَّ الْعِوَضَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ عِنْدَ التَّقْيِيدِ بِنَفْيِ الْعِوَضِ ، فَإِنَّ التَّعْوِيضَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَيْسَ بِإِيجَابِ الْوَاهِبِ إيَّاهُ وَإِلْغَائِهِ بَلْ بِحَسَبِ مُرُوءَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ،

وَجَرْيِ الْعَادَةِ عَلَى التَّعْوِيضِ ، وَبِنَفْيِ الْوَاهِبِ التَّعْوِيضَ لَا يَفُوتُ ذَلِكَ ، بَلْ رُبَّمَا يَكُونُ نَفْيُهُ إيَّاهُ سَبَبًا لِهَيَجَانِ مُرُوءَةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ الْوَاهِبُ بِنَفْيِهِ إيَّاهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ظُهُورَ ذَلِكَ فَنَقُولُ : الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ عِلَّةٌ نَوْعِيَّةٌ لِإِثْبَاتِ نَوْعِ الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاطِّرَادَ فِي كُلِّ صُورَةٍ كَمَا قَالُوا مِثْلَ هَذَا فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ وَجْهَيْ عَدَمِ جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ فِيمَا مَرَّ فَتَذَكَّرْ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُهُ لِلْحَاجَةِ وَذَلِكَ يُسَمَّى رُجُوعًا ) أَيْ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : بَلْ شِرَاءً إضْرَابًا عَنْ قَوْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِتَمَلُّكِ الْوَالِدِ هَاهُنَا تَمَلُّكُهُ بِطَرِيقِ الِاتِّفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ لَا بِطَرِيقِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِالْهِبَةِ فَلَا يُنَاسِبُ تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ قَطْعًا ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ لِلْحَاجَةِ يُعَيِّنُ الْأَوَّلَ ؛ لِعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْحَاجَةِ فِي تَمَلُّكِهِ بِالشِّرَاءِ ، عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْأَوَّلِ حَيْثُ قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْوَلَدِ وَلَا قَضَاءِ الْقَاضِي إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِلُّ بِالرُّجُوعِ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إلَى ذَلِكَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ .
( قَوْلُهُ : وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ لِبَيَانِ الْحُكْمِ ، أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلَازِمَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } وَهَذَا لِاسْتِقْبَاحِهِ ) قَالَ الشَّارِحُ

الْعَيْنِيُّ : قِيلَ قَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى كَرَاهَةِ الرُّجُوعِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ثُمَّ يَشْتَرِطُونَ فِي جَوَازِهِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءَ ، فَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ بِالرِّضَا فَلَا كَلَامَ فِيهِ وَلَا إشْكَالَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْقَضَاءِ فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْقَاضِي الْإِعَانَةُ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ ؟ وَكَيْفَ تَكُونُ إعَانَتُهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى مُنْتِجَةٌ لِلْجَوَازِ ؟ وَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَضَاءِ غَيْرَ جَائِزٍ فَبَعْدَهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَإِنَّمَا قَضَاءُ الْقَاضِي إعَانَةٌ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى وُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ ، فَإِذَا كَانَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَحِلُّ لَا يَصِيرُ بِالْقَضَاءِ حَلَالًا ، وَقَدْ اعْتَرَفَ الْمُصَنِّفُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي أَصْلِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَهَاءً فَكَيْفَ يَسُوغُ لِلْقَاضِي الْإِقْدَامُ عَلَى أَمْرٍ وَاهٍ مَكْرُوهٍ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا الْإِشْكَالُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْقَضَاءِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَاذَا ، فَإِنَّ الَّذِي كَانَ مَكْرُوهًا إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الرُّجُوعِ عَنْ الْهِبَةِ لَا جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنْهَا ، وَاَلَّذِي يَكُونُ مَحَلًّا لِلْقَضَاءِ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنْهَا لَا نَفْسُ الرُّجُوعِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقُولُ لِلْوَاهِبِ فِي حُكْمِهِ لَهُ عِنْدَ التَّرَافُعِ مَعَ الْمَوْهُوبِ لَهُ ارْجِعْ عَنْ هِبَتِك ، بَلْ يَقُولُ لَك الرُّجُوعُ عَنْهَا مَعَ كَرَاهَةٍ فِيهِ ، وَلَيْسَ فِي قَضَائِهِ هَذَا إعَانَةٌ عَلَى أَمْرٍ مَكْرُوهٍ بَلْ فِيهِ إجْرَاءُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا ، وَهُوَ جَوَازُ الرُّجُوعِ عَنْ الْهِبَةِ مَعَ كَرَاهَةٍ فِيهِ ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُرْتَكِبًا لِلْمَكْرُوهِ بِطَوْعِ نَفْسِهِ لَا بِإِعَانَةِ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ دَفْعِهَا إلَيْهِ يُلْزِمُهُ الْقَاضِي دَفْعَهَا إلَيْهِ .
وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا إلْزَامُ الْمَكْرُوهِ ؛

لِأَنَّ دَفْعَ الْهِبَةِ إلَى الْوَاهِبِ لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْمَوْهُوبِ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ عَنْهَا بِلَا مَانِعٍ عَنْ الرُّجُوعِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الرُّجُوعِ مَكْرُوهًا .
ثَمَّ إنَّ الْقَاضِيَ لَا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ وَلَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ ، وَلَكِنْ يَجْعَلُ الضَّعِيفَ قَوِيًّا وَالْمُخْتَلَفَ فِيهِ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ بِتَعَلُّقِ حُكْمِهِ بِذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ .
ثُمَّ إنَّ الضَّعِيفَ إذَا كَانَ نَاشِئًا مِنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا يَمْنَعُ الْقَاضِي عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحُكْمِ بِهَا سِيَّمَا إذَا وَافَقَ مَذْهَبَهُ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَمَا تَرَى فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ بِحَذَافِيرِهِ ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُفْهَمَ هَذَا الْمَقَامُ .

ثُمَّ لِلرُّجُوعِ مَوَانِعُ ذَكَرَ بَعْضَهَا فَقَالَ ( إلَّا أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ( أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ) ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الرُّجُوعِ فِيهَا دُونَ الزِّيَادَةِ ؛ لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعَقْدِ .
قَالَ : ( أَوْ يَمُوتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ فَصَارَ كَمَا إذَا انْتَقَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاهِبُ فَوَارِثُهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ إذْ هُوَ مَا أَوْجَبَهُ .
قَالَ ( أَوْ تَخْرُجُ الْهِبَةُ عَنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطِهِ فَلَا يَنْقُضُهُ ، وَلِأَنَّهُ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ بِتَجَدُّدِ سَبَبِهِ .

( قَوْلُهُ : أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ تُورِثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ .
ا هـ .
أَقُولُ : بَلْ مِنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ الْآخَرِ بُدٌّ بِقَوْلِهِ أَوْ تَزِيدَ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُورِثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ نُقْصَانٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الزِّيَادَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً حَتَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا مُؤَثِّرَةً فِي زِيَادَةِ الْقِيمَةِ ، فَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ عَادَتْ نُقْصَانًا ، فَرُبَّ زِيَادَةِ صُورَةٍ كَانَتْ نُقْصَانًا فِي الْمَعْنَى كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ مَثَلًا .
ا هـ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى قَيْدٍ زَائِدٍ ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي الْبَيَانِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ فِي نَفْسِ الْمَوْهُوبِ بِشَيْءٍ يُورِثُ زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْمَوْهُوبِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ .
أَمَّا لَوْ زَادَ الْمَوْهُوبُ فِي نَفْسِهِ لَكِنْ لَا تُورِثُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ زِيَادَةً فِي قِيمَتِهِ فَهُوَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ حَقِيقَةٍ فَلَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ زِيَادَةَ صُورَةٍ نُقْصَانًا مَعْنًى كَالْإِصْبَعِ الزَّائِدَةِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَقَالَ : هَكَذَا كُلِّهِ فِي الذَّخِيرَةِ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الزِّيَادَةَ الصُّورِيَّةَ الَّتِي لَا تُورِثُ زِيَادَةً فِي الْقِيمَةِ كَالزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ بِطُولِ الْقَامَةِ وَبِالْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، مَعَ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرُوا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ الرُّجُوعُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلرُّجُوعِ فِيهَا دُونَ الزِّيَادَةِ مَدَى الْإِمْكَانِ ، وَلَا مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِعَدَمِ دُخُولِهَا تَحْتَ الْعُقَدِ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي

التَّوْجِيهِ .

قَالَ : ( فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا أَوْ بَنَى بَيْتًا أَوْ دُكَّانًا أَوْ آرِيًّا وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ زِيَادَةٌ مُتَّصِلَةٌ .
وَقَوْلُهُ وَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهَا ؛ لِأَنَّ الدُّكَّانَ قَدْ يَكُونُ صَغِيرًا حَقِيرًا لَا يُعَدُّ زِيَادَةً أَصْلًا ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ عَظِيمَةً يُعَدُّ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي قِطْعَةٍ مِنْهَا فَلَا يَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِهَا .
قَالَ : ( فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي ) ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ بِقَدْرِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْهَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِهَا ) ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي كُلِّهَا فَكَذَا فِي نِصْفِهَا بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى .
قَالَ ( وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا كَانَتْ الْهِبَةُ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا } ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا صِلَةُ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ ( وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهَا الصِّلَةُ كَمَا فِي الْقَرَابَةِ ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ لَهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ ، وَلَوْ أَبَانَهَا بَعْدَمَا وَهَبَ فَلَا رُجُوعَ .

( قَوْلُهُ : فَإِنْ وَهَبَ لِآخَرَ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَأَنْبَتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا نَخْلًا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فَكَانَ حَقُّهَا التَّقْدِيمَ ا هـ .
أَقُولُ : وَجْهُ التَّأْخِيرِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ كَرِهَ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي مَسْأَلَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ يَذْكُرُ مَسْأَلَةً مُسْتَقِلَّةً مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَعَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي الِاعْتِذَارِ عَنْهُ : إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ سَرْدَ أُصُولِ الْمَوَانِعِ ثُمَّ التَّفْرِيعَ عَلَى التَّرْتِيبِ وَتَأْخِيرَ التَّعْوِيضِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ كَثْرَةِ التَّفْصِيلِ .
ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَوْ قَصَدَ سَرْدَ أُصُولِ الْمَوَانِعِ ثُمَّ التَّفْرِيعَ عَلَى التَّرْتِيبِ لَمَا ذَكَرَ الْقَرَابَةَ الْمَحْرَمِيَّةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مِنْ أُصُولِ الْمَوَانِعِ بَيْنَ التَّفْرِيعَاتِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا ، وَبِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ مَا وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ ، تَبَصَّرْ تَقِفْ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ رَجَعَ فِي الْبَاقِي ) أَقُولُ : قَيَّدَ النِّصْفَ فِي الْكِتَابِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مَقْسُومٍ ، وَالظَّاهِرُ عَدَمُ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ كَمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، إذْ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَهَا مَقْسُومًا كَذَلِكَ قَطْعًا وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَكَأَنَّ وَجْهَ التَّقْيِيدِ فِي الْكِتَابِ إرَادَةُ إثْبَاتِ الْحُكْمِ فِي الْمَقْسُومِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَمَّا صَحَّ الرُّجُوعُ فِي الْبَاقِي فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَهَا غَيْرَ مَقْسُومٍ كَانَ صِحَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْبَاقِي فِيمَا إذَا بَاعَ نِصْفَهَا مَقْسُومًا أَوْلَى كَمَا

لَا يَخْفَى ، وَسَيَأْتِي التَّعَرُّضُ مِنْ الشُّرَّاحِ لِنَظِيرِ هَذَا فِي

قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لِلْوَاهِبِ خُذْ هَذَا عِوَضًا عَنْ هِبَتِك أَوْ بَدَلًا عَنْهَا أَوْ فِي مُقَابَلَتِهَا فَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ سَقَطَ الرُّجُوعُ ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ تُؤَدِّي مَعْنًى وَاحِدًا ( وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَقَبَضَ الْوَاهِبُ الْعِوَضَ بَطَلَ الرُّجُوعُ ) ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ لِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ : قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا يُقَابِلُ نِصْفَهُ ( وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ لَمْ يَرْجِعْ فِي الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْجِعُ ) وَقَالَ زُفَرُ : يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ اعْتِبَارًا بِالْعِوَضِ الْآخَرِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يَصْلُحُ عِوَضًا لِلْكُلِّ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا عِوَضَ إلَّا هُوَ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ إلَّا لِيَسْلَمَ لَهُ كُلُّ الْعِوَضِ وَلَمْ يَسْلَمْ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ .
قَالَ ( وَإِنْ وَهَبَ دَارًا فَعَوَّضَهُ مِنْ نِصْفِهَا ) رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَمْ يُعَوِّضْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ خَصَّ النِّصْفَ .
قَالَ : ( وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَوْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ وَفِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَصْلِ بِالرِّضَا أَوْ بِالْقَضَاءِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ نَفَذَ ، وَلَوْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِقِيَامِ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْقَبْضِ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، وَهَذَا دَوَامٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ طَلَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ ، وَإِذَا رَجَعَ بِالْقَضَاءِ أَوْ بِالتَّرَاضِي يَكُونُ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَشْتَرِطُ قَبْضَ الْوَاهِبِ وَيَصِحُّ فِي الشَّائِعِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ جَائِزًا مُوجِبًا حَقَّ

الْفَسْخِ ، فَكَانَ بِالْفَسْخِ مُسْتَوْفِيًا حَقًّا ثَابِتًا لَهُ فَيَظْهَرُ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ لَا فِي الْفَسْخِ فَافْتَرَقَا .

قَوْلِهِ : وَإِنْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُتَبَرِّعًا فَتَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْعِوَضِ .
أَقُولُ : هَذَا سَهْوٌ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالنِّصْفِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَقَوْلِ زُفَرَ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ إنَّمَا هُوَ نِصْفُ الْهِبَةِ دُونَ نِصْفِ الْعِوَضِ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا مِنْ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا ( قَوْلُهُ : وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ ) أَيْ فِي أَصْلِ الرُّجُوعِ ضَعْفٌ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْوَاهِبَ إنْ كَانَ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ بِمِلْكِهِ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ؛ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِمْ وَلِهَذَا يَبْطُلُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَانِعِ خَلَلٌ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ : أَيْ فِيمَا يُوجَدُ فِيهِ الْمَانِعُ عَنْهُ ، وَفِيمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ ؛ لِكَوْنِهِ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْجَمِيعِ ، فَلَا يَصِحُّ تَفْرِيعُ بُطْلَانِهِ فِي صُوَرِ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ عَنْهُ عَلَى كَوْنِهِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، إذْ لَوْ كَانَ عِلَّةُ الْبُطْلَانِ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَبْطُلَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ ؛ لِعَدَمِ انْفِكَاكِهِ عَنْ تِلْكَ الْعِلَّةِ فِي صُورَةٍ .
فَالصَّوَابُ أَنَّ بُطْلَانَهُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ وَبِغَيْرِهَا مِنْ الْمَوَاقِعِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ فِي مَسَائِلِهَا لَا لِكَوْنِهِ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ

لِانْتِقَاضِهِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ .
أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِانْتِقَاضِهِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ضَعِيفًا فَمَا الْمَحْذُورُ فِي ذَلِكَ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ضَعِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَالُوا : كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِ النَّصِّ ، بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ بِهِ عَلَى وَفْقِ الْقِيَاسِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ مَوْقُوفًا عَلَى الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ : وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِعَدَمِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِدُونِ الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْعِلَّةُ التَّامَّةُ لَهُ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَفِي أَصْلِهِ وَهَاءٌ ، وَفِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ وَعَدَمِهِ خَفَاءٌ ، وَلَا تَجْرِي هَذِهِ الْعِلَّةُ بِتَمَامِهَا فِي كُلِّ مَا ثَبَتَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا انْتِقَاضَ بِهِ .
ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ الْمُطَرِّزَيَّ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ مَصْدَرُ وَهِيَ الْحَبْلُ يَهِي وَهَيَا إذَا ضَعُفَ ا هـ .
وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا وَقَالَ : وَهُوَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ مَدَّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ لَيْسَ بِخَطَأٍ وَتَخْطِئَةِ مَا لَيْسَ بِخَطَإٍ خَطَأٌ .
ا هـ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ الْخَطَأَ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ الْوَهْيَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ : وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ مَقْصُورُ الْوَهَاءِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا بَلْ هُوَ عَلَى وَزْنِ الْفِعْلِ بِفَتْحِ الْوَاوِ

وَسُكُونِ الْهَاءِ كَالرَّمْيِ ، وَمِنْ الْبَيِّنِ فِيهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ : مَصْدَرٌ وَهِيَ الْحَبْلُ يَهِي وَهْيًا حَيْثُ قَالَ وَهْيًا ، وَلَوْ كَانَ مَقْصُورًا لَقَالَ وَهَا كَمَا لَا يَخْفَى ، وَقَدْ تَفَطَّنَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ : وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : لِأَنَّ مَدَّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ لَيْسَ بِخَطَإٍ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ مَدِّ الْمَقْصُورِ السَّمَاعِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْمَقْصُورِ حَتَّى يُمَدَّ ، وَالْمَصْدَرُ هَاهُنَا عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ فَمِنْ أَيْنَ يَتَأَتَّى الْمَدُّ .
ا هـ .
وَلَكِنَّ خَطَأَ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فَصَاحِبُ الْمُغْرِبِ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ : يَعْنِي بِتَسْكِينِ الْعَيْنِ ، وَمُخْطِئٌ مِنْ وَجْهٍ فِي قَوْلِهِ الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ كَمَا تَقُولُ فِي قَلَى يَقْلِي قَلْيًا وَقَلَّاءً عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ وَوَهَاءٌ كَذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ : الْقَلْيُ الْبُغْضُ ، فَإِنْ فَتَحْت الْقَافَ مَدَدْت تَقُولُ قَلَاهُ يَقْلِيهِ قَلْيًا وَقَلَّاءً .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : أَخْطَأَ هَذَا الشَّارِحُ أَيْضًا فِي تَخْطِئَةِ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَهَاءِ عَلَى وَزْنِ بَعْضِ الْمَصَادِرِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَفْسُهُ أَيْضًا مَصْدَرًا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ مَصْدَرَ الثَّلَاثِي سَمَاعِيٌّ لَا يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ ، فَمَجِيءُ الْقَلَّاءِ مَصْدَرًا مِنْ قَلَى يَقْلِي كَمَا ذَكَرَهُ الْجَوْهَرِيُّ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْوَهَاءُ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْ وَهَى يَهِي ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَسْمُوعٌ دُونَ الثَّانِي .
وَقَوْلُ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فَلَا غُبَارَ فِيهِ عَلَى أَنَّ تَخْطِئَتَهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِ الْوَهَاءُ بِالْمَدِّ خَطَأٌ يُنَافِي تَصْوِيبَهُ إيَّاهُ فِي قَوْلِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْوَهْيُ ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ هَذَا قَصْرَ مَصْدَرِ وَهَى يَهِي عَلَى الْوَهْيِ بِتَسْكِينِ الْهَاءِ ، فَكَوْنُ

وَهَاءٍ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْهُ يُنَافِي ذَلِكَ قَطْعًا .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَمَنْ حَذَا حَذْوَهُ مِنْ الشُّرَّاحِ كَصَاحِبَيْ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ اسْتَدَلُّوا عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالُوا : وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخُ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَامَّةٌ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ مِنْهُمَا لِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِأَمْرِ الْبَائِعِ وَفِي الْعَقْدِ عِوَضَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مَلَكَ الْبَيْعَ وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ .
ثُمَّ إنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيهِ فَسْخَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَا بَعْدَهُ إنْ كَانَ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَلِمَنْ لَهُ الشَّرْطُ إنْ كَانَ بِشَرْطٍ زَائِدٍ فَصَحَّ فَسْخُ الْعَقْدِ هُنَاكَ مِنْ أَحَدِهِمَا بِدُونِ رِضَا الْآخَرِ وَلَا الْقَضَاءِ بِهِ ، فَصَارَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ مَنْقُوضًا بِهِ بَلْ هُوَ مَنْقُوضٌ أَيْضًا بِسَائِرِ الْعُقُودِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهَا بِأَسْرِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُمْ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ إذَا الْحَقُّ هُنَاكَ لِلْمُشْتَرِي فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ لَا فِي الْفَسْخِ ، وَالْحَقُّ هَاهُنَا لِلْوَاهِبِ فِي نَفْسِ الْفَسْخِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا سَيَأْتِي .
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْوَجْهِ فَلَا يَقْتَضِي عَدَمُ انْفِرَادِ الْمُشْتَرِي هُنَاكَ بِالْفَسْخِ عَدَمَ انْفِرَادِ الْوَاهِبِ هَاهُنَا بِهِ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ وَلَا التَّشْبِيهُ تَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ : بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ هُنَاكَ فِي وَصْفِ السَّلَامَةِ

لَا فِي الْفَسْخِ فَافْتَرَقَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ لَا فِي الْفَسْخِ : لِأَنَّ الْعَيْبَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ الْفَسْخَ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ ثُبُوتَ الْفَسْخِ بِالْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي حَقِّ الْفَسْخِ لَا فِي ثُبُوتِ الْفَسْخِ بِالْفِعْلِ أَلْبَتَّةَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ تَامًّا لَمْ يَقْتَضِ ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ يَتِمُّ بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَمَعَ هَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ عِنْدَنَا بِمُوجِبِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا } وَلِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَادَةً عِنْدَ عَدَمِ التَّعْوِيضِ مِنْهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا حَقُّ الْفَسْخِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَيْبِ بِنَاءً عَلَى فَوَاتِ مَقْصُودِهِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ .
فَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ لَازِمٌ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقْتَضِيَ ثُبُوتَ حَقِّ الْفَسْخِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِكَوْنِ ذَلِكَ مُنَافِيًا لِلُّزُومِ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَا يُنَافِيهِ ثُبُوتُ حَقِّ الْفَسْخِ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ .

قَالَ : ( وَإِذَا تَلِفَتْ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ وَاسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ وَضَمِنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ السَّلَامَةَ ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ لَهُ ، وَالْغُرُورُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ سَبَبُ الرُّجُوعِ لَا فِي غَيْرِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ اُعْتُبِرَ التَّقَابُضُ فِي الْعِوَضَيْنِ ، وَتَبْطُلُ بِالشُّيُوعِ ) ؛ لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً ( فَإِنْ تَقَابَضَا صَحَّ الْعَقْدُ وَصَارَ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَتُسْتَحَقُّ فِيهِ الشُّفْعَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي ، وَلِهَذَا كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ إعْتَاقًا .
وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ حُكْمِهَا تَأَخُّرُ الْمِلْكِ إلَى الْقَبْضِ ، وَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْبَيْعُ مِنْ حُكْمِهِ اللُّزُومُ ، وَقَدْ تَنْقَلِبُ الْهِبَةُ لَازِمَةً بِالتَّعْوِيضِ فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ بَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْبَيْعِ فِيهِ ، إذْ هُوَ لَا يُصْلَحُ مَالِكًا لِنَفْسِهِ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا مَا أَمْكَنَ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ وَقَدْ أَمْكَنَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الدَّلِيلِ : وَلَنَا أَنَّهُ اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ : جِهَةِ الْهِبَةِ لَفْظًا ، وَجِهَةِ الْبَيْعِ مَعْنًى وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَكُلُّ مَا اشْتَمَلَ عَلَى جِهَتَيْنِ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَجَبَ إعْمَالُهُمَا ؛ لِأَنَّ إعْمَالَ الشَّبَهَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ مُنَاقَشَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ إعْمَالَ الشَّبَهَيْنِ وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إعْمَالِ أَحَدِهِمَا يُفِيدُ أَوْلَوِيَّةَ إعْمَالِ الشَّبَهَيْنِ وَالْمُدَّعَى وُجُوبُ إعْمَالِهِمَا كَمَا تَرَى فَلَا تَقْرِيبَ ، وَيُمْكِنُ دَفْعُهَا بِعِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ .

فَصْلٌ قَالَ : ( وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَانْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَهَذَا هُوَ الْحُكْمُ فِي النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْطُلُ بِهَا .

فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ الْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُتَعَلِّقَةً بِالْهِبَةِ بِنَوْعٍ مِنْ التَّعَلُّقِ وَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ مَسَائِلَ شَتَّى ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( قَوْلُهُ : وَمَنْ وَهَبَ جَارِيَةً إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْهِبَةُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَانْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ) .
تَوْضِيحُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلٍّ يَعْمَلُ فِيهِ الْعَقْدُ ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ ؛ لِكَوْنِهِ وَصْفًا ، وَالْعَقْدُ لَا يَرُدُّ عَلَى الْأَوْصَافِ مَقْصُودًا ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْحَمْلَ لِآخَرَ لَا يَصِحُّ ، فَكَذَا إذَا اسْتَثْنَى عَلَى مَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ عَامِلًا انْقَلَبَ شَرْطًا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ تَبَعًا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا ، فَلَمَّا اسْتَثْنَى الْحَمْلَ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَعْنَى الشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي بَابِ الْهِبَةِ مُعَلَّقٌ بِفِعْلٍ حِسِّيٍّ وَهُوَ الْقَبْضُ ، وَالْقَبْضُ لَا يَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ ، وَإِنَّمَا تُؤَثِّرُ الشُّرُوطُ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ .
هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ .
وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى بُطْلَانِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ فَلَا يَعْمَلُ إلَّا فِي الْمَلْفُوظِ ، وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَوْصَافِ ، وَاللَّفْظُ يُرَدُّ عَلَى الذَّاتِ لَا عَلَى الْأَوْصَافِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَلْفُوظٍ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَوْ صَحَّ هَذَا الدَّلِيلُ لَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ اسْتِثْنَاءِ الْحَمْلِ فِي الْوَصِيَّةِ

أَيْضًا لِجَرَيَانِهِ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً ، وَسَيَأْتِي فِي وَصَايَا هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجَارِيَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ لَفْظًا وَلَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِالْإِطْلَاقِ تَبَعًا ، فَإِذَا أَفْرَدَ الْأُمَّ بِالْوَصِيَّةِ صَحَّ إفْرَادُهَا ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ إفْرَادُ الْحَمْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَجَازَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهُ .
ا هـ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي هُنَاكَ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ اللَّفْظُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ .
قُلْنَا : يَكْفِي لِصِحَّةِ التَّزَيِّي بِزِيِّهِ كَمَا فِي اسْتِثْنَاءِ إبْلِيسَ ، عَلَى أَنَّ صِحَّتَهُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى التَّنَاوُلِ اللَّفْظِيِّ بِدَلِيلِ صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ .
ا هـ .
فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ مَا فِي الْكِفَايَةِ هَاهُنَا ، وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ هَاهُنَا بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ ، وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ ، فَإِنَّهُ إذَا وَهَبَ لِرَجُلٍ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ مِنْ الصُّوفِ أَوْ مَا فِي الضَّرْعِ مِنْ اللَّبَنِ وَأَمَرَهُ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ ، وَقَبَضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً .
بِخِلَافِ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ ، وَبِأَنَّ إخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَطْنِ لَيْسَ إلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ ، بِخِلَافِ الْجِزَازِ فِي الصُّوفِ ، وَالْحَلْبِ فِي اللَّبَنِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَالًا أَصْلًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ وُجُودُهُ حَقِيقَةً لَمَا صَحَّ إعْتَاقُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِيصَاؤُهُ ، وَقَدْ صَحَّ كُلٌّ

مِنْهَا عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْأَوَّلَيْنِ أَيْضًا الْمَسْأَلَتَانِ الْآتِيَتَانِ هَاهُنَا ، وَهُمَا قَوْلُهُ : وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ .
وَأَمَّا فِي وَجْهِهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ إخْرَاجِ الْوَلَدِ لَيْسَ إلَيْهِ إنَّمَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْهِبَةِ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ الْوَاهِبُ بِقَبْضِ الْحَمْلِ فِي الْحَالِ ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَمَرَهُ الْوَاهِبُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَلَا ، إذْ يُمْكِنُ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَقْبِضَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ أَصَالَةً بِدُونِ النِّيَابَةِ عَنْ الْوَاهِبِ ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي أَنْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنْ أَمَرَهُ فِي الْحَمْلِ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبَضَ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي الصُّوفِ ، وَاللَّبَنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي أَوَّلِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ .
وَقَالَ : وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْحَمْلِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ إلَخْ .
ثُمَّ أَقُولُ : عَلَى فَرْضِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ بِوَجْهَيْهِ سَالِمًا عَمَّا ذَكَرْنَاهُ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الْمَزْبُورُ ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَ ذَلِكَ السُّؤَالِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ، وَالْهِبَةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْحَمْلِ لِكَوْنِهِ وَصْفًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ ، وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ أَيْضًا مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَوَانِ كَالْحَمْلِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَمْلِ وَبَيْنَ الصُّوفِ ، وَاللَّبَنِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ حَتَّى تَصِحَّ الْهِبَةُ فِيمَا دُونَ الْحَمْلِ ، وَالْجَوَابُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ حَيْثِيَّةٍ أُخْرَى ، وَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا يَنْدَفِعُ بِهِ مُطَالَبَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ .

وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ الْجَنِينُ عَلَى مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَلَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ وَهَبَهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ فَلَمْ يَكُنْ شَبِيهَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهِ لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمَالِكِ .
قَالَ : ( فَإِنْ وَهَبَهَا لَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهَا أَوْ أَنْ يَتَّخِذَهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ وَهَبَ دَارًا أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ) .
لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَتْ فَاسِدَةً ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِهَا ، أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ شَرْطَ الْمُعَمِّرِ } بِخِلَافِ الْبَيْعِ { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } وَلِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي مَعْنَى الرِّبَا ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ .

قَوْلُهُ : وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِيهِ لِمَكَانِ التَّدْبِيرِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْمَالِكِ ) فَإِنْ قِيلَ : هَبْ أَنَّهَا هِبَةُ مُشَاعٍ لَكِنَّهَا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَهِيَ جَائِزَةٌ .
أُجِيبَ بِأَنَّ عَرْضِيَّةَ الِانْفِصَالِ فِي ثَانِي الْحَالِ ثَابِتَةٌ لَا مَحَالَةَ فَأُنْزِلَ مُنْفَصِلًا فِي الْحَالِ مَعَ أَنَّ الْجَنِينَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ أَقُولُ : لَيْسَ الْجَوَابُ بِسَدِيدٍ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الْحَمْلَ مُفَصَّلًا فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ فِي عَرْضِيَّةِ الِانْفِصَالِ فِي ثَانِي الْحَالِ كَانَ فِي حُكْمِ الْمُفْرَزِ الْمَقْسُومِ لَا فِي حُكْمِ الْمُشَاعِ الْمُحْتَمِلِ لِلْقِسْمَةِ فَكَانَ أَوْلَى بِجَوَازِ هِبَتِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ خُرُوجِ الْجَنِينِ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ كَوْنُهُ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ احْتِمَالَ الْقِسْمَةِ وَعَدَمَ احْتِمَالِهَا لَا يَدُورَانِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ ، وَالْخُرُوجِ عَنْهُ بَلْ عَلَى عَدَمِ إضْرَارِ التَّبْعِيضِ ، وَإِضْرَارُهُ كَمَا عُرِفَ فِيمَا مَرَّ ، فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُ : فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ .
نَعَمْ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ خُرُوجِ الْجَنِينِ عَنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ كَوْنُ الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ مَشْغُولَةً بِمِلْكِهِ كَمَا فِي هِبَةِ الْجَوَالِقِ الَّذِي فِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ وَرَاءَ احْتِمَالِ الْقِسْمَةِ .
فَإِنْ قُلْتَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ هِبَةٍ مَشْغُولَةٍ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ لَا أَنَّهُ كَانَ مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ حَقِيقَةً ، وَلِهَذَا قَالَ : فَكَانَ فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَلَمْ يَقُلْ فَكَانَ مُشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ فَكَانَ

فِي حُكْمٍ مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَمَا فِي هِبَةِ الْجَوَالِقِ وَفِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ مَا هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ الشُّيُوعِ فِي الْهِبَةِ حُكْمًا لِوُجُودِ اخْتِلَاطِ الْمِلْكِ فِي الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا .
انْتَهَى .
قُلْتُ : مَوْرِدُ أَصْلِ السُّؤَالِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَبَقِيَ هِبَةُ الْمُشَاعِ لَا قَوْلُهُ : أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ هُوَ مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ ، وَمَا ذَكَرْتَهُ إنَّمَا يَصْلُحُ تَوْجِيهًا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ ، تَأَمَّلْ تَقِفْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ السُّؤَالَ ، وَالْجَوَابَ الْمَزْبُورَيْنِ قَالَ : وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا اسْتَشْعَرَ هَذَا السُّؤَالَ أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ هِبَةُ شَيْءٍ مَشْغُولٍ بِمِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُوَ كَمَا إذَا وَهَبَ الْجَوَالِقَ ، وَفِيهِ طَعَامُ الْوَاهِبِ وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَهِبَةِ الْمُشَاعِ الْحَقِيقِيِّ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ رَكَاكَةٌ ظَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ إنْ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَهُ فَاسْتِشْعَارُ السُّؤَالِ الْمَسْفُورِ لَا يَقْتَضِي إرْدَافَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِشَيْءٍ آخَرَ لِكَوْنِ ذَلِكَ السُّؤَالِ مُنْدَفِعًا عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ غَيْرَ وَارِدٍ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْضِيًّا عِنْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ خَلَلِهِ وَلَمْ يُبَيِّنْهُ قَطُّ ( قَوْلُهُ : أَوْ وَهَبَ دَارًا أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا عَلَى طَرِيقِ اللَّفِّ ، وَالنَّشْرِ وَإِلَّا لَا يَصِحُّ : أَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوْ وَهَبَ لَهُ دَارًا ، وَقَوْلُهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ قَوْلَهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا بِقَوْلِهِ أَوْ وَهَبَ دَارًا كَانَ هِبَةً بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ

صَحِيحٌ كَمَا مَرَّ ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِي الصَّدَقَةِ لَا فِي الْهِبَةِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْوِيضِ مَوْصُولًا بِقَوْلِهِ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِدَارٍ ، اللَّهُمَّ إلَّا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا أَنْ يَرُدَّ بَعْضَ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى الْوَاهِبِ بِطَرِيقِ الْعِوَضِ لِكُلِّ الدَّارِ ، فَيَصِحُّ حِينَئِذٍ صَرْفُ قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى قَوْلِهِ : وَإِذَا وَهَبَ دَارًا إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ التَّكْرَارُ الْمَحْضُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةِ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأَبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ .
أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِهِمَا قُصُورٌ إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا سِيَّمَا بَعْدَ قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا إنَّمَا هُوَ أَنْ يَرُدَّ بَعْضَ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى الْوَاهِبِ بِطَرِيقِ الْعِوَضِ عَنْ كُلِّ الدَّارِ ، وَالْمَعْنَى الْآخَرُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ إلَّا بِتَعَسُّفٍ بَعِيدٍ ، وَهُوَ أَنْ يَرْجِعَ ضَمِيرُ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى مَا هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ هَاهُنَا أَصْلًا كَلَفْظِ الْأَعْوَاضِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْ الْأَعْوَاضِ لَا مِنْ الدَّارِ ، فَاسْتِبْعَادُ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظَةُ اللَّهُمَّ إلَّا إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا أَنْ يَرُدَّ بَعْضَ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ عَلَى الْوَاهِبِ بِطَرِيقِ الْعِوَضِ لِكُلِّ الدَّارِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ .
ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَلَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيٌّ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِلرَّجُلِ هِبَةً أَوْ

يَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِصَدَقَةٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا قَالَ : الْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ وَلَا يُعَوِّضُهُ شَيْئًا مِنْهَا ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ ثُلُثَ الدَّارِ أَوْ رُبُعَهَا بَعْضٌ مِنْهَا ، فَاسْتِبْعَادُ إرَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَلْ تَجْوِيزُ إرَادَةِ مَعْنًى آخَرَ بِالنَّظَرِ إلَى لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الَّذِي هُوَ مَأْخَذُ عِبَارَةِ الْكِتَابِ خَطَأٌ ظَاهِرٌ ، لَكِنْ بَقِيَ لُزُومُ التَّكْرَارِ وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهَ لِسَمَاجَةِ الِاسْتِبْعَادِ الَّذِي يُشْعِرُ بِهِ لَفْظَةُ اللَّهُمَّ الْوَاقِعَةُ فِي كَلَامِ الشَّارِحَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ حَيْثُ غَيَّرَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ أُسْلُوبَ تَحْرِيرِهِمَا فَقَالَ وَقَوْلُهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فِيهِ إشْكَالٌ ، فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَهِيَ ، وَالشَّرْطُ جَائِزَانِ فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ : بَطَلَ الشَّرْطُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يُعَوِّضَهُ عَنْهَا شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ فَهُوَ تَكْرَارٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : وَلَوْ اطَّلَعَ عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَتَرَكَ التَّرْدِيدَ أَيْضًا ، بَلْ قَصَرَ عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي لِكَوْنِ ذَلِكَ نَصًّا فِي هَذَا الشِّقِّ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ آنِفًا .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ كَأَنَّهُ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا حَيْثُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلشِّقِّ الْأَوَّلِ أَصْلًا ، بَلْ سَاقَ كَلَامَهُ عَلَى أَنْ يَتَقَرَّرَ الشِّقُّ الثَّانِي وَلَا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ فَقَالَ : وَلَا يُتَوَهَّمُ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا أَوْ يُعَوِّضَهُ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عِوَضًا ، فَإِنَّ كَوْنُهُ عِوَضًا إنَّمَا هُوَ بِأَلْفَاظٍ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ

؛ لِأَنَّ الرَّدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ التَّعْوِيضَ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يَخْتَصَّ بِهِ إلَّا أَنَّهُ يَشْمَلُ ذَلِكَ وَيَعُمُّهُ ، إذْ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ الْمَوْهُوبَةِ أَعْطَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ عِوَضًا عَنْ كُلِّ الدَّارِ أَنَّهُ مَرْدُودٌ عَلَى الْوَاهِبِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ : عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا مُغْنِيًا عَنْ قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ الثَّانِي فَائِدَةٌ ، وَهَذَا مُرَادُ مَنْ ادَّعَى لُزُومَ التَّكْرَارِ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا مَصْرُوفًا أَيْضًا إلَى الْهِبَةِ دُونَ التَّصَدُّقِ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ ادِّعَاءَ لُزُومِ الِاتِّحَادِ فِي الْمَفْهُومِ أَوْ فِي الصِّدْقِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ حَتَّى يُفِيدَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : رَأَيْتُ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا يَرْجِعُ إلَى التَّصَدُّقِ ، فَإِنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَطَلَ الشَّرْطُ ، وَإِذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَالشَّرْطُ صَحِيحٌ .
أَقُولُ : إذَا وَهَبَ بِشَرْطِ أَنْ يُعَوِّضَ شَيْئًا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، وَشَرْطُ الْعِوَضِ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَعْلُومًا ، فَعُلِمَ أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ يُعَوِّضَهُ يَرْجِعُ إلَى الْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَأَقُولُ : التَّوْجِيهُ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ خِلَافُ مَا أَرَادَهُ وَاضِعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ وَاضِعَهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَوْضِعُهَا الْجَامِعُ الصَّغِيرُ وَلَفْظُهُ فِيهِ : أَوْ يُعَوِّضَهُ ثُلُثَهَا أَوْ رُبُعَهَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ثُلُثَ الدَّارِ أَوْ رُبُعَهَا أَمْرٌ مُعَيَّنٌ مَعْلُومٌ ، فَكَانَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَعْلُومًا ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا الْمُصَنِّفِينَ لَمَّا قَصَدُوا الْإِجْمَالَ غَيَّرُوا عِبَارَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا : أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا

، فَلَفْظُ شَيْئًا مِنْ كَلَامِهِمْ لَا مِنْ كَلَامِ الْوَاهِبِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ الْمَجْهُولِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَدَّ عَلَى صَدْرِ الشَّرِيعَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ إذَا وَهَبَ بِشَرْطِ أَنْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ الْمَوْهُوبِ يَصِحُّ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بِأَنَّهُ إذَا وَهَبَ دَارًا أَوْ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ بِشَرْطِ أَنْ يُعَوِّضَهُ بَيْتًا مُعَيَّنًا مِنْهَا أَوْ دِرْهَمًا وَاحِدًا مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ تَصِحُّ الْهِبَةُ ، وَالشَّرْطُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْهِبَةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِانْعِدَامِ الْعِوَضِ .
وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ : وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ فَسَادُ مَا فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى .
أَقُولُ : كَلَامُهُ نَاشِئٌ مِنْ عَدَمِ تَحْقِيقِ الْمَقَامِ وَفَهْمِ الْمُرَادِ ، فَإِنَّ مَدَارَ مَا رَآهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي وَمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ فِي رَدِّ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّعْوِيضِ فِي قَوْلِهِ أَوْ يُعَوِّضَهُ شَيْئًا مِنْهَا هُوَ التَّعْوِيضُ بِعِوَضٍ خَارِجٍ عَنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ ، فَالْمَفْهُومُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي إنَّمَا هُوَ كَوْنُ شَرْطِ الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ الْخَارِجِ عَنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ صَحِيحًا ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِلَا رَيْبٍ .
وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ بَلْ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ هُوَ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْوَاهِبُ أَنْ يُعَوِّضَهُ بَعْضًا مِنْ الْعَيْنِ الْمَوْهُوبَةِ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَفْسُدُ الشَّرْطُ ، وَهَذَا أَيْضًا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الشَّرْطِ صَحِيحًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ بِمَفْهُومٍ مِمَّا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ وَلَا مِمَّا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْحَوَاشِي ، فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِمَا مَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ .
نَعَمْ يَرُدُّ

عَلَى مَدَارِهِمَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ أَصْلًا فِي أَصْلِ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا نَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ آخَرُ فَلْيُتَأَمَّلْ جِدًّا ، فَإِنَّ تَحْقِيقَ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ، وَالتَّدْقِيقَ فِيمَا صَدَرَ عَنْ الْقَوْمِ مِنْ الْأَقْوَالِ مِمَّا لَمْ أُسْبَقْ إلَيْهِ ، فَأَشْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ .

قَالَ : ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهِيَ لَك أَوْ أَنْتَ مِنْهَا بَرِيءٌ .
أَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ النِّصْفَ فَلَكَ نِصْفُهُ أَوْ أَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ النِّصْفِ الْبَاقِي فَهُوَ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ إسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَهِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ إبْرَاءٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ تَمْلِيكًا ، وَوَصْفٌ مِنْ وَجْهٍ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ إسْقَاطًا ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ .
وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا .
( قَوْلُهُ : وَالتَّعْلِيقُ بِالشُّرُوطِ يَخْتَصُّ بِالْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ الَّتِي يُحْلَفُ بِهَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ مَا لَا يُحْلَفُ بِهَا كَالْحَجْرِ عَلَى الْمَأْذُونِ وَعَزْلِ الْوَكِيلِ ، وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ مِنْهَا ا هـ .
أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ : وَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ مِنْهَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ ، إذْ قَدْ مَرَّ آنِفًا أَنَّ الْإِبْرَاءَ تَمْلِيكٌ مِنْ وَجْهٍ إسْقَاطٌ مِنْ وَجْهٍ .
فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ فَكَأَنَّهُ غَفَلَ عَنْ قَيْدِ الْمَحْضَةِ ، وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْهُ .

قَالَ : ( وَالْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِلْمُعَمَّرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ) لِمَا رَوَيْنَا .
وَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارِهِ لَهُ عُمُرَهُ .
وَإِذَا مَاتَ تُرَدُّ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ التَّمْلِيكُ ، وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ لِمَا رَوَيْنَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ( وَالرُّقْبَى بَاطِلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : جَائِزَةٌ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ .
وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ كَالْعُمْرَى .
وَلَهُمَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجَازَ الْعُمْرَى وَرَدَّ الرُّقْبَى } وَلِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا إنْ مِتَّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَكَ ، وَاللَّفْظُ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُ يُرَاقِبُ مَوْتَهُ ، وَهَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ فَبَطَلَ .
وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ تَكُونُ عَارِيَّةً عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ .

( قَوْلُهُ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك تَمْلِيكٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ كَالْعُمْرَى ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ دَارِي لَك هِبَةً وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِالْخَطَرِ إنْ كَانَ الرُّقْبَى مَأْخُوذًا مِنْ الْمُرَاقَبَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْإِرْقَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ رَقَبَةُ دَارِي لَك فَصَارَ كَالْعُمْرَى .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بَحْثٌ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ دَارِي لَكَ رُقْبَى عِنْدَ كَوْنِ الرُّقْبَى مَأْخُوذًا مِنْ الرَّقَبَةِ رَقَبَةُ دَارِي لَكَ لَا يَثْبُتُ قَوْلُهُ : وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ إذْ لَا فَسَادَ ؛ لَأَنْ يُقَالَ رَقَبَةُ دَارِي لَكَ فِي شَيْءٍ كَمَا تَرَى وَلَا يَتِمُّ قَوْلُهُ : فَصَارَ كَالْعُمْرَى كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى عِنْدَهُمَا إنْ مِتَّ قَبْلَكَ فَهُوَ لَك ، وَاللَّفْظُ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يُشِيرُ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ بِجَوَازِهَا لَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَلْ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ الرَّقَبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَإِبْدَاعُ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا لِأَجْلِ مَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ .
إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ بِجَوَازِهَا لَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ بَلْ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ .
وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادُهُ بِتَفْسِيرٍ آخَرَ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ الرَّقَبَةِ حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ أَنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي وَجُمْهُورُ الشُّرَّاحِ بِقَوْلِهِمْ : وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الرُّقْبَى

مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهَا مِنْ الْمُرَاقَبَةِ .
فَحَمَلَ أَبُو يُوسُفَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْحَالِ مَعَ انْتِظَارِ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ، فَالتَّمْلِيكُ جَائِزٌ وَانْتِظَارُ الرُّجُوعِ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْعُمْرَى وَقَالَا : الْمُرَاقَبَةُ فِي نَفْسِ التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الرُّقْبَى هَذِهِ الدَّارُ لِآخِرِنَا مَوْتًا كَأَنَّهُ يَقُولُ : أُرَاقِبُ مَوْتَكَ وَتُرَاقِبُ مَوْتِي فَإِنْ مِتَّ قَبْلَك فَهِيَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ قَبْلِي فَهِيَ لِي ، فَكَانَ هَذَا تَعْلِيقَ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً بِالْخَطَرِ ، وَهُوَ مَوْتُ الْمَالِكِ قَبْلَهُ وَذَا بَاطِلٌ .
انْتَهَى قَوْلُهُمْ .
فَعَلَى هَذَا لَا يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَصْلًا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ : وَقِيلَ عَلَيْهِ إنَّ اشْتِقَاقَ الرُّقْبَى مِنْ الرَّقَبَةِ مِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ إلَخْ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَعِنْدِي قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَصَحُّ ، إذْ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ الشَّرْطُ فَاسِدٌ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ فَسَادِ الشَّرْطِ فَسَادُ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَمَا فِي الْعُمْرَى انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ إنَّمَا لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ الشَّرْطُ ثُبُوتَ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً ، وَأَمَّا إذَا مَنَعَ ذَلِكَ فَلَا مَجَالَ لَأَنْ لَا تَبْطُلَ الْهِبَةُ بِهِ لِضَرُورَةِ امْتِنَاعِ تَحَقُّقِ الْهِبَةِ بِدُونِ تَحَقُّقِ التَّمْلِيكِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَمْنَعُ الرُّقْبَى ثُبُوتُ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمَا إيَّاهَا كَمَا تَحَقَّقْتُهُ آنِفًا وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَصَحَّ الْعُمْرَى لِلْمُعَمَّرِ لَهُ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَلَوْ قَالَ دَارِي لَكَ رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ الشَّرْطَ فِي الْهِبَةِ إذَا كَانَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْنَعُ

ذَلِكَ صَحَّتْ الْهِبَةُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ، ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعُمْرَى أَنْ يَقُولَ : جَعَلْتُ هَذِهِ الدَّارَ لَكَ عُمُرَكَ فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ رَدٌّ عَلَيَّ فَيَصِحُّ الْهِبَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يَمْنَعُ أَصْلَ التَّمْلِيكِ .
وَتَفْسِيرُ الْحَبِيسِ أَنْ يَقُولَ : هِيَ حَبِيسٌ عِنْدِي ، فَإِنْ مِتَّ فَهِيَ لَكَ .
وَتَفْسِيرُ الرُّقْبَى أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الدَّارُ لِآخِرِنَا مَوْتًا ، وَهِيَ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُرَاقِبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ : أُرَاقِبُ مَوْتَكَ وَتُرَاقِبُ مَوْتِي فَإِنْ مِتَّ فَهِيَ لَكَ وَإِنْ مِتَّ فَهِيَ لِي فَهِيَ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْحَالِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَاضْمَحَلَّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .

فَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ قَالَ : ( وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ ( فَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ ( وَلَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ .
وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ الثَّوَابَ .
وَكَذَا إذَا وَهَبَ الْفَقِيرَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ .

( وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ يَتَصَدَّقُ بِجِنْسِ مَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ ) وَيُرْوَى أَنَّهُ وَالْأَوَّلَ سَوَاءٌ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْفَرْقَ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي مَسَائِلِ الْقَضَاءِ ( وَيُقَالُ لَهُ أَمْسِكْ مَا تُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِكَ وَعِيَالِكَ إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ ، فَإِذَا اكْتَسَبَ مَالًا يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَنْفَقَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .

كِتَابُ الْإِجَارَاتِ ( الْإِجَارَةُ : عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى مَا سَيُوجَدُ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهَا الْآثَارُ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهَا لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ ، ثُمَّ عَمَلُهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ مِلْكًا وَاسْتِحْقَاقًا حَالَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ .

( كِتَابُ الْإِجَارَاتِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ تَمْلِيكِ الْأَعْيَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ ، وَقَدَّمَ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَنَافِعِ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْأُولَى عَدَمَ الْعِوَضِ ، وَالْعَدَمُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوُجُودِ .
ثُمَّ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بِفَصْلِ الصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُمَا يَقَعَانِ لَازِمَيْنِ فَلِذَلِكَ أَوْرَدَ كِتَابَ الْإِجَارَاتِ مُتَّصِلًا بِفَصْلِ الصَّدَقَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَإِنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّهَا حَقِيقَةٌ ذَاتُ أَفْرَادٍ .
فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الْأَعْيَانِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ ، وَالْأَرَاضِيِ ، وَالدَّوَابِّ ، وَنَوْعٌ يَرِدُ عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْمُحْتَرَفِينَ لِلْأَعْمَالِ نَحْوَ الْقِصَارَةِ ، وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهِمَا .
ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ اخْتِلَالٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَفْرَادِ فِي قَوْلِهِ ذَاتُ أَفْرَادٍ الْأَشْخَاصَ الْجُزْئِيَّةَ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْأَفْرَادِ لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةٌ فِي جَمْعِهَا ، إذْ لَا يَحْتَمِلُ عِنْدَ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ لِحَقِيقَتِهَا فَرْدٌ وَاحِدٌ شَخْصِيٌّ أَوْ فَرْدَانِ شَخْصِيَّانِ فَقَطْ حَتَّى يَجْمَعَهَا لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهَا ذَاتُ أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ .
عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ لَا يُطَابِقُ الْمُدَّعَى حِينَئِذٍ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَإِنْ أَرَادَ بِالْأَفْرَادِ فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ الْأَنْوَاعُ الْكُلِّيَّةُ لَمْ يَتِمَّ بَيَانُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ لَهَا نَوْعَيْنِ إلَخْ ، إذْ بِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ النَّوْعَيْنِ لَهَا لَا يَصِحُّ إيرَادُهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ مِنْ كَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً .
وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ السَّخِيفُ جِدًّا مِنْ كَوْنِ أَقَلِّ الْجَمْعِ اثْنَيْنِ فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَكَبَ وَيُبْنَى عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الَّذِي هُوَ عَلَمٌ

فِي التَّحْقِيقِ .
فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا جَمَعَهَا إشَارَةً إلَى أَنَّ لَهَا أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً : نَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى ، وَنَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ .
وَنَوْعٌ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ ، وَالْإِشَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ لِيَنْقُلَ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ .
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي أُشِيرَ إلَيْهَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ ، وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ ، وَالْإِشَارَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهَا عَنْ قَرِيبٍ .
( قَوْلُهُ : الْإِجَارَةُ عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَلَوْ قَالَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ أَوْ نَحْوُهُ لَكَانَ أَوْلَى لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ النِّكَاحَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّيْلَعِيُّ بِخِلَافِ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ حَيْثُ يَشْمَلُهُ ، إلَّا أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ بِقَرِينَةِ الشُّهْرَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَوْ قَالَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَنَحْوُهُ لَمْ يَتَفَاوَتْ الْأَمْرُ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ أَيْضًا تَمْلِيكٌ قَطْعًا لَا اسْتِبَاحَةٌ مَحْضَةٌ ، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بَلْ لَمَا جَازَ ، وَقَدْ أَفْصَحُوا عَنْ هَذَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ فَسَّرُوا النِّكَاحَ فِي الشَّرْعِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ بَلْ الْمُتُونِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ مَوْضُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ ، وَقَالُوا : الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَمْلُوكٌ لِلْعَاقِدِ بِدَلَالَةِ جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ وَبِدَلَالَةِ أَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ انْتِفَاعًا وَحَجْرًا .
وَقَالُوا : لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ ، وَالْإِحْلَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِلْكِ الْمُتْعَةِ .
وَمَا

ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ هَاهُنَا فِي شَرْحِهِ لِلْكَنْزِ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ مُنَاقِضٍ لِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّ النِّكَاحَ تَمْلِيكٌ ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ نَفْسَهُ أَيْضًا صَرَّحَ فِي أَوَّلِ النِّكَاحِ بِأَنَّهُ عَقْدٌ يَرِدُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمُتْعَةِ قَصْدًا وَمُخَالِفٌ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الِاعْتِيَاضَ لَا يَجُوزُ فِي الْإِبَاحَةِ ، فَإِنَّ مَنْ أَبَاحَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِمَّا يُعْتَدُّ بِهِ وَيُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمَزْبُورِ : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ مِنْ قَوْلِهِ النِّكَاحُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ بَلْ هُوَ إبَاحَةٌ مُخَالِفٌ لِمَا سَبَقَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ مِنْ أَنَّهُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِبَاحَةِ .
ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ كَلَامَيْهِ تَدَافُعًا ، فَإِنَّ مَدَارَ الْأَوَّلِ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ الزَّيْلَعِيُّ ، وَمُقْتَضَى الثَّانِي عَدَمُ صِحَّتِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا تَقَرَّرَ فِيمَا سَبَقَ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي دَفْعِ تَنَاوُلِ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ لِلنِّكَاحِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ النِّكَاحِ : وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ فِي الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي ، وَالشُّرَّاحُ هُنَاكَ : وَعَنْ الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ حَقِيقَةٌ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ فِي النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَهُوَ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ مُشَاكِلٌ لِلْإِجَارَةِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ إلَّا مُؤَبَّدًا ، وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَقَّتَةً فَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَأَنَّى تَصِحُّ الِاسْتِعَارَةُ ؟

.
انْتَهَى كَلَامُهُمْ .
فَإِذَا كَانَ الْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ حَتَّى لَمْ يَصِحَّ بِذَلِكَ جَعْلُ لَفْظِ الْإِجَارَةِ اسْتِعَارَةً لِلنِّكَاحِ لَمْ يَتَنَاوَلْ تَعْرِيفَ الْإِجَارَةِ بِأَنَّهَا عَقْدٌ عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ، أَوْ بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ لِلنِّكَاحِ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ عَقْدٌ عَلَى مَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ حَتَّى يَخْرُجَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُبْطِلُهُ .
ا هـ .
أَقُولُ : وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ كَذَلِكَ يَخْرُجُ مِنْ التَّعْرِيفِ كَثِيرٌ مِنْ الْإِجَارَاتِ كَمَا يَخْرُجُ النِّكَاحُ ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْإِجَارَاتِ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ لِلسُّكْنَى ، وَالْأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ ، وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ ، وَالْإِشَارَةِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ ؛ لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ ، وَتَعْيِينُ الْمُدَّةِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ دُونَ الْقِسْمَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْهَا ، فَتَخْرُجُ الْإِجَارَاتُ الْمُنْدَرِجَةُ تَحْتَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ مِنْ تَعْرِيفِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَيَخْتَلُّ قَطْعًا .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ ) قَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ : قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ وَهِيَ مَا أَعْطَيْت مِنْ كِرَاءِ الْأَجِيرِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
قُلْتُ : قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ عَنْ قَرِيبٍ أَنَّ الْإِجَارَةَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا فَيَسْتَقِيمُ الْكَلَامُ .
ا هـ .
أَقُولُ : النَّظَرُ الْمَزْبُورُ ظَاهِرُ الْوُرُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْإِجَارَةَ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ لَا أَمْرٌ آخَرُ ، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ

بَيْعُ الْمَنَافِعِ الْإِيجَارُ ، وَقَدْ كَانَ هَذَا خَطِرَ بِبَالِي حَتَّى كَتَبْتُهُ فِي مُسْوَدَّاتِي مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَرَى مَا كَتَبَهُ غَيْرِي .
وَأَمَّا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ قُلْتُ قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ عَنْ قَرِيبٍ إلَخْ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ قَدْ بَيَّنْتُ لَكَ إلَخْ مَا ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرًا مِنْهُ كَمَا تَقُولُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابَةً بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ جَمْعُ إجَارَةٍ عَلَى فِعَالَةٍ بِالْكَسْرِ اسْمُ لِلْأَجْرِ بِمَعْنَى الْأُجْرَةِ ، مِنْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أَجْرَهُ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ .
إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ مَصْدَرَ الثُّلَاثِيِّ سَمَاعِيٌّ لَا قِيَاسَ فِيهِ ، فَكَوْنُ الْكِتَابَةِ مَصْدَرًا مِنْ كَتَبَ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِجَارَةِ أَيْضًا مَصْدَرًا مِنْ أَجَرَ ، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ سُمِعَتْ مَصْدَرًا مِنْ كَتَبَ ، وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَمْ تُسْمَعْ مَصْدَرًا قَطُّ .
وَالْكَلَامُ فِيمَا سُمِعَ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا فِي الِاحْتِمَالِ الْعَقْلِيِّ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ سُلِّمَ مَجِيءُ الْإِجَارَةِ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرًا مِنْ أَجَرَهُ إذَا أَعْطَاهُ أَجْرَهُ كَمَجِيءِ الْأَجْرِ مَصْدَرًا مِنْهُ لَمْ يَسْتَقِمْ الْكَلَامُ أَيْضًا ، إذْ لَا تَكُونُ الْإِجَارَةُ حِينَئِذٍ أَيْضًا فِي اللُّغَةِ بَيْعَ الْمَنَافِعِ بَلْ تَكُونُ إعْطَاءَ الْأَجْرِ ، وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : إنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ فَلَا اسْتِقَامَةَ ، ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ هَاهُنَا : بَيَّنَ الْمَفْهُومَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ اللُّغَوِيِّ ؛ لِأَنَّ اللُّغَوِيَّ هُوَ الشَّرْعِيُّ بِلَا مُخَالَفَةٍ ، وَهُوَ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا فَالشَّرْعِيُّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ .
ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّتِهَا لَوْ تَمَّ لَاقْتَضَى تَقْدِيمَ الْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ عَلَى الْمَفْهُومِ

اللُّغَوِيِّ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مُوَافِقًا لِلْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ أَوْ مُخَالِفًا لَهُ ، مَعَ أَنَّ دَأَبَ الْمُصَنَّفِينَ عَنْ آخِرِهِمْ جَرَى عَلَى تَقْدِيمِ بَيَانِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ عَلَى بَيَانِ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ لِكَوْنِ اللُّغَوِيِّ هُوَ الْأَصْلَ الْمُتَقَدِّمَ ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي هَاهُنَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ سَلَكَ مَسْلَكَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْإِجَارَةِ فِي الشَّرْعِ عَقْدًا عَلَى الْمَنَافِعِ بِعِوَضٍ ، وَلَكِنْ طَوَى الصُّغْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجَارَةِ فِي الشَّرْعِ هُوَ مَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ .
وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ بَيْعُ الْمَنَافِعِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَسْلَكَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ مَفْهُومِهَا الشَّرْعِيِّ بِنَاءً عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُدَّعَى عَلَى الدَّلِيلِ ، تَدَبَّرْ فَإِنَّهُ وَجْهٌ حَسَنٌ .
( قَوْلُهُ : إلَّا أَنَّا جَوَّزْنَاهُ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ وَقَدْ شَهِدَتْ بِصِحَّتِهِ الْآثَارُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لِحَاجَةِ النَّاسِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ .
ا هـ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ قُصُورٌ ، إذْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا جُوِّزَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ ، وَمِنْ قَوْلِهِ فَكَانَ اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ أَنْ يَنْحَصِرَ دَلِيلُ شَرْعِيَّتِهَا فِي الْأَثَرِ وَإِلَّا لَمْ تَكُنْ فَائِدَةٌ فِي ذِكْرِ قَيْدِ الْأَثَرِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُنْحَصِرٍ فِي الْأَثَرِ بَلْ الْكِتَابُ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } وَكَذَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَيْهَا كَمَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، بِخِلَافِ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ .
( قَوْلُهُ : وَهِيَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ } ) قَالَ الشُّرَّاحُ : فَإِنَّ الْأَمْرَ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّتِهِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : سَيَأْتِي فِي بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَجْرُ الْمِثْلِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَاجِبَ الشَّرْعِيَّ مَأْمُورٌ بِإِعْطَائِهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرْعِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ بِإِعْطَائِهِ الْأَجْرَ دَلِيلَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : وَقَعَ الْأَمْرُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْمُضَافِ إلَى الْأَجِيرِ حَيْثُ قَالَ { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ } وَذَلِكَ يُفِيدُ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْأَجْرِ الْمَأْمُورِ بِإِعْطَائِهِ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى لِلْأَجِيرِ دُونَ أَجْرِ الْمِثْلِ مُطْلَقًا ، وَالْأَمْرُ بِإِعْطَاءِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى لِلْأَجِيرِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ تَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا بُدَّ أَنْ يُتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ ، فَإِنَّ الِانْعِقَادَ هُوَ ارْتِبَاطُ الْقَبُولِ بِالْإِيجَابِ ، فَإِذَا حَصَلَ الِارْتِبَاطُ بِإِقَامَةِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ يَتَحَقَّقُ الِانْعِقَادُ ، فَأَيُّ مَعْنًى لِلِانْعِقَادِ سَاعَةً فَسَاعَةً بَعْدَ ذَلِكَ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : جَوَابُ هَذَا الْإِشْكَالِ يَنْكَشِفُ جِدًّا بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : وَالْمُرَادُ مِنْ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ سَاعَةً فَسَاعَةً فِي كَلَامِ مَشَايِخِنَا عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ هُوَ عَمَلُ الْعِلَّةِ وَنَفَاذُهَا فِي الْمَحَلِّ سَاعَةً فَسَاعَةً لَا ارْتِبَاطُ الْإِيجَابِ بِالْقَبُولِ كُلَّ سَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمَشَايِخِ يُوهِمُ ذَلِكَ .
وَالْحُكْمُ تَأَخَّرَ مِنْ زَمَانِ انْعِقَادِ الْعِلَّةِ إلَى حُدُوثِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ قَابِلٌ لِلتَّرَاخِي كَمَا فِي

الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ .
وَفَسَّرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ : اللَّفْظَانِ الصَّادِرَانِ مِنْهُمَا مُضَافَيْنِ إلَى مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ الدَّارُ صَحَّا كَلَامًا ، وَهُوَ عَقْدُ بَيْنِهِمَا ، إذْ الْعَقْدُ فِعْلُهُمَا وَلَا فِعْلَ يَصْدُرُ مِنْهُمَا سِوَى تَرْتِيبِ الْقَبُولِ عَلَى الْإِيجَابِ ، ثُمَّ لِانْعِقَادِ حُكْمِ الشَّرْعِ يَثْبُتُ وَصْفًا لِكَلَامَيْهِمَا شَرْعًا ، وَالْعِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مُغَايِرَةٌ لِلْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَنْفَكَّ عَنْ مَعْلُولَاتِهَا ، فَجَازَ أَنْ يُقَالَ : الْعَقْدُ وُجِدَ وَأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامَيْهِمَا ، وَالِانْعِقَادُ تَرَاخَى إلَى وُجُودِ الْمَنَافِعِ سَاعَةً فَسَاعَةً ، بِخِلَافِ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ .
فَإِنَّ الِانْكِسَارَ لَا يَصِحُّ انْفِكَاكُهُ عَنْ الْكَسْرِ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ .
فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْمُسْتَشْكِلَ لَمْ يَرَ هَذَا الْكَلَامَ أَوْ لَمْ يَقْنَعْ بِهِ ، وَكِلَاهُمَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ شَرْحِ قَوْلِهِ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ رُجُوعُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ فِيهَا ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ شَهْرًا مَثَلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ بِلَا عُذْرٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ، وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ إلْزَامًا لِلْعَقْدِ فِي الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ تَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَحَقَّقَ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ الْمُعَيَّنِ كُلِّهِ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الدَّارِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ إضَافَةِ الْعَقْدِ لِيَرْتَبِطَ الْإِيجَابُ بِالْقَبُولِ لَمْ يَظْهَرْ مَعْنَى قَوْلِهِمْ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ

حُدُوثِ الْمَنَافِعِ ، إذْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ تَنْعَقِدَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى ، وَهِيَ سَاعَةُ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ ، وَالْقَبُولِ وَارْتِبَاطُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الِانْعِقَادُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الْإِقَامَةِ بَلْ حَصَلَ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِمْ يُرَدُّ السُّؤَالُ الْمُقَدَّرُ الْمَزْبُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ وَتَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً ، وَلَا يَتِمُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ .
وَالدَّارُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَخْ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ ، بَلْ يَحْتَاجُ إلَى جَوَابٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ الْجَوَابَ عَنْ السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ ، بَلْ مُرَادُهُ بِهِ تَوْجِيهُ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْمَنَافِعِ الْمَعْدُومَةِ عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا كَمَا فَصَّلَ فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ ، سِيَّمَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : بَيَانُ مَا قُلْنَا هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَحَلٍّ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ لَا تَصِحُّ بِلَا مَحَلٍّ ، وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ : الْمَحَالُّ شُرُوطٌ ، وَمَحَلُّ الْعَقْدِ هَاهُنَا هِيَ الْمَنَافِعُ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ ، وَلَا يَصْلُحُ الْمَعْدُومُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ فَجُعِلَتْ الدَّارُ مَحَلًّا لِلْعَقْدِ بِإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْمَنَافِعِ الَّتِي سَتُوجَدُ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ مَحَلُّ الْمَنَافِعِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ حَتَّى يَرْتَبِطَ الْكَلَامَانِ وَهُمَا الْإِيجَابُ ، وَالْقَبُولُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونَانِ عِلَّةً صَالِحَةً فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ وَهُوَ مِلْكُ الْمَنَافِعِ الَّتِي سَتُوجَدُ .
انْتَهَى فَتَدَبَّرْ .

( وَلَا تَصِحُّ حَتَّى تَكُونَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً ، وَالْأُجْرَةُ مَعْلُومَةً ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَدَلِهِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فِي الْبَيْعِ ( وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً فِي الْإِجَارَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ ، فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ .
وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ .
فَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَنْفِي صَلَاحِيَّةَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَالِيٌّ ( وَالْمَنَافِعُ تَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْمُدَّةِ كَاسْتِئْجَارِ الدُّورِ ، لِلسُّكْنَى وَالْأَرْضِينَ لِلزِّرَاعَةِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ ) ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً كَانَ قَدْرُ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا مَعْلُومًا إذَا كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ .
وَقَوْلُهُ أَيِّ مُدَّةٍ كَانَتْ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ لِكَوْنِهَا مَعْلُومَةً وَلِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا عَسَى ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَوْقَافِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ الطَّوِيلَةُ كَيْ لَا يَدَّعِيَ الْمُسْتَأْجِرُ مِلْكَهَا وَهِيَ مَا زَادَ عَلَى ثَلَاثِ سِنِينَ هُوَ الْمُخْتَارُ .
قَالَ : ( وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِنَفْسِهِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا عَلَى صَبْغِ ثَوْبِهِ أَوْ خِيَاطَتِهِ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً ؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا أَوْ يَرْكَبَهَا مَسَافَةً سَمَّاهَا ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ الثَّوْبَ وَلَوْنَ الصَّبْغِ وَقَدْرَهُ وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ وَالْقَدْرَ الْمَحْمُولَ وَجِنْسَهُ وَالْمَسَافَةَ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، وَرُبَّمَا يُقَالُ : الْإِجَارَةُ قَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَعْلُومًا وَذَلِكَ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَقَدْ تَكُونُ عَقْدًا عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي أَجِيرِ الْوَحْدِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَقْتِ .
قَالَ : ( وَتَارَةً تَصِيرُ

الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا ، لِيَنْقُلَ لَهُ هَذَا الطَّعَامَ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَاهُ مَا يَنْقُلُهُ وَالْمَوْضِعَ الَّذِي يَحْمِلُ إلَيْهِ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَيَصِحُّ الْعَقْدُ .

( قَوْلُهُ : وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ ) أَيْ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحَيَوَانِ ، وَالثِّيَابِ مَثَلًا ، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً صَلُحَ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةً كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِثَوْبٍ مُعَيَّنٍ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الْأَمْوَالَ ثَلَاثَةٌ : ثَمَنٌ مَحْضٌ كَالدَّرَاهِمِ وَمَبِيعٌ مَحْضٌ كَالْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا كَالْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْمُقَايَضَةَ بَيْعٌ وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْعَيْنُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْعَيْنُ ثَمَنًا كَانَتْ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ ، وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ النَّظَرَ عَلَى الْمِثَالِ لَيْسَ مِنْ دَأَبِ الْمُنَاظِرَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ صَحِيحًا جَازَ أَنْ يُمَثَّلَ بِمِثَالٍ آخَرَ فَلْيُمَثَّلْ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ أُجْرَةً إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنَافِعِ .
كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ سُكْنَى دَارٍ بِرَكُوبِ دَابَّةٍ وَلَا تَصْلُحُ ثَمَنًا أَصْلًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا النَّظَرُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ هَاهُنَا مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، وَعَنْ هَذَا تَرَى صَاحِبَ الْكَافِي وَكَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ يَقُولُونَ بَعْدَ قَوْلِهِمْ : لِأَنَّ الْأُجْرَةَ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَيَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمَالِ .
وَأَمَّا الثَّمَنُ فَهُوَ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ .
وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الثَّمَنَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ لَأَنْ تَكُونَ ثَمَنًا بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلَا فِي عَدَمِ بُطْلَانِ أَنْ تَكُونَ الْمُقَايَضَةُ بَيْعًا

بِلَا ثَمَنٍ بِهَذَا الْمَعْنَى ، أَلَا يُرَى أَنَّ الشَّارِحَ الْمَذْكُورَ نَفْسَهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ : وَأَنْوَاعُ الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ : بَيْعُ السِّلْعَةِ بِمِثْلِهَا وَيُسَمَّى مُقَايَضَةً ، وَبَيْعُهَا بِالدَّيْنِ أَعْنِي الثَّمَنَ ، وَبَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ كَبَيْعِ النَّقْدَيْنِ وَيُسَمَّى الصَّرْفَ ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ ، وَيُسَمَّى سَلَمًا انْتَهَى .
حَيْثُ جَعَلَ الدَّيْنَ مُقَابِلًا لِلْعَيْنِ ، وَفَسَّرَ الدَّيْنَ بِالثَّمَنِ ، وَجَعَلَ أَحَدَ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُقَايَضَةِ مَا لَا ثَمَنَ فِيهِ أَصْلًا .
نَعَمْ لِلثَّمَنِ مَعْنًى آخَرُ وَهُوَ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْمَبِيعِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَعُمُّ الدَّيْنَ ، وَالْعَيْنَ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ ، وَيَبْطُلُ كَوْنُ الْمُقَايَضَةِ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ بِذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ ، فَلَا يُرَدُّ النَّظَرُ الْمَزْبُورُ عَلَيْهِ جِدًّا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ إذْ فِيهِ اعْتِرَافٌ بِبُطْلَانِ الْمِثَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاشَا لَهُ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالثَّمَنِ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا هُوَ مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، وَأَنَّ تَمْثِيلَهُ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا بِقَوْلِهِ كَالْأَعْيَانِ صَحِيحٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْمُرَادِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَحْمِلْ الثَّمَنَ الْوَاقِعَ فِي لَفْظِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَعُمُّ الدَّيْنَ ، وَالْعَيْنَ ، وَهُوَ الْعِوَضُ الْمُقَابِلُ لِلْمَبِيعِ كَمَا حَمَلَ الزَّيْلَعِيُّ الثَّمَنَ الْوَاقِعَ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْكَنْزِ ، وَمَا صَحَّ ثَمَنًا صَحَّ أُجْرَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الْأَعَمِّ ، مَعَ أَنَّ مَا

ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ يَتَحَمَّلُ التَّعْمِيمَ لِصُورَتَيْ الدَّيْنِ ، وَالْعَيْنِ كَمَا تَرَى .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الثَّمَنِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ مَعْنَى مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَكَانَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ غَيْرَ مُوَفٍّ حَقَّ الْمَقَامِ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَعْنَى الْآخَرِ الْعَامِّ لِلْعَيْنِ أَيْضًا فَإِنَّ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِلْعَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ أَصْلًا وَتَصْلُحُ أُجْرَةً فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنَافِعِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
حَمَلَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَ الثَّمَنِ الْوَاقِعِ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ عَلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ وَقَالَ : تَتْمِيمًا لِهَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ وَمَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَيْضًا كَالْأَعْيَانِ ، كَمَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْحَدِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تَكُونُ أَثْمَانًا وَتَكُونُ أُجْرَةً ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْغَالِبُ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
وَلَكِنَّ الْإِنْصَافَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ كَانَتْ حَقِيقًا بِأَنْ تُذْكَرَ فِي تَمْثِيلِ مَا لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا وَيَصْلُحُ أُجْرَةً ، فَإِنَّ كَوْنَ الْمَنْفَعَةِ مِمَّا يَصْلُحُ أُجْرَةً أَخْفَى مِنْ كَوْنِ الْأَعْيَانِ مِنْهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ ، بِخِلَافِ كَوْنِ الْأَعْيَانِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَفَادَ مِنْهَا بِحَمْلِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَعْنَى الْعَامِّ لِلْعَيْنِ أَيْضًا كَمَا عَرَفْتَ آنِفًا ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ عِوَضٌ مَالِيٌّ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَجْرِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَيُعْتَمَدُ وُجُودُ الْمَالِ

، وَالْأَعْيَانَ مَالٌ فَتَصِحُّ أَنْ تَكُونَ أُجْرَةً ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَمَا شَرَحَ الْمَحَلَّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ الثَّمَنُ عِوَضٌ مَالِيٌّ إلَخْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الثَّمَنَ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فَيَخْتَصُّ بِذَلِكَ كَالنُّقُودِ ، وَالْمُقَدَّرَاتِ الْمَوْصُوفَةِ الَّتِي تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ كَانَتْ الْأُجْرَةُ أَيْضًا مَشْرُوطَةً بِكَوْنِهَا ثَمَنَ الْمَنْفَعَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْمَشْرُوطَ بِذَلِكَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ لَا ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ .
قُلْنَا : فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ مُخَالِفًا لِثَمَنِ الْمَبِيعِ فِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَشْرُوطًا بِشَيْءٍ دُونَ الْآخَرِ ، فَهَلْ يَتِمُّ الْقِيَاسُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ثَمَنُ الْمَنْفَعَةِ فَتُعْتَبَرُ بِثَمَنِ الْمَبِيعِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فَيَلْزَمُ خُلُوُّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ فِيمَا إذَا بِيعَ الدَّارُ بِالدَّارِ ، إذْ لَا يَجِبُ الْعَقَارُ فِي الذِّمَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى ا هـ .
أَقُولُ : إنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُجَرَّدَ إلْزَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ فِي نَظَرِهِ السَّابِقِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَصْلُحْ الْعَيْنُ ثَمَنًا كَانَتْ الْمُقَايَضَةُ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ بَاطِلٌ فَلَهُ وَجْهٌ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِهِ إيرَادَ إشْكَالٍ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ اللَّازِمُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ خُلُوُّ الْبَيْعِ عَنْ الثَّمَنِ بِمَعْنَى مَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ فِيمَا إذَا بِيعَ الدَّارُ بِالدَّارِ لَا خُلُوُّهُ عَنْ الثَّمَنِ بِمَعْنَى الْعِوَضِ

الْمُقَابِلِ لِلْمَبِيعِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ، وَالْمَحْذُورُ خُلُوُّهُ عَنْ الثَّمَنِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي دُونَ الْمَعْنَى الْأَوَّلِ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ( قَوْلُهُ : وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِنَفْسِهِ ) أَيْ بِنَفْسِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، كَذَا ذَكَرَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً وَلَمْ يَنْقُلْ عَامَّتُهُمْ نُسْخَةً أُخْرَى .
وَأَمَّا صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ : وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ : وَتَارَةً تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالتَّسْمِيَةِ .
أَقُولُ : لَعَلَّ الصَّوَابَ هَذِهِ النُّسْخَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي هَذَا النَّوْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَطْ ، بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِتَسْمِيَةِ أُمُورٍ كَبَيَانِ الثَّوْبِ وَأَلْوَانِ الصَّبْغِ وَقَدْرِهِ فِي اسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ وَبَيَانِ الثَّوْبِ وَجِنْسِ الْخِيَاطَةِ فِي اسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ وَبَيَانِ الْقَدْرِ الْمَحْمُولِ وَجِنْسِهِ ، وَالْمَسَافَةِ فِي اسْتِئْجَارِ رَجُلٍ دَابَّةً لِلْحَمْلِ أَوْ الرُّكُوبِ عَلَى مَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ الثَّوْبَ وَأَلْوَانَ الصَّبْغِ وَقَدْرَهُ وَجِنْسَ الْخِيَاطَةِ ، وَالْقَدْرَ الْمَحْمُولِ وَجِنْسَهُ ، وَالْمَسَافَةَ صَارَتْ الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومَةً فَصَحَّ الْعَقْدُ ، فَكَمَا أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي النَّوْعِ السَّابِقِ ، وَالنَّوْعِ اللَّاحِقِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَطْ بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي النَّوْعِ السَّابِقِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَفِي النَّوْعِ اللَّاحِقِ بِالتَّعْيِينِ وَالْإِشَارَةِ ، كَذَلِكَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِي هَذَا النَّوْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَطْ ، بَلْ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً فِيهِ بِتَسْمِيَةِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ الْأُمُورِ اللَّازِمَةِ الْبَيَانِ كَمَا أُشِيرَ إلَى بَعْضِهَا فِي الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِنِسْبَةِ صَيْرُورَةِ الْمَنَافِعِ مَعْلُومَةً فِي هَذَا النَّوْعِ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَجْهٌ ظَاهِرٌ .
وَعَنْ هَذَا لَا تَرَى عِبَارَةَ بِنَفْسِهِ مَذْكُورَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78