كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، مَعَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ لَا تَحْصُلُ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ خَصَّ السَّكَرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايِرَةِ ) أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ خَصَّ السَّكَرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ قَصْرُ التَّحْرِيمِ عَلَى السَّكَرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ دَاخِلَةً عَلَى الْمَقْصُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ خَصَصْت فُلَانًا بِالذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ ؛ إذْ هُوَ الْمُفِيدُ لِمُدَّعَاهُمَا هَا هُنَا دُونَ الْعَكْسِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَسْكَةٍ ، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَقْتَضِي حِلَّ الْمُثَلَّثِ يَقْتَضِي أَيْضًا حِلَّ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الثَّلَاثَةِ غَيْرِ الْخَمْرِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لُزُومًا وَبُطْلَانًا ، عَلَى أَنَّ اسْتِفَادَةَ قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى السَّكَرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ مَنْطُوقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُشْكِلٌ ، وَاسْتِفَادَتُهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا ) فَإِنْ قِيلَ : الْقَدَحُ الْأَخِيرُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْكِرًا بِمَا تَقَدَّمَهُ لَا بِانْفِرَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا قُلْنَا : لَمَّا وُجِدَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا ، كَذَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَوْلَى ، وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ا هـ أَقُولُ : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَجْمُوعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ اسْمًا وَلَا
مَعْنًى وَلَا حُكْمًا ؛ إذْ الْعِلَّةُ اسْمًا مَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَالْعِلَّةُ مَعْنًى مَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ ، وَالْعِلَّةُ حُكْمًا مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْحُكْمُ ، وَلَا يَتَرَاخَى عَنْهُ كَمَا عُرِفَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَيْسَ بِصِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ لَا يَقْدَحُ فِي مَطْلُوبِنَا هُنَا ، إذْ لَا نُنْكِرُ حُرْمَةَ مَجْمُوعِ الْأَقْدَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ عِنْدَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ حُرْمَةَ مَا قَبْلَ الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ بِانْفِرَادِهِ نَعَمْ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ أَوْلَى أَمْ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَحْدَهُ ؟ وَالظَّاهِرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ عِلَّةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا ، لَكِنَّ الْفَاضِلَ التَّفْتَازَانِيَّ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ : ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ ، وَيَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَالْمَنِّ الْأَخِيرِ فِي أَثْقَالِ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ انْتَهَى وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا : أَيْ كَمَا أَنَّهُ عِلَّةٌ مَعْنًى وَحُكْمًا فَيَنْتَظِمُ أَمْرُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ وَحْدَهُ بِلَا غُبَارٍ ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : الْحَرَامُ هُوَ الْمُسْكِرُ ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازٌ ، وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةٌ ، وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى ؛ إذْ لَيْسَ الْكَلَامُ هَا هُنَا فِي
إطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسْكِرِ عَلَى شَيْءٍ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيدَ التَّشْبِيثَ بِرُجْحَانِ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ شَيْئًا بَلْ إنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْلِ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ : أَيْ الْمُزِيلُ لِلْعَقْلِ سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْكِرِ حَقِيقَةً أَمْ لَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْدَاحِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْقَدَحَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ لَا غَيْرَ وَبِالْجُمْلَةِ مَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ هَا هُنَا عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ إزَالَةُ الْعَقْلِ دُونَ اللَّفْظِ ، فَلَمَّا وَرَدَ السُّؤَالُ بِأَنَّ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ بِانْفِرَادِهِ بَلْ بِمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْدَاحِ مَدْخَلٌ أَيْضًا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ أَيْضًا لَمْ يُفِدْ أَنْ يُقَالَ : إنَّ لَفْظَ الْمُسْكِرِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازًا وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةً شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ } وَمَحَلُّهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ ؛ إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ : إطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ وَمَا تَقَدَّمَهُ مَجَازٌ بِلَا شُبْهَةٍ وَأَمَّا إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا انْتَهَى أَقُولُ : وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذَا كَانَ مَجَازًا بِلَا شُبْهَةٍ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً ، فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِمَّا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَمِمَّا هُوَ
مَجَازٌ فِيهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ ، وَالْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِمَّا وُضِعَتْ لَهُ وَمِمَّا لَمْ تُوضَعْ لَهُ لَيْسَ مِمَّا وُضِعَتْ لَهُ قَطْعًا وَلَوْ سُلِّمَ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ حَقِيقَةً فَلَا يَضُرُّنَا ؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ مُسْكِرًا كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أَيْضًا مُسْكِرًا حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَرَامًا أَيْضًا تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمُهُ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي كَوْنَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةً ، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْخَمْرَ عَيْنُهُ حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا ، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } فَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ : وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا } الْحَدِيثَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَتَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا وَلَمْ يَفْعَلْ كَأَنَّهُ اكْتَفَى بِمُعَارَضَةِ مَا رَوَاهُ لَهُمَا انْتَهَى أَقُولُ : تَوْجِيهُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا الْخَصْمُ
عَلَى حُرْمَةِ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ ، وَدَلَالَةُ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى حِلِّ قَلِيلِ ذَلِكَ إنَّمَا هِيَ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ أَوْ الِاقْتِضَاءِ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ وَاقْتِضَائِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، فَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِمُعَارَضَةِ مَا رَوَاهُ لَهُمَا الْمُعَارَضَةَ الْمُوجِبَةَ لِلتَّسَاقُطِ ، وَهِيَ الْمُعَارَضَةُ بِدُونِ الرُّجْحَانِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْمُعَارَضَةَ مَعَ الرُّجْحَانِ فِي جَانِبِ الْحَدِيثَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا الْخَصْمُ فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ بَلْ مُخِلٍّ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْمَاءَ يَذْهَبُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ أَوْ يَذْهَبُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : قَوْلُهُ أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ انْتَهَى أَقُولُ : مَدَارُ هَذَا الْبَحْثِ عَلَى عَدَمِ فَهْمِ مُرَادِ الشَّارِحِ ، فَإِنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ : أَيْ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ تَقْيِيدُ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَلَا يَكُونُ الذَّاهِبُ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا تَقْيِيدَ النَّفْيِ فَالْمَعْنَى أَنَّ ذَهَابَ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ لَا يَكُونُ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ ثُلُثَيْ مَاءِ الْعِنَبِ لَا يَكُونُ عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ ذَهَابَهُمَا الْقَطْعِيَّ لَمْ يَثْبُتْ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ ذَهَابِهِمَا قَطْعِيٌّ ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ ذَهَابُهُمَا عَلَى الْقَطْعِ وَالْبَتَاتِ بَلْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْهُمَا بِأَنْ يَذْهَبَ الْمَاءُ أَوَّلًا لِلَطَافَتِهِ قُلْنَا بِحُرْمَةِ شُرْبِ ذَلِكَ الْعَصِيرِ احْتِيَاطًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَلَا مَحَلَّ لِلْبَحْثِ الْمَذْكُورِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ تَعَلُّقِ الْقَيْدِ بِالنَّفْيِ
وَبَيْنَ تَعَلُّقِهِ بِالْمَنْفِيِّ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ أَصْلٌ كَبِيرٌ قَدْ نُبِّهَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ
وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لِأَنَّ التَّمْرَ إنْ كَانَ يُكْتَفَى فِيهِ بِأَدْنَى طَبْخَةٍ فَعَصِيرُ الْعِنَبِ لَا بُدَّ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ الْعِنَبِ احْتِيَاطًا ، وَكَذَا إذَا جُمِعَ بَيْنَ عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ التَّمْرِ لِمَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَلَنَا فِي قَوْلِهِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مَاءَ الزَّبِيبِ كَمَاءِ التَّمْرِ يُكْتَفَى فِيهِمَا بِأَدْنَى طَبْخَةٍ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقُدُورِيُّ قَبْلَ هَذَا وَهُوَ قَوْلُهُ : وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ انْتَهَى أَقُولُ : وَقَوْلُ الْقُدُورِيِّ بَعْدَهُ : وَلَا بَأْسَ بِالْخَلِيطَيْنِ أَظْهَرُ فِي تَرْوِيجِ نَظَرِ صَاحِبِ الْغَايَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَنَبِيذُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا طُبِخَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَدْنَى طَبْخَةٍ حَلَالٌ وَإِنْ اشْتَدَّ ؛ إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الِاجْتِمَاعِ مَا لَا يَكُونُ فِي الِانْفِرَادِ ، فَلَا يَسْتَلْزِمُ الْحِلَّ فِي الثَّانِي الْحِلُّ فِي الْأَوَّلِ وَقَدْ تَشَبَّثَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي تَرْوِيجِ نَظَرِهِ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَوْلِهِ الثَّانِي ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي فَهِمَ رَكَاكَةً فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا حَيْثُ غَيَّرَ عِبَارَتَهُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ فَقَالَ : وَلَوْ جُمِعَ فِي الطَّبْخِ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ أَوْ بَيْنَ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ بِالطَّبْخِ مِنْهُ ثُلُثَاهُ انْتَهَى وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَقَعَ لَفْظُ التَّمْرِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ بَدَلَ لَفْظِ الْعِنَبِ سَهْوًا مِنْ نَفْسِ الْمُصَنِّفِ أَوْ مِنْ النَّاسِخِ الْأَوَّلِ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى نَوْعُ قُصُورٍ فِي التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَا هُنَا عَنْ إفَادَةِ الْمُدَّعَى فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، إذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالزَّبِيبِ فِي التَّعْلِيلِ قَطُّ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ وَجَّهَ مَا وَقَعَ فِي نُسَخِ الْهِدَايَةِ هَا هُنَا حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ
إنَّهُ يَكْتَفِي فِيهِمَا بِأَدْنَى طَبْخَةٍ قُلْت : إنَّ هَذَا عَلَى مَا رَوَى هِشَامٌ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ بِالطَّبْخِ انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الْعَيْنِيُّ قُلْت : وَيُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَإِذَا طُبِخَ الزَّبِيبُ أَدْنَى طَبْخَةٍ فَهُوَ النَّبِيذُ ، وَيَحِلُّ شُرْبُهُ مَا دَامَ حُلْوًا ، وَأَمَّا إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَحِلُّ الشُّرْبُ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَحِلُّ وَرَوَى هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ الثُّلُثَانِ بِالطَّبْخِ لَا يَحِلُّ انْتَهَى ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ طُبِخَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَدْنَى طَبْخَةٍ ثُمَّ أُنْقِعَ فِيهِ تَمْرٌ أَوْ زَبِيبٌ ، إنْ كَانَ مَا أَنْقَعَ فِيهِ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ يُتَّخَذُ النَّبِيذُ مِنْ مِثْلِهِ لَمْ يَحِلَّ كَمَا إذَا صُبَّ فِي الْمَطْبُوخِ قَدَحٌ مِنْ النَّقِيعِ وَالْمَعْنَى تَغْلِيبُ جِهَةِ الْحُرْمَةِ ، وَلَا حَدَّ فِي شُرْبِهِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ لِلْحَدِّ فِي دَرْئِهِ .
وَلَوْ طُبِخَ الْخَمْرُ أَوْ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاشْتِدَادِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يَحِلَّ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَدْ تَقَرَّرَتْ فَلَا تَرْتَفِعُ بِالطَّبْخِ .
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْعِيَةِ { فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ وَلَا تَشْرَبُوا الْمُسْكِرَ } وَقَالَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا أَخْبَرَ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ فَكَانَ نَاسِخًا لَهُ ، وَإِنَّمَا يُنْتَبَذُ فِيهِ بَعْدَ تَطْهِيرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْوِعَاءُ عَتِيقًا يُغْسَلُ ثَلَاثًا فَيَطْهُرُ ، وَإِنْ كَانَ جَدِيدًا لَا يَطْهُرُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِتَشَرُّبِ الْخَمْرِ فِيهِ بِخِلَافِ الْعَتِيقِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُغْسَلُ ثَلَاثًا وَيُجَفَّفُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَا لَا يَنْعَصِرُ بِالْعَصْرِ ، وَقِيلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : يُمْلَأُ مَاءً مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى ، حَتَّى إذَا خَرَجَ الْمَاءُ صَافِيًا غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ يُحْكَمُ بِطَهَارَتِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا تَخَلَّلَتْ الْخَمْرُ حَلَّتْ سَوَاءٌ صَارَتْ خَلًّا بِنَفْسِهَا أَوْ بِشَيْءٍ يُطْرَحُ فِيهَا ، وَلَا يُكْرَهُ تَخْلِيلُهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُكْرَهُ التَّخْلِيلُ وَلَا يَحِلُّ الْخَلُّ الْحَاصِلُ بِهِ إنْ كَانَ التَّخْلِيلُ بِإِلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهِ فَلَهُ فِي الْخَلِّ الْحَاصِلِ بِهِ قَوْلَانِ لَهُ أَنَّ فِي التَّخْلِيلِ اقْتِرَابًا مِنْ الْخَمْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَوُّلِ ، وَالْأَمْرُ بِالِاجْتِنَابِ يُنَافِيه وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ } وَلِأَنَّ بِالتَّخْلِيلِ يَزُولُ الْوَصْفُ الْمُفْسِدُ وَتَثْبُتُ صِفَةُ الصَّلَاحِ مِنْ حَيْثُ تَسْكِينُ الصَّفْرَاءِ وَكَسْرُ الشَّهْوَةِ ، وَالتَّغَذِّي بِهِ وَالْإِصْلَاحُ مُبَاحٌ ، وَكَذَا الصَّالِحُ لِلْمَصَالِحِ اعْتِبَارًا بِالْمُتَخَلِّلِ بِنَفْسِهِ وَبِالدِّبَاغِ وَالِاقْتِرَابِ لِإِعْدَامِ الْفَسَادِ فَأَشْبَهَ الْإِرَاقَةَ ، وَالتَّخْلِيلُ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْرَازِ مَالٍ يَصِيرُ حَلَالًا فِي الثَّانِي فَيَخْتَارُهُ مَنْ اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَإِذَا صَارَ الْخَمْرُ خَلًّا يَطْهُرُ مَا يُوَازِيهَا مِنْ الْإِنَاءِ ، فَأَمَّا أَعْلَاهُ وَهُوَ الَّذِي نَقَصَ مِنْهُ الْخَمْرُ قِيلَ يَطْهُرُ تَبَعًا وَقِيلَ لَا يَطْهُرُ ؛ لِأَنَّهُ خَمْرٌ يَابِسٌ إلَّا إذَا غُسِلَ بِالْخَلِّ فَيَتَخَلَّلُ مِنْ سَاعَتِهِ فَيَطْهُرُ ، وَكَذَا إذَا صُبَّ فِيهِ الْخَمْرُ ثُمَّ مُلِئَ خَلًّا يَطْهُرُ فِي الْحَالِ عَلَى مَا قَالُوا .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ شُرْبُ دُرْدِيِّ الْخَمْرِ وَالِامْتِشَاطُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءَ الْخَمْرِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْمُحَرَّمِ حَرَامٌ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُدَاوِيَ بِهِ جُرْحًا أَوْ دَبْرَةَ دَابَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْقِيَ ذِمِّيًّا وَلَا أَنْ يَسْقِيَ صَبِيًّا لِلتَّدَاوِي ، وَالْوَبَالُ عَلَى مَنْ سَقَاهُ ، وَكَذَا لَا يَسْقِيهَا الدَّوَابَّ وَقِيلَ : لَا تُحْمَلُ الْخَمْرُ إلَيْهَا ، أَمَّا إذَا قُيِّدَتْ إلَى الْخَمْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا فِي الْكَلْبِ وَالْمَيْتَةِ وَلَوْ أُلْقِيَ الدُّرْدِيُّ فِي الْخَلِّ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ خَلًّا لَكِنْ يُبَاحُ حَمْلُ الْخَلِّ إلَيْهِ لَا عَكْسُهُ لِمَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَلَا يُحَدُّ شَارِبُهُ ) أَيْ شَارِبُ الدُّرْدِيِّ ( إنْ لَمْ يَسْكَرْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ جُزْءًا مِنْ الْخَمْرِ وَلَنَا أَنَّ قَلِيلَهُ لَا يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنْ النَّبْوَةِ عَنْهُ فَكَانَ نَاقِصًا فَأَشْبَهَ غَيْرَ الْخَمْرِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا إلَّا بِالسُّكْرِ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الثُّفْلُ فَصَارَ كَمَا إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ بِالِامْتِزَاجِ
( وَيُكْرَهُ الِاحْتِقَانُ بِالْخَمْرِ وَإِقْطَارُهَا فِي الْإِحْلِيلِ ) ؛ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِالْمُحَرَّمِ وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِعَدَمِ الشُّرْبِ وَهُوَ السَّبَبُ ، وَلَوْ جُعِلَ الْخَمْرُ فِي مَرَقَةٍ لَا تُؤْكَلُ لِتَنَجُّسِهَا بِهَا وَلَا حَدَّ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَصَابَهُ الطَّبْخُ وَيُكْرَهُ أَكْلُ خُبْزٍ عُجِنَ عَجِينُهُ بِالْخَمْرِ لِقِيَامِ أَجْزَاءِ الْخَمْرِ فِيهِ .
فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ذَهَبَ بِغَلَيَانِهِ بِالنَّارِ وَقَذَفَهُ بِالزَّبَدِ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَيُعْتَبَرُ ذَهَابُ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ لِيَحِلَّ الثُّلُثُ الْبَاقِي ، بَيَانُهُ عَشَرَةُ دَوَارِقَ مِنْ عَصِيرٍ طُبِخَ فَذَهَبَ دَوْرَقٌ بِالزَّبَدِ يُطْبَخُ الْبَاقِي حَتَّى يَذْهَبَ سِتَّةُ دَوَارِقَ وَيَبْقَى الثُّلُثُ فَيَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ أَوْ مَا يُمَازِجُهُ ، وَأَيًّا مَا كَانَ جُعِلَ كَأَنَّ الْعَصِيرَ تِسْعَةُ دَوَارِقَ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةً وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ قَبْلَ الطَّبْخِ ثُمَّ طُبِخَ بِمَائِهِ ، إنْ كَانَ الْمَاءُ أَسْرَعَ ذَهَابًا لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ يُطْبَخُ الْبَاقِي بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِقْدَارُ مَا صُبَّ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَاءُ وَالثَّانِي الْعَصِيرُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَهَابِ ثُلُثَيْ الْعَصِيرِ ، وَإِنْ كَانَا يَذْهَبَانِ مَعًا تُغْلَى الْجُمْلَةُ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ فَيَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ ذَهَبَ الثُّلُثَانِ مَاءً وَعَصِيرًا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي مَاءٌ وَعَصِيرٌ فَصَارَ كَمَا إذَا صُبَّ الْمَاءُ فِيهِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ مِنْ الْعَصِيرِ بِالْغَلْيِ ثُلُثَاهُ بَيَانُهُ عَشَرَةُ دَوَارِقَ مِنْ عَصِيرٍ وَعِشْرُونَ دَوْرَقًا مِنْ مَاءٍ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يُطْبَخُ حَتَّى يَبْقَى تُسْعُ الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ ثُلُثُ الْعَصِيرِ ؛ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَا الْجُمْلَةِ لِمَا قُلْنَا ، وَالْغَلْيُ بِدَفْعَةٍ أَوْ دَفَعَاتٍ سَوَاءٌ إذَا حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُحَرَّمًا وَلَوْ قُطِعَ عَنْهُ النَّارُ فَغَلَى حَتَّى ذَهَبَ الثُّلُثَانِ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ أَثَرُ النَّارِ وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ الْعَصِيرَ إذَا طُبِخَ فَذَهَبَ بَعْضُهُ ثُمَّ أُهْرِيقَ بَعْضُهُ كَمْ تُطْبَخُ الْبَقِيَّةُ حَتَّى يَذْهَبَ الثُّلُثَانِ فَالسَّبِيلُ فِيهِ أَنْ تَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ فَتَضْرِبَهُ فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْمُنْصَبِّ ثُمَّ تَقْسِمَهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَهَابِ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ
مِنْهُ شَيْءٌ فَمَا يَخْرُجُ بِالْقِسْمَةِ فَهُوَ حَلَالٌ بَيَانُهُ عَشَرَةُ أَرْطَالِ عَصِيرٍ طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ رِطْلٌ ثُمَّ أُهْرِيقَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ تَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ كُلَّهُ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ وَثُلُثٌ وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الْمُنْصَبِّ هُوَ سِتَّةٌ فَيَكُونُ عِشْرِينَ ثُمَّ تَقْسِمُ الْعِشْرِينَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ ، فَيَخْرُجُ لِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَتُسْعَانِ ، فَعَرَفْت أَنَّ الْحَلَالَ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ وَتُسْعَانِ ، وَعَلَى هَذَا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ وَلَهَا طَرِيقٌ آخَرُ ، وَفِيمَا اكْتَفَيْنَا بِهِ كِفَايَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى تَخْرِيجِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ .
( فَصْلٌ فِي طَبْخِ الْعَصِيرِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : لَمَّا كَانَ طَبْخُ الْعَصِيرِ مِنْ أَسْبَابِ مَنْعِهِ عَنْ التَّخَمُّرِ أَلْحَقَهُ بِالْأَشْرِبَةِ تَعْلِيمًا لِإِبْقَاءِ مَا هُوَ حَلَالٌ عَلَى حِلِّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمَّا ذَكَرَ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَصِيرَ لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ شَرَعَ يُبَيِّنُ كَيْفِيَّةَ طَبْخِ الْعَصِيرِ إلَى أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ أَوْ مَا يُمَازِجُهُ ، وَأَيًّا مَا كَانَ جُعِلَ كَأَنَّ الْعَصِيرَ تِسْعَةٌ فَيَكُونُ ثُلُثُهَا ثَلَاثَةً ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ جَعْلِ الْعَصِيرِ تِسْعَةَ دَوَارِقَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ زَبَدًا هُوَ الْعَصِيرُ غَيْرُ ظَاهِرٍ ؛ إذْ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ فَرْقٌ بَيْنَ الذَّاهِبِ زَبَدًا مِنْ عَشَرَةِ دَوَارِقَ وَبَيْنَ الْبَاقِي مِنْهَا فِي كَوْنِهَا عَصِيرًا ، فَإِذَا جَازَ اعْتِبَارُ بَعْضٍ مِنْهَا وَهُوَ الذَّاهِبُ زَبَدًا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ بِلَا أَمْرٍ يُوجِبُهُ فَلِمَ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ بَعْضٍ مِنْ التِّسْعَةِ الْبَاقِيَةِ مِنْهَا أَيْضًا فِي حُكْمِ الْعَدَمِ عِنْدَ ذَهَابِهِ بِالطَّبْخِ وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ هَذَا الْأَصْلِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الَّذِي يَذْهَبُ زَبَدًا جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الزَّبَدَ لَيْسَ بِعَصِيرٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ صُبَّ فِيهِ دَوْرَقٌ مِنْ مَاءٍ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ الْمَاءُ فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَيُفْصِحُ عَنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةُ نَقْلًا عَنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : قَالَ مُحَمَّدٌ : فِي الْأَصْلِ عَشَرَةُ دَوَارِقَ عَصِيرٍ تُصَبُّ فِي قِدْرٍ فَتُطْبَخُ فَتَغْلِي وَيَقْذِفُ بِالزَّبَدِ ، فَجَعَلَ يَأْخُذُ ذَلِكَ الزَّبَدَ حَتَّى جَمَعَ مِنْ ذَلِكَ الزَّبَدِ قَدْرَ دَوْرَقٍ ، ثُمَّ يُطْبَخُ الْبَاقِي حَتَّى يَبْقَى ثَلَاثَةُ دَوَارِقَ وَهُوَ ثُلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ الدَّوْرَقِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا أُخِذَ مِنْ الدَّوْرَقِ زَبَدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الزَّبَدَ لَيْسَ بِعَصِيرٍ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ
الزَّبَدُ عَصِيرًا يُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ كَانَ صُبَّ فِيهِ دَوْرَقٌ مِنْ مَاءٍ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ الْمَاءُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعَصِيرُ وَهِيَ تِسْعَةُ دَوَارِقَ ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ ( قَوْلُهُ وَفِيمَا اكْتَفَيْنَا بِهِ كِفَايَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى تَخْرِيجِ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ ) قُلْت : فِيهِ إيهَامٌ لَطِيفٌ لِكِتَابَيْهِ الْمُسَمَّى أَحَدُهُمَا بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهَى وَالْآخَرُ بِالْهِدَايَةِ
كِتَابُ الصَّيْدِ قَالَ : الصَّيْدُ الِاصْطِيَادُ ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصَادُ ، وَالْفِعْلُ مُبَاحٌ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَك كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك } وَعَلَى إبَاحَتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاءُ الْمُكَلَّفِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ إقَامَةِ التَّكَالِيفِ فَكَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِطَابِ ثُمَّ جُمْلَةُ مَا يَحْوِيهِ الْكِتَابُ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا فِي الصَّيْدِ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّانِي فِي الِاصْطِيَادِ بِالرَّمْيِ .
( كِتَابُ الصَّيْدِ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : مُنَاسَبَةُ كِتَابِ الصَّيْدِ بِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُورِثُ السُّرُورَ وَالنَّشَاطَ فِي الْآدَمِيِّ ، إلَّا أَنَّ السُّرُورَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرٍ يَدْخُلُ فِي الْبَاطِنِ ، وَالسُّرُورُ فِي الصَّيْدِ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى ، وَصَارَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وَضْعَ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لِبَيَانِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ دُونَ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ ، وَإِلَّا لَذُكِرَ فِيهِ كُلُّ أَشْرِبَةٍ مُبَاحَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ إلَّا نَبْذٌ قَلِيلٌ لَهُ مُنَاسَبَةٌ مَعَ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي وَجْهٍ مَا حَتَّى وَقَعَ لِأَجْلِهِ الْخِلَافُ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّهِ عَلَى أَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ بِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ جَمْعُ شَرَابٍ وَالشَّرَابُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْ الْمَائِعَاتِ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُورِثُ السُّرُورَ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَا هُنَا لَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ ، وَلَكِنْ قَدَّمَ الشُّرْبَ ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ وَالْأَشْرِبَةُ فِيهَا الْحَرَامُ كَالْخَمْرِ انْتَهَى فَقَدْ جَعَلَ هُنَاكَ وَجْهَ تَأْخِيرِ الْأَشْرِبَةِ عَنْ الشُّرْبِ حُرْمَتَهَا ، وَجَعَلَ هَا هُنَا وَجْهَ مُنَاسَبَتِهَا بِالصَّيْدِ إبَاحَتَهَا مَعَ إيرَاثِ السُّرُورِ ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَنَافُرٌ لَا يَخْفَى فَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي مُنَاسَبَتِهِ كِتَابَ الصَّيْدِ لِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَفِي تَقْدِيمِ الْأَشْرِبَةِ عَلَى الصَّيْدِ مَا ذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ الْأُخَرِ فَرَاجِعْهَا ( قَوْلُهُ
الصَّيْدُ هُوَ الِاصْطِيَادُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُصَادُ ) يَعْنِي أَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِاصْطِيَادِ وَهُوَ أَخْذُ الصَّيْدِ ، كَالِاحْتِطَابِ وَهُوَ أَخْذُ الْحَطَبِ ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ مَا يُصَادُ مَجَازًا إطْلَاقًا لِاسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ الْمُتَوَحِّشُ عَنْ الْآدَمِيِّ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَإِنَّمَا يَحِلُّ الصَّيْدُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَرْطًا خَمْسَةٌ فِي الصَّيَّادِ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ ، وَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الْإِرْسَالُ ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْإِرْسَالِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ ؛ وَأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا ، وَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ بِعَمَلٍ وَخَمْسَةٌ فِي الْكَلْبِ : مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا ، وَأَنْ يَذْهَبَ عَلَى سَنَنِ الْإِرْسَالِ ، وَأَنْ لَا يُشَارِكَهُ فِي الْأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ ، وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا ، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ وَخَمْسَةٌ فِي الصَّيْدِ : مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُتَقَوِّيًا بِأَنْيَابِهِ أَوْ مِخْلَبِهِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ الْحَشَرَاتِ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنَاتِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ ، وَأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ بِجَنَاحَيْهِ أَوْ قَوَائِمِهِ ، وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ انْتَهَى ، وَذُكِرَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا ، وَقَالَ : كَذَا فِي النِّهَايَةِ مَنْسُوبًا إلَى الْخُلَاصَةِ وَقَدَحَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَاتِيكَ الشُّرُوطِ حَيْثُ قَالَ : قَوْلُهُ : وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ مُسْتَدْرَكٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا انْتَهَى أَقُولُ : لَا اسْتِدْرَاكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا لَيْسَ مُجَرَّدَ قَتْلِهِ بَلْ قَتْلُهُ جُرْحًا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ قَتْلِهِ خَنْقًا ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ
حِينَئِذٍ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ ، وَكَذَا الشَّرْطُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ : وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَوْتِهِ بَلْ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ ؛ إذْ لَوْ مَاتَ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إنْ لَمْ يَذْبَحْهُ الْمُرْسِلُ كَمَا سَتَعْرِفُهُ أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اشْتِرَاطَ أَنْ يَقْتُلَهُ الْكَلْبُ جُرْحًا لَا يُغْنِي عَنْ اشْتِرَاطِ أَنْ يَمُوتَ الصَّيْدُ بِجُرْحِ الْكَلْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَقْتُلَهُ الْكَلْبُ جُرْحًا بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الشَّرْطِ الْآخَرِ أَيْضًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ وَطَعَنَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي جُمْلَةِ مَا نَقَلَ عَنْ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ لَا غَيْرَ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى بَعْضُهُ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ لَكِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا فَذَبَحَهُ ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَمُتْ بِهَذَا لَكِنَّهُ ذَبَحَهُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ ، وَهُوَ حَلَالٌ انْتَهَى أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي عِلَاوَتِهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شَرَائِطِ حِلِّ الصَّيْدِ الْمَحْضِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ الصَّيَّادُ حَيًّا بَلْ مَاتَ بِجُرْحِ آلَةِ الصَّيْدِ كَالْكَلْبِ وَالْبَازِي وَالرَّمْي وَصَارَ مَذْبُوحًا بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ ، وَمَا أَدْرَكَهُ حَيًّا فَذَبَحَهُ لَا يَكُونُ صَيْدًا مَحْضًا بَلْ يَصِيرُ مُلْحَقًا بِسَائِرِ مَا يَذْبَحُ الِاخْتِيَارِيَّ فَيَكُونُ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ الِاشْتِرَاطِ وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِيهِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ تَسَامُحٌ بَلْ شَرْطُ حِلِّ الصَّيْدِ ، أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالِاصْطِيَادِ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ هُوَ الِاصْطِيَادُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا كَانَ حَلَالًا
، فَيَئُولُ مَعْنَى قَوْلِ شَرْطِ الِاصْطِيَادِ إلَى شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ ، فَإِنْ عَدَّ هَذَا تَسَامُحًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّسَامُحِ فِي التَّعْبِيرِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ ، وَلَا يُبَالَى بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ التَّسَامُحِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْمَعْنَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ ثُمَّ قَصَدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ دَفْعَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي عِلَاوَتِهِ حَيْثُ قَالَ : مُرَادُ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ بَيَانُ شَرَائِطِ حِلِّ صَيْدٍ قَتَلَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ آلَةٌ غَيْرُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الْخُلَاصَةِ مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَتِهِ لِهَذَا التَّقْيِيدِ وَعَدَمِ قِيَامِ قَرِينَةٍ عَلَيْهِ لَا يَدْفَعُ كَوْنَ مُرَادِهِ هَذَا الْمَعْنَى التَّسَامُحَ الَّذِي حَاصِلُهُ التَّقْصِيرُ فِي الْبَيَانِ ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِبَيَانِ شَرَائِطِ حِلِّ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ وَتَرْكِ بَيَانِ شَرَائِطِ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } ) مَدَّ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ فَاقْتَضَى الْإِبَاحَةَ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الْغَايَةِ ، كَذَا قَالُوا وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ا هـ أَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِصَدَدِ بَيَانِ الْمُخَلِّصِ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ قِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ وَقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ }
فَصْلُ الْجَوَارِحِ قَالَ ( وَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْفَهْدِ وَالْبَازِي وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وَالْجَوَارِحُ : الْكَوَاسِبُ قَالَ فِي تَأْوِيلِ الْمُكَلِّبِينَ : الْمُسَلَّطِينَ ، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ الْأَسَدُ وَالدُّبُّ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِغَيْرِهِمَا الْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ ، وَأَلْحَقَ بِهِمَا بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ لِخَسَاسَتِهَا ، وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ ؛ لِأَنَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثِ بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ آلَةً بِالتَّعْلِيمِ لِيَكُونَ عَامِلًا لَهُ فَيَتَرَسَّلُ بِإِرْسَالِهِ وَيُمْسِكُهُ عَلَيْهِ .
( فَصْلٌ فِي الْجَوَارِحِ ) قَدَّمَ فَصْلَ الْجَوَارِحِ عَلَى فَصْلِ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ آلَةَ الصَّيْدِ هُنَا حَيَوَانٌ وَفِي الرَّمْيِ جَمَادٌ ، وَلِلْحَيَوَانِ فَضْلٌ عَلَى الْجَمَادِ ، وَالْفَاضِلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْضُولِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : إنَّمَا أَوْرَدَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ : وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ : أَيْ فِيمَا سِوَى الْمُعَلَّمَةِ مِنْ ذِي النَّابِ وَالْمِخْلَبِ ، فَإِنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمِيعًا انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ؛ إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَرِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِمَا ذَكَرَ ، وَنَفْيِ جَوَازِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ قَوْلُهُ : إنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ ، وَإِنْ دَلَّتْ بِمَفْهُومِهَا عَلَى النَّفْيِ أَيْضًا وَأَمَّا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَتَدُلُّ بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا لَكِنْ لَا يَظْهَرُ حِينَئِذٍ فِي إيرَادِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَبِيرُ نَفْعٍ كَمَا لَا يَخْفَى قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : إنَّمَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ لَا بَأْسَ مَعَ ثُبُوتِ إبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ بِالْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } قَدْ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَهُوَ الْخِنْزِيرُ وَالْأَسَدُ وَالدُّبُّ ، وَالنَّصُّ إذَا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَصِيرُ ظَنِّيًّا
فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ كَمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ بِلَفْظِ لَا بَأْسَ انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَخْصُوصٌ مِنْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ بِالْعَقْلِ ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالنَّجَسِ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِالْعَقْلِ لَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا بَلْ يَكُونُ قَطْعِيًّا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ : وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ وَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَأَمَّا الْأَسَدُ وَالدُّبُّ فَلَيْسَا بِدَاخِلَيْنِ رَأْسًا فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْأَسَدَ وَالدُّبَّ لَا يَصْلُحَانِ لِلتَّعْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ لِلْغَيْرِ فَلَمْ يَدْخُلَا تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ فَرْعُ دُخُولِهِ فِيهِ أَوَّلًا ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلَا فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ مِنْهُ وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ ، وَكَوْنُ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْهُ بِالْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ دُونَ الْعَقْلِ فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَ ذَلِكَ النَّصِّ بَعْدَهُ ظَنِّيًّا ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُخْرِجَ مِنْهُ الْبَعْضُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ إنَّمَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا إذَا كَانَ الْمُخْرِجُ مَوْصُولًا بِذَلِكَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا بِهِ فَيَكُونُ قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي وَيُطْلَقُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِخْرَاجِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْأُصُولِ النُّسَخُ دُونَ التَّخْصِيصِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُخْرِجَ تِلْكَ الْجَوَارِحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ النَّصِّ الْمَزْبُورِ لَيْسَ بِمَوْصُولٍ بِذَلِكَ النَّصِّ فَلَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا لَا مَحَالَةَ تَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } ) وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ
عَطْفٌ عَلَى : الطَّيِّبَاتُ فِي قَوْله تَعَالَى { قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَدُلَّ إلَّا دَلِيلٌ عَلَى الْقِرَانِ وَهَاهُنَا قَدْ دَلَّ ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } جَوَابٌ عَنْ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } فَإِنْ لَمْ يَكُنْ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي انْتَهَى أَقُولُ : نَظَرُهُ فَاسِدٌ ، وَجَوَابُهُ كَاسِدٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِلَا ارْتِيَابٍ ، فَيَلْزَمُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ الِاشْتِرَاكُ فِي حُكْمِ الْإِحْلَالِ ضَرُورَةً ، وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ : الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ لَيْسَ بِإِنْكَارٍ لِمِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمُقَارَنَةِ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ فِي الْحُكْمِ بِدُونِ أَنْ يَتَحَقَّقَ أَمْرٌ مُقْتَضًى لِلْمُقَارَنَةِ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَهُوَ قَضِيَّةُ الْعَطْفِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } مُقَارِنًا لِ : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } أَنْ لَا يَكُونَ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَوْ كَانَ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } دَاخِلًا تَحْتَ جَوَابِ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } وَمَنْ يَقُولُ : إنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ كَيْفَ يُسَلِّمُ ذَلِكَ ، بَلْ يَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ ذَلِكَ { قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ
الطَّيِّبَاتُ } فَقَطْ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مَسُوقًا لِبَيَانِ حُكْمٍ جَدِيدٍ وَلِإِفَادَةِ فَائِدَةٍ أُخْرَى ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } شَرْطِيَّةً ، وَجَوَابُهُ { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى انْتَهَى أَقُولُ : فِي تَفْرِيعِ قَوْلِهِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى خَلَلٌ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ الْمَذْكُورَ لَا يَرِدُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ ، بَلْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعَيُّنَ مَعْنَى الْآيَةِ أَوْ رُجْحَانَ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا ، بَلْ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ ، فَمَا مَعْنَى تَفْرِيعِ قَوْلِهِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى عَلَى قَوْلِهِ ، وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ ( قَوْلُهُ : وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ ، قَالَ فِي تَأْوِيلِ : وَالْمُكَلِّبِينَ الْمُسَلَّطِينَ ، فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ بِعُمُومِ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ أَقُولُ : لَا صِحَّةَ لِهَذَا الْكَلَامِ ؛ إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ أَنْ لَيْسَ مَقْصُودُ الْمُصَنِّفِ بَيَانَ صِحَّةِ تَأْوِيلٍ دُونَ صِحَّةِ تَأْوِيلٍ آخَرَ ؛ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ ، وَأَيْضًا عُمُومُ حَدِيثِ عَدِيٍّ لَا يُنَافِي التَّأْوِيلَ الْآخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَارِحُ هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ مِنْ الْجِرَاحَةِ بَلْ يُوَافِقُهُ أَيْضًا ، فَمَا مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِهِ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلٍ دُونَ آخَرَ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ : دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ إنَّمَا هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى تَنَاوُلِ مَا فِي الْآيَةِ الْكُلَّ بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ ، فَالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى تَنَاوُلِ الْكُلِّ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ
عَدِيٍّ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ لَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُدَّعَى جَوَازُ الِاصْطِيَادِ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ، فَالْمُرَادُ بِالتَّنَاوُلِ فِي قَوْلِهِ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ إنَّمَا هُوَ التَّنَاوُلُ لِكُلِّ مَا فِي الْمُدَّعَى وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَوَارِحَ الطُّيُورِ ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ جَوَارِحَ السِّبَاعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلْبِ الْمَذْكُورِ فِيهِ كُلُّ ذِي سَبُعٍ دُونَ النَّوْعِ الْمُعَيَّنِ الْمَعْرُوفِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثُ بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ ) أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ مَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَةِ نَاطِقًا بِالتَّعْلِيمِ ، وَمَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ نَاطِقًا بِالتَّعْلِيمِ وَبِالْإِرْسَالِ مِمَّا لَا كَلَامَ فِيهِ وَأَمَّا كَوْنُ مَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَةِ نَاطِقًا بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ ، وَكَوْنُ مَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ نَاطِقًا بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى هَا هُنَا وَبِاشْتِرَاطِ الْإِرْسَالِ أَيْضًا فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ ، وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى الِاشْتِرَاطِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عُرِفَ .
قَالَ ( تَعْلِيمُ الْكَلْبِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَتَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ يَرْجِعَ وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ بَدَنَ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ ، وَبَدَنُ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُهُ فَيُضْرَبُ لِيَتْرُكَهُ ، وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً ، وَالْبَازِي مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ فَكَانَتْ الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ وَأَمَّا الْكَلْبُ فَهُوَ مَأْلُوفٌ يَعْتَادُ الِانْتِهَابَ فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ مَأْلُوفِهِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ ثُمَّ شُرِطَ تَرْكُ الْأَكْلِ ثَلَاثًا وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَهُ مَزِيدَ الِاحْتِمَالِ فَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ شِبَعًا ، فَإِذَا تَرَكَهُ ثَلَاثًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَادَةً لَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِلِاخْتِبَارِ وَإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ وَفِي بَعْضِ قَصَصِ الْأَخْيَارِ : وَلِأَنَّ الْكَثِيرَ هُوَ الَّذِي يَقَعُ أَمَارَةً عَلَى الْعِلْمِ دُونَ الْقَلِيلِ ، وَالْجَمْعُ هُوَ الْكَثِيرُ وَأَدْنَاهُ الثَّلَاثُ فَقُدِّرَ بِهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ : لَا يَثْبُتُ التَّعْلِيمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ الصَّائِدِ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ ، وَلَا يُقَدَّرُ بِالثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ اجْتِهَادًا بَلْ نَصًّا وَسَمَاعًا وَلَا سَمْعَ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ فِي جِنْسِهَا وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى عِنْدَهُ يَحِلُّ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُعَلَّمًا بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِ وَقَبْلَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ، فَكَانَ الثَّالِثُ صَيْدَ كَلْبٍ جَاهِلٍ وَصَارَ كَالتَّصَرُّفِ الْمُبَاشِرِ فِي سُكُوتِ الْمَوْلَى وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ تَعْلِيمِهِ عِنْدَهُ فَكَانَ هَذَا صَيْدَ جَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ دُونَ عِلْمِ
الْعَبْدِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُبَاشَرَةِ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً وَالْبَازِي مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ فَكَانَتْ الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ ، وَأَمَّا الْكَلْبُ فَهُوَ أَلُوفٌ عَادَةً يَعْتَادُ الِانْتِهَابَ فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ مَأْلُوفِهِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ ، وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ ، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَزَعَمَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ حَيْثُ قَالَ قَبْلُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ ، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْبَازِي لَا غَيْرَ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، وَإِذَا أُرِيدَ الْفَرْقُ عُمُومًا فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ أَقُولُ : مَا قَالَهُ عُذْرٌ بَارِدٌ وَتَوْجِيهٌ كَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي الْمُدَّعَى هَا هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِكُلِّ سَبُعٍ لَا الْكَلْبَ الْمَخْصُوصَ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يُتْرَكَ بَيَانُ حَالِ تَعْلِيمِ سَائِرِ السِّبَاعِ بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمُرَادُ فِي التَّعْلِيلِ أَيْضًا هُوَ الْفَرْقُ عُمُومًا ، وَاَلَّذِي يُفِيدُ الْفَرْقَ عُمُومًا هُوَ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي ، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْمَبْسُوطِ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ الرَّكَاكَةِ قَالَ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُ النَّابِ كُلُّهَا جِنْسًا وَاحِدًا وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ
مِنْهَا فِي الصَّيْدِ أَلُوفًا مَعَ أَنَّ فِي طَبْعِ غَيْرِهِ الْإِلْفَ أَيْضًا عَلَى مَا تَرَاهُ فِي الذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَغَيْرِهِمَا إذَا رُبِّيَ مِنْ صِغَرِهِ فِي الْبَيْتِ ، بِخِلَافِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ جُعِلَ الْكُلُّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي التَّعْلِيمِ : يَعْنِي أُدِيرَ حُكْمُ التَّعْلِيمِ عَلَى جِنْسِ الْكَلْبِ تَيْسِيرًا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِسَدِيدٍ ؛ إذْ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَهْدَ وَالنَّمِرَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِلْفُ بَلْ هُمَا مُتَوَحِّشَانِ كَالْبَازِي لَا يَكُونُ جَعْلُ أَنْوَاعِ الْكَلْبِ كُلِّهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، وَإِدَارَةُ حُكْمِ التَّعْلِيلِ عَلَى جِنْسِ الْكَلْبِ مِنْ بَابِ التَّيْسِيرِ بَلْ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّعْسِيرِ وَالتَّشْدِيدِ ، بَلْ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُحْمَلَ الْمُتَوَحِّشُ عَلَى الْأَلُوفِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُيَسَّرٍ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ شَيْءٌ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ قَالَ نَاقِلًا عَنْ شَيْخِهِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ : لِلْفَهْدِ خِصَالٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَعَدَّ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّمُ بِالضَّرْبِ ، وَلَكِنْ يُضْرَبُ الْكَلْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ ، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ تَحَمُّلَ بَدَنِ الْفَهْدِ لِلضَّرْبِ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي حَقِّ تَعْلِيمِهِ ، وَقَدْ كَانَ مَدَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَازِي وَالْكَلْبِ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّ بَدَنَ الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ وَبَدَنَ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُهُ ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ بَدَنِ الْكَلْبِ الضَّرْبَ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعَى فِي حَقِّ الْفَهْدِ ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي حَقِّ تَعْلِيمِهِ فَتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ أَوْ بَازِيَهُ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ إرْسَالِهِ فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَجَرَحَهُ فَمَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِي آلَةٌ ، وَالذَّبْحُ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْآلَةِ إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ فِيهِمَا بِالْإِرْسَالِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الرَّمْيِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهُ وَلَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا حَلَّ أَيْضًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَحُرْمَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي الذَّبَائِحِ وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِيَتَحَقَّقَ الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيُّ وَهُوَ الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فِي الْبَدَنِ بِانْتِسَابِ مَا وُجِدَ مِنْ الْآلَةِ إلَيْهِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } مَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ بِمَعْنَى الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبُ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا تَنَافِيَ ، وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ رُجُوعًا إلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ } مَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ بِمَعْنَى الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا تَنَافِي وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ ) وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ إذَا وَرَدَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُثْبِتُ أَحَدَهُمَا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ تَرْجِيحَهُ لَا الْجَمِيعَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُثْبِتُ الْجَمِيعَ أَخْذًا بِالْمُتَيَقَّنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } قِيلَ أُرِيدَ بِهِ الْحَبَلُ ، وَقِيلَ الْحَيْضُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا مُرَادَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَكَذَا هَا هُنَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْجِرَاحَةِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : فَأَقُولُ عَلَى مَا قَالُوا يَلْزَمُهُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ وَهُوَ فَاسِدٌ انْتَهَى ا هـ وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ وَالتَّوْسِيعِ حَيْثُ قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْجُرْحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْجِرَاحَةُ أَوْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي الْآخَرِ ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } فَإِنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ بِالتَّوَاطُؤِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ : يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ : يُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ أَنَّهُ يُجْمَعُ فِي الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بَيْنَ كِلَا مُحْتَمَلَيْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ مِنْ التَّأْوِيلَيْنِ لِعَدَمِ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْمُتَيَقَّنِ إذْ يُوجَدُ فِي الْمَجْمُوعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَأَيٌّ مِنْهُمَا يُرَادُ فِي النَّظْمِ الشَّرِيفِ كَانَ مَأْخُوذًا فِي
الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ يُرَادَانِ مَعًا بِلَفْظِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ حَتَّى يَلْزَمَ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ مُرَادَهُمْ هُوَ الثَّانِي قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ الْكَاسِبِ : يَعْنِي يُجْمَعُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ ، وَكَانَ حَقُّ التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي يُجْمَعُ فِي الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَا هُنَا : فَإِنْ قِيلَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ إمَّا أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْكَوَاسِبِ أَوْ مَجَازًا قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ ، بَلْ الْجَوَارِحُ أَخَصُّ مِنْ الْكَوَاسِبِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَوَاسِبِ الْجَوَارِحَ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْجَوَارِحِ أَخَصَّ مِنْ الْكَوَاسِبِ لَا يَدْفَعُ لُزُومَ الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْأَخَصِّ يُغَايِرُ مَفْهُومَ الْأَعَمِّ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ أَخَصَّ مِنْ نَفْسِهِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنْ الْآخَرِ أَمْ لَا إلَّا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْمَحْذُورَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي السُّؤَالِ قَطْعًا عَلَى تَقْدِيرِ إرَادَتِهِمَا مَعًا مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ .
قَالَ ( فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ ) وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ التَّعْلِيمِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ ( وَلَوْ أَنَّهُ صَادَ صُيُودًا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا ثُمَّ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ هَذَا الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ الْجَهْلِ ، وَلَا مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَأَمَّا الصُّيُودُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قَبْلُ فَمَا أَكَلَ مِنْهَا لَا تَظْهَرُ الْحُرْمَةُ فِيهِ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ بِأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ صَاحِبُهُ بَعْدَ تَثَبُّتِ الْحُرْمَةِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَا هُوَ مُحْرَزٌ فِي بَيْتِهِ يَحْرُمُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا هُمَا يَقُولَانِ : إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ قَدْ تُنْسَى ، وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِبَقَائِهِ صَيْدًا مِنْ وَجْهٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَحَرَّمْنَاهُ احْتِيَاطًا وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ جَهْلِهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ لَا يُنْسَى أَصْلُهَا ، فَإِذَا أَكَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَرَكَ الْأَكْلَ لِلشِّبَعِ لَا لِلْعِلْمِ ، وَتَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ فَصَارَ كَتَبَدُّلِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَضَاءِ
( قَوْلُهُ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ ) أَقُولُ : فِي كَلَامِهِ هَذَا رَكَاكَةٌ ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَ هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ إنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى الْفَرْقِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ ، يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ لَا يُفِيدُ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ أَصْلًا ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي ، وَإِفَادَةُ الْفَرْقِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا مَعًا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ كَانَ حَقُّ قَوْلِهِ : وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَلَمَّا وَسَّطَ بَيْنَهُمَا قَوْلَهُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ وَقَوْلُهُ : وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ التَّعْلِيمِ كَانَ الْكَلَامُ قَلِقًا كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ ) فَإِنْ قِيلَ : رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ : كُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ } وَذَلِكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لَهُمَا أُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُعَارِضُ قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ ، وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ { فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ مَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ الْكَلْبُ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ إبَاحَةِ أَكْلِ
مَا أَكَلَ مِنْهُ إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا كَالْعُرْفِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعَارُضُ بَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يُتْرَكَ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ لَا يُقَالُ : يَحْصُلُ بِهَذَا الْجَوَابِ إلْزَامُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ حُجَّةٌ عِنْدَهُ ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَا يَحْصُلُ إلْزَامُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ يَكُونُ الْمَفْهُومُ حُجَّةً لَا يُنْكِرُ أَنَّ الْمَنْطُوقَ أَقْوَى مِنْهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ التَّعَارُضِ عِنْدَهُ أَيْضًا وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ أَنْ يُقَالَ : حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ مُرَجَّحٌ عَلَى حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ ؛ لِأَنَّ حَدِيثَهُ يُحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ يُحَرِّمُهُ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ يُرَجَّحُ عَلَى الْمُحَلَّلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُجْعَل نَاسِخًا لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ عَدِيٍّ دُونَ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ ( قَوْلُهُ وَلَا مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : أَرَادَ مَا ذَكَرَ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا إلَخْ أَقُولُ : تَفْسِيرُ مُرَادِ الْمُصَنِّف بِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الشَّارِحُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا إلَخْ رِوَايَتَيْنِ لَا غَيْرَ : رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ حِلُّ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا ، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ عَدَمُ حِلِّ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ ؟ فَالصَّوَابُ أَنَّ
مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ هَا هُنَا عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ شَرَطَ تَرْكَ الْأَكْلِ ثَلَاثًا وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ، فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الرِّوَايَاتُ وَتَنْتَظِمُ صِيغَةُ الْجَمْعِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ قَدْ تُنْسَى ) أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ إلَخْ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ هَا هُنَا دَلِيلًا تَامًّا لَهُمَا ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُمَا فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ فِي الْمَفَازَةِ أَيْضًا لِجَرَيَانِ هَذَا الدَّلِيلِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ فَتَأَمَّلْ
( وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَكَثَ حِينًا ثُمَّ صَادَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَا صَارَ بِهِ عَالِمًا فَيُحْكَمُ بِجَهْلِهِ كَالْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ
( وَلَوْ شَرِبَ الْكَلْبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لِلصَّيْدِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ عِلْمِهِ حَيْثُ شَرِبَ مَا لَا يَصْلُحُ لِصَاحِبِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَصْلُحُ لَهُ
( وَلَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ مِنْ الْمُعَلَّمِ ثُمَّ قَطَعَ مِنْهُ قِطْعَةً وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَى إلَيْهِ طَعَامًا غَيْرَهُ ، وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَكَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ ، وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ جِهَةُ الصَّيْدِيَّةِ
( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَكَلَ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ ، وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا وَثَبَ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَكَلَ وَبَيْنَ مَا أَكَلَ بَعْدَمَا قَتَلَ ، فَإِنَّ الصَّيْدَ كَمَا خَرَجَ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ جَازَ أَنْ يَخْرُجَ أَيْضًا بِقَتْلِهِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالْأَكْلِ حَتَّى أَخَذَهُ صَاحِبُهُ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَانْتِهَاسُهُ مِنْهُ وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ وَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ الْأَخْذِ كَانَ مُمْسِكًا عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ الْمُطَالَبَةَ الْمَذْكُورَةَ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا نَقْضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ مِنْ أَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ بِمَا إذَا أَكَلَ بَعْدَمَا قَتَلَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ مُتَمَشٍّ فِي صُورَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا ؛ إذْ الصَّيْدُ كَمَا يَخْرُجُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ يَخْرُجُ أَيْضًا بِقَتْلِهِ ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْأَكْلُ مِنْ الصَّيْدِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا مَعَ أَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ وَحَاصِلُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بَيَانُ فَرْقٍ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ وُرُودَ الْمُطَالَبَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَا هُنَا فِي التَّقْرِيرِ حَيْثُ قَالَ : فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّائِدُ حَيْثُ لَا يُؤْكَلُ ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهِيَ مَا أَكَلَ مِنْهُ بِالْوَثْبَةِ بَعْدَ أَخْذِ الصَّائِدِ يُؤْكَلُ ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ شَامِلٌ لِلصُّورَتَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ افْتَرَقَتَا فِي الْحُكْمِ
وَالْأَوْجُهُ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا يَنْشَأُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْإِمْسَاكِ لِصَاحِبِهِ وَعَدَمُ الْإِمْسَاكِ لَهُ ، فَهَاهُنَا أَيْ فِي مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ لَمَّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ الصَّيْدِ إلَى أَنْ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ قَدْ تَمَّ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَهُنَاكَ لَمَّا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ صَاحِبُهُ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِصَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا انْتَهَى فَإِنَّهُ طَعَنَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ بِشُمُولِهِ لِلصُّورَتَيْنِ مَعَ افْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ ، وَبَيَّنَ وَجْهًا آخَرَ فَارِقًا بَيْنَهُمَا وَعَدَّهُ أَوْجَهَ لِكَوْنِهِ سَالِمًا عَنْ وُرُودِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أَقُولُ : التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَاقِطَةٌ عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ تَدَارَكَ دَفْعَهَا بِقَوْلِهِ : بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ جِهَةُ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ هُوَ أَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمُتَوَحِّشٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ فَقَدْ زَالَ التَّوَحُّشُ بِالْقَتْلِ وَبَقِيَ عَدَمُ الْإِحْرَازِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ ، فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الصَّيْدِ وَلَوَازِمِهِ يَبْقَى حُكْمُ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَكَلَهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ الصَّائِدُ ، تَأَمَّلْ تَرْشُدْ
( وَلَوْ نَهَسَ الصَّيْدَ فَقَطَعَ مِنْهُ بِضْعَةً فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ كَلْبٍ جَاهِلٍ حَيْثُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدَ
( وَلَوْ أَلْقَى مَا نَهَسَهُ وَاتَّبَعَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِضْعَةِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَضُرَّهُ ، فَإِذَا أَكَلَ مَا بَانَ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ فِي حَالَةِ الِاصْطِيَادِ فَكَانَ جَاهِلًا مُمْسِكًا لِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ نَهْسَ الْبِضْعَةِ قَدْ يَكُونُ لِيَأْكُلَهَا وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً فِي الِاصْطِيَادِ لِيَضْعُفَ بِقَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ فَيُدْرِكَهُ ، فَالْأَكْلُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَبَعْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ ، وَإِنْ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَكَذَا الْبَازِي وَالسَّهْمُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، إذْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ ، وَهَذَا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ أَمَّا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدَرَ اعْتِبَارًا ؛ لِأَنَّهُ ثَبَّتَ يَدَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ وَهُوَ قَائِمٌ مَكَانَ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ إذْ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُدَّةٍ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي أَمْرِ الذَّبْحِ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ مِثْلُ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا إذَا وَقَعَ وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمُذْبَحٍ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِيهَا تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِفَقْدِ الْآلَةِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِضِيقِ الْوَقْتِ لَمْ يُؤْكَلْ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَبَطَلَ حُكْمُ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ ، أَمَّا إذَا شَقَّ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَلَّ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا وَقَعَتْ شَاةٌ فِي الْمَاءِ بَعْدَمَا ذُبِحَتْ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُؤْكَلُ
أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ رُدَّ إلَى الْمُتَرَدِّيَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا تَرَكَ التَّذْكِيَةَ ، فَلَوْ أَنَّهُ ذَكَّاهُ حَلَّ أَكْلُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا الْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَاَلَّذِي يَبْقُرُ الذِّئْبُ بَطْنَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ خَفِيَّةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } اسْتَثْنَاهُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ بِالذَّبْحِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ( وَلَوْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَوْ أَخَذَهُ أَمْكَنَهُ ذَبْحُهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ ذَبْحُهُ أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الذَّبْحِ لَمْ يُوجَدْ ( وَإِنْ أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ حَلَّ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَالذَّكَاةُ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ وُجِدَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى الذَّبْحِ
( قَوْلُهُ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ ، وَإِنْ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَكَذَا الْبَازِي وَالسَّهْمُ ) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْبَازِي وَالسَّهْمُ زِيَادَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ فَأَقُولُ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا أَمْرٌ زَائِدٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ جِدًّا عِنْدِي أَمَّا قَوْلُهُ وَكَذَا الْبَازِي فَظَاهِرٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْكَلْبِ وَصَيْدَ الْبَازِي ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ بِالْأَوَّلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ وَكَذَا الْبَازِي بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالسَّهْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ مَسْأَلَةِ السَّهْمِ سَيَجِيءُ فِي بَابِ الرَّمْيِ مُفَصَّلًا ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ هُنَاكَ : وَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَكَلَ مَا أَصَابَ إذَا خَرَجَ السَّهْمُ فَمَاتَ ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ انْتَهَى ، فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ هَا هُنَا ( قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَا قَرَّرْنَاهُ قَوْلَهُ : لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : أَشَارَ بِذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا أَقُولُ : الْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّارِحَانِ الْأَخِيرَانِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْلِيلٌ لِحُكْمِ أَكْلِ مَا شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بَيْنَ مَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ وَبَيْنَ مَا لَا يَعِيشُ فَوْقَ ذَلِكَ ، بَلْ جَعَلُوا كَلْبَهُمَا مِمَّا بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ ،
وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَهُمَا ، وَقَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ تَعْلِيلٌ لِحُكْمِ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا لَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي ذَيْلِ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مَا يَعُمُّهُمَا مَعًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِحِلِّ أَكْلِ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ مِثْلَ مَا بَقِيَ فِي الْمَذْبُوحِ لَا فَوْقَ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ وَمَا لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ مِمَّا لَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ فَتَنْتَظِمُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
( وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ وَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ ) وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إرْسَالٍ ؛ إذْ الْإِرْسَالُ مُخْتَصٌّ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَنَا أَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حُصُولُ الصَّيْدِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَعْلِيمُهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْخُذُ مَا عَيَّنَهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ
( وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ كَثِيرٍ وَسَمَّى مَرَّةً وَاحِدَةً حَالَةَ الْإِرْسَالِ ، فَلَوْ قَتَلَ الْكُلَّ يَحِلُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْوَاحِدَةِ ) ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ يَقَعُ بِالْإِرْسَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ وَالْفِعْلُ وَاحِدٌ فَيَكْفِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، بِخِلَافِ ذَبْحِ الشَّاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَصِيرُ مَذْبُوحَةً بِفِعْلٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى ، حَتَّى لَوْ أَضْجَعَ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى ، وَذَبَحَهُمَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ تَحِلَّانِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ
( وَمَنْ أَرْسَلَ فَهْدًا فَكَمَنَ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ ) ؛ لِأَنَّ مُكْثَهُ ذَلِكَ حِيلَةٌ مِنْهُ لِلصَّيْدِ لَا اسْتِرَاحَةٌ فَلَا يَقْطَعُ الْإِرْسَالَ ( وَكَذَا الْكَلْبُ إذَا اعْتَادَ عَادَتَهُ )
( وَلَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ آخَرَ فَقَتَلَهُ وَقَدْ أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أُكِلَا جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَائِمٌ لَمْ يَنْقَطِعْ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَأَصَابَ آخَرَ ( وَلَوْ قَتَلَ الْأَوَّلَ فَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا مِنْ النَّهَارِ ثُمَّ مَرَّ بِهِ صَيْدٌ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ الثَّانِي ) لِانْقِطَاعِ الْإِرْسَالِ بِمُكْثِهِ إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَةً مِنْهُ لِلْأَخْذِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرَاحَةً ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
( وَلَوْ أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ ) وَهَذَا إذَا لَمْ يَمْكُثْ زَمَانًا طَوِيلًا لِلِاسْتِرَاحَةِ ، وَإِنَّمَا مَكَثَ سَاعَةً لِلتَّمْكِينِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلْبِ
( وَلَوْ أَنَّ بَازِيًا مُعَلَّمًا أَخَذَ صَيْدًا فَقَتَلَهُ وَلَا يُدْرَى أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ أَمْ لَا لَا يُؤْكَلُ ) لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْإِرْسَالِ ، وَلَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِدُونِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ خَنَقَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ شَرْطُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ عُضْوًا فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ جِرَاحَةٌ بَاطِنَةٌ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ الظَّاهِرَةِ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جُرْحٌ يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْكَسْرِ فَأَشْبَهَ التَّخْنِيقَ
قَالَ ( وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ كَلْبُ مَجُوسِيٍّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ ) لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحْرِمُ فَيَغْلِبُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ نَصًّا أَوْ احْتِيَاطًا ( وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ الثَّانِي وَلَمْ يَجْرَحْهُ مَعَهُ وَمَاتَ بِجُرْحِ الْأَوَّلِ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ) لِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَخْذِ وَفَقْدِهَا فِي الْجُرْحِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ الْمَجُوسِيُّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ وَتَتَحَقَّقُ بَيْنَ فِعْلَيْ الْكَلْبَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ ( وَلَوْ لَمْ يَرُدَّهُ الْكَلْبُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ أَشَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى الصَّيْدِ فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَثَرٌ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ حَيْثُ ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَدَّهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ تَبَعًا فَيُضَافُ إلَيْهِمَا .
قَالَ ( وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ ) وَالْمُرَادُ بِالزَّجْرِ الْإِغْرَاءُ بِالصِّيَاحِ عَلَيْهِ ، وَبِالِانْزِجَارِ إظْهَارُ زِيَادَةِ الطَّلَبِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ قَالَ ( وَلَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ ، وَكُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ ذَكَاتُهُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْمُحْرِمِ وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَجُوسِيِّ ( وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ نَاسِخًا ( وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَدْرَكَهُ فَضَرَبَهُ وَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ أُكِلَ ، وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعْلِيمِ فَجُعِلَ عَفْوًا ( وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبًا فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا وَقَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَالْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِيَّةِ إلَّا أَنَّ الْإِرْسَالَ حَصَلَ مِنْ الصَّيْدِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةِ حَالَةُ الْإِرْسَالِ فَلَمْ يَحْرُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِرْسَالُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِجُرْحِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ .
( قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَك أَنْ تَقُولَ : لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الرَّفْعِ بَلْ تَكْفِي الْمُشَارَكَةُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ شَبَهِهَا انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ أَصْلٌ وَالزَّجْرَ تَبَعٌ ، وَالتَّبَعُ لَا يُعَدُّ مُشَارِكًا لِلْأَصْلِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي أَثَّرَ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ حَيْثُ ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ انْتَهَى وَلَئِنْ سُلِّمَ مُشَارَكَةُ الزَّجْرِ لِلْإِرْسَالِ فَلَا نُسَلِّمُ كِفَايَةَ مُجَرَّدِ الْمُشَارَكَةِ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ شَبَهِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُ وَهُوَ الزَّجْرُ هَا هُنَا أَقْوَى مِنْ السَّابِقِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ حَتَّى يُرْفَعَ بِهِ السَّابِقُ وَأَمَّا إذَا كَانَ أَدْنَى مِنْهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ اللَّاحِقَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ انْتَهَى قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَنُوقِضَ بِالْمُحْرِمِ إذَا زَجَرَ كَلْبًا حَلَالًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْمُحْرِمِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ بِمَا هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الدَّلَالَةُ فَوَجَبَ بِالزَّجْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى انْتَهَى أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ النَّقْضَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَوِّيهِ ، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا زَجَرَ كَلْبًا حَلَالًا عِنْدَ إرْسَالِهِ تَقَرَّرَ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهِ الْأَصْلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ
اعْتِبَارِ الزَّجْرِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِ الزَّجْرِ دُونَ الْإِرْسَالِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الْمُرَادُ مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كُلِّيَّةِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ تَفَكَّرْ ( قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ وَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي حِلِّ الصَّيْدِ ، بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا الشَّرْحُ بِسَدِيدٍ عِنْدِي ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ فِيمَا سَبَقَ فِي كَوْنِ فِعْلِ الْغَيْرِ الْمَشْرُوطِ فِي حِلِّ الصَّيْدِ مَرْفُوعًا بِمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي حِلِّهِ أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ ، بَلْ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مَرْفُوعًا بِمَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْقُوَّةِ أَوْ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ فِيهَا كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ ، فَالْوَجْهُ هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي أَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ نَاسِخًا بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِيمَا قُلْنَاهُ تَبَصَّرْ
فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ ( وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا عَلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ حَلَّ الْمُصَابُ ) أَيَّ صَيْدٍ كَانَ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الِاصْطِيَادَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ الْخِنْزِيرَ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ بِخِلَافِ السِّبَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثَرُ فِي جِلْدِهَا وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ فَوَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ ، وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ تَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَتَثْبُتُ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ لَحْمًا وَجِلْدًا ، وَقَدْ لَا تَثْبُتُ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ ، وَإِذَا وَقَعَ اصْطِيَادًا صَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ غَيْرَهُ ( وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ ) ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ ( وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( لَوْ رَمَى إلَى طَائِرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَمَرَّ الطَّائِرُ وَلَا يَدْرِي وَحْشِيٌّ هُوَ أَوْ غَيْرُ وَحْشِيٍّ حَلَّ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّوَحُّشُ ( وَلَوْ رَمَى إلَى بَعِيرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَا يَدْرِي نَادٌّ هُوَ أَمَّ لَا لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الِاسْتِئْنَاسُ ( وَلَوْ رَمَى إلَى سَمَكَةٍ أَوْ جَرَادَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يَحِلُّ فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ ، وَفِي أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ فِيهِمَا ( وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ وَقَدْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ يَحِلُّ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ ( فَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أُكِلَ مَا أَصَابَ إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ فَمَاتَ ) ؛ لِأَنَّهُ ذَابِحٌ بِالرَّمْيِ لِكَوْنِ السَّهْمِ آلَةً
لَهُ فَتُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ مَحَلٌّ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الذَّكَاةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ قَالَ ( وَإِذَا أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهَا بِوُجُوهِهَا ، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَا نُعِيدُهُ .
( فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْآلَةِ الْجَمَادِيَّةِ ، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ الْأَوَّلِ ، قَوْلُهُ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ ) قَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : أَيْ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ أَقُولُ : هَذَا التَّفْسِيرُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الظَّبْيَ الْمُوَثَّقَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ دُونَ الْآدَمِيِّ ؛ إذْ لَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانَيْنِ فَإِنْ قُلْت : الْمُرَادُ بِكَوْنِ الظَّبْيِ الْمُوَثَّقِ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ غَيْرَ صَيْدٍ كَالْآدَمِيِّ لَا الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَلَا مَحْذُورَ فِي جَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ قُلْت : لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْمَعْنَى لَقَالَ : وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا غَيْرَ صَيْدٍ وَلَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ ، وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ مُجَرَّدَ أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدًا بَلْ الِاشْتِرَاكُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَيْضًا فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ : أَيْ الظَّبْيُ الْمُقَيَّدُ بِمَنْزِلَةِ الطَّيْرِ الدَّاجِنِ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ انْتَهَى
قَالَ ( وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ) ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ الرَّامِي وَقَالَ : لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ قَتَلَتْهُ } وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ قَائِمٌ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِمَا رَوَيْنَا ، إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَعْرَى الِاصْطِيَادُ عَنْهُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ ، وَاَلَّذِي رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا تَوَارَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ فَإِذَا بَاتَ لَيْلَةً لَمْ يَحِلَّ ( وَلَوْ وُجِدَ بِهِ جِرَاحَةٌ سِوَى جِرَاحَةِ سَهْمِهِ لَا يَحِلُّ ) ؛ لِأَنَّهُ مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاعْتُبِرَ مُحَرَّمًا ، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ وَالْجَوَابُ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي الرَّمْيِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ ، وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ ) قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَجَعَلَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ مِنْ شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ فَقَالَ : لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كُلْ مَا أَصَمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت ، وَالْإِصْمَاءُ : مَا رَأَيْته ، وَالْإِنْمَاءُ : مَا تَوَارَى عَنْك وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ يَحْرُمُ بِالتَّوَارِي ، وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الزَّيْلَعِيُّ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ لَمْ يَجْعَلْ فِي فَتَاوَاهُ مِنْ شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ عَدَمَ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ بِخُصُوصِهِ ، بَلْ جَعَلَ مِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ : عَدَمُ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ ، وَعَدَمُ الْقُعُودِ عَنْ طَلَبِهِ حَيْثُ قَالَ : وَالسَّابِعُ يَعْنِي الشَّرْطَ السَّابِعَ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ فَيَكُونَ فِي طَلَبِهِ ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِعَمَلٍ آخَرَ حَتَّى يَجِدَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كُلْ مَا أَصَمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت وَالْإِصْمَاءُ : مَا رَأَيْته ، وَالْإِنْمَاءُ : مَا تَوَارَى عَنْك انْتَهَى وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ : وَالسَّابِعُ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ ، بَلْ إنَّمَا يَحْرُمُ بِالتَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ وَالْقُعُودِ عَنْ طَلَبِهِ مَعًا وَأَمَّا قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا يَحِلُّ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ
بَصَرِهِ وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ كَلَامِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ فَيُعْذَرُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارِي الصَّيْدِ عَنْ بَصَرِ الرَّامِي ، فَكَانَ فِي اعْتِبَارِ عَدَمِ التَّوَارِي مُطْلَقًا حَرَجٌ عَظِيمٌ ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةُ أَنْ لَا يَعْرَى الِاصْطِيَادُ عَنْهُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ عَلَى حِمَارِ وَحْشٍ عَقِيرٍ فَتَبَادَرَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهُ فَسَيَأْتِي صَاحِبُهُ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : هَذِهِ رَمْيَتِي ، وَأَنَا فِي طَلَبِهَا وَقَدْ جَعَلْتهَا لَك ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الرِّفَاقِ } انْتَهَى .
قَالَ ( وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَرَدِّيَةُ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَلِأَنَّهُ احْتَمَلَ الْمَوْتَ بِغَيْرِ الرَّمْيِ ؛ إذْ الْمَاءُ مُهْلِكٌ وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { وَإِنْ وَقَعَتْ رَمِيَّتُك فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُك } ( وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، وَفِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ الِاصْطِيَادِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ سَبَبَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ إذَا اجْتَمَعَا وَأَمْكَنَ التَّحَرُّزُ عَمَّا هُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ تُرَجَّحُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ جَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى عَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، فَمِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى شَجَرٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ آجُرَّةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أَوْ رَمَاهُ ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ حَتَّى تَرَدَّى إلَى الْأَرْضِ ، أَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ عَلَى رُمْحٍ مَنْصُوبٍ أَوْ عَلَى قَصَبَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ عَلَى حَرْفِ آجُرَّةٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَتَلَهُ ، وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ مَعْنَاهُ كَجَبَلٍ أَوْ ظَهْرِ بَيْتٍ أَوْ لَبِنَةٍ مَوْضُوعَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَرْضِ سَوَاءٌ وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَفَى : لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَحُمِلَ مُطْلَقُ الْمَرْوِيِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ الِانْشِقَاقِ ، وَحَمَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا
أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ ، وَحَمَلَ الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجُرَّةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ عَفْوٌ وَهَذَا أَصَحُّ وَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ مَائِيًّا ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ لَا تَنْغَمِسُ فِي الْمَاءِ أُكِلَ ، وَإِنْ انْغَمَسَتْ لَا يُؤْكَلُ كَمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ
( قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا التَّقْيِيدُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ هَا هُنَا ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى نَحْوِ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ لَيْسَ بِوُقُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ قَسِيمًا لِلثَّانِي فِيمَا سَيَجِيءُ ، وَعَدَّ الْأَوَّلَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، وَالثَّانِيَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتَنَاوَلَ قَوْلُهُ هَا هُنَا وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً مَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَى أَنْ يُقَالَ : يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ
قَالَ ( وَمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَإِنْ جَرَحَهُ يُؤْكَلُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَكُلْ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا تَأْكُلْ } وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .
قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ فَمَاتَ بِهَا ) ؛ لِأَنَّهَا تَدُقُّ وَتَكْسِرُ وَلَا تَجْرَحُ فَصَارَ كَالْمِعْرَاضِ إذَا لَمْ يَخْزِقُ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ ، وَكَذَا إنْ جَرَحَهُ قَالُوا : تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ يَحِلُّ لِتَعَيُّنِ الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا ، وَجَعَلَهُ طَوِيلًا كَالسَّهْمِ وَبِهِ حِدَةٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِجُرْحِهِ ، وَلَوْ رَمَاهُ بِمَرْوَةِ حَدِيدَةٍ وَلَمْ تُبْضِعْ بِضْعًا لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا ، وَكَذَا إذَا رَمَاهُ بِهَا فَأَبَانَ رَأْسَهُ أَوْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ ؛ لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَنْقَطِعُ بِثِقَلِ الْحَجَرِ كَمَا تَنْقَطِعُ بِالْقَطْعِ فَوْقَ الشَّكِّ أَوْ لَعَلَّهُ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ ، وَلَوْ رَمَاهُ بِعَصًا أَوْ بِعُودٍ حَتَّى قَتَلَهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ ثِقَلًا لَا جُرْحًا ، اللَّهُمَّ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ حِدَةٌ يُبْضِعُ بِضْعًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَوْتَ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الْجُرْحِ بِيَقِينٍ كَانَ الصَّيْدُ حَلَالًا ، وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الثِّقَلِ بِيَقِينٍ كَانَ حَرَامًا ، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ وَلَا يَدْرِي مَاتَ بِالْجُرْحِ أَوْ بِالثِّقَلِ كَانَ حَرَامًا احْتِيَاطًا ، وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ بِسِكِّينٍ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ فَجَرَحَهُ حَلَّ ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السَّيْفِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا ، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَوْ رَمَاهُ فَجَرَحَهُ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ ، إنْ كَانَ الْجُرْحُ مُدْمِيًا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ بِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ } شَرَطَ الْإِنْهَارَ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً حَلَّ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ ، وَلَوْ ذَبَحَ شَاةً وَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَا تَحِلُّ وَقِيلَ تَحِلُّ وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ أَوْ قَرْنَهُ ، فَإِنْ أَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ
( قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّبْحِ هُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ النَّجِسِ ، وَأَنَّ الْجُرْحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ الْبَدَنِ ذَبْحٌ اضْطِرَارِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الذَّبْحِ الِاخْتِيَارِيِّ وَهُوَ الْجُرْحُ فِيمَا بَيْنَ اللِّبَةِ وَاللَّحْيَيْنِ ، وَأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْ الذَّبْحَيْنِ إخْرَاجَ الدَّمِ إلَّا أَنَّ الِاخْتِيَارِيَّ أَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَارِيِّ فَكَوْنُ الدَّمِ مُحْتَبِسًا لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ لَا يَقْتَضِي حِلَّ أَكْلِ الْمَجْرُوحِ بِالرَّمْيِ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ ، بَلْ يَقْتَضِي حُرْمَتَهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالذَّبْحِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَفِي اعْتِبَارِ الْإِدْمَاءِ حَرَجٌ ، فَاكْتَفَى بِمَا هُوَ سَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْجُرْحُ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ } شَرَطَ الْإِنْهَارَ ) أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ دَلَالَةَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى شَرْطِ الْإِنْهَارِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ الْمُخَالِفَةِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ وَطَعَنَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدِي ؛ لِأَنَّهُ كَمَا شَرَطَ الْإِنْهَارَ شَرَطَ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ أَيْضًا وَفِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ لَا يُشْتَرَطُ فَرْيُ الْأَوْدَاجِ ، فَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْإِنْهَارُ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَلُزُومِ الْحَرَجِ فِي اشْتِرَاطِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ
مُتَحَقِّقٌ فِي الْإِنْهَارِ ؛ إذْ لَا عَجْزَ عَنْ الْجُرْحِ بِلَا رَيْبٍ ، ثُمَّ إنَّ الْجُرْحَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِنْهَارِ فِي الْغَالِبِ فَلَا حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ الْإِنْهَارِ عَلَى رَأْيِ ذَلِكَ الْبَعْضِ فَافْتَرَقَا
قَالَ ( وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ أُكِلَ الصَّيْدُ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَا يُؤْكَلُ الْعُضْوُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : أُكِلَ إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَانٌ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فَيَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمُتْ ؛ لِأَنَّهُ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ } ذِكْرُ الْحَيِّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ حَقِيقَةً لِقِيَامِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، وَكَذَا حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ تُتَوَهَّمُ سَلَامَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ وَلِهَذَا اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَيًّا ، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ وَقَوْلُهُ أُبِينَ بِالذَّكَاةِ قُلْنَا حَالَ وُقُوعِهِ لَمْ يَقَعْ ذَكَاةً لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي ، وَعِنْدَ زَوَالِهِ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُبَانِ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ فِيهِ ، وَلَا تَبَعِيَّةَ لِزَوَالِهَا بِالِانْفِصَالِ فَصَارَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا يَحِلُّ ، وَالْمُبَانُ مِنْ الْحَيِّ صُورَةً لَا حُكْمًا يَحِلُّ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى فِي الْمُبَانِ مِنْهُ حَيَاةٌ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي الْمَذْبُوحِ فَإِنَّهُ حَيَاةٌ صُورَةً لَا حُكْمًا ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَبِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ لَا يَحْرُمُ فَتُخَرَّجُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ ، فَنَقُولُ : إذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ الْمُبَانُ وَيَحِلُّ الْمُبَانُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي ( وَلَوْ قَدَّهُ بِنِصْفَيْنِ أَوْ قَطَّعَهُ أَثْلَاثًا وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ أَوْ قَطَعَ نِصْفَ رَأْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ يَحِلُّ الْمُبَانُ وَالْمُبَانُ مِنْهُ ) ؛
لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ صُورَةً لَا حُكْمًا ؛ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ بَعْدَ هَذَا الْجُرْحِ ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ تَنَاوَلَ السَّمَكَ وَمَا أُبِينَ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ ، إلَّا أَنَّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَاهُ
( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ } ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : يَعْنِي أَنَّهُ ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالْكَامِلُ هُوَ الْحَيُّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ : أَيْ أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَقُولُ : الْمُقَدَّمَةُ الْقَائِلَةُ : إنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ شَائِعَةٌ فِي أَلْسِنَةِ الْفُقَهَاءِ وَكُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهَا مُخَالِفَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، كَمَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَجْرِي عَلَى تَقْيِيدِهِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ
( وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا يَحِلُّ لِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ ) وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ لِإِبْلَاغِهِ النُّخَاعَ ، وَإِنْ ضَرَبَهُ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا ، إنْ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى قَطَعَ الْأَوْدَاجَ حَلَّ ( وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَلَمْ يُبِنْهُ ؛ إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الِالْتِئَامُ وَالِانْدِمَالُ فَإِذَا مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَهَّمُ بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ حَلَّ مَا سِوَاهُ لِوُجُودِ الْإِبَانَةِ مَعْنًى وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي .
قَالَ ( وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ وَالْمُرْتَدِّ وَالْوَثَنِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الذَّبَائِحِ ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ اخْتِيَارًا فَكَذَا اضْطِرَارًا .
قَالَ ( وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ يُثْخِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ فَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي وَيُؤْكَلُ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ } ( وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يُؤْكَلْ ) لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِالثَّانِي ، وَهُوَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِلْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَوْتُ مُضَافًا إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ ، كَمَا إذَا أَبَانَ رَأْسَهُ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَا يُضَافُ إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ ، وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ بِأَنْ كَانَ يَعِيشُ يَوْمًا أَوْ دُونَهُ ؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْرُمُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْرُمُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْحَيَاةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَذْهَبِهِ فَصَارَ الْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ سَوَاءً فَلَا يَحِلُّ قَالَ ( وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالرَّمْيِ الْمُثْخِنِ وَهُوَ مَنْقُوصٌ بِجِرَاحَتِهِ ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ الْإِتْلَافِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَأْوِيلُهُ إذَا عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ مِنْهُ وَالثَّانِي بِحَالٍ لَا
يَسْلَمُ الصَّيْدُ مِنْهُ لِيَكُونَ الْقَتْلُ كُلُّهُ مُضَافًا إلَى الثَّانِيَ وَقَدْ قَتَلَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ مَنْقُوصًا بِالْجِرَاحَةِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَامِلًا ، كَمَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مَرِيضًا وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ : يَضْمَنُ الثَّانِي مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ يُضَمِّنُهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ ثُمَّ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ لَحْمِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ وَقَدْ نَقَصَهُ فَيَضْمَنُ مَا نَقَصَهُ أَوَّلًا وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِالْجِرَاحَتَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مَا كَانَتْ بِصُنْعِهِ ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِنَهَا مَرَّةً فَلَا يَضْمَنُهَا ثَانِيًا وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ صَارَ بِحَالٍ يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ لَوْلَا رَمْيُ الثَّانِي ، فَهَذَا بِالرَّمْيِ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ نِصْفَ اللَّحْمِ فَيَضْمَنُهُ ، وَلَا يَضْمَنُ النِّصْفَ الْآخَرَ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ مَرَّةً فَدَخَلَ ضَمَانُ اللَّحْمِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ ثَانِيًا فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي غَيْرَهُ ، وَيَصِيرُ كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فَأَنْزَلَهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَرَّمٌ ، كَذَا هَذَا .
( قَوْلُهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَأْوِيلُهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ مِنْهُ إلَخْ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ هَا هُنَا بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ أَوَّلَهَا مَرَّةً فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ : وَهَذَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ يُرَى مُسْتَدْرِكًا ؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَ التَّأْوِيلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهِيَ قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ انْتَهَى فَلَمَّا أَوَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ بِمَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا قَوْلُهُ : وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ فَرْعُ قَوْلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ ، فَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ شَرْطٌ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الرَّمْيَ الْأَوَّلَ كَانَ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالرَّمْيِ الثَّانِي فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ : إنَّ كَوْنَ الرَّمْيِ الْأَوَّلِ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ فَقَطْ ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَحْصُلَ مِنْ اجْتِمَاعِ الرَّمْيَيْنِ ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ فِي حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِمَا عُلِمَ كَوْنُ الْقَتْلِ حَاصِلًا بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ مِنْ
الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي ، وَلَا يُفِيدُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هَذَا التَّقْيِيدَ ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا أَعَمُّ تَحَقُّقًا مِنْ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا لِتَنَاوُلِهِ صُورَةَ أَنْ يَحْصُلَ الْقَتْلُ مِنْ مَجْمُوعِ الرَّمْيَيْنِ كَمَا يَتَنَاوَلُ صُورَةَ أَنْ يَحْصُلَ بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الِاحْتِرَازُ عَمَّا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ ، وَعَمَّا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ كَمَا فَصَّلَهُ مِنْ قَبْلُ ، فَلَا اسْتِدْرَاكَ أَصْلًا بَلْ أَصَابَ كُلٌّ مِنْ التَّأْوِيلَيْنِ مَجْرَاهُ
قَالَ ( وَيَجُوزُ اصْطِيَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ ) لِإِطْلَاقِ مَا تَلُونَا وَالصَّيْدُ لَا يَخْتَصُّ بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ قَالَ قَائِلُهُمْ : صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِب وَثَعَالِب وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ وَلِأَنَّ صَيْدَهُ سَبَبٌ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ شَعْرِهِ أَوْ رِيشَةِ أَوْ لِاسْتِدْفَاعِ شَرِّهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ .
كِتَابُ الرَّهْنِ الرَّهْنُ لُغَةً : حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وَفِي الشَّرِيعَةِ : جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَبِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ } وَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى ذَلِكَ الْإِجْمَاعُ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ فَيُعْتَبَرُ بِالْوَثِيقَةِ فِي طَرَفِ الْوُجُوبِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ قَالَ ( الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ ) قَالُوا : الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَصَارَ كَالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ وَثِيقَةٍ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ وَلَنَا مَا تَلَوْنَا ، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ لِمَا أَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا وَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْضَائِهِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ ، ثُمَّ يَكْتَفِي فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَاقِلٌ لِلضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ بِمُوجِبٍ ابْتِدَاءً وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( كِتَابُ الرَّهْنِ ) مُنَاسَبَةُ كِتَابِ الرَّهْنِ لِكِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّهْنِ وَالِاصْطِيَادِ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ الْمَذْكُورَةَ مُتَحَقِّقَةٌ بَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فَلَا تَكُونُ مُرَجِّحَةً لِإِيرَادِ كِتَابِ الرَّهْنِ عَقِيبَ كِتَابِ الصَّيْدِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذِهِ الْمُنَاسَبَةَ مَعَ مُلَاحَظَةِ الْمُنَاسَبَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ تَقْتَضِي إيرَادَ كِتَابِ الرَّهْنِ عَقِيبَ كِتَابِ الصَّيْدِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ تَفْوِيتُ تِلْكَ الْمُنَاسِبَاتِ فَتَكُونُ مُرَجَّحَةً مَعَ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةِ ، وَقَدْ نَبَّهْت عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي نَظَائِرِ هَذَا الْمَقَامِ فَلَا تَغْفُلْ ثُمَّ مِنْ مَحَاسِنِ الرَّهْنِ حُصُولُ النَّظَرِ لِكُلٍّ مِنْ جَانِبَيْ الدَّائِنِ وَالْمَدْيُونِ كَمَا فَصَّلَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَسَبَبُهُ مَا ذُكِرَ فِي سَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ تَعَلُّقِ الْبَقَاءِ الْمُقَدَّرِ بِتَعَاطِيهِ وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً وَشَرِيعَةً وَرُكْنُهُ وَشَرْطُ جَوَازِهِ وَشَرْطُ لُزُومِهِ وَدَلِيلُ مَشْرُوعِيَّتِهِ وَحُكْمُهُ فَيَجِيءُ كُلُّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا صَرَاحَةً أَوْ إشَارَةً فَتَنَبَّهْ لَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ الرَّهْنُ فِي اللُّغَةِ حَبْسُ الشَّيْءِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ وَفِي الشَّرِيعَةِ جَعْلُ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ كَالدُّيُونِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا تَعْرِيفُ الرَّهْنِ التَّامِّ أَوْ اللَّازِمِ ، وَإِلَّا فَفِي انْعِقَادِ الرَّهْنِ لَا يَلْزَمُ الْحَبْسُ بَلْ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِانْعِقَادِ الرَّهْنِ مَعْنَى جَعْلِ الشَّيْءِ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ ، إلَّا أَنَّ لِلْعَاقِدِ الرُّجُوعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فَقَبْلَ الْقَبْضِ يُوجَدُ مَعْنَى الْحَبْسِ
، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِلرَّهْنِ إنَّمَا هُوَ نَفْسُ الْحَبْسِ لَا لُزُومُهُ ، فَيَصْدُقُ هَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى الرَّهْنِ قَبْلَ تَمَامِهِ وَلُزُومِهِ أَيْضًا بِلَا رَيْبٍ ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ النَّسَفِيَّ لَمَّا قَالَ فِي الْكَنْزِ : هُوَ حَبْسُ شَيْءٍ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ كَالدَّيْنِ ، قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِهِ : هَذَا حَدُّهُ فِي الشَّرْعِ ، ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُهُ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ الْمُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنْ الْكَافِ فِي قَوْلِهِ كَالدَّيْنِ أَنْ يَجُوزَ الرَّهْنُ بِغَيْرِ الدَّيْنِ أَيْضًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الرَّهْنِ بِغَيْرِ الدَّيْنِ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى انْحِصَارِ مَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ فِي الدَّيْنِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ الزَّيْلَعِيِّ قَوْلُهُ كَالدَّيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالدَّيْنِ ( قَوْلُهُ الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : رُكْنُ الرَّهْنِ الْإِيجَابُ وَهُوَ قَوْلُ الرَّاهِنِ رَهَنْتُك هَذَا الْمَالَ بِدَيْنٍ لَك عَلَيَّ وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَالْقَبُولُ وَهُوَ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ قَبِلْت ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَعَلَى ذَلِكَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ انْتَهَى وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِأَنْ قَالَ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِعَقْدِ التَّبَرُّعَاتِ ، وَقَالَ : إلَّا أَنْ يَخُصَّ الْعَقْدَ فِي الصُّغْرَى بِمَا سِوَى التَّبَرُّعِ أَقُولُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ إيرَادِهِ وَتَوْجِيهِهِ بِمُسْتَقِيمٍ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ انْعِقَادَ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَجْمُوعِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَقُولُ بِأَنَّ
الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ عَقْدِ التَّبَرُّعَاتِ أَيْضًا ، وَاخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ فِي أَنَّ الْقَبُولَ هَلْ هُوَ رُكْنٌ كَالْإِيجَابِ أَمْ لَا ؟ لَيْسَ بِمُخْتَصٍّ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بَلْ يَعُمُّ سَائِرَ التَّبَرُّعَاتِ أَيْضًا مِنْ الْعُقُودِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْهِبَةِ ، فَلَا انْتِقَاضَ بِشَيْءٍ عَلَى أَصْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ الْمَشَايِخِ بِأَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ ، وَقَوْلُ الْقُدُورِيِّ : الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَتَعْلِيلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلِ هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخِ وَأَمَّا قَوْلُ سَائِرِ الْمَشَايِخِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ قَالُوا : الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ ، وَأَوْضَحَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَوْ خَصَّ الْعَقْدَ فِي الصُّغْرَى بِمَا سِوَى التَّبَرُّعِ صَارَ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ أَيْ الرَّهْنَ عَقْدٌ غَيْرُ تَبَرُّعٍ ، وَكُلُّ عَقْدٍ غَيْرِ تَبَرُّعٍ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الصُّغْرَى تَصِيرُ حِينَئِذٍ كَاذِبَةً ؛ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَيْسَ بِعَقْدِ تَبَرُّعٍ ، بَلْ أَطْبَقَتْ كَلِمَاتُهُمْ عَلَى أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا صِحَّةَ لِلتَّخْصِيصِ بِمَا سِوَى التَّبَرُّعِ ( قَوْلُهُ قَالُوا : الرُّكْنُ الْإِيجَابُ بِمُجَرَّدِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَيَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حِلِّ هَذَا التَّعْلِيلِ : لِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ ، فَالرَّهْنُ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ ، أَمَّا أَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ مَا أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ الْيَدِ شَيْئًا عَلَيْهِ ، وَلَا نَعْنِي بِالتَّبَرُّعِ إلَّا ذَلِكَ وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ كَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُتَبَرَّعِ فَكَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَقَالَ :
فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ صَيْرُورَتَهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِيجَابِ مَا يَكُونُ ابْتِدَاءً ، وَالرَّهْنُ لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ إنْ لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ ابْتِدَاءً فَقَدْ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ شَيْئًا فِي الْبَقَاءِ ، وَهُوَ صَيْرُورَةُ الْمُرْتَهِنِ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ ، فَلَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ عَقْدَ تَبَرُّعٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بَلْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وَجْهٍ حَيْثُ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتِمَّ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ وَحْدَهُ ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى قَبُولِ الْمُرْتَهِنِ أَيْضًا حَتَّى يَتِمَّ جَعْلُنَا إيَّاهُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ حُكْمًا عِنْدَ الْهَلَاكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ تَفْصِيلُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَالْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : كَأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ فَيَكُونُ الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزًا ، وَبِهِ يَلْزَمُ ، وَهُوَ أَيْضًا اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ غَيْرَ مَقْبُوضٍ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : وَلَا يَجُوزُ إلَّا مَقْبُوضًا مُفَرَّغًا مَحُوزًا وَقَالَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ : لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ مُخَالَفَةِ مَا فِي الْكِتَابِ لِرِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ فَقَالَ : سَبَقَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } وَالْقَبْضُ لَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ فِي الْهِبَةِ فَلْيَكُنْ هُنَا
كَذَلِكَ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ ؛ إذْ قَدْ دَعَتْ الضَّرُورَةُ هُنَاكَ إلَى صَرْفِ نَفْيِ الْجَوَازِ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ إذْ الْجَوَازُ قَبْلَ الْقَبْضِ ثَابِتٌ هُنَاكَ بِالْإِجْمَاعِ ، فَحَمَلْنَا نَفْيَ الْجَوَازِ بِدُونِ الْقَبْضِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } عَلَى نَفْيِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْهِبَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَأَمَّا هُنَا فَلَا ضَرُورَةَ وَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى نَفْيِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِدُونِ الْقَبْضِ وَثُبُوتِهِ لَهُ بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ النَّفْيِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ؛ إذْ لَيْسَ حُكْمُ الرَّهْنِ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُرْتَهِنِ بِحَالٍ أَصْلًا فَبَقِيَ نَفْيُ الْجَوَازِ هَا هُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ قَوْلُهُ ( وَلَنَا مَا تَلَوْنَا ، وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ فِي مَحَلِّ الْجَزَاءِ يُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ ) نَظِيرُهُ قَوْله تَعَالَى { فَضَرْبَ الرِّقَابِ } أَيْ فَاضْرِبُوهَا وقَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أَيْ فَلْيُحَرِّرْهَا وقَوْله تَعَالَى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } بِتَقْدِيرِ فَصَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ : أَيْ فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، فَكَانَ الْمَصْدَرُ فِيمَا تَلَوْنَا هَا هُنَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } بِمَعْنَى الْأَمْرِ : أَيْ فَارْهَنُوا وَارْتَهِنُوا ثُمَّ لَمَّا كَانَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ وَلَمْ يُعْمَلْ بِمُوجِبِ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ الْوُجُوبُ وَاللُّزُومُ فِي حَقِّ نَفْسِ الرَّهْنِ حَيْثُ لَمْ يَجِبْ الرَّهْنُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِالْإِجْمَاعِ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِي شَرْطِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ كَمَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } بِالنَّصْبِ : أَيْ بِيعُوا ، فَلَمْ يَعْمَلْ الْأَمْرُ فِي نَفْسِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَاحٌ غَيْرُ وَاجِبٍ فَصُرِفَ إلَى شَرْطِهِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا ، فَكَذَا هُنَا ، هَذَا زُبْدَةُ مَا ذُكِرَ فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ ثُمَّ
إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ اسْتَشْكَلُوا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا ، فَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فِي تَسْمِيَةِ الرِّهَانِ بِالْمَصْدَرِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ كَالنَّعْلِ وَالنِّعَالِ وَالْحَبْلِ وَالْحِبَالِ ، كَذَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُوضَةٌ بِالتَّأْنِيثِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ ، وَلَوْ تَمَحَّلَ مُتَمَحِّلٌ بِتَصْحِيحِ مَا فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَقْدِيرُهُ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ فَكَانَ الْمَصْدَرُ مَحْذُوفًا فَجَعَلَ الْمَحْذُوفَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ فَقَالَ وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، وَالرِّهَانُ لَمَّا كَانَ مَصْدَرًا عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْكِتَابِ كَانَ إرَادَةُ الْمَرْهُونِ بِهِ جَائِزَةً كَالرَّهْنِ يُرَادُ بِهِ الْمَرْهُونُ ، ثُمَّ أُنِّثَ الْمَرْهُونُ بِتَأْوِيلِ السِّلْعَةِ أَوْ الْعَيْنِ فَقِيلَ مَقْبُوضَةٌ بِالتَّأْنِيثِ كَمَا يُؤَنَّثُ الصَّوْتُ بِتَأْوِيلِ الصَّيْحَةِ لَكَانَ وَجْهًا بَعِيدًا ؛ إذْ فِي الْأَوَّلِ وُرُودُ الْإِلْبَاسِ وَفِي الثَّانِي لَا يَبْقَى الْمَصْدَرُ بِحَقِيقَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَقَدْ سَمَّى صَاحِبُ الْهِدَايَةِ الرِّهَانَ مَصْدَرًا كَمَا تَرَى ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ فِي قَوَانِينِ اللُّغَةِ كَالْجَمْهَرَةِ وَدِيوَانِ الْأَدَبِ وَغَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : الرِّهَانُ جَمْعُ رَهْنٍ ، وَجَمْعُ الرَّهْنِ رُهُونٌ وَرِهَانٌ وَرُهُنٌ بِضَمَّتَيْنِ ، وَالرَّهِينَةُ بِمَعْنَى الرَّهْنِ أَيْضًا وَجَمْعُهَا رَهَائِنُ نَعَمْ الرِّهَانُ يَجِيءُ مَصْدَرًا مِنْ قَوْلِهِمْ رَاهَنَهُ عَلَى كَذَا : أَيْ خَاطَرَهُ مُرَاهَنَةً وَرِهَانًا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْمُرَادَ فِي الْآيَةِ لَمْ يَحْتَجْ فِي صِفَةِ الرِّهَانِ إلَى تَاءِ التَّأْنِيثِ فَافْهَمْ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : فِي تَسْمِيَتِهِ الرِّهَانَ
بِالْمَصْدَرِ نَظَرٌ لِأَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ كَالنَّعْلِ وَالنِّعَالِ وَالْحَبْلِ وَالْحِبَالِ ، وَقَوْلُهُ مَقْبُوضَةٌ بِالتَّأْنِيثِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ جَمْعٌ وَلَيْسَ بِمَصْدَرٍ ، وَإِنَّمَا قَالَ : وَالْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ انْتَهَى وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَفِي النِّهَايَةِ : فِي تَسْمِيَتِهِ الرِّهَانَ بِالْمَصْدَرِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الرِّهَانَ جَمْعُ رَهْنٍ كَالنَّعْلِ وَالنِّعَالِ وَهَكَذَا فِي كُتُبِ اللُّغَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ { مَقْبُوضَةٌ } بِالتَّأْنِيثِ فَدَلَّ أَنَّهُ جَمْعٌ لَا مَصْدَرٌ وَقَالَ فِي الْفَوَائِدِ الشَّاهِيَةِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّهَانُ مَصْدَرًا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ كَالْقِتَالِ وَالضِّرَابِ ، وَمَقْبُوضَةٌ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فَرِهَانٌ مَرْهُونَةٌ مَقْبُوضَةٌ ، وَأَنَّثَ الْمَرْهُونَ بِتَأْوِيلِ السِّلْعَةِ أَوْ الْعَيْنِ كَمَا يُؤَنَّثُ الصَّوْتُ بِتَأْوِيلِ الصَّيْحَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّهَانُ مَصْدَرًا بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ ، وَأَنَّثَ الْمَرْهُونَ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّهَانُ قَائِمًا مَقَامَ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ وَهُوَ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ فَيَكُونُ مَصْدَرًا تَقْدِيرًا لَا تَحْقِيقًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَعَدَّ مَا اسْتَشْكَلُوهُ أَمْرًا هَيِّنًا وَتَعَجَّبَ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ إنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الرِّهَانَ مَصْدَرًا وَهُوَ جَمْعُ رَهْنٍ ، ثُمَّ قَالَ : وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ مِمَّا يُقْضَى مِنْهُ الْعَجَبُ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعُ رَهْنٍ وَالرَّهْنُ مَصْدَرٌ فَجَمْعُهُ كَذَلِكَ ، وَإِسْنَادُ مَقْبُوضَةٍ إلَى ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ كَمَا فِي : سَيْلٍ مُفْعَمٍ انْتَهَى أَقُولُ : مَنْشَأُ مُجَازَفَتِهِ هَذِهِ الْغُفُولَ عَمَّا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الرِّهَانِ جَمْعَ رَهْنٍ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ جَمْعَ رَهْنٍ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ فَكَلَّا بَلْ هُوَ جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : وَالرَّهْنُ الْمَرْهُونُ
وَالْجَمْعُ رُهُونٌ وَرِهَانٌ وَرُهُنٌ وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الرَّهْنُ مَا وُضِعَ عِنْدَك لِيَنُوبَ مَنَابَ مَا أُخِذَ مِنْك وَالْجَمْعُ رِهَانٌ وَرُهُونٌ وَرُهُنٌ بِضَمَّتَيْنِ وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : الرَّهْنُ مَعْرُوفٌ ، وَالْجَمْعُ رِهَانٌ مِثْلُ حَبْلٍ وَحِبَالٍ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْقَاضِي : رِهَانٌ وَرُهُنٌ كِلَاهُمَا جَمْعُ رَهْنٍ بِمَعْنَى مَرْهُونٍ ، وَكَذَا فِي سَائِرِ التَّفَاسِيرِ ثُمَّ إنَّ كَوْنَ إسْنَادِ { مَقْبُوضَةٌ } إلَى ضَمِيرِ رِهَانٍ مَجَازًا عَقْلِيًّا خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِلَا ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ ، وَهِيَ مُنْتَفِيَةٌ فِي الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ ، إذْ يَصِحُّ الْمَعْنَى وَيَحْسُنُ جِدًّا بِحَمْلِ الرِّهَانِ عَلَى جَمْعِ الرَّهْنِ بِمَعْنَى الْمَرْهُونِ كَمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُفَسِّرُونَ وَيَكُونُ الْإِسْنَادُ إذْ ذَاكَ حَقِيقِيًّا ، فَمَا مَعْنَى الْعُدُولِ عَنْهُ ، وَبِنَاءُ اسْتِدْلَالِنَا بِتِلْكَ الْآيَةِ عَلَى مَا هُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ فَحَوْلُ الْمُفَسِّرِينَ ثُمَّ إنَّ تَمْثِيلَهُ الْمَجَازَ الْعَقْلِيَّ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ هَا هُنَا بِسَيْلٍ مُفْعَمٍ قَبِيحٌ جِدًّا ، فَإِنَّ الْمُفْعَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ أُسْنِدَ إلَى الْفَاعِلِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَيْسَ مِمَّا أُسْنِدَ إلَى الْمَصْدَرِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ، فَالْمُنَاسِبُ فِي التَّمْثِيلِ هَا هُنَا أَنْ يَقُولَ كَمَا فِي شِعْرِ شَاعِرٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ عِلْمِ الْبَلَاغَةِ ثُمَّ أَقُولُ : التَّوْجِيهَاتُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سَائِرِ الشُّرُوحِ لِتَصْحِيحِ مَا فِي الْكِتَابِ كُلُّهَا أَيْضًا خِلَافُ الظَّاهِرِ وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ ، فَالْإِنْصَافُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِمِثْلِهَا لَا يُفِيدُ الْقَطْعَ وَلَا الْإِلْزَامَ عَلَى الْخَصْمِ ، وَلَكِنَّ الْأَقْرَبَ وَالْأَشْبَهَ مِنْ بَيْنِهَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ فَرَهْنُ رِهَانٍ مَقْبُوضَةٍ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَصْدَرُ الْمَقْرُونُ بِالْفَاءِ مَحْذُوفًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فَإِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ : فَصَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
تَأَمَّلْ تَرْشُدْ ( قَوْلُهُ ثُمَّ يُكْتَفَى فِيهِ بِالتَّخْلِيَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا مَنْقُوضٌ بِصُورَةِ الصَّرْفِ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْقَبْضِ بِالْبَرَاجِمِ وَلَا يُكْتَفَى بِالتَّخْلِيَةِ مَعَ جَرَيَانِ الدَّلِيلِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ رِوَايَةُ كِفَايَةِ التَّخْلِيَةِ فِيهِ وَكَوْنُهَا مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ انْتَهَى أَقُولُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا النَّقْضِ هَيِّنٌ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ ، وَلُزُومُ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَدًا بِيَدٍ } كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ عَلَى مَا عُرِفَ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْقَبْضِ وَعَدَمَ كِفَايَةِ التَّخْلِيَةِ فَعَمِلْنَا فِيهِ بِمُوجِبِ الْقِيَاسِ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنَّقْلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَمْ يُعْهَدْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَبَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالضَّمَانِ مُنَافَاةٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الضَّمَانِ فِي الرَّهْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَنْتَفِي التَّبَرُّعُ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِي الرَّهْنِ غَيْرُ جِهَةِ الضَّمَانِ فِيهِ ، فَإِنَّ جِهَةَ التَّبَرُّعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُجْعَلُ مَحْبُوسًا فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِلَا اسْتِيجَابِ شَيْءٍ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ ذَلِكَ ، وَجِهَةُ الضَّمَانِ فِيهِ عِنْدَ الْهَلَاكِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ وَجْهٍ فَيَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْهَلَاكِ فَيَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ بِذَلِكَ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَى بَيَانِهِ ، وَالْمُنَافَاةُ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالضَّمَانِ إنَّمَا تَلْزَمُ أَنْ لَوْ كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ
فَلَيْسَ وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ ظُهُورِهِ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ تَفْصِيلِ دَلِيلِنَا الْعَقْلِيِّ عَلَى مَسْأَلَةٍ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ إلَى الْمُرْتَهِنِ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ
قَالَ ( وَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ ) لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِكَمَالِهِ فَلَزِمَ الْعَقْدُ ( وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَالرَّاهِنُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ سَلَّمَهُ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَنْ الرَّهْنِ ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللُّزُومَ بِالْقَبْضِ إذْ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَهُ .
( قَوْلُهُ فَإِذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُمَيَّزًا تَمَّ الْعَقْدُ فِيهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْهِبَةِ أَنَّ الْمَنْصُوصَ مُعْتَنًى بِشَأْنِهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَامِلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَحُوزًا مُفَرَّغًا مُتَمَيِّزًا فَيَجِبُ ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْبَسْطُ وَالتَّقْرِيرُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَثْبُتَ الْقَبْضُ بِالتَّخْلِيَةِ فِي بَابِ الرَّهْنِ ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَضَعَ الْمُرْتَهِنُ يَدَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْمَرْهُونِ ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْكَامِلَ فِي الْقَبْضِ هُوَ الثَّانِي ، وَهَذَا خِلَافُ مَا تَقَرَّرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَبِخِلَافِ مَا هُوَ الْمُخْتَارُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ
قَالَ ( وَإِذَا سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَقَبَضَهُ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ ، قَالَهَا ثَلَاثَةً ، لِصَاحِبِهِ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ } قَالَ : وَمَعْنَاهُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالدَّيْنِ فَبِهَلَاكِهِ لَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ اعْتِبَارًا بِهَلَاكِ الصَّكِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْوَثِيقَةِ يَزْدَادُ مَعْنَى الصِّيَانَةِ ، وَالسُّقُوطُ بِالْهَلَاكِ يُضَادُّ مَا اقْتَضَاهُ الْعَقْدُ إذَا لَحِقَ بِهِ يَصِيرُ بِعَرْضِ الْهَلَاكِ وَهُوَ ضِدُّ الصِّيَانَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمُرْتَهِنِ بَعْدَ مَا نَفَقَ فَرَسُ الرَّهْنِ عِنْدَهُ { ذَهَبَ حَقُّك } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا غَمَّى الرَّهْنَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ } مَعْنَاهُ : عَلَى مَا قَالُوا إذَا اشْتَبَهَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ بَعْدَ مَا هَلَكَ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى أَنَّ الرَّاهِنَ مَضْمُونٌ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَيْفِيَّتِهِ ، وَالْقَوْلُ بِالْأَمَانَةِ خَرْقٌ لَهُ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُغْلَقُ الرَّهْنُ } عَلَى مَا قَالُوا الِاحْتِبَاسُ الْكُلِّيُّ وَالتَّمَكُّنُ بِأَنْ يَصِيرَ مَمْلُوكًا لَهُ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ السَّلَفِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وَقَالَ قَائِلُهُمْ : وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غَلِقَا وَالْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ تَنْعَطِفُ عَلَى الْأَلْفَاظِ عَلَى وَفْقِ الْأَنْبَاءِ ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُوصِلَةً إلَيْهِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ لَهُ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالْحَبْسِ لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ
الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ ، وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ ، فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْقِيَامِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الِاسْتِيفَاءَ بِالرَّدِّ عَلَى الرَّاهِنِ فَلَا يَتَكَرَّرُ ، وَلَا وَجْهَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْبَاقِي بِدُونِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَقَعُ بِالْمَالِيَّةِ أَمَّا الْعَيْنُ فَأَمَانَةٌ حَتَّى كَانَتْ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ فِي حَيَاتِهِ وَكَفَنِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ ، وَكَذَا قَبْضُ الرَّهْنِ لَا يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ إذَا اشْتَرَاهُ الْمُرْتَهِنُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فَلَا تَنُوبُ عَنْ قَبْضِ ضَمَانٍ ، وَمُوجِبُ الْعَقْدِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا يُحَقِّقُ الصِّيَانَةَ ، وَإِنْ كَانَ فَرَاغُ الذِّمَّةِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا فِي الْحَوَالَةِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَنَا حُكْمَ الرَّهْنِ صَيْرُورَةُ الرَّهْنِ مُحْتَبِسًا بِدَيْنِهِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ تَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ اسْتِيفَاءً مِنْهُ عَيْنًا بِالْبَيْعِ ، فَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَدَدْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى جُمْلَةً : مِنْهَا أَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ عَنْ الِاسْتِرْدَادِ لِلِانْتِفَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ مُوجَبُهُ وَهُوَ الِاحْتِبَاسُ عَلَى الدَّوَامِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي مُوجِبَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَسَيَأْتِيك الْبَوَاقِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الرَّهْنَ يُنْبِئُ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } وَقَالَ قَائِلُهُمْ : وَفَارَقْتُك بِرَهْنٍ لَا فِكَاكَ لَهُ يَوْمَ الْوَدَاعِ فَأَمْسَى الرَّهْنُ قَدْ غُلِقَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قِيلَ الدَّوَامُ إنَّمَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ لَا فِكَاكَ لَهُ لَا مِنْ لَفْظِ الرَّهْنِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا دَامَ وَتَأَبَّدَ بِنَفْيِ انْفِكَاكٍ دَلَّ أَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الدَّوَامِ ؛ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَلِكَ لَمَا دَامَ بِنَفْيِ مَا يَعْتَرِضُهُ ، بَلْ كَانَ الدَّوَامُ يَثْبُتُ بِإِثْبَاتِ مَا يُوجِبُهُ ، فَثَبَتَ أَنَّ اللُّغَةَ تَدُلُّ عَلَى إنْبَاءِ الرَّهْنِ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ انْتَهَى أَقُولُ : السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي الْأَصْلِ لِتَاجِ الشَّرِيعَةِ ، لَكِنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ بِتَامٍّ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِذَلِكَ لَمَا دَامَ بِنَفْيِ مَا يَعْتَرِضُهُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مَا يَعْتَرِضُهُ إذَا كَانَ مُنَاقِضًا لِدَوَامِهِ يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ ذَلِكَ دَوَامُهُ سَوَاءٌ كَانَ مَا يُوجِبُ دَوَامَهُ نَفْسَهُ أَوْ أَمْرًا خَارِجًا عَنْهُ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ ارْتِفَاعُ النَّقِيضَيْنِ مَعًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ فِكَاكَ الرَّهْنِ يُنَافِي وَيُنَاقِضُ دَوَامَهُ فَيَلْزَمُ مِنْ نَفْيِهِ تَحَقُّقُ دَوَامِهِ وَإِنْ كَانَ دَوَامُهُ مِمَّا لَمْ يُوجِبْهُ نَفْسُهُ بَلْ كَانَ بِسَبَبٍ خَارِجٍ ، فَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْبَيْتِ الْمَزْبُورِ إنْبَاءُ لَفْظِ الرَّهْنِ نَفْسِهِ عَنْ الْحَبْسِ الدَّائِمِ ، بَلْ جَازَ أَنْ يَكُونَ انْفِهَامُ ذَلِكَ مِنْ نَفْيِ فِكَاكِهِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ ( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَثْبُتُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ أَنَّ الرَّهْنَ يَدُلُّ عَلَى الْيَدِ وَالْحَبْسِ ثَبَتَ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ وَالرَّقَبَةِ وَقَدْ حَصَلَ بَعْضُهُ ، وَتَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ لِانْتِفَاءِ احْتِمَالِ النَّقْصِ ، فَلَوْ لَمْ يَسْقُطْ
الدَّيْنُ وَاسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا أَدَّى إلَى تَكْرَارِ الْأَدَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْيَدِ وَهُوَ رِبًا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : نَعَمْ لَوْ اسْتَوْفَاهُ ثَانِيًا أَدَّى إلَى الرِّبَا وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِهِ ثَانِيًا أَصْلًا يُؤَدِّي إلَى ضَيَاعِ بَعْضِ حَقِّهِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الرَّقَبَةِ وَالتَّأَدِّي إلَى ضَيَاعِ حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورٌ شَرْعِيٌّ أَيْضًا فَمَا الْوَجْهُ فِي تَرْجِيحِ اخْتِيَارِ هَذَا الْمَحْذُورِ عَلَى اخْتِيَارِ مَحْذُورِ الرِّبَا فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ
قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِيهَا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ وَهُوَ دَيْنٌ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا ، وَلَئِنْ كَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ وَلَكِنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ ، وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ رَهْنًا بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهِ فَيَصِحُّ كَمَا فِي الْكَفَالَةِ ، وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ الْمُقَيَّدَةُ بِهِ بِهَلَاكِهِ ، بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ ، قَالَ ( وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَالْفَضْلُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ وَذَاكَ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ( وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِقَدْرِهِ وَرَجَعَ الْمُرْتَهِنُ بِالْفَضْلِ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ بِقَدْرِ الْمَالِيَّةِ وَقَالَ زُفَرُ : الرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ ، وَقِيمَتُهُ يَوْمَ الرَّهْنِ أَلْفٌ وَخَمْسمِائَةٍ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَهُ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ " يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ فِي الرَّهْنِ " وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الدَّيْنِ مَرْهُونَةٌ لِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِهِ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً اعْتِبَارًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسْتَوْفِي كَمَا فِي
حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَالزِّيَادَةُ مَرْهُونَةٌ بِهِ ضَرُورَةَ امْتِنَاعِ حَبْسِ الْأَصْلِ بِدُونِهَا وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الضَّمَانِ وَالْمُرَادُ بِالتَّرَادِّ فِيمَا يُرْوَى حَالَةَ الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِي الْفَضْلِ .
( قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الرَّهْنُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا وَلَا دَيْنَ ) يَعْنِي : يَرِدُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ : أَيْ عَلَى لَفْظِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا : أَيْ الْإِشْكَالُ بِصِحَّةِ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا ، وَهِيَ مَا يَجِبُ مِثْلُهُ عِنْدَ هَلَاكِهِ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا ، وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ قِيَمِيًّا ، كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِتِلْكَ الْأَعْيَانِ وَلَا دَيْنَ فِيهَا وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إلَى آخِرِهِ ، كَذَا قَالَهُ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً ، غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ أَنْ وَافَقَ سَائِرَ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ قَالَ : قُلْت لَا يَرِدُ عَلَى الْقُدُورِيِّ الِاعْتِرَاضُ رَأْسًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي صِحَّةَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا بَلْ صَرَّحَ بِصِحَّتِهِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ هَا هُنَا عَلَى الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ بِالدَّيْنِ ، وَاكْتَفَى بِهِ هَا هُنَا اعْتِمَادًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ أَقُولُ : لَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الشَّارِحِ أَنْ يَقُولَ : إنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَنْفِ فِي مُخْتَصَرِهِ صِحَّةَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا بَعْدَ أَنْ رَأَى مَا فِي لَفْظِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِدَيْنٍ مَضْمُونٍ مِنْ أَدَاةِ قَصْرِ الصِّحَّةِ عَلَى الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ وَهِيَ النَّفْيُ وَالِاسْتِثْنَاءُ .
وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ أَنْ لَوْ كَانَ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِالدَّيْنِ ، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُهُ فِيهِ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ إلَّا بِالدَّيْنِ
لَمْ يَبْقَ لَهُ مَجَالٌ وَقَوْلُهُ بَلْ صَرَّحَ بِصِحَّتِهِ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ الْوَارِدِ عَلَى لَفْظِهِ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَقَدْ تَدَارَكَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَيَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ وَأَمَّا حَمْلُ الْقَصْرِ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ عَلَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ فَبِمَعْزِلِ عَنْ مُسَاعَدَةِ هَذَا الْفَنِّ إيَّاهُ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَخْصِيصِ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْفَنِّ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَمَا ظَنُّك بِدَلَالَةِ أَدَاةِ الْقَصْرِ عَلَى ذَلِكَ ( قَوْلُهُ : وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِهَا لَا تَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ الرَّهْنِ ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ كَمَا لَوْ قَالَ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَعَلَيَّ دُونَ الرَّهْنِ وَأُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ مَا ذَابَ لَك إضَافَةٌ لِلْكَفَالَةِ لَا كَفَالَةٌ وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُك دُونَ الرَّهْنِ تُرِيدُ بِهِ دَيْنًا مَا انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ أَوْ دَيْنًا انْعَقَدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ عَيْنُ مَا نَحْنُ فِيهِ انْتَهَى أَقُولُ : الِاعْتِرَاضُ وَالْجَوَابُ لِتَاجِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَهُمَا وَجْهُ صِحَّةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إلَى آخِرِهِ فَمِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ نَفْسِهِ يُرِيدُ بِهِ الْجَوَابَ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ ، وَلَيْسَ لَهُ وَجْهُ صِحَّةٍ ؛ إذْ الْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ قَوْلُهُ فَلَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ كَوْنِ كَلَامِنَا فِيهِ لَا يَضُرُّ بِغَرَضِ السَّائِلِ بَلْ بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ الْقَدْحُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا بِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَصِحُّ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ ، وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِذَلِكَ بِلَا
خِلَافٍ فَيَجُوزُ أَنْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونِ بِنَفْسِهِ أَيْضًا الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِهِ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ بِهِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَدَمَ كَوْنِ كَلَامِنَا فِي الدَّيْنِ الَّذِي لَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ لَا يَدْفَعُ الِاعْتِرَاضَ بِهَذَا الْوَجْهِ ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ مِنْ مَنْعِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ وَلَمْ يَنْعَقِدْ سَبَبُ وُجُوبِهِ .
وَإِنَّمَا قَوْلُهُ مَا ذَابَ لَك عَلَى فُلَانٍ فَعَلَيَّ إضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ لَا عَقْدُ كَفَالَةٍ بِهِ مُنْجَزَةٍ ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْكَفَالَةِ فِي قَوْلِهِ : وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ هِيَ الْكَفَالَةُ الْمُنْجَزَةُ فَتَمَّ الِاسْتِدْلَال ( قَوْلُهُ : وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ) أَقُولُ : هَذَا التَّنْوِيرُ لَا يَتِمُّ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ ، مَعَ أَنَّ صِحَّةَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِأَنْفُسِهَا عَلَى قَوْلِ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَيْتَ شِعْرِي لِمَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ : وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَرَّفِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَمَعْنَى الْمُنَكَّرِ ثَالِثٌ ، وَاعْتُبِرَ هَذَا بِقَوْلِ الرَّجُلِ مَرَرْت بِأَعْلَمَ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو يَكُونُ الْأَعْلَمُ غَيْرَهُمَا ، وَلَوْ قَالَ مَرَرْت بِالْأَعْلَمِ مِنْ زَيْدٍ وَعَمْرٍو يَكُونُ الْأَعْلَمَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَالْمُرَادُ هَا هُنَا وَاحِدٌ مِنْ الْقِيمَةِ وَالدَّيْنِ وَهُوَ أَقَلُّهُمَا لَا أَمْرٌ ثَالِثٌ ثُمَّ إنَّ تَاجَ الشَّرِيعَةِ
مِنْ الشُّرَّاحِ بَيَّنَ وَجْهَ اخْتِلَافِ الْمَعْنَى بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ حَيْثُ قَالَ : وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كَلِمَةَ " مِنْ " فِي قَوْلِهِ مِنْهُمَا لِلتَّبْعِيضِ وَالْأَقَلُّ يَصْلُحُ بَعْضًا ؛ إذْ الْأَقَلُّ مَعَ مِنْهُمَا مَعْرِفَتَانِ ، بِخِلَافِ : أَقَلُّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ نَكِرَةٌ وَهُمَا مَعْرِفَةٌ وَالْمَعْرِفَةُ لَا تَتَنَاوَلُ النَّكِرَةَ انْتَهَى كَلَامُهُ أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَتَنَاوَلُ النَّكِرَةَ تَنَاوُلَ الْكُلِّ لِلْجُزْءِ كَمَا هُوَ مُقْتَضًى مِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ ، نَعَمْ إنَّ الْمَعْرِفَةَ وَالنَّكِرَةَ لَا يَتَّحِدَانِ ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ الْمَعْرِفَةِ شَيْءٌ بِعَيْنِهِ وَمَدْلُولَ النَّكِرَةِ شَيْءٌ لَا بِعَيْنِهِ ، وَهُمَا مُتَضَادَّانِ فَلَا يَتَّحِدَانِ وَأَمَّا كَوْنُ الْمُبْهَمِ بَعْضًا مِنْ الْمُعَيَّنِ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ شَائِعٌ مُسْتَعْمَلٌ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا أَوْ جُزْءٌ مِنْهُمَا أَوْ بَعْضٌ مِنْهُمَا يَكُونُ كَذَا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ وَشَائِعٌ مُسْتَعْمَلٌ ، مَعَ أَنَّ كَلِمَةَ وَاحِدٍ وَجُزْءٍ وَبَعْضٍ نَكِرَةٌ ، وَكَلِمَةُ هُمَا فِي مِنْهُمَا مَعْرِفَةٌ وَمِنْ لِلتَّبْعِيضِ ، عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اسْمُ التَّفْضِيلِ مُعَرَّفًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُنَكَّرًا إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَدْخُولُ كَلِمَةِ " مِنْ " مَعْرِفَةً وَلَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا كَانَ مَدْخُولُهَا نَكِرَةً ، إذْ لَا يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ تَنَاوُلُ الْمَعْرِفَةِ لِلنَّكِرَةِ مَثَلًا لَوْ كَانَتْ الْعِبَارَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةٍ وَدَيْنٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ فَرْقٌ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ تَعْرِيفِ الْأَقَلِّ وَتَنْكِيرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا وَذَكَرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَجْهًا آخَرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمُعَرَّفِ وَالْمُنَكَّرِ حَيْثُ قَالَ : إذْ تَكُونُ مِنْ فِي الْمُنَكَّرِ تَفْضِيلِيَّةً لِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْأَفْعَلِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَتَكُونُ فِي الْمُعَرَّفِ لِلْبَيَانِ لِعَدَمِ جَوَازِ الْجَمْعِ
بَيْنَ مِنْ وَحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَمَوْضِعُهُ كُتُبُ النَّحْوِ ثُمَّ قَالَ : وَفِيهِ بَحْثٌ ، إذْ قَدْ تُحْذَفُ " مِنْ " مِنْ اللَّفْظِ وَهَا هُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ ، وَالْقَرِينَةُ عَلَى الْحَذْفِ شُهْرَةُ الْمَذْهَبِ انْتَهَى أَقُولُ : الْحَقُّ فِي الْفَرْقِ مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ وَبَحْثُهُ سَاقِطٌ ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ اسْمِ التَّفْضِيلِ بِدُونِ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، إلَّا أَنْ يُعْلَمَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ وَيَتَعَيَّنُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } وقَوْله تَعَالَى { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُعْلَمُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُنَكَّرَ اسْمُ التَّفْضِيلِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ كَلِمَةَ مِنْ تَفْضِيلِيَّةً وَادِّعَاءُ كَوْنِهِ مَعْلُومًا بِقَرِينَةِ شُهْرَةِ الْمَذْهَبِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ ؛ لِأَنَّهُ الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مِنْ قَبْلُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَمِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ الشُّهْرَةُ ، كَيْفَ وَلَوْ تَحَقَّقَتْ الشُّهْرَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِحَيْثُ جَازَ بِهَا تَرْكُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي اسْتِعْمَالِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهَا وَبَيَانِهَا هَا هُنَا بِالْكُلِّيَّةِ
قَالَ ( وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُطَالِبَ الرَّاهِنَ بِدَيْنِهِ وَيَحْبِسَهُ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بَاقٍ بَعْدَ الرَّهْنِ وَالرَّهْنُ لِزِيَادَةِ الصِّيَانَةِ فَلَا تَمْتَنِعُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ ، وَالْحَبْسُ جَزَاءُ الظُّلْمِ ، فَإِذَا ظَهَرَ مَطْلُهُ عِنْدَ الْقَاضِي يَحْبِسُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَإِذَا طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مَعَ قِيَامِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى اعْتِبَارِ الْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ ( وَإِذَا أُحْضِرَ أُمِرَ الرَّاهِنُ بِتَسْلِيمِ الدَّيْنِ إلَيْهِ أَوَّلًا ) لِيَتَعَيَّنَ حَقُّهُ كَمَا تَعَيَّنَ حَقُّ الرَّاهِنِ تَحْقِيقًا لِلتَّسْوِيَةِ كَمَا فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ يُحْضَرُ الْمَبِيعُ ثُمَّ يُسَلَّمُ أَوَّلًا ( وَإِنْ طَالَبَهُ بِالدَّيْنِ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَ الْعَقْدُ فِيهِ ، إنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ كُلَّهَا فِي حَقِّ التَّسْلِيمِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا لَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيهِ فِي بَابِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَسْتَوْفِي دَيْنَهُ وَلَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقْلٌ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّسْلِيمُ بِمَعْنَى التَّخْلِيَةِ ، لَا النَّقْلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ وَلَمْ يَلْتَزِمْهُ .
( وَلَوْ سَلَّطَ الرَّاهِنُ الْعَدْلَ عَلَى بَيْعِ الْمَرْهُونِ فَبَاعَهُ بِنَقْدٍ أَوْ نَسِيئَةٍ جَازَ ) لِإِطْلَاقِ الْأَمْرِ ( فَلَوْ طَالَبَ الْمُرْتَهِنُ بِالدَّيْنِ لَا يُكَلَّفُ الْمُرْتَهِنُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْإِحْضَارِ ( وَكَذَا إذَا أَمَرَ الْمُرْتَهِنُ بِبَيْعِهِ فَبَاعَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ ، فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ
رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ ( وَلَوْ قَبَضَهُ يُكَلَّفُ إحْضَارَهُ لِقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ ) ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَ الثَّمَنِ هُوَ الْمُرْتَهِنُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَيْهِ ، وَكَمَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ لِاسْتِيفَاءِ كُلِّ الدَّيْنِ يُكَلَّفُ لِاسْتِيفَاءِ نَجْمٍ قَدْ حَلَّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ ، ثُمَّ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ لِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ الْعَبْدَ الرَّهْنَ خَطَأً حَتَّى قَضَى بِهِ بِالْقِيمَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَمْ يُجْبَرْ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ حَتَّى يُحْضِرَ كُلَّ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ خَلَفٌ عَنْ الرَّهْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّهَا كَمَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ كُلِّ عَيْنِ الرَّهْنِ وَمَا صَارَتْ قِيمَةً بِفِعْلِهِ ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ صَارَ دَيْنًا بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا ( وَلَوْ وَضَعَ الرَّهْنَ عَلَى يَدِ الْعَدْلِ وَأُمِرَ أَنْ يُودِعَهُ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ثُمَّ جَاءَ الْمُرْتَهِنُ يَطْلُبُ دَيْنَهُ لَا يُكَلَّفُ إحْضَارَ الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْتَمَنْ عَلَيْهِ حَيْثُ وُضِعَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ تَسْلِيمُهُ فِي قُدْرَتِهِ ( وَلَوْ وَضَعَهُ الْعَدْلُ فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ وَغَابَ وَطَلَبَ الْمُرْتَهِنُ دَيْنَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ يَقُولُ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ إحْضَارَ الرَّهْنِ لَيْسَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا .
( وَكَذَلِكَ إذَا غَابَ الْعَدْلُ بِالرَّهْنِ وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ ) لِمَا قُلْنَا ( وَلَوْ أَنَّ الَّذِي أَوْدَعَهُ الْعَدْلُ جَحَدَ الرَّهْنَ وَقَالَ هُوَ مَالِيٌّ لَمْ يَرْجِعْ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الرَّاهِنِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ رَهْنًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الرَّهْنَ فَقَدْ تَوَى الْمَالُ وَالْتَوَى عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَيَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ وَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ
( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِالْبَيْعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ هُوَ رَهْنُ الدَّيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ قِيَاسًا عَلَيْهِ انْتَهَى أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِتَعْلِيلِهِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ إثْبَاتَ الْحُكْمِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى رَهْنِ الدَّيْنِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ الْبَحْثُ الْمَذْكُورُ ، بَلْ مُرَادُهُ بِهِ بَيَانُ أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ يَبْقَى فِي الدَّيْنِ الَّذِي صَارَ خَلَفًا عَنْ الْعَيْنِ الْمَبِيعِ بِأَمْرِ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ رَهْنًا فَكَذَا خَلْفُهُ تَبَعًا ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ الدَّيْنُ لِلرَّهْنِيَّةِ أَصَالَةً فَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَقَصْدًا ، فَقَوْلُهُ فَصَارَ كَأَنَّ الرَّاهِنَ رَهَنَهُ وَهُوَ دَيْنٌ إشَارَةً إلَى مَعْنَى الْخَلَفِيَّةِ لَا إلَى الْقِيَاسِ وَهَذَا مَعَ ظُهُورِهِ لِكُلِّ مُتَأَمِّلٍ مُتْقِنٍ قَدْ صَرَّحَ بِهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا : فَإِنْ قِيلَ : لَوْ رَهَنَ الدَّائِنُ ابْتِدَاءً لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ قُلْنَا : نَعَمْ ، وَلَكِنْ يَبْقَى حُكْمُ الرَّهْنِ فِي الدَّيْنِ لِكَوْنِهِ بَدَلًا عَنْ الْمَقْبُوضِ ، وَهُوَ قَدْ كَانَ صَالِحًا لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِي خَلْفِهِ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا انْتَهَى .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ الْبَيْعِ حَتَّى يَقْضِيَهُ الدَّيْنَ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ الدَّائِمُ إلَى أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ( وَلَوْ قَضَاهُ الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ كُلَّ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْبَقِيَّةَ ) اعْتِبَارًا بِحَبْسِ الْمَبِيعِ ( فَإِذَا قَضَاهُ الدَّيْنَ قِيلَ لَهُ سَلِّمْ الرَّهْنَ إلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ لِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ( فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ رَدُّهُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ تَفَاسَخَا الرَّهْنَ لَهُ حَبْسُهُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الدَّيْنَ أَوْ يُبْرِئْهُ ، وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهِ الْفَسْخِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَضْمُونًا مَا بَقِيَ الْقَبْضُ وَالدَّيْنُ ( وَلَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ سَقَطَ الدَّيْنُ إذَا كَانَ بِهِ وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ ) لِبَقَاءِ الرَّهْنِ ( وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ لَا بِاسْتِخْدَامٍ ، وَلَا بِسُكْنَى وَلَا لُبْسٍ ، إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَالِكُ ) ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْحَبْسِ دُونَ الِانْتِفَاعِ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ إلَّا بِتَسْلِيطٍ مِنْ الرَّاهِنِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيُعِيرَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِانْتِفَاعِ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ تَسْلِيطَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ مُتَعَدِّيًا ، وَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ بِالتَّعَدِّي .
( قَوْلُهُ فَلَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ اسْتَرَدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ ، فَكَانَ الثَّانِي اسْتِيفَاءً فَيَجِبُ رَدُّهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا إذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ ثُمَّ وَهَبَ الْمُرْتَهِنُ الْمَالَ لِلرَّاهِنِ أَوْ أَبْرَأَهُ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الرَّهْنَ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ ثَبَتَتْ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ وَقَدْ تَقَرَّرَ بِالْهَلَاكِ ، فَصَيْرُورَتُهُ مُسْتَوْفِيًا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَائِهِ حَقِيقَةً ، وَفِي الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِبْرَاءِ يَرُدُّ الْمُسْتَوْفِي فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَا هُنَا كَذَلِكَ وَأُجِيبَ بِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ اسْتِيفَاءٍ بِالْيَدِ وَالْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَذَلِكَ الِاسْتِيفَاءُ يَتَقَرَّرُ بِالْهَلَاكِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ ، فَالْقَضَاءُ بَعْدَ الْهَلَاكِ اسْتِيفَاءٌ بَعْدَ اسْتِيفَاءٍ فَيَجِبُ الرَّدُّ ، وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِيفَاءُ شَيْءٍ لِيَجِبَ رَدُّهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطٌ ، وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ بِمَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ انْتَهَى أَقُولُ : فِي خَاتِمَةِ هَذَا الْجَوَابِ خَلَلٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ هَا هُنَا ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِي مَادَّةِ النَّقْضِ مِنْ الرَّاهِنِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرَّاهِنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ فِيهَا مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَلَمْ يَكُنْ لَغْوًا بَلْ كَانَ إسْقَاطًا صَحِيحًا فَلَا مِسَاسَ لِقَوْلِهِ : وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنْ قُلْت : مُرَادُهُ أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ لَمَّا ثَبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْهَلَاكِ مُسْنَدًا إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ صَارَ الْمُرْتَهِنُ بِالْهَلَاكِ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ
وَقْتِ الْقَبْضِ فَصَارَ الِاسْتِيفَاءُ مُقَدَّمًا عَلَى الْإِبْرَاءِ فِي الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ الرَّاهِنُ مَدْيُونًا وَقْتَ الْإِبْرَاءِ لِسُقُوطِ دَيْنِهِ بِالْقَبْضِ السَّابِقِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِبْرَاءُ ، فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَلِهَذَا قَالَ : وَإِسْقَاطُ الدَّيْنِ مِمَّنْ لَيْسَ عَلَيْهِ لَغْوٌ قُلْت : لَوْ كَانَ لِهَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ اعْتِبَارٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَادَّةِ النَّقْضِ ، وَكَانَ الْإِبْرَاءُ فِيهِ لَغْوًا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ لِثُبُوتِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُ بِيَدِهِ بِقَبْضِهِ السَّابِقِ وَتَقَرُّرِهِ بِالْهَلَاكِ ، وَكَوْنُ الْإِبْرَاءِ لَغْوًا عَلَى الْفَرْضِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِيهِ وَهُوَ مَدَارُ النَّقْضِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ الْجَوَابُ فَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْمُطَالَبَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : قُلْت إنَّ ضَمَانَ الرَّهْنِ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ ، وَبِالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ انْعَدَمَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ وَهُوَ الدَّيْنُ ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ إحْدَاهُمَا ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ رَدَّ الرَّهْنَ سَقَطَ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ مَعَ بَقَاءِ الدَّيْنِ ، فَكَذَا إذَا أَبْرَأَ عَنْ الدَّيْنِ يَسْقُطُ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ الدَّيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ بِالِاسْتِيفَاءِ بَلْ يَتَقَرَّرُ ، فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالشَّيْءِ يُقَرِّرُهُ وَيُهَيِّئُهُ ، وَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ حُكْمًا بَقِيَ ضَمَانُ الرَّهْنِ ، وَبِهَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مَرَّتَيْنِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ أَحَدِهِمَا ، وَأَمَّا
الْإِبْرَاءُ فَيُسْقِطُ الدَّيْنَ فَلَا يَبْقَى الضَّمَانُ بَعْدَ انْعِدَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي آخَرِ كِتَابِ الرَّهْنِ مَا يُطَابِقُ ذَلِكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَتَبَصَّرْ قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى الرَّهْنُ مَضْمُونًا بَعْدَ قَبْضِ الدَّيْنِ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ لَمْ يَبْقَ قُلْت : بَقِيَ احْتِمَالُ اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُؤَدِّي وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى حَقَّهُ فَكَانَ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ انْتَهَى وَرَدَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَذَا الْجَوَابَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ لَا يُوجِبُ التَّحْقِيقَ لَا سِيَّمَا إذَا لَمْ يَنْشَأْ عَنْ دَلِيلٍ انْتَهَى أَقُولُ : الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَال أَنْ يُقَالَ : الدَّيْنُ لَا يَسْقُطُ بِالْقَضَاءِ كَمَا يَسْقُطُ بِالْإِبْرَاءِ لِقِيَامِ الْمُوجِبِ وَهُوَ الذِّمَّةُ ، بَلْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُطَالَبُ بِهِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ كِتَابِ الرَّهْنِ أَثْنَاءَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَةِ إبْرَاءِ الْمُرْتَهِنِ الرَّاهِنَ عَنْ الدَّيْنِ وَمَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ ، فَإِذَا بَقِيَ الدَّيْنُ بَعْدَ قَضَاءِ مِثْلِهِ يَبْقَى حُكْمُ الرَّهْنِ أَيْضًا مَا لَمْ يُسَلَّمْ إلَى الرَّاهِنِ فَيَبْقَى مَضْمُونًا بِالْهَلَاكِ إلَى أَنْ يُسَلَّمَ إلَى الرَّاهِنِ ، تَأَمَّلْ تَقِفْ انْتَهَى ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
قَالَ ( وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّهْنَ بِنَفْسِهِ وَزَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ الَّذِي فِي عِيَالِهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ أَيْضًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ ( وَإِنْ حَفِظَهُ بِغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَوْدَعَهُ ضَمِنَ ) وَهَلْ يَضْمَنُ الثَّانِي فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَمِيعَ ذَلِكَ بِدَلَائِلِهِ فِي الْوَدِيعَةِ ( وَإِذَا تَعَدَّى الْمُرْتَهِنُ فِي الرَّهْنِ ضَمِنَهُ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِجَمِيعِ قِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ ، وَالْأَمَانَاتُ تُضْمَنُ بِالتَّعَدِّي ( وَلَوْ رَهَنَهُ خَاتَمًا فَجَعَلَهُ فِي خِنْصِرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالِاسْتِعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ بِالْحِفْظِ وَالْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ ( وَلَوْ جَعَلَهُ فِي بَقِيَّةِ الْأَصَابِعِ كَانَ رَهْنًا بِمَا فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْبَسُ كَذَلِكَ عَادَةً فَكَانَ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ، وَكَذَا الطَّيْلَسَانُ إنْ لَبِسَهُ لُبْسًا مُعْتَادًا ضَمِنَ ، وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَمْ يَضْمَنْ ( وَلَوْ رَهَنَهُ سَيْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَتَقَلَّدَهَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الثَّلَاثَةِ وَضَمِنَ فِي السَّيْفَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بَيْنَ الشُّجْعَانِ بِتَقَلُّدِ السَّيْفَيْنِ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تَجْرِ بِتَقَلُّدِ الثَّلَاثَةِ ، وَإِنْ لَبِسَ خَاتَمًا فَوْقَ خَاتَمٍ ، إنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَتَجَمَّلُ بِلُبْسِ خَاتَمَيْنِ ضَمِنَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ فَهُوَ حَافِظٌ فَلَا يَضْمَنُ
قَالَ ( وَأُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ فِيهِ الرَّهْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْحَافِظِ وَأُجْرَةُ الرَّاعِي وَنَفَقَةُ الرَّهْنِ عَلَى الرَّاهِنِ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِمَصْلَحَةِ الرَّهْنِ وَتَبْقِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى الرَّاهِنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الرَّهْنِ فَضْلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَيَكُونُ إصْلَاحُهُ وَتَبْقِيَتُهُ عَلَيْهِ لِمَا أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ النَّفَقَةِ فِي مَأْكَلِهِ وَمَشْرَبِهِ ، وَأُجْرَةُ الرَّاعِي فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَفُ الْحَيَوَانِ ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ كِسْوَةُ الرَّقِيقِ وَأُجْرَةُ ظِئْرِ وَلَدِ الرَّهْنِ ، وَسَقْيُ الْبُسْتَانِ ، وَكَرْيُ النَّهْرِ وَتَلْقِيحُ نَخِيلِهِ وَجُذَاذُهُ ، وَالْقِيَامُ بِمَصَالِحِهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِحِفْظِهِ أَوْ لِرَدِّهِ إلَى يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ لِرَدِّ جُزْءٍ مِنْهُ فَهُوَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مِثْلُ أُجْرَةِ الْحَافِظِ ؛ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ حَقٌّ لَهُ وَالْحِفْظُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيَكُونُ بَدَلُهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ أُجْرَةُ الْبَيْتِ الَّذِي يُحْفَظُ الرَّهْنُ فِيهِ ، وَهَذَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ كِرَاءَ الْمَأْوَى عَلَى الرَّاهِنِ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ سَعَى فِي تَبْقِيَتِهِ ، وَمِنْ هَذَا الْقِسْمِ جُعْلُ الْآبِقِ فَإِنَّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى إعَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ لِيَرُدَّهُ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَيَلْزَمُهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَالدَّيْنِ سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَعَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ وَالرَّدُّ لِإِعَادَةِ الْيَدِ ، وَيَدُهُ فِي الزِّيَادَةِ يَدُ الْمَالِكِ إذْ هُوَ كَالْمُودِعِ فِيهَا فَلِهَذَا يَكُونُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ أُجْرَةِ الْبَيْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّ كُلَّهَا تَجِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَةِ الرَّهْنِ فَضْلٌ ؛
لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْحَبْسِ ، وَحَقُّ الْحَبْسِ فِي الْكُلِّ ثَابِتٌ لَهُ فَأَمَّا الْجُعْلُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَجْلِ الضَّمَانِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ وَمُدَاوَاةُ الْجِرَاحَةِ وَالْقُرُوحِ وَمُعَالَجَةُ الْأَمْرَاضِ وَالْفِدَاءُ مِنْ الْجِنَايَةِ تَنْقَسِمُ عَلَى الْمَضْمُونِ وَالْأَمَانَةِ ، وَالْخَرَاجُ عَلَى الرَّاهِنِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤَنِ الْمِلْكِ ، وَالْعُشْرُ فِيمَا يَخْرُجُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَيْنِ وَلَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ فِي الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَمَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِمَّا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ، وَمَا أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ بِأَمْرِ الْقَاضِي رَجَعَ عَلَيْهِ كَأَنَّ صَاحِبَهُ أَمَرَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي عَامَّةٌ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إذَا كَانَ صَاحِبُهُ حَاضِرًا وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنَّهُ يَرْجِعُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ، وَلَنَا فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا يَبْتَنِي عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمُشَاعُ وَعِنْدَهُ الْمُشَاعُ يَقْبَلُ مَا هُوَ الْحُكْمُ عِنْدَهُ وَهُوَ تَعَيُّنُهُ لِلْبَيْعِ وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ ، أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ ، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا قَالَ رَهَنْتُك يَوْمًا وَيَوْمًا لَا ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ حَيْثُ يَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْهِبَةِ غَرَامَةُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ فِيمَا يُقَسَّمُ ، أَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالْمُشَاعُ يَقْبَلُهُ ، وَهَا هُنَا الْحُكْمُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَسْكُنُ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ، فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ يَقْبَلُ حُكْمَهَا وَهُوَ الْمِلْكُ ،
وَاعْتِبَارُ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ لِنَفْيِ الْغَرَامَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَلِهَذَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ فِي بَعْضِ الْهِبَةِ ، وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِي بَعْضِ الرَّهْنِ
( بَابُ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ ) لَمَّا ذَكَرَ مُقَدَّمَاتِ مَسَائِلِ الرَّهْنِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ تَفْصِيلَ مَا يَجُوزُ ارْتِهَانُهُ وَالِارْتِهَانُ بِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ ؛ إذْ التَّفْصِيلُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ( وَقَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْمُشَاعِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : رَهْنُ الْمُشَاعِ الْقَابِلِ لِلْقِسْمَةِ وَغَيْرِهِ فَاسِدٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ إذَا قُبِضَ ، وَقِيلَ بَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ مِنْهُ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ حَشْوٌ مُفْسِدٌ ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ رَهْنُ الْمُشَاعِ لَيْسَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا وَلَا مِمَّا لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا ، فَإِنَّ الشُّيُوعَ لَا يُنَافِي الْمَالِيَّةَ قَطْعًا حَتَّى يَكُونَ رَهْنُ الْمُشَاعِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا ، وَكَذَا الشُّيُوعُ فِي الرَّهْنِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا بَلْ يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا بِنَاءَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ الْقَبْضِ شَرْطَ تَمَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ لَا شَرْطَ جَوَازِهِ ، بَلْ ذَلِكَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ سَوَاءٌ كَانَ الْقَبْضُ شَرْطَ تَمَامِ عَقْدِ الرَّهْنِ أَوْ شَرْطَ جَوَازِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَسْكَةٍ ، فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِ قَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ وَزَعَمَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ
الْعَقْدِ إلَخْ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ : لِأَنَّ الْبَاطِلَ مِنْهُ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ : يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْبَاطِلِ مُنْحَصِرًا فِيمَا ذَكَرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ شَرْطَ الْجَوَازِ لَمْ يَصِحَّ الْحَصْرُ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعَ كَوْنِ الْفَصْلِ بِقَوْلِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ مِمَّا يَأْبَى جِدًّا كَوْنَ قَوْلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ إلَى آخِرِهِ عِلَّةٌ لِمَا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِنَاءً أَنَّ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الْبَاطِلِ مِنْ الرَّهْنِ مُنْحَصِرًا فِيمَا ذَكَرَهُ مِنْ الصُّورَتَيْنِ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ تَمَامِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ قَوْلُهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ شَرْطَ الْجَوَازِ لَمْ يَصِحَّ الْحَصْرُ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ انْتِفَاءِ شَرْطِ الْجَوَازِ لَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ بَلْ يُتَصَوَّرُ انْتِفَاءُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ انْتِفَاءُ شَرْطِ الِانْعِقَادِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي عَقْدِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَالًا ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا لَا غَيْرَ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَنُقِلَ عَنْهُمَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ أَنَّ الْبَاطِلَ مِنْ الرَّهْنِ مَا لَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا أَصْلًا كَالْبَاطِلِ مِنْ الْبُيُوعِ ، وَالْفَاسِدُ مِنْهُ مَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا لَكِنْ بِوَصْفِ الْفَسَادِ كَالْفَاسِدِ مِنْ الْبُيُوعِ ، وَشَرْطُ انْعِقَادِ الرَّهْنِ أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ مَالًا وَالْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الرَّهْنُ مَالًا وَالْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا ، إلَّا أَنَّهُ بِفَقْدِ بَعْضِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ لِوُجُودِ شَرْطِ الِانْعِقَادِ لَكِنْ
بِصِفَةِ الْفَسَادِ لِانْعِدَامِ بَعْضِ شَرْطِ الْجَوَازِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ مَالًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُقَابَلُ بِهِ مَضْمُونًا لَا يَنْعَقِدُ الرَّهْنُ أَصْلًا انْتَهَى فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ : وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا أَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَمْ يَجُزْ إلَّا مَقْبُوضًا يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ مُنَاقِضًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الرَّهْنِ مِنْ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ لُزُومِ الرَّهْنِ لَا شَرْطُ جَوَازِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ إلَّا مَقْبُوضًا لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ؛ إذْ الْمُدَّعَى هَا هُنَا عَدَمُ جَوَازِ رَهْنِ الْمُشَاعِ لَا عَدَمُ لُزُومِهِ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( قَوْلُهُ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ ، مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ أَقُولُ : عَلَّلَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ كَوْنَ الرَّهْنِ وَثِيقَةً لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ بِعِلَّتَيْنِ حَيْثُ قَالَ : لِيَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ الْجُحُودِ مَخَافَةَ جُحُودِ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنَ ، وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعُ الدَّائِنُ لِحَاجَتِهِ أَوْ لِضَجَرِهِ انْتَهَى فَلَيْتَ شَعْرِي مَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحَ عَلَى حَمْلِهِمْ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ عَلَى الْعِلَّةِ الثَّانِيَةِ فَقَطْ دُونَ مَجْمُوعِ الْعِلَّتَيْنِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ ، أَوْ عَلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى لِتَقَدُّمِهَا فِي الذِّكْرِ هُنَاكَ وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ
قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ : وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ : أَيْ كُلُّ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ وَيَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ ، وَقَالَ : أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالدَّوَامِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ فَظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ رُبَّمَا جَحَدَ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا فَيَفُوتُ الِاسْتِيثَاقُ انْتَهَى فَقَدْ جَعَلَ مَدَارَ الِاسْتِيثَاقِ فِي الْبَيَانِ هُوَ الْعِلَّةَ الْأُولَى عَلَى خِلَافِ مَا فُسِّرَ بِهِ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ تَبَصَّرْ
قَالَ ( وَلَا رَهْنُ ثَمَرَةٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخِيلِ دُونَ النَّخِيلِ ، وَلَا زَرْعُ الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ ، وَلَا رَهْنُ النَّخِيلِ فِي الْأَرْضِ دُونَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ خِلْقَةً فَكَانَ فِي مَعْنَى الشَّائِعِ ( وَكَذَا إذَا رَهَنَ الْأَرْضَ دُونَ النَّخِيلِ أَوْ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ النَّخِيلِ دُونَ الثَّمَرِ ) ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ يَقُومُ بِالطَّرَفَيْنِ ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ الْمَرْهُونَ إذَا كَانَ مُتَّصِلًا بِمَا لَيْسَ بِمَرْهُونٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ قَبْضُ الْمَرْهُونِ وَحْدَهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ رَهْنَ الْأَرْضِ بِدُونِ الشَّجَرِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الشَّجَرَ اسْمٌ لِلنَّابِتِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْأَشْجَارِ بِمَوَاضِعِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الدَّارَ دُونَ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ اسْمٌ لِلْمَبْنَى فَيَصِيرُ رَاهِنًا جَمِيعَ الْأَرْضِ وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِمِلْكِ الرَّاهِنِ ( وَلَوْ رَهَنَ النَّخِيلَ بِمَوَاضِعِهَا جَازَ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُجَاوِرَةٌ وَهِيَ لَا تَمْنَعُ الصِّحَّةَ ( وَلَوْ كَانَ فِيهِ ثَمَرٌ يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِاتِّصَالِهِ بِهِ فَيَدْخُلُ تَبَعًا تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ النَّخِيلِ بِدُونِ الثَّمَرِ جَائِزٌ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إدْخَالِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ ، وَبِخِلَافِ الْمَتَاعِ فِي الدَّارِ حَيْثُ لَا يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَابِعٍ بِوَجْهٍ مَا ، وَكَذَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالرَّطْبَةُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الثَّمَرَةِ ( وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ فِي رَهْنِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ وَالْقَرْيَةِ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ رَهَنَ الدَّارَ بِمَا فِيهَا جَازَ وَلَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي يَجُوزُ ابْتِدَاءُ الرَّهْنِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ بَقِيَ رَهْنًا بِحِصَّتِهِ وَإِلَّا بَطَلَ كُلُّهُ ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ جُعِلَ كَأَنَّهُ مَا وَرَدَ إلَّا عَلَى الْبَاقِي ، وَيَمْنَعُ التَّسْلِيمَ كَوْنُ الرَّاهِنِ أَوْ مَتَاعِهِ فِي الدَّارِ الْمَرْهُونَةِ ، وَكَذَا
مَتَاعُهُ فِي الْوِعَاءِ الْمَرْهُونِ ، وَيَمْنَعُ تَسْلِيمَ الدَّابَّةِ الْمَرْهُونَةِ الْحَمْلُ عَلَيْهَا فَلَا يَتِمُّ حَتَّى يُلْقِيَ الْحِمْلَ ؛ لِأَنَّهُ شَاغِلٌ لَهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ الْحِمْلَ دُونَهَا حَيْثُ يَكُونُ رَهْنًا تَامًّا إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ مَشْغُولَةٌ بِهِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَهَنَ مَتَاعًا فِي دَارٍ أَوْ فِي وِعَاءٍ دُونَ الدَّارِ وَالْوِعَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَهَنَ سَرْجًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لِجَامًا فِي رَأْسِهَا وَدَفَعَ الدَّابَّةَ مَعَ السَّرْجِ وَاللِّجَامِ حَيْثُ لَا يَكُونُ رَهْنًا حَتَّى يَنْزِعَهُ مِنْهَا ثُمَّ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرَةِ لِلنَّخِيلِ حَتَّى قَالُوا يَدْخُلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ .
قَالَ ( وَلَا يَصِحُّ ) ( الرَّهْنُ بِالْأَمَانَاتِ ) كَالْوَدَائِعِ وَالْعَوَارِيّ وَالْمُضَارَبَاتِ ( وَمَالُ الشِّرْكَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الرَّهْنِ قَبْضٌ مَضْمُونٌ فَلَا بُدَّ مِنْ ضَمَانٍ ثَابِتٍ لِيَقَعَ الْقَبْضُ مَضْمُونًا وَيَتَحَقَّقَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ ( وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِغَيْرِهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ الْعَيْنُ لَمْ يَضْمَنْ الْبَائِعُ شَيْئًا لَكِنَّهُ يَسْقُطُ الثَّمَنُ وَهُوَ حَقُّ الْبَائِعِ فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فَأَمَّا الْأَعْيَانُ الْمَضْمُونَةُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ أَوْ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ مِثْلَ الْمَغْصُوبِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مُتَقَرِّرٌ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا وَجَبَ تَسْلِيمُهُ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا تَجِبُ قِيمَتُهُ فَكَانَ رَهْنًا بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ فَيَصِحُّ .
قَالَ ( وَالرَّهْنُ بِالدَّرَكِ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ بِالدَّرَكِ جَائِزَةٌ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الرَّهْنَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَلَا اسْتِيفَاءَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، وَإِضَافَةُ التَّمْلِيكِ إلَى زَمَانٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا تَجُوزُ أَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِالْتِزَامِ الْمُطَالَبَةِ ، وَالْتِزَامُ الْأَفْعَالِ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى الْمَآلِ كَمَا فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِمَا ذَابَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ ، فَلَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَهَلَكَ عِنْدَهُ يَهْلِكُ أَمَانَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ حَيْثُ وَقَعَ بَاطِلًا ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَهَنْتُك هَذَا لِتُقْرِضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْعُودَ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِجِهَةِ الرَّهْنِ الَّذِي يَصِحُّ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِهِ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُهُ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ فَيَضْمَنُهُ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّهْنِ بِالدَّيْنِ الْمَوْعُودِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ رَهَنْتُك هَذَا لِتُقْرِضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهَلَكَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : فِيهِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَلَوْ أَخَذَ الرَّهْنَ بِشَرْطِ أَنْ يُقْرِضَهُ كَذَا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْرِضَهُ هَلَكَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الْفَرْضِ انْتَهَى وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى مِنْ الْمَالِ بِمُقَابَلَتِهِ : هَذَا إذَا سَاوَى الرَّهْنُ الدَّيْنَ قِيمَةً ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ جَرْيًا عَلَى الْعَادَةِ ؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنْ يُسَاوِيَ الرَّهْنُ الدَّيْنَ انْتَهَى وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقُولُ : فِيهِ قُصُورٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ كَمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا سَاوَى قِيمَةُ الرَّهْنِ الدَّيْنَ الْمَوْعُودَ وَهُوَ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ يَتَمَشَّى أَيْضًا فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ فَلَا وَجْهَ لِتَخْصِيصِهِ بِصُورَةِ الْمُسَاوَاةِ فَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ فِي الْبَيَانِ : هَذَا إذَا سَاوَى قِيمَةُ الرَّهْنِ مَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ أَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَيَهْلَكُ بِقِيمَةِ الرَّهْنِ ؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ هَا هُنَا قَوْلَهُ حَيْثُ يَهْلِكُ بِمَا سَمَّى لَهُ مِنْ الْقَرْضِ فِي صُورَةِ الْإِطْلَاقِ جَرْيًا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ مِنْ كَوْنِ قِيمَةِ الرَّهْنِ مُسَاوِيَةً لِلدَّيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
قَالَ ( وَيَصِحُّ الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبِثَمَنِ الصَّرْفِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الِاسْتِيفَاءُ ، وَهَذَا اسْتِبْدَالٌ لِعَدَمِ الْمُجَانِسَةِ ، وَبَابُ الِاسْتِبْدَالِ فِيهَا مَسْدُودٌ وَلَنَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ ثَابِتَةٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَيَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ وَهُوَ الْمَضْمُونُ عَلَى مَا مَرَّ قَالَ ( وَالرَّهْنُ بِالْمَبِيعِ بَاطِلٌ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ ( فَإِنْ هَلَكَ ذَهَبَ بِغَيْرِ شَيْءٍ ) ؛ لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ لِلْبَاطِلِ فَبَقِيَ قَبْضًا بِإِذْنِهِ ( وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بِثَمَنِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ وَصَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِدَيْنِهِ حُكْمًا ) لِتَحَقُّقِ الْقَبْضِ حُكْمًا ( وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بَطَلَا ) لِفَوَاتِ الْقَبْضِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ( وَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ بَطَلَ السَّلَمُ بِهَلَاكِهِ ) وَمَعْنَاهُ : أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْمُسْلَمِ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ السَّلَمُ ( وَلَوْ تَفَاسَخَا السَّلَمَ وَبِالْمُسْلَمِ فِيهِ رَهْنٌ يَكُونُ ذَلِكَ رَهْنًا بِرَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْبِسَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ فَصَارَ كَالْمَغْصُوبِ إذَا هَلَكَ وَبِهِ رَهْنٌ يَكُونُ رَهْنًا بِقِيمَتِهِ ( وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ التَّفَاسُخِ يَهْلِكُ بِالطَّعَامِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِغَيْرِهِ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ وَأَخَذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِأَخْذِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلَهُ ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا ؛ وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا وَأَدَّى ثَمَنَهُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ، ثُمَّ لَوْ هَلَكَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي يَهْلِكُ بِقِيمَتِهِ فَكَذَا هَذَا
( قَوْلُهُ وَلَوْ هَلَكَ الْمَرْهُونُ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّا ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلَهُ أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِتَفْسِيرٍ سَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الثَّمَنِ بَدَلَ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَلَاكُ الْمَرْهُونِ بِالثَّمَنِ دُونَ الْمَبِيعِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى كَانَ بَدَلَ الطَّعَامِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعَ أَنَّ هَلَاكَ الرَّهْنِ بَعْدَ التَّفَاسُخِ هُنَاكَ كَانَ بِالْمَبِيعِ دُونَ الثَّمَنِ وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا إنَّمَا هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَحْبُوسًا بِغَيْرِهِ : يَعْنِي أَنَّ هَلَاكَ الْمَرْهُونِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ حِينَ انْعِقَادِ الرَّهْنِ وَإِنْ كَانَ الْمَرْهُونُ مَحْبُوسًا قَبْلَ الْهَلَاكِ بِغَيْرِهِ أَيْضًا لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ، وَبِهَذَا يَتِمُّ كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ نَظِيرًا لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى تَأَمَّلْ تَفْهَمْ
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ رَهْنُ الْحُرِّ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْ هَؤُلَاءِ لِعَدَمِ الْمَالِيَّةِ فِي الْحُرِّ وَقِيَامِ الْمَانِعِ فِي الْبَاقِينَ ، ( وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ، وَكَذَا بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا ) لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْأَرْشِ مِنْ الرَّهْنِ مُمْكِنٌ
( وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالشُّفْعَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُشْتَرِي ( وَلَا بِالْعَبْدِ الْجَانِي وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمَدْيُونِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمَوْلَى ، فَإِنَّهُ لَوْ هَلَكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ( وَلَا بِأُجْرَةِ النَّائِحَةِ وَالْمُغَنِّيَةِ ، حَتَّى لَوْ ضَاعَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مَضْمُونٌ
( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَرْهَنَ خَمْرًا أَوْ يَرْتَهِنَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ) لِتَعَذُّرِ الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ الرَّاهِنُ إذَا كَانَ ذِمِّيًّا فَالْخَمْرُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ لِلذِّمِّيِّ كَمَا إذَا غَصَبَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ ذِمِّيًّا لَمْ يَضْمَنْهَا لِلْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَضْمَنُهَا بِالْغَصْبِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَرَى ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ فِي حَقِّهِمْ ، أَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَيْسَتْ بِمَالٍ عِنْدَهُمْ فَلَا يَجُوزُ رَهْنُهَا وَارْتِهَانُهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِحَالٍ ( وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَرَهَنَ بِثَمَنِهِ عَبْدًا أَوْ خَلًّا أَوْ شَاةً مَذْبُوحَةً ثُمَّ ظَهَرَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ الْخَلُّ خَمَرًا أَوْ الشَّاةُ مَيْتَةً فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ ) ؛ لِأَنَّهُ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ ظَاهِرًا ( وَكَذَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا وَرَهَنَ بِقِيمَتِهِ رَهْنًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حُرٌّ ) وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَلَى إنْكَارٍ وَرَهَنَ بِمَا صَالَحَ عَلَيْهِ رَهْنًا ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ فَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ خِلَافُهُ ، وَكَذَا قِيَاسُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ جِنْسِهِ .
قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ عَبْدًا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ ، وَهَذَا أَنْظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمُرْتَهِنِ بِحِفْظِهِ أَبْلَغُ خِيفَةَ الْغَرَامَةِ ( وَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا ، الْوَدِيعَةُ تَهْلِكُ أَمَانَةً وَالْوَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ ) فِي هَذَا الْبَابِ لِمَا بَيَّنَّا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْقِيَاسُ اعْتِبَارًا بِحَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الْإِيفَاءِ إزَالَةَ مِلْكِ الصَّغِيرِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ فِي الْحَالِ ، وَفِي هَذَا نَصْبٌ حَافِظٌ لِمَالِهِ نَاجِزًا مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ ( وَإِذَا جَازَ الرَّهْنُ يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ وَيَصِيرُ الْأَبُ ) أَوْ الْوَصِيُّ ( مُوفِيًا لَهُ وَيَضْمَنُهُ لِلصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِمَالِهِ ، وَكَذَا لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْبَيْعِ وَهُمَا يَمْلِكَانِهِ قَالُوا : أَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْبَيْعُ ، فَإِنَّ الْأَبَ أَوْ الْوَصِيَّ إذَا بَاعَ مَالَ الصَّبِيِّ مِنْ غَرِيمِ نَفْسِهِ جَازَ وَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ وَيَضْمَنُهُ لِلصَّبِيِّ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَكَذَا وَكِيلُ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ ، وَالرَّهْنُ نَظِيرُ الْبَيْعِ نَظَرًا إلَى عَاقِبَتِهِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الضَّمَانِ ( وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ أَوْ عَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لِوُفُورِ شَفَقَتِهِ أُنْزِلَ مَنْزِلَةَ شَخْصَيْنِ وَأُقِيمَتْ عِبَارَتُهُ مَقَامَ عِبَارَتَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِهِ مَالَ الصَّغِيرِ مِنْ نَفْسِهِ فَتَوَلَّى طَرَفِي الْعَقْدِ ( وَلَوْ ارْتَهَنَهُ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ هَذَيْنِ أَوْ رَهْنًا عَيْنًا لَهُ مِنْ الْيَتِيمِ بِحَقٍّ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مَحْضٌ ،
وَالْوَاحِدُ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي الرَّهْنِ كَمَا لَا يَتَوَلَّاهُمَا فِي الْبَيْعِ ، وَهُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ ، وَالرَّهْنِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَعَبْدِهِ التَّاجِرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ مِنْ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ ابْنِهِ الْكَبِيرِ وَأَبِيهِ وَعَبْدِهِ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حُكْمًا وَاحِدًا .
( وَإِنْ اسْتَدَانَ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ فِي كِسْوَتِهِ وَطَعَامِهِ فَرَهَنَ بِهِ مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَانَةَ جَائِزَةٌ لِلْحَاجَةِ وَالرَّهْنُ يَقَعُ إيفَاءً لِلْحَقِّ فَيَجُوزُ ( وَكَذَلِكَ لَوْ اتَّجَرَ لِلْيَتِيمِ فَارْتَهَنَ أَوْ رَهَنَ ) ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَى لَهُ التِّجَارَةُ تَثْمِيرًا لِمَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الِارْتِهَانِ وَالرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ ( وَإِذَا رَهَنَ الْأَبُ مَتَاعَ الصَّغِيرِ فَأَدْرَكَ الِابْنُ وَمَاتَ الْأَبُ لَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ ) لِوُقُوعِهِ لَازِمًا مِنْ جَانِبِهِ ؛ إذْ تَصَرُّفُ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ( وَلَوْ كَانَ الْأَبُ رَهَنَهُ لِنَفْسِهِ فَقَضَاهُ الِابْنُ رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْأَبِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيهِ لِحَاجَتِهِ إلَى إحْيَاءِ مِلْكِهِ فَأَشْبَهَ مُعِيرَ الرَّهْنِ ( وَكَذَا إذَا هَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِمَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ ( وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ ) لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ ( فَإِنْ هَلَكَ ضَمِنَ الْأَبُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَلَدِ ) لِإِيفَائِهِ دَيْنَهُ مِنْ مَالِهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ ( وَلَوْ رَهَنَ الْوَصِيُّ
مَتَاعًا لِلْيَتِيمِ فِي دَيْنٍ اسْتَدَانَهُ عَلَيْهِ وَقَبَضَ الْمُرْتَهِنُ ثُمَّ اسْتَعَارَهُ الْوَصِيُّ لِحَاجَةِ الْيَتِيمِ فَضَاعَ فِي يَدِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ الرَّهْنِ وَهَلَكَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ وَالْحُكْمُ فِيهِ هَذَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَى الْوَصِيِّ ) مَعْنَاهُ هُوَ الْمُطَالَبُ بِهِ ( ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ ؛ إذْ هِيَ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ ( وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ضَمِنَهُ لِلصَّبِيِّ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ ؛ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ( وَلَوْ غَصَبَهُ الْوَصِيُّ بَعْدَ مَا رَهَنَهُ فَاسْتَعْمَلَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ حَتَّى هَلَكَ عِنْدَهُ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ، فَيُقْضَى بِهِ الدَّيْنُ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ ( فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَدَّاهُ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْيَتِيمِ ) ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِلْيَتِيمِ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا وَجَبَ لَهُ عَلَى الْيَتِيمِ فَالْتَقَيَا قِصَاصًا ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ ) مِنْ الدَّيْنِ ( أَدَّى قَدْرَ الْقِيمَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ وَأَدَّى الزِّيَادَةَ مِنْ مَال الْيَتِيمِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عَلَيْهِ قَدْرُ الْقِيمَةِ لَا غَيْرَ ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ أَدَّى قَدْرَ الدَّيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ إلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَالْفَضْلُ لِلْيَتِيمِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ الدَّيْنُ فَالْقِيمَةُ رَهْنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمُرْتَهِنِ بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ الْمُحْتَرَمِ فَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ، ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ كَانَ الْجَوَابُ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي فَصَّلْنَاهُ ( وَلَوْ أَنَّهُ غَصَبَهُ وَاسْتَعْمَلَهُ لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُهُ لِحَقِّ
الْمُرْتَهِنِ ، وَلَا يَضْمَنُهُ لِحَقِّ الصَّغِيرِ ) ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ لِحَاجَةِ الصَّغِيرِ لَيْسَ بِتَعَدٍّ ، وَكَذَا الْأَخْذُ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ أَخْذِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ : إذَا أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِغَصْبِ مَالِ الصَّغِيرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ لِمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْأَخْذِ ، فَإِذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ يَضْمَنُهُ لِلْمُرْتَهِنِ يَأْخُذُهُ بِدَيْنِهِ إنْ كَانَ قَدْ حَلَّ ، وَيَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ عَامِلٌ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَحِلَّ يَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، ثُمَّ إذَا حَلَّ الدَّيْنُ يَأْخُذُ دَيْنَهُ مِنْهُ وَيَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الصَّبِيِّ بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا
( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ ؛ أَيْ كَمَا أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَضْمَنَانِ لِلصَّبِيِّ إذَا هَلَكَ عَبْدُهُ الَّذِي رَهْنَاهُ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ فَكَذَلِكَ يَضْمَنَانِ إذَا سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ فَبَاعَهُ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ ، إذْ يَأْبَى عَنْهُ جِدًّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالْبَيْعِ وَهُمَا يَمْلِكَانِهِ وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا هُوَ أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ كَمَا يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يَرْهَنَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا عَبْدًا لِلصَّغِيرِ كَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُمَا أَنْ يُسَلِّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِ ذَلِكَ الْعَبْدِ ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ وَيَظْهَرُ وَجْهُ تَرْكِ الْمُصَنِّفِ قَيْدَ فَبَاعَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّطَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا زَعَمَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ الْقَيْدِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ ، بَلْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ الْقَيْدِ شَيْئًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ لِنَفْسِهِ بَدَلَ دَيْنِهِ عَلَى الرَّاهِنِ ، إذْ لَوْ جَعَلَ ثَمَنَهُ رَهْنًا مَوْضِعَ عَيْنِهِ وَلَمْ يُتْلِفْهُ لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا لِلصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ رَهْنَ مَالِ الصَّبِيِّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا وَيَمْلِكَانِ التَّوْكِيلَ بِبَيْعِ مَالِهِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُمَا الضَّمَانُ بِمُجَرَّدِ تَسْلِيطِهِمَا الْمُرْتَهِنَ عَلَى بَيْعِهِ ، وَبَيْعُ الْمُرْتَهِنِ إيَّاهُ إذَا لَمْ يُتْلِفْ الْمُرْتَهِنُ ثَمَنَهُ بَلْ حَفِظَهُ بَدَلَ الْمَبِيعِ ( قَوْلُهُ : وَهُوَ قَاصِرُ الشَّفَقَةِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي حَقِّهِ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ ) قُلْت : قَوْلُهُ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأَبِ عَادَ لِلْمَنْفِيِّ دُونَ النَّفْيِ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ جَازَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : يُرِيدُ بِهِ رَهْنَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ
مَتَاعَ الصَّغِيرِ لِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ ، وَرَهْنَهُمَا ذَلِكَ لِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَأْيُ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ هَا هُنَا أَقُولُ : فِيهِ بُعْدٌ عَمَّا يَتَحَمَّلُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ ، فَإِنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ رَهْنُ الْأَبِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ لِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ لِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ دُونَ رَهْنِ الْوَصِيِّ إيَّاهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ رَاجِعٌ إلَى الْأَبِ فَقَطْ ، فَدَرْجُ رَهْنِ الْوَصِيِّ أَيْضًا فِي بَيَانِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا لَا يُنَاسَبُ سِيَاقَ كَلَامِهِ وَأَيْضًا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ : وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبٌ الْأَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْأَبُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْعَطْفَ وَالتَّشْبِيهَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : وَلَوْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ مَخْصُوصًا بِالْأَبِ ، فَدَرْجُ الْوَصِيِّ فِي مَضْمُونِهِ لَا يُنَاسِبُ لَحَاقَ كَلَامِهِ فَالْحَقُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : أَرَادَ بِهِمَا رَهْنَ الْأَبِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ بِدَيْنِ نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ انْتَهَى ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ وَجْهِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَمْرَيْنِ جَائِزَيْنِ : وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَلَكَ بِدِينِهِمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكُلِّ دُونَ الْعَكْسِ انْتَهَى أَقُولُ : فِي هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ إنْسَانًا أَوْ فَرَسًا يُطِيقُ تَحَمُّلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْأَحْجَارِ وَالْأَشْجَارِ مَثَلًا وَلَا يُطِيقُ تَحَمُّلَ الْكُلِّ قَطْعًا ، وَأَنَّ رَجُلًا شُجَاعًا يُطِيقُ مُقَابَلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ آحَادِ الْعَسْكَرِ عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَا يُطِيقُ
مُقَابَلَةَ مَجْمُوعِ الْعَسْكَرِ مَعًا ، وَهَذَا فِي الْأُمُورِ الْخَارِجِيَّةِ وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَكَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَجُلٍ أَنْ يُجَامِعَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأُخْتَيْنِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأُخْرَى بِمِلْكِ نِكَاحٍ أَوْ بِمُلْكِ يَمِينٍ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا مَعًا فِي الْجِمَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَيْنِك السَّبَبَيْنِ ، وَلَعَلَّ سَائِرَ الشُّرَّاحِ وَصَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهُوا لِعَدَمِ صِحَّةِ الْكُلِّيَّةِ فَقَالُوا فِي الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيلِ : وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَلَكَ أَنْ يَرْهَنَ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ بِدَيْنِهِمَا وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ شَيْئًا لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ الْمُتَأَمِّلِ أَنَّ تَعْلِيلَهُمْ الْمَذْكُورَ بِدُونِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ لَا يُفِيدُ الشِّفَاءَ فِي إثْبَاتِ الْمُدَّعَى هُنَا ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ لَمَّا تَنَبَّهَ لِاخْتِلَالِ الْكُلِّيَّةِ الْوَاقِعَةِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَصَدَ الْإِصْلَاحَ حَيْثُ قَيَّدَ قَوْلَهُ : لِأَنَّ كُلَّ مَا أَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُرَكَّبِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْكُلِّ بِأَنْ قَالَ : إذَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ كَمَا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَقُولُ : هَذَا التَّقْيِيدُ يُخِلُّ بِالْمَقَامِ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ لَا يَتِمُّ إثْبَاتًا لِلْمُدَّعَى حِينَئِذٍ ، فَإِنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ الْمَانِعِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةَ ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَيِّنًا فِي نَفْسِهِ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى ذِكْرِ جَوَازِ رَهْنِ الْأَبِ مَتَاعَ الصَّغِيرِ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ وَبِدَيْنٍ عَلَى الصَّغِيرِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ جَوَازَ رَهْنِهِ إيَّاهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ دُونَ الْعَكْسِ ، فَإِنَّ مَا يَثْبُتُ لِلْكُلِّ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْجُزْءِ إذَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ مَانِعٌ سِيَّمَا فِي الْأُمُورِ الْهَيِّنَةِ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا قَالَ فِي
كِتَابِ الْإِقْرَارِ : إذَا أَقَرَّ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ بِغَصْبِ مَالِ الصَّغِيرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ غَصْبُهُ لِمَا أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْأَخْذِ ) وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : لِمَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَتِهِ فَإِنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ وَلِهَذَا يَضْمَنُهُ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ فَإِنَّ الِاسْتِعْمَالَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي حَقِيقَةِ الْغَصْبِ وَلَا أَمْرٍ لَازِمٍ لَهُ ؛ إذْ الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ وَفِي الشَّرِيعَةِ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ كَمَا مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْغَصْبِ ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ دُخُولِ الِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعْنَى الْغَصْبِ وَلَا فِي عَدَمِ لُزُومِهِ لِشَيْءٍ مِنْهُمَا فَكَيْفَ يَكُونُ الْإِقْرَارُ بِالْغَصْبِ إقْرَارًا بِالِاسْتِعْمَالِ فِي حَاجَتِهِ
قَالَ ( وَيَجُوزُ رَهْنُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهُ فَكَانَ مَحَلًّا لِلرَّهْنِ ( فَإِنْ رُهِنَتْ بِجِنْسِهَا فَهَلَكَتْ هَلَكَتْ بِمِثْلِهَا مِنْ الدَّيْنِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْجَوْدَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ وَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَإِنْ رَهَنَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَضَاعَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ أَوْ أَكْثَرَ هَذَا الْجَوَابُ فِي الْوَجْهَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ وَعِنْدَهُمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَهِيَ مِثْلُ الدَّيْنِ فِي الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٌ عَلَيْهِ فِي الثَّانِي فَيَصِيرُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ مُسْتَوْفِيًا ( فَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ) الْمَذْكُورِ لَهُمَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى الِاسْتِيفَاءِ بِالْوَزْنِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ بِالْمُرْتَهِنِ ، وَلَا إلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَصِرْنَا إلَى التَّضْمِينِ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ لِيَنْتَقِضَ الْقَبْضُ وَيُجْعَلَ مَكَانَهُ ثُمَّ يَتَمَلَّكَهُ وَلَهُ أَنَّ الْجَوْدَةَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، وَاسْتِيفَاءُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ جَائِزٌ كَمَا إذَا تَجَوَّزَ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا يُحْتَاجُ إلَى نَقْضِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ مِنْ مُطَالِبٍ وَمُطَالَبٍ ، وَكَذَا الْإِنْسَانُ لَا يَضْمَنُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَبِتَعَذُّرِ التَّضْمِينِ يَتَعَذَّرُ النَّقْضُ ، وَقِيلَ : هَذِهِ فُرَيْعَةُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ فَهَلَكَتْ ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ يُمْنَعُ
الِاسْتِيفَاءُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ ، غَيْرَ أَنَّ الْبِنَاءَ لَا يَصِحُّ مَا هُوَ الْمَشْهُورُ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي هَذَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَبَضَ الزُّيُوفَ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ عَيْنِهَا ، وَالزِّيَافَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ ، وَقَدْ تَمَّ بِالْهَلَاكِ وَقَبْضِ الرَّهْنِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْضِ الْقَبْضِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ عِنْدَهُ بِالتَّضْمِينِ ، وَلَوْ انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ وَزْنِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْفِكَاكِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى أَنْ يَذْهَبَ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِالْجَوْدَةِ عَلَى الِانْفِرَاد ، وَلَا إلَى أَنْ يَفْتَكَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ فَخَيَّرْنَاهُ ، إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ بِمَا فِيهِ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْمَكْسُورُ لِلْمُرْتَهِنِ بِالضَّمَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ شَاءَ افْتَكَّهُ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ بِالدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْفِكَاكُ مَجَّانًا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ ، وَفِي الْهَلَاكِ الْحَقِيقِيِّ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ قُلْنَا : الِاسْتِيفَاءُ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِالْمَالِيَّةِ ، وَطَرِيقُهُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ ثُمَّ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَفِي جَعْلِهِ بِالدَّيْنِ إغْلَاقُ الرَّهْنِ وَهُوَ حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ فَكَانَ التَّضْمِينُ بِالْقِيمَةِ أَوْلَى وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ثَمَانِيَةً يَضْمَنُ قِيمَتَهُ جَيِّدًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ أَوْ رَدِيئًا مِنْ جِنْسِهِ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ، وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الِانْكِسَارِ بِحَالَةِ الْهَلَاكِ ، وَالْهَلَاكُ
عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ اثْنَيْ عَشَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْوَزْنِ عِنْدَهُ لَا لِلْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْوَزْنِ كُلِّهِ مَضْمُونًا يُجْعَلُ كُلُّهُ مَضْمُونًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ فَبَعْضُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَابِعَةٌ لِلذَّاتِ ، وَمَتَى صَارَ الْأَصْلُ مَضْمُونًا اسْتَحَالَ أَنْ يَكُونَ التَّابِعُ أَمَانَةً وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ خَمْسَةَ أَسْدَاسِ قِيمَتِهِ ، وَيَكُونُ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْإِبْرِيقِ لَهُ بِالضَّمَانِ وَسُدُسُهُ يُفْرَزُ حَتَّى لَا يَبْقَى الرَّهْنُ شَائِعًا ، وَيَكُونُ مَعَ قِيمَتِهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَكْسُورِ رَهْنًا ؛ فَعِنْدَهُ تُعْتَبَرُ الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ ، وَتُجْعَلُ زِيَادَةُ الْقِيمَةِ كَزِيَادَةِ الْوَزْنِ كَأَنَّ وَزْنَهُ اثْنَا عَشَرَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ مُتَقَوِّمَةٌ فِي ذَاتِهَا حَتَّى تُعْتَبَرَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ ، بِخِلَافِ جِنْسِهَا ، وَفِي تَصَرُّفِ الْمَرِيضِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا سَمْعًا فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهَا ، وَفِي بَيَانِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ نَوْعُ طُولٍ يُعْرَفُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالزِّيَادَاتِ مَعَ جَمِيعِ شُعَبِهَا
( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَإِنْ رَهَنَ إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَضَاعَ فَهُوَ بِمَا فِيهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَأَتَى بِرِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاحْتِيَاجِهَا إلَى تَفْصِيلِ مَا ذَكَرَهُ انْتَهَى وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ طَعْنًا فِيهِ : لَا يَخْفَى أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّفْصِيلِ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ لَغْوٌ ؛ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ لَيْسَتْ مُحْتَاجَةً إلَى تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ مِثْلَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَلَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحْتَاجَةٌ إلَى تَفْصِيلٍ مَا حَتَّى يُقَالَ : إنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ ، بَلْ مُرَادُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحْتَاجَةٌ إلَى تَفْصِيلٍ كَثِيرٍ زَائِدٍ عَلَى مَا احْتَاجَ إلَيْهِ رِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ كَمَا أَتَمَّهُ الْمُصَنِّفُ فِي مِقْدَارِ تَمَامِ جَانِبَيْ الْوَرَقَةِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ : إلَى تَفْصِيلِ ذِكْرِهِ فَلَغَا مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقُولُ : لَمْ أَدْرِ كَيْفَ ذَهَبُوا إلَى هَذَا الشَّرْحِ مَعَ ظُهُورِ بُطْلَانِهِ ؛ إذْ قَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَا يَصِحُّ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا فِيهَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَذَكَرَ الشُّرَّاحُ أَنَّ بِنَاءَ هَذِهِ عَلَى تِلْكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَا رَوَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْفَرْقَ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى
الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ دُونَ رِوَايَةِ عِيسَى بْنِ أَبَانَ فِيهَا ، فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَاحِدٌ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ عَلَى رِوَايَتِهِ ، فَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ يُنَافِي الْبِنَاءَ قَطْعًا وَالصَّوَابُ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ أَنْ يُقَالَ : أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا تَكُونَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فِيهَا ، بَلْ كَانَتْ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً كَمَا هُوَ الْأَصَحُّ كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَنَقَلَ عَنْهُ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ هَا هُنَا وَيُفْصِحُ عَمَّا ذَكَرْنَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ : وَقِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعُ مَا إذَا اسْتَوْفَى الزُّيُوفَ مَكَانَ الْجِيَادِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ وَهَلَكَتْ الزُّيُوفُ عِنْدَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالزِّيَافَةِ فَإِنَّهُ سَقَطَ دَيْنُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَضْمَنُ مِثْلَ مَا قَبَضَ وَيَأْخُذُ مِثْلَ حَقِّهِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَوَّلًا كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَآخِرًا كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ كَذَا ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُبْتَدَأَةٌ ؛ لِأَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَشْهُورِ وَمَعَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَبَضَ الزُّيُوفَ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ تَبَصَّرْ
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إذَا بَاعَ شَيْئًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كَفِيلًا مُعَيَّنًا حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقُبِلَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ صَفْقَةٌ فِي صَفْقَةٍ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِهِمَا ، وَمِثْلُهُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ لِلِاسْتِيثَاقِ وَأَنَّهُ يُلَائِمُ الْوُجُوبَ ، فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ وَالرَّهْنُ مُعَيَّنًا اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى وَهُوَ مُلَائِمٌ فَصَحَّ الْعَقْدُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَلَا الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلْجَهَالَةِ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِعَيْنِهِ فَيَفْسُدُ ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا فَحَضَرَ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ صَحَّ ( وَلَوْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي عَنْ تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ ) وَقَالَ زُفَرُ : يُجْبَرُ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ إذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ صَارَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ كَالْوَكَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الرَّهْنِ فَيَلْزَمُهُ بِلُزُومِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ : الرَّهْنُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ مِنْ جَانِبِ الرَّاهِنِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا جَبْرَ عَلَى التَّبَرُّعَاتِ ( وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِتَرْكِ الرَّهْنِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ ) ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَمَا رَضِيَ إلَّا بِهِ فَيَتَخَيَّرُ بِفَوَاتِهِ ( إلَّا أَنْ يَدْفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ حَالًّا ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ( أَوْ يَدْفَعَ قِيمَةَ الرَّهْنِ رَهْنًا ) ؛ لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ .
( قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا بِالْمَجْلِسِ وَالرَّهْنُ مُعَيَّنًا اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى ) قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : أَيْ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ الْمُلَاءَمَةُ أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ؛ إذْ لَا يُسَاعِدُهُ تَحْرِيرُ الْمُصَنِّفِ قَطْعًا ، فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى وَهُوَ مُلَائِمٌ فَيَصِيرُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ ، وَهُوَ أَيْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الْمُلَاءَمَةُ مُلَائِمٌ وَلَا حَاصِلَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْمَعْنَى : أَيْ مَعْنَى الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِيثَاقُ ، وَهُوَ أَيْ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ الِاسْتِيثَاقُ مُلَائِمٌ : أَيْ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِكَوْنِهِ مُؤَكِّدًا مُوجِبَ الْعَقْدِ فَصَحَّ الْعَقْدُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيحٌ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالرَّهْنَ لِلِاسْتِيثَاقِ ، وَأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْوُجُوبِ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَلَا الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْقَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلْجَهَالَةِ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ لِلْجَهَالَةِ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ وَالْكَفِيلُ مُعَيَّنًا لَا فِيمَا إذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا ؛ إذْ الْغَيْبَةُ لَا تَقْتَضِي الْجَهَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا مُعَيَّنًا وَلَا يَكُونُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ ، بَلْ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : أَوْ كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا حَيْثُ جَعَلَهُ قَسِيمًا لِكَوْنِ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْجَهَالَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي التَّعْلِيلِ تَعُمُّ الْجَهَالَةَ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ وَالْجَهَالَةَ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانُ ، وَإِنَّ الْجَهَالَةَ الثَّانِيَةَ تَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا كَانَ الْكَفِيلُ غَائِبًا لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ
تَأَمَّلْ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : يَعْنِي أَنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ اسْتِحْسَانًا مَعَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ إلَى مَعْنَاهُ ، وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَالْكَفِيلُ غَائِبًا فَاتَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رُبَّمَا يَأْتِي بِشَيْءٍ يُسَاوِي عُشْرَ حَقِّهِ أَوْ يُعْطِي كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّوَثُّقِ شَيْءٌ فَبَقِيَ الِاعْتِبَارُ لِعَيْنِ الشَّرْطِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ انْتَهَى أَقُولُ : وَفِيهِ قُصُورٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ كَوْنِ الْكَفِيلِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي تَصْوِيرِ الْمُدَّعَى حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا كَانَ الرَّهْنُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَالْكَفِيلُ غَائِبًا فَاتَ مَعْنَاهُ مَعَ أَنَّ كَوْنَ الْكَفِيلِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ دَاخِلٌ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي التَّعْلِيلِ أَوْ يُعْطِي كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ لَا يُفِيدُ مَا سَبَقَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُدَّعِي وَالْكَفِيلِ غَائِبًا لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ غَيْبَةَ الْكَفِيلِ عَنْ الْمَجْلِسِ لَا تَقْتَضِي عَدَمَ تَعَيُّنِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُشْتَرِي لِلْكَفَالَةِ رَجُلًا مَلِيئًا غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ فَكَيْفَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ كَفِيلًا غَيْرَ مَلِيءٍ بَعْدَ أَنْ عَيَّنَ الْمَلِيءَ لِلْكَفَالَةِ وَالْحَقُّ فِي تَعْلِيلِ فَوَاتِ الْمَعْنَى عِنْدَ كَوْنِ الْكَفِيلِ غَائِبًا أَنْ يُقَالَ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَقْبَلَ الْكَفَالَةَ عِنْدَ حُضُورِهِ ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ تَرَكَ تَعْلِيلَ هَذِهِ الصُّورَةِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ أَوْ انْفِهَامِهِ مِنْ قَوْلِهِ : وَلَوْ كَانَ غَائِبًا فَحَضَرَ فِي الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ صَحَّ تَدَبَّرْ
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِدَرَاهِمَ فَقَالَ لِلْبَائِعِ أَمْسِكْ هَذَا الثَّوْبَ حَتَّى أُعْطِيَك الثَّمَنَ فَالثَّوْبُ رَهْنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَبْسُ إلَى وَقْتِ الْإِعْطَاءِ ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي حَتَّى كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ حَوَالَةً ، وَالْحَوَالَةُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ كَفَالَةٌ وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَكُونُ رَهْنًا ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَمْسِكْ يَحْتَمِلُ الرَّهْنَ وَيَحْتَمِلُ الْإِيدَاعَ ، وَالثَّانِي أَقَلُّهُمَا فَيَقْضِي بِثُبُوتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَمْسِكْهُ بِدَيْنِك أَوْ بِمَالِك ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَابَلَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ عَيَّنَ جِهَةَ الرَّهْنِ قُلْنَا : لَمَّا مَدَّهُ إلَى الْإِعْطَاءِ عَلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ الرَّهْنُ .
فَصْلٌ ( وَمَنْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ فَقَضَى حِصَّةَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ بَاقِيَ الدَّيْنِ ) وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخُصُّهُ إذَا قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ فَيَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ مُبَالَغَةً فِي حَمْلِهِ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَصَارَ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَعْيَانِ الرَّهْنِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ الَّذِي رَهَنَهُ بِهِ ، فَكَذَا الْجَوَابُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ : وَفِي الزِّيَادَاتِ : لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ إذَا أَدَّى مَا سَمَّى لَهُ وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْعَقْدَ مُتَّحِدٌ لَا يَتَفَرَّقُ التَّسْمِيَةَ كَمَا فِي الْمَبِيعِ وَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الِاتِّحَادِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ لَا يَصِيرُ مَشْرُوطًا فِي الْآخَرِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ .
( فَصْلٌ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : وَجْهُ الْفَصْلِ كَوْنُ الرَّهْنِ مُتَعَدِّدًا ، وَلَا خَفَاءَ فِي تَأَخُّرِ التَّعَدُّدِ عَنْ الْإِفْرَادِ انْتَهَى أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْفَصْلِ دُونَ الْمَسَائِلِ الْبَاقِيَةِ مِنْهُ ، إذْ لَا تَعَدُّدَ فِي الرَّهْنِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي الْمُرْتَهِنِ فِي بَعْضٍ مِنْهَا وَفِي الرَّاهِنِ فِي بَعْضٍ آخَرَ مِنْهَا فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : وَجْهُ الْفَصْلِ كَوْنُ الرَّهْنِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الرَّاهِنِ مُتَعَدِّدًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ وَجْهُ الْفَصْلِ جَمِيعَ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبِلَ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الرَّهْنِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ ، فَكَأَنَّهُ رَهَنَ كُلَّ عَبْدٍ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَتَفَرَّقُ فِيهِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ كَمَا فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ ، وَالْهَلَاكُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُهُ فَبَعْدَمَا نَقَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَدَّى إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ التَّمَامِ بِأَنْ يَهْلِكَ مَا بَقِيَ فَيَنْفَسِخَ الْبَيْعُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ بِالْهَلَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، كَمَا أَنَّ بِالِافْتِكَاكِ يَنْتَهِي حُكْمُ الرَّهْنِ ، فَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْبَعْضِ عِنْدَ قَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَهْلِكَ مَا بَقِيَ فَيَنْتَهِيَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ انْتَهَى أَقُولُ :
فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِمَا الِاسْتِدْلَال عَلَى أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الرَّهْنِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ ، وَلَا تَتَفَرَّقُ فِي بَابِ الْبَيْعِ بِذَلِكَ بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا إنِّيٌّ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ عَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ فَقَبِلَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ ، وَإِنْ بَاعَهُمَا بِأَلْفٍ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا مِنْ الْأَلْفِ فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ وَثَانِيهِمَا لَمِّيٌّ وَهُوَ مَا ذَكَرَاهُ بِقَوْلِهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ إلَخْ ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا سَالِمٌ وَالثَّانِي مَنْظُورٌ فِيهِ عِنْدِي ؛ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَحْذُورَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ دُونَ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي الْأَصْلِ ، وَأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي إثْبَاتِ أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَفَرَّقُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الرَّهْنِ وَلَا تَتَفَرَّقُ بِذَلِكَ فِي بَابِ الْبَيْعِ ، فَالتَّأَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا نَقَدَ بَعْضَ الثَّمَنِ إنَّمَا يَكُونُ مَحْذُورًا عِنْدَ ثُبُوتِ عَدَمِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَلَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ ، بَلْ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَصَدَ إثْبَاتَهُ هَا هُنَا بِقَوْلِهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ إلَخْ فَابْتِنَاءُ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي لَمِّيَّةِ الْفَرْقِ بَيْنَ بَابَيْ الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ فِي تَفَرُّقِ أَحَدِهِمَا بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ دُونَ الْآخَرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّمَا افْتَرَقَا ؛ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ مُتَعَارَفٌ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الرَّهْنِ ، فَلَوْ تَفَرَّقَ الْبَيْعُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ فِي أَحَدِهِمَا فَيَقْبَلَ الْجَيِّدَ
فَيَتَضَرَّرَ بِهِ الْبَائِعُ ، وَلَوْ تَفَرَّقَ الرَّهْنُ بِتَفَرُّقِ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الرَّاهِنُ ، وَلِأَنَّ فِي الْبَيْعِ إذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا لَوْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ تَصِيرُ الثَّانِيَةُ شَرْطًا فِي الْأُولَى وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ بِهِ ، أَمَّا الرَّهْنُ فَلَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ كَالْهِبَةِ انْتَهَى ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : هَذَا فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ مَوْجُودٌ قُلْنَا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّ حِصَّةَ كُلِّ عَبْدٍ مِنْ الدَّيْنِ فِيهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِيَقِينٍ ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ أَكْثَرَ قِيمَةً مِثْلَ أَنْ يُسَاوِيَ أَحَدُهُمَا أَلْفًا ، وَالْآخَرُ أَلْفَيْنِ وَرَهَنَهُمَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا مِنْ ذَاكَ وَأَرَادَ الرَّاهِنُ فِكَاكَ الَّذِي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ فَأَدَّى أَلْفًا ، وَهُوَ يَقُولُ هَذَا الَّذِي رَهَنَهُ بِأَلْفٍ وَالْمُرْتَهِنُ يَقُولُ بَلْ هُوَ رُهِنَ بِأَلْفَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَأَمَّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ فَحِصَّةُ كُلِّ عَبْدٍ مَعْلُومَةٌ بِالتَّسْمِيَةِ لَا جَهَالَةَ هُنَاكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلِهَذَا يُمْكِنُ فِكَاكُ الْبَعْضِ بِقَضَاءِ بَعْضِ الدَّيْنِ انْتَهَى أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجْعَلُ قِيمَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَيْصَلًا فِي قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي صَدْرِ مَسْأَلَةِ الْإِجْمَالِ : وَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَخُصُّهُ إذَا قُسِّمَ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهِمَا فَائِدَةٌ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَبْدَانِ مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ لَا يُوجَدُ هُنَاكَ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَعَ أَنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الْإِجْمَالِ تَعُمُّ هَذِهِ الصُّورَةَ أَيْضًا فَالْأَوْلَى : فِي دَفْعِ النَّقْضِ بِحَالَةِ الْإِجْمَالِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ أَيُّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ فِي
كَلَامِ الْعَاقِدِ مَا يَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّفْصِيلِ فَإِنَّ تَفَرُّقَ التَّسْمِيَةِ فِيهَا تَتَحَمَّلُ تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الْإِجْمَالِ إذَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ شَيْءٌ يَتَحَمَّلُهُ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْحَمْلُ فِيهَا عَلَى تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ التَّأَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ قَبْلَ تَمَامِهَا فِي بَابِ الرَّهْنِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْإِجْمَالِ أَيْضًا تَأَمَّلْ .
قَالَ ( فَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جَازَ ، وَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ ، وَمُوجِبُهُ صَيْرُورَتُهُ مُحْتَبِسًا بِالدَّيْنِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّيِ فَصَارَ مَحْبُوسًا بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ حَيْثُ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( فَإِنْ تَهَايَآ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ كَالْعَدْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ ) قَالَ ( وَالْمَضْمُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا حِصَّتَهُ ؛ إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِمَّا يَتَجَزَّأُ قَالَ ( فَإِنْ أَعْطَى أَحَدُهُمَا دَيْنَهُ كَانَ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ رَهْنٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ وَعَلَى هَذَا حَبْسُ الْمَبِيعِ إذَا أَدَّى أَحَدُ الْمُشْتَرِيَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ رَهَنَ عَيْنًا وَاحِدَةً عِنْدَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جَازَ ، وَجَمِيعُهَا رَهْنٌ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا شُيُوعَ فِيهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : قِيلَ هُوَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا بَاعَ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ وَهَبَ مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا أُضِيفَ إلَى جَمِيعِ الْعَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ الشُّيُوعُ حَتَّى كَانَ الْمَبِيعُ وَالْمَوْهُوبُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَمَا لَوْ نَصَّ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ إضَافَةَ الْعَقْدِ إلَى اثْنَيْنِ تُوجِبُ الشُّيُوعَ فِيمَا يَكُونُ الْعَقْدُ مُفِيدًا لِلْمِلْكِ كَالْهِبَةِ وَالْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِشَخْصَيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَتُجْعَلُ شَائِعَةً فَتُقْسَمُ عَلَيْهِمَا لِلْجَوَازِ ، وَالرَّهْنُ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يُفِيدُ الِاحْتِبَاسَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ مُحْتَبَسَةً لِحَقَّيْنِ عَلَى الْكَمَالِ فَيُمْنَعُ الشُّيُوعُ فِيهِ تَحْرِيمًا لِلْجَوَازِ لِكَوْنِ الْقَبْضِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الرَّهْنِ ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ عَنْهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ : هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ عَلَى التَّقْرِيرِ الْمَذْكُورِ لَيْسَا بِصَحِيحَيْنِ فِي حَقِّ الْهِبَةِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ الرَّهْنِ وَالْهِبَةِ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِ الشُّيُوعِ فِي شَيْءٍ مِنْ صُورَتَيْ رَهْنِ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ رَجُلَيْنِ وَهِبَتِهِمَا مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وُهِبَ اثْنَانِ مِنْ وَاحِدٍ دَارًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا سُلِّمَاهَا جُمْلَةً ، وَهُوَ قَدْ قَبَضَهَا جُمْلَةً فَلَا شُيُوعَ ، وَإِنْ وُهِبَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ أَشْبَهَتْ الْجُمْلَةَ مِنْهُمَا ؛ إذْ
التَّمْلِيكُ وَاحِدٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ كَمَا لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَلَهُ أَنَّ هَذَا هِبَةُ النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا صَحَّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ فَيَكُونُ التَّمْلِيكُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ ، وَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَتَحَقَّقُ الشُّيُوعُ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْحَبْسُ وَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَلًا ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَسْتَرِدُّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ انْتَهَى فَلَا مَعْنَى لِنَقْضِ مَا نَحْنُ فِيهِ بِالْهِبَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَصْلًا ، وَلَا لِلْجَوَابِ عَنْهُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْفَرْقِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْطَى أَحَدَهُمَا دَيْنَهُ كَانَ كُلُّهُ رَهْنًا فِي يَدِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْعَيْنِ رَهْنٌ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ انْتَهَى مَقْصُودُهُ مِنْ الرَّهْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ غَيْرِ نِيَابَةٍ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَسْتَرِدَّ الرَّاهِنُ مَا قَضَاهُ إلَى الْأَوَّلِ مِنْ الدَّيْنِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لَكِنْ يَسْتَرِدُّهُ وَأُجِيبَ بِأَنَّ ارْتِهَانَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلْ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ نِصْفِ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ فَإِنَّ فِيهِ وَفَاءً بِدَيْنِهِمَا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَابِضَ اسْتَوْفَى حَقَّهُ مَرَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَهُ ثَانِيًا انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ غَيْرُ شَافٍ فِي دَفْعِ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ بَسَطَ مُقَدَّمَةً ، وَهِيَ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ مِنْ الرَّهْنِ
انْتَهَى مَقْصُودُهُ مِنْ الرَّهْنِ وَهُوَ كَوْنُهُ وَسِيلَةً إلَى الِاسْتِيفَاءِ الْحَقِيقِيِّ فَفَرَّعَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ تِلْكَ الْمُقَدَّمَةَ صَادِقَةٌ ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ارْتِهَانُ الَّذِي اسْتَوْفَى حَقَّهُ بَاقِيًا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الرَّهْنِ قَدْ انْتَهَى بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، فَمَا وَجْهُ بَقَاءِ ارْتِهَانِهِ بَعْدَهُ وَبِالْجُمْلَةِ بَقَاءُ ارْتِهَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَصِلْ الرَّهْنُ إلَى الرَّاهِنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عِنْدَ السَّائِلِ ، بَلْ هُوَ يَقُولُ : لَا مَعْنَى لِبَقَاءِ ذَلِكَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ أَحَدِهِمَا حَقَّهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْآخَرِ ، وَيَسْتَنِدُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُقَدَّمَةِ الَّتِي بَسَطَهَا فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَلَا يَشْفِيهِ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ
قَالَ ( وَإِنْ رَهَنَ رَجُلَانِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا رَجُلًا رَهْنًا وَاحِدًا فَهُوَ جَائِزٌ وَالرَّهْنُ رَهْنٌ بِكُلِّ الدَّيْنِ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ يَحْصُلُ فِي الْكُلِّ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ ( فَإِنْ أَقَامَ الرَّجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُ عَبْدَهُ الَّذِي فِي يَدِهِ وَقَبَضَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ رَهَنَهُ كُلَّ الْعَبْدِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْكُلِّ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ رَهْنًا لِهَذَا وَكُلُّهُ رَهْنًا لِذَلِكَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ بِكُلِّهِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَلَا إلَى الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الشُّيُوعِ فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا وَتَعَيَّنَ التَّهَاتُرُ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ يَكُونُ رَهْنًا لَهُمَا كَأَنَّهُمَا ارْتَهَنَاهُ مَعًا إذَا جُهِلَ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا ، وَجُعِلَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ هَذَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا عَمَلٌ عَلَى خِلَافِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحُجَّةُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ حَبْسًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مِثْلِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَبِهَذَا الْقَضَاءِ يَثْبُتُ حَبْسٌ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى شَطْرِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَلَيْسَ هَذَا عَمَلًا عَلَى وَفْقِ الْحُجَّةِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ وَإِنْ كَانَ قِيَاسًا لَكِنَّ مُحَمَّدًا أَخَذَ بِهِ لِقُوَّتِهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بَاطِلًا فَلَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ أَمَانَةً ؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ لَا حُكْمَ لَهُ قَالَ ( وَلَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَالْعَبْدُ فِي أَيْدِيهِمَا فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ رَهْنًا يَبِيعُهُ بِحَقِّهِ اسْتِحْسَانًا ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَفِي الْقِيَاسِ : هَذَا بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ