كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
مَصْكُوكًا مِنْ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ لُزُومَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقَوُّمِ ، وَالْعُرْفُ أَنْ يُقَوَّمَ بِالْمَصْكُوكِ ، وَكَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ ( قَوْلُهُ كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ ) اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ ، وَإِنَّمَا فِي الدَّارَقُطْنِيِّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا ، وَمِنْ كُلٍّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ } الْحَدِيثَ ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَبِيبٍ ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالْمُدَّعِي فَإِنَّ أَحَادِيثَ أَخْذِ رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ الرِّقَةِ مُفَسِّرَةٌ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ ( قَوْلُهُ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ ) فَفِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، وَمِمَّا يُبْنَى عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ مَضَى عَلَيْهَا عَامَانِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُمَا خَمْسَةٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَثُمُنٌ فَيَبْقَى السَّالِمُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِائَتَانِ إلَّا ثُمُنَ دِرْهَمٍ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَعِنْدَهُ لَا زَكَاةَ فِي الْكُسُورِ فَيَبْقَى السَّالِمُ مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةٌ أُخْرَى .
( قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي زَكَاةِ الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ الزَّكَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوْلِ ( قَوْلُهُ وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ بَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ أَعْدَادٌ فَقَالَ ذَلِكَ فِيهَا تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ ، أَيْ إيجَابِ الشِّقْصِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ الشَّرِكَةِ عَلَى الْمُلَّاكِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ هُنَا ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ الْكُسُورِ شَيْئًا } وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ .
وَأَمَّا مَا نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى
حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ : رَوَى أَبُو أُوَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ جَدِّهِمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الْحَدِيثَ ، وَذَكَرَ فِي الْفِضَّةِ فِيهِ { لَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ } وَلَمْ يَعْزُهُ عَبْدُ الْحَقِّ لِكِتَابٍ ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِهِ ، وَالْمَوْجُودُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ النَّسَائِيّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ { وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ } وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ " فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ " وَتَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ } .
فَقَوْلُهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ خَرَجَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ فَيُفِيدُ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الْمَفْعُولِ فَتَكُونُ قَيْدًا فِي عَامِلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ بِالْإِعْطَاءِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ : قُصَارَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلنَّفْيِ عَمَّا دُونَهَا إلَّا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَنَا أَوْ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ مُتَعَرِّضٌ لِإِيجَابِهِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَفْهُومُ كَانَ الْمَنْطُوقُ مُقَدَّمًا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ ، خُصُوصًا وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ .
فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ إثْبَاتُ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَثَرِ عُمَرَ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ أَنَّ تَمَامَ حُكْمِ مَا زَادَ أَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ فَلَا يَكُونُ مِنْ حُكْمِ مَا زَادَ خِلَافُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بَيَانًا لِحُكْمِ مَا زَادَ بَلْ لِبَعْضِهِ فَإِنْ قِيلَ : يُحْمَلُ عَلَى إرَادَةِ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ .
قُلْنَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ : أَيْ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ فَبِحِسَابِ الْخَمْسَةِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دِرْهَمٌ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ الْحَمْلُ فِي مُعَارِضِ حَدِيثِ عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ وَذَلِكَ مُسْقِطٌ فَيَكُونُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ ، وَظَنُّ أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ نَهْيٌ فَيُقَدَّمُ غَلَطٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهْيُ الْمُصَدِّقِ ، وَكَلَامُنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ أَنْ يُعْطِيَ بَلْ الْوَاقِعُ فِي حَقِّهِ تَعَارُضُ السُّقُوطِ وَالْوُجُوبِ .
قُلْنَا : ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لِلْحَرَجِ الْعَظِيمِ وَالتَّعَذُّرِ فِي بَعْضِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَجَبَ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِهِمَا خَمْسَةٌ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ حَتَّى جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ وَزَكَاةَ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ ، وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِقِيَاسِ الزَّكَوَاتِ لِأَنَّهَا تَدُورُ بِعَفْوٍ وَنِصَابٍ ( قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدِّرْهَمِ إلَخْ ) هَذَا الِاعْتِبَارُ فِي الزَّكَاةِ وَنِصَابِ الصَّدَقَةِ وَالْمَهْرِ وَتَقْدِيرِ الدِّيَاتِ ، وَإِذْ قَدْ أُخِذَ الْمِثْقَالُ فِي تَعْرِيفِ الدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ
الْمُصَنِّفِ فِي صَدَقَةِ الذَّهَبِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ مَحْدُودًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ .
وَكَلَامُ السَّجَاوَنْدِيِّ فِي كِتَابِ قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ خِلَافُهُ ، قَالَ الدِّينَارُ : بِسَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ عِشْرُونَ قِيرَاطًا وَالْقِيرَاطُ خَمْسَةُ شَعِيرَاتٍ ، فَالدِّينَارُ عِنْدَهُمْ مِائَةُ شَعِيرَةٍ وَعِنْدَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ شَعِيرَةً ، فَيَكُونُ الْقِيرَاطُ عِنْدَهُمْ طَسُّوجًا وَخُمُسَهُ .
وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا فِي تَحْدِيدِ الدِّينَارِ مُطْلَقًا فَقَالَ : اعْلَمْ أَنَّ الدِّينَارَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَالدَّانِقُ أَرْبَعُ طَسُّوجَاتٍ وَالطَّسُّوجُ حَبَّتَانِ وَالْحَبَّةُ شَعِيرَتَانِ وَالشَّعِيرَةُ سِتَّةُ خَرَادِلَ وَالْخَرْدَلَةُ اثْنَا عَشَرَ فَلْسًا وَالْفَلْسُ سِتُّ فَتِيلَاتٍ وَالْفَتِيلُ سِتُّ نَقِيرَاتٍ وَالنَّقِيرُ ثَمَانُ قِطْمِيرَاتٍ وَالْقِطْمِيرَةُ اثْنَتَا عَشْرَةَ ذَرَّةً انْتَهَى .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْخَرَادِلِ أَوْ الشَّعِيرَةِ الْمَعْرُوفُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ وَهُوَ تَعْرِيفُ الدِّينَارِ عَلَى عُرْفِ سَمَرْقَنْدَ ، وَتَعْرِيفُ دِينَارِ الْحِجَازِ هُوَ الْمَقْصُودُ إذْ الْحُكْمُ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ } لَفْظُ النَّسَائِيّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ وَوَثَّقَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ لَهُمْ فِيهِ اصْطِلَاحٌ خَاصٌّ فَلَمْ يَحْصُلْ مِمَّا ذَكَرَهُ تَحْدِيدٌ وَلَا تَمْيِيزٌ عِنْدَ الْعَقْلِ لِأَنَّ الذَّرَّةَ حِينَئِذٍ هِيَ مَبْدَأُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتُ الِاصْطِلَاحِيَّةُ وَلَا يُعْرَفُ شَخْصُهَا ، وَقَدْ لَا يُقَدَّرُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا لَوْ عُرِفَ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْدِيرُ كَمِّيَّةِ شَيْءٍ مَوْجُودٍ ثَابِتٍ ، وَالتَّوَصُّلُ إلَى ذَلِكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ اقْتَصَرَ عَلَى
التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فِي إفَادَةِ التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَسَطَ بَيْنَ الشَّعِيرَاتِ الْمَعْرُوفَةِ وَإِلَّا يَكُونُ تَجْهِيلًا وَلَوْ انْتَهَى إلَى الْخَرْدَلِ كَانَ حَسَنًا إذْ لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ وَكَذَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الدِّينَارِ وَالْمِثْقَالِ مُتَرَادِفَيْنِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِثْقَالَ اسْمٌ لِلْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ بِهِ وَالدِّينَارُ اسْمٌ لِلْمُقَدَّرِ بِهِ بِقَيْدِ ذَهَبِيَّتِهِ ، وَإِذْ قَدْ عَرَفْت هَذَا فَقَالُوا : كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ عَشَرَةِ مَثَاقِيلَ ، وَصِنْفٌ كُلِّ عَشَرَةٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ ، وَصِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ بِوَزْنِ سِتَّةٍ ، فَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ ، وَقِيلَ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالصِّنْفِ الْأَوَّلِ فَالْتَمَسُوا التَّخْفِيفَ ، فَجَمَعَ حِسَابَ زَمَانِهِ فَأَخْرَجُوا عَشَرَةً وَزْنَ سَبْعَةٍ وَقِيلَ أَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ دِرْهَمًا فَخَلَطَهُ فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ مُتَسَاوِيَةً فَخَرَجَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَبَقِيَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ كَوْنَ الدَّرَاهِمِ بِهَذِهِ الزِّنَةِ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَقْدِيرِهِ لَهَا وَاقْتِضَاءِ عُمَّالِهِ إيَّاهَا خَمْسَةً مِنْ كُلِّ مِائَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ الصِّنْفَ الْأَعْلَى لَمْ يَجُزْ النَّقْصُ ، وَإِنْ كَانَ مَا دُونَهُ لَمْ يَجُزْ تَعْيِينُ هَذِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ عَلَى الْمُقَدَّرِ تُوجِبُ نَفْيَ الْوُجُوبِ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَتَحَقَّقُ فِي مِائَتَيْنِ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ ، فَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ مَا لَمْ
تَبْلُغْ وَزْنُ مِائَتَيْنِ وَزْنَ سَبْعَةٍ مَلْزُومٌ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ أَيُّهَا وُجِدَ كَانُوا يُزَكُّونَهُ قَالَ : كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كِبَارًا وَصِغَارًا ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَرَادُوا ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ وَكَانُوا يُزَكُّونَهَا مِنْ النَّوْعَيْنِ فَنَظَرُوا إلَى الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ وَإِلَى الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ ، فَوَضَعُوا زِيَادَةَ الْكَبِيرِ عَلَى نُقْصَانِ الصَّغِيرِ فَجَعَلُوهَا دِرْهَمَيْنِ سَوَاءً كُلُّ وَاحِدٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ ، ثُمَّ اُعْتُبِرُوهَا بِالْمَثَاقِيلِ ، وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَوَجَدُوهَا عَشَرَةً مِنْ هَذِهِ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ انْتَهَى .
وَإِنَّمَا سُقْنَا بَقِيَّةَ كَلَامِهِ لِيَظْهَرَ مَا فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَيَقْتَضِي أَنَّ النِّصَابَ يَنْعَقِدُ مِنْ الصِّغَارِ ، وَهُوَ الْحَقُّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفَاوُتِ الدَّرَاهِمِ صِغَرًا وَكِبَرًا فِي زَمَانِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَبِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الْأُوقِيَّةُ مُخْتَلِفَةً أَيْضًا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَقَدْ { أَوْجَبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خَمْسِ أَوَاقٍ الزَّكَاة } مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِصِنْفِ ، فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الصَّغِيرَةِ خَمْسُ أَوَاقٍ وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالنَّصِّ ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْلُ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُزَكُّونَ النَّوْعَيْنِ ، وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ دَرَاهِمُهُمْ .
ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ ، إلَّا أَنِّي أَقُولُ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا إذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ لَا تَنْقُصُ عَنْ أَقَلِّ مَا كَانَ وَزْنًا فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهِيَ مَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ وَزْنَ خَمْسَةٍ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا قُدِّرَ النِّصَابُ بِمِائَتَيْنِ مِنْهَا حَتَّى لَا تَجِبَ فِي مِائَتَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمَسْعُودِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِمَكَّةَ
مَثَلًا وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ قَوْمٍ ، وَكَأَنَّهُ أَعْمَلَ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ وَالْأَوَاقِي فِي الْمَوْجُودِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَيُسْتَحْدَثَ ، وَنَحْنُ أَعْمَلْنَاهُ فِي الْمَوْجُودِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْكَلَامِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ الثَّابِتُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ إلَّا كَبِيرَةٌ كَوَزْنِ سَبْعَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَكَّى ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ قَدْرَ نِصَابٍ هُوَ وَزْنُ خَمْسَةٍ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ إلَّا وَزْنَ عَشْرَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَجَبَ الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ مِنْهَا بِحِسَابِ وَزْنِ السَّبْعَةِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْغَايَةِ : دَرَاهِمُ مِصْرَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ حَبَّةً ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ دِرْهَمِ الزَّكَاةِ فَالنِّصَابُ مِنْهُ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ وَحَبَّتَانِ انْتَهَى .
فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ دِرْهَمَ الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا بِمَا هُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ بَلْ بِأَقَلَّ مِنْهُ لِمَا قُلْنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ فِي الدَّرَاهِمِ الْكَبِيرَةِ فَتُزَكَّى إذَا بَلَغَتْ قَدْرَ مِائَتَيْنِ مِنْ الصِّغَارِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ مَا ذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مِنْ دَرَاهِمِ مِصْرَ فِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا اعْتَبَرُوهُ فِي دِرْهَمِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ الشَّعِيرَةَ فَدِرْهَمُ الزَّكَاةِ سَبْعُونَ شَعِيرَةً إذْ كَانَ الْعَشَرَةُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ، وَالْمِثْقَالُ مِائَةَ شَعِيرَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ إذًا أَصْغَرُ لَا أَكْبَرُ وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ أَنَّهُ شَعِيرَتَانِ كَمَا وَقَعَ تَفْسِيرُهَا فِي تَعْرِيفِ السَّجَاوَنْدِيِّ الطَّوِيلِ فَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ ، إذْ الْوَاقِعُ أَنَّ دِرْهَمَ مِصْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ شَعِيرَةً لِأَنَّ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهُ مُقَدَّرٌ بِأَرْبَعِ خَرَانِيبَ وَالْخُرْنُوبَةُ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِ قَمْحَاتٍ وَسَطٍ ( قَوْلُهُ فَهُوَ فِضَّةٌ ) أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلَّهُ
فِضَّةٌ لَا زَكَاةَ الْعُرُوضِ وَلَوْ كَانَ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا ، فَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ نِصَابًا وَحْدَهَا أَوْ لَا تَبْلُغُ ، لَكِنْ عِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهَا فَيَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَ فِيهَا لِأَنَّ عَيْنَ النَّقْدَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ وَلَا الْقِيمَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْفِضَّةَ هَلَكَتْ فِيهِ ، إذْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا لَا حَالًا وَلَا مَآلًا فَبَقِيَ الْعِبْرَةُ لِلْغِشِّ .
وَهِيَ عُرُوضٌ يُشْتَرَطُ فِي الْوُجُوبِ فِيهَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ .
وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الذَّهَبُ الْمَغْشُوشُ .
وَإِذَا اسْتَوَى الْغِشُّ فِيهِمَا قِيلَ تَجِبُ فِيهِ احْتِيَاطًا وَقِيلَ لَا تَجِبُ وَقِيلَ يَجِبُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ .
كَذَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْوُجُوبِ أَنَّهُ تَجِبُ فِي الْكُلِّ الزَّكَاةُ .
فَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَأَنَّهَا كُلَّهَا فِضَّةٌ .
أَلَا تَرَى إلَى تَعْلِيلِهِ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَقَوْلُ النَّفْيِ مَعْنَاهُ لَا تَجِبُ كَذَلِكَ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَخْلُصَ وَعِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهِ فَيَخُصُّهُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ .
وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَانِ ؛ لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ .
فَحِكَايَةُ ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ غَيْرُ وَاقِعٍ .
وَالذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ إنْ بَلَغَ الذَّهَبُ نِصَابًا فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ وَإِنْ بَلَغَتْ الْفِضَّةُ نِصَابَهَا فَزَكَاةُ الْفِضَّةِ ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ ، أَمَّا إنْ كَانَتْ مَغْلُوبَةً فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ لِأَنَّهُ أَعَزُّ وَأَغْلَى قِيمَةً .
كَذَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ ( لَيْسَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ .
فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ ) لِمَا رَوَيْنَا وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ ( ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا ( وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكُسُورِ ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
قَالَ ( وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ .
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً ، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الثِّيَابِ .
( فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ ) ( قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي حَدِيثَ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِضَّةِ وَتَقَدَّمَ مَا فِيهِ .
وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدَّعْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الذَّهَبِ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارًا } .
وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ .
وَأَخْرَجَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ ، وَلَا فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ ، وَفِي الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ .
وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالًا نِصْفُ مِثْقَالٍ } وَفِيهِ الْعَزْرَمِيُّ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي فَصْلِ الْإِبِلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا دِينَارٌ } وَهُوَ حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ( قَوْلُهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ إلَخْ ) قِيلَ هُوَ دَوْرٌ لِأَنَّهُ أَخَذَ كُلًّا مِنْ الْمِثْقَالِ وَالدِّرْهَمِ فِي تَعْرِيفٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ تَصَوُّرُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى تَصَوُّرِ الْآخَرِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا تَعْرِيفًا لِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمِثْقَالَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي تَدَاوَلَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ مِثْقَالًا ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْرِيفِهِ كَمَا لَا يُعَرَّفُ مَا هُوَ بَدِيهِيُّ التَّصَوُّرِ إذْ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ ، فَكَانَ قَوْلُهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةٍ إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ أَنْ يُرَادَ بِالْمِثْقَالِ غَيْرَ الْمَذْكُورِ فِي تَعْرِيفِ الدِّرْهَمِ ، فَحَاصِلُ كَلَامِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَالَ : وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمِثْقَالِ ذَاكَ الَّذِي
تَقَدَّمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ لَا شَيْءٌ آخَرُ ، وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنُ مِمَّا حَاوَلَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّفْعِ مِمَّا لَوْ أَوْرَدْته أَدَّى إلَى طُولٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ .
( قَوْلُهُ وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ ) أَيْ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةٍ كَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَقَدْ مَلَكَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِمَّا لَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ فِيهِ عَلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ فَيَجِبُ فِيهِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ قِيرَاطَانِ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الدِّينَارِ عِشْرِينَ قِيرَاطًا ، فَلَا يَرُدُّ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ ( قَوْلُهُ وَحُلِيِّهِمَا ) سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ لَا حَتَّى يَجِبَ أَنْ يُضَمَّ الْخَاتَمُ مِنْ الْفِضَّةِ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفُ وَكُلُّ مَا انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ ( قَوْلُهُ فَشَابَهُ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ ) حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْحُلِيِّ بِثِيَابِ الْبِذْلَةِ بِجَامِعِ الِابْتِذَالِ فِي مُبَاحٍ وَدَفَعَهُ اعْتِبَارُ مَا عَيَّنَهُ مَانِعًا مِنْ الْوُجُوبِ فِي الْفَرْعِ ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا فِي الْأَصْلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ يَمْنَعُ وُجُودَ السَّبَبِ بِمَنْعِ جُزْئِهِ : أَعْنِي النَّمَاءَ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِأَمْرٍ آخَرَ ، وَمَنْعُهُ ذَلِكَ فِي النَّقْدَيْنِ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِيُتَوَصَّلَ بِهِمَا إلَى الْإِبْدَالِ ، وَهَذَا مَعْنَى الِاسْتِنْمَاءِ فَقَدْ خُلِقَا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَلَمْ يُخْرِجْهُمَا الِابْتِذَالُ عَنْ ذَلِكَ ، فَالنَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ تَوَقُّفِ الْوُجُوبِ الْحَقِيقِيِّ ، وَإِذَا انْتَفَتْ مَانِعِيَّتَهُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَهَذَا مَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ ، ثُمَّ الْمَنْقُولَاتُ مِنْ الْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ تُصَرِّحُ بِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ } رَوَاهُ
أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ .
وَمِنْ الْخُصُوصَاتِ مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ { امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ بِنْتِهَا مَسَكَتَانِ غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ ، فَقَالَ لَهُمَا : أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا ؟ قَالَتْ لَا ، قَالَ : أَيَسُرُّكِ أَنْ يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارًا مِنْ نَارٍ ؟ قَالَ : فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : هُمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } قَالَ أَبُو الْحَسَنُ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ : إسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، إسْنَادُهُ لَا مَقَالَ فِيهِ ، ثُمَّ بَيَّنَهُ رَجُلًا رَجُلًا .
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ أَتَتْ امْرَأَتَانِ فَسَاقَهُ ، وَفِيهِ { أَتُحِبَّانِ أَنْ يُسَوِّر كَمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ ؟ قَالَتَا لَا ، قَالَ : فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ } وَتَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ وَقَوْلُهُ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مُؤَوَّلٌ وَإِلَّا فَخَطَأٌ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : لَعَلَّ التِّرْمِذِيَّ قَصَدَ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَإِلَّا فَطَرِيقُ أَبِي دَاوُد لَا مَقَالَ فِيهَا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ بَعْدَ تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد : وَإِنَّمَا ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ عِنْدَهُ فِيهِ ضَعِيفَيْنِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ .
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ { دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتِ وَرِقٍ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ ؟ فَقُلْتُ : صُغْتُهُنَّ لِأَتَزَيَّنَ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَفَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ ؟ فَقُلْتُ : لَا ، فَقَالَ : هُنَّ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ } وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِأَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ ، وَتَعَقَّبَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ ، وَلَكِنْ لَمَّا نُسِبَ فِي سَنَدِ الدَّارَقُطْنِيِّ إلَى جَدِّهِ ظَنَّ أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَقِّ ، وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد بَيَّنَهُ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ إمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ .
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَتَّابِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ { كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ ، وَلَفْظُهُ { إذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ } قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : تَفَرَّدَ بِهِ ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ .
قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ التَّحْقِيقِ : وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتَ بْنَ عَجْلَانَ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ .
وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ .
وَمِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، وَنَسَبَهُ فِي ذَلِكَ إلَى التَّحَامُلِ ، وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ .
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : يَضَعُ الْحَدِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ .
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ فِيهِ : هَذَا وَهْمٌ قَبِيحٌ ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُهَاجِرِ الْكَذَّابَ لَيْسَ هُوَ هَذَا ، فَهَذَا الَّذِي يَرْوِي عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ ثِقَةٌ شَامِيٌّ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ ، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو زُرْعَةَ وَدُحَيْمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ .
وَعَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ } قَالَ
الْبَيْهَقِيُّ : بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، إنَّمَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ : وَأَمَّا الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فَمَوْقُوفَاتٌ وَمُعَارَضَاتٌ بِمِثْلِهَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنْ مُرْ مَنْ قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ وَلَا يَجْعَلْنَ الزِّيَادَةَ وَالْهَدِيَّةَ بَيْنَهُنَّ تَقَارُضًا .
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ إلَى خَازِنِهِ سَالِمٍ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حُلِيِّ بَنَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا : فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ .
زَادَ ابْنُ شَدَّادٍ : حَتَّى فِي الْخَاتَمِ .
وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الزَّكَاةَ .
وَفِي الْمَطْلُوبِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ غَيْرَ أَنَّا اقْتَصَرْنَا مِنْهَا عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ الْمُخَالِفِينَ مِمَّا يَنْبَغِي صَوْنُ النَّفْسِ عَنْ أَخْطَارِهَا وَالِالْتِفَاتِ إلَيْهَا .
وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَا يُصَرِّحُ بِرَدِّهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا فَلَا تُخْرِجُ مِنْ حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ ، وَعَائِشَةُ رَاوِيَةُ حَدِيثِ الْفَتَخَاتِ ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ فَيَكُونُ ذَلِكَ
مَنْسُوخًا .
وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّسْخِ عِنْدَنَا هُوَ إذَا لَمْ يُعَارِضْ مُقْتَضَى النَّسْخِ مُعَارِضٌ يَقْتَضِي عَدَمَهُ ، وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّ كِتَابَةَ عُمَرَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ ، وَكَذَا مَنْ ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ .
فَإِذَا وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي النَّسْخِ ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ لَا يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ هَذَا كُلُّهُ عَلَى رَأَيْنَا .
وَأَمَّا عَلَى رَأْيِ الْخَصْمِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ أَصْلًا ، إذْ قُصَارَى فِعْلِ عَائِشَةَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَارَضًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِمَا رَوَى لَا لِمَا رَأَى عِنْدَهُ .
وَلَا يُقَالُ : إنَّمَا لَمْ تُؤَدِّ مِنْ حُلِيِّهِنَّ لِأَنَّهُنَّ يَتَامَى ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّ مَذْهَبَهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَلِذَا عَدَلْنَا فِي الْجَوَابِ إلَى مَا سَمِعْت ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
هَذَا وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُؤَدَّى الْوَزْنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةُ ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْقِيمَةُ ، فَلَوْ أَدَّى عَنْ خَمْسَةٍ جِيَادٍ خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكُرِهَ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَيُؤَدَّى الْفَضْلُ ، وَلَوْ أَدَّى أَرْبَعَةً جَيِّدَةً عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ لِاعْتِبَارِ مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةَ وَاعْتِبَارِهِمَا الْقَدْرَ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ لِلْقِيمَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ ( الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا { يُقَوِّمُهَا فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ } ، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ ، وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ ، قَالَ ( يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ ، وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ نِصَابًا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ ( وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ الْبَقَاءِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ
( فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ ) الْعُرُوض جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ : حُطَامُ الدُّنْيَا ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ .
وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ الرَّاءِ الْمَتَاعُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الْعُرُوض الْأَمْتِعَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ وَلَا يَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا ، فَعَلَى هَذَا جَعْلُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانَاتِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ( قَوْلُهُ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانِ مَمْنُوعٌ ) بَلْ فِي بَيَانِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السَّائِمَةَ الْمَنْوِيَّةَ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْإِبِلِ أَوْ لَا كَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، فَالصَّوَابُ اعْتِبَارُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ عَلَى تَفْسِيرِ الصِّحَاحِ فَتَخْرُجُ النُّقُودُ فَقَطْ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَإِيَّاهُ عَنَى فِي النِّهَايَةِ بِقَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ إخْرَاجَ الْحَيَوَانِ ( قَوْلُهُ كَائِنَةً مَا كَانَتْ ) كَائِنَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَلَفْظُ مَا مَوْصُولٌ خَبَرُهَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ فِيهَا الرَّاجِعُ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، وَكَانَتْ صِلَةُ مَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ الرَّاجِعُ إلَى الْعُرُوضِ أَيْضًا ، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ الْمَنْصُوبُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ تَقْدِيرُهُ كَائِنَةً أَوْ كَانَتْ إيَّاهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَوْلَى فِي هَذَا الضَّمِيرِ مِنْ وَصْلِهِ أَوْ فَصْلِهِ ، وَالْمَعْنَى : كَائِنَةً الَّذِي كَانَتْ إيَّاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ ، وَاَلَّذِي عَامٌّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : كَائِنَةً أَيَّ شَيْءٍ كَانَتْ إيَّاهُ .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " يُقَوِّمُهَا " إلَخْ ) غَرِيبٌ وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ ، فَمِنْ الْمَرْفُوعَةِ : مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ
سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ } ا هـ .
سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ ، وَهَذَا تَحْسِينٌ مِنْهُمَا ، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ إسْنَادَهُ حَسَنٌ ، وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَاقِعُ فِي سَنَدِهِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا يُعْلَمُ رَوَى عَنْهُ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ وَلَيْسَ جَعْفَرُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا يَخْرُجُ حَدِيثُهُ عَنْ الْحَسَنِ ، فَإِنَّ نَفْيَ الشُّهْرَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْجَهَالَةِ وَلِذَلِكَ رَوَى هُوَ نَفْسُهُ حَدِيثَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ { مَنْ كَتَمَ غَالًّا فَهُوَ مِثْلُهُ } عَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَسَكَتَ عَنْهُ ، وَهَذَا تَصْحِيحٌ مِنْهُ ، وَبِهَذَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ .
وَمِنْهَا فِي الْمُسْتَدْرِكِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ صَدَقَتُهُ ، وَمَنْ رَفَعَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَعُدُّهَا لِغَرِيمٍ وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .
وَأَعَلَّهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ ، وَتَرَدَّدَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي الْإِمَامِ فِي أَنَّهُ بِالزَّايِ أَوْ الرَّاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي أَصْلٍ مِنْ نُسَخِ الْمُسْتَدْرَكِ بِضَمِّ الْبَاءِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ ، لَكِنْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ أَنَّهُ بِالزَّايِ ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ بِالرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ ا هـ وَقَدْ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةٍ { وَفِي الْبَزِّ صَدَقَةٌ } قَالَهَا بِالزَّايِ هَكَذَا مُصَرِّحًا فِي الرِّوَايَةِ غَيْرَ أَنَّهَا ضُعِّفَتْ ( قَوْلُهُ وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ
التِّجَارَةِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً فَلَا يَصِيرُ لَهَا إلَّا بِقَصْدِهَا فِيهِ ، وَذَلِكَ هُوَ نِيَّةُ التِّجَارَةِ ، فَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مَثَلًا لِلْخِدْمَةِ نَاوِيًا بَيْعَهُ إنْ وَجَدَ رِبْحًا لَا زَكَاةَ فِيهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ كَمَا قَدَّمْنَا ، فَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ لَا الزَّكَاةُ ، وَلَوْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا حَكَى صَاحِبُ الْإِيضَاحِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْعُشْرُ وَالزَّكَاةُ ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ تُعْتَبَرُ ثَابِتَةً فِي بَدَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَخْصُهَا فِيهِ ، وَهُوَ مِمَّا يُلْغَزُ فَيُقَالُ عَرْضٌ اُشْتُرِيَ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ تَقْوِيمُهُ وَزَكَاتُهُ وَهُوَ مَا قُوِّضَ بِهِ مَالُ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ فِيهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ بِنِيَّةِ عَدَمِهَا ، وَعَنْ هَذَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً وَدَفَعَ بِهِ يَكُونُ الْمَدْفُوعُ لِلتِّجَارَةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَصُولِحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ الْقِصَاصِ لَا الْمَقْتُولِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَلَيْنَا لَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ وَمِنْ الدِّيَةِ وَلَوْ ابْتَاعَ مُضَارِبٌ عَبْدًا وَثَوْبًا لَهُ وَطَعَامًا وَحَمُولَةً وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ وَإِنْ قَصَدَ غَيْرَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ إلَّا لِلتِّجَارَةِ ، بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ حَيْثُ لَا يُزَكَّى الثَّوْبُ وَالْحَمُولَةُ : لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ ، كَذَا فِي الْكَافِي ، وَمَحْمَلُ عَدَمِ تَزْكِيَةِ الثَّوْبِ لِرَبِّ الْمَالِ مَا دَامَ لَمْ يَقْصِدْ بَيْعَهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ النَّخَّاسُ إذَا اشْتَرَى دَوَابَّ لِلْبَيْعِ وَاشْتَرَى لَهَا مَقَاوِدَ وَجِلَالًا ، فَإِنْ
كَانَ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ مَعَ الدَّابَّةِ إلَى الْمُشْتَرَى لَا زَكَاةَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُهَا مَعَهَا وَجَبَ فِيهَا ، وَكَذَا الْعَطَّارُ إذَا اشْتَرَى قَوَارِيرَ ( قَوْلُهُ يُقَوِّمُهَا ) أَيْ الْمَالِكُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعَثَ عِنْدَ التِّجَارَةِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى لِحَاجَةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ، وَلَوْ كَانَ فِي مَفَازَةٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَكَذَا فِي الْفَتَاوَى .
ثُمَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ : إنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ الْأَدَاءِ ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُمَا جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَهُ وِلَايَةُ مَنْعِهَا إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَنْعِ كَمَا فِي مَنْعِ الْوَدِيعَةِ وَوَلَدِ الْمَغْصُوبِ ، وَعِنْدَهُ الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءً ، وَلِذَا يُجْبَرُ الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِهَا فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ .
وَلَوْ كَانَ النِّصَابُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ رُبْعَ عُشْرِ عَيْنِهِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ اتِّفَاقًا ، فَإِنْ أَحَبَّ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ جَرَى الْخِلَافُ حِينَئِذٍ ، وَكَذَا إذَا اُسْتُهْلِكَ ثُمَّ تَغَيَّرَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلٌ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ ، وَلَوْ كَانَ نُقْصَانُ السِّعْرِ لِنَقْصٍ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ ابْتَلَّتْ الْحِنْطَةُ اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْأَدَاءِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ هَلَاكُ بَعْضِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ ، أَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِزِيَادَتِهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْوُجُوبِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا تُضَمُّ ، نَظِيرُهُ ، اعْوَرَّتْ أَمَةُ التِّجَارَةِ مَثَلًا بَعْدَ الْحَوْلِ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ ، أَوْ كَانَتْ عَوْرَاءَ فَانْجَلَى الْبَيَاضُ بَعْدَهُ فَازْدَادَتْ قِيمَتُهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ تَمَامِ الْحَوْلِ ( قَوْلُهُ وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا بَلَغَ نِصَابًا ) صَرَّحَ
الْمُصَنِّفُ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَالِ الصَّاحِبَيْنِ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ بِالْأَنْفَعِ عَيْنًا أَوْ بِالتَّخْيِيرِ أَوْ بِمَا اشْتَرَى بِهِ إنْ كَانَ مِنْ النُّقُودِ وَإِلَّا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ أَوْ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ مُطْلَقًا .
ثُمَّ فَسَّرَ الْأَنْفَعَ الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا بِأَنْ يُقَوَّمَ بِمَا يَبْلُغُ نِصَابًا ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا قَوَّمَهَا بِأَحَدِهِمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا وَالْآخَرُ تَبْلُغُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ بِمَا يَبْلُغُ فَأَفَادَ أَنَّ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ يُخَالِفُ هَذَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ لَا خِلَافَ فِي تَعَيُّنِ الْأَنْفَعِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ النِّهَايَةِ وَالْخُلَاصَةِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي وَجْهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : إنَّ الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ يَنْتَفِعُ بِهِ زَمَانًا طَوِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ التَّقْوِيمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُقَوِّمُهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذَا مِثْلُهُ انْتَهَى .
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ : إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالذَّهَبِ وَإِنْ شَاءَ بِالْفِضَّةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَوِّمُ بِمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقَوِّمُ بِمَا اشْتَرَى ، هَذَا إذَا كَانَ يَتِمُّ النِّصَابُ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ ، فَلَوْ كَانَ يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قُوِّمَ بِمَا يَصِيرُ بِهِ نِصَابًا انْتَهَى .
فَإِنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضَ الْمُرَادِ بِالْأَنْفَعِ ، فَالْمَعْنَى يُقَوِّمُ الْمَالِكُ بِالْأَنْفَعِ مُطْلَقًا فَيَتَعَيَّنُ مَا يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا دُونَ مَا لَا يَبْلُغُ : فَإِنْ بَلَغَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا أَرْوَجُ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ بِالْأَرْوَجِ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا رَوَاجًا حِينَئِذٍ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ الْكَافِي فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَنْفَعُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَابِلَهُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا ،
وَالْقَوْلُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّقْوِيمُ بِهِ أَوَّلًا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ ، وَقَدْ يُقَالُ : عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَصِحُّ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّهُ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَبْلُغُ بِهِ النِّصَابُ ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ كَوْنِ النَّقْدِ أَرْوَجَ كَوْنُهُ أَغْلَبَ وَأَشْهَرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ إلَيْهِ ، وَلَا يُدْفَعُ إلَّا بِأَنَّ الْأَرْوَجَ مَا النَّاسُ لَهُ أَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَغْلَبَ : أَيْ أَكْثَرَ ، وَيَكُونُ سُكُوتُهُ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا إلَيْهِ لِعَدَمِ خِلَافِهِ ، هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي الْأَصْلِ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ ، فَلِذَا أَفَادَتْ عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْكَافِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَنْفَعِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَجَمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مِنْ التَّخْيِيرِ هُوَ مَا إذَا كَانَ التَّقْوِيمُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا لَا يَتَفَاوَتُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ ) لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَلِلْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعُرْفَ صَلُحَ مُعِينًا وَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَقْدٍ مُطْلَقٍ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ ، وَلِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ ، وَمَتَى قَوَّمْنَا الْمَغْصُوبَ أَوْ الْمُسْتَهْلَكَ نُقَوِّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ كَذَا هَذَا ( قَوْلُهُ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ) حَتَّى لَوْ بَقِيَ دِرْهَمٌ أَوْ فَلْسٌ مِنْ ثَمَّ اسْتَفَادَ قَبْلَ فَرَاغِ الْحَوْلِ حَتَّى تَمَّ عَلَى نِصَابٍ زَكَّاهُ ، وَشَرَطَ زُفَرُ كَمَالَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي السَّوَائِمِ وَالنَّقْدَيْنِ وَفِي غَيْرِهِمَا اُعْتُبِرَ آخِرٌ فَقَطْ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ
السَّبَبَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ وَهُوَ الَّذِي حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ ، وَهَذَا فَرْعُ بَقَاءِ اسْمِهِ فِي تَمَامِ الْحَوْلِ ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَ التِّجَارَةِ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ مِنْ إلْزَامِ التَّقْوِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعْتِبَارِهَا فِيهِ .
قُلْنَا : لَمْ يَرِدْ مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ السَّبَبُ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ بَلْ لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَبِظَاهِرِهِ نَقُولُ ، وَهُوَ إنَّمَا يُفِيدُ نَفْيَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا نَفْيَ سَبَبِيَّةِ الْمَالِ قَبْلَهُ ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى التَّرَاخِي وَانْتِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ ، بَلْ قَدْ تَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ مَعَ انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِفَقْدِ شَرْطِ عَمَلِ السَّبَبِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَصْلُ الْوُجُوبِ مُؤَجَّلًا إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ انْعَقَدَ الْحَوْلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهُوَ النِّصَابُ ، ثُمَّ الْحَاجَةُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى كَمَالِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لِيَنْزِلَ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ وَكَمَالُهُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ وَصَارَ كَالْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْيَمِينِ لِيَنْعَقِدَ ، وَعِنْدَ الشَّرْطِ فَقَطْ لِيَثْبُتَ الْجَزَاءُ لَا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ كُلُّهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَجَعْلُ السَّائِمَةِ عَلُوفَةً كَهَلَاكِ الْكُلِّ لِوُرُودِ الْمُغَيِّرِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، بِخِلَافِ النُّقْصَانِ فِي الذَّاتِ .
وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا كَانَ لَهُ غَنَمٌ لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي نِصَابًا فَمَاتَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ فَسَلَخَهَا وَدَبَغَ جِلْدَهَا فَتَمَّ الْحَوْلُ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ بَلَغَتْ نِصَابًا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَصِيرٌ لِلتِّجَارَةِ فَتَخَمَّرَ قَبْلَ الْحَوْلِ ثُمَّ صَارَ خَلًّا يُسَاوِي نِصَابًا فَتَمَّ
الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهِ ، قَالُوا : لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ الصُّوفَ الَّذِي عَلَى الْجِلْدِ مُتَقَوِّمٌ فَيَبْقَى الْحَوْلُ بِبَقَائِهِ .
وَالثَّانِي بَطَلَ تَقَوُّمُ الْكُلِّ بِالْخَمْرِيَّةِ فَهَلَكَ كُلُّ الْمَالِ انْتَهَى إلَّا أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ اشْتَرَى عَصِيرًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَخَمَّرَ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَلَمَّا مَضَتْ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا صَارَ خَلًّا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ السُّنَّةُ كَانَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ عَادَ لِلتِّجَارَةِ كَمَا كَانَ
قَالَ ( وَتُضَمُّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ ) لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ الْإِعْدَادِ ( وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ ) لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا ، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، هُمَا يَقُولَانِ الْمُعْتَبَرُ فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا ، هُوَ يَقُولُ : إنَّ الضَّمَّ لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا .
( قَوْلُهُ وَتُضَمُّ إلَخْ ) حَاصِلُهُ أَنَّ عُرُوضَ التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا ، وَكَذَا تُضَمُّ هِيَ إلَى النَّقْدَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ لَا تُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ ، وَالنَّقْدَانِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فِيهِمَا عَلَى مَا نَذْكُرُ ثُمَّ إنَّمَا يُضَمُّ الْمُسْتَفَادُ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، فَلَوْ أُخِّرَ الْأَدَاءُ فَاسْتَفَادَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يَضُمُّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَيَضُمُّ الدَّيْنَ إلَى الْعَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَةٌ وَلَهُ دَيْنٌ مِائَةٌ وَجَبَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ .
وَقَوْلُهُ : كَمَا فِي السَّوَائِمِ إفَادَةٌ لِلْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَحُكْمًا بِدَلِيلِ عَدَمِ جَرَيَانِ رِبَا الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ الرِّبَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَاسْتَفَدْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ شُبْهَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ بَيْنَهُمَا ، وَالِاتِّحَادُ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ لَا يُوجِبُ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَالرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ ، بِخِلَافِ ضَمِّ الْعُرُوضِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ضَمُّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ هُمَا فَالضَّمُّ لَمْ يَقَعْ إلَّا فِي النُّقُودِ .
قُلْنَا : إنَّمَا كَانَا نِصَابَ الزَّكَاةِ بِسَبَبِ الثَّمَنِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُفِيدُ لِتَحْصِيلِ الْأَغْرَاضِ وَسَدِّ الْحَاجَاتِ لَا لِخُصُوصِ اللَّوْنِ أَوْ الْجَوْهَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْغِنَى وَهُوَ السَّبَبُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ بِذَلِكَ لَا بِغَيْرِهِ وَقَدْ اتَّحَدَا فِيهِ فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فِي حَقِّ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ الِاتِّحَادُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالتَّفَاضُلِ فِي الْبَيْعِ فَحَقِيقَةُ السَّبَبِ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ بِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا وَبِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا ، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
الْمُحَقِّقَ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي السَّوَائِمِ ، فَإِنَّ الْغِنَى لَمْ يَثْبُتْ بِاعْتِبَارِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّتِهَا الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَنَافِعَ شَتَّى تَسْتَدُّ بِهَا الْحَاجَاتُ أَعْظَمُهَا مَنْفَعَةً الْأَكْلُ الَّتِي بِهَا يُقَوَّمُ ذَاتُ الْمُنْتَفَعِ وَنَفْسُهُ ، ثُمَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ : مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يُضَمَّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ ، وَحُكْمُ مِثْلِ هَذَا الرَّفْعُ ( قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ ) بِأَنْ يُعْتَبَرَ تَكَامُلُ أَجْزَاءِ النِّصَابِ مِنْ الرُّبْعِ وَالنِّصْفِ وَبَاقِيهَا ، فَإِذَا كَانَ مِنْ الذَّهَبِ عَشَرَةٌ يُعْتَبَرُ مَعَهُ نِصْفُ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَهُوَ مِائَةٌ ، فَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ تَبْلُغُ مِائَةً لَا زَكَاةَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمِائَةَ نِصْفُ نِصَابٍ وَالْخَمْسَةَ رُبْعُ نِصَابٍ ، فَالْحَاصِلُ أَجْزَاءُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصَابٍ وَعِنْدَهُ تَجِبُ لِأَنَّ الْحَاصِلَ تَمَامُ نِصَابِ الْفِضَّةِ مَعْنًى ، ثُمَّ قَالَ فِي الْكَافِي : وَلَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى اُنْتُقِصَ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا تَزْدَادُ قِيمَةُ الْآخَرِ فَيُمْكِنُ تَكْمِيلُ مَا يُنْتَقَصُ قِيمَتُهُ بِمَا زَادَ انْتَهَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُؤَدَّى الضَّابِطِ أَنَّ عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَصْلًا لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَجِبَ خَمْسَةٌ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَشَرَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ أَوْ أَكْثَرَ كَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ .
وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُلَاقِي الضَّابِطَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ اعْتِبَارِ قِيمَةِ مَا زَادَ عِنْدَ انْتِقَاصِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ لَا تُسَاوِي مِائَةً لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْقِيمَةَ ، وَعَلَى اعْتِبَارِهَا لَا يَتِمُّ النِّصَابُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَدُفِعَ
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ مُطْلَقِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ اعْتِبَارُ قِيمَةِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا ، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ تَقْوِيمِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْعَشَرَةَ تُسَاوِي ثَمَانِينَ فَالْمِائَةُ مِنْ الْفِضَّةِ تُسَاوِي اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفًا فَيَتِمُّ بِذَلِكَ مَعَ الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَنِصْفٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ كُلٍّ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا عَيْنًا ، فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ .
وَعَلَى هَذَا فَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ قِيمَةُ الْآخَرِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ تُسَاوِي مِائَةً وَثَمَانِينَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ سَبْعَةٌ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي دَلِيلِهِ مِنْ أَنَّ الضَّمَّ لَيْسَ إلَّا لِلْمُجَانَسَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ فَيُضَمَّانِ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَعَيُّنَ الضَّمِّ بِهَا مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ وَعَدَمِهِ ، ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْمَصُوغِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا هُوَ الْقَدْرُ فَقَطْ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِيهِمَا إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا قُوبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ عِنْدَ الضَّمِّ لِمَا قُلْنَا : إنَّهُ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ انْفِرَادِ الْمَصُوغِ حَتَّى لَوْ وَجَبَ تَقْوِيمُهُ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِأَنْ اُسْتُهْلِكَ قُوِّمَ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَظَهَرَتْ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ وَالْجَوْدَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ وَالصَّنْعَةَ سَاقِطَتَا الِاعْتِبَارِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا .
بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ ( إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ فَقَالَ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَشْهُرٍ أَوْ عَلَيَّ دَيْنٌ وَحَلَفَ صُدِّقَ ) وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ عَلَى الطَّرِيقِ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ مِنْ التُّجَّارِ ، فَمَنْ أَنْكَرَ مِنْهُمْ تَمَامَ الْحَوْلِ أَوْ الْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوُجُوبِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : أَدَّيْتُهَا إلَى عَاشِرٍ آخَرَ ) ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ السُّنَّةِ عَاشِرٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَضْعَ الْأَمَانَةِ مَوْضِعَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَاشِرٌ آخَرُ فِي تِلْكَ السَّنَةَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ ( وَكَذَا إذَا قَالَ : أَدَّيْتُهَا أَنَا ) يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ كَانَ مُفَوَّضًا إلَيْهِ فِيهِ ، وَوِلَايَةُ الْأَخْذِ بِالْمُرُورِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ فِي صَدَقَةِ السَّوَائِمِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ ، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ مَا إذَا قَالَ : أَدَّيْتُ بِنَفْسِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يُصَدَّقُ وَإِنْ حَلَفَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ الْحَقَّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ .
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ .
ثُمَّ قِيلَ الزَّكَاةُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ .
وَقِيلَ هُوَ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ يَنْقَلِبُ نَفْلًا وَهُوَ الصَّحِيحُ ، ثُمَّ فِيمَا يُصَدَّقُ فِي السَّوَائِمِ وَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ لَمْ يَشْتَرِطْ إخْرَاجَ الْبَرَاءَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَشَرَطَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى ، وَلِصِدْقِ دَعْوَاهُ عَلَامَةٌ فَيَجِبُ إبْرَازُهَا .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَا يُعْتَبَرُ عَلَامَةً .
( بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ ) أُخِّرَ هَذَا الْبَابُ عَمَّا قَبْلَهُ لِتَمَحُّضِ مَا قَبْلَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّ الْمُرَادَ بَابُ مَا يُؤْخَذُ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ وَذَلِكَ يَكُونُ زَكَاةً كَالْمَأْخُوذِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَغَيْرِهَا كَالْمَأْخُوذِ مِنْ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ الْعِبَادَةُ قَدَّمَهُ عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ الْخُمُسِ .
وَالْعَاشِرُ فَاعِلٌ مِنْ عَشَرْت أَعْشُرُ عُشْرًا بِالضَّمِّ فِيهِمَا .
وَالْمُرَادُ هُنَا مَا يَدُورُ اسْمُ الْعُشْرِ فِي مُتَعَلَّقِ أَخْذِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْعُشْرَ مِنْ الْحَرْبِيِّ لَا الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ( قَوْلُهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالٍ إلَخْ ) مَفْهُومُ شَرْطِهِ لَوْ اُعْتُبِرَ اسْمُ الْمَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ إذَا لَمْ يَمُرَّ بِمَالٍ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْعَاشِرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهَا فَوَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِالْبَاطِنِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ مَفْهُومُ شَرْطِهِ : أَيْ إذَا يَمُرُّ عَلَيْهِ بِمَالٍ بَاطِنٍ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ فَيَصْدُقُ ( قَوْلُهُ وَالْعَاشِرُ مَنْ نَصَبَهُ الْإِمَامُ إلَخْ ) فِيهِ قَيْدٌ زَادَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ أَنْ يَأْمَنَ بِهِ التُّجَّارُ مِنْ اللُّصُوصِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ أَخْذَهُ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِ وَالذِّمِّيِّ لَيْسَ إلَّا لِلْحِمَايَةِ وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُسْلِمِ أَيْضًا لِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ لِيَأْخُذَ الصَّدَقَاتِ تَغْلِيبًا لِاسْمِ الْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِهَا ( قَوْلُهُ وَالْقَوْلُ الْمُنْكَرُ مَعَ الْيَمِينِ ) وَالْعِبَادَاتُ وَإِنْ كَانَتْ يَصْدُقُ فِيهَا بِلَا تَحْلِيفٍ لَكِنْ تَعَلَّقَ بِهِ هُنَا حَقُّ الْعَبْدِ وَهُوَ الْعَاشِرُ فِي الْأَخْذِ فَهُوَ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَعْنًى لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَيَحْلِفُ لِرَجَاءِ النُّكُولِ ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ مُتَعَذِّرٌ فِي الْحُدُودِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَا مُكَذِّبَ لَهُ فِيهَا ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحْلِفُ
لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ، وَكَذَا إذَا قَالَ : هَذَا الْمَالُ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ أَوْ هُوَ بِضَاعَةٌ لِفُلَانٍ وَكُلُّ مَا وُجُودُهُ مُسْقِطٌ ( قَوْلُهُ يَعْنِي إلَى الْفُقَرَاءِ فِي الْمِصْرِ ) قَيْدٌ بِالْمِصْرِ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى إلَى الْفُقَرَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهِ إلَى السَّفَرِ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ أَخْذِ الْعَاشِرِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ إنَّمَا كَانَ فِي الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِي الْمِصْرِ وَبِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ مُسَافِرًا انْتَقَلَتْ الْوِلَايَةُ عَنْهُ إلَى الْإِمَامِ ( قَوْلُهُ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ ) هِيَ السَّابِقَةُ عَلَى قَوْلِهِ : أُدِّيَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ ( قَوْلُهُ إلَى الْمُسْتَحَقِّ ) فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلسُّلْطَانِ ) يُمْكِنُ بِأَنْ يَضْمَنَ مَنْعَ كَوْنِهِ أَوْصَلَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بَلْ الْمُسْتَحِقُّ الْإِمَامُ ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْإِمَامَ مُسْتَحِقٌّ الْأَخْذَ وَالْفَقِيرَ مُسْتَحِقٌّ التَّمَلُّكَ وَالِانْتِفَاعَ ، فَحَاصِلُهُ أَنَّ هُنَاكَ مُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجَرُّ الْحَقِّ الَّذِي فَوَّتَهُ لَيْسَ إلَّا بِإِعَادَةِ الدَّفْعِ إلَيْهِ ، وَحِينَئِذٍ يَجِيءُ النَّظَرُ فِي الْمَدْفُوعِ مَا هُوَ الْوَاقِعُ زَكَاةً مِنْهُمَا ، قِيلَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي سِيَاسَةٌ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ السِّيَاسَةِ هُنَا كَوْنُ الْآخِذِ لِيَنْزَجِرَ عَنْ ارْتِكَابِ تَفْوِيتِ حَقِّ الْإِمَامِ .
وَقِيلَ الثَّانِي وَيَنْقَلِبُ الْأَوَّلُ نَفْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَوْنُ الزَّكَاةِ فِي صُورَةِ الْمُرُورِ مَا يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ وَيَدْفَعُهُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي السَّابِقِ وَوُجِدَ فِي اللَّاحِقِ ، وَانْفِسَاخُ السَّابِقِ النَّاقِصِ لِلَّاحِقِ الْكَامِلِ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ كَبُطْلَانِ الظُّهْرِ الْمُؤَدَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ فَيَنْفَسِخُ مِثْلُهُ بِجَامِعِ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بَعْدَ الْأَدَاءِ بِفِعْلِ الثَّانِي مَعَ امْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الْفَرْضِ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ
ثَانِيًا وَإِنْ عَلِمَ صِدْقَهُ ، وَلَا يُنَافِي كَوْنُ الْأَخْذِ لِلسِّيَاسَةِ انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ وَوُقُوعَ الثَّانِي زَكَاةً بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ( قَوْلُهُ ثُمَّ فِيمَا يَصْدُقُ إلَخْ ) أَطْلَقَ فِيمَا يَصْدُقُ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ فِي الْأَصْلِ إخْرَاجَهَا فِي قَوْلِهِ : أُدِّيَتْ إلَى الْفُقَرَاءِ وَأَخَوَاتِهَا لَكِنَّهُ اعْتَمَدَ فِي تَقْيِيدِهِ عَلَى عَدَمِ تَأَتِّي صِحَّتِهِ ، إذْ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْفُقَرَاءِ بَرَاءَةً وَلَا مِنْ الدَّائِنِ .
وَلَا تُمْكِنُ فِي قَوْلِهِ : أَصَبْتُهُ مُنْذُ شَهْرٍ .
وَتَأْخِيرُ الْمُصَنِّفِ وَجْهَ الْأَوَّلِ يُفِيدُ تَرَجُّحَهُ عِنْدَهُ ، وَحَاصِلُهُ مَنْعُ كَوْنِهِ عَلَامَةً إذْ لَا يَلْزَمُ الِانْتِقَالُ مِنْهُ إلَى الْجَزْمِ بِكَوْنِهِ دُفِعَ إلَى الْعَاشِرِ لِأَنَّ الْخَطَّ لَا يَنْطِقُ وَهُوَ مُتَشَابِهٌ ، ثُمَّ هَلْ يُشْتَرَطُ الْيَمِينُ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَلَى قَوْلِ مُشْتَرِطِهَا ؟ اُخْتُلِفَ فِيهِ .
قِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَصْدُقْ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَصْدُقْ .
وَلَا يَخْفَى بَعْدَ قَوْلِهِمَا إنْ كَانَ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِحَسَبِ ظَاهِرِ حَالِ الْمُتَدَيِّنِ أَدَلُّ مِنْ الْخَطِّ فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَرْكُهَا إلَيْهَا ، وَلْيَذْكُرْ هُنَا قَوْلَهُ فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ : وَالِاسْتِخْبَارُ فَوْقَ التَّحَرِّي بَيَانًا لِلُزُومِهِ تَفْرِيعًا عَلَى قَوْلِهِ : لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِ الظَّاهِرِ وَاجِبٌ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ فَوْقَهُ ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعِيَّ لِأَنَّ الِاسْتِخْبَارَ لَا يُفِيدُ قَطْعًا .
قَالَ ( وَمَا صُدِّقَ فِيهِ الْمُسْلِمُ صُدِّقَ فِيهِ الذِّمِّيُّ ) ؛ لِأَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ ( وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي يَقُولُ : هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي ، أَوْ غِلْمَانٍ مَعَهُ يَقُولُ : هُمْ أَوْلَادِي ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحِمَايَةِ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ غَيْرَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ مَنْ فِي يَدِهِ مِنْهُ صَحِيحٌ ، فَكَذَا بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْتَنِي عَلَيْهِ فَانْعَدَمَتْ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ فِيهِنَّ ، وَالْأَخْذُ لَا يَجِبُ إلَّا مِنْ الْمَالِ .
قَالَ ( وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ رُبْعُ الْعُشْرِ وَمِنْ الذِّمِّيِّ نِصْفُ الْعُشْرِ وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْعُشْرُ ) هَكَذَا أَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُعَاتَهُ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْ مِثْلِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ زَكَاةٌ أَوْ ضِعْفُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ النِّصَابِ وَهَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَفِي كِتَابِ الزَّكَاةِ لَا نَأْخُذُ مِنْ الْقَلِيلِ وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ مِنَّا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزَلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِمَايَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا نَأْخُذُ مِنْهُ الْعُشْرَ ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنْ أَعْيَاكُمْ فَالْعُشْرُ ( وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ مِنَّا رُبْعَ الْعُشْرَ أَوْ نِصْفَ الْعُشْرِ نَأْخُذُ بِقَدَرِهِ ، وَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْكُلَّ لَا نَأْخُذُ الْكُلَّ ) ؛ لِأَنَّهُ غَدْرٌ ( وَإِنْ كَانُوا لَا يَأْخُذُونَ أَصْلًا لَا نَأْخُذُ ) لِيَتْرُكُوا الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا وَلِأَنَّا أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
( قَوْلُهُ فَتُرَاعَى تِلْكَ الشَّرَائِطُ ) مِنْ الْحَوْلِ وَالنِّصَابِ وَالْفَرَاغِ مِنْ الدَّيْنِ وَكَوْنُهُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الزَّكَاةِ كَصَدَقَةِ بَنِي تَغْلِبَ تَحْقِيقًا لِلتَّضْعِيفِ ، فَإِنَّ تَضْعِيفَ الشَّيْءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ وَإِلَّا كَانَ تَبْدِيلًا ، لَكِنْ بَقِيَ أَنَّهُ أَيُّ دَاعٍ إلَى اعْتِبَارِهِ تَضْعِيفًا لَا ابْتِدَاءَ وَظِيفَةٍ عِنْدَ دُخُولِهِ تَحْتَ الْحِمَايَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَبَنُو تَغْلِبَ رَوْعِي فِيهِمْ ذَلِكَ لِوُقُوعِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي صَخْرٍ الْمُحَارِبِيِّ عَنْ زِيَادِ بْنِ حُدَيْرٍ قَالَ : بَعَثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى عَيْنِ التَّمْرِ مُصَدِّقًا ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إذَا اخْتَلَفُوا بِهَا لِلتِّجَارَةِ رُبْعَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرَ ، لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الِاعْتِبَارُ ، وَكَذَا مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدِهِ وَغَيْرُهُ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرُوهُ وَهُوَ أَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُهُ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ مَا ذَكَرَ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ وَاخْتِيرَ مِثْلَاهُ ، أَلَا يَرَى أَنَّ بَاقِيَ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ قَوْلُهُمْ وَالْحَرْبِيُّ مِنْ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَةَ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ وَلَهُ جَائِزَةٌ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ ، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ضِعْفُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ لَمْ يُوجِبْ اعْتِبَارَ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّ .
فَلَوْ اقْتَضَى هَذَا الْمَعْنَى اعْتِبَارَهُ تَضْعِيفَ عَيْنِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الذِّمِّيِّ لَزِمَ مُرَاعَاتُهَا ( قَوْلُهُ وَلَا يُصَدَّقُ الْحَرْبِيُّ إلَّا فِي الْجَوَارِي إلَخْ ) الْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ أَنْ
يُقَالَ : وَلَا يُلْتَفَتُ أَوْ لَا يُتْرَكُ الْأَخْذُ مِنْهُ ، لَا وَلَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ لَوْ صُدِّقَ بِأَنْ ثَبَتَ صِدْقُهُ بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَافِرِينَ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أُخِذَ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْمَأْخُوذَ لَيْسَ زَكَاةً لِيَكُفَّ عَنْهُ لِعَدَمِ الْحَوْلِ وَوُجُودِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ قَالَ : هُوَ بِضَاعَةٌ فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ إذْ لَا أَمْنَ لِصَاحِبِ الْمَالِ بَلْ لِلْمَارِّ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَبِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا ، فَإِذَا كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ كَمَا إذَا مَرَّ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ الْأَخْذَ مِنْهُ عَنْهَا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ إلَّا مِنْ مَالٍ ، وَإِنْ قَالَ : هُمْ مُدَبَّرُونَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَصِحُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ ) أَيْ أَخْذَهُمْ بِكَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ لَا أَصْلَ الْأَخْذِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنَّا وَبَاطِلٌ مِنْهُمْ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دُخُولَهُ فِي الْحِمَايَةِ أَوَجَبَ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ إنْ عُرِفَ كَمِّيَّةُ مَا يَأْخُذُونَ مِنْ تُجَّارِنَا أَخَذْنَا مِنْهُمْ مِثْلَهُ مُجَازَاةً ، إلَّا إنْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْكُلَّ فَلَا نَأْخُذُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ بَلْ نُبْقِي مَعَهُ قَدْرَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى مَأْمَنِهِ .
وَقِيلَ نَأْخُذُ الْكُلَّ مُجَازَاةً زَجْرًا لَهُمْ عَنْ مِثْلِهِ مَعَنَا ، قُلْنَا : ذَلِكَ بَعْدَ إعْطَاءِ الْأَمَانِ غَدْرٌ وَلَا نَتَخَلَّقُ نَحْنُ بِهِ لِتَخَلُّقِهِمْ بِهِ بَلْ نُهِينَا عَنْهُ وَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلُوا الدَّاخِلَ إلَيْهِمْ بَعْدَ إعْطَائِهِ الْأَمَانَ نَفْعَلُ ذَلِكَ لِذَلِكَ ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ قَلِيلًا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَمْ يَزُلْ عَفْوًا وَلِأَنَّهُ يُسْتَصْحَبُ لِلنَّفَقَةِ وَدَفْعِ الْحَاجَةِ فَكَانَ كَالْمَعْدُومِ .
وَعَلَى رِوَايَةِ
الْجَامِعِ يُجَازَوْنَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ كَمِّيَّةُ مَا يَأْخُذُونَ ، فَالْعُشْرُ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْأَخْذِ بِالْحِمَايَةِ وَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُجَازَاةِ فَقُدِّرَ بِمِثْلَيْ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ إلَى الْحِمَايَةِ مِنْهُ وَلِمَا قُلْنَاهُ آنِفًا وَإِنْ عُرِفَ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْأَخْذَ مِنْ تُجَّارِنَا تَرَكْنَا نَحْنُ حَقَّنَا لِتَرْكِهِمْ ظُلْمَهُمْ لِأَنَّ تَرْكَهُمْ إيَّاهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَخَلُّقٌ مِنْهُمْ بِالْإِحْسَانِ إلَيْنَا ، وَنَحْنُ أَحَقُّ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنْهُمْ
قَالَ ( وَإِنْ مَرَّ حَرْبِيٌّ عَلَى عَاشِرٍ فَعَشَرَهُ ثُمَّ مَرَّ مَرَّةً أُخْرَى لَمْ يَعْشُرْهُ حَتَّى يَحُولَ الْحَوْلُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالُ الْمَالِ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بَاقٍ ، وَبَعْدَ الْحَوْلِ يَتَجَدَّدُ الْأَمَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الْإِقَامَةِ إلَّا حَوْلًا ، وَالْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يَسْتَأْصِلُ الْمَالَ ( فَإِنْ عَشَرَهُ فَرَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ عَشَرَهُ أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ بِأَمَانٍ جَدِيدٍ .
وَكَذَا الْأَخْذُ بَعْدَهُ لَا يُفْضِي إلَى الِاسْتِئْصَالِ
( قَوْلُهُ لَمْ يَعْشُرْهُ إلَخْ ) هَذَا إذَا كَانَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ أُخِذَ مِنْهُ ثَانِيًا وَلَوْ كَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لِقُرْبِ الدَّارَيْنِ وَاتِّصَالِهِمَا كَمَا فِي جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الْأَخْذَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ اسْتِئْصَالٌ لِلْمَالِ ) فَيَعُودُ عَلَى مَوْضِعِ الْأَمَانِ بِالنَّقْضِ ( قَوْلُهُ إلَّا حَوْلًا ) لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَالصَّوَابُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِدُونِ لَفَظَّةِ إلَّا نَقَلَهَا نُسْخَةً فِي الْكَافِي ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ مِنْ سَهْوِ الْكَاتِبِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ حَوْلًا بَلْ دُونَهُ ، وَيَقُولُ : لَهُ الْإِمَامُ إذَا دَخَلَ إنْ أَقَمْت حَوْلًا ضَرَبْت عَلَيْك الْجِزْيَةَ ، فَإِنْ فَعَلَ ضَرَبَهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْعَوْدِ أَبَدًا لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجِزْيَةِ وَجَعْلِهِ عَيْنًا عَلَيْنَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِمَدَاخِلِنَا وَمَخَارِجِنَا ، وَذَلِكَ زِيَادَةُ شَرٍّ عَلَيْنَا فَلَا يَجُوزُ تَمْكِينُهُ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ مَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحَوْلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِمَقَامِهِ حَوْلًا عَشَرَهُ ثَانِيًا زَجْرًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَرُدُّهُ إلَى دَارِنَا .
وَالْأَصْلُ أَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ لَا يَتَجَدَّدُ إلَّا بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ أَوْ تَجَدُّدِ الدُّخُولِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِانْتِهَاءِ الْأَمَانِ الْأَوَّلِ بِالْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَمَانٍ جَدِيدٍ إذَا خَرَجَ
( وَإِنْ مَرَّ ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ ) وَقَوْلُهُ عَشَرَ الْخَمْرَ : أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَعْشُرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لَهُمَا .
وَقَالَ زُفَرُ : يَعْشُرُهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَهُمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَعْشُرُهُمَا إذَا مَرَّ بِهِمَا جُمْلَةً كَأَنَّهُ جَعَلَ الْخِنْزِيرَ تَبَعًا لِلْخَمْرِ ، فَإِنْ مَرَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الِانْفِرَادِ عَشَرَ الْخَمْرَ دُونَ الْخِنْزِيرِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ وَالْخِنْزِيرُ مِنْهَا ، وَفِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَيْسَ لَهَا هَذَا الْحُكْمُ وَالْخَمْرُ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِلْحِمَايَةِ وَالْمُسْلِمُ يَحْمِي خَمْرَ نَفْسِهِ لِلتَّخْلِيلِ فَكَذَا يَحْمِيهَا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا يَحْمِي خِنْزِيرَ نَفْسِهِ بَلْ يَجِبُ تَسْيِيبُهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَا لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ
( قَوْلُهُ أَيْ مِنْ قِيمَتِهَا ) فَسَّرَ بِهِ كَيْ لَا يَذْهَبَ الْوَهْمُ إلَى مَذْهَبِ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ عَيْنِ الْخَمْرِ ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهَا أَنْ يَرْجِعَ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ( قَوْلُهُ تَبَعًا لِلْخَمْرِ ) دُونَ الْعَكْسِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ مَالِيَّةً لِأَنَّهَا قَبْلَ التَّخَمُّرِ مَالٌ وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ بِتَقْدِيرِ التَّخَلُّلِ وَلَيْسَ الْخِنْزِيرُ كَذَلِكَ ، وَلِهَذَا إذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَمَعَهُ حُمُرٌ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى لَا الْخِنْزِيرُ ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ تَبَعًا لَا قَصْدًا كَوَقْفِ الْمَنْقُولِ ( قَوْلُهُ : إنَّ الْقِيمَةَ فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ لَهَا حُكْمُ الْعَيْنِ ) اُسْتُشْكِلَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ : الْأُولَى مَا فِي الشُّفْعَةِ مِنْ قَوْلِهِ : إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ دَارًا بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَشَفِيعُهَا مُسْلِمٌ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ .
ثَانِيهَا لَوْ أَتْلَفَ مُسْلِمٌ خِنْزِيرَ ذِمِّيٍّ ضَمِنَ قِيمَتَهُ .
ثَالِثُهَا لَوْ أَخَذَ ذِمِّيٌّ قِيمَةَ خِنْزِيرِهِ مِنْ ذِمِّيٍّ وَقَضَى بِهَا دَيْنًا لِمُسْلِمٍ عَلَيْهِ طَابَ لِلْمُسْلِمِ ذَلِكَ .
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَخِيرِ بِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ شَرْعًا ، وَمِلْكُ الْمُسْلِمِ بِسَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ قَبْضُهُ عَنْ الدَّيْنِ ، وَعَمَّا قَبْلَهُ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِسُقُوطِ الْمَالِيَّةِ فِي الْعَيْنِ ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا لَا إلَيْهِمْ فَيَتَحَقَّقُ الْمَنْعُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَالْحِيَازَةِ لَا عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ غَايَتَهُ أَنْ تَكُونَ كَدَفْعِ عَيْنِهَا وَهُوَ تَبْعِيدٌ وَإِزَالَةٌ فَهُوَ كَتَسْيِيبِ الْخِنْزِيرِ وَالِانْتِفَاعِ بِالسِّرْقِينِ بِاسْتِهْلَاكِهِ ( قَوْلُهُ لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ غَصْبَ خِنْزِيرِ ذِمِّيٍّ فَرَفَعَهُ إلَى الْقَاضِي يَأْمُرُهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ حِمَايَةٌ عَلَى الْغَيْرِ أُجِيبَ بِتَخْصِيصِ الْإِطْلَاقِ : أَيْ لَا يَحْمِيهِ عَلَى غَيْرِهِ لِغَرَضٍ يَسْتَوْفِيهِ فَخَرَجَ حِمَايَةُ الْقَاضِي
( وَلَوْ مَرَّ صَبِيٌّ أَوْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ بِمَالٍ فَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ شَيْءٌ ، وَعَلَى الْمَرْأَةِ مَا عَلَى الرَّجُلِ ) لِمَا ذَكَرْنَا فِي السَّوَائِمِ ( وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ مِائَةً أُخْرَى قَدْ حَالَ عَلَيْهَا لَمْ يُزَكِّ الَّتِي مَرَّ بِهَا ) لِقِلَّتِهَا وَمَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حِمَايَتِهِ ( وَلَوْ مَرَّ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً لَمْ يَعْشُرْهَا ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرَ مَأْذُونٍ بِأَدَاءِ زَكَاتِهِ .
قَالَ ( وَكَذَا الْمُضَارَبَةُ ) يَعْنِي إذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَوَّلًا يَعْشُرُهَا لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ رِبْحٌ يَبْلُغُ نَصِيبُهُ نِصَابًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهُ
( قَوْلُهُ لِقُوَّةِ حَقِّ الْمُضَارِبِ ) حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ الْمَالِ فَصَارَ كَالْمَالِكِ فَكَانَ حُضُورُهُ كَحُضُورِ الْمَالِكِ ( قَوْلُهُ وَلَا نَائِبَ عَنْهُ ) وَالزَّكَاةُ تَسْتَدْعِي نِيَّةَ مَنْ عَلَيْهِ وَهُوَ كَالْمِلْكِ فِي التَّصَرُّفِ الِاسْتِرْبَاحِيِّ لَا فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ ، بِخِلَافِ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عَنْهَا ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ الْجُعْلِ فَلَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَعِمَالَةِ عَامِلِ الصَّدَقَةِ
( وَلَوْ مَرَّ عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَشَرَهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا أَدْرِي أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَجَعَ عَنْ هَذَا أَمْ لَا .
وَقِيَاسُ قَوْلِهِ الثَّانِي فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّهُ لَا يَعْشُرُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِهِ لِلْمَوْلَى وَلَهُ التَّصَرُّفُ فَصَارَ كَالْمُضَارِبِ .
وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ هُوَ الْمُحْتَاجَ إلَى الْحِمَايَةِ ، وَالْمُضَارِبُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الْمُحْتَاجَ .
فَلَا يَكُونُ الرُّجُوعُ فِي الْمُضَارِبِ رُجُوعًا مِنْهُ فِي الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مَعَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ إلَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ أَوْ لِلشُّغْلِ .
قَالَ ( وَمَنْ مَرَّ عَلَى عَاشِرِ الْخَوَارِجِ فِي أَرْضٍ قَدْ غَلَبُوا عَلَيْهَا فَعَشَرَهُ يُثَنَّى عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ) مَعْنَاهُ : إذَا مَرَّ عَلَى عَاشِرِ أَهْلِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ إنَّهُ مَرَّ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ وَقِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ) لَا يَخْفَى عَدَمُ تَأْثِيرِ هَذَا الْفَرْقِ ، فَإِنَّ مَنَاطَ عَدَمِ الْأَخْذِ مِنْ الْمُضَارِبِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ كَوْنُهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَا نِيَّةَ حِينَئِذٍ ، وَمُجَرَّدُ دُخُولِهِ فِي الْحِمَايَةِ لَا يُوجِبُ الْأَخْذَ إلَّا مَعَ وُجُودِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا مَرَّ أَوَّلَ الْبَابِ فَلَا أَثَرَ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْفَرْقِ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَأْذُونِ كَمَا صَحَّحَهُ فِي الْكَافِي ( قَوْلُهُ : لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ فِيمَا فِي يَدِهِ ) أَيْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَوْ الشُّغْلِ عَلَى قَوْلِهِمَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ إلَخْ ) بِخِلَافِ مَا لَوْ غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلْدَةٍ فَأَخَذُوا زَكَاةَ سَوَائِمِهِمْ لَا يُثَنِّي عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ مِنْ الْمَالِكِ بَلْ مِنْ الْإِمَامِ .
وَمَنْ مَرَّ بِرِطَابٍ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَنَحْوِهِ لَمْ يَعْشُرْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَعْشُرُهُ لِاتِّحَادِ الْجَامِعِ وَهُوَ حَاجَتُهُ إلَى الْحِمَايَةِ وَهُوَ يَقُولُ : اتِّحَادُ الْجَامِعِ إنَّمَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ ، وَهُوَ ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّهَا تَفْسُدُ بِالِاسْتِبْقَاءِ ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْعَامِلِ فُقَرَاءُ فِي الْبَرِّ لِيَدْفَعَ لَهُمْ ، فَإِذَا بَقِيَتْ لِيَجِدَهُمْ فَسَدَتْ فَيَفُوتُ الْمَقْصُودُ ، فَلَوْ كَانُوا عِنْدَهُ أَوْ أَخَذَ لِيَصْرِفَ إلَى عِمَالَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ .
بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ قَالَ ( مَعْدِنُ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ رَصَاصٍ أَوْ صُفْرٍ وُجِدَ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ ) عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ كَالصَّيْدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسْتَخْرَجُ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً فَيَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي قَوْلٍ ؛ لِأَنَّهُ نَمَاءٌ كُلُّهُ وَالْحَوْلُ لِلتَّنْمِيَةِ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَهُوَ مِنْ الرَّكْزِ فَأُطْلِقَ عَلَى الْمَعْدِنِ وَلِأَنَّهَا كَانَتْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَحَوَتْهَا أَيْدِينَا غَلَبَةً فَكَانَتْ غَنِيمَةً .
وَفِي الْغَنَائِمِ الْخُمُسُ بِخِلَافِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً لِثُبُوتِهَا عَلَى الظَّاهِرِ ، وَأَمَّا الْحَقِيقِيَّةُ فَلِلْوَاجِدِ فَاعْتَبَرْنَا الْحُكْمِيَّةَ فِي حَقِّ الْخُمُسِ وَالْحَقِيقَةَ فِي حَقِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ حَتَّى كَانَتْ لِلْوَاجِدِ
( بَابٌ فِي الْمَعَادِنِ وَالرِّكَازِ ) الْمَعْدِنُ مِنْ الْعَدْنِ وَهُوَ الْإِقَامَةُ ، وَمِنْهُ يُقَالُ عَدَنَ بِالْمَكَانِ إذَا أَقَامَ بِهِ ، وَمِنْهُ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَرْكَزُ كُلِّ شَيْءٍ مَعْدِنُهُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ ، فَأَصْلُ الْمَعْدِنِ الْمَكَانُ بِقَيْدِ الِاسْتِقْرَارِ فِيهِ ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الْأَجْزَاءِ الْمُسْتَقِرَّةِ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَ الْأَرْضَ حَتَّى صَارَ الِانْتِقَالُ مِنْ اللَّفْظِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً بِلَا قَرِينَةٍ ، وَالْكَنْزُ لِلْمُثْبَتِ فِيهَا مِنْ الْأَمْوَالِ بِفِعْلِ الْإِنْسَانِ ، وَالرِّكَازُ يَعُمُّهُمَا لِأَنَّهُ مِنْ الرَّكْزِ مُرَادًا بِهِ الْمَرْكُوزُ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ رَاكِزِهِ الْخَالِقَ أَوْ الْمَخْلُوقَ فَكَانَ حَقِيقَةً فِيهِمَا مُشْتَرَكًا مَعْنَوِيًّا وَلَيْسَ خَالِصًا بِالدَّفِينِ ، وَلَوْ دَارَ الْأَمْرُ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَجَازًا فِيهِ أَوْ مُتَوَاطِئًا إذْ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ إطْلَاقِهِ عَلَى الْمَعْدِنِ كَانَ التَّوَاطُؤُ مُتَعَيِّنًا ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَخْرَجَ مِنْ الْمَعْدِنِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : جَامِدٌ يَذُوبُ وَيَنْطَبِعُ كَالنَّقْدَيْنِ وَالْحَدِيدِ وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَهُ ، وَجَامِدٌ لَا يَنْطَبِعُ كَالْجِصِّ وَالنُّورَةِ وَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ وَسَائِرِ الْأَحْجَارِ كَالْيَاقُوتِ وَالْمِلْحِ ، وَمَا لَيْسَ بِجَامِدٍ كَالْمَاءِ وَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ .
وَلَا يَجِبُ الْخُمُسُ إلَّا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجِبُ إلَّا فِي النَّقْدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَطْلُوبِهِ بِمَا رَوَى أَبُو حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الرِّكَازِ الْعُشُورُ } قَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ : وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ نَافِعٍ وَابْنِ نَافِعٍ وَيَزِيدَ كِلَاهُمَا مُتَكَلَّمٌ فِيهِ ، وَوَصَفَهُمَا النَّسَائِيّ بِالتَّرْكِ انْتَهَى .
فَلَمْ يُفِدْ مَطْلُوبًا .
وَبِمَا رَوَى مَالِكٌ فِي
الْمُوَطَّإِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَائِهِمْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَ لِبِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ مَعَادِنَ بِالْقَبَلِيَّةِ } وَهِيَ مِنْ نَاحِيَةِ الْفَرْعِ ، فَتِلْكَ الْمَعَادِنُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا إلَّا الزَّكَاةُ إلَى الْيَوْمِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هَذَا مُنْقَطِعٌ فِي الْمُوَطَّإِ .
وَقَدْ رُوِيَ مُتَّصِلًا عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي التَّمْهِيدِ مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدِيثٌ مُنْقَطِعٌ ، وَمَعَ انْقِطَاعِهِ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ : يُؤْخَذُ مِنْهُ إلَى الْيَوْمِ انْتَهَى : يَعْنِي فَيَجُوزُ كَوْنُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ وَالْقِيَاسِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَلَا شَكَّ فِي صِدْقِ الْغَنِيمَةِ عَلَى هَذَا الْمَالِ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ مَحَلِّهِ مِنْ الْأَرْضِ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ ، وَقَدْ أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَكَانَ غَنِيمَةً ، كَمَا أَنَّ مَحَلَّهُ أَعْنِي الْأَرْضَ كَذَلِكَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } .
أَخْرَجَهُ السِّتَّةُ ، وَالرِّكَازُ يَعُمُّ الْمَعْدِنَ وَالْكَنْزَ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فَكَانَ إيجَابًا فِيهِمَا ، وَلَا يُتَوَهَّمُ عَدَمُ إرَادَةِ الْمَعْدِنِ بِسَبَبِ عَطْفِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَادَةِ أَنَّهُ جُبَارٌ : أَيْ هَدَرٌ لَا شَيْءَ فِيهِ وَإِلَّا لَتَنَاقَضَ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِالْمَعْدِنِ لَيْسَ هُوَ الْمُعَلَّقُ بِهِ فِي ضِمْنِ الرِّكَازِ لِيَخْتَلِفَ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ ، إذًا الْمُرَادُ أَنَّ
إهْلَاكَهُ أَوْ الْهَلَاكَ بِهِ لِلْأَجِيرِ الْحَافِرِ لَهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ ، لَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ نَفْسِهِ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ أَصْلًا ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ إذْ الْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِي كَمِّيَّتِهِ لَا فِي أَصْلِهِ ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ فِي الْبِئْرِ وَالْعَجْمَاءِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ لِلْمَعْدِنِ بِخُصُوصِهِ حُكْمًا فَنَصَّ عَلَى خُصُوصِ اسْمِهِ ثُمَّ أَثْبَتَ لَهُ حُكْمًا آخَرَ مَعَ غَيْرِهِ فَعَبَّرَ بِالِاسْمِ الَّذِي يَعُمُّهُمَا لِيَثْبُتَ فِيهَا فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ : أَعْنِي وُجُوبَ الْخُمُسِ بِمَا يُسَمَّى رِكَازًا ، فَمَا كَانَ مِنْ أَفْرَادِهِ وَجَبَ فِيهِ ، وَلَوْ فُرِضَ مَجَازًا فِي الْمَعْدِنِ وَجَبَ عَلَى قَاعِدَتِهِمْ تَعْمِيمُهُ لِعَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ لِمَا قُلْنَا مِنْ انْدِرَاجِهِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَعَ عَدَمِ مَا يَقْوَى عَلَى مُعَارِضَتِهِمَا فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ، قِيلَ : وَمَا الرِّكَازُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الذَّهَبُ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خُلِقَتْ الْأَرْضُ } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَذَكَرَهُ فِي الْإِمَامِ ، فَهُوَ وَإِنْ سَكَتَ عَنْهُ فِي الْإِمَامِ مُضَعَّفٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ .
وَفِي الْإِمَامِ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { فِي السُّيُوبِ الْخُمُسُ } وَالسُّيُوبُ : عُرُوقُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الَّتِي تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَا يَصِحُّ جَعْلُهُمَا شَاهِدَيْنِ عَلَى الْمُرَادِ بِالرِّكَازِ كَمَا ظَنُّوا ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ خَصَّ الذَّهَبَ ، وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ لَا يَخُصُّهُ فَإِنَّمَا نَبَّهَ حِينَئِذٍ عَلَى مَا كَانَ مِثْلَهُ فِي أَنَّهُ جَامِدٌ مُنْطَبِعٌ ، وَالثَّانِي لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ لَفْظَ الرِّكَازِ بَلْ السُّيُوبُ ، فَإِذَا كَانَتْ السُّيُوبُ تَخُصُّ النَّقْدَيْنِ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ إفْرَادُ فَرْدٍ مِنْ الْعَامِّ وَالِاتِّفَاقُ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَصِّصٍ لِلْعَامِّ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ
فَعَلَى الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ بِجَامِعِ ثُبُوتِ مَعْنَى الْغَنِيمَةِ ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي ظَهَرَ أَثَرُهُ فِي الْمَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ قَهْرًا فَيَجِبُ ثُبُوتُ حُكْمِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ وُجُوبُ الْخُمُسِ لِوُجُودِهِ فِيهِ ، وَكَوْنُهُ أُخِذَ فِي ضِمْنِ شَيْءٍ لَا أَثَرَ لَهُ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ ، وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الرِّقَةِ رُبْعُ الْعُشْرِ } مَخْصُوصٌ بِالْمُسْتَخْرَجِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى خُرُوجِ الْكَنْزِ الْجَاهِلِيِّ مِنْ عُمُومِ الْفِضَّةِ ( قَوْلُهُ فِي أَرْضِ خَرَاجٍ أَوْ عُشْرٍ ) قَيَّدَ بِهِ لِيُخْرِجَ الدَّارَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ ، لَكِنْ وَرَدَ عَلَيْهِ الْأَرْضُ الَّتِي لَا وَظِيفَةَ فِيهَا كَالْمَفَازَةِ ، إذْ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَالصَّوَابُ أَنْ لَا يُجْعَلَ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاحْتِرَاسِ بَلْ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ وَظِيفَتَهُمَا الْمُسْتَمِرَّةَ لَا تَمْنَعُ الْأَخْذَ مِمَّا يُوجَدُ فِيهِمَا ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ لِلْغَانِمِينَ يَدًا حُكْمِيَّةً ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : لَوْ كَانَ غَنِيمَةً لَكَانَ أَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ لَا لِلْوَاحِدِ .
فَأَجَابَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَعْهُودٌ شَرْعًا فِيمَا لَا إذَا كَانَ لَهُمْ يَدٌ حَقِيقِيَّةٌ عَلَى الْمَغْنُومِ ، أَمَّا إذَا كَانَ الثَّابِتُ لَهُمْ يَدًا حُكْمِيَّةً وَالْحَقِيقَةُ لِغَيْرِهِمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى عَدَمِ إعْطَائِهِمْ شَيْئًا بَلْ إعْطَاءُ الْوَاجِدِ ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ أَنَّ لَهُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ فَلَزِمَ مِنْ الْإِجْمَاعِ ، وَالدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ اعْتِبَارُهُ غَنِيمَةً فِي حَقِّ إخْرَاجِ الْخُمُسِ لَا فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وَجْهِ عَدَمِ إعْطَاءِ الْغَانِمِينَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ هُوَ تَعْيِينٌ لِسَنَدِ الْإِجْمَاعِ فِي ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمَالَ كَانَ مُبَاحًا قَبْلَ الْإِيجَافِ عَلَيْهِ .
وَالْمَالُ الْمُبَاحُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ نَفْسِهِ حَقِيقَةً كَالصَّيْدِ ، وَيَدُ الْغَانِمِينَ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا
لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الظَّاهِرِ يَدٌ عَلَى الْبَاطِنِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً .
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِلْوَاجِدِ فَكَانَ لَهُ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا حُرًّا أَوْ عَبْدًا بَالِغًا أَوْ صَبِيًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمَالِ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ ، وَكُلُّ مَنْ سَمَّيْنَا لَهُ حَقٌّ فِيهَا سَهْمًا أَوْ رَضْخًا ، بِخِلَافِ الْحَرْبِيِّ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْمَنُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لَوْ وُجِدَ فِي دَارِنَا
( وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ مَعْدِنًا فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا فِيهِ الْخُمُسُ لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَلَهُ أَنَّهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ مُرَكَّبٌ فِيهَا وَلَا مُؤْنَةَ فِي سَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ لَا يُخَالِفُ الْجُمْلَةَ ، بِخِلَافِ الْكَنْزِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُرَكَّبٍ فِيهَا ( وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضِهِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى إحْدَاهُمَا وَهُوَ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الدَّارَ مُلِكَتْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ دُونَ الْأَرْضِ وَلِهَذَا وَجَبَ الْعُشْرُ ، وَالْخَرَاجُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الدَّارِ فَكَذَا هَذِهِ الْمُؤْنَةُ
( قَوْلُهُ وَلَوْ وَجَدَ فِي دَارِهِ إلَخْ ) اسْتَدَلَّ لَهُمَا بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } وَقَدَّمَ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ الْمَعْدِنِ ، وَلَهُ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا مُؤْنَةَ فِي أَرْضِ الدَّارِ فَكَذَا فِي هَذَا الْجُزْءِ مِنْهَا .
وَأُجِيبَ عَنْ الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالدَّارِ ، وَصِحَّتُهُ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى إبْدَاءِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ ، وَكَوْنُ الدَّارِ خُصَّتْ مِنْ حُكْمَيْ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ بِالْإِجْمَاعِ لَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَخْصُوصَةً مِنْ كُلِّ حُكْمٍ إلَّا بِدَلِيلٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ ، عَلَى أَنَّهُ أَيْضًا قَدْ يَمْنَعُ كَوْنَ الْمَعْدِنِ جُزْءًا مِنْ الْأَرْضِ وَلِذَا لَمْ يَجُزْ التَّيَمُّمُ بِهِ ، وَتَأْوِيلُهُ بِأَنَّهُ خُلِقَ فِيهَا مَعَ خَلْقِهَا لَا يُوجِبُ الْجُزْئِيَّةَ ، وَعَلَى حَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ يَصِحُّ الْإِخْرَاجُ مِنْ حُكْمِ الْأَرْضِ لَا عَلَى تَقْدِيرِ هَذَا التَّأْوِيلِ ( قَوْلُهُ رِوَايَتَانِ ) رِوَايَةُ الْأَصْلِ لَا يَجِبُ كَمَا فِي الدَّارِ ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَجِبُ ، وَالْفَرْقُ عَلَى هَذِهِ بَيْنَ الْأَرْضِ وَالدَّارِ أَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُمْلَكْ خَالِيَةً عَنْ الْمُؤَنِ بَلْ فِيهَا الْخَرَاجُ أَوْ الْعُشْرُ وَالْخُمُسُ مِنْ الْمُؤَنِ ، بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا تُمْلَكُ خَالِيَةً عَنْهَا .
قَالُوا : لَوْ كَانَ فِي دَارِهِ نَخْلَةٌ تَغُلُّ أَكْوَارًا مِنْ الثِّمَارِ لَا يَجِبُ فِيهَا
( وَإِنْ وَجَدَ رِكَازًا ) أَيْ كَنْزًا ( وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ ) عِنْدَهُمْ لِمَا رَوَيْنَا وَاسْمُ الرِّكَازِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْكَنْزِ لِمَعْنَى الرَّكْزِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ وَقَدْ عُرِفَ حُكْمُهَا فِي مَوْضِعِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى ضَرْبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْمَنْقُوشِ عَلَيْهِ الصَّنَمُ فَفِيهِ الْخُمُسُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ الْإِحْرَازُ مِنْهُ إذْ لَا عِلْمَ بِهِ لِلْغَانِمِينَ فَيَخْتَصُّ هُوَ بِهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ ، فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتَمَامِ الْحِيَازَةِ وَهِيَ مِنْهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ وَهُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ الْإِمَامُ هَذِهِ الْبُقْعَةَ أَوَّلَ الْفَتْحِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ وَهِيَ يَدُ الْخُصُوصِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الظَّاهِرِ ، كَمَنْ اصْطَادَ سَمَكَةً فِي بَطْنِهَا دُرَّةٌ مَلَكَ الدُّرَّةَ ثُمَّ بِالْبَيْعِ لَمْ تَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا بِخِلَافِ الْمَعْدِنِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا فَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُخْتَطُّ لَهُ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَالِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى مَا قَالُوا وَلَوْ اشْتَبَهَ الضَّرْبُ يُجْعَلُ جَاهِلِيًّا فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَقِيلَ يُجْعَلُ إسْلَامِيًّا فِي زَمَانِنَا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ
( قَوْلُهُ وَجَبَ الْخُمُسُ عِنْدَهُمْ ) أَيْ عِنْدَ الْكُلِّ عَلَى كُلِّ حَالٍ ذَهَبًا كَانَ أَوْ رَصَاصًا أَوْ زِئْبَقًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الزِّئْبَقِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَعْدِنِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَاجِدُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْمَعْدِنِ إلَّا الْحَرْبِيَّ لِمَا قَدَّمْنَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتْرُكُ أَنْ يَذْهَبَ بِغَنِيمَةِ الْمُسْلِمِينَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إلَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَشَرَطَ مُقَاطَعَتَهُ عَلَى شَيْءٍ فَيَفِي بِشَرْطِهِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } غَيْرَ أَنَّهُ إنْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ ( قَوْلُهُ كَالْمَكْتُوبِ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ ) ذَكَرَهُ بِكَافٍ التَّشْبِيهِ ، وَكَذَا فِي ضَرْبِ الْكُفَّارِ لِيُفِيدَ عَدَمَ الْحَصْرِ ، فَلَوْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ نَقْشٌ آخَرُ مَعْرُوفٌ أَوْ لِأَهْلِ الْحَرْبِ نَقْشٌ غَيْرُ الصَّنَمِ كَاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ الْمَعْرُوفَةِ اُعْتُبِرَ بِهِ ( قَوْلُهُ وَقَدْ عَرَفَ حُكْمَهَا ) وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا ثُمَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ إنْ كَانَ فَقِيرًا ، وَعَلَى غَيْرِهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا ، وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا أَبَدًا ( قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) أَيْ مِنْ النَّصِّ ، وَالْمَعْنَى أَوَّلَ الْبَابِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ إلَخْ ) أَيْ الْكَنْزَ الْجَاهِلِيَّ لِأَنَّ الْإِسْلَامِيَّ لَيْسَ حُكْمُهُ مَا ذُكِرَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ مُخْتَطَّةٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُخْتَطِّ لَهُ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا سَيَذْكُرُهُ ، أَمَّا الْمُبَاحَةُ فَمَا فِي ضِمْنِهَا مُبَاحٌ إذْ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَيَتَمَلَّكُوهُ فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ ( قَوْلُهُ فَكَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) أَيْ الْخُمُسُ لِلْفُقَرَاءِ وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْوَاجِدِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا لِلْأَرْضِ أَوْ لَا لِأَنَّ هَذَا الْمَالَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ لِعَدَمِ الْمُعَادَلَةِ فَبَقِيَ مُبَاحًا فَيَكُونُ لِمَنْ
سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ ، قُلْنَا لَا نَقُولُ : إنَّ الْإِمَامَ يُمَلِّكُ الْمُخْتَطَّ لَهُ الْكَنْزَ بِالْقِسْمَةِ بَلْ يُمَلِّكُهُ الْبُقْعَةَ وَيُقَرِّرُ يَدَهُ فِيهَا وَيَقْطَعُ مُزَاحَمَةَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ فِيهَا ، وَإِذَا صَارَ مُسْتَوْلِيًا عَلَيْهَا أَقْوَى الِاسْتِيلَاءَاتِ وَهُوَ بِيَدِ خُصُوصِ الْمِلْكِ السَّابِقَةِ فَيَمْلِكُ بِهَا مَا فِي الْبَاطِنِ مِنْ الْمَالِ الْمُبَاحِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى أَنَّ الْغَانِمِينَ لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُمْ مِلْكٌ فِي هَذَا الْكَنْزِ بَعْدَ الِاخْتِطَاطِ وَإِلَّا لَوَجَبَ صَرْفُهُ إلَيْهِمْ أَوْ إلَى ذَرَارِيِّهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا وُضِعَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ ، ثُمَّ إذَا مَلَكَهُ لَمْ يَصِرْ مُبَاحًا فَلَا يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ فَلَا يَمْلِكُهُ مُشْتَرِي الْأَرْضِ كَالدُّرَّةِ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ يَمْلِكُهَا الصَّائِدُ لِسَبْقِ يَدِ الْخُصُوصِ إلَى السَّمَكَةِ حَالَ إبَاحَتِهَا ، ثُمَّ لَا يَمْلِكُهَا مُشْتَرِي السَّمَكَةِ لِانْتِفَاءِ الْإِبَاحَةِ .
هَذَا وَمَا ذُكِرَ فِي السَّمَكَةِ مِنْ الْإِطْلَاقِ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَقِيلَ : إذَا كَانَتْ الدُّرَّةُ غَيْرَ مَثْقُوبَةٍ تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْمَثْقُوبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي بَطْنِهَا عَنْبَرٌ يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تَأْكُلُهُ وَكُلُّ مَا تَأْكُلُهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِهَا ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الدُّرَّةُ فِي صَدَفَةٍ مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي : قُلْنَا هَذَا الْكَلَامُ لَا يُفِيدُ إلَّا مَعَ دَعْوَى أَنَّهَا تَأْكُلُ الدُّرَّةَ غَيْرَ الْمَثْقُوبَةِ كَأَكْلِهَا الْعَنْبَرَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ .
نَعَمْ قَدْ يَتَّفِقُ أَنَّهَا تَبْتَلِعُهَا مَرَّةً بِخِلَافِ الْعَنْبَرِ فَإِنَّهُ حَشِيشٌ وَالصَّدَفُ دَسَمٌ وَمِنْ شَأْنِهَا أَكْلُ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا قَالُوا ) يُفِيدُ الْخِلَافَ عَلَى عَادَتِهِ ، قِيلَ يُصْرَفُ إلَى أَقْصَى مَلِكٍ يُعْرَفُ فِي الْإِسْلَامِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ ، وَقِيلَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَهَذَا أَوْجَهُ لِلْمُتَأَمِّلِ ( قَوْلُهُ لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ ) فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَيَجِبُ الْبَقَاءُ مَعَ الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خِلَافُهُ ، وَالْحَقُّ مَنْعُ هَذَا الظَّاهِرِ بَلْ دَفِينُهُمْ إلَى الْيَوْمِ يُوجَدُ بِدِيَارِنَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى
( وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ) تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الدَّارِ فِي يَدِ صَاحِبِهَا خُصُوصًا ( وَإِنْ وَجَدَهُ فِي الصَّحْرَاءِ فَهُوَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا وَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ غَيْرِ مُجَاهِرٍ ( وَلَيْسَ فِي الْفَيْرُوزَجِ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ خُمُسٌ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ } ( وَفِي الزِّئْبَقِ الْخُمُسُ ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ
( قَوْلُهُ فَوَجَدَ فِي دَارِ بَعْضِهِمْ رِكَازًا رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ) سَوَاءٌ كَانَ مَعْدِنًا أَوْ كَنْزًا ( قَوْلُهُ فِي الصَّحْرَاءِ ) أَيْ أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا ، كَذَا فَسَّرَهُ فِي الْمُحِيطِ ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ يُفِيدُهُ ( قَوْلُهُ فَلَا يُعَدُّ غَدْرًا ) يَعْنِي أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ إبَاحَةٍ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنْ الْغَدْرِ فَقَطْ وَيَأْخُذُ غَيْرَ مَمْلُوكٍ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِ مَمْلُوكَةٍ لَمْ يُعْذَرْ بِأَحَدٍ بِخِلَافِهِ مِنْ الْمَمْلُوكَةِ .
نَعَمْ لَهُمْ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ عَلَى مَا فِي صَحْرَاءِ دَارِهِمْ وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ أَحْكَامٍ فَلَا تُعْتَبَرُ فِيهَا إلَّا الْحَقِيقَةُ ، بِخِلَافِ دَارِنَا فَلِذَا لَا يُعْطِي الْمُسْتَأْمَنُ مِنْهُمْ مَا وَجَدَهُ فِي صَحْرَائِنَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مُتَلَصِّصٍ ) وَلَوْ دَخَلَ الْمُتَلَصِّصُ دَارَهُمْ فَأَخَذَ شَيْئًا لَا يَأْخُذُ لِانْتِفَاءِ مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَا أَوْجَفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ غَلَبَةً وَقَهْرًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : غَايَةُ مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ وَالْقِيَاسُ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِي مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ ، فَانْتِفَاءُ مُسَمَّى الْغَنِيمَةِ فِي الْمَأْخُوذِ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْخُمُسِ إلَّا بِالْإِسْنَادِ إلَى الْأَصْلِ ، وَقَدْ وُجِدَ دَلِيلٌ يَخْرُجُ عَنْ الْأَصْلِ وَهُوَ عُمُومُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ فَإِنَّ مَا أَصَابَهُ لَيْسَ غَنِيمَةً وَلَا رِكَازًا .
فَلَا دَلِيلَ يُوجِبُهُ فِيهِ فَيَبْقَى عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ ( قَوْلُهُ يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ ) قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ أُصِيبَ فِي خَزَائِنِ الْكُفَّارِ وَكُنُوزِهِمْ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَسَيَأْتِي ( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا خُمُسَ فِي الْحَجَرِ } ) غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ } مِنْ طَرِيقَيْنِ ضَعِيفَيْنِ : الْأَوَّلُ بِعُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَرَ الْكَلَاعِيِّ .
وَالثَّانِي
بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيِّ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ { لَيْسَ فِي حَجَرِ اللُّؤْلُؤِ وَلَا حَجَرِ الزُّمُرُّدِ زَكَاةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلتِّجَارَةِ } ( قَوْلُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ آخِرًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا ، حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَا خُمُسَ فِيهِ ، فَلَمْ أَزَلْ بِهِ أُنَاظِرُهُ وَأَقُولُ هُوَ كَالرَّصَاصِ إلَى أَنْ رَجَعَ ، ثُمَّ رَأَيْتُ أَنَا أَنْ لَا شَيْءَ فِيهِ فَقُلْتُ بِهِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ الزِّئْبَقُ الْمُصَابُ فِي مَعْدِنِهِ احْتِرَازًا عَمَّا ذَكَرْنَا ، وَالزِّئْبَقُ بِالْيَاءِ وَقَدْ يُهْمَزُ ، وَمِنْهَا حِينَئِذٍ مَنْ يَكْسِرُ الْمُوَحَّدَةَ بَعْدَ الْهَمْزَةِ مِثْلُ زِئْبِرِ الثَّوْبِ وَهُوَ مَا يَعْلُو جَدِيدَهُ مِنْ الْوَبَرَةِ .
وَجْهُ النَّافِي أَنَّهُ يُتَّبَعُ مِنْ عَيْنِهِ وَيُسْتَقَى بِالدِّلَاءِ كَالْمَاءِ وَلَا يَنْطَبِعُ بِنَفْسِهِ فَصَارَ كَالْقِيرِ وَالنَّفْطِ .
وَجْهُ الْمُوجَبِ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ مِنْ عَيْنِهِ وَيَنْطَبِعُ مَعَ غَيْرِهِ فَكَانَ كَالْفِضَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَنْطَبِعُ مَا لَمْ يُخَالِطْهُمَا شَيْءٌ
( وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفُ : فِيهِمَا وَفِي كُلِّ حِلْيَةٍ تَخْرُجُ مِنْ الْبَحْرِ خُمُسٌ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَذَ الْخُمُسَ مِنْ الْعَنْبَرِ .
وَلَهُمَا أَنَّ قَعْرَ الْبَحْرِ لَمْ يَرِدْ عَلَيْهِ الْقَهْرُ فَلَا يَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ غَنِيمَةً وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِيمَا دَسَرَهُ الْبَحْرُ وَبِهِ نَقُولُ ( مَتَاعٌ وُجِدَ رِكَازًا فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ وَفِيهِ الْخُمُسُ ) مَعْنَاهُ : إذَا وُجِدَ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ بِمَنْزِلَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
( قَوْلُهُ وَلَا خُمُسَ فِي اللُّؤْلُؤِ إلَخْ ) يَعْنِي إذَا اُسْتُخْرِجَا مِنْ الْبَحْرِ لَا إذَا وُجِدَا دَفِينًا لِلْكُفَّارِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَنْبَرَ حَشِيشٌ وَاللُّؤْلُؤَ إمَّا مَطَرُ الرَّبِيعِ يَقَعُ فِي الصَّدَفِ فَيَصِيرُ لُؤْلُؤًا ، أَوْ الصَّدَفُ حَيَوَانٌ يُخْلَقُ فِيهِ اللُّؤْلُؤُ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْمَاءِ وَلَا فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَيَوَانِ كَظَبْيِ الْمِسْكِ ، وَالْمُصَنِّفُ عَلَّلَ النَّفْيَ بِنَفْيِ كَوْنِهِ غَنِيمَةً لِأَنَّ اسْتِغْنَامَهُ فَرْعُ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ كَانَ فِي مَحَلِّ قَهْرِهِمْ وَلَا يَرِدُ قَهْرُ مَخْلُوقٍ عَلَى الْبَحْرِ الْأَعْظَمِ وَلَا دَلِيلَ آخَرَ يُوجِبُهُ فَبَقِيَ عَلَى الْعَدَمِ ، وَقِيَاسُ الْبَحْرِ عَلَى الْبَرِّ فِي إثْبَاتِ الْوُجُوبِ فِيمَا يُسْتَخْرَجُ قِيَاسٌ بِلَا جَامِعٍ لِأَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي الْإِيجَابِ كَوْنُهُ غَنِيمَةً لَا غَيْرُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيمَا فِي الْبَحْرِ ، وَلِذَا لَوْ وُجِدَ فِيهِ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَمْ يَجِبْ فِيهِمَا شَيْءٌ ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ فِيهِ دَلِيلًا وَهُوَ مَا عَنْ عُمَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا حُجَّةٌ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ فَدَفَعَهُ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ مُدَّعَاهُ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ أَخَذَ مِمَّا دَسَرَهُ بَحْرُ دَارِ الْحَرْبِ مِنْ بَابِ طَلَبٍ : أَيْ دَفَعَهُ وَقَذَفَهُ فَأَصَابَهُ عَسْكَرُ الْمُسْلِمِينَ لَا مَا اُسْتُخْرِجَ وَلَا مَا دَسَرَهُ فَأَصَابَهُ رَجُلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ مُتَلَصِّصٌ ، عَلَى أَنَّ ثُبُوتَهُ عَنْ عُمَرَ لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا بَلْ إنَّمَا عُرِفَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ رَوَاهَا الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ : أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْهُ : أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْعَنْبَرِ الْخُمُسَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ قَالَا : فِي الْعَنْبَرِ وَاللُّؤْلُؤِ الْخُمُسُ .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ عَامِلًا
بِعَدَنَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ الْعَنْبَرِ فَقَالَ : لَوْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَالْخُمُسُ وَهَذَا لَيْسَ جَزْمًا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِالْجَوَابِ ، بَلْ حَقِيقَتُهُ التَّوَقُّفُ فِي أَنَّ فِيهِ شَيْئًا أَوْ لَا ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ غَيْرَ الْخُمُسِ ، وَلَيْسَ فِيهِ رَائِحَةُ الْجَزْمِ بِالْحُكْمِ فَسَلِمَ مَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَالشَّافِعِيُّ أَيْضًا : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ دَاوُد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يُحَدِّثُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَيْسَ فِي الْعَنْبَرِ خُمُسٌ .
عَنْ الْمُعَارِضِ قَالَ : وَحَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْمَدِينِيِّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ ، فَهَذَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُمَا مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ ، وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ قَوْلُ النَّافِي أَرْجَحَ لِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِالْوَجْهِ ( قَوْلُهُ مَتَاعٌ إلَخْ ) الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ غَيْرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ وَالْآلَاتِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَالْفُصُوصِ وَالزِّئْبَقِ وَالْعَنْبَرِ ، وَكُلِّ مَا يُوجَدُ كَنْزًا فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ بِشَرْطِهِ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ .
( بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ) ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي قَلِيلِ مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ وَكَثِيرِهِ الْعُشْرُ ، سَوَاءٌ سُقِيَ سَيْحًا أَوْ سَقَتْهُ السَّمَاءُ ، إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ .
وَقَالَا : لَا يَجِبُ الْعُشْرُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ، وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ عِنْدَهُمَا عُشْرٌ ) فَالْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ : فِي اشْتِرَاطِ النِّصَابِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبَقَاءِ .
لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَلِأَنَّهُ صَدَقَةٌ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ النِّصَابُ لِيَتَحَقَّقَ الْغِنَى .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ } وَتَأْوِيلُ مَا رَوَيَاهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بِالْأَوْسَاقِ وَقِيمَةُ الْوَسْقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَالِكِ فِيهِ فَكَيْفَ بِصِفَتِهِ وَهُوَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ ؛ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِنْمَاءِ وَهُوَ كُلُّهُ نَمَاءٌ .
وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَالزَّكَاةُ غَيْرُ مَنْفِيَّةٍ فَتَعَيَّنَ الْعُشْرُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا ، وَمَرْوِيُّهُمَا مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ يَأْخُذُهَا الْعَاشِرُ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ قَدْ تُسْتَنْمَى بِمَا لَا يَبْقَى وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ أَمَّا الْحَطَبُ وَالْقَصَبُ وَالْحَشِيشُ فَلَا تُسْتَنْبَتُ فِي الْجِنَانِ عَادَةً بَلْ تُنَقَّى عَنْهَا حَتَّى لَوْ اتَّخَذَهَا مُقَصَّبَةً أَوْ مُشَجَّرَةً أَوْ مَنْبَتًا لِلْحَشِيشِ يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ ، وَالْمُرَادُ بِالْمَذْكُورِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ أَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ فَفِيهِمَا الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّهُ
يَقْصِدُ بِهِمَا اسْتِغْلَالَ الْأَرْضِ ، بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْحَبُّ وَالتَّمْرُ دُونَهُمَا
( بَابُ زَكَاةِ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ ) قِيلَ تَسْمِيَتُهُ زَكَاةً عَلَى قَوْلِهِمَا لِاشْتِرَاطِهِمَا النِّصَابَ وَالْبَقَاءَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْمَأْخُوذَ عُشْرًا أَوْ نِصْفَهُ زَكَاةٌ حَتَّى يُصْرَفَ مَصَارِفَ الزَّكَاةِ ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي إثْبَاتِ بَعْضِ شُرُوطٍ لِبَعْضِ أَنْوَاعِ الزَّكَاةِ وَنَفْيِهَا ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ زَكَاةً ( قَوْلُهُ : إلَّا الْحَطَبَ وَالْقَصَبَ وَالْحَشِيشَ ) ظَاهِرُهُ كَوْنُ مَا سِوَى مَا اُسْتُثْنِيَ دَاخِلًا فِي الْوُجُوبِ ، وَسَيَنُصُّ عَلَى إخْرَاجِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ إلَّا أَنْ يُقَالَ : يُمْكِنُ إدْرَاجُهُمَا فِي مُسَمَّى الْحَشِيشِ عَلَى مَا فِيهِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ إخْرَاجِ الطَّرْفَاءِ وَالدُّلْبِ وَشَجَرِ الْقُطْنِ وَالْبَاذِنْجَانِ فَيُدْرَجُ فِي الْحَطَبِ ، لَكِنْ بَقِيَ مَا صَرَّحُوا بِهِ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي الْأَدْوِيَةِ كَالْهَلِيلِجِ وَالْكُنْدُرِ ، وَلَا يَجِبُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الْأَشْجَارِ كَالصَّمْغِ وَالْقَطِرَانِ ، وَلَا فِيمَا هُوَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ كَالنَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ لِأَنَّهَا كَالْأَرْضِ وَلِذَا تَسْتَتْبِعُهَا الْأَرْضُ فِي الْبَيْعِ ، وَلَا فِي كُلِّ بِزْرٍ لَا يُطْلَبُ بِالزِّرَاعَةِ كَبِزْرِ الْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ لِكَوْنِهَا غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فِي نَفْسِهَا ، وَيَجِبُ فِي الْعُصْفُرِ وَالْكَتَّانِ وَبِزْرِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَقْصُودٌ ، وَعَدَمُ الْوُجُوبِ فِي بَعْضِ هَذِهِ مِمَّا لَا يَرِدُ عَلَى الْإِطْلَاقِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ( قَوْلُهُ إلَّا فِيمَا لَهُ ثَمَرَةٌ بَاقِيَةٌ ) وَهِيَ مَا تَبْقَى سَنَةً بِلَا عِلَاجٍ غَالِبًا ، بِخِلَافِ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ كَالْعِنَبِ فِي بِلَادِهِمْ وَالْبِطِّيخِ الصَّيْفِيِّ فِي دِيَارِنَا ، وَعِلَاجُهُ الْحَاجَةُ إلَى تَقْلِيبِهِ وَتَعْلِيقِ الْعِنَبِ ( قَوْلُهُ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) وَكُلُّ صَاعٍ أَرْبَعَةُ أَمْنَاءٍ ، فَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَلْفٌ وَمِائَتَا مَنٍّ .
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْكُوفَةِ .
وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ :
الْوَسْقُ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ ، وَكَوْنُ الْوَسْقِ سِتِّينَ صَاعًا مُصَرَّحٌ بِهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ الْأَوْسَاقِ ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْخَارِجُ نَوْعَيْنِ كُلٌّ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَا يُضَمُّ ، وَفِي نَوْعٍ وَاحِدٍ يُضَمُّ الصِّنْفَانِ كَالْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ ، وَالنَّوْعُ الْوَاحِدُ هُوَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ ) كَالرَّيَاحِينِ وَالْأَوْرَادِ وَالْبُقُولِ وَالْخِيَارِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبَاذِنْجَانِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَعِنْدَهُ يَجِبُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ لَهُمَا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَمُسْلِمٌ وَلَفْظُهُ { لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ } ثُمَّ أَعَادَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَقَالَ فِي آخِرِهِ : غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ بَدَلَ التَّمْرِ ثَمَرٌ يَعْنِي بِالْمُثَلَّثَةِ فَعُلِمَ أَنَّ الْأَوَّلَ بِالْمُثَنَّاةِ ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد فِيهِ : وَالْوَسْقُ سِتُّونَ مَخْتُومًا ، وَابْنُ مَاجَهْ .
وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ } ) أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ } ، وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِيمَا سَقَتْ الْأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشْرُ ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ } وَفِيهِ مِنْ الْآثَارِ أَيْضًا مَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : فِيمَا أَنْبَتَتْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ الْعُشْرُ ، وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُجَاهِدٍ وَعَنْ
النَّخَعِيِّ ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ النَّخَعِيِّ : حَتَّى فِي كُلِّ عَشْرِ دُسْتُجَاتِ بَقْلٍ أُسْتُجَةٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ عَامٌّ وَخَاصٌّ ، فَمَنْ يُقَدِّمُ الْخَاصَّ مُطْلَقًا كَالشَّافِعِيِّ قَالَ بِمُوجِبِ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ ، وَمَنْ يُقَدِّمُ الْعَامَّ أَوْ يَقُولُ يَتَعَارَضَانِ وَيَطْلُبُ التَّرْجِيحَ إنْ لَمْ يَعْرِفْ التَّارِيخَ وَإِنْ عَرَفَ فَالْمُتَأَخِّرُ نَاسِخٌ ، وَإِنْ كَانَ الْعَامُّ كَقَوْلِنَا يَجِبُ أَنْ يَقُولَ بِمُوجِبِ هَذَا الْعَامِّ هُنَا لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ مَعَ حَدِيثِ الْأَوْسَاقِ فِي الْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ الْأَوْسُقِ كَانَ الْإِيجَابُ أَوْلَى لِلِاحْتِيَاطِ ، فَمَنْ تَمَّ لَهُ الْمَطْلُوبُ فِي نَفْسِ الْأَصْلِ الْخِلَافِيِّ تَمَّ لَهُ هُنَا ، وَلَوْلَا خَشْيَةُ الْخُرُوجِ عَنْ الْغَرَضِ لَأَظْهَرْنَا صِحَّتَهُ أَيَّ إظْهَارٍ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهَذَا الْبَحْثُ يَتِمُّ عَلَى الصَّاحِبَيْنِ لِالْتِزَامِهِمَا الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حَمْلِ مَرْوِيِّهِمَا عَلَى زَكَاةِ التِّجَارَةِ طَرِيقَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ .
قِيلَ وَلَفْظُ الصَّدَقَةِ يُشْعِرُ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي الْوَاجِبِ فِيمَا أَخْرَجَتْ اسْمًا الْعُشْرُ لَا الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا فِي الثَّانِي قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ) رَوَى نَفْيَ الْعُشْرِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ سَوْقُهَا يَطُولُ فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ ، وَقَالَ : إسْنَادُهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَيْسَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ .
وَرَوَى الْحَاكِمُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا وَصَحَّحَهُ ، وَغُلِّطَ بِأَنَّ إِسْحَاقَ بْنَ يَحْيَى تَرَكَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ وَهُوَ الرَّاوِي عَنْ مُعَاذٍ مُرْسَلٌ عَنْ عُمَرَ ، وَمُعَاذٌ تُوُفِّيَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ ، فَرِوَايَةُ مُوسَى عَنْهُ مُرْسَلَةٌ .
وَمَا قِيلَ : إنَّ مُوسَى هَذَا وُلِدَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَسَمَّاهُ لَمْ يَثْبُتْ .
وَالْمَشْهُورُ فِي هَذَا مَا رَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ قَالَ : عِنْدَنَا كِتَابُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ } وَأَحْسَنُ مَا فِيهَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا لَكِنْ يَجِيءُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْدِيمٍ مِنْ الْعَامِّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْمَنْفِيَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْعَاشِرُ إذَا مَرَّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَيُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ هَذَا الْمُرْسَلِ .
إذْ قَالَ نَهَى أَنْ يُؤْخَذَ ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ وُجُوبِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالِكُ لِلْفُقَرَاءِ .
وَالْمَعْقُولُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ أَنَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْفَقِيرِ ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ لَيْسُوا مُقِيمِينَ عِنْدَ الْعَاشِرِ وَلَا بَقَاءَ لِلْخُضْرَوَاتِ فَتَفْسُدُ قَبْلَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ ؛ وَلِذَا قُلْنَا : لَوْ أَخَذَ مِنْهَا الْعَاشِرُ لِيَصْرِفَهُ إلَى عِمَالَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَالسَّبَبُ هِيَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ ) أَيْ بِالْخَارِجِ تَحْقِيقًا فِي حَقِّ الْعُشْرِ ، وَلِذَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعُشْرِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ قَبْلَ السَّبَبِ ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ لَوْ لَمْ نُوجِبْ شَيْئًا لَكَانَ إخْلَاءً لِلسَّبَبِ عَنْ الْحُكْمِ ، وَحَقِيقَةُ الِاسْتِدْلَالِ إنَّمَا هُوَ بِالْعَامِ السَّابِقِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلِ الْجُعْلِ ، وَالْمُفِيدُ لِسَبَبِيَّتِهَا كَذَلِكَ هُوَ ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ الْخَاصُّ أَفَادَ أَنَّ السَّبَبَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِإِخْرَاجِ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَصَاعِدًا مُطْلَقًا فَلَا يَصِحُّ هَذَا مُسْتَقِلًّا بَلْ هُوَ فَرْعُ الْعَامِّ الْمُفِيدِ سَبَبِيَّتَهَا مُطْلَقًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا
مِنْ مَنْعِ تَعْجِيلِ الْعُشْرِ فِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّهُ أَجَازَهُ بَعْدَ الزَّرْعِ قَبْلَ النَّبَاتِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الثَّمَرَةِ فِي الشَّجَرِ ، هَكَذَا حَكَى مَذْهَبَهُ فِي الْكَافِي .
وَفِي الْمَنْظُومَةِ خَصَّ خِلَافَهُ بِثَمَرِ الْأَشْجَارِ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ السَّبَبِ نَظَرًا إلَى أَنَّ بِنُمُوِّ الْأَشْجَارِ يَثْبُتُ نَمَاءُ الْأَرْضِ تَحْقِيقًا فَيَثْبُتُ السَّبَبُ ، بِخِلَافِ الزَّرْعِ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَمْ يَتَحَقَّقْ نَمَاءُ الْأَرْضِ ، ثُمَّ إذَا ظَهَرَ فَأَدَّى يَجُوزُ اتِّفَاقًا وَهَلْ يَكُونُ تَعْجِيلًا يَنْبَنِي عَلَى وَقْتِ الْوُجُوبِ مَتَى هُوَ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عِنْدَ ظُهُورِ الثَّمَرَةِ فَلَا يَكُونُ تَعْجِيلًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَقْتَ الْإِدْرَاكِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عِنْدَ تَصْفِيَتِهِ وَحُصُولِهِ فِي الْحَظِيرَةِ فَيَكُونُ تَعْجِيلًا .
وَثَمَرَةُ هَذَا الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ .
قَالَ الْإِمَامُ : يَجِبُ عَلَيْهِ عُشْرُ مَا أَكَلَ أَوْ أَطْعَمَ ، وَمُحَمَّدٌ يَحْتَسِبُ بِهِ فِي تَكْمِيلِ الْأَوْسُقِ : يَعْنِي إذَا بَلَغَ الْمَأْكُولُ مَعَ مَا بَقِيَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْبَاقِي لَا فِي التَّأَلُّفِ .
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَا يَعْتَبِرُ الذَّاهِبَ بَلْ يَعْتَبِرُ فِي الْبَاقِي خَمْسَةَ أَوْسُقٍ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَالِكُ مِنْ الْمُتْلِفِ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَهُ فَيُخْرِجُ عُشْرَهُ وَعُشْرَ مَا بَقِيَ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهَا الْخَرَاجُ ) أَيْ لِكَوْنِهَا السَّبَبَ ، إلَّا أَنَّ سَبَبِيَّتَهَا تَخْتَلِفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ، فَفِي الْخَرَاجِ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ فَلِذَا يَجِبُ وَيُؤْخَذُ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَإِنْ لَمْ يَزْرَعْ وَفِي الْعُشْرِ بِالتَّحْقِيقِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا ( قَوْلُهُ وَقَصَبُ الذَّرِيرَةِ ) نَوْعٌ مِنْ الْقَصَبِ فِي مَضْغِهِ حَرَافَةٌ وَمَسْحُوقُهُ عَطِرٌ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ السَّعَفِ وَالتِّبْنِ ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ فِي التِّبْنِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِزِرَاعَةِ الْحَبِّ غَيْرَ أَنَّهُ قَصَلَهُ قَبْلَ انْعِقَادِ الْحَبِّ وَجَبَ الْعُشْرُ
فِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ هُوَ الْمَقْصُودَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يُقَالَ كَانَ الْعُشْرُ فِيهِ قَبْلَ الِانْعِقَادِ ثُمَّ تَحَوَّلَ عِنْدَ الِانْعِقَادِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي التِّبْنِ إذَا يَبِسَ فِيهِ الْعُشْرُ
قَالَ : ( وَمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ أَوْ دَالِيَةٍ أَوْ سَانِيَةٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ تَكْثُرُ فِيهِ وَتَقِلُّ فِيمَا يُسْقَى بِالسَّمَاءِ أَوْ سَيْحًا وَإِنْ سُقِيَ سَيْحًا وَبِدَالِيَةٍ فَالْمُعْتَبَرُ أَكْثَرُ السَّنَةِ كَمَا مَرَّ فِي السَّائِمَةِ .
( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِيمَا لَا يُوسَقُ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَالْقُطْنِ يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ ) كَالذُّرَةِ فِي زَمَانِنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ فِيهِ فَاعْتُبِرَتْ قِيمَتُهُ كَمَا فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجِبُ الْعُشْرُ إذَا بَلَغَ الْخَارِجُ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ .
فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ كُلُّ حِمْلٍ ثَلَاثُمِائَةِ مَنٍّ ، وَفِي الزَّعْفَرَانِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ ) ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْوَسْقِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ نَوْعُهُ
( قَوْلُهُ بِغَرْبٍ ) الْغَرْبُ الدَّلْوُ الْكَبِيرُ وَالدَّالِيَةُ الدُّولَابُ ، وَالسَّانِيَةُ النَّاقَةُ يُسْتَقَى بِهَا ( قَوْلُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ) يَعْنِي مُطْلَقًا كَمَا هُوَ قَوْلُهُ أَوْ إذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) لَمَّا اشْتَرَطَا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيمَا لَا يُوسَقُ كَيْفَ التَّقْدِيرُ عِنْدَهُمَا ، اخْتَلَفَا فِيهِ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِنْ الْحُبُوبِ ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَنْ يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَعْدَادٍ : أَيْ أَمْثَالِ كُلِّ وَاحِدٍ هُوَ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ ذَلِكَ النَّوْعُ الَّذِي لَا يُوسَقُ ، فَاعْتُبِرَ فِي الْقُطْنِ خَمْسَةُ أَحْمَالٍ وَخَمْسَةُ أَمْنَاءٍ فِي السُّكَّرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَخَمْسَةُ أَفْرَاقٍ فِي الْعَسَلِ
( وَفِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ إذَا أُخِذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ فَأَشْبَهَ الْإِبْرَيْسَمَ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ } وَلِأَنَّ النَّخْلَ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَنْوَارِ وَالثِّمَارِ وَفِيهِمَا الْعُشْرُ فَكَذَا فِيمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا بِخِلَافِ دُودِ الْقَزِّ ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مِنْ الْأَوْرَاقِ وَلَا عُشْرَ فِيهَا .
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ النِّصَابَ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ قِيمَةُ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى يَبْلُغَ عَشْرَ قِرَبٍ لِحَدِيثِ { بَنِي شَبَّابَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ } وَعَنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خَمْسَةُ أَفْرَاقٍ كُلُّ فَرَقٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ رِطْلًا ؛ لِأَنَّهُ أَقْصَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ .
وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَمَا يُوجَدُ فِي الْجِبَالِ مِنْ الْعَسَلِ وَالثِّمَارِ فَفِيهِ الْعُشْرُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَهُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ ، وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ .
( قَوْلُهُ إذَا أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ لَمْ يَجِبْ فِيهِ شَيْءٌ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْحَيَوَانِ ) يَعْنِي الْقَزَّ وُجُوبُ الْعُشْرِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْعَسَلِ الْعُشْرُ } ) أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ أَهْلِ الْعَسَلِ الْعُشْرُ } وَلَيْسَ لَهُ عِلَّةٌ إلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ .
قَالَ ابْنُ حِبَّانَ : كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَكْذِبُ وَلَا يَعْلَمُ وَيَقْلِبُ الْأَخْبَارَ وَلَا يَفْهَمُ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَانَ يَغْلَطُ كَثِيرًا .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادِ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرَ } وَرَوَى الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ الدَّوْسِيِّ قَالَ : { أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْ لِقَوْمِي مَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَفَعَلَ ، وَاسْتَعْمَلَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ قَالَ : يَا قَوْمِ أَدُّوا زَكَاةَ الْعَسَلِ فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ ، قَالُوا : كَمْ تَرَى ؟ قَالَ : الْعُشْرُ ، فَأَخَذْتُ مِنْهُمْ الْعُشْرَ فَأَتَيْت بِهِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَاعَهُ وَجَعَلَهُ فِي صَدَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ } وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى : حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عِيسَى بِهِ .
وَرَوَاهُ الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَنَسٍ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذُبَابٍ عَنْ
مُنِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعْدٍ ، وَلَمْ يَعْرِفْ ابْنُ الْمَدِينِيِّ وَالِدَ مُنِيرٍ ، وَسُئِلَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ أَيَصِحُّ حَدِيثُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْ الْعَسَلِ } ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ رَآهُ فَتَطَوَّعَ بِهِ أَهْلُهُ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنْ { أَبِي سَيَّارَةَ الْمُتَعِيِّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي نَحْلًا قَالَ : أَدِّ الْعُشْرَ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِهَا لِي ، فَحَمَاهَا } وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو يَعْلَى الْمُوصِلِيُّ فِي مَسَانِيدِهِمْ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هَذَا أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي وُجُوبِ الْعُشْرِ فِيهِ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إسْمَاعِيلَ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ : حَدِيثٌ مُرْسَلٌ .
سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى لَمْ يُدْرِكْ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ فِي زَكَاةِ الْعَسَلِ شَيْءٌ يَصِحُّ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ ، أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ الْعَنْبَرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ { جَاءَ هِلَالٌ أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَلَبَةُ فَحَمَاهُ لَهُ } ، فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ لَهُ عُمَرُ : إنْ أَدَّى إلَيْك مَا كَانَ يُؤَدِّي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ ، وَإِلَّا فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَفَّافُ
الْمِصْرِيُّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ بَنِي سَيَّارَةَ ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ : صَوَابُهُ شَبَّابَةَ بِعُجْمَةٍ وَبِبَاءَيْنِ مُوَحَّدَتَيْنِ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ فَهْمٍ { كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَحْلٍ كَانَ لَهُمْ الْعُشْرَ عَنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ ، وَكَانَ يَحْمِي وَادِيَيْنِ لَهُمْ } ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ عَلَى مَا هُنَاكَ سُفْيَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيَّ فَأَبَوْا أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالُوا : إنَّمَا كُنَّا نُؤَدِّيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكَتَبَ سُفْيَانُ إلَى عُمَرَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ : إنَّمَا النَّحْلُ ذُبَابُ غَيْثٍ يَسُوقُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رِزْقًا إلَى مَنْ يَشَاءُ ، فَإِنْ أَدَّوْا إلَيْك مَا كَانُوا يُؤَدُّونَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحْمِ لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ ، وَإِلَّا فَخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، فَأَدَّوْا إلَيْهِ مَا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَى لَهُمْ أَوْدِيَتَهُمْ .
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ لَهِيعَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْخَذُ فِي زَمَانِهِ مِنْ الْعَسَلِ الْعُشْرُ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةٌ مِنْ أَوْسَطِهَا } وَإِذْ قَدْ وُجِدَ مَا أَوْجَدْنَاك غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ الْوُجُوبُ فِي الْعَسَلِ ، وَأَنَّ أَخْذَ سَعْدٍ لَيْسَ رَأْيًا مِنْهُ وَتَطَوُّعًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَإِنَّهُ قَالَ : أَدُّوا زَكَاةَ الْعَسَلِ .
وَالزَّكَاةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ فَيَحْتَمِلُ كَوْنَهُ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَوْنَهُ رَأْيًا مِنْهُ ،
وَحَمْلُهُ عَلَى السَّمَاعِ أَوْلَى .
وَقَوْلُهُمْ : كَمْ تَرَى لَا يَسْتَلْزِمُ عِلْمَهُمْ بِأَنَّهُ عَنْ رَأْيٍ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ عَنْ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الرَّأْيَ فِي خُصُوصٍ مِنْ الْكَمِّيَّةِ بِأَنْ يَكُونَ مَا عَلِمَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَ الْوُجُوبِ مَعَ إجْمَالِ الْكَمِّيَّةِ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا يَكُونُونَ قَاصِدِي التَّطَوُّعِ سَوَاءٌ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي الْكَمِّيَّةِ أَوْ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ إذْ قَدْ قَلَّدُوهُ فِي رَأْيِهِ فَكَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ إذْ كَانَ رَأْيُهُ الْوُجُوبُ .
ثُمَّ كَوْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ حِينَ أَتَاهُ بِعَيْنِ الْعَسَلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ إلَّا عَلَى أَنَّهُ زَكَاةٌ أَخَذَهَا مِنْهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ مَعْهُودٌ فِي الشَّرْعِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيثُ الْمُرْسَلُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِي ثُبُوتِهِ ، وَفِيهِ الْأَمْرُ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَدَاءِ الْعُشُورِ ، وَالْمُرْسَلُ بِانْفِرَادِهِ حُجَّةٌ عَلَى مَا أَقَمْنَا الدَّلَالَةَ عَلَيْهِ .
وَبِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهِ بِانْفِرَادِهِ فَتُعَدُّ طُرُقُ الضَّعِيفِ ضَعْفًا بِغَيْرِ فِسْقِ الرُّوَاةِ يُفِيدُ حُجِّيَّتَهُ ، إذْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ إجَادَةُ كَثِيرِ الْغَلَطِ فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ وَهُنَا كَذَلِكَ ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ الْمَذْكُورُ مَعَ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَابْنِ مَاجَهْ ، وَحَدِيثِ الْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ وَحَدِيثِ الشَّافِعِيِّ ، فَتَثْبُتُ الْحُجِّيَّةُ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ وَرُجُوعًا وَإِلَّا فَإِلْزَامًا وَجَبْرًا ، ثُمَّ لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهِ .
وَغَايَةُ مَا فِي حَدِيثِ الْقِرَبِ أَنَّهُ كَانَ أَدَاؤُهُمْ مِنْ كُلِّ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً وَهُوَ فَرْعُ بُلُوغِ عَسَلِهِمْ هَذَا الْمَبْلَغَ ، أَمَّا النَّفْيُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ عَشْرِ قِرَبٍ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مَا فِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { فِي الْعَسَلِ فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَزُقٍّ زِقٌّ } فَضَعِيفٌ ( قَوْلُهُ
لِحَدِيثِ بَنِي شَبَّابَةَ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَبِي سَيَّارَةَ وَهُوَ الصَّوَابُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ صَوَابَهُ بَنِي شَبَّابَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فَاسْتَجْهَلَهُ الزَّيْلَعِيُّ ، وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ صَوَابًا مَعَ قَوْلِهِ كَانُوا يُؤَدُّونَ ا هـ .
وَلَيْسَ هَذَا الدَّفْعُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ عَنْ أَبِي سَيَّارَةَ : إنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ لَمْ يُحْكَمْ بِخَطَأِ الْعِبَارَةِ فَإِنَّهُ أُسْلُوبٌ مُسْتَمِرٌّ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ .
وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ قَوْمَهُ كَانُوا يُؤَدُّونَ أَوْ أَنَّهُ مَعَ بَاقِي الْقَوْمِ كَانُوا يُؤَدُّونَ ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ هُنَا لَيْسَ بِصَوَابٍ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَيَّارَةَ ذِكْرُ الْقِرَبِ بَلْ مَا تَقَدَّمَ إنَّ لِي نَحْلًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَدِّ الْعُشُورَ } لَا لِمَا اسْتَبْعَدَهُ بِهِ .
فَالْحَاصِلُ : أَنَّ أَبَا سَيَّارَةَ الْمُتَعِيَّ ثَابِتٌ ، وَكَذَا بَنَى شَبَّابَةَ ، وَهُوَ الصَّوَابُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَالَ بَنِي سَيَّارَةَ لَا مُطْلَقًا ، فَارْجِعْ تَأَمَّلْ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَلَامِ الطَّوِيلِ حِينَئِذٍ .
[ فَرْعٌ ] اُخْتُلِفَ فِي الْمَنِّ إذَا سَقَطَ عَلَى الشَّوْكِ الْأَخْضَرِ : قِيلَ لَا يَجِبُ فِيهِ عُشْرٌ ، وَقِيلَ يَجِبُ ، وَلَوْ سَقَطَ عَلَى الْأَشْجَارِ لَا يَجِبُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا فِي قَصَبِ السُّكَّرِ ) قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : فِي قَصَبِ السُّكَّرِ الْعُشْرُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ .
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ مَا يَخْرُجُ مِنْ السُّكَّرِ أَنْ يَبْلُغَ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصَابُ السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ .
ا هـ .
وَهَذَا تَحَكُّمٌ بَلْ إذَا بَلَغَ قِيمَةُ نَفْسِ الْخَارِجِ مِنْ الْقَصَبِ قِيمَةَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ أَدْنَى مَا يُوسَقُ ، كَانَ ذَلِكَ نِصَابَ الْقَصَبِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَوْلُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصَابُ السُّكَّرِ خَمْسَةُ أَمْنَاءٍ يُرِيدُ فَإِذَا بَلَغَ الْقَصَبُ قَدْرًا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْسَةُ أَمْنَاءِ سُكَّرٍ وَجَبَ فِيهِ الْعُشْرُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَإِلَّا فَالسُّكَّرُ نَفْسُهُ
لَيْسَ مَالَ الزَّكَاةِ إلَّا إذَا أُعِدَّ لِلتِّجَارَةِ وَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا .
وَإِذًا فَالصَّوَابُ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ يَبْلُغَ الْقَصَبُ الْخَارِجُ خَمْسَةَ مَقَادِيرَ مِنْ أَعْلَى مَا يُقَدَّرُ بِهِ الْقَصَبُ نَفْسُهُ كَخَمْسَةِ أَطْنَانٍ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْفَرَقُ بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يُسَكِّنُونَهَا ، وَهُوَ مِكْيَالٌ مَعْرُوفٌ هُوَ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا .
وَقَالَ الْمُطَرِّزِيُّ : إنَّهُ لَمْ يَرَ تَقْدِيرَهُ بِسِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ فِيمَا عِنْدَهُ مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ .
( قَوْلُهُ : إنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ وَهُوَ الْخَارِجُ ) فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْأَرْضِ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ ، كَمَا إذَا أَجَّرَ الْعُشْرِيَّةَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ عَلَى الْمَالِكِ وَعِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَجِّرِ ، وَكَمَا إذَا اسْتَعَارَهَا وَزَرَعَ يَجِبُ الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ بِالِاتِّفَاقِ خِلَافًا لِزُفَرَ .
هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَعِيرُ مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذْ قَدْ ذَكَرْنَا هَاتَيْنِ فَلْنَذْكُرْ الْوَجْهَ تَتْمِيمًا لَهُمَا فِي الْأُولَى أَنَّ الْعُشْرَ مَنُوطٌ بِالْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا وَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ .
وَلَهُ أَنَّهَا كَمَا تُسْتَنْمَى بِالزِّرَاعَةِ تُسْتَنْمَى بِالْإِجَارَةِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَقْصُودَةً كَالثَّمَرَةِ فَكَانَ النَّمَاءُ لَهُ مَعْنًى مَعَ مِلْكِهِ فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ .
وَلِزُفَرَ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ السَّبَبَ مِلْكُهَا وَالنَّمَاءُ لَهُ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْمُسْتَعِيرَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الِاسْتِنْمَاءِ فَكَانَ كَالْمُؤَجِّرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ قَامَ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِنْمَاءِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْعُشْرِ ، بِخِلَافِ الْمُؤَجِّرِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضُ مَنَافِعِ أَرْضِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى زَرْعًا وَتَرَكَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَأَدْرَكَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
عُشْرُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ عُشْرُ قِيمَةِ الْقَصِيلِ عَلَى الْبَائِعِ وَالْبَاقِي عَلَى الْمُشْتَرِي .
لَهُ أَنَّ بَدَلَ الْقَصِيلِ حَصَلَ لِلْبَائِعِ فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهُ وَقَصْلَهُ كَانَ عُشْرُهُ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي فَعُشْرُهُ عَلَيْهِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْعُشْرَ وَاجِبٌ فِي الْحَبِّ وَقَدْ حَصَلَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ فِي الْقَصِيلِ لَوْ قَصَلَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ هُوَ الْمُسْتَنْمَى بِهِ فَلَمَّا لَمْ يُقْصَلْ كَانَ الْمُسْتَنْمَى بِهِ الْحَبَّ فَفِيهِ الْعُشْرُ ، وَلَوْ غَصَبَ أَرْضًا عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا إنْ نَقَصَتْهَا الزِّرَاعَةُ كَانَ الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ ضَمَانَ نُقْصَانِهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ نَمَائِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُؤَجِّرِ ، وَإِنْ لَمْ تَنْقُصْهَا الزِّرَاعَةُ فَعَلَى الْغَاصِبِ فِي زَرْعِهِ .
وَلَوْ زَارَعَ بِالْعُشْرِيَّةِ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الْعَامِلِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْعُشْرُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ وَعِنْدَهُمَا يَكُونُ فِي الزَّرْعِ كَالْإِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ فَهُوَ رَبُّ الْأَرْضِ فِي قَوْلِهِمْ .
قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ ) ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ فَلَا مَعْنَى لِرَفْعِهَا .
( قَوْلُهُ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ مِمَّا فِيهِ الْعُشْرُ أَوْ نِصْفُهُ كَيْ لَا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ قَيْدٌ مُعْتَبَرٌ .
( قَوْلُهُ لَا يُحْتَسَبُ فِيهِ أَجْرُ الْعُمَّالِ وَنَفَقَةُ الْبَقَرِ ) وَكَرْيُ الْأَنْهَارِ وَأُجْرَةُ الْحَارِسِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، يَعْنِي لَا يُقَالُ بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعُشْرِ فِي قَدْرِ الْخَارِجِ الَّذِي بِمُقَابَلَةِ الْمُؤْنَةِ بَلْ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْكُلِّ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : يَجِبُ النَّظَرُ إلَى قَدْرِ قِيَمِ الْمُؤْنَةِ فَيُسَلَّمُ لَهُ بِلَا عُشْرٍ ثُمَّ يُعْشَرُ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُؤْنَةِ بِمَنْزِلَةِ السَّالِمِ بِعِوَضٍ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ سُلِّمَ لَهُ قَدْرُ مَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ وَطَابَ لَهُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ .
وَلَنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِيمَا سُقِيَ سَيْحًا } إلَخْ حُكْمٌ بِتَفَاوُتِ الْوَاجِبِ لِتَفَاوُتِ الْمُؤْنَةِ ، فَلَوْ رُفِعَتْ الْمُؤْنَةُ كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا وَهُوَ الْعُشْرُ دَائِمًا فِي الْبَاقِي لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ إلَى نِصْفِهِ إلَّا لِلْمُؤْنَةِ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ رَفْعِ قَدْرِ الْمُؤْنَةِ لَا مُؤْنَةَ فِيهِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ دَائِمًا الْعُشْرَ ، لَكِنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَفَاوَتَ شَرْعًا مَرَّةً الْعُشْرُ وَمَرَّةً نِصْفُهُ بِسَبَبِ الْمُؤْنَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا عَدَمُ عَشْرِ بَعْضِ الْخَارِجِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُسَاوِي لِلْمُؤْنَةِ أَصْلًا .
وَفِي النِّهَايَةِ مَا حَاصِلُهُ وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى اتِّحَادِ الْوَاجِبِ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُؤْنَةِ وَاللَّازِمُ مُنْتَفٍ شَرْعًا فَيَنْتَفِي مَلْزُومُهُ ، وَهُوَ عَدَمُ تَعْشِيرِ الْبَعْضِ الْمُسَاوِي لِقَدْرِ الْمُؤْنَةِ .
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْخَارِجَ مَثَلًا أَرْبَعُونَ قَفِيزًا فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَاسْتُحِقَّ قِيمَةُ قَفِيزَيْنِ لِلْعُمَّالِ وَالثِّيرَانِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَى قَوْلِ الْعَامَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْفِزَةٍ اعْتِبَارُ الْمَجْمُوعِ الْخَارِجِ ، وَعَلَى قَوْلِ
أُولَئِكَ قَفِيزَانِ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ الْمُؤْنَةَ مِنْ الْخَارِجِ لَا يَجِبُ فِي قَدْرِ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَلَوْ فُرِضَ إخْرَاجُ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا فِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ أَوْ غَرْبٍ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ قَفِيزَانِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَلْزَمُ اتِّحَادُ الْوَاجِبِ فِيمَا سُقِيَ بِغَرْبٍ ، وَفِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهُوَ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَعْنَى الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يُقَابِلُ الْمُؤْنَةَ لَا يُعْشَرُ وَيُعْشَرُ الْبَاقِي ، فَيُعْشَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَهَا فِي النِّهَايَةِ أَوَّلًا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ قَفِيزًا لِأَنَّ الْقَفِيزَيْنِ الْأَخِيرِينَ اُسْتُغْرِقَا فِي الْمُؤْنَةِ فَلَا يُعْشَرَانِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ إلَّا خُمُسَ قَفِيزٍ ، وَهَذَا التَّصْوِيرُ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ يُفِيدُ أَنَّهُ يُرْفَعُ قَدْرُ الْمُؤْنَةِ وَهُوَ الْقَفِيزَانِ مِنْ نَفْسِ عُشْرِ جَمِيعِ الْخَارِجِ حَتَّى يَصِيرَ الْوَاجِبُ قَفِيزَيْنِ ، فَأَسْقَطُوا عُشْرَ عِشْرِينَ قَفِيزًا ، وَلَيْسَ هَذَا هُوَ مَعْنَى الْمَنْقُولِ عَنْهُمْ ، نَعَمْ إنْ كَانَ قَوْلُهُمْ فِي الْوَاقِعِ هُوَ هَذَا فَذَلِكَ دَفْعُهُ وَإِلَّا فَلَا وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَالتَّصْوِيرُ الصَّحِيحُ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي فَرَضَهَا أَنْ تَسْتَغْرِقَ الْمُؤْنَةُ عِشْرِينَ قَفِيزًا
قَالَ ( تَغْلِبِيٌّ لَهُ أَرْضٌ عُشْرٍ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا ) عُرِفَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ فِيمَا اشْتَرَاهُ التَّغْلِبِيُّ مِنْ الْمُسْلِمِ عُشْرًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ عِنْدَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ ( فَإِنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ذِمِّيٌّ فَهِيَ عَلَى حَالِهَا عِنْدَهُمْ ) لِجَوَازِ التَّضْعِيفِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ ( وَكَذَا إذَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ أَوْ أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا أَوْ حَادِثًا ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةً لَهَا .
فَتَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ بِمَا فِيهَا كَالْخَرَاجِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَعُودُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ ) لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا صَحَّ عَنْهُ : قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَقَاءِ التَّضْعِيفِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي الْأَصْلِيِّ ؛ لِأَنَّ التَّضْعِيفَ الْحَادِثَ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَغَيُّرِ الْوَظِيفَةِ
( قَوْلُهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَخْ ) ضَبْطُ هَذَا الْفَصْلِ عَلَى تَمَامِهِ أَنَّ الْأَرْضَ إمَّا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَضْعِيفِيَّةً ، وَالْمُشْتَرُونَ مُسْلِمٌ وَذِمِّيٌّ وَتَغْلِبِيٌّ فَالْمُسْلِمُ إذَا اشْتَرَى الْعُشْرِيَّةَ أَوْ الْخَرَاجِيَّةَ بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا ، أَوْ تَضْعِيفِيَّةً فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ التَّضْعِيفُ أَصْلِيًّا بِأَنْ كَانَتْ مِنْ أَرَاضِي بَنِي تَغْلِبَ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ حَادِثًا اسْتَحْدَثُوا مِلْكَهَا فَضُعِّفَتْ عَلَيْهِمْ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَرْجِعُ إلَى عُشْرٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ الدَّاعِي إلَى التَّضْعِيفِ وَهُوَ الْكُفْرُ مَعَ التَّغْلِبِيَّةِ ، وَقِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ خُمُسًا مِنْ سَائِمَةِ إبِلِ التَّغْلِبِيِّ فَإِنَّهَا تَرْجِعُ إلَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ اتِّفَاقًا .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصَحِّ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى قَوْلُهُ فِي التَّضْعِيفِ الْحَادِثِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّضْعِيفَ صَارَ وَظِيفَةَ الْأَرْضِ فَلَا يَتَبَدَّلُ إلَّا فِي صُورَةٍ يَخُصُّهَا دَلِيلٌ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ اشْتَرَى الْمُسْلِمُ الْخَرَاجِيَّةَ حَيْثُ تَبْقَى خَرَاجِيَّةً ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِالْخَرَاجِ .
وَقَوْلُهُ : زَالَ الْمَدَارُ ، وَهُوَ الْكُفْرُ .
قُلْنَا : هَذَا مَدَارُ ثُبُوتِهِ ابْتِدَاءً ، وَحُكْمُ الشَّرْعِيِّ يُسْتَغْنَى عَنْ قِيَامِ عِلَّتِهِ الشَّرْعِيَّةِ فِي بَقَائِهِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا فِي ابْتِدَائِهِ كَالرِّقِّ أَثَرَ الْكُفْرِ ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ ، بِخِلَافِ سَائِمَتِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي السَّائِمَةِ لَيْسَتْ وَظِيفَةً مُتَقَرِّرَةً فِيهَا ، وَلِهَذَا تَنْتَفِي بِجَعْلِهَا عَلُوفَةً وَبِكَوْنِهَا لِغَيْرِ التَّغْلِبِيِّ بِخِلَافِ الْأَرَاضِيِ ، وَتَقْيِيدُنَا بِالشَّرْعِيِّ فِي الْحُكْمِ وَالْعِلَّةِ لِإِخْرَاجِ الْعَقْلِيِّ ، فَإِنَّهُ يَفْتَقِرُ فِي بَقَائِهِ إلَى عِلَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ ، وَسَتَظْهَرُ فَائِدَةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَعَلَى
هَذَا الْخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ التَّغْلِبِيُّ وَلَهُ أَرْضٌ تَضْعِيفِيَّةٌ ، وَإِذَا اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ الْخَرَاجِيَّةَ بَقِيَتْ خَرَاجِيَّتُهُ ، أَوْ التَّضْعِيفِيَّةَ فَهِيَ تَضْعِيفِيَّةٌ ، أَوْ الْعُشْرِيَّةَ مِنْ مُسْلِمٍ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لَهُ أَنَّ الْوَظِيفَةَ بَعْدَ مَا قُرِّرَتْ فِي الْأَرْضِ لَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْمَالِكِ عَلَى مَا عُلِمَ فِيمَا إذَا اشْتَرَى التَّغْلِبِيُّ خَرَاجِيَّةً لَا يُضَعَّفُ الْخَرَاجُ .
وَلَهُمَا أَنَّ فِي هَذِهِ دَلِيلًا يَخُصُّهَا يَقْتَضِي تَغَيُّرَهَا وَهُوَ وُقُوعُ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَوَجَبَ تَضْعِيفُ الْعُشْرِ دُونَ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ .
فَإِنْ قِيلَ : الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى أَنْ يُضَعَّفَ عَلَيْهِمْ مَا يَأْخُذُهُ بَعْضُنَا مِنْ بَعْضٍ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِقَيْدِ كَوْنِهِ مِمَّا يَبْتَدِئُ بِهِ الْمُسْلِمُ .
فَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ تُوجِدُوا فِيهِ دَلِيلًا ، وَهَذَا مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْبَابِ لِأَنَّ الصُّلْحَ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ .
قُلْنَا سَوْقُ الصُّلْحِ وَهُوَ الْأَنَفَةُ مِنْ إعْطَائِهِمْ الْجِزْيَةَ لِمَا فِيهَا مِنْ الصَّغَارِ يُفِيدُ أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُمْ بِهِ مَا أَنِفُوا مِنْهُ فَيُقَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا ، إذًا ابْتِدَاءُ الْخَرَاجِ ذُلٌّ وَصَغَارٌ وَلِهَذَا لَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِهِ ،
( وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ لِمُسْلِمٍ بَاعَهَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ ) يُرِيدُ بِهِ ذِمِّيًّا غَيْرَ تَغْلِبِيٍّ ( وَقَبَضَهَا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُشْرُ مُضَاعَفًا ) وَيُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ اعْتِبَارًا بِالتَّغْلِبِيِّ وَهَذَا أَهْوَنُ مِنْ التَّبْدِيلِ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
هِيَ عُشْرِيَّةٌ عَلَى حَالِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤْنَةً لَهَا فَلَا يَتَبَدَّلُ كَالْخَرَاجِ ، ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ : يُصْرَفُ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْخَرَاجِ ( فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ بِالشُّفْعَةِ أَوْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ لِفَسَادِ الْبَيْعِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ كَمَا كَانَتْ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِتَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ إلَى الشَّفِيعِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِحُكْمِ الْفَسَادِ جَعَلَ الْبَيْعَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِ لَمْ يَنْقَطِعْ بِهَذَا الشِّرَاءِ لِكَوْنِهِ مُسْتَحِقَّ الرَّدِّ ( وَإِذَا كَانَتْ لِمُسْلِمٍ دَارُ خُطَّةٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْعُشْرُ ) مَعْنَاهُ إذَا سَقَاهُ بِمَاءِ الْعُشْرِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُسْقَى بِمَاءِ الْخَرَاجِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ فِي مِثْلِ هَذَا تَدُورُ مَعَ الْمَاءِ
وَإِذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ غَيْرُ تَغْلِبِيٍّ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَضْعِيفِيَّةً بَقِيَتْ عَلَى حَالِهَا ، وَلَوْ اشْتَرَى عُشْرِيَّةً مِنْ مُسْلِمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً إنْ اسْتَقَرَّتْ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَسْتَقِرَّ بَلْ رُدَّتْ عَلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ اسْتَحَقَّهَا مُسْلِمٌ بِشُفْعَتِهِ عَادَتْ عُشْرِيَّةً وَلَوْ بَعْدَ وَضْعِ الْخَرَاجِ لِأَنَّ هَذَا الرَّدَّ فَسْخٌ فَيُجْعَلُ الْبَيْعُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ الشَّفِيعِ الصَّفْقَةُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ الْفَسْخِ ، وَأَمَّا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ وَهُوَ بَيْعٌ فِي حَقِّ غَيْرِهَا فَصَارَ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ مِنْ الذِّمِّيِّ بَعْدَ مَا صَارَتْ خَرَاجِيَّةً فَتَصِيرُ عَلَى حَالِهَا ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ ، كَمَا إذَا أَسْلَمَ هُوَ وَاشْتَرَاهَا مِنْهُ مُسْلِمٌ آخَرُ ، وَفِي نَوَادِرِ : ( زَكَاةِ ) الْمَبْسُوطِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَيْبٌ حَدَثَ فِيهَا فِي مِلْكِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي النَّوَادِرِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ بِالرَّدِّ بِالْقَضَاءِ لِلْمَانِعِ فَمَنْعُهُ بِأَنَّهُ مَانِعٌ يَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ ، وَهَذَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الرَّدَّ بِالتَّرَاضِي إقَالَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ لِلْعَيْبِ .
هَذَا التَّفْرِيعُ كُلُّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِصَيْرُورَتِهَا خَرَاجِيَّةً ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُضَاعَفُ عَلَيْهِ عُشْرُهَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هِيَ عَلَى حَالِهَا عُشْرِيَّةً .
ثُمَّ فِي رِوَايَةٍ : تُصْرَفُ مَصَارِفَ الْعُشْرِ ، وَفِي أُخْرَى : مَصَارِفَ الْخَرَاجِ ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ تَبْقِيَتِهَا عَلَى مِلْكِهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا تَبْقَى بَلْ يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ : لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ
أَصْلًا كَقَوْلِهِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا وَفِي قَوْلٍ : يُؤْخَذُ مِنْهُ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ مَعًا .
وَعَنْ شَرِيكٍ : لَا شَيْءَ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى السَّوَائِمِ إذَا اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الْعُشْرِ وَمَالُ الْكَافِرِ لَا يَصْلُحُ لَهُ ، فَالْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ يَسْتَلْزِمُ الْمُمْتَنِعَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْعُشْرَ كَانَ وَظِيفَتَهَا فَتَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِمَا فِيهَا ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يُوَظَّفَ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ لِمَا نَذْكُرُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَجِبَانِ عَلَيْهِ جَمِيعًا .
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ مَالَهُ لَا يَصْلُحُ لِلْعُشْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَغْيِيرُهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ فِيهَا فَيَجِبُ إجْبَارُهُ عَلَى إخْرَاجِهَا عَنْ مِلْكِهِ إبْقَاءً لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ تَابِعٌ فَيُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ قِيَاسًا عَلَى الْخَرَاجِ لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهِ تَابِعًا أُلْغِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ بَقَاءً .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَضْعِيفَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِبَلَهُ فَعَلِمَ أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمُسْلِمِ إذَا ثَبَتَ أَخْذُهُ مِنْ الذِّمِّيِّ يُضَعَّفُ عَلَيْهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّضْعِيفُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحُكْمِ الصُّلْحِ أَوْ التَّرَاضِي كَمَا فِي التَّغْلِبِيِّينَ ، وَتَعَذَّرَ الْعُشْرُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَإِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ تَابِعًا فَإِنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِشَيْءٍ مِنْهَا ، وَالْأَرْضُ لَا تَخْلُو عَنْ وَظِيفَةٍ مُقَرَّرَةٍ فِيهَا شَرْعًا بِخِلَافِ السَّائِمَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَبِهِ يَنْتَفِي قَوْلُ شَرِيكٍ فَتَعَيَّنَ الْخَرَاجُ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ الْكَافِرِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا مِمَّا مَنَعَ بَقَاءَ
الْوَظِيفَةِ فِيهِ مَانِعٌ فَيَنْدَرِجُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ السَّابِقُ .
هَذَا ثُمَّ إلَى الْآنَ لَمْ يَحْصُلْ جَوَابُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ التَّغْيِيرَ إبْطَالٌ لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ فَلَا يَجُوزُ وَالتَّضْعِيفُ أَيْضًا إبْطَالٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَصْرِفَ الْعُشْرِ الْمُضَاعَفِ مَصَارِفُ الْجِزْيَةِ ، وَإِبْقَاءُ حَقِّهِمْ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّ مَالَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لَهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إحْدَى الْوَظَائِفِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا إخْلَاؤُهَا مُطْلَقًا وَجَبَ إجْبَارُهُ عَلَى إخْرَاجِهَا ، كَمَا إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ عَبْدًا مُسْلِمًا عِنْدَنَا يَصِحُّ ، وَيُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ .
فَإِنْ قُلْت : فَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ حِينَئِذٍ أَوَّلٌ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَتْ الْوَظَائِفُ وَالْإِخْلَاءُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَبْقَى فَلَا فَائِدَةَ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ ثُمَّ الْإِجْبَارُ عَلَى الْإِخْرَاجِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ نَفْيَ الْفَائِدَةِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ إذْ قَدْ يَسْتَتْبِعُ فَائِدَةَ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ أَوْ قَصْدَ الْهِبَةِ فِي أَغْرَاضٍ كَثِيرَةٍ فَيَجِبُ التَّصْحِيحُ .
( قَوْلُهُ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا ) قَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهَا بُسْتَانًا وَفِيهَا نَخْلٌ تَغُلُّ أَكْرَارًا لَا شَيْءَ فِيهَا .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ تَدُورُ فِي مِثْلِهِ مَعَ الْمَاءِ ) ، فَإِذَا كَانَ الْمَاءُ خَرَاجِيًّا فَفِيهَا الْخَرَاجُ وَإِنْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فِي الْأَصْلِ سَقَطَ عُشْرُهَا بِاخْتِطَاطِهَا دَارًا ، وَإِنْ سُقِيَتْ بِمَاءِ الْعُشْرِ فَهِيَ عُشْرِيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ خَرَاجِيَّةً سَقَطَ خَرَاجُهَا بِالِاخْتِطَاطِ أَيْضًا ، فَالْوَظِيفَةُ فِي حَقِّهِ تَابِعَةٌ لِلْمَاءِ ، وَلَيْسَ فِي جَعْلِهَا خَرَاجِيَّةً إذَا سُقِيَتْ بِمَاءِ الْخَرَاجِ ابْتِدَاءً تَوْظِيفُ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَمَا ظَنَّهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّيْخُ حُسَامُ الدِّينِ السِّغْنَاقِيُّ فِي النِّهَايَةِ ، وَأَيَّدَ عَدَمَ امْتِنَاعِهِ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو الْيُسْرِ مِنْ أَنَّ ضَرْبَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُسْلِمِ ابْتِدَاءً جَائِزٌ ، وَقَوْلُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ لَا صَغَارَ فِي
خَرَاجِ الْأَرَاضِيِ إنَّمَا الصَّغَارُ فِي خَرَاجِ الْجَمَاجِمِ بَلْ إنَّمَا هُوَ انْتِقَالُ مَا تَقَرَّرَ فِيهِ الْخَرَاجُ بِوَظِيفَتِهِ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَاءُ فَإِنَّ فِيهِ وَظِيفَةَ الْخَرَاجِ ، فَإِذَا سُقِيَ بِهِ انْتَقَلَ هُوَ بِوَظِيفَتِهِ إلَى أَرْضِ الْمُسْلِمِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى خَرَاجِيَّةً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَاتِلَةَ هُمْ الَّذِينَ حَمَوْا هَذَا الْمَاءَ فَثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَحَقُّهُمْ هُوَ الْخَرَاجُ ، فَإِذَا سَقَى بِهِ مُسْلِمٌ أُخِذَ مِنْهُ حَقُّهُمْ ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِمْ فِي الْأَرْضِ أَعَنَى خَرَاجَهَا لِحِمَايَتِهِمْ إيَّاهَا يُوجِبُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَصَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي أَبْوَابِ السِّيَرِ مِنْ الزِّيَادَاتِ : بِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ وَحَمَلَهُ السَّرَخْسِيُّ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُبَاشِرْ سَبَبَ ابْتِدَائِهِ بِذَلِكَ لِيَخْرُجَ هَذَا الْمَوْضِعُ ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْهُ .
وَقَوْلُهُ الْوَظِيفَةُ فِي مِثْلِهِ أَيْ فِيمَا هُوَ ابْتِدَاءُ تَوْظِيفٍ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ هَذَا وَمِنْ الْأَرْضِ الَّتِي أَحْيَاهَا لَا كُلِّ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ أَمْرُهُ فِي وَظِيفَةٍ كَمَا فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ جَعَلَ دَارَ خُطَّتِهِ بُسْتَانًا أَوْ أَحْيَا أَرْضًا أَوْ رَضَخَتْ لَهُ لِشُهُودِهِ الْقِتَالَ كَانَ فِيهَا الْخَرَاجُ وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
( وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ فِي دَارِهِ شَيْءٌ ) لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا ( وَإِنْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ ) وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْعُشْرِ إذْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَتَعَيَّنُ الْخَرَاجُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ تَلِيقُ بِحَالِهِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَجِبُ الْعُشْرُ فِي الْمَاءِ الْعُشْرِيِّ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عُشْرًا وَاحِدًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عُشْرَانِ وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِيهِ ، ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِيُّ مَاءُ السَّمَاءِ وَالْآبَارِ وَالْعُيُونِ وَالْبِحَارِ الَّتِي لَا تَدْخُلُ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ ، وَالْمَاءُ الْخَرَاجِيُّ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّهَا الْأَعَاجِمُ ، وَمَاءُ جَيْحُونَ وَسَيْحُونَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ عُشْرِيٌّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْمِيهَا أَحَدٌ كَالْبِحَارِ ، وَخَرَاجِيٌّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَّخِذُ عَلَيْهَا الْقَنَاطِرَ مِنْ السُّفُنِ وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا ( وَفِي أَرْضِ الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ التَّغْلِبِيَّيْنِ مَا فِي أَرْضِ الرَّجُلِ التَّغْلِبِيِّ ) يَعْنِي الْعُشْرَ الْمُضَاعَفَ فِي الْعُشْرِيَّةِ وَالْخَرَاجَ الْوَاحِدَ فِي الْخَرَاجِيَّةِ ، لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ جَرَى عَلَى تَضْعِيفِ الصَّدَقَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ الْمَحْضَةِ ، ثُمَّ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ إذَا كَانَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْعُشْرُ فَيُضَعَّفُ ذَلِكَ إذَا كَانَا مِنْهُمْ قَالَ : ( وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْقِيرِ وَالنَّفْطِ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَنْزَالِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا هُوَ عَيْنٌ فَوَّارَةٌ كَعَيْنِ الْمَاءِ ( وَعَلَيْهِ فِي أَرْضِ الْخَرَاجِ خَرَاجٌ ) وَهَذَا ( إذَا كَانَ حَرِيمُهُ صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَتَعَلَّقُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى الْمَجُوسِيِّ ) قَيَّدَ بِهِ لِيُفِيدَ النَّفْيَ فِي غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ الْمَجُوسَ أَبْعَدُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ حُرْمَةِ مُنَاكَحَتِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْمَسَاكِنَ عَفْوًا ) هَكَذَا هُوَ مَأْثُورٌ فِي الْقَصَصِ وَكُتُبِ الْآثَارِ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ لِأَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ عَلَى الْأَرْضِينَ الَّتِي تَغُلُّ وَاَلَّتِي تَصْلُحُ لِلْغَلَّةِ مِنْ الْعَامِرَةِ ، وَعَطَّلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَسَاكِنَ وَالدُّورَ الَّتِي هِيَ مَنَازِلُهُمْ وَتَوَارَثَهُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ سَنَدٍ ، وَحَكَى عَلَيْهِ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ ) لِأَنَّ الْعُشْرَ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْكُفْرُ يُنَافِيهِ .
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : فِيمَا إذَا اتَّخَذَ الذِّمِّيُّ دَارِهِ بُسْتَانًا أَوْ رَضَخَتْ لَهُ أَرْضٌ أَوْ أَحْيَاهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ ، وَإِنْ سَقَاهَا بِمَاءِ الْعُشْرِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِمَا الْعُشْرُ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا سَقَى دَارِهِ الَّذِي جَعَلَهَا بُسْتَانًا بِمَاءِ الْخَرَاجِ حَيْثُ يَجِبُ الْخَرَاجُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ قَالُوا : يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهَا عُشْرَانِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عُشْرٌ وَاحِدٌ كَمَا مَرَّ مِنْ أَصْلِهِمَا ثُمَّ نَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَرْضٍ اسْتَقَرَّ فِيهَا الْعُشْرُ .
وَصَارَ وَظِيفَةً لَهَا بِأَنْ كَانَتْ فِي يَدِ مُسْلِمٍ ا هـ .
وَقَدْ قَرَّرَ هُوَ ثُبُوتَ الْوَظِيفَةِ فِي الْمَاءِ وَهُوَ حَقٌّ وَعَلَى هَذَا فَلَا يُدْفَعُ مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ بِمَا أَوْرَدَهُ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ الْمَاءُ الْعُشْرِي مَاءُ السَّمَاءِ ) وَالْعُيُونُ وَالْبِحَارُ الَّتِي لَا يَتَحَقَّقُ وُرُودُ يَدِ أَحَدٍ عَلَيْهَا ، وَمَاءُ الْخَرَاجِ مَاءُ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ كَنَهْرِ الْمَلِكِ وَنَهْرِ يَزْدَجْرِدَ ، وَاخْتَلَفُوا فِي
سَيَحُونَ نَهْرِ التُّرْكِ وَجَيْحُونَ نَهْرِ تِرْمِذَ وَدِجْلَةَ نَهْرِ بَغْدَادَ وَالْفُرَاتِ نَهْرِ الْكُوفَةِ هَلْ هِيَ خَرَاجِيَّةٌ أَوْ لَا عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ هَلْ يَرُدُّ عَلَيْهَا يَدَ أَحَدٍ أَوْ لَا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ نَعَمْ ، فَإِنَّ السُّفُنَ يُشَدُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى تَصِيرَ جِسْرًا يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالْقَنْطَرَةِ ، وَهَذَا يَدٌ عَلَيْهَا فَهِيَ خَرَاجِيَّةٌ .
قِيلَ : مَا ذُكِرَ فِي مَاءِ الْخَرَاجِ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ مَاءَ الْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْكَفَرَةُ كَانَ لَهُمْ يَدٌ عَلَيْهَا ثُمَّ حَوَيْنَاهَا قَهْرًا وَقَرَرْنَا يَدَ أَهْلِهَا عَلَيْهَا كَأَرَاضِيِهِمْ ، وَأَمَّا فِي مَاءِ الْعُشْرِ فَلَيْسَ بِظَاهِرِ فَإِنَّ الْآبَارَ وَالْعُيُونَ الَّتِي فِي دَارِ الْحَرْبِ وَحَوَيْنَاهَا قَهْرًا خَرَاجِيَّةٌ ، صَرَّحُوا بِذَلِكَ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ وَعَلَّلُوا الْعُشْرِيَّةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهَا فَلَمْ تَكُنْ غَنِيمَةً وَلَا يَتِمُّ هَذَا إلَّا فِي الْبِحَارِ وَالْأَمْطَارِ ، ثُمَّ قَالُوا فِي مَائِهِمَا : لَوْ سَقَى كَافِرٌ بِهِمَا أَرْضَهُ يَكُونُ فِيهَا الْخَرَاجُ بَلْ الْبِحَارُ أَيْضًا خَرَاجِيَّةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَاءُ الْمَطَرِ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْكَافِرَ إذَا سَقَى بِهِ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَرْضٍ عُشْرِيَّةٍ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ الَّتِي كَانَتْ حِينَ كَانَتْ الْأَرْضُ دَارَ حَرْبٍ خَرَاجِيَّةً لَا يَنْفِي الْعُشْرِيَّةَ فِي كُلِّ عَيْنٍ وَبِئْرٍ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْآبَارِ وَالْعُيُونِ احْتَفَرَهَا الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْأَرْضِ دَارَ إسْلَامٍ ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ التَّعْمِيمُ فَإِنَّ مَا نَرَاهُ مِنْهَا الْآنَ إمَّا مَعْلُومُ الْحُدُوثِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ، وَإِمَّا مَجْهُولُ الْحَالِ ، أَمَّا ثُبُوتُ مَعْلُومِيَّةِ أَنَّهُ جَاهِلِيٌّ فَمُتَعَذِّرٌ ، إذْ أَكْثَرُ مَا كَانَ مِنْ فِعْلِهِمْ قَدْ دُثِرَ وَسَفَتْهُ الرِّيَاحُ
وَلَمْ يَبْقَ مِنْ ثُبُوتِ ذَلِكَ إلَّا قَوْلُ الْعَوَامّ غَيْرَ مُسْتَنِدِينَ فِيهِ إلَى نَبْتٍ فَيَجِبُ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَا نَرَاهُ بِأَنَّهُ إسْلَامِيٌّ إضَافَةً لِلْحَادِثِ إلَى أَقْرَبِ وَقْتَيْهِ الْمُمَكَّنَيْنِ وَيَكُونُ ظُهُورُ الْقِسْمَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى سَقْي الْمُسْلِمِ مَا لَمْ تَسْبِقْ فِيهِ وَظِيفَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ فِي عَيْنِ الْقِيرِ ) هُوَ الزِّفْتُ وَيُقَالُ الْقَارُ ، وَالنَّفْطُ دُهْنٌ يَعْلُو الْمَاءَ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ حَرِيمُهَا صَالِحًا لِلزِّرَاعَةِ ) ثُمَّ يَمْسَحُ مَوْضِعَ الْقِيرِ فِي رِوَايَةٍ تَبَعًا ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ .
[ فَرْعٌ ] لَا يُجْمَعُ عَلَى مَالِكِ أَرْضٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ لِمَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُجْمَعُ عَلَى مُسْلِمٍ عُشْرٌ وَخَرَاجٌ فِي أَرْضٍ } وَلِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ إذْ قَدْ فَتَحُوا السَّوَادَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ قَطُّ جَمْعُهَا عَلَى مَالِكٍ
( بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } الْآيَةَ .
فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَصْنَافٍ ، وَقَدْ سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعَزّ الْإِسْلَامَ وَأَغْنَى عَنْهُمْ ) وَعَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ
( بَابُ مَنْ يَجُوزُ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ ) قَوْلُهُ الْأَصْلُ فِيهِ ) أَيْ فِيمَنْ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ وَمَنْ لَا قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ فَمَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَصْنَافِ كَانَ مَصْرِفًا وَمَنْ لَا فَلَا لِأَنَّ إنَّمَا تُفِيدُ الْحَصْرَ فَيَثْبُتُ النَّفْيُ عَنْ غَيْرِهِمْ .
( قَوْلُهُ : سَقَطَ مِنْهَا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ) كَانُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ كُفَّارٌ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُعْطِيهِمْ لِيَتَأَلَّفَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَقِسْمٌ كَانَ يُعْطِيهِمْ لِيَدْفَعَ شَرَّهُمْ ، وَقِسْمٌ أَسْلَمُوا وَفِيهِمْ ضَعِيفٌ فِي الْإِسْلَامِ .
فَكَانَ يَتَأَلَّفُهُمْ لِيَثْبُتُوا ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إيرَادِ السُّؤَالِ الْقَائِلِ كَيْفَ يَجُوزُ صَرْفُ الصَّدَقَةِ إلَى الْكُفَّارِ ، وَجَوَابُهُ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ جِهَادِ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مِنْ الْجِهَادِ لِأَنَّهُ تَارَةً بِالسِّنَانِ ، وَمَرَّةً بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الَّذِي إلَيْهِ نُصِبَ الشَّرْعُ إذَا نَصَّ عَلَى الصَّرْفِ إلَيْهِمْ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ هُمْ بِالْإِعْطَاءِ كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ وَالْأَسْئِلَةُ عَلَى مَا يُجْتَهَدُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ نُبُوٍّ عَنْ الْمَنْصُوصِ أَوْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي تُعْطِيهَا الْعُمُومَاتُ حَتَّى يُجَابَ بِمَا يُفِيدُ إدْرَاجَهَا فِي نُصُوصِ الشَّارِعِ أَوْ قَوَاعِدِهِ الْمُفَادَةُ بِالْعُمُومَاتِ أَوْ بِاللَّوَازِمِ لِأَحَدِهِمَا فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ نَفْسُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قُلْت : السُّؤَالُ مَعْنَاهُ طَلَبُ حِكْمَةِ الْمَشْرُوعِ الْمَنْصُوصِ .
قُلْنَا : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ جَوَابُهُ بِنَفْسِ مَا عَلَّلْنَا بِهِ إعْطَاءَ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لَا بِمَا أَجَابُوا بِهِ فَتَأَمَّلْ مُسْتَعِينًا .
ثُمَّ رَوَى الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ { يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ سُفْيَانُ بْنُ حَرْبٍ ، وَمِنْ بَنَى مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ،
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَمِنْ فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ ، وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ ، وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ ، وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ ، وَمِنْ ثَقِيفٍ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةَ نَاقَةٍ إلَّا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَرْبُوعٍ ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى ، فَإِنَّهُ أَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمَا خَمْسِينَ } وَأَسْنَدَ أَيْضًا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حِينَ جَاءَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } يَعْنِي لَيْسَ الْيَوْمَ مُؤَلَّفَةٌ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ إنَّمَا كَانَتْ الْمُؤَلَّفَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا وُلِّيَ أَبُو بَكْرٍ انْقَطَعَتْ .
( قَوْلُهُ عَلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ ) أَيْ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَدَّهُمْ ، وَقَالَ مَا ذَكَرْنَا لِعُيَيْنَةَ وَقِيلَ جَاءَ عُيَيْنَةُ وَالْأَقْرَعُ يَطْلُبَانِ أَرْضًا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَكَتَبَ لَهُ الْخَطَّ ، فَمَزَّقَهُ عُمَرُ وَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيكُمُوهُ لِيَتَأَلَّفَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَالْآنَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَأُغْنِيَ عَنْكُمْ ، فَإِنْ ثُبْتُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَإِلَّا فَبَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ السَّيْفُ ، فَرَجَعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا : الْخَلِيفَةُ أَنْتَ أَمْ عُمَرُ ؟ فَقَالَ : هُوَ إنْ شَاءَ ، وَوَافَقَهُ فَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ مَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِإِثَارَةِ الثَّائِرَةِ أَوْ ارْتِدَادِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ
فَلَوْلَا اتِّفَاقُ عَقَائِدِهِمْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَأَنَّ مَفْسَدَةَ مُخَالَفَتِهِ أَكْثَرُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْمُتَوَقَّعَةِ لَبَادَرُوا لِإِنْكَارِهِ نَعَمْ يَجِبُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا إجْمَاعَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدِ عِلْمِهِمْ بِدَلِيلٍ أَفَادَ نَسْخَ ذَلِكَ قَبْلَ وَفَاتِهِ أَوْ أَفَادَ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِحَيَّاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ عَلَى كَوْنِهِ حُكْمًا مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ ، ، وَقَدْ اتَّفَقَ انْتِهَاؤُهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ أَوْ مِنْ آخِرِ عَطَاءٍ أَعْطَاهُمُوهُ حَالَ حَيَاتِهِ أَمَّا مُجَرَّدُ تَعْلِيلِهِ بِكَوْنِهِ مُعَلَّلًا بِعِلَّةٍ انْتَهَتْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا يُعْتَمَدُ فِي نَفْيِ الْحُكْمِ الْمُعَلَّلِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَرِيبٍ فِي مَسَائِلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَحْتَاجُ فِي بَقَائِهِ إلَى بَقَاءِ عِلَّتِهِ لِثُبُوتِ اسْتِغْنَائِهِ فِي بَقَائِهِ عَنْهَا شَرْعًا لِمَا عُلِمَ فِي الرِّقِّ وَالِاضْطِبَاعِ وَالرَّمَلِ فَلَا بُدَّ فِي خُصُوصِ مَحَلٍّ يَقَعُ فِيهِ الِانْتِفَاءُ عِنْدَ الِانْتِفَاءِ مِنْ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مِمَّا شُرِعَ مُقَيَّدًا ثُبُوتُهُ بِثُبُوتِهَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُنَا تَعْيِينُهُ فِي مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ بَلْ إنْ ظَهَرَ وَإِلَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ فِي قَوْلِنَا حُكْمٌ مُغَيَّا بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ الْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ لِلْمُؤَلَّفَةِ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْإِعْزَازِ إذْ يُفْعَلُ الدَّفْعُ لِيَحْصُلَ الْإِعْزَازُ فَإِنَّمَا انْتَهَى تَرَتُّبِ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْإِعْزَازُ عَلَى الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ .
وَعَنْ هَذَا قِيلَ عَدَمُ الدَّفْعِ الْآنَ لِلْمُؤْتَلِفَةِ تَقْرِيرًا لِمَا كَانَ فِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نَسْخَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ الْإِعْزَازَ ، وَكَانَ بِالدَّفْعِ وَالْآنَ هُوَ فِي عَدَمِ الدَّفْعِ ، لَكِنْ لَا
يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَا يَنْفِي النَّسْخَ لِأَنَّ إبَاحَةَ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ كَانَ ثَابِتًا وَقَدْ ارْتَفَعَ ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ هُوَ عِلَّةٌ لِحُكْمٍ آخَرَ شَرْعِيٌّ فَنُسِخَ الْأَوَّلُ لِزَوَالِ عِلَّتِهِ .
( وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ ) وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ قِيلَ عَلَى الْعَكْسِ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ سَنَذْكُرُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَالْعَامِلُ يَدْفَعُ إلَيْهِ الْإِمَامُ إنْ عَمِلَ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانُهُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ بِالثَّمَنِ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا إلَّا أَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الصَّدَقَةِ فَلَا يَأْخُذُهَا الْعَامِلُ الْهَاشِمِيُّ تَنْزِيهًا لِقَرَابَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ شُبْهَةِ الْوَسَخِ ، وَالْغَنِيُّ لَا يُوَازِيهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ فِي حَقِّهِ .
( قَوْلُهُ وَالْفَقِيرُ مَنْ لَهُ أَدْنَى شَيْءٍ ) وَهُوَ مَا دُونَ النِّصَابِ أَوْ قَدْرُ نِصَابٍ غَيْرَ نَامٍ وَهُوَ مُسْتَغْرَقٌ فِي الْحَاجَةِ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَيَحْتَاجُ لِلْمَسْأَلَةِ لِقُوتِهِ أَوْ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ وَيَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ لَهُ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمَنْ يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِهِ بَعْدَ سُتْرَةِ بَدَنِهِ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ : لَا تَحِلُّ لِمَنْ كَانَ كَسُوبًا أَوْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَيَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ لِمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ بَعْدَ كَوْنِهِ فَقِيرًا وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْفَقْرِ مِلْكُ نُصُبٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ نَامِيَةٍ إذَا كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةٌ بِالْحَاجَةِ وَلِذَا قُلْنَا : يَجُوزُ لِلْعَالِمِ وَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي نُصُبًا كَثِيرَةً عَلَى تَفْصِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِيهَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا لِلتَّدْرِيسِ أَوْ بِالْحِفْظِ أَوْ التَّصْحِيحِ ، وَلَوْ كَانَتْ مِلْكَ عَامِّيٍّ وَلَيْسَ لَهُ نِصَابٌ نَامٍ لَا يَحِلُّ دَفْعُ الزَّكَاةِ لَهُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُسْتَغْرَقَةٍ فِي حَاجَتِهِ فَلَمْ تَكُنْ كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ آلَاتِ الْمُحْتَرِفِينَ إذَا مَلَكَهَا صَاحِبُ تِلْكَ الْحِرْفَةِ وَغَيْرُهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّصُبَ ثَلَاثَةٌ : نِصَابٌ يُوجِبُ الزَّكَاةَ عَلَى مَالِكِهِ وَهُوَ النَّامِي خِلْقَةً أَوْ إعْدَادًا وَهُوَ سَالِمٌ مِنْ الدَّيْنِ ، وَنِصَابٌ لَا يُوجِبُهَا وَهُوَ مَا لَيْسَ أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِحَاجَةِ مَالِكِهِ حَلَّ لَهُ أَخْذُهَا وَإِلَّا حَرُمَتْ عَلَيْهِ كَأَثْيَابٍ تُسَاوِي نِصَابًا لَا يَحْتَاجُ إلَى كُلِّهَا أَوْ أَثَاثٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِعْمَالِهِ كُلِّهِ فِي بَيْتِهِ وَعَبْدٍ وَفَرَسٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ وَرُكُوبِهِ وَدَارٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَكَنِهَا ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى مَا ذَكَرْنَا حَاجَةً أَصْلِيَّةً فَهُوَ فَقِيرٌ يَحِلُّ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَتَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ .
وَنِصَابٌ يَحْرُمُ الْمَسْأَلَةُ وَهُوَ مَلَكَ قُوتَ يَوْمِهِ أَوْ لَا يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ أَوْ
يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَلِكُلٍّ وَجْهٌ ) وَجْهُ كَوْنِ الْفَقِيرِ أَسْوَأَ حَالًا قَوْله تَعَالَى { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ } أَثْبَتَ لِلْمَسَاكِينِ سَفِينَةً ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بَلْ هُمْ أُجَرَاءُ فِيهَا أَوْ عَارِيَّةٌ لَهُمْ أَوْ قِيلَ لَهُمْ مَسَاكِينُ تَرَحُّمًا .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } مَعَ مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْ الْفَقْرِ ، وَجَوَابُهُ أَنَّ الْفَقْرَ الْمُتَعَوَّذَ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا فَقْرُ النَّفْسِ لِمَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَسْأَلُ الْعَفَافَ وَالْغِنَى ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ غِنَى النَّفْسِ لَا كَثْرَةُ الدُّنْيَا ، فَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْمِسْكِينِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُمْ فِي الْآيَةِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَدَلَّ عَلَى زِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِهِمْ ، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ زِيَادَةِ حَاجَتِهِمْ .
وَقَدْ يُمْنَعُ بِأَنَّهُ قَدَّمَ الْعَامِلِينَ عَلَى الرِّقَابِ مَعَ أَنَّ حَالَهُمْ أَحْسَنُ ظَاهِرًا وَأَخَّرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ مَعَ الدَّلَالَةِ عَلَى زِيَادَةِ تَأْكِيدِ الدَّفْعِ إلَيْهِمْ حَيْثُ أَضَافَ إلَيْهِمْ بِلَفْظَةِ فِي فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِاعْتِبَارٍ آخَرَ غَيْرِ زِيَادَةِ الْحَاجَةِ ، وَالِاعْتِبَارَاتُ الْمُنَاسَبَةُ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ضَبْطٍ خُصُوصًا مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، وَلِأَنَّ الْفَقِيرَ بِمَعْنَى الْمَفْقُودِ ، وَهُوَ الْمَكْسُورُ الْفَقَارِ فَكَانَ أَسْوَأَ حَالًا ، وَمُنِعَ بِجَوَازِ كَوْنِهِ مِنْ فَقُرَتْ لَهُ فِقْرَةٌ مِنْ مَالِي : أَيْ قِطْعَةٌ مِنْهُ فَيَكُونُ لَهُ شَيْءٌ وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : هَلْ لَك فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهُ تُعِينُ مِسْكِينًا كَثِيرًا عَسْكَرُهُ عَشْرَ شِيَاهٍ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ عُورِضَ بِقَوْلِ الْآخَرِ : أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُ يُقَالُ مَالَهُ سَبَدٌ وَلَا لَبَدٌ أَيْ شَيْءٌ وَأَصْلُ السَّبَدِ الشَّعْرُ كَذَا فِي دِيوَانِ
الْأَدَبِ ، وَقَوْلُ الْأَوَّلِ عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعَهُ .
.
.
إلَخْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ هِيَ سَمْعُهُ لِجَوَازِ عَشْرٍ تَحْصُلُ لَهُ تَكُونُ سَمْعَهُ فَيَكُونُ سَائِلًا مِنْ الْمُخَاطَبِ عَشْرَ شِيَاهٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى عَسْكَرِهِ أَيْ عِيَالِهِ وَيُؤْجَرُ فِيهَا الْمُخَاطَبُ الدَّافِعُ لَهَا .
وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْله تَعَالَى { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } أَيْ أَلْصَقَ جِلْدَهُ بِالتُّرَابِ مُحْتَفِرًا حُفْرَةً جَعَلَهَا إزَارَهُ لِعَدَمِ مَا يُوَارِيهِ أَوْ أَلْصَقَ بَطْنَهُ بِهِ لِلْجُوعِ ، وَتَمَامُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنَّ الصِّفَةَ كَاشِفَةٌ ، وَالْأَكْثَرُ خِلَافُهُ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ فَتَكُونُ مُصَنَّفَةً وَخَصَّ هَذَا الصِّنْفَ بِالْحَضِّ عَلَى إطْعَامِهِمْ كَمَا خَصَّ الْيَوْمَ بِكَوْنِهِ ذَا مَسْغَبَةٍ : أَيْ مَجَاعَةٍ لِقَحْطٍ وَغَيْرِهِ ، وَمِنْ تَخْصِيصِ الْيَوْمِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَضُّ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي حَالِ زِيَادَةِ الْحَاجَةِ زِيَادَةَ حَضٍّ .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ ، وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُعْطَى وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
فَمَحْمَلُ الْإِثْبَاتِ أَعْنِي قَوْلَهُ { وَلَكِنْ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فَيُعْطَى } مُرَادٌ مَعَهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَإِنَّهُ نَفَى الْمَسْكَنَةَ عَمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى لُقْمَةٍ وَلُقْمَتَيْنِ بِطَرِيقِ الْمَسْأَلَةِ وَأَثْبَتَهَا لِغَيْرِهِ ، فَهُوَ بِالضَّرُورَةِ مَنْ لَا يَسْأَلُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى اللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ لَكِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ مُبَالَغَةٍ فِي الْمَسْكَنَةِ ، وَلِذَا صَرَّحَ الْمَشَايِخُ فِي عَرْضِ أَنَّ الْمُرَادَ لَيْسَ الْكَامِلَ فِي الْمَسْكَنَةِ ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَسْكَنَةُ الْمَنْفِيَّةُ عَنْ غَيْرِهِ هِيَ الْمَسْكَنَةُ الْمُبَالَغُ فِيهَا لَا مُطْلَقُ الْمَسْكَنَةِ وَحِينَئِذٍ لَا يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ .
الثَّالِثُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ السُّكُونُ يُفِيدُ
الْمَطْلُوبَ كَأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْحَرَكَةِ فَلَا يَبْرَحُ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ هُمَا صِنْفَانِ أَوْ صِنْفٌ وَاحِدٌ ) ثَمَرَتُهُ فِي الْوَصَايَا ، وَالْأَوْقَافِ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِزَيْدٍ وَلِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ وَقَفَ فَلِزَيْدٍ ثُلُثُ الثُّلُثِ وَلِكُلٍّ ثُلُثُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِفُلَانٍ نِصْفُ الثُّلُثِ ، وَلِلْفَرِيقَيْنِ نِصْفُهُ ، بِنَاءً عَلَى جَعْلِهِمَا صِنْفًا وَاحِدًا .
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ ، ( قَوْلُهُ فَيُعْطِيهِ مَا يَسَعُهُ وَأَعْوَانَهُ ) مِنْ كِفَايَتِهِمْ بِالْوَسَطِ إلَّا إنْ اسْتَغْرَقَتْ كِفَايَتُهُ الزَّكَاةَ فَلَا يُزَادُ عَلَى النِّصْفِ لِأَنَّ التَّنْصِيفَ عَيْنُ الْإِنْصَافِ .
وَتَقْدِيرُ الشَّافِعِيِّ بِالثُّمُنِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ صَرْفِ الزَّكَاةِ إلَى كُلِّ الْأَصْنَافِ وَهُمْ ثَمَانِيَةٌ إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ سُقُوطِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَلَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ فِيمَا عَمِلَ فِيهِ كَالْمُضَارِبِ إذَا هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ظُهُورِ الرِّبْحِ ( قَوْلُهُ فَلَمْ تُعْتَبَرْ الشُّبْهَةُ ) أَيْ شُبْهَةُ الصَّدَقَةِ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ كَمَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّ الْهَاشِمِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوَازِي الْهَاشِمِيَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ وَمَنْعُ الْهَاشِمِيِّ مِنْ الْعِمَالَةِ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي وَنُنَبِّهُك عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
قَالَ ( وَفِي الرِّقَابِ يُعَانُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْهَا فِي فَكِّ رِقَابِهِمْ ) وَهُوَ الْمَنْقُولُ
( قَوْلُهُ وَهُوَ الْمَنْقُولُ ) أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ مُكَاتَبًا قَامَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَهُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ حُثَّ النَّاسَ عَلَيَّ .
فَحَثَّ عَلَيْهِ أَبُو مُوسَى ، فَأَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ ، هَذَا يُلْقِي عِمَامَةً وَهَذَا يُلْقِي مُلَاءَةً وَهَذَا يُلْقِي خَاتَمًا حَتَّى أَلْقَى النَّاسُ عَلَيْهِ سَوَادًا كَثِيرًا ، فَلَمَّا رَأَى أَبُو مُوسَى مَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ قَالَ : اجْمَعُوهُ ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَبِيعَ ، فَأُعْطِيَ الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ ثُمَّ أَعْطَى الْفَضْلَ فِي الرِّقَابِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَى النَّاسِ ، وَقَالَ : إنَّ هَذَا الَّذِي أُعْطُوهُ فِي الرِّقَابِ .
وَأَخْرَجَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
وَالزُّهْرِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالُوا : فِي الرِّقَابِ هُمْ الْمُكَاتَبُونَ .
وَأَمَّا مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إلَى الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنْ النَّارِ ، فَقَالَ : أَعْتِقْ النَّسَمَةَ ، وَفُكَّ الرَّقَبَةَ ، فَقَالَ : أَوَلَيْسَا سَوَاءً ؟ قَالَ لَا أَعْتِقْ الرَّقَبَةَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا ، وَفُكَّ النَّسَمَةَ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ .
فَقِيلَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ هَذَا هُوَ مَعْنَى وَفِي الرِّقَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ
( وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ وَلَا يَمْلِكُ نِصَابًا فَاضِلًا عَنْ دَيْنِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْ تَحَمَّلَ غَرَامَةً فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِطْفَاءِ الثَّائِرَةِ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ ( وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مُنْقَطِعُ الْغُزَاةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَفَاهَمُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُنْقَطِعُ الْحَاجِّ ) لِمَا رَوَى { أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ بَعِيرًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ الْحَاجَّ } .
( قَوْلُهُ : وَالْغَارِمُ مَنْ لَزِمَهُ دَيْنٌ ) أَوْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى النَّاسِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ نِصَابٌ فَاضِلٌ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى فَقِيرَةٍ لَهَا مَهْرٌ دَيْنٌ عَلَى زَوْجِهَا يَبْلُغُ نِصَابًا وَهُوَ مُوسِرٌ بِحَيْثُ لَوْ طَلَبَتْ أَعْطَاهَا لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يُعْطِي لَوْ طَلَبَتْ جَازَ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ مَنْ تَحَمَّلَ إلَخْ ) فَيَأْخُذُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَعِنْدَنَا لَا يَأْخُذُ إلَّا إذَا لَمْ يَفْضُلْ لَهُ بَعْدَ مَا ضَمِنَهُ قَدْرَ نِصَابٍ .
وَالنَّائِرَةُ بِالنُّونِ قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ رَجُلًا } إلَخْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي بَابِ الْعُمْرَةِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ : { أَمَرَنِي رَسُولُ مَرْوَانَ الَّذِي أُرْسِلَ إلَى أُمِّ مَعْقِلٍ .
فَسَاقَهُ إلَى أَنْ ذَكَرَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيَّ حَجَّةً وَلِأَبِي مَعْقِلٍ بَكْرًا .
قَالَ أَبُو مَعْقِلٍ : جَعَلْتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعْطِهَا فَلْتَحُجَّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَأَعْطَاهَا الْبَكْرَ } وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي مَعْقِلٍ ، ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا .
اعْتَمِرِي عَلَيْهِ ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِسَبِيلِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ .
وَالْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ إيَّاهُ لِجَوَازِ أَنَّهُ أَرَادَ الْأَمْرَ الْأَعَمَّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ بَلْ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ ، وَإِلَّا فَكُلُّ الْأَصْنَافِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى .
ثُمَّ لَا يُشْكِلُ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِ لَا يُوجِبُ خِلَافًا فِي الْحُكْمِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُعْطَى الْأَصْنَافُ كُلُّهُمْ سِوَى الْعَامِلِ بِشَرْطِ الْفَقْرِ فَمُنْقَطِعٌ الْحَاجُّ يُعْطَى اتِّفَاقًا
وَلَا يَصْرِفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ هُوَ الْفُقَرَاءُ ( وَابْنُ السَّبِيلِ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ ) وَهُوَ فِي مَكَان لَا شَيْءَ لَهُ فِيهِ .
قَالَ : ( فَهَذِهِ جِهَاتُ الزَّكَاةِ ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَصْرِفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ، لِأَنَّ الْإِضَافَةَ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِضَافَةَ لِبَيَانِ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبِعِلَّةِ الْفَقْرِ صَارُوا مَصَارِفَ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ جِهَاتِهِ ، وَاَلَّذِي ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
( قَوْلُهُ وَلَا يُصْرَفُ إلَى أَغْنِيَاءِ الْغُزَاةِ عِنْدَنَا ) يُشْعِرُ بِالْخِلَافِ ، وَسَنَذْكُرُ الْخِلَافَ مِنْ قَرِيبٍ ( قَوْلُهُ وَابْنُ السَّبِيلِ ) وَهُوَ الْمُسَافِرُ سُمِّيَ بِهِ لِثُبُوتِهِ فِي السَّبِيلِ ، وَهُوَ الطَّرِيقُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فِي وَطَنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْحَالِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ ، وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ إنْ قَدَرَ وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِجَوَازِ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ ، وَأُلْحِقَ كُلُّ مَنْ هُوَ غَائِبٌ عَنْ مَالِهِ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ ابْنَ السَّبِيلِ التَّصَدُّقُ بِمَا فَضَلَ فِي يَدِهِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَالِهِ كَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَالْمُكَاتَبِ إذَا عَجَزَ وَعِنْدَهُمَا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ لَا يَلْزَمُهُمَا التَّصَدُّقُ ( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ ) وَكَذَا لَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ ( قَوْلُهُ بِحَرْفِ اللَّامِ لِلِاسْتِحْقَاقِ ) وَذَكَرَ كُلَّ صِنْفٍ بِلَفْظِ الْجَمْعِ فَوَجَبَ أَنْ يُصْرَفَ إلَى ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَإِنْ كَانَ مُحَلًّى بِاللَّامِ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيهِ الِاسْتِغْرَاقُ فَتَبْقَى الْجَمْعِيَّةُ عَلَى حَالِهَا .
قُلْنَا : حَقِيقَةُ اللَّامِ الِاخْتِصَاصُ الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ الثَّابِتُ فِي ضِمْنِ الْخُصُوصِيَّاتِ مِنْ الْمِلْكِ وَالِاسْتِحْقَاقِ وَقَدْ يَكُونُ مُجَرَّدًا ، فَحَاصِلُ التَّرْكِيبِ إضَافَةُ الصَّدَقَاتِ الْعَامِّ الشَّامِلِ لِكُلِّ صَدَقَةِ مُتَصَدِّقٍ إلَى الْأَصْنَافِ الْعَامِّ كُلٍّ مِنْهَا الشَّامِلِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ بِمَعْنَى أَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أَخَصُّ بِهَا كُلِّهَا ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي لُزُومَ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ وَاحِدَةً تَنْقَسِمُ عَلَى أَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ اسْتَحَالَ ذَلِكَ فَلَزِمَ أَقَلُّ الْجَمْعِ مِنْهُ ، بَلْ إنَّ الصَّدَقَاتِ كُلَّهَا لِلْجَمِيعِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ كُلِّ صَدَقَةٍ .
صَدَقَةً لِكُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ لَوْ أَمْكَنَ ، أَوْ كُلَّ صَدَقَةٍ جُزْئِيَّةٍ لِطَائِفَةٍ أَوْ لِوَاحِدٍ .
وَأَمَّا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّ الْجَمْعَ إذَا قُوبِلَ بِالْجَمْعِ أَفَادَ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ انْقِسَامَ الْآحَادِ عَلَى الْآحَادِ نَحْوُ { جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ } وَرَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ ، فَالْإِشْكَالُ أَبْعَدُ حِينَئِذٍ إذْ يُفِيدُ أَنَّ كُلَّ صَدَقَةٍ لِوَاحِدٍ ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِ أَنَّهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ بَلْ مَعَ كَوْنِهَا لَهُ يَجِيءُ هَذَا الْوَجْهُ فَلَا يُفِيدُ الْجَمْعَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ، إلَّا أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَيْرَ أَنَّهُ أَمَرَ بِصَرْفِ اسْتِحْقَاقِهِ إلَيْهِمْ عَلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ مَنْ يَصْرِفُهُ إلَيْهِ فَلَا تَثْبُتُ حَقِيقَةُ الِاسْتِحْقَاقِ لِوَاحِدٍ إلَّا بِالصَّرْفِ إلَيْهِ إذْ قَبْلَهُ لَا تَعَيُّنَ لَهُ وَلَا اسْتِحْقَاقَ إلَّا لِمُعَيَّنٍ ، وَجَبْرُ الْإِمَامِ لِقَوْمٍ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ عَلَى إعْطَاءِ الْفُقَرَاءِ لَيْسَ إلَّا لِلْخُرُوجِ عَنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّهِمْ ، ثُمَّ رَأَيْنَا الْمَرْوِيَّ عَنْ الصَّحَابَةِ نَحْوَ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عُمَرَ .
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } الْآيَةَ ، قَالَ : فِي أَيِّ صِنْفٍ وَضَعْته أَجْزَأَك ا هـ .
أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ ، قَالَ : أَيُّمَا صِنْفٍ أَعْطَيْته مِنْ هَذَا أَجْزَأَ عَنْك .
حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ الصَّدَقَةِ فَيَجْعَلُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ .
وَرَوَى أَيْضًا عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا وَضَعْتهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَك ، وَأَخْرَجَ نَحْوَ
ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ .
وَاسْتَدَلَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي التَّحْقِيقِ بِحَدِيثِ مُعَاذٍ { فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ } .
وَالْفُقَرَاءُ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَفِيهِ نَظَرٌ تَسْمَعُهُ قَرِيبًا .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ وَزَيْدُ الْخَيْلِ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مُعَاذٌ مِنْ الْيَمَنِ ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ ، ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ ، وَهُمْ الْغَارِمُونَ ، فَقَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ حِينَ أَتَاهُ ، وَقَدْ تَحَمَّلَ حِمَالَةً { يَا قَبِيصَةُ قُمْ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا } .
وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّتِي يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ .
قِيلَ : وَلَمْ يُرْوَ عَنْ غَيْرِهِمْ مَا يُخَالِفُهُمْ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا .
( وَلَا يَجُوزُ أَنَّهُ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى ذِمِّيٍّ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُذْهَا مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ } .
قَالَ ( وَيَدْفَعُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الصَّدَقَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَدْفَعُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا } وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ فِي الزَّكَاةِ .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ إلَخْ ) رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
( قَوْلُهُ وَيُدْفَعُ لَهُمْ ) أَيْ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ ( مَا سِوَى ذَلِكَ ) كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ ، وَلَا يُدْفَعُ ذَلِكَ لِحَرْبِيٍّ وَمُسْتَأْمَنٍ ، فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ أَحَبُّ ( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا } ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مُرْسَلًا حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَصَدَّقُوا إلَّا عَلَى أَهْلِ دِينِكُمْ .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إلَيْكُمْ } فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَصَدَّقُوا عَلَى أَهْلِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا } .
وَقَالَ أَيْضًا مُرْسَلًا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْحَجَّاجِ عَنْ سَالِمِ الْمَكِّيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ : كَرِهَ النَّاسُ أَنْ يَتَصَدَّقُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } قَالَ : فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِمْ .
وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ النَّسَائِيّ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ
مَعْبَدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَصَدَّقَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ الْيَهُودِ بِصَدَقَةٍ فَهِيَ تَجْرِي عَلَيْهِمْ } ( قَوْلُهُ وَلَوْلَا حَدِيثُ مُعَاذٍ لَقُلْنَا بِالْجَوَازِ ) أَيْ بِجَوَازِ دَفْعِ الزَّكَاةِ إلَى الذِّمِّيِّ ، لَكِنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ مَشْهُورٌ فَجَازَتْ الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى إطْلَاقِ الْكِتَابِ .
أَعْنِي إطْلَاقَ الْفُقَرَاءِ فِي الْكِتَابِ أَوْ هُوَ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْحَرْبِيُّ بِالْإِجْمَاعِ مُسْتَنِدِينَ إلَى قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ } فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بَعْدُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
( وَلَا يُبْنَى بِهَا مَسْجِدٌ وَلَا يُكَفَّنُ بِهَا مَيِّتٌ ) لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ ( وَلَا يُقْضَى بِهَا دَيْنُ مَيِّتٍ ) لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ لَا سِيَّمَا مِنْ الْمَيِّتِ ( وَلَا تُشْتَرَى بِهَا رَقَبَةٌ تُعْتَقُ ) خِلَافًا لِمَالِكٍ ذَهَبَ إلَيْهِ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَفِي الرِّقَابِ } وَلَنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ .
( قَوْلُهُ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الرُّكْنُ ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا صَدَقَةً ، وَحَقِيقَةُ الصَّدَقَةِ تَمْلِيكُ الْمَالِ مِنْ الْفَقِيرِ ، وَهَذَا فِي الْبِنَاءِ ظَاهِرٌ وَكَذَا فِي التَّكْفِينِ لِأَنَّهُ لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلْكَفَنِ مِنْ الْمَيِّتِ وَلَا الْوَرَثَةِ ، وَلِذَا لَوْ أَخْرَجَتْ السِّبَاعُ الْمَيِّتَ فَأَكَلَتْهُ كَانَ الْكَفَنُ لِصَاحِبِهِ لَا لَهُمْ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ لَا يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ مِنْهُ ) وَلِذَا لَوْ تَصَادَقَ الدَّائِنُ وَالْمَدْيُونُ عَلَى أَنْ لَا دِينَ كَانَ لِلْمُزَكِّي أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْقَابِضِ ، وَمَحْمَلُ هَذَا أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَيِّ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَيَجُوزُ عَنْ الزَّكَاةِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مِنْهُ وَالدَّائِنُ يَقْبِضُهُ بِحُكْمِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ .
وَفِي الْغَايَةِ نَقْلًا مِنْ الْمُحِيطِ وَالْمُفِيدِ : لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ بِأَمْرِهِ جَازَ ، وَمَعْلُومٌ إرَادَةُ قَيْدِ فَقْرِ الْمَدْيُونِ ، وَظَاهِرُ فَتَاوَى قَاضِي خَانٍ يُوَافِقُهُ ، لَكِنَّ ظَاهِرَ إطْلَاقِ الْكِتَابِ وَكَذَا عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ بَنَى مَسْجِدًا بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ أَوْ حَجَّ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ قَضَى دَيْنَ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْحَيِّ لَا يَجُوزُ عَدَمُ الْجَوَازِ فِي الْمَيِّتِ مُطْلَقًا ؛ أَلَا تَرَى إلَى تَخْصِيصِ الْحَيِّ فِي حُكْمِ عَدَمِ الْجَوَازِ بِعَدَمِ الْإِذْنِ وَإِطْلَاقِهِ فِي الْمَيِّتِ وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا لِلْمَدْيُونِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقَعُ عِنْدَ أَمْرِهِ بَلْ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَأْمُورِ وَقَبْضِ النَّائِبِ ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ الْمَدْيُونُ أَهْلًا لِلتَّمْلِيكِ لِمَوْتِهِ .
وَقَوْلُهُمْ : الْمَيِّتُ يَبْقَى مِلْكُهُ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ جِهَازِهِ وَنَحْوِهِ حَاصِلُهُ بَقَاؤُهُ بَعْدَ ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ حَالَةَ الْأَهْلِيَّةِ ، وَأَيْنَ هُوَ مِنْ حُدُوثِ مِلْكِهِ بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكُ وَلَا يَسْتَلْزِمُهُ .
وَعَمَّا قُلْنَا يُشْكِلُ اسْتِرْدَادُ الْمُزَكِّي
عِنْدَ التَّصَادُقِ إذَا وَقَعَ بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْفَقِيرِ بِالتَّمْلِيكِ وَقَبْضِ النَّائِبِ : أَعْنِي الْفَقِيرَ .
وَعَدَمُ الدَّيْنِ فِي الْوَاقِعِ إنَّمَا يَبْطُلُ بِهِ صَيْرُورَتُهُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ نِيَابَةً لَا التَّمْلِيكِ ، الْأَوَّلِ لِأَنَّ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ مَلَّكَ فَقِيرًا عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مَدْيُونٌ وَظُهُورُ عَدَمِهِ لَا يُؤَثِّرُ عَدَمُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْفَقِيرِ إذَا عَجَّلَ لَهُ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَمَّ الْحَوْلُ وَلَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ الْمُعَجَّلُ عَنْهُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالدَّفْعِ ، فَلَأَنْ لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادُ هُنَا أَوْلَى ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَّلَ لِلسَّاعِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا حَيْثُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِعَدَمِ زَوَالِ الْمِلْكِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْخُلَاصَةِ وَالْفَتَاوَى ، لَوْ جَاءَ الْفَقِيرُ إلَى الْمَالِكِ بِدَرَاهِمَ سَتُّوقَةٍ لِيَرُدَّهَا فَقَالَ الْمَالِكُ : رُدَّ الْبَاقِيَ فَإِنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَكُنْ كَامِلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيَّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ إلَّا بِاخْتِيَارِ الْفَقِيرِ فَيَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً مِنْ الْفَقِيرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْفَقِيرُ صَبِيًّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ وَإِنْ رَضِيَ فَهُنَا أَوْلَى .
[ فَرْعٌ ] لَوْ أَمَرَ فَقِيرًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ نَوَاهُ عَنْ زَكَاةِ عَيْنٍ عِنْدَهُ جَازَ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَقْبِضُ عَيْنًا فَكَانَ عَيْنًا عَنْ عَيْنٍ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى فَقِيرٍ يَنْوِيهِ عَنْ زَكَاتِهِ جَازَ عَنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ نَفْسِهِ لَا عَنْ عَيْنٍ وَلَا دَيْنٍ آخَرَ .
( وَلَا تُدْفَعُ إلَى غَنِيٍّ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } وَهُوَ بِإِطْلَاقٍ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَنِيِّ الْغُزَاةِ .
وَكَذَا حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ } ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَفِيهِ رَيْحَانُ بْنُ زَيْدٍ تُكُلِّمَ فِيهِ ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : كَانَ أَعْرَابِيٌّ صَدَقَ .
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَأَحْسَنُهَا عِنْدِي مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلَاهُ ، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ ، فَقَالَ إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ } .
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا ، فَهَذَا مَعَ حَدِيثِ مُعَاذٍ يُفِيدُ مَنْعَ غَنِيِّ الْغُزَاةِ وَالْغَارِمِينَ عَنْهَا ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ فِي تَجْوِيزِهِ لِغَنِيِّ الْغُزَاةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْفَيْءِ .
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفُقَرَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ صِنْفٌ وَاحِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَقَامَ مَقَامُ إرْسَالِ الْبَيَانِ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَتَعْلِيمِهِمْ ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ فُقَرَائِهِمْ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْفَقْرِ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَارِمًا أَوْ غَازِيًا ، فَلَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مِنْهُمَا مَصْرِفًا كَانَ فَوْقَ الْبَيَانِ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إبْقَاءً لِلْجَهْلِ الْبَسِيطِ ، وَفِي هَذَا إيقَاعُهُمْ فِي الْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْغِنَى مُطْلَقًا لَيْسَ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِ غَازِيًا أَوْ غَيْرَهُ ،
فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ خِلَافُ الْوَاقِعِ لَزِمَ مَا قُلْنَا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فَلَا يَجُوزُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ مَعَ أَنَّ نَفْسَ الْأَسْمَاءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ تُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِمْ الْحَاجَةُ لِمَا عُرِفَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّتُهُ ، وَمَأْخَذُ الِاشْتِقَاقَاتِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ تُنَبِّهُ عَلَى قِيَامِ الْحَاجَةِ ، فَالْحَاجَةُ هِيَ الْعِلَّةُ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إلَّا الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ ، فَإِنَّ مَأْخَذَ اشْتِقَاقِهِ يُفِيدُ أَنَّ الْمَنَاطَ التَّأْلِيفُ وَإِلَّا الْعَامِلُ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ الْعَمَلُ ، وَفِي كَوْنِ الْعَمَلِ سَبَبًا لِلْحَاجَةِ تَرَدُّدٌ فَإِنَّهُ ظَاهِرًا يَكُونُ لَهُ أَعْوِنَةٌ وَخَدَمٌ وَيُهْدَى إلَيْهِ وَغَالِبًا تَطِيبُ نَفْسُ إمَامِهِ لَهُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُهْدَى إلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْفَقْرُ فِي حَقِّهِ بِالشَّكِّ .
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ : الْعَامِلِ عَلَيْهَا وَرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ ، وَغَارِمٍ وَغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ فَأَهْدَاهَا إلَى الْغَنِيِّ } قِيلَ : لَمْ يَثْبُتْ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَقْوَ قُوَّةَ حَدِيثِ مُعَاذٍ فَإِنَّهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مَعَ قَرِينَةٍ مِنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ .
وَلَوْ قَوِيَ قُوَّتَهُ تَرَجَّحَ حَدِيثُ مُعَاذٍ بِأَنَّهُ مَانِعٌ ، وَمَا رَوَاهُ مُبِيحٌ مَعَ أَنَّهُ دَخَلَهُ التَّأْوِيلُ عِنْدَهُمْ حَيْثُ قَيَّدَ الْأَخْذَ لَهُ بِأَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ فِي الدِّيوَانِ وَلَا أَخَذَ مِنْ الْفَيْءِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ يُضْعِفُ الدَّلَالَةَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَدْخُلْهُ تَأْوِيلٌ
قَالَ ( وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَى أَبِيهِ وَجَدِّهِ وَإِنْ عَلَا ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ ) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَمْلَاكِ بَيْنَهُمْ مُتَّصِلَةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّمْلِيكُ عَلَى الْكَمَالِ ( وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ ) لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ عَادَةً ( وَلَا تَدْفَعُ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَقَالَا : تَدْفَعُ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكِ أَجْرَانِ : أَجْرُ الصَّدَقَةِ ، وَأَجْرُ الصِّلَةِ } قَالَهُ لِامْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَأَلَتْهُ عَنْ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ ؛ قُلْنَا : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّافِلَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ الْمُزَكِّي زَكَاتَهُ إلَخْ ) الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْمُزَكِّي بِالْوِلَادِ أَوْ انْتَسَبَ هُوَ لَهُ بِهِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا لَهُ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَبِيهِ وَأَجْدَادِهِ وَجَدَّاتِهِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَإِنْ عَلَوْا ، وَلَا إلَى أَوْلَادِهِ وَأَوْلَادِهِمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَخْلُوقٍ مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا وَلَا إلَى أُمِّ وَلَدِهِ الَّذِي نَفَاهُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةُ الْغَائِبِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْأَوْلَادُ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَمَعَ هَذَا يَجُوزُ لِلْأَوَّلِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ ، وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ غَيْرُ الْوِلَادِ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ ، وَهُوَ أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ مَعَ الصَّدَقَةِ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ وَالْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ فِي عِيَالِهِ وَلَمْ يَفْرِضْ الْقَاضِي النَّفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يَنْوِي الزَّكَاةَ جَازَ عَنْ الزَّكَاةِ ، وَإِنْ فَرَضَهَا عَلَيْهِ فَدَفَعَهَا يَنْوِي الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ فِي وَاجِبٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا لَمْ يَحْتَسِبْهَا بِالنَّفَقَةِ لِتَحْقِيقِ التَّمْلِيكِ عَلَى الْكَمَالِ .
وَفِي الْفَتَاوَى وَالْخُلَاصَةِ : رَجُلٌ لَهُ أَخٌ قَضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَتِهِ فَكَسَاهُ وَأَطْعَمَهُ يَنْوِي بِهِ الزَّكَاةَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ فِي الْكِسْوَةِ لَا فِي الْإِطْعَامِ .
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِطْعَامِ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهَذَا خِلَافُ مَا قَبْلَهُ .
وَيُمْكِنُ بِنَاءُ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّعَامِ عَلَى أَنَّهُ إبَاحَةٌ أَوْ تَمْلِيكٌ ، وَفِي الْكَافِي عَائِلٌ يَتِيمٌ أَطْعَمَهُ عَنْ زَكَاتِهِ صَحَّ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الرُّكْنِ ، وَهُوَ التَّمْلِيكُ ، وَهَذَا إذَا سَلَّمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ التَّمْلِيكِ ا هـ .
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ مُحَمَّدًا لَا يُجِيزُهُ وَإِنْ سَلَّمَ الطَّعَامَ إلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا قَضَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ بَعِيدٌ مِنْ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ ( قَوْلُهُ وَلَا إلَى امْرَأَتِهِ لِلِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ .
وَإِنَّمَا كَانَ مِنْهَا إدْخَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْمَنْفَعَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْلِيكِ أَحْيَانًا فَكَانَ الدَّافِعُ إلَى هَؤُلَاءِ كَالدَّافِعِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ إذْ كَانَ ذَلِكَ الِاشْتِرَاكُ ثَابِتًا ، وَكَذَا لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ صَدَقَةَ فِطْرِهِ وَكَفَّارَتِهِ وَعُشْرَهُ ، بِخِلَافِ خُمْسِ الرِّكَازِ يَجُوزُ دَفْعُهُ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إلَّا الْفَقْرُ .
وَلِهَذَا لَوْ افْتَقَرَ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ جَازَ أَنْ يُمْسِكَهُ لِنَفْسِهِ .
فَصَارَ الْأَصْلُ فِي الدَّفْعِ الْمُسْقِطِ كَوْنَهُ عَلَى وَجْهٍ تَنْقَطِعُ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الدَّافِعِ ذَكَرُوا مَعْنَاهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ ، وَهُوَ مَعَ قَبْضٍ مُعْتَبَرٍ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ دَفَعَ لِلصَّبِيِّ الْفَقِيرِ غَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ دَفَعَهَا الصَّبِيُّ إلَى أَبِيهِ قَالُوا : لَا يَجُوزُ .
كَمَا لَوْ وَضَعَ زَكَاتَهُ عَلَى دُكَّانٍ فَجَاءَ الْفَقِيرُ وَقَبَضَهَا لَا يَجُوزُ ، فَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَقْبِضَهَا لَهُمَا الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ مَنْ كَانَا فِي عِيَالِهِ مِنْ الْأَقَارِبِ أَوْ الْأَجَانِبِ الَّذِينَ يَعُولُونَهُ ، وَالْمُلْتَقِطُ يَقْبِضُ لِلَّقِيطِ ، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا أَوْ يَعْقِلُ الْقَبْضَ بِأَنْ كَانَ لَا يَرْمِي بِهِ وَيُخْدَعُ عَنْهُ يَجُوزُ .
وَلَوْ وَضَعَ الزَّكَاةَ عَلَى يَدِهِ فَانْتَهَبَهَا الْفُقَرَاءُ جَازَ ، وَكَذَا إنْ سَقَطَ مَالُهُ مِنْ يَدِهِ فَرَفَعَهُ فَقِيرٌ فَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ وَالْمَالُ قَائِمٌ ، وَالدَّفْعُ إلَى الْمَعْتُوهِ مُجْزِئٌ .
( قَوْلُهُ لِمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْمَنَافِعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْخُرُوجُ عَنْهُ عَلَى الْكَمَالِ ، وَهُمَا قَالَ : لَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ مَعَ النَّصِّ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ ، وَقَالَتْ فَرَجَعْتُ إلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ : إنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ .
وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ ، فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِئُ عَنِّي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إلَى غَيْرِكُمْ ، قَالَتْ : فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ : بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ .
قَالَتْ : فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتِي حَاجَتُهَا ، قَالَتْ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ قَالَتْ : فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْت : ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ هَلْ تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا ، وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ ، قَالَتْ : فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ هُمَا : ؟ قَالَ : امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الزَّيَانِبِ ؟ قَالَ : امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَهُمَا أَجْرَانِ : أَجْرُ الْقَرَابَةِ ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ } .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ فَقَالَ فِيهِ { فَلَمَّا انْصَرَفَ وَجَاءَ إلَى مَنْزِلِهِ : يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَتْهُ زَيْنَبُ امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ ، فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ : إنَّكَ أَمَرْتَنَا بِالصَّدَقَةِ وَعِنْدِي حُلِيٌّ لِي فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدُهُ أَحَقُّ مَنْ تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ زَوْجُكَ وَوَلَدُكَ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَيْهِمْ }
وَلَا مُعَارِضَةَ لَازِمَةً بَيْنَ هَذِهِ الْأُولَى فِي شَيْءٍ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ .
قَوْلُهُ " وَوَلَدُك " يَجُوزُ كَوْنُهُ مَجَازًا عَنْ الرَّبَائِبِ وَهُمْ الْأَيْتَامُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَكَوْنُهُ حَقِيقَةً وَالْمَعْنَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ إذَا تَمَلَّكَهَا أَنْفَقَهَا عَلَيْهِمْ وَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي صَدَقَةِ نَافِلَةٍ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَخَوَّلُ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا .
وَقَوْلُهُ هَلْ يُجْزِئُ إنْ كَانَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ الْحَادِثُ لَا يُسْتَعْمَلُ غَالِبًا إلَّا فِي الْوَاجِبِ ، لَكِنْ كَانَ فِي أَلْفَاظِهِمْ لِمَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ النَّفْلِ لِأَنَّهُ لُغَةً الْكِفَايَةُ ، فَالْمَعْنَى : هَلْ يَكْفِي التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ فِي تَحْقِيقِ مُسَمَّى الصَّدَقَةِ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِهَا مِنْ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَسْلَمُ الْقِيَاسُ حِينَئِذٍ عَنْ الْمُعَارِضِ
قَالَ ( وَلَا يَدْفَعُ إلَى مُكَاتَبِهِ وَمُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ ) لِفُقْدَانِ التَّمْلِيكِ إذَا كَسَبَ الْمَمْلُوكُ لِسَيِّدِهِ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ ( وَلَا إلَى عَبْدٍ قَدْ أَعْتَقَ بَعْضَهُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَقَالَا : يَدْفَعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ عِنْدَهُمَا ( وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لِمَوْلَاهُ ( وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا ) لِأَنَّهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَقِيرًا لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ غَنِيًّا بِيَسَارِ أَبِيهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ، وَبِخِلَافِ امْرَأَةِ الْغَنِيِّ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً لَا تُعَدُّ غَنِيَّةً بِيَسَارِ زَوْجِهَا ، وَبِقَدْرِ النَّفَقَةِ لَا تَصِيرُ مُوسِرَةً .
( قَوْلُهُ : وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ ) وَلِذَا لَوْ تَزَوَّجَ بِأَمَةِ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ بِمَنْزِلَةِ تَزَوُّجِهِ بِأَمَةِ نَفْسِهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ ) أَمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ أَعْتَقَ بَعْضُهُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَوْ لِلْمَفْعُولِ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَصْلُحُ التَّعْلِيلُ لَهُمَا بِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ ، إذْ هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ بِلَا دَيْنٍ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَإِعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقُ كُلِّهِ وَعَلَى الثَّانِي لَا يَصِحُّ تَعْلِيلُهُ عَدَمَ الْإِعْطَاءِ بِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُكَاتَبٌ لِلْغَيْرِ ، وَهُوَ مُصَرَّفٌ بِالنَّصِّ ، فَلَا يَعْرَى عَنْ الْإِشْكَالِ وَيَحْتَاجُ فِي دَفْعِهِ إلَى تَخْصِيصِ الْمَسْأَلَةِ .
فَإِنْ قُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ فَالْمُرَادُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَعْتَقَ هُوَ نَصِيبَهُ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِلِابْنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الدَّفْعُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ كَمُكَاتَبِ ابْنِهِ ، وَكَمَا لَا يَدْفَعُ لِابْنِهِ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ لِمُكَاتَبِهِ .
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ حُرٌّ مَدْيُونٌ لِلِابْنِ .
وَإِنْ قُرِئَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَالْمُرَادُ عَبْدٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَجْنَبِيَّيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَيَسْتَسْعِيهِ السَّاكِتُ فَلَا يَجُوزُ لِلسَّاكِتِ الدَّفْعُ إلَيْهِ ، لِأَنَّهُ كَمُكَاتَبِ نَفْسِهِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَدْيُونُهُ وَهُوَ حُرٌّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الْإِنْسَانُ إلَى مَدْيُونِهِ أَمَّا لَوْ اخْتَارَ السَّاكِتُ التَّضْمِينَ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْعَبْدِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ كَمُكَاتَبِ الْغَيْرِ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى مَمْلُوكٍ غَنِيٍّ ) فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا مَدْيُونًا بِمَا يَسْتَغْرِقُ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ ، وَلَا إلَى مُدَبَّرِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ ، بِخِلَافِ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ مَصْرِفٌ بِالنَّصِّ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : إذَا كَانَ الْعَبْدُ زَمِنًا وَلَيْسَ فِي عِيَالِ مَوْلَاهُ وَلَا يَجِدُ شَيْئًا أَوْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا يَجُوزُ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ا هـ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي وُقُوعُ الْمِلْكِ لِمَوْلَاهُ بِهَذَا الْعَارِضِ وَهُوَ الْمَانِعُ ، وَغَايَةُ مَا فِي هَذَا الْوُجُوبِ كِفَايَتُهُ عَنْ السَّيِّدِ وَتَأْثِيمُهُ بِتَرْكِهِ وَاسْتِحْبَابُ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ عِنْدَ غَيْبَةِ مَوْلَاهُ الْغَنِيِّ وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ لَا يَنْزِلُ عَنْ حَالِ ابْنِ السَّبِيلِ .
( قَوْلُهُ وَلَا إلَى وَلَدِ غَنِيٍّ إذَا كَانَ صَغِيرًا ) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا فِي الصَّحِيحِ ، وَفِي الْفَتَاوَى : لَوْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى ابْنَةِ غَنِيٍّ يَجُوزُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَكَذَا إذَا دَفَعَ إلَى فَقِيرٍ لَهُ ابْنٌ مُوسِرٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ فِي عِيَالٍ الْغَنِيُّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَازَ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ) بِأَنْ كَانَ زَمِنًا أَوْ أَعْمَى وَنَحْوَهُ بِخِلَافِ بِنْتِ الْغَنِيِّ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا هَذِهِ الْأَعْذَارُ وَتُصْرَفُ الزَّكَاةُ إلَيْهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الِابْنِ الْكَبِيرِ .
( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ امْرَأَةٍ إلَخْ ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَسَوَاءٌ فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ أَوْ لَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّهَا مَكْفِيَّةٌ بِمَا تُوجِبُهُ عَلَى الْغَنِيِّ فَالصَّرْفُ إلَيْهَا كَالصَّرْفِ إلَى ابْنِ الْغَنِيِّ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ مَا فِي الْكِتَابِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ اسْتِيجَابَهَا النَّفَقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ ، بِخِلَافِ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ ، لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ الْجُزْئِيَّةِ فَكَانَ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ ، فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ إلَى نَفْسِ الْغَنِيِّ
( وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَيْكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخِهِمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ } بِخِلَافِ التَّطَوُّعِ ، لِأَنَّ الْمَالَ هَاهُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ .
أَمَّا التَّطَوُّعُ فَبِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ .
قَالَ : ( وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَبَّاسٍ وَآلُ جَعْفَرٍ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهِمْ ) أَمَّا هَؤُلَاءِ فَلِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَى بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَنِسْبَةُ الْقَبِيلَةِ إلَيْهِ .
وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ { أَنَّ مَوْلًى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَهُ أَتَحِلُّ لِي الصَّدَقَةُ ؟ فَقَالَ : لَا أَنْتَ مَوْلَانَا } بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْقُرَشِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا حَيْثُ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَيُعْتَبَرُ حَالُ الْمُعْتَقِ لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ وَالْإِلْحَاقُ بِالْمَوْلَى بِالنَّصِّ وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَدْفَعُ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ) هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَرَوَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ .
وَعَنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُ بَنِي هَاشِمٍ إلَى بَعْضٍ زَكَاتَهُمْ .
وَظَاهِرُ لَفْظِ الْمَرْوِيِّ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَأَوْسَاخِهِمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ } لَا يَنْفِيهِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّاسِ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِالْخِطَابِ الْمَذْكُورِ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَالتَّعْوِيضُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ عَنْ صَدَقَاتِ النَّاسِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهُ عِوَضًا عَنْ صَدَقَاتِ أَنْفُسِهِمْ ، لَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَرِيبٌ ، وَالْمَعْرُوفُ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ : { اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَا : لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ لِي وَلِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ فَأَصَابَا مِنْهَا كَمَا يُصِيبُ النَّاسُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تُرْسِلُوهُمَا فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ وَأَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ وَأَوْصَلُ النَّاسِ ، وَجِئْنَاكَ لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ فَنُؤَدِّيَ إلَيْكَ كَمَا تُؤَدِّي النَّاسُ وَنُصِيبُ كَمَا يُصِيبُونَ ، قَالَ : فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ : إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، اُدْعُوا لِي مَحْمِيَّةَ بْنَ جَزْءٍ ، رَجُلًا مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْأَخْمَاسِ ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَأَتَيَاهُ فَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ :
أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ لِلْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ ، فَأَنْكَحَهُ ، وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ : أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَكَ ، فَأَنْكَحَنِي ، وَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ : أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ الْخُمْسِ كَذَا وَكَذَا } .
وَهَذَا مَا وَعَدْنَاك مِنْ النَّصِّ عَلَى عَدَمِ حِلِّ أَخْذِهَا لِلْعَامِلِ الْهَاشِمِيِّ ، وَلَا يَجِبُ فِيهِ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ لَفْظِ الْهِدَايَةِ ، وَلَفْظُهُ لِلطَّبَرَانِيِّ { لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ إنَّمَا هِيَ غُسَالَةُ أَيْدِي النَّاسِ ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ } يُوجِبُ تَحْرِيمَ صَدَقَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَكَذَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَحْنُ أَهْلُ الْبَيْتِ لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْعُمُومَاتِ تَنْتَظِمُ الصَّدَقَةَ النَّافِلَةَ وَالْوَاجِبَةَ فَجَرَوْا عَلَى مُوجِبِ ذَلِكَ فِي الْوَاجِبِ ، فَقَالُوا : لَا يَجُوزُ صَرْفُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَعُشْرِ الْأَرْضِ وَغَلَّةِ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : يَجُوزُ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَمْ يُسَمِّ بَنِي هَاشِمٍ لَا يَجُوزُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ فِي مَنْعِ صَدَقَةِ الْأَوْقَافِ لَهُمْ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إذَا وَقَفَ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ يَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ ، وَأَمَّا الصَّدَقَةُ النَّافِلَةُ فِي النِّهَايَةِ : وَيَجُوزُ النَّفَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا يَجُوزُ النَّفَلُ لِلْغَنِيِّ ، كَذَا فِي فَتَاوَى الْعَتَّابِيِّ انْتَهَى .
وَصَرَّحَ فِي الْكَافِي بِدَفْعِ صَدَقَةِ الْوَقْفِ إلَيْهِمْ عَلَى أَنَّهُ بَيَانُ الْمَذْهَبِ مِنْ غَيْرِ نَقْلِ خِلَافٍ ، فَقَالَ : وَأَمَّا التَّطَوُّعُ وَالْوَقْفُ فَيَجُوزُ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ فِي الْوَاجِبِ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ فَيَتَدَنَّسُ الْمُؤَدَّى كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَفِي النَّفْلِ يَتَبَرَّعُ
بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَتَدَنَّسُ بِهَا الْمُؤَدَّى كَمَنْ تَبَرَّدَ بِالْمَاءِ ا هـ وَالْحَقُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ إجْرَاءُ صَدَقَةِ الْوَقْفِ مَجْرَى النَّافِلَةِ ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي النَّافِلَةِ جَوَازُ الدَّفْعِ يَجِبُ دَفْعُ الْوَقْفِ وَإِلَّا فَلَا إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْوَاقِفَ مُتَبَرِّعٌ بِتَصَدُّقِهِ بِالْوَقْفِ إذْ لَا إيقَافَ وَاجِبٌ ، وَكَأَنَّ مَنْشَأَ الْغَلَطِ وُجُوبُ دَفْعِهَا عَلَى النَّاظِرِ وَبِذَلِكَ لَمْ تَصِرْ وَاجِبَةً عَلَى الْمَالِكِ بَلْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ وُجُوبُ اتِّبَاعِ شَرْطِ الْوَاقِفِ عَلَى النَّاظِرِ .
فَوُجُوبُ الْأَدَاءِ هُوَ نَفْسُ هَذَا الْوُجُوبِ فَلْنَتَكَلَّمْ فِي النَّافِلَةِ ، ثُمَّ يُعْطَى مِثْلُهُ لِلْوَقْفِ فَفِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَالتَّطَوُّعِ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَالَ بَعْضٌ : يَحِلُّ لَهُمْ التَّطَوُّعُ ا هـ .
فَقَدْ أَثْبَتَ الْخِلَافَ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَرْجِيحِ حُرْمَةِ النَّافِلَةِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْعُمُومَاتِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فَلَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ النَّافِلَةَ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْهِبَةِ مَعَ الْأَدَبِ وَخَفْضِ الْجَنَاحِ تَكْرِمَةً لِأَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَقْرَبُ الْأَشْيَاءِ إلَيْكَ حَدِيثُ { لَحْمِ بَرِيرَةَ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَيْهَا لَمْ يَأْكُلْهُ حَتَّى اعْتَبَرَهُ هَدِيَّةً مِنْهَا ، فَقَالَ هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ } وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ صَدَقَةً نَافِلَةً .
وَأَيْضًا لَا تَخْصِيصَ لِلْعُمُومَاتِ إلَّا بِدَلِيلٍ .
وَالْقِيَاسُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَخُصُّ بِهِ ابْتِدَاءً بَلْ بَعْدَ إخْرَاجِ شَيْءٍ بِسَمْعِيٍّ سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ فِي الْقِيَاسِ الْمَقْصُودُ وَغَيْرُ الْمَقْصُودِ .
وَأَمَّا الثَّانِي لَمْ يَتِمَّ لَهُ أَصْلٌ صَحِيحٌ ، وَقَوْلُهُ الْمَالُ هُنَا كَالْمَاءِ يَتَدَنَّسُ بِإِسْقَاطِ الْفَرْضِ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ إذْ حُكْمُ الْأَصْلِ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَوْ مُجْمَعًا ، وَلَيْسَ ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لِلْمَاءِ كَذَلِكَ بَلْ الْمَالُ
هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَى حُكْمِهِ هَذَا مِنْ التَّدَنُّسِ فَهُوَ أَصْلٌ لِلْمَاءِ فِي ذَلِكَ .
فَإِثْبَاتُ مِثْلِهِ شَرْعًا لِلْمَاءِ إنَّمَا هُوَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَالِ ، إذْ لَا نَصَّ فِي الْمَاءِ ، وَنَفْسُ الْمُصَنِّفِ مَشَى عَلَى الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ فِي بَحْثِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ حَيْثُ قَالَ فِي وَجْهِ الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ لِلْفَتْوَى إلَّا أَنَّهُ يَعْنِي الْمَاءَ أُقِيمَتْ بِهِ قُرْبَةٌ فَتَغَيَّرَتْ صِفَتُهُ كَمَالِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَ مَالَ الصَّدَقَةِ أَصْلًا فَكَيْفَ يَجْعَلُ هُنَا الْمَاءَ أَصْلًا لِمَالِ الصَّدَقَةِ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمَقْصُودُ هُنَا فِي قَوْلِهِ التَّطَوُّعُ بِالصَّدَقَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّدِ بِالْمَاءِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ إلْحَاقُ قُرْبَةٍ بِغَيْرِ قُرْبَةٍ ، وَالصَّوَابُ فِي الْإِلْحَاقِ أَنْ يُقَالَ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ لِيَكُونَ إلْحَاقُ قُرْبَةِ نَافِلَةٍ بِقِرْبَةِ نَافِلَةٍ ، وَبَعْدَ هَذَا إنْ ادَّعَى أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ عَدَمُ تَدَنُّسِ مَا أُقِيمَ بِهِ هَذِهِ الْقُرْبَةُ مَنَعْنَا حُكْمَ الْأَصْلِ فَإِنَّ التَّدَنُّسَ لِلْآلَةِ بِوَاسِطَةِ خُرُوجِ الْأَثَامِ وَإِزَالَةِ الظُّلْمَةِ ، وَالْقُرْبَةُ النَّافِلَةُ تُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَدْرِهِ .
وَقَدْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوُضُوءُ عَلَى الْوُضُوءِ نُورٌ عَلَى نُورٍ } أَنَّهُ يُفِيدُ إزَالَةَ الظُّلْمَةِ بِقَدْرِ إفَادَةِ زِيَادَةِ ذَلِكَ النُّورِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْوُضُوءَ النَّفَلَ إذَا كَانَ مَنْوِيًّا يَصِيرُ الْمَاءُ بِهِ مُسْتَعْمَلًا عَلَى مَا عُرِفَ فِي قَوْلِهِ الْمُسْتَعْمَلُ : هُوَ مَا أُزِيلَ بِهِ حَدَثٌ أَوْ اُسْتُعْمِلَ فِي الْبَدَنِ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَهُمْ آلُ عَلِيٍّ إلَخْ ) لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الَّذِينَ لَهُمْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ كُلُّهُمْ بَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْهُمْ بِعَدَدِهِمْ فَخَرَجَ أَبُو لَهَبٍ بِذَلِكَ حَتَّى يَجُوزَ الدَّفْعُ إلَى بَنِيهِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ لِبَنِي هَاشِمٍ كَرَامَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ وَلِذُرِّيَّتِهِمْ حَيْثُ نَصَرُوهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ وَأَبُو لَهَبٍ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَسْتَحِقَّهَا بِنُورِهِ ( قَوْلُهُ وَأَمَّا مَوَالِيهِمْ فَلِمَا رُوِيَ إلَخْ ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ : اصْحَبْنِي فَإِنَّكَ تُصِيبُ مِنْهَا ، قَالَ : حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلُهُ ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَكَذَا صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَأَبُو رَافِعٍ هَذَا اسْمُهُ أَسْلَمَ ، وَاسْمُ ابْنِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ وَهُوَ كَاتِبُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( قَوْلُهُ : وَقَدْ خَصَّ الصَّدَقَةَ ) يَعْنِي فَيَبْقَى فِيمَا رَوَاهُ عَلَى الْقِيَاسِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ وَلَا يَكُونُ كُفْئًا لَهُمْ
( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى رَجُلٍ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ فَبَانَ أَنَّهُ أَبُوهُ أَوْ ابْنُهُ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ) لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ وَإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصَارَ كَالْأَوَانِي وَالثِّيَابِ .
وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيهِ { يَا يَزِيدُ لَكَ مَا نَوَيْتَ ، وَيَا مَعْنُ لَكَ مَا أَخَذْتَ } وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَكِيلُ أَبِيهِ صَدَقَتَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالِاجْتِهَادِ دُونَ الْقَطْعِ فَيَبْتَنِي الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِ الْغَنِيِّ أَنَّهُ لَا يَجْزِيهِ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَهَذِهِ إذَا تَحَرَّى فَدَفَعَ وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ مَصْرِفٌ ، أَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ أَوْ تَحَرَّى فَدَفَعَ ، وَفِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ لَا يَجْزِيهِ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَى شَخْصٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِيهِ لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ وَهُوَ الرُّكْنُ عَلَى مَا مَرَّ .
( قَوْلُهُ : لِانْعِدَامِ التَّمْلِيكِ ) فَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ وَلَهُ حَقٌّ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْلِيكُ بِخِلَافِ الدَّفْعِ لِمَنْ ظَهَرَ غِنَاهُ وَأَخَوَاتُهُ ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ ) وَلَكِنْ لَا يَسْتَرِدُّ مَا أَدَّاهُ ، وَهَلْ يَطِيبُ لِلْقَابِضِ إذَا ظَهَرَ الْحَالُ ، وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ يَتَصَدَّقُ بِهِ .
وَقِيلَ : يَرُدُّهُ عَلَى الْمُعْطِي عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ لِيُعِيدَ الْأَدَاءَ ( قَوْلُهُ وَصَارَ كَالْأَوَانِي ) يُفِيدُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ فِي صُورَةِ الْخِلَافِيَّةِ كَوْنُ الْأَدَاءِ بِالتَّحَرِّي وَإِلَّا قَالَ : وَصَارَ كَالْمَاءِ وَالثِّيَابِ : يَعْنِي إذَا تَحَرَّى فِي الْأَوَانِي فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ التَّحَرِّي فِيهَا بِأَنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطَّاهِرَةِ مِنْهَا أَوْ فِي الثِّيَابِ ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى فِيهَا وَإِنْ كَانَ الطَّاهِرُ مَغْلُوبًا فَوَقَعَ تَحَرِّيهِ عَلَى إنَاءٍ أَوْ ثَوْبٍ فِيهِ وَتَوَضَّأَ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ نَجَاسَتُهُ يُعِيدُ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَذَا ، وَمِثْلُهُ مَا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ ، وَلَهُمَا حَدِيثُ مَعْنٍ ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ { مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَأَبِي وَجَدِّي ، وَخَطَبَ عَلِيٌّ فَأَنْكَحَنِي وَخَاصَمْتُ إلَيْهِ ، وَكَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ ، فَجِئْتُ فَأَخَذْتُهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا إيَّاكَ أَرَدْتُ ، فَخَاصَمْتُهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ } ا هـ .
وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاقِعَةَ حَالٍ يَجُوزُ فِيهَا كَوْنُ تِلْكَ الصَّدَقَةِ كَانَتْ نَفْلًا ، لَكِنَّ عُمُومَ لَفْظِ مَا فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَكَ مَا نَوَيْتَ } يُفِيدُ الْمَطْلُوبَ ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إنَّمَا
هُوَ بِالِاجْتِهَادِ لَا الْقَطْعِ فَيُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى مَا يَقَعُ عِنْدَهُ كَمَا إذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ ، وَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْإِفَادَةِ كَانَ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ الِاجْتِهَادِ ، وَلَوْ فُرِضَ تَكَرُّرُ خَطَئِهِ فَتَكَرَّرَتْ الْإِعَادَةُ أَفْضَى إلَى الْحَرَجِ لِإِخْرَاجِ كُلِّ مَالِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الزَّكَاةُ خُصُوصًا مَعَ كَوْنِ الْحَرَجِ مَدْفُوعًا شَرْعًا عُمُومًا بِخِلَافِ نَجَاسَةِ الْمَاءِ وَوُجُودِ النَّصِّ فَإِنَّهُ مِمَّا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ بِالْأَخْبَارِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا تَحَرَّى إلَخْ ) تَحْرِيرٌ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ : دَفَعَ لِشَخْصٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ فَهُوَ عَلَى الْجَوَازِ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ غِنَاهُ مَثَلًا فَيُعِيدُ ، وَإِنْ شَكَّ فَلَمْ يَتَحَرَّ وَدَفَعَ أَوْ تَحَرَّى فَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ غِنَاهُ وَدَفَعَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَظْهَرَ أَنَّهُ مَصْرِفٌ فَيُجْزِيهِ فِي الصَّحِيحِ ، وَظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا كَمَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الِاشْتِبَاهِ إلَى غَيْرِ جِهَةِ التَّحَرِّي فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَإِنَّ ظَهَرَ صَوَابُهُ ، وَالْحَقُّ الِاتِّفَاقُ عَلَى الْجَوَازِ هُنَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ مَعْصِيَةٌ لِتَعَمُّدِهِ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ إذْ هِيَ التَّحَرِّي ، حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ ، فَلَا تَنْقَلِبُ طَاعَةً ، وَهُنَا نَفْسُ الْإِعْطَاءِ لَا يَكُونُ بِهِ عَاصِيًا فَصَلُحَ وُقُوعُهُ مُسْقِطًا إذَا ظَهَرَ صَوَابُهُ .
الثَّالِثُ : إذَا شَكَّ فَتَحَرَّى فَظَنَّهُ مَصْرِفًا فَدَفَعَ فَظَهَرَ خِلَافُهُ ، وَهِيَ الْخِلَافِيَّةُ .
( وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى مَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ ) لِأَنَّ الْغِنَى الشَّرْعِيَّ مُقَدَّرٌ بِهِ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْوُجُوبَ ( وَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى مَنْ يَمْلِكُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا ) لِأَنَّهُ فَقِيرٌ وَالْفُقَرَاءُ هُمْ الْمَصَارِفُ ، وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَاجَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى دَلِيلِهَا وَهُوَ فَقْدُ النِّصَابِ
( قَوْلُهُ : وَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ لِمَنْ يَمْلِكُ نِصَابًا مِنْ أَيِّ مَالٍ كَانَ ) مِنْ فُرُوعِهَا : قَوْمٌ دَفَعُوا الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَجْمَعُهَا لِفَقِيرٍ فَاجْتَمَعَ عِنْدَ الْآخِذِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْنِ فَإِنْ كَانَ جَمَعَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ ، قَالُوا : كُلُّ مَنْ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا فِي يَدِ الْجَانِي مِائَتَيْنِ جَازَتْ زَكَاتُهُ ، وَمَنْ دَفَعَ بَعْدَهُ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مَدْيُونًا فَيُعْتَبَرُ هَذَا التَّفْصِيلُ فِي مِائَتَيْنِ تَفْضُلُ بَعْدَ دَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ جَازَ الْكُلُّ مُطْلَقًا لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ هُوَ وَكِيلٌ عَنْ الْفَقِيرِ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ يَمْلِكُهُ ، وَفِي الثَّانِي وَكِيلُ الدَّافِعِينَ فَمَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِلْكُهُمْ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا أَلْفًا وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَوَزَنَهَا مِائَةً مِائَةً وَقَبَضَهَا كَذَلِكَ يُجْزِيهِ كُلُّ الْأَلْفِ مِنْ الزَّكَاةِ إذَا كَانَتْ كُلُّهَا حَاضِرَةً فِي الْمَجْلِسِ وَدَفَعَ كُلَّهَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهَا جُمْلَةً ، وَلَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَاسْتَدْعَى بِهَا مِائَةً مِائَةً كُلَّمَا حَضَرَتْ مِائَةٌ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَا يَجُوزُ مِنْهَا إلَّا مِائَتَانِ وَالْبَاقِي تَطَوُّعٌ .
( قَوْلُهُ : وَالشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ الْحَاجَةِ ) أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ نِصَابٌ لَيْسَ نَامِيًا وَهُوَ مُسْتَغْرَقٌ بِحَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَيَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَا فِيمَنْ يَمْلِكُ كُتُبًا تُسَاوِي نِصَابًا ، وَهُوَ عَالِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَوْ هُوَ جَاهِلٌ لَا حَاجَةَ لَهُ بِهَا ، فِيمَنْ لَهُ آلَاتٌ وَفَرَسٌ وَدَارٌ وَعَبْدٌ يَحْتَاجُهَا لِلْخِدْمَةِ وَالِاسْتِعْمَالِ أَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ نَامٍ إلَّا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ ، وَعَنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ : رَجُلٌ لَهُ أَلْفٌ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ وَلَهُ دَارٌ وَخَادِمٌ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافٍ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ فِي الْكِتَابِ : أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَلَمْ يَكُنْ مَوْضِعًا لِلصَّدَقَةِ ، وَفِي الْفَتَاوَى : لَوْ كَانَ لَهُ
حَوَانِيتُ أَوْ دَارُ غَلَّةٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَغَلَّتُهَا لَا تَكْفِي لِقُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَهَذَا التَّخْصِيصُ يُفِيدُ الْخِلَافَ ، وَفِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ مِنْ الْخُلَاصَةِ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الضَّيْعَةِ وَالْكَرْمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلَعَلَّهُ هُوَ الْخِلَافُ الْمُرَادُ فِي الْفَتَاوَى .
وَلَوْ اشْتَرَى قُوتَ سَنَةٍ يُسَاوِي نِصَابًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ نِصَابًا .
وَقِيلَ : إنْ كَانَ طَعَامَ شَهْرٍ يُسَاوِي نِصَابًا جَازَ الصَّرْفُ إلَيْهِ لَا إنْ زَادَ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ كِسْوَةُ الشِّتَاءِ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الصَّيْفِ جَازَ الصَّرْفُ ، وَيُعْتَبَرُ مِنْ الْمَزَارِعِ مَا زَادَ عَلَى ثَوْرَيْنِ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا مُكْتَسِبًا ) وَعِنْدَ غَيْرِ وَاحِدٍ لَا يَجُوزُ لِلْكَسُوبِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } .
{ وَقَوْلُهُ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ سَأَلَاهُ فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ أَمَا إنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهَا وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا } .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حُرْمَةُ سُؤَالِهِمَا لِقَوْلِهِ { وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا } وَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ مُحَرَّمًا غَيْرَ مُسْقِطٍ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ لَمْ يَفْعَلْهُ .
( وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَإِنْ دَفَعَ جَازَ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْغِنَى قَارَنَ الْأَدَاءَ فَحَصَلَ الْأَدَاءُ إلَى الْغِنَى .
وَلَنَا أَنَّ الْغِنَى حُكْمُ الْأَدَاءِ فَيَتَعَقَّبُهُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِقُرْبِ الْغِنَى مِنْهُ كَمَنْ صَلَّى وَبِقُرْبِهِ نَجَاسَةٌ ( قَالَ : وَأَنْ تُغْنِيَ بِهَا إنْسَانًا أَحَبُّ إلَيَّ ) مَعْنَاهُ الْإِغْنَاءُ عَنْ السُّؤَالِ يَوْمَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِغْنَاءَ مُطْلَقًا مَكْرُوهٌ .
.
( قَوْلُهُ : وَيُكْرَهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَى وَاحِدٍ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا ) إلَّا أَنْ يَكُونَ مَدْيُونًا لَا يَفْضُلُ لَهُ بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِهِ نِصَابٌ ، أَوْ يَكُونَ مَعِيلًا إذَا وَزَّعَ الْمَأْخُوذَ عَلَى عِيَالِهِ لَمْ يُصِبْ كُلًّا مِنْهُمْ نِصَابٌ وَالْمَسْأَلَةُ ظَاهِرَةٌ حُكْمًا وَدَلِيلًا .
وَقَوْلُهُ : فَيَتَعَقَّبُهُ صَرِيحٌ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ إيَّاهَا فِي الْخَارِجِ ، وَالْأَحَبُّ أَنْ يُغْنِيَ بِهَا فَقِيرًا يَوْمَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَغْنُوهُمْ عَنْ الْمَسْأَلَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ } وَالْأَوْجَهُ غَيْرُ هَذَا الْإِطْلَاقِ ، بَلْ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْأَحْوَالُ فِي كُلِّ فَقِيرٍ مِنْ عِيَالٍ وَحَاجَةٍ أُخْرَى كَدَيْنٍ وَثَوْبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ كَانَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
قَالَ ( وَيُكْرَهُ نَقْلُ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ) وَإِنَّمَا تُفَرَّقُ صَدَقَةُ كُلِّ فَرِيقٍ فِيهِمْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِيهِ رِعَايَةُ حَقِّ الْجِوَارِ ( إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا الْإِنْسَانُ إلَى قَرَابَتِهِ أَوْ إلَى قَوْمٍ هُمْ أَحْوَجُ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الصِّلَةِ : أَوْ زِيَادَةِ دَفْعِ الْحَاجَةِ ، وَلَوْ نَقَلَ إلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مُطْلَقُ الْفُقَرَاءِ بِالنَّصِّ .
( قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ ) وَهُوَ قَوْلُهُ فَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ هَذَا وَالْمُعْتَبَرُ فِي الزَّكَاةِ مَكَانُ الْمَالِ ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ مَكَانُ الرَّأْسِ الْمُخْرَجِ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ مُرَاعَاةً لِإِيجَابِ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وُجُودِ سَبَبِهِ ، قَالُوا : الْأَفْضَلُ فِي صَرْفِهَا أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى إخْوَانِهِ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ أَعْمَامِهِ الْفُقَرَاءِ ثُمَّ أَخْوَالِهِ ثُمَّ ذَوِي أَرْحَامِهِ ثُمَّ جِيرَانِهِ ثُمَّ أَهْلِ سَكَنِهِ ثُمَّ أَهْلِ مِصْرِهِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْقُلَهَا ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ كَرَاهَةِ النَّقْلِ ، وَوَجْهُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْقِيَمِ مِنْ قَوْلِ مُعَاذٍ لِأَهْلِ الْيَمَنِ : ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابِ خَمِيسٍ أَوْ لَبِيسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ ، وَيَجِبُ كَوْنُ مَحْمَلِهِ كَوْنَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ أَحْوَجُ أَوْ ذَلِكَ مَا يَفْضُلُ بَعْدَ إعْطَاءِ فُقَرَائِهِمْ ، وَأَمَّا النَّقْلُ لِلْقَرَابَةِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ زِيَادَةً عَلَى قُرْبَةِ الزَّكَاةِ ، هَذَا وَيُنَاسِبُ إيلَاءَ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ بِإِيجَابِ الْعَبْدِ فَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِهَا تَكْمِيلًا لِلْوَضْعِ ، تَلْزَمُ الصَّدَقَةُ بِالنَّذْرِ فَإِنْ عَيَّنَ دِرْهَمًا أَوْ فَقِيرًا بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ عَلَى هَذَا الْفَقِيرِ لَمْ يَلْزَمْ ، فَلَوْ تَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخُبْزِ كَذَا وَكَذَا فَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهِ جَازَ ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ غَيْرُهَا وَلَوْ لَمْ تَهْلَكْ فَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهَا جَازَ ، وَلَوْ قَالَ : كُلُّ مَنْفَعَةٍ تَصِلُ إلَيَّ مِنْ مَالِكَ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا لَزِمَهُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا مَلَكَهُ لَا بِمَا أَبَاحَهُ كَطَعَامٍ أُذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ ، وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَمَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ لَا يَدْخُلُ مَا لَهُ مِنْ الدُّيُونِ عَلَى النَّاسِ وَدَخَلَ مَا سِوَاهَا .
وَهَلْ يَتَقَيَّدُ بِمَالِ الزَّكَاةِ نَذْكُرُهُ فِي آخَرِ كِتَابِ الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ قَالَ : إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا فَعَلَيَّ زَكَاتُهُ لِكُلِّ مِائَتَيْنِ عَشَرَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُ سِوَى خَمْسَةٍ إذَا رُزِقَهُ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِي صَدَقَةٌ فَفَعَلَهُ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مِائَةً مَثَلًا الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ إلَّا بِمَا مَلَكَ ، لِأَنَّ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْ لَمْ يَكُنْ النَّذْرُ مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ وَلَا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ .
كَمَا لَوْ قَالَ : مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ وَلَا مَالَ لَهُ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ .
وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا أَكَلْت كَذَا فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ لُقْمَةٍ مِنْهُ دِرْهَمٌ لِأَنَّ كُلَّ لُقْمَةٍ أَكْلَةٌ .
وَلَوْ قَالَ : كُلَّمَا شَرِبْت فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِكُلِّ نَفَسٍ لَا بِكُلِّ مَصَّةٍ ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ فَتَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ جَازَ لِأَنَّ لُزُومَ النَّذْرِ إنَّمَا هُوَ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ ، وَذَلِكَ بِالصَّدَقَةِ فَبِاعْتِبَارِهَا يَلْزَمُ لَا بِمَا زَادَ ، وَأَيْضًا الصَّرْفُ إلَى كُلِّ فَقِيرٍ صَرْفٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمُسْتَحِقُّ فَيَجُوزُ ، وَصَارَ نَظِيرُ مَا لَوْ نَذَرَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً بِمَكَّةَ فَصَامَ وَصَلَّى فِي غَيْرِهَا حَيْثُ يَجُوزُ عِنْدَنَا .
بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ مَالِكًا لِمِقْدَارِ النِّصَابِ فَاضِلًا عَنْ مَسْكَنِهِ وَثِيَابِهِ وَأَثَاثِهِ وَفَرَسِهِ وَسِلَاحِهِ وَعَبِيدِهِ ) أَمَّا وُجُوبُهَا فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي خُطْبَتِهِ { أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ } رَوَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيُّ أَوْ صُعَيْرٍ الْعُذْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَبِمِثْلِهِ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ لِعَدَمِ الْقَطْعِ
( بَابُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ) الْكَلَامُ فِي كَيْفِيَّتِهَا وَكَمِّيَّتِهَا وَشَرْطِهَا وَسَبَبِهَا وَسَبَبِ شَرْعِيَّتِهَا وَرُكْنِهَا وَوَقْتِ وُجُوبِهَا وَوَقْتِ الِاسْتِحْبَابِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرُّكْنَ هُوَ نَفْسُ الْأَدَاءِ إلَى الْمَصْرِفِ ، وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهَا مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ } وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ : لَيْسَ فِي رُوَاتِهِ مَجْرُوحٌ وَالْبَاقِي يَأْتِي فِي الْكِتَابِ بَحْثًا بَحْثًا .
فَالْأَوَّلُ وَهُوَ كَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ لِحَدِيثِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ الْعَدَوِيِّ وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيٌّ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَمُسْنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فِي الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ وَالْمَتْنِ ، فَالْأَوَّلُ : أَهُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ أَبِي صُعَيْرٍ أَوْ هُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صُعَيْرٍ أَوْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ ، وَالثَّانِي : أَهُوَ الْعَدَوِيُّ أَوْ الْعُذْرِيُّ فَقِيلَ الْعَدَوِيُّ نِسْبَةً إلَى جَدِّهِ الْأَكْبَرِ عَدِيٍّ وَقِيلَ : الْعُذُرِيُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ فِي الْمُغْرِبِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْغَسَّانِيُّ فِي تَقْيِيدِ الْمُهْمَلِ : الْعُذُرِيُّ بِضَمِّ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالرَّاءِ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَبُو مُحَمَّدٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ صَغِيرٌ ، وَالْعَدَوِيُّ تَصْحِيفُ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ .
وَالثَّالِثُ : أَهُوَ أَدُّوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ قَمْحٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ ، أَوْ هُوَ صَدَقَةُ الْفِطْرِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ قَمْحٍ عَلَى كُلِّ اثْنَيْنِ .
قَالَ فِي الْإِمَامِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُحَرَّفَ لَفْظُ رَأْسٍ إلَى اثْنَيْنِ ا هـ .