كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ .
أَمَّا لَوْ فُرِضَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى السُّلْطَانِ ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَيَّرَهُ الْحَلْوَانِيُّ بَيْنَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ أَوْ يَحْفَظَهُ بِنَفْسِهِ ، وَعَلَى هَذَا الضَّالُّ وَالضَّالَّةُ مِنْ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا ، وَإِذَا حَبَسَ الْإِمَامُ الْآبِقَ فَجَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَاهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ يَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ أَنَّهُ بَاقٍ إلَى الْآنِ فِي مِلْكِك لَمْ يَخْرُجْ بِبَيْعٍ وَلَا هِبَةٍ ، فَإِذَا حَلَفَ دَفَعَهُ إلَيْهِ .
وَهَذَا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ عَرَضَ بَعْدَ عِلْمِ الشُّهُودِ بِثُبُوتِ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ زَوَالِهِ بِسَبَبٍ لَا يَعْلَمُونَهُ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحْلِفُهُ مَعَ عَدَمِ خَصْمٍ يَدَّعِي لِصِيَانَةِ قَضَائِهِ عَنْ الْخَطَإِ وَنَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مَوْهُوبٍ لَهُ ، ثُمَّ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ عَنْ بَيِّنَةٍ فَفِي أَوْلَوِيَّةِ أَخْذِ الْكَفِيلِ وَتَرْكِهِ رِوَايَتَانِ ، وَكَمَا يَدْفَعُهُ بِالْبَيِّنَةِ يَدْفَعُهُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ أَنَّهُ لَهُ ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ هُنَا كَفِيلًا رِوَايَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مُدَّةَ حَبْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَرُدُّهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ اللَّقِيطِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا كَبِرَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ بِفَقْرِهِ وَعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ ، بِخِلَافِ مَالِكِ الْعَبْدِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِئْ لِلْعَبْدِ طَالِبٌ وَطَالَتْ مُدَّتُهُ بَاعَهُ الْقَاضِي وَأَمْسَكَ ثَمَنَهُ بَعْدَ أَخْذِ مَا أَنْفَقَ لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْهُ ، فَإِذَا جَاءَ مَالِكُهُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَأْخُذُهُ وَلَا يُنْتَقَضُ بَيْعُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَحُكْمِهِ ، بِخِلَافِ الضَّالِّ إذَا طَالَتْ مُدَّتُهُ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْشَى إبَاقَهُ فَلَا يَبِيعُهُ ، أَمَّا الْآبِقُ فَيُخْشَى ذَلِكَ مِنْهُ فَلِذَلِكَ يَبِيعُهُ وَلَا يُؤَاجِرُهُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّرَ الطُّولَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الضَّالَّةِ الْمُلْتَقَطَةِ لِأَنَّ دَارَّةَ النَّفَقَةِ مُسْتَأْصَلَةٌ ، وَلَا نَظَرَ فِي ذَلِكَ لِلْمَالِكِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ
قَالَ ( وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جُعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَبِحِسَابِهِ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فَأَشْبَهَ الْعَبْدَ الضَّالَّ .
وَلَنَا أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْجُعْلِ ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا ، فَأَوْجَبْنَا الْأَرْبَعِينَ فِي مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَمَا دُونَهَا فِيمَا دُونَهُ تَوْفِيقًا وَتَلْفِيقًا بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ إيجَابَ الْجُعْلِ أَصْلُهُ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ نَادِرَةٌ فَتَحْصُلُ صِيَانَةُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَالتَّقْدِيرُ بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ دُونَهَا إلَى صِيَانَةِ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَارَى وَالْآبِقُ يَخْتَفِي ، وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي وَقِيلَ تُقَسَّمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إذْ هِيَ أَقَلُّ مُدَّةِ السَّفَرِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يُقْضَى لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الزِّيَادَةِ ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَقَلِّ لِأَنَّهُ حَطَّ مِنْهُ .
وَمُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصُ دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةٍ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ ؛ وَلَوْ رَدَّ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا
جُعْلَ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ بِخِلَافِ الْقِنِّ ، وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَتَبَرَّعُونَ بِالرَّدِّ عَادَةً وَلَا يَتَنَاوَلُهُمْ إطْلَاقُ الْكِتَابِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لَكِنَّ هَذَا إذَا أَشْهَدَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي اللُّقَطَةِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْآبِقَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْجُعْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ بِحَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَكَذَا إذَا مَاتَ فِي يَدِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا .
قَالَ ( وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ صَارَ قَابِضًا بِالْإِعْتَاقِ ) كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى ، وَكَانَ إذَا بَاعَهُ مِنْ الرَّادِّ لِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لَهُ ، وَالرَّادُّ وَإِنْ كَانَ لَهُ حُكْمُ الْبَيْعِ .
لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ رَدَّ الْآبِقَ عَلَى مَوْلَاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ عَلَيْهِ جَعْلُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ) فِضَّةً بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ( وَإِنْ رَدَّهُ لِأَقَلَّ ) مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ ( فَبِحِسَابِهِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ شَيْءٌ إلَّا بِالشَّرْطِ ) بِأَنْ يَقُولَ مَنْ رَدَّ عَلَيَّ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا كَمَا إذَا رَدَّ بَهِيمَةً ضَالَّةً أَوْ عَبْدًا ضَالًّا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّادَّ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا فَكَذَا هَذَا .
وَقَوْلُنَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ ( وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَصْلِ الْجُعْلِ ، إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْأَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَا دُونَهَا ) وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ الْفَتْوَى بِهِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ حَيْثُ لَا يَخْفَى فَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ .
وَذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ : " كُنْت قَاعِدًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا قَدِمَ بِإِبَاقٍ مِنْ الْفَيُّومِ ، فَقَالَ الْقَوْمُ لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : وَجُعْلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ " .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدٍ نَفْسِهِ أَيْضًا ، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ قَالَ : أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي رَبَاحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ : " أَصَبْت غِلْمَانًا إبَاقًا بَالِغِينَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : الْأَجْرُ وَالْغَنِيمَةُ ، قُلْت هَذَا الْأَجْرُ فَمَا الْغَنِيمَةُ ؟ قَالَ : أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنْ كُلِّ رَأْسٍ " وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي جُعْلِ الْآبِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ " أَعْطَيْت الْجُعْلَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا " .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا " .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ جَعَلَ فِي جُعْلِ الْآبِقِ دِينَارًا أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا " وَأَخْرَجَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ يُوجَدُ فِي خَارِجِ الْحَرَمِ بِدِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ .
وَالْمَفْهُومُ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ فِي الْمُتَبَادِرِ الْقُرْبِ لَا قَدْرِ مَسِيرَةِ سَفَرٍ عَنْهُ ، وَعَنْ هَذَا رَوَى عَمَّارٌ " إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةٌ ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ " لَعَلَّهُ اعْتَبَرَ الْحَرَمَ كَالْمَكَانِ الْوَاحِدِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( إلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ أَرْبَعِينَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ دُونَهَا ) يُرِيدُ الْمَرْوِيَّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ ، وَقَدْ عَلِمْت الرِّوَايَةَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّ الْجُعْلَ أَرْبَعُونَ ، وَسَنَدُهُ أَحْسَنُ مِنْ الْأُخْرَى ، وَالرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ مُضَعَّفَةٌ بِالْحَرْثِ الْمَذْكُورِ فَكَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَقْوَى الْكُلِّ فَرَجَّحْنَاهَا ، وَكَذَا قَوْلُ الْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنِهِ : هُوَ أَمْثَلُ مَا فِي الْبَابِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ إذَا سَاوَى الْأَكْثَرَ فِي الْقُوَّةِ .
وَقِيلَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِهِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ التَّوْفِيقُ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ ، وَهُنَا يُمْكِنُ إذْ تُحْمَلُ رِوَايَاتُ الْأَرْبَعِينَ عَلَى رَدِّهِ مِنْ مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَرِوَايَاتُ الْأَقَلِّ عَلَى مَا دُونَهَا ، وَيُحْمَلُ
قَوْلُ عَمَّارٍ خَارِجَ الْمِصْرِ عَلَى مُدَّةِ السَّفَرِ ( وَالتَّلْفِيقُ ) الضَّمُّ لَفَقْت الثَّوْبَ أَلْفِقُهُ : إذَا ضَمَمْت شِقَّهُ إلَى شِقِّهِ ، وَلِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يُعْرَفُ إلَّا سَمَاعًا فَكَانَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابَةِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ، وَأَصَحُّهَا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَهُوَ بَعْدَ كَوْنِهِ مُثْبَتًا لِلزِّيَادَةِ وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ رَاجِحٌ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا ( وَلِأَنَّ إيجَابَ أَصْلِ الْجُعْلِ حَامِلٌ عَلَى الرَّدِّ إذْ الْحِسْبَةُ ) وَهُوَ رَدُّهُ احْتِسَابًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ نَادِرَةٌ فَشُرِعَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِعَةِ إلَى الْعِبَادِ مِنْ صِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ ( وَتَقْدِيرُ الْجُعْلِ ) إنَّمَا يُدْرَى ( بِالسَّمْعِ وَلَا سَمْعَ فِي الضَّالِّ فَامْتَنَعَ ) إلْحَاقُهُ بِهِ قِيَاسًا وَدَلَالَةً أَيْضًا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى صِيَانَةِ الضَّالِّ فِي رَدِّهِ دُونَهَا فِي رَدِّ الْآبِقِ لِمَا فِي رَدِّهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّحَفُّظِ فِي حِفْظِهِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي مُرَاعَاتِهِ كَيْ لَا يَأْبِقَ ثَانِيًا مِمَّا لَيْسَ فِي رَدِّ الضَّالِّ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ كَانَ الْآبِقُ لِرَجُلَيْنِ فَصَاعِدًا فَالْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ النَّصِيبِ ، فَلَوْ كَانَ الْبَعْضُ غَائِبًا فَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ حَتَّى يُعْطِيَ تَمَامَ الْجُعْلِ وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِ الْغَائِبِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِيمَا يُعْطِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى نَصِيبِهِ إلَّا بِهِ ، هَذَا كُلُّهُ إذَا رَدَّهُ بِلَا اسْتِعَانَةٍ ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ : إنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَقَ فَإِذَا وَجَدْته خُذْهُ فَوَجَدَهُ فَرَدَّهُ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ ، لِأَنَّ مَالِكَهُ اسْتَعَانَ بِهِ وَوَعَدَهُ الْإِعَانَةَ وَالْمُعِينُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا .
وَقَوْلُهُ ( وَمَا دُونَهُ فِيمَا دُونَهُ ) أَيْ أَوْجَبْنَا مَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَرَّفْنَا إيجَابَ الْجُعْلِ بِكُلِّ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ مِقْدَارٌ وَذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ ، فَإِذَا حَمَلْنَا بَعْضَهُ عَلَى مَا دُونَ
السَّفَرِ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا بِالْإِيجَابِ فِيمَا دُونَ السَّفَرِ ، لِأَنَّهُ مَا ذُكِرَ ذَلِكَ إلَّا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ ( قَوْلُهُ وَيُقَدَّرُ الرَّضْخُ فِي الرَّدِّ عَمَّا دُونَ السَّفَرِ بِاصْطِلَاحِهِمَا ) أَيْ الْمَالِكِ وَالرَّادِّ أَوْ يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي يُقَدِّرُهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ ، قَالُوا : وَهَذَا هُوَ الْأَشْبَهُ بِالِاعْتِبَارِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ ( تُقْسَمُ الْأَرْبَعُونَ عَلَى الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ) لِكُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ يَقْضِي لَهُ بِقِيمَتِهِ إلَّا دِرْهَمًا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ آخِرًا ( لَهُ أَرْبَعُونَ ) وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا ، وَلَمْ يُذْكَرْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَذُكِرَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ مَعَ مُحَمَّدٍ وَجْهُ أَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ التَّقْدِيرَ بِهَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ) أَيْ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعُمَرَ وَوَجَبَ اتِّبَاعُهُمَا ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ مُخَالَفَةِ مَنْ سِوَاهُمَا لِوُجُوبِ حَمْلِ قَوْلِ مَنْ نَقَصَ مِنْهَا عَلَى مَا نَقَصَ مِنْ السَّفَرِ فَلَا يُنْتَقَصُ عَنْهَا ( وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَقْصُودَ ) مِنْ إيجَابِ الْجُعْلِ ( حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى الرَّدِّ لِيَحْيَا مَالُ الْمَالِكِ فَيَنْقُصَ ) مِنْهُ ( دِرْهَمٌ لِيَسْلَمَ لَهُ شَيْءٌ تَحْقِيقًا لِلْفَائِدَةِ ) أَيْ فَائِدَةِ إيجَابِ الْجُعْلِ ، وَتَعْيِينُ الدِّرْهَمِ لِأَنَّ مَا دُونَهُ كُسُورٌ ( وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ إذَا كَانَ الرَّدُّ فِي حَيَاةِ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إحْيَاءِ مِلْكِهِ ) وَبِهِ تَحْيَا مَالِيَّتُهُ لَهُ إمَّا بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ كَمَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ لِأَنَّهَا لَا مَالِيَّةَ فِيهَا عِنْدَهُ لَكِنَّهُ أَحَقُّ بِأَكْسَابِهَا ( وَلَوْ رَدَّهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ لَا جُعْلَ لَهُ فِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يُعْتَقَانِ بِالْمَوْتِ )
فَيَقَعُ رَدُّ حُرٍّ لَا مَمْلُوكٍ عَلَى مَالِكِهِ ، وَهَذَا فِي أُمِّ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ حِينَئِذٍ بِالْمَوْتِ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ كَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِيُعْتَقَ وَلَا جُعْلَ فِي رَدِّ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَفِيدُ بِرَدِّهِ مِلْكًا بَلْ اسْتَفَادَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَانَ كَرَدِّ غَرِيمٍ لَهُ وَبِرَدِّ غَرِيمٍ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، بِخِلَافِ الْقِنِّ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الرَّادُّ أَبَا الْمَوْلَى أَوْ ابْنَهُ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا جُعْلَ ) لَهُ ، وَقَيَّدَ فِي عِيَالِهِ إنْ رَجَعَ إلَى الرَّادِّ أَوْ إلَى الِابْنِ اقْتَضَى أَنْ يَتَقَيَّدَ نَفْيُ الْجُعْلِ إذَا كَانَ الرَّادُّ ابْنًا بِكَوْنِهِ فِي عِيَالِ الْمَالِكِ : أَيْ فِي نَفَقَتِهِ وَتَمْوِينِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَوْجِبُ جُعْلًا سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِ أَبِيهِ الْمَالِكِ أَوْ لَا ، وَجُمْلَةُ الْحَالِ أَنَّ الرَّادَّ إنْ كَانَ وَلَدَ الْمَالِكِ أَوْ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَالْوَصِيُّ لَا يَسْتَحِقُّ جُعْلًا مُطْلَقًا ، أَمَّا الْوَلَدُ فَلِأَنَّ الرَّادَّ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ وَبِاعْتِبَارِهِ يَجِبُ ، وَكَالْأَجِيرِ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخِدْمَةِ ، وَالْأَبُ إذَا اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِيَخْدُمَهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أُجْرَةً لِأَنَّ خِدْمَتَهُ وَاجِبَةٌ عَلَى الِابْنِ فَوَجَبَ مِنْ وَجْهٍ وَانْتَفَى مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَجِبُ بِالشَّكِّ ، وَهَذَا يُفِيدُ عَدَمَ الْوُجُوبِ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ ، فَإِذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ فَبِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَأَمَّا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ كَانَ زَوْجًا فَالْقِيَاسُ يَجِبُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَطْلُبَ الزَّوْجُ عَبْدَ امْرَأَتِهِ تَبَرُّعًا فِي الْعُرْفِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَالثَّابِتُ عُرْفًا كَالثَّابِتِ نَصًّا ، وَإِنْ كَانَ زَوْجَةً فَلَا يَجِبُ لِهَذَا ،
وَلِأَنَّ الرَّدَّ بِجِهَةِ الْخِدْمَةِ يَمْنَعُهَا مِنْهُ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بَدَلَ الْخِدْمَةِ عَلَى الزَّوْجِ كَالْوَلَدِ ، وَلِذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِتَخْدُمَهُ لَا يَجِبُ لَهَا شَيْءٌ ؛ وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَإِنَّمَا لَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ بِرَدِّ عَبْدِ الْيَتِيمِ لِأَنَّهُ مِنْ الْحِفْظِ ، وَشَأْنُ الْوَصِيِّ أَنْ يَحْفَظَ مَالَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْأَبِ وَبَاقِي الْأَقَارِبِ ، فَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِ الْمَالِكِ لَا يَجِبُ لَهُمْ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ وَجَبَ لَهُمْ لِأَنَّ الْعَادَةَ وَالْعُرْفَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَطْلُبُ الْآبِقَ بِمَنْ فِي عِيَالِهِ فَكَانَ التَّبَرُّعُ مِنْهُمْ ثَابِتًا عُرْفًا وَهُوَ كَالثَّابِتِ نَصًّا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُونُوا فِي عِيَالِهِ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ حِينَئِذٍ لَمْ يُوجَدْ نَصًّا وَلَا عُرْفًا ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَبَقَ مِنْ الَّذِي رَدَّهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَى الرَّادِّ .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْقُدُورِيِّ : لَا شَيْءَ لَهُ أَيْ لَا جُعْلَ لِلرَّادِّ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا صَحِيحٌ ( وَكَذَا إذَا مَاتَ عِنْدَهُ ) إلَّا أَنَّ نَفْيَ الْجُعْلِ يَصِحُّ بِلَا شَرْطٍ لِأَنَّ الْجُعْلَ كَالثَّمَنِ وَالرَّادُّ كَالْبَائِعِ لِلْمَالِكِ ، لِأَنَّهُ بِإِبَاقِهِ كَالْهَالِكِ مِنْ حَيْثُ فَوَاتُ جَمِيعِ الِانْتِفَاعَاتِ بِهِ ، وَبِالرَّدِّ كَأَنَّهُ اسْتَفَادَ مِلْكَهُ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ كَالْبَائِعِ وَلِذَا كَانَ لَهُ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْجُعْلِ ، وَالْبَائِعُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ أَبَقَ وَهُوَ عَبْدٌ سَقَطَ الثَّمَنُ فَكَذَا يَسْقُطُ الْجُعْلُ ، وَانْتِفَاءُ الضَّمَانِ يُشْتَرَطُ لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ أَمَانَةً عِنْدَهُ كَمَا فِي اللُّقَطَةِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَشْهَدَ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ إذَا قَالَ أَخَذْته لِأَرُدَّهُ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا ، فَلَوْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى إبَاقَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
ظَهَرَ مِنْ الرَّدِّ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُهُ وَهُوَ إذْنُ الشَّارِعِ بِإِبَاقِهِ وَالْمَالِكُ مُنْكِرٌ ، وَكَذَا لَا يَجِبُ الْجُعْلُ إذَا جَاءَ بِهِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى إبَاقَهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودٌ أَنَّهُ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ يَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمَوْلَى بِإِبَاقِهِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى كَمَا لَقِيَهُ ) أَيْ رَآهُ قَبْلَ قَبْضِهِ ( يَصِيرُ بِالْإِعْتَاقِ قَابِضًا ) فَيَجِبُ الْجُعْلُ ( كَمَا فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى ) إذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَيَجِبُ الثَّمَنُ ( وَكَذَا إذَا بَاعَهُ الْمَوْلَى مِنْ الرَّادِّ ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِهِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا ( لِسَلَامَةِ بَدَلِهِ ) وَهُوَ الثَّمَنُ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لِلرَّادِّ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ الْمَالِكِ فَبَيْعُ الْمَالِكِ مِنْ الرَّادِّ قَبْلَ قَبْضِهِ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَهُوَ لَا يَجُوزُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( لَكِنَّهُ بَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ ) لَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ ) الْمُطْلَقِ ( عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ فَجَازَ ) .
وَأَوْرَدَ أَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فِي الْحُرُمَاتِ .
أَجَابَ بِأَنَّ هَذِهِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ شَرَطَ رِضَا الْمَالِكِ كَانَ الثَّابِتُ الشُّبْهَةَ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ حَقِيقَةً فَمَعَ عَدَمِ الرِّضَا الثَّابِتِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ
قَالَ ( وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ ) فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ عَلَيْهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، حَتَّى لَوْ رَدَّهُ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ وَقْتَ الْأَخْذِ لَا جُعْلَ لَهُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ أَوْ وَرِثَهُ فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ ، إلَّا إذَا أَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ فَيَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي أَدَاءِ الثَّمَنِ
( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُشْهِدَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ لِيَرُدَّهُ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( فَالْإِشْهَادُ حَتْمٌ فِيهِ ) أَيْ فِي أَخْذِ الْآبِقِ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْآخِذِ ( عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) وَتَفْسِيرُ بَعْضِهِمْ حَتْمٌ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ تَسَاهُلٌ وَإِلَّا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ ، وَنَقْطَعُ بِأَنَّهُ إذَا أَخَذَهُ بِقَصْدِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ وَاتَّفَقَ أَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْإِشْهَادُ شَرْطٌ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ لِاسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ وَلِسُقُوطِ الضَّمَانِ إنْ مَاتَ عِنْدَهُ أَوْ أَبَقَ ( لِأَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ أَمَارَةٌ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ ) الرَّادُّ ( مِنْ الْآخِذِ أَوْ اتَّهَبَهُ ) مِنْهُ ( فَرَدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ ) لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ الِاتِّهَابِ قَاصِدٌ لِتَمَلُّكِهِ ظَاهِرًا فَيَكُونُ غَاصِبًا فِي حَقِّ سَيِّدِهِ فَرَدَّهُ لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ رَدَّهُ لِنَفْسِهِ ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ وَرِثَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَكُونُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُهُ ، فَإِذَا رَدَّهُ لَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عِنْدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْآخِذِ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَيْته لِأَرُدَّهُ عَلَى مَالِكِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ إلَّا بِشِرَائِهِ فَحِينَئِذٍ ( يَكُونُ لَهُ الْجُعْلُ ) وَلَا يَرْجِعُ عَلَى السَّيِّدِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي
( وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ) لِأَنَّهُ أَحْيَا مَالِيَّتَهُ بِالرَّدِّ وَهِيَ حَقُّهُ ، إذْ الِاسْتِيفَاءُ مِنْهَا وَالْجُعْلُ بِمُقَابِلَةِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ ، وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ ، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ فَبِقَدْرِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَالْبَاقِي عَلَى الرَّاهِنِ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالْقَدْرِ الْمَضْمُونِ فَصَارَ كَثَمَنِ الدَّوَاءِ وَتَخْلِيصُهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ قَضَاءَ الدَّيْنِ ، وَإِنْ بِيعَ بُدِئَ بِالْجُعْلِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ فِيهِ كَالْمَوْقُوفِ فَتَجِبُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ جَانِيًا فَعَلَى الْمَوْلَى إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ لِعَوْدِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ ، وَعَلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لِلْوَاهِبِ مَا حَصَلَتْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ ، وَإِنْ كَانَ لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ رَدَّهُ وَصِيُّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى الرَّدَّ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ رَهْنًا فَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ) لِأَنَّ بِالرَّدِّ حَيِيَتْ مَالِيَّتُهُ وَمَالِيَّتُهُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْهَا وَالْجُعْلُ عَلَى مَنْ حَيِيَتْ لَهُ الْمَالِيَّةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْإِبَاقِ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ كَمَا بِالْمَوْتِ ، وَبِالْعَوْدِ عَادَ الدَّيْنُ وَتَعَلَّقَ حَقُّهُ بِالرَّهْنِ اسْتِيفَاءً مِنْ مَالِيَّتِهِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ الشَّاةُ الْمَرْهُونَةُ فَدَبَغَ جِلْدَهَا فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ بِهِ ( وَالرَّدُّ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ وَمَوْتِهِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الْجُعْلِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ( إذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ ، فَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ ) قُسِمَ الْجُعْلُ عَلَى الرَّاهِنِ وَالْمُرْتَهِنِ ، فَمَا أَصَابَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَمَا بَقِيَ عَلَى الرَّاهِنِ ؛ مَثَلًا الدَّيْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الرَّهْنِ أَرْبَعُمِائَةٍ يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ثَلَاثُونَ وَعَلَى الرَّاهِنِ عَشَرَةٌ ، وَصَارَ الْجُعْلُ كَثَمَنِ دَوَاءِ الرَّهْنِ وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ انْقَسَمَ انْقِسَامًا عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ مَدْيُونًا ) أَيْ إنْ كَانَ الْعَبْدُ الْآبِقُ مَدْيُونًا بِأَنْ كَانَ مَأْذُونًا فَلَحِقَهُ فِي التِّجَارَةِ دَيْنٌ أَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ وَاعْتَرَفَ بِهِ الْمَوْلَى فَالْجُعْلُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لَهُ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ مُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ الدَّيْنِ كَالْمَوْقُوفِ ، إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى قَضَاءَ دَيْنِهِ كَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ اسْتَقَرَّ لَهُ ، وَإِنْ اخْتَارَ بَيْعَهُ فِي الدَّيْنِ كَانَ الْجُعْلُ فِي الثَّمَنِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ وَالْبَاقِي لِلْغُرَمَاءِ ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ( فَيَجِبُ ) أَيْ الْجُعْلُ عَلَى مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ الْمِلْكُ تَجُوزُ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَكَأَنَّهُ
جَعَلَ مِلْكَ ثَمَنِهِ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِهِ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ الْعَبْدُ ( جَانِيًا ) أَيْ جَنَى خَطَأً فَلَمْ يَدْفَعْهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَفْدِهِ حَتَّى أَبَقَ فَرَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ يَكُونُ الْجُعْلُ عَلَى مَنْ سَيَصِيرُ لَهُ إنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى فِدَاءَهُ فَهُوَ عَلَيْهِ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهِ إلَيْهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِمْ لِعَوْدِهَا إلَيْهِمْ ، وَلَوْ كَانَ قَتَلَ عَمْدًا فَأَبَقَ ثُمَّ رُدَّ لَا جُعْلَ عَلَى أَحَدٍ ، أَمَّا الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ إنْ قَتَلَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِالرَّدِّ مَنْفَعَةٌ ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ فَإِنَّمَا حَصَلَتْ بِالْعَفْوِ .
وَأَمَّا وَلِيُّ الْقِصَاصِ فَإِنْ قَتَلَ فَالْحَاصِلُ لَهُ التَّشَفِّي لَا الْمَالِيَّةُ ، وَإِنْ عَفَا فَظَاهِرٌ ( وَإِنْ كَانَ مَوْهُوبًا ) فَإِنْ أَبَقَ مِمَّنْ وَهَبَ لَهُ ثُمَّ رُدَّ ( فَ ) الْجُعْلُ ( عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ) سَوَاءٌ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ بَعْدَ الرَّدِّ أَوْ لَا ، أَمَّا إذَا لَمْ يَرْجِعْ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إنْ رَجَعَ بَعْدَ الْمَجِيءِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَالِيَّةُ لَكِنْ لَمْ تَحْصُلْ بِالرَّدِّ بَلْ بِتَرْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ التَّصَرُّفَ فِي الْعَبْدِ بَعْدَ رَدِّهِ مِمَّا يَمْنَعُ رُجُوعَهُ مِنْ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ ذَلِكَ ، وَمِنْ الرَّدِّ .
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّرْكَ آخِرُ جُزْأَيْ الْعِلَّةِ وَإِلَيْهَا يُضَافُ الْحُكْمُ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِالْكُلِّ لَا يَكُونُ بِالرَّدِّ وَحْدَهُ فَلَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بَلْ يُقَرِّرُهُ ( وَإِنْ كَانَ ) الْآبِقُ ( لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ ) لِمَا تَقَدَّمَ ( أَنَّهُ مُؤْنَةُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ رَدَّ وَصِيَّهُ فَلَا جُعْلَ لَهُ ) وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّقْسِيمِ ، وَكَذَا الْيَتِيمُ يَعُولُهُ رَجُلٌ فَرَدَّ آبِقًا لَهُ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ تَبَرَّعَ لَهُ بِمُؤْنَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ لَا يَتَبَرَّعُ لَهُ بِمَا هُوَ دُونَهُ مَعَ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ التَّبَرُّعُ .
وَفِي
الْكَافِي لِلْحَاكِمِ : أَبَقَتْ أَمَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ رَضِيعٌ فَرَدَّهُمَا رَجُلٌ لَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ كَانَ ابْنُهَا قَارَبَ الْحُلُمَ فَلَهُ ثَمَانُونَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُرَاهِقْ لَمْ يُعْتَبَرْ آبِقًا .
وَفِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ : لَوْ أَخَذَ آبِقًا فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ وَجَاءَ بِهِ إلَى مَوْلَاهُ وَأَخَذَ جُعْلَهُ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَخَذَهُ يَأْخُذُ الْجُعْلَ مِنْهُ ثَانِيًا وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ ، وَلَوْ جَاءَ بِالْآبِقِ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَمَّا دَخَلَ الْبَلَدَ أَبَقَ مِنْ الْأَخْذِ فَوَجَدَهُ آخَرُ فَرَدَّهُ إلَى سَيِّدِهِ ، إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ فَالْجُعْلُ لَهُ ، وَإِنْ وَجَدَهُ لِأَقَلَّ فَجَاءَ بِهِ لَا جُعْلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَا جُعْلَ لِلسُّلْطَانِ وَالشِّحْنَةِ أَوْ الْخَفِيرِ فِي رَدِّ الْآبِقِ وَالْمَالِ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لِوُجُوبِ الْفِعْلِ عَلَيْهِمْ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : لِأَخْذِهِمْ الْعَطَاءَ عَلَى ذَلِكَ وَنَصْبِهِمْ لَهُ .
كِتَابُ الْمَفْقُودِ ( إذَا غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْفِي حَقَّهُ ) لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ، وَفِي نَصْبِ الْحَافِظِ لِمَالِهِ وَالْقَائِمِ عَلَيْهِ نَظَرٌ لَهُ .
وَقَوْلُهُ يَسْتَوْفِي حَقَّهُ لِإِخْفَاءِ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ، وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِهِ ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ فِي الدَّيْنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِهِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ ، ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لَهُ بِحِفْظِ الْمَعْنَى ( وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي حِفْظِ مَالِهِ فَلَا يَسُوغُ لَهُ تَرْكُ حِفْظِ السُّورَةِ وَهُوَ مُمْكِنٌ .
قَالَ ( وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ ) وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ بَلْ يَعُمُّ جَمِيعَ قَرَابَةِ الْوِلَادِ .
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ حِينَئِذٍ يَكُونُ إعَانَةً ، وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا
يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حِينَئِذٍ تَجِبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ مُمْتَنِعٌ ، فَمِنْ الْأَوَّلِ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ مِنْ الْكِبَارِ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ ، وَمِنْ الثَّانِي الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ .
وَقَوْلُهُ مِنْ مَالِهِ مُرَادُهُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَالِهِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ بِمَنْزِلَتِهِمَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُمَا إذَا كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ مُقِرِّينَ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِقْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَاهِرَ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ أَوْ النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ يَشْتَرِطُ الْإِقْرَارَ بِمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
فَإِنْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا أَوْ كَانَا جَاحِدَيْنِ الزَّوْجِيَّةَ وَالنَّسَبَ لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ خَصْمًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مَا يَدَّعِيه لِلْغَائِبِ لَمْ يَتَعَيَّنْ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ وَهُوَ النَّفَقَةُ ، لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ .
كِتَابُ الْمَفْقُودِ هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُدْرَى حَيَاتُهُ وَلَا مَوْتُهُ ( قَوْلُهُ إذَا غَابَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُ مَوْضِعٌ وَلَا يُعْلَمُ أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ نَصَّبَ الْقَاضِي مَنْ يَحْفَظُ مَالَهُ وَيَقُومُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى مَالِهِ ( وَيَسْتَوْفِي حُقُوقَهُ لِأَنَّ الْقَاضِي نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ عَاجِزٍ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ عَنْهُ فَصَارَ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ) فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ فِي أَمْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَا لِمَا ذَكَرْنَا ( وَقَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ ( يَسْتَوْفِي فِي حُقُوقِهِ يُرِيدُ أَنَّهُ يَقْبِضُ غَلَّاتِهِ وَالدَّيْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ غَرِيمٌ وَيُخَاصِمُ فِي دَيْنٍ وَجَبَ بِعَقْدِهِ ) أَيْ بِعَقْدِ الَّذِي نَصَّبَ الْقَاضِي ( لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي حُقُوقِ عَقْدِهِ ، وَلَا يُخَاصِمُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي تَوَلَّاهُ الْمَفْقُودُ وَلَا فِي نَصِيبٍ لَهُ فِي عَقَارٍ أَوْ عُرُوضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ ) وَلَا فِي حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ إذَا جَحَدَ مَنْ هُوَ عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا نَائِبٍ إنَّمَا هُوَ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ مِنْ جِهَةِ الْقَاضِي وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ بِلَا خِلَافٍ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْوَكِيلِ يَقْبِضُ الدَّيْنَ مِنْ جِهَةِ الْمَالِكِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فِيهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) يَعْنِي إذَا كَانَ وَكِيلُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ ( فَلَوْ قَضَى بِخُصُومَتِهِ كَانَ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ) وَالْأَوْجَهُ أَنْ يَقُولَ لِلْغَائِبِ : وَالْقَضَاءُ عَلَيْهِ فِيمَا لَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمَفْقُودِ دَيْنًا أَوْ وَدِيعَةً أَوْ شَرِكَةً فِي عَقَارٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ رَدًّا بِعَيْبٍ أَوْ مُطَالَبَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَلَا الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا يُسْمَعَانِ عَلَى خَصْمٍ وَالْوَكِيلُ لَيْسَ خَصْمًا ، وَالْوَرَثَةُ إنَّمَا يَصِيرُونَ خُصَمَاءَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ بَعْدُ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ .
( وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا رَآهُ الْقَاضِي ) أَيْ إذَا رَأَى
الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِي الْحُكْمِ لِلْغَائِبِ وَعَلَيْهِ فَحَكَمَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ حَتَّى يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَضَاءِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَإِنَّ نَفَاذَ قَضَائِهِ لَمَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ قَاضٍ آخَرُ .
أُجِيبَ بِمَنْعِ أَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ سَبَبُهُ وَهُوَ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَمْ لَا ، وَإِذَا قَضَى بِهَا نَفَذَ كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ الْفَتْوَى عَلَى هَذَا ( ثُمَّ مَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ ) كَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا ( يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ صُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَيَنْظُرُ لِلْغَائِبِ بِحِفْظِ مَعْنَاهُ ) وَلَا يَبِيعُ مَا لَا يَخَافُ فَسَادَهُ مَنْقُولًا كَانَ أَوْ عَقَارًا ( فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، لِأَنَّ الْقَاضِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَائِبِ إلَّا فِي الْحِفْظِ وَفِي الْبَيْعِ تَرْكُ حِفْظِ الصُّورَةِ بِلَا مُلْجِئٍ فَلَا يَجُوزُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا عُرُوضٌ أَوْ عَقَارٌ أَوْ خَادِمٌ وَاحْتَاجَ وَلَدُهُ ) أَوْ زَوْجَتُهُ إلَى النَّفَقَةِ لَا يُبَاعُ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ يَبِيعُ الْعُرُوضَ عَلَى الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُوصَى ، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ فِيهِ مَعْنَى حَقِّهِ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ حِفْظُ الثَّمَنِ لِلْإِيصَالِ إلَى وَرَثَتِهِ أَيْسَرَ ، وَهُنَا لَا وِلَايَةَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَفْقُودِ إلَّا فِي الْحِفْظِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُحْتَاجٌ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ عُرُوضِهِ وَيُنْفِقُهُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعَقَارِ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَفِي الْقِيَاسِ : لَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْعُرُوضِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ : هُوَ حَسَنٌ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَبَ
وَإِنْ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بَقِيَ أَثَرُهَا حَتَّى صَحَّ اسْتِيلَادُهُ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ كَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ ، وَلِلْوَصِيِّ بَيْعُ الْعُرُوضِ دُونَ الْعَقَارِ ( وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ ) يَعْنِي الْحَاصِلَ فِي بَيْتِهِ وَالْوَاصِلُ مِنْ ثَمَنِ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَمِنْ مَالِهِ مُودِعٌ عِنْدَ مُقِرٍّ وَدَيْنٌ عَلَى مُقِرٍّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَيْسَ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى الْأَوْلَادِ ) قُلْت : وَلَا هُوَ عَلَى إطْلَاقِهِ فِيهِمْ بَلْ يَعُمُّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ ، يَعْنِي مِنْ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَإِنْ عَلَا ( وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ غَيْبَتِهِ ) لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا حَاجَتَهُمْ بِيَدِهِمْ مِنْ مَالِهِ إذَا كَانَ جِنْسُ حَقِّهِمْ مِنْ النَّقْدِ وَالثِّيَابُ لِلُّبْسِ فَكَانَ إعْطَاءُ الْقَاضِي إنْ كَانَ الْمَالُ عِنْدَهُ أَوْ تَمْكِينُهُمْ إنْ كَانَ عِنْدَهُمْ إعَانَةً لَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَأْذُونِينَ شَرْعًا أَنْ يَتَنَاوَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ ( وَكُلُّ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فِي حَضْرَتِهِ إلَّا بِالْقَضَاءِ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ) فَمِنْ الْأَوَّلِ : أَعْنِي الْمُسْتَحِقِّينَ بِلَا قَضَاءٍ ( الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَالْإِنَاثُ الْكِبَارُ ) إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ ، وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالزَّمِنِيُّ مِنْ الذُّكُورِ الْكِبَارِ فَكُلُّ مَنْ لَهُ مَالٌ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ فِي حَالِ حُضُورِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْبَتِهِ ، إلَّا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ وَإِنْ كَانَتْ غَنِيَّةً لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْعَقْدِ وَالِاحْتِبَاسِ وَاسْتِحْقَاقَ غَيْرِهَا بِالْحَاجَةِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْغِنَى ( وَمِنْ الثَّانِي ) يَعْنِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِالْقَضَاءِ ( الْأَخُ وَالْأُخْتُ وَالْخَالُ وَالْخَالَةُ ) وَنَحْوُهُمْ مِنْ قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ .
(
وَقَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ ( مِنْ مَالِهِ ، يَعْنِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ ) عَيْنُ الْمَطْعُومِ وَالْمَلْبُوسِ ( يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ النَّقْدَانِ وَالتِّبْرُ ) أَيْ غَيْرُ الْمَضْرُوبِ ( وَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ قِيمَةً كَالْمَضْرُوبِ ) وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالتِّبْرُ فِي يَدِ الْقَاضِي ( فَإِنْ كَانَتْ وَدِيعَةً أَوْ دَيْنًا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا ) إنْ كَانَ الْمُودِعُ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالنِّكَاحُ وَالنَّسَبُ الْمَدْيُونُ كَذَلِكَ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ وَالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ .
( وَهَذَا ) يَعْنِي اشْتِرَاطَ إقْرَارِهِمَا بِالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ( إذَا لَمْ يَكُونَا ظَاهِرَيْنِ ) عِنْدَ الْقَاضِي ( فَإِنْ كَانَا ظَاهِرَيْنِ ) مَعْرُوفَيْنِ لَهُ ( فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقْرَارِهِمَا بِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ الظَّاهِرُ عِنْدَهُ أَحَدَهُمَا الْوَدِيعَةَ وَالدَّيْنَ أَوْ النِّكَاحَ وَالنَّسَبَ ) جَعَلَ كُلَّ اثْنَيْنِ وَاحِدًا ( يَشْتَرِطُ إقْرَارَ مَنْ فِي جِهَتِهِ الْمَالُ بِالْآخَرِ الَّذِي لَيْسَ ظَاهِرًا فَيُقِرُّ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ هَذِهِ زَوْجَتُهُ وَهَذَا وَلَدُهُ ، وَفِي الثَّانِي بِأَنَّ لَهُ عِنْدِي وَدِيعَةً أَوْ عَلَيَّ دَيْنُهُ وَقَوْلُهُ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ جَوَابِ الْقِيَاسِ الَّذِي قَالَ بِهِ زُفَرُ لَا أَنَّ هَذَا اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ ، قَالَ : لَا يُنْفِقُ مِنْ الْوَدِيعَةِ شَيْئًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودِعِ بِذَلِكَ لَيْسَ حُجَّةً عَلَى الْغَائِبِ وَهُوَ لَيْسَ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ، وَلَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ بِلَا خَصْمٍ ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الدَّيْنِ أَيْضًا .
قُلْنَا : الْمُودِعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ ، وَأَنَّ لِلْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ حَقَّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْقِيَاسِ لَيْسَ فِي الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ
خَاصَّةً بَلْ فِي جَمِيعِ أَمْوَالِ الْمَفْقُودِ ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا فِي جَوَابِهِ : نَعَمْ الْقِيَاسُ مَا ذَكَرْت ، لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا ذَلِكَ بِحَدِيثِ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَقَدْ أَسْلَفْنَاهُ .
قَالَ فِيهِ : { خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَيَكْفِي بَنِيكِ بِالْمَعْرُوفِ } إذْ هُوَ يُفِيدُ مُطْلَقًا جَوَازَ الْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ لِمَنْ تَجِبُ لَهُ النَّفَقَةُ مِنْ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ ، ثُمَّ إذَا ثَبَتَ فِي الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ لَا يَلْحَقُ بِهِ قَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ بِالْقِيَاسِ ، وَثُبُوتُ نَفَقَةِ الْأَبِ بِالدَّلَالَةِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِيهَا آكَدُ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِمُجَرَّدِ الْحَاجَةِ ، بَلْ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ وَالْأَبُ يَسْتَحِقُّهَا بِمُجَرَّدِهَا وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ دَفَعَ الْمُودِعُ بِنَفْسِهِ أَوْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي يَضْمَنُ الْمُودِعُ وَلَا يُبَرَّأُ الْمَدْيُونُ لِأَنَّهُ مَا أَدَّى إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا إلَى نَائِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ ) فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ هَؤُلَاءِ بِالْقَبْضِ ، وَلَيْسَ الْقَاضِي نَائِبًا فِي الْحِفْظِ فَقَطْ ، بَلْ فِيهِ .
وَفِي إيفَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ أَيْضًا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ فِي ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ إلَى سَمَاعِ بَيِّنَةٍ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ إذَا عَلِمَ بِوُجُوبِهِ ، بِخِلَافِ الْمُودِعِ فَإِنَّهُ الْمَأْمُورُ بِالْحِفْظِ فَقَطْ فَيَضْمَنُ إذَا أَعْطَاهُمْ بِلَا أَمْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الْمُودِعُ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ فِي عِيَالِ الْمُودِعِ بَرِئَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ لِلْحِفْظِ عَلَيْهِ لَا لِلْإِتْلَافِ ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَاضِي مِنْهَا كَفِيلًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ ذَهَابِهِ أَوْ عَجَّلَ لَهَا النَّفَقَةَ ، لَكِنْ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ
أَخْذُ الْكَفِيلِ إلَّا لِخَصْمٍ وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ طَالِبٌ هَذَا فَلَوْ كَانَ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ جَاحِدَيْنِ أَصْلًا ) أَيْ جَاحِدَيْنِ لِكُلٍّ مِنْ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَالنَّسَبِ وَالزَّوْجِيَّةِ ( أَوْ جَاحِدَيْنِ النَّسَبَ وَالزَّوْجِيَّةَ ) مُعْتَرِفَيْنِ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ وَلَيْسَا ظَاهِرَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي ( لَمْ يَنْتَصِبْ أَحَدٌ مِنْ مُسْتَحِقِّي النَّفَقَةِ ) الزَّوْجَةِ أَوْ الْأَبِ أَوْ الِابْنِ ( خَصْمًا فِي ذَلِكَ ) أَيْ فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ أَوْ النَّسَبِ أَوْ الْوَدِيعَةِ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الْمُودِعَ وَالْمَدْيُونَ لَيْسَا خَصْمًا فِي ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْقَضَاءِ بِهَا ، وَلَا مَا يَدَّعِيهِ لِلْغَائِبِ سَبَبًا مُتَعَيِّنًا لِثُبُوتِ حَقِّهِ الَّذِي هُوَ النَّفَقَةُ ( لِأَنَّهَا كَمَا تَجِبُ فِي هَذَا الْمَالِ تَجِبُ فِي مَالٍ آخَرَ لِلْمَفْقُودِ ) وَسَتَعْرِفُ تَفْصِيلَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَدَبِ الْقَاضِي
قَالَ ( وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ) وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَاهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ وَكَفَى بِهِ إمَامًا ، وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ فَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ الْمِقْدَارَ مِنْهُمَا الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ } .
وَقَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا : هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ خَرَجَ بَيَانًا لِلْبَيَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَرْفُوعِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يُزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا فَكَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ ، وَلَا بِالْعُنَّةِ لِأَنَّ الْغَيْبَةَ تَعْقُبُ الْأَوَدَةَ ، وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً .
( قَوْلُهُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : إذَا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ مَنْ شَاءَتْ ، لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا قَضَى فِي الَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الْجِنُّ بِالْمَدِينَةِ ) وَلِأَنَّهُ مَنَعَ حَقَّهَا بِالْغَيْبَةِ ) وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ ( فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا الْقَاضِي بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ اعْتِبَارًا بِالْإِيلَاءِ وَالْعُنَّةِ ) فَإِنْ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا بَعْدَ مُدَّةٍ كَذَلِكَ ، وَهَذَا مِنْهُ فِي الْإِيلَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بَلْ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَعْدَهَا ، وَبَعْدَ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَخَذَ فِي الْمُدَّةِ الْأَرْبَعَ مِنْ الْإِيلَاءِ وَالسِّنِينَ مِنْ الْعُنَّةِ بِجَامِعِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ( عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ) وَحَدِيثُ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْجِنُّ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ : أَنَّ رَجُلًا انْتَسَفَتْهُ الْجِنُّ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَأَتَتْ امْرَأَتُهُ عُمَرَ فَأَمَرَهَا أَنْ تَتَرَبَّصَ أَرْبَعَ سِنِينَ ، ثُمَّ أَمَرَ وَلِيَّهُ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ، ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا تَزَوَّجَتْ ، فَإِنْ جَاءَ زَوْجُهَا خُيِّرَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَالصَّدَاقِ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ الْفَقِيدِ الَّذِي فُقِدَ قَالَ : دَخَلْت الشِّعْبَ فَاسْتَهْوَتْنِي الْجِنُّ ، فَمَكَثْت أَرْبَعَ سِنِينَ ، ثُمَّ أَتَتْ امْرَأَتِي عُمَرَ الْحَدِيثُ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ .
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَفِيهِ : فَقَالَ لَهُ عُمَرُ لَمَّا جَاءَ : إنْ شِئْت رَدَدْنَا إلَيْكَ امْرَأَتَكَ وَإِنْ شِئْتَ زَوَّجْنَاكَ غَيْرَهَا ، قَالَ : بَلْ زَوِّجْنِي غَيْرَهَا ، ثُمَّ جَعَلَ عُمَرُ يَسْأَلُهُ عَنْ الْجِنِّ وَهُوَ يُخْبِرُهُ .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَفِيهِ
: ثُمَّ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَحِلُّ .
وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَا فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ : تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
وَأَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : تَذَاكَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ الْمَفْقُودَ فَقَالَا : تَتَرَبَّصُ امْرَأَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا وَلِيُّ زَوْجِهَا ثُمَّ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَنَا { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ إنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ } ) أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ سَوَّارِ بْنِ مُصْعَبٍ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ الْهَمْدَانِيُّ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ } وَفِي بَعْضِ نُسَخِهِ " حَتَّى يَأْتِيَهَا الْخَبَرُ " وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِمُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِيهِ : إنَّهُ يَرْوِي عَنْ الْمُغِيرَةِ مَنَاكِيرَ أَبَاطِيلَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : وَسَوَّارُ بْنُ مُصْعَبٍ .
أَشْهَرُ فِي الْمَتْرُوكِينَ مِنْهُ .
ثُمَّ عَارَضَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ قَوْلَ عُمَرَ ، وَهُوَ مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَزْرَمِيُّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ : هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ .
أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ أَنَّ عَلِيًّا مِثْلُهُ .
وَقَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ : بَلَغَنِي
أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ وَافَقَ عَلِيًّا عَلَى أَنَّهَا تَنْتَظِرُ أَبَدًا .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ وَجَابِرِ بْنِ يَزِيدَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ كُلُّهُمْ قَالُوا : لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتُهُ .
وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إلَخْ الْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَذَهَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ حَتَّى يَأْتِيَهَا الْبَيَانُ ، وَالشَّأْنُ فِي التَّرْجِيحِ وَالْحَدِيثُ الضَّعِيفُ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَا مُثْبِتًا بِالْأَصَالَةِ ، وَمَا ذُكِرَ مِنْ مُوَافَقَتِهِ ابْنَ مَسْعُودٍ مُرَجِّحٌ آخَرُ .
ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفُ فِي مُرَجِّحٍ آخَرَ فَقَالَ ( وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عُرِفَ ثُبُوتُهُ وَالْغَيْبَةُ لَا تُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَالْمَوْتُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ فَلَا يَزَالُ النِّكَاحُ بِالشَّكِّ ) وَذَكَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ .
ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : ثَلَاثُ قَضِيَّاتٍ رَجَعَ فِيهَا عُمَرُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ : امْرَأَةُ الْمَفْقُودِ ، وَامْرَأَةُ أَبِي كَنَفٍ ، وَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا .
وَقَوْلُنَا فِي الثَّلَاثِ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَامْرَأَةُ الْمَفْقُودِ عُرِفَتْ ، وَأَمَّا امْرَأَةُ أَبِي كَنَفٍ فَكَانَ أَبُو كَنَفٍ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى غَابَ ثُمَّ قَدِمَ فَوَجَدَهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ ، فَأَتَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ : إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ ، فَقَدِمَ عَلَى أَهْلِهَا وَقَدْ وَضَعَتْ الْقُصَّةَ عَلَى رَأْسِهَا فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ لِي إلَيْهَا حَاجَةً فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهَا ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَبَاتَ عِنْدَهَا ثُمَّ غَدَا إلَى الْأَمِيرِ بِكِتَابِ عُمَرَ فَعَرَفُوا أَنَّهُ جَاءَ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ ، وَهَذَا أَعْنِي عَدَمَ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ فِي حَقِّهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِهَا
حَتَّى إذَا اعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إيَّاهَا صَحِيحٌ وَهِيَ مَنْكُوحَتُهُ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَا .
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا فَالْمَرْأَةُ الَّتِي يُنْعَى إلَيْهَا زَوْجُهَا فَتَعْتَدُّ وَتَتَزَوَّجُ ، وَكَانَ مَذْهَبُهُ فِيهَا إذَا أَتَى زَوْجُهَا حَيًّا يُخَيِّرُهُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ ، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَهُوَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الثَّانِي وَلَهَا الْمَهْرُ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، وَتُرَدُّ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ فِي الشَّرْعِ مُؤَجَّلًا ) وَهَذَا عَلَى رَأْيِنَا بِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِالْإِيلَاءِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي .
قَالَ ( وَلَا بِالْعُنَّةِ ) لِأَنَّ فِي الْغَالِبِ تَعْقُبُهَا الرَّجْعَةُ ( وَالْعُنَّةُ قَلَّمَا تَنْحَلُّ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهَا سَنَةً ) فَكَانَ عَوْدُ الْمَفْقُودِ أَرْجَى مِنْ زَوَالِ الْعُنَّةِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ مَا شَرَعَ فِيهَا
قَالَ ( وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ .
وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ ، وَإِذَا حُكِمَ بِمَوْتِهِ اعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ( وَيُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمَوْجُودِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ) كَأَنَّهُ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُعَايَنَةً إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ ( وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَرِثْ مِنْهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِهِ فِيهَا فَصَارَ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً ( وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ ) لِأَنَّ بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ
( قَوْلُهُ وَإِذَا تَمَّ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ حَكَمْنَا بِمَوْتِهِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ يُقَدَّرُ بِمَوْتِ الْأَقْرَانِ ، وَفِي الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَقَدَّرَ بَعْضُهُمْ بِتِسْعِينَ ، وَالْأَقْيَسُ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ ( وَالْأَرْفَقُ أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ ) وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْأَعْمَارَ فِي زَمَانِنَا قَلَّمَا تَزِيدُ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، بَلْ لَا يُسْمَعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقَدَّرُ بِهَا تَقْدِيرًا بِالْأَكْثَرِ ، وَأَمَّا مَا قِيلَ إنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَوْلُهُمْ بَاطِلٌ بِالنُّصُوصِ كَنُوحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرِهِ ، فَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ تَوْجِيهًا لِمَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ ، وَكَيْفَ وَهُمْ أَعْرَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ وَالتَّوَارِيخُ بِالْأَعْمَارِ السَّالِفَةِ لِلْبَشَرِ بَلْ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا فِي قَوْلٍ لَهُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ يَعْتَرِفُونَ بِبُطْلَانِهِ وَيُوجِبُونَ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مِنْ النَّوَادِرِ أَنْ يَعِيشَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ مَوْتِ أَقْرَانِهِ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا : فَذَهَبَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْتُ أَقْرَانِهِ مِنْ جَمِيعِ الْبِلَادِ وَآخَرُونَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْتُ أَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ ، فَإِنَّ الْأَعْمَارَ قَدْ تَخْتَلِفُ طُولًا وَقِصَرًا بِحَسَبِ الْأَقْطَارِ بِحَسَبِ إجْرَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ ، وَلِذَا قَالُوا : إنَّ الصَّقَالِبَةَ أَطْوَلُ أَعْمَارًا مِنْ الرُّومِ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِأَقْرَانِهِ فِي بَلَدِهِ ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَرَجًا كَبِيرًا فِي تَعَرُّفِ مَوْتِهِمْ مِنْ الْبُلْدَانِ ، بِخِلَافِهِ مِنْ بَلَدِهِ فَإِنَّمَا فِيهِ نَوْعُ حَرَجٍ مُحْتَمَلٌ .
وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فَذُكِرَ عَنْهُ وَجْهٌ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاعَبَةِ مِنْهُ لَهُمْ .
قِيلَ إنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ : أَنَا أُبَيِّنُهُ لَكُمْ بِطَرِيقٍ مَحْسُوسٍ فَإِنَّ الْمَوْلُودَ إذَا كَانَ بَعْدَ عَشْرٍ يَدُورُ حَوْلَ أَبَوَيْهِ هَكَذَا وَعَقَدَ عَشْرًا ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ فَهُوَ بَيْنَ الصِّبَا وَالشَّبَابِ هَكَذَا ، وَعَقَدَ عِشْرِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ يَسْتَوِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ أَرْبَعِينَ يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَثْقَالُ هَكَذَا وَعَقَدَ أَرْبَعِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ يَنْحَنِي مِنْ كَثْرَةِ الْأَثْقَالِ وَالْأَشْغَالِ هَكَذَا وَعَقَدَ خَمْسِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سِتِّينَ يَنْقَبِضُ لِلشَّيْخُوخِيَّةِ هَكَذَا وَعَقَدَ سِتِّينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِينَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا هَكَذَا وَعَقَدَ سَبْعِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ يَسْتَلْقِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَمَانِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ تِسْعِينَ تَنْضَمُّ أَعْضَاؤُهُ فِي بَطْنِهِ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ مِائَةٍ يَتَحَوَّلُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْعُقْبَى كَمَا يَتَحَوَّلُ الْحِسَابُ مِنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِمِثْلِ هَذَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْحَمْلُ عَلَى طُولِ الْعُمُرِ فِي الْمَفْقُودِ احْتِيَاطًا ، وَالْغَالِبُ فِيمَنْ طَالَ عُمُرُهُ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمِائَةَ .
فَقَوْلُهُ فِي الْمَبْسُوطِ : وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يُفْتِي بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةً وَسَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ مُوجِبًا لِخَطَئِهِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ عِنْدَهُ ، وَكَوْنُهُ هُوَ خَرَجَ عَنْ الْغَالِبِ لَا يَكُونُ مُخْطِئًا فِيمَا أَعْطَى مِنْ الْحُكْمِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْإِمَامُ سِرَاجُ الدِّينِ فِي فَرَائِضِهِ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهَا مِائَةُ سَنَةٍ لِأَنَّ الْحَيَاةَ بَعْدَهَا نَادِرٌ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالنَّادِرِ .
وُورِيَ أَنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَتِسْعَ سِنِينَ أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ
قَوْلِهِ .
وَاخْتَارَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ أَنَّهَا تِسْعُونَ سَنَةً لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي أَعْمَارِ أَهْلِ زَمَانِنَا هَذَا ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَعْمَارِ الطِّوَالِ فِي أَهْلِ زَمَانِنَا أَنْ لَا تَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ ، نَعَمْ الْمُتَأَخِّرُونَ الَّذِينَ اخْتَارُوا سِتِّينَ بَنَوْهُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ الْأَعْمَارِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَا جَاءَ إلَّا مِنْ اخْتِلَافِ الرَّأْيِ فِي أَنَّ الْغَالِبَ هَذَا فِي الطُّولِ أَوْ مُطْلَقًا ، فَلِذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : الْأَلْيَقُ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ الْأَقْيَسُ إلَخْ ، وَلَكِنْ نَقُولُ : إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ اعْتِبَارًا لِحَالِهِ بِحَالِ نَظَائِره ، وَهَذَا رُجُوعٌ إلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْأَرْفَقُ ) أَيْ بِالنَّاسِ ( أَنْ يُقَدَّرَ بِتِسْعِينَ ) وَأَرْفَقُ مِنْهُ التَّقْدِيرُ بِسِتِّينَ .
وَعِنْدِي الْأَحْسَنُ سَبْعُونَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ } فَكَانَتْ الْمُنْتَهَى غَالِبًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، فَأَيُّ وَقْتٍ رَأَى الْمَصْلَحَةَ حَكَمَ بِمَوْتِهِ وَاعْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ لِلْوَفَاةِ كَأَنَّهُ مَاتَ فِيهِ مُعَايَنَةً ، إذْ الْحُكْمِيُّ مُعْتَبَرٌ بِالْحَقِيقِيِّ ( قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ ) أَيْ مِمَّنْ يَرِثُ الْمَفْقُودَ ( قَبْلَ ذَلِكَ ) أَيْ قَبْلَ أَنْ يُحْكَمَ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ ( لَمْ يَرِثْ مِنْ الْمَفْقُودِ ) بِنَاءً عَلَى الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَفْقُودِ فَتَجْرِي مُنَاسَخَةٌ فَتَرِثُ وَرَثَتُهُ مِنْ الْمَفْقُودِ ( لِأَنَّهُ لَمْ يُحْكَمْ بِمَوْتِ الْمَفْقُودِ بَعْدُ ) وَحِينَ مَاتَ هَذَا كَانَ الْمَفْقُودُ مَحْكُومًا بِحَيَاتِهِ كَمَا إذَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مَعْلُومَةً ( وَلَا يَرِثُ الْمَفْقُودُ أَحَدًا مَاتَ فِي حَالِ فَقْدِهِ لِأَنَّ
بَقَاءَهُ حَيًّا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ) يَعْنِي وَقْتَ مَوْتِ ذَلِكَ الْأَحَدِ ( بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ ) بَلْ فِي دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَلِذَا جَعَلْنَاهُ حَيًّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يُورَثُ مَالُهُ فِي حَالِ فَقْدِهِ مَيِّتًا فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَلَا يَرِثُ هُوَ غَيْرَهُ
( وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِلْمَفْقُودِ وَمَاتَ الْمُوصِي ) ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِهِ وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطَى أَقَلَّ النَّصِيبَيْنِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطَى أَصْلًا .
بَيَانُهُ : رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنِ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ وَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ وَلَا يُعْطَى وَلَدَ الِابْنِ لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ ، وَلَوْ كَانَ حَيًّا فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ ( وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ ) وَنَظِيرُ هَذَا الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنِ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ يُعْطَى كُلٌّ نَصِيبَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطَى ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ بِهِ يُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ كَمَا فِي الْمَفْقُودِ وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
( وَكَذَلِكَ ) لَوْ ( أَوْصَى لَهُ وَمَاتَ الْمُوصِي ) فِي حَالِ فَقْدِهِ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا أَقْضِي بِهَا وَلَا أُبْطِلُهَا حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ : يَعْنِي يُوقَفُ نَصِيبُ الْمَفْقُودِ الْمُوصَى لَهُ بِهِ إلَى أَنْ يَقْضِيَ بِمَوْتِهِ ، فَإِذَا قُضِيَ بِهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ الْآنَ ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ لِمَالِ غَيْرِهِ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ فُقِدَ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا الْمَفْقُودُ مَيِّتٌ فِي مَالِ غَيْرِهِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ مَنْ بِحَيْثُ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ إنْ كَانَ مَعَ الْمَفْقُودِ وَارِثٌ لَا يُحْجَبُ بِالْمَفْقُودِ ) حَجْبَ حِرْمَانٍ ( وَلَكِنَّهُ يُنْتَقَصُ حَقُّهُ بِهِ يُعْطِي ) ذَلِكَ الْوَارِثُ ( أَقَلَّ نَصِيبِهِ وَيُوقَفُ الْبَاقِي ) حَتَّى يَظْهَرَ حَيَاةُ الْمَفْقُودِ أَوْ مَوْتُهُ أَوْ يُقْضَى بِمَوْتِهِ ( وَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ يُحْجَبُ بِهِ لَا يُعْطِي ) لِذَلِكَ الْوَارِثِ شَيْئًا ( بَيَانُهُ : رَجُلٌ مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ وَابْنٍ مَفْقُودٍ وَابْنِ ابْنٍ أَوْ ابْنَةِ ابْنٍ وَالْمَالُ ) الْمَوْرُوثُ ( فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ وَتَصَادَقُوا ) أَيْ الْأَجْنَبِيُّ وَالْوَرَثَةُ ( عَلَى فَقْدِ الِابْنِ وَطَلَبَتْ الْبِنْتَانِ الْمِيرَاثَ تُعْطَيَانِ النِّصْفَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ) لِأَنَّ أَخَاهُمَا الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَلَهُمَا النِّصْفُ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ ، فَالنِّصْفُ مُتَيَقَّنٌ فَتُعْطِيَانِهِ .
( وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ ) فِي يَدِ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ ( وَلَا يُعْطَى وَلَدُ الِابْنِ شَيْئًا ) لِأَنَّهُمْ يُحْجَبُونَ بِالْمَفْقُودِ لَوْ كَانَ حَيًّا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالشَّكِّ وَلَا يُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْأَجْنَبِيِّ ( إلَّا إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ خِيَانَةٌ ) بِأَنْ كَانَ أَنْكَرَ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عِنْدَهُ مَالًا حَتَّى أَقَامَتْ الْبِنْتَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ فَقَضَى بِهَا ، لِأَنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْبَاقِينَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُؤْخَذُ الْفَضْلُ الْبَاقِي مِنْهُ وَيُوضَعُ فِي يَدِ عَدْلٍ لِظُهُورِ خِيَانَتِهِ ، وَلَوْ كَانُوا لَمْ يَتَصَادَقُوا عَلَى فَقْدِ الِابْنِ بَلْ قَالَ
الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ الثُّلُثَيْنِ لِلْبِنْتَيْنِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُعْتَبَرٌ فِيمَا فِي يَدِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ ثُلُثَيْهِ لِلْبِنْتَيْنِ فَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ لَهُمَا وَلَا يَمْنَعُ إقْرَارَهُ قَوْلُ أَوْلَادِ الِابْنِ أَبُونَا أَوْ عَمُّنَا مَفْقُودٌ ، لِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا وَيُوقَفُ الثُّلُثُ الْبَاقِي فِي يَدِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْبِنْتَيْنِ وَاتَّفَقُوا عَلَى الْفَقْدِ لَا يُحَوَّلُ الْمَالُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَا يُؤَخَّرُ شَيْءٌ لِلْمَفْقُودِ بَلْ يُقْضَى لِلْبِنْتَيْنِ بِالنِّصْفِ مِيرَاثًا وَيُوقَفُ النِّصْفُ فِي أَيْدِيهِمَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَيِّتِ ، فَإِنْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ حَيًّا دُفِعَ إلَيْهِ .
وَإِنْ ظَهَرَ مَيِّتًا أُعْطِيَ الْبِنْتَانِ سُدُسَ كُلِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِوَلَدِ الِابْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .
وَلَوْ قَالَتْ الْبِنْتَانِ مَاتَ أَخُونَا وَلَيْسَ بِمَفْقُودٍ وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ بَلْ مَفْقُودٌ وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا أُعْطِيَتَا الثُّلُثَيْنِ وَوُقِفَ الثُّلُثُ ، لِأَنَّهُمَا فِي هَذِهِ يَدَّعِيَانِ الثُّلُثَيْنِ وَالْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا ، فَإِنْ ظَهَرَ حَيَاتُهُ أَخَذَ مِنْهُمَا السُّدُسَ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ وَلَدِ الْمَفْقُودِ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ مَفْقُودٌ يُعْطَى الْبِنْتَانِ النِّصْفَ ، لِأَنَّهُمَا إنَّمَا ادَّعَيَاهُ بِالْإِقْرَارِ بِفَقْدِهِ وَيُوقَفُ النِّصْفُ الْآخَرُ فِي يَدِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ .
وَلَوْ ادَّعَى وَلَدُ الْمَفْقُودِ أَنَّ أَبَاهُمَا مَاتَ لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِمَا شَيْئًا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَهُ ، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَهُ يُعْطَى لَهُمْ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ لِلْبِنْتَيْنِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ عَلَى هَذَا مَاتَ عَنْ بِنْتَيْنِ وَأَوْلَادِ ابْنٍ ، وَإِنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ يُعْطَى لَهُمْ النِّصْفُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مَاتَ عَنْ بِنْتٍ وَابْنٍ ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ عَنْ وَلَدٍ .
قَالَ
الْمُصَنِّفُ ( وَنَظِيرُهُ ) أَيْ فِي وَقْفِ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي النَّصِيبِ ( الْحَمْلُ فَإِنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ ابْنٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْفَتْوَى ) وَاحْتُرِزَ بِهِ عَمَّا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُوقَفُ لَهُ مِيرَاثُ أَرْبَعِ بَنِينَ لِمَا قَالَ شَرِيكٌ : رَأَيْت بِالْكُوفَةِ لِأَبِي إسْمَاعِيلَ أَرْبَعَ بَنِينَ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَعَمًّا ، عَنْ مُحَمَّدٍ مِيرَاثُ ثَلَاثَةِ بَنِينَ ، وَفِي أُخْرَى نَصِيبُ ابْنَيْنِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ نَصِيبُ ابْنٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ( وَلَوْ كَانَ مَعَ الْحَمْلِ وَارِثٌ آخَرُ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْحَمْلِ ) يُعْطَى كُلُّ نَصِيبِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَكَذَا إذَا تَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً حَامِلًا تُعْطَى الْمَرْأَةُ الثُّمُنَ ( وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَسْقُطُ بِالْحَمْلِ لَا يُعْطِي ) شَيْئًا ( وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَغَيَّرُ وَيُعْطِي الْأَقَلَّ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ ) مِثَالُهُ تَرَكَ امْرَأَةً حَامِلًا : وَجَدَّةً تُعْطَى السُّدُسَ لِأَنَّهُ لَا يَتَغَيَّرُ لَهَا ، وَلَوْ تَرَكَ حَامِلًا وَأَخًا وَعَمًّا لَا يُعْطِي شَيْئًا لِأَنَّ الْأَخَ يَسْقُطُ بِالِابْنِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْحَمْلُ ابْنًا فَكَانَ بَيْنَ أَنْ يَسْقُطَ وَلَا يَسْقُطُ ، فَكَانَ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ مَشْكُوكًا فِيهِ فَلَا يُعْطِي شَيْئًا .
وَلَوْ تَرَكَ حَامِلًا وَأُمًّا أَوْ زَوْجَةً تَأْخُذُ الْأُمُّ السُّدُسَ وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا أَخَذَتْ الْأُمُّ الثُّلُثَ أَوْ حَيًّا أَخَذَتْ السُّدُسَ وَالزَّوْجَةُ الثُّمُنَ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَيِّتًا أَخَذَتْ الرُّبُعَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
كِتَابُ الشِّرْكَةِ ( الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ ) { لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهَا فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ } ،
كِتَابُ الشِّرْكَةِ هُوَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِي الْمَعْرُوفِ .
أَوْرَدَ الشِّرْكَةَ عَقِيبَ الْمَفْقُودِ لِتَنَاسُبِهِمَا بِوَجْهَيْنِ : كَوْنُ مَالِ أَحَدِهِمَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ مَالَ الْمَفْقُودِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْحَاضِرِ .
وَكَوْنُ الِاشْتِرَاكِ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ كَمَا لَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَلَهُ وَارِثٌ آخَرُ وَالْمَفْقُودُ حَيٌّ ، وَهَذِهِ مُنَاسَبَةٌ خَاصَّةٌ بَيْنَهُمَا .
وَالْأُولَى عَامَّةٌ فِيهِمَا .
وَفِي الْآبِقِ وَاللَّقِيطِ وَاللُّقَطَةِ عَلَى اعْتِبَارِ وُجُودِ مَالٍ مَعَ اللَّقِيطِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَفْقُودَ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهُ الْإِبَاقَ لِشُمُولِ عَرَضِيَّةِ الْهَلَاكِ كُلًّا مِنْ نَفْسِ الْمَفْقُودِ وَالْآبِقِ .
وَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ تَخَيَّلَ أَنَّ عَرَضِيَّةَ الْهَلَاكِ لِلْمَالِ فَقَالَ : لِأَنَّ الْمَالَ عَلَى عَرَضِيَّةِ التَّوَى .
وَحَاصِلُ مَحَاسِنِ الشِّرْكَةِ تَرْجِعُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ .
وَالشِّرْكَةُ لُغَةً : خَلْطُ النَّصِيبَيْنِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا ، وَمَا قِيلَ إنَّهُ اخْتِلَاطُ النَّصِيبَيْنِ تَسَاهَلَ ، فَإِنَّ الشِّرْكَةَ اسْمُ الْمَصْدَرِ ، وَالْمَصْدَرُ الشِّرْكُ مَصْدَرُ شَرِكْت الرَّجُلَ أُشْرِكُهُ شِرْكًا ، فَظَهَرَ أَنَّهَا فِعْلُ الْإِنْسَانِ وَفِعْلُهُ الْخَلْطُ .
وَأَمَّا الِاخْتِلَاطُ فَصَفْقَةٌ تَثْبُتُ لِلْمَالِ عَنْ فِعْلِهِمَا لَيْسَ لَهُ اسْمٌ مِنْ الْمَادَّةِ ، وَلَا يُظَنُّ أَنَّ اسْمَهُ الِاشْتِرَاكُ لِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِعْلُهُمَا أَيْضًا مَصْدَرُ اشْتِرَاكِ الرَّجُلَانِ افْتِعَالٌ مِنْ الشَّرِكَةِ ، وَيُعَدَّى إلَى الْمَالِ بِحَرْفِ " فِي " فَيُقَالُ اشْتَرَكَا فِي الْمَالِ : أَيْ حَقَّقَا الْخَلْطَ فِيهِ ، فَالْمَالُ مُشْتَرَكٌ فِيهِ : أَيْ تَعَلَّقَ بِهِ اشْتِرَاكُهُمَا : أَيْ خَلْطُهُمَا .
وَرُكْنُهَا فِي شَرِكَةِ الْعَيْنِ اخْتِلَاطُهُمَا ، وَفِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ اللَّفْظُ الْمُفِيدُ لَهُ .
هَذَا وَيُقَالُ الشَّرِكَةُ عَلَى الْعَقْدِ نَفْسُهُ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْخَلْطِ ، فَإِذَا قِيلَ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِالْإِضَافَةِ فَهِيَ إضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ ( قَوْلُهُ الشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ إلَى آخِرِهِ )
قِيلَ شَرْعِيَّتُهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْمَعْقُولِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَهَذَا خَاصٌّ بِشَرِكَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ الَّذِي هُوَ شَرِكَةُ الْعَقْدِ ، وقَوْله تَعَالَى { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ } أَيْ مِنْ الْمُشْتَرِكِينَ لَا يَنُصُّ عَلَى جَوَازِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةُ قَوْلِ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا لِلْخَصْمَيْنِ عَنْ شَرِيعَتِهِ إذْ ذَاكَ فَلَا يَلْزَمُ اسْتِمْرَارُهُ فِي شَرِيعَتِنَا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي أَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ { عَنْ السَّائِبِ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُنْت شَرِيكِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَكُنْت خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِئُ وَلَا تُمَارِي } وَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ { عَنْ السَّائِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَارَكَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي التِّجَارَةِ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ جَاءَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَرْحَبًا بِأَخِي وَشَرِيكِي كَانَ لَا يُدَارِئُ وَلَا يُمَارِي ، يَا سَائِبُ قَدْ كُنْت تَعْمَلُ أَعْمَالًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا تُقْبَلُ مِنْك وَهِيَ الْيَوْمَ تُقْبَلُ مِنْك } وَكَانَ ذَا سَلَفٍ وَصَدَاقَةٍ ، وَاسْمُ السَّائِبِ صَيْفِيُّ بْنُ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَقَوْلُ السُّهَيْلِيِّ فِيهِ إنَّهُ كَثِيرُ الِاضْطِرَابِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ السَّائِبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ ، وَهَذَا اضْطِرَابٌ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ وَلَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ ، إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أَرَادَ الْحُجَّةَ فِي تَعْيِينِ الشَّرِيكِ مَنْ كَانَ ، أَمَّا غَرَضُنَا وَهُوَ ثُبُوتُ مُشَارَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَابِتٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ : يُدَارِئُ مَهْمُوزٌ فِي الْحَدِيثِ : أَيْ يُدَافِعُ .
ثُمَّ
إيرَادُ الْمَشَايِخِ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَهُوَ جُزْءُ الدَّلِيلِ : أَعْنِي أَنَّهُ بُعِثَ وَهُمْ يَتَشَارَكُونَ فَقَرَّرَهُمْ وَمُفِيدُ الْجُزْءِ الثَّانِي مَا فِي أَبِي دَاوُد وَمُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِذَا خَانَا خَرَجْت مِنْ بَيْنِهِمَا } زَادَ رَزِينٌ " وَجَاءَ يَد الشَّيْطَانِ " وَضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ بِجَهَالَةِ وَالِدِ أَبِي حَيَّانَ وَهُوَ سَعِيدٌ ، فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ حَيَّانَ .
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ مُرْسَلًا ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ { يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ رَفَعَهَا عَنْهُمَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ الشِّرْكَةِ مَشْرُوعَةً أَظْهَرُ ثُبُوتًا مِمَّا بِهِ ثُبُوتُهَا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ ، إذْ التَّوَارُثُ وَالتَّعَامُلُ بِهَا مِنْ لَدُنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَلُمَّ جَرًّا مُتَّصِلٌ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى إثْبَاتِ حَدِيثٍ بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا لَمْ يَزِدْ الْمُصَنِّفُ عَلَى ادِّعَاءِ تَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا
قَالَ ( الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ : شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ .
فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ : الْعَيْنُ يَرِثُهَا رَجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ) وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ كَمَا إذَا اتَّهَبَ رَجُلَانِ عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدِهِمَا أَوْ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ رَأْسًا أَوْ إلَّا بِحَرَجٍ ، وَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ وَمِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى
( قَوْلُهُ الشِّرْكَةُ ضَرْبَانِ : شِرْكَةُ أَمْلَاكٍ ، وَشِرْكَةُ عُقُودٍ .
فَشِرْكَةُ الْأَمْلَاكِ الْعَيْنُ يَرِثُهَا الرَّجُلَانِ أَوْ يَشْتَرِيَانِهَا ) وَظَاهِرُ هَذَا الْحَمْلِ مِنْ الْقُدُورِيِّ الْقَصْرُ ، فَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهَا لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ تَثْبُتُ فِيمَا إذَا اتَّهَبَا عَيْنًا أَوْ مَلَكَاهَا بِالِاسْتِيلَاءِ بِأَنْ اسْتَوْلَيَا عَلَى مَالِ حَرْبِيٍّ يُمْلَكُ مَالُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ أَوْ اخْتَلَطَ مَالُهُمَا مِنْ غَيْرِ صُنْعٍ مِنْ أَحَدِهِمَا بِأَنْ انْفَتَقَ كِيسَاهُمَا الْمُتَجَاوِرَانِ فَاخْتَلَطَ مَا فِيهِمَا أَوْ اخْتَلَطَ بِخَلْطِهِمَا خَلْطًا يَمْنَعُ التَّمْيِيزَ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ أَوْ يَتَعَسَّرُ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ ؛ وَلَوْ قَالَ : الْعَيْنُ يَمْلِكَانِهَا كَانَ شَامِلًا ، إلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ مِنْ شِرْكَةِ الْأَمْلَاكِ الشِّرْكَةُ فِي الدَّيْنِ فَقِيلَ مَجَازٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ شَرْعِيٌّ لَا يُمْلَكُ ، وَقَدْ يُقَالُ : بَلْ يُمْلَكُ شَرْعًا وَلِذَا جَازَ هِبَتُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ الْهِبَةَ مَجَازٌ عَنْ الْإِسْقَاطِ وَلِذَا لَمْ تَجُزْ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ ، وَالْحَقُّ مَا ذَكَرُوا مِنْ مِلْكِهِ ، وَلِذَا مَلَكَ مَا عَنْهُ مِنْ الْعَيْنِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ حَتَّى إذَا دَفَعَ مَنْ عَلَيْهِ إلَى أَحَدِهِمَا شَيْئًا كَانَ لِلْآخَرِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا أَخَذَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الَّذِي أَخَذْته حِصَّتِي وَمَا بَقِيَ عَلَى الْمَدْيُون حِصَّتُك ، وَلَا يَصِحُّ مِنْ الْمَدْيُونِ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ قَضَاهُ وَأَخَّرَ الْآخَرُ .
قَالُوا : وَالْحِيلَةُ فِي اخْتِصَاصِ الْآخِذِ بِمَا أَخَذَ دُونَ شَرِيكِهِ أَنْ يَهَبَهُ مَنْ عَلَيْهِ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ وَيُبَرِّئُهُ هُوَ مِنْ حِصَّتِهِ ، وَحُكْمُ هَذِهِ الشِّرْكَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَّا بِأَمْرِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ الشِّرْكَةِ لِعَدَمِ تَضَمُّنِهَا وَكَالَةً ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مِنْ الشَّرِيكِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ ( وَ ) أَمًّا ( مِنْ
غَيْرِ الشَّرِيكِ فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إلَّا فِي صُورَةِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ) بَيْعُ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ ( إلَّا بِإِذْنِ الشَّرِيكِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ) وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَهُوَ أَنَّ الشِّرْكَةَ إذَا كَانَتْ بَيْنَهُمَا مِنْ الِابْتِدَاءِ بِأَنْ اشْتَرَيَا حِنْطَةً أَوْ وَرِثَاهَا كَانَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مُشْتَرِكَةً بَيْنَهُمَا فَبَيْعُ كُلٍّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ شَائِعًا جَائِزٌ مِنْ الشَّرِيكِ وَالْأَجْنَبِيِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ بِالْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ ، لِأَنَّ كُلَّ حَبَّةٍ مَمْلُوكَةٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا لِأَحَدِهِمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ فِيهَا شِرْكَةٌ ، فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا مَخْلُوطًا بِنَصِيبٍ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ ، بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ الشَّرِيكِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ مِنْ أَنَّ خَلْطَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ إلَى الْخَالِطِ ، فَإِذَا حَصَلَ بِغَيْرِ تَعَدٍّ يَكُونُ سَبَبُ الزَّوَالِ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَاعْتُبِرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ غَيْرَ زَائِلٍ فِي حَقِّ الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِيكِ فَقَدْ يَمْنَعُ ثُبُوتُ الزَّوَالِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ تَمَامَ السَّبَبِ فِيهِ هُوَ التَّعَدِّي ، فَعِنْدَ عَدَمِهِ لَا يَثْبُتُ مِنْ وَجْهٍ وَإِلَّا لَكَانَتْ جَمِيعُ الْمُسَبَّبَاتِ ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ قَبْلَ أَسْبَابِهَا ، وَأَيْضًا فَالزَّوَالُ إلَى الْخَالِطِ عَيْنًا لَا إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ الْآخَرِ عِنْدَ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ، بَلْ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُهُ زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ الْخَالِطِ عَيْنًا فَلَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْهُمَا زَائِلًا إلَى الشَّرِيكِ
فِي الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ، بَلْ اعْتِبَارُ نَصِيبِ غَيْرِ الْخَالِطِ فَقَطْ إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ تَمَامَ السَّبَبِ التَّعَدِّي لِأَنَّ الْخَلْطَ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَيُّ تَعَدٍّ هُوَ السَّبَبُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ فِي هَذَا الْمَالِ فَيُقَالُ التَّعَدِّي فِي خَلْطِهِ
( وَالضَّرْبُ الثَّانِي : شِرْكَةُ الْعُقُودِ ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت ) وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ
( قَوْلُهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي شِرْكَةُ الْعُقُودِ ، وَرُكْنُهَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ) ثُمَّ فَسَّرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا شَارَكْتُك فِي كَذَا وَكَذَا وَيَقُولُ الْآخَرُ قَبِلْت ) أَيْ فِي كَذَا مِنْ الْمَالِ وَفِي كَذَا مِنْ التِّجَارَاتِ الْبَزَّازِيَّةِ أَوْ الْبَقَّالِيَّةِ فِي الْعِنَانِ أَوْ فِي كُلِّ مَالِي وَمَالِك وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ وَفِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ ، وَكُلٌّ كَفِيلٌ عَنْ الْآخَرِ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَنَحْوُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ كَمَا سَيَأْتِي ، وَلَيْسَ اللَّفْظُ الْمَذْكُورُ بِلَازِمٍ بَلْ الْمَعْنَى ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ أَلْفًا إلَى رَجُلٍ وَقَالَ أَخْرِجْ مِثْلَهَا وَاشْتَرِ وَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَنَا وَقَبِلَ الْآخَرُ أَوْ أَخَذَهَا وَفَعَلَ انْعَقَدَتْ الشِّرْكَةُ ، وَيُنْدَبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَيْفِيَّةَ كِتَابَتِهَا فَقَالَ : هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ اشْتَرَكَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، ثُمَّ يُبَيِّنُ قَدْرَ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَيَقُولُ : وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا يَشْتَرِيَانِ بِهِ وَيَبِيعَانِ جَمِيعًا وَشَتَّى ، وَيَعْمَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ، وَهَذَا وَإِنْ مَلَكَهُ كُلٌّ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الشِّرْكَةِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : لَا يَمْلِكُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْهُ يَكْتُبُ هَذَا ، ثُمَّ يَقُولُ : فَمَا كَانَ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ، وَمَا كَانَ مِنْ وَضِيعَةٍ أَوْ تَبَعَةٍ فَكَذَلِكَ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلَافِ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ بَاطِلٌ ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مُتَفَاوِتًا عِنْدَنَا صَحِيحٌ فِيمَا سَيُذْكَرُ ، فَإِنْ كَانَ شَرَطَا التَّفَاوُتَ فِيهِ كَتَبَاهُ كَذَلِكَ وَيَقُولُ اشْتَرَكَا عَلَى ذَلِكَ فِي يَوْمِ كَذَا فِي شَهْرِ كَذَا ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ التَّارِيخَ كَيْ لَا يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ حَقًّا فِيمَا
اشْتَرَاهُ الْآخَرُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ .
( قَوْلُهُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَقْدَ الشِّرْكَةِ قَابِلًا لِلْوَكَالَةِ ) وَعَقْدُ الشِّرْكَةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ مَعْمُولًا لِمَعْقُودٍ ، وَكُلُّ صُوَرِ عُقُودِ الشِّرْكَةِ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَتَخْتَصُّ الْمُفَاوَضَةُ بِالْكَفَالَةِ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ ذَلِكَ ( لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَيَتَحَقَّقُ حُكْمُهُ ) أَيْ حُكْمُ عَقْدِ الشِّرْكَةِ ( الْمَطْلُوبُ مِنْهُ ) وَهُوَ الِاشْتِرَاكُ فِي الرِّبْحِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ وَأَصِيلًا فِي النِّصْفِ الْآخَرِ لَا يَكُونُ الْمُسْتَفَادُ مُشْتَرَكًا لِاخْتِصَاصِ الْمُشْتَرَى بِالْمُشْتَرِي ، وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ الِاشْتِرَاكِ فِي التَّكَدِّي وَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاصْطِيَادِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ
( ثُمَّ هِيَ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ : مُفَاوَضَةٌ ، وَعِنَانٌ ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ .
فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهِمَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا ) لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ يُفَوِّضُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرَ الشِّرْكَةِ إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ ، قَالَ قَائِلُهُمْ : لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أَيْ مُتَسَاوِيِينَ .
فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَذَلِكَ فِي الْمَالِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا تَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاضُلُ فِيمَا لَا يَصِحُّ الشِّرْكَةُ فِيهِ ، وَكَذَا فِي التَّصَرُّفِ ، لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَا يَمْلِكُ الْآخَرُ لَفَاتَ التَّسَاوِي ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ } وَكَذَا النَّاسُ يُعَامِلُونَهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ يُتْرَكُ الْقِيَاسُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ تَبَعًا كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ وَلَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةُ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ عِلْمِ الْعَوَامّ ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه تَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى .
قَالَ ( فَتَجُوزُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ الْكَبِيرَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا تَجُوزُ أَيْضًا ) لِمَا قُلْنَا ( وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ )
لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِ الْوَلِيِّ .
قَالَ ( وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ لِلتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ تَصَرُّفٍ يَمْلِكُهُ أَحَدُهُمَا كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ .
وَيَتَفَاوَتَانِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَالِ خُمُورًا أَوْ خَنَازِيرَ صَحَّ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مُسْلِمٌ لَا يَصِحُّ
( قَوْلُهُ ثُمَّ هِيَ ) أَيْ شِرْكَةُ الْعُقُودِ عَلَى ( أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : مُفَاوَضَةٌ ، وَعِنَانٌ ، وَشِرْكَةُ الصَّنَائِعِ ، وَشِرْكَةُ الْوُجُوهِ ) قِيلَ فِي وَجْهِ الْحَصْرِ إنَّ الْعَقْدَ إمَّا أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ مَالٌ أَوْ لَا ، وَفِي الذِّكْرِ إمَّا أَنْ تُشْتَرَطَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَالِ وَرِبْحِهِ وَتَصَرُّفِهِ وَنَفْعِهِ وَضَرَرِهِ أَوْ لَا ، فَإِنْ شَرَطَا ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ وَإِلَّا فَهُوَ الْعِنَانُ .
وَفِي عَدَمِ ذِكْرِ الْمَالِ إمَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْعَمَلَ فِي مَالِ الْغَيْرِ أَوْ لَا ، فَالْأَوَّلُ الصَّنَائِعُ ، وَالثَّانِي الْوُجُوهُ .
وَقِيلَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْتَضِيَ أَنَّ شِرْكَةَ الصَّنَائِعِ وَالْوُجُوهِ لَا يَكُونَانِ مُفَاوَضَةً وَلَا عِنَانًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِيمَا يَأْتِي ، فَوَجْهُ التَّقْسِيمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخَانِ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ حَيْثُ قَالَا : الشِّرْكَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : شِرْكَةٌ بِالْأَمْوَالِ ، وَشِرْكَةٌ بِالْأَعْمَالِ ، وَشِرْكَةٌ بِالْوُجُوهِ .
وَكُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهَيْنِ : مُفَاوَضَةٍ وَعِنَانٍ ، وَسَيَأْتِي الْبَيَانُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ فَأَمَّا شِرْكَةُ الْمُفَاوَضَةِ فَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ فَيَتَسَاوَيَانِ فِي مَالِهَا وَتَصَرُّفِهِمَا وَدَيْنِهِمَا ) وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي كُلِّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ عُهْدَةِ مَا يَشْتَرِيه كَمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْهُ ( لِأَنَّهَا شِرْكَةٌ عَامَّةٌ ) يُفَوِّضُ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى الْعُمُومِ ( فِي التِّجَارَاتِ ) وَالتَّصَرُّفَاتِ لِأَنَّ الْفَوْضَةَ الشِّرْكَةُ وَالْمُفَاوَضَةَ الْمُسَاوَاةُ ، فَلَزِمَ مُطْلَقُ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ فَعَمَّ التَّسَاوِي فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إذْ هِيَ مِنْ الْمُسَاوَاةِ تَسَاهُلٌ لِأَنَّهَا مَادَّةٌ أُخْرَى فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الِاشْتِقَاقُ ، بَلْ هِيَ مِنْ التَّفْوِيضِ أَوْ الْفَوْضِ الَّذِي مِنْهُ فَاضَ الْمَاءُ : إذَا عَمَّ وَانْتَشَرَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْمُسَاوَاةُ ، وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ
الْأَفْوَهِ الْأَوْدِيِّ : لَا يُصْلِحُ النَّاسَ فَوْضَى لَا سُرَاةَ لَهُمْ وَلَا سُرَاةَ إذَا جِهَالُهُمْ سَادُوا وَبَعْدَهُ : إذَا تَوَلَّى سُرَاةُ النَّاسِ أَمْرَهُمْ نَمَا عَلَى ذَاكَ أَمْرُ الْقَوْمِ وَازْدَادُوا وَقِيلَ بَعْدَهُ : تُهْدَى الْأُمُورُ بِأَهْلِ الرَّأْيِ مَا صَلُحَتْ فَإِنْ تَوَلَّتْ فَبِالْجُهَّالِ يَنْقَادُوا وَمَعْنَى الْبَيْتِ : إذَا كَانَ النَّاسُ مُتَسَاوِينَ لَا كَبِيرَ لَهُمْ وَلَا سَيِّدَ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ بَلْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلًّا يُنَفِّذُ مُرَادَهُ كَيْفَ كَانَ تَحَقَّقَتْ الْمُنَازَعَةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } وَالسُّرَاةُ جَمْعُ سَرَى ، وَهُوَ السَّيِّدُ ، وَجَعَلَهُ صَاحِبُ الْمُفَصَّلِ اسْمَ جَمْعٍ لَهُ كَرَكْبٍ فِي رَاكِبٍ .
وَالسَّرِيُّ فَعِيلٌ جُمِعَ عَلَى فَعِلَة بِالتَّحْرِيكِ ، وَأَصْلُهُ سَرْوَة تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ أَلِفًا فَصَارَ سُرَاةَ ، وَأَصْلُ سَرَى سَرَيَو اجْتَمَعَتَا وَسُبِقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ فَقُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ ، وَسَيَأْتِي وَجْهُ الْمُسَاوَاةِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ابْتِدَاءً ) عِنْدَ عَقْدِ الشِّرْكَةِ ( وَانْتِهَاءً ) أَيْ فِي مُدَّةِ الْبَقَاءِ لِأَنَّ عَقْدَ الشِّرْكَةِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَهُ إذَا شَاءَ فَكَانَ لِبَقَائِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، فَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ يَمْنَعُ بَقَاءَهُ ؛ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَالَانِ سَوَاءً يَوْمَ الْعَقْدِ ثُمَّ ازْدَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ لِأَنَّ الشِّرْكَةَ انْتَقَلَتْ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنَّمَا تَغَيَّرَ سِعْرُ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ الشِّرْكَةِ فِيهِ .
وَلَوْ اشْتَرَيَا بِجَمِيعِ مَالِ أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَضَلَ مَالُ الْآخَرِ فَفِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا قَلَّ مَا يَتَّفِقُ
فَيَلْزَمُ بِاشْتِرَاطِهِ حَرَجٌ ، وَلِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَائِمَةٌ مَعْنًى لِأَنَّ الْآخَرَ لَمَّا مَلَكَ نِصْفَ الْمُشْتَرِي صَارَ نِصْفُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ وَنِصْفُ مَا لَمْ يَسْتَحِقُّ بِهِ لِصَاحِبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمَا صِفَةً ، فَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ سُودٌ وَلِلْآخَرِ مِثْلُهَا بِيضٌ وَقِيمَتَاهُمَا مُتَسَاوِيَةٌ صَحَّتْ الْمُفَاوَضَةُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَتْ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ دِينَارٍ وَقِيمَتُهُمَا أَلْفٌ صَحَّتْ ، فَإِنْ زَادَتْ صَارَتْ عِنَانًا ، وَكَذَا لَوْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا دَرَاهِمَ أَوْ اتَّهَبَهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْمَالِ الَّذِي يَلْزَمُ فِيهِ التَّسَاوِي مَا تَصِحُّ بِهِ الشِّرْكَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ عَلَى قَوْلِهِمَا دُونَ الْعُرُوضِ ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَدِيعَةٌ نَقْدٌ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ صَحَّتْ إلَى أَنْ يَقْبِضَهُ ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَسَدَتْ وَصَارَتْ عِنَانًا ، وَلِذَا يُعْتَبَرُ التَّسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا تَصَرُّفًا لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخَرُ فَاتَ التَّسَاوِي ، وَكَذَا فِي الدَّيْنِ لِمَا نُبَيِّنُ عَنْ قَرِيبٍ ( قَوْلُهُ وَهَذِهِ الشِّرْكَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ ) وَهَذَا لَا يَلْزَمُ تَنَاقُضٌ بِهِ كَمَا قِيلَ : إذَا لَمْ يَعْرِفْهَا فَكَيْفَ حَكَمَ بِفَسَادِهَا لِأَنَّ الْعَالِمَ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ .
وَالْمَعْنَى : لَا وُجُودَ لِلْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ فِي الشَّرْعِ ، وَمَا لَا وُجُودَ لَهُ شَرْعًا لَا صِحَّةَ لَهُ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَجُوزُ وَهِيَ أَنْ يُفَوِّضَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ التَّصَرُّفَ فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ كَيَدِهِ غَيْرَ أَنْ لَا يَشْتَرِطَ
التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ الْقَوْلَ بِالْمُفَاوَضَةِ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ ( وَجْهُ ) قَوْلِهِمَا وَهُوَ وَجْهُ ( الْقِيَاسِ أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ الْوَكَالَةَ بِ ) شِرَاءٍ ( مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْكَفَالَةِ بِمَجْهُولٍ ، وَكُلٌّ بِانْفِرَادِهِ فَاسِدٌ ) وَلَوْ قَالَ وَكَّلْتُك بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ نَوْعَهُ وَصِفَتَهُ ، وَلَوْ كَفَّلَ لِمَنْ سَيَدِينُهُ بِمَا يَلْزَمُهُ لَا يَصِحُّ فَاجْتِمَاعُهَا يَزِيدُ فَسَادًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْوَكَالَةُ الْعَامَّةُ جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ لِآخَر وَكَّلْتُك فِي مَالِي اصْنَعْ فِيهِ مَا شِئْت حَتَّى يُجَوِّزَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَا شَاءَ .
قُلْنَا : الْعُمُومُ غَيْرُ مُرَادٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ وَكَالَةُ كُلٍّ فِي شِرَاءِ طَعَامِ أَهْلِ الْآخَرِ وَكِسْوَتِهِمْ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَامًّا كَانَ تَوْكِيلًا بِمَجْهُولِ الْجِنْسِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ) أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا ( مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { فَاوِضُوا فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ } ) أَيْ أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا فَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ } وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَصْلًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي التِّجَارَاتِ عَنْ صَالِحِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ : بَيْعٌ إلَى أَجْلٍ ، وَالْمُقَارَضَةُ ، وَإِخْلَاطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ } .
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ مَاجَهْ : الْمُفَاوَضَةُ بَدَلُ الْمُقَارَضَةِ ، وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ ، وَضَبْطُهُ الْمُعَارَضَةُ بِالْعَيْنِ وَالضَّادِ وَفَسَّرَهَا بِبَيْعِ عَرَضٍ بِعَرَضٍ مِثْلِهِ ( وَالْآخَرُ ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ ( أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَبِهِ
يُتْرَكُ الْقِيَاسُ ) لِأَنَّ التَّعَامُلَ كَالْإِجْمَاعِ وَلَوْ مَنَعَ ظُهُورَ التَّعَامُلِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمُسَاوَاةِ فِي جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ كُلٌّ مِنْ النُّقُودِ بَلْ عَلَى شَرْطِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ كَمَا عَنْ مَالِكٍ أَمْكَنَ .
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ الْقِيَاسِ فَقَالَ ( الْجَهَالَةُ مُتَحَمَّلَةٌ ) لِأَنَّهَا إنَّمَا تَثْبُتُ ( تَبَعًا ) وَالتَّصَرُّفُ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا وَلَا يَصِحُّ مَقْصُودًا ( كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ) فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ بِشِرَاءِ مَجْهُولِ الْجِنْسِ ، وَكَذَا شِرْكَةُ الْعِنَانِ فَلَا يَتِمُّ الْإِلْزَامُ ، وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ الْكُلِّيُّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالْجَهَالَةُ مُتَحَمِّلَةٌ تَبَعًا الْجَوَاب عَنْ إلْزَامِ الْكَفَالَةِ لِمَجْهُولٍ ، وَفَصَّلَ الْجَوَابَ فِيهَا فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ : وَأَمَّا الْجَهَالَةُ فَعَيْنُهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَلَكِنْ تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِهَا ، وَهُوَ مُنْعَدِمٌ هُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ الْمَضْمُون لَهُ وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ ، وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِمَجْهُولٍ ابْتِدَاءً ، لِأَنَّ عِنْدَ اللُّزُومِ لَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ الْمَكْفُولُ لَهُ فَاكْتَفَى بِنَفْيِ الْإِلْزَامِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ تَبَعًا لَا قَصْدًا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدِم صِحَّةِ الْكَفَالَةِ كَذَلِكَ قَصْدًا عَدَمُ صِحَّتِهَا ضِمْنًا ، وَعَلَى هَذَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ صِحَّتِهَا شَرْعًا أَخْذًا مِنْ هَذَا الْجَوَابِ ، هَكَذَا تَصَرُّفٌ نَافِعٌ لَا مَانِعَ فِيهِ فِي الشَّرْعِ فَوَجَبَ صِحَّتُهُ ، وَالْمَانِعُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ بِمَجْهُولٍ وَالْكَفَالَةُ بِمَجْهُولٍ يَمْنَعُ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ مَنْعِ الشَّيْءِ إذَا ثَبَتَ قَصْدًا مَنْعُهُ إذَا ثَبَتَ ضِمْنًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ اشْتِرَاطُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ ؟ قُلْنَا : هَذَا أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى مُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الشِّرْكَةَ فِي صُورَةٍ
يَكُونُ الشَّرِيكَانِ مُتَسَاوِيَيْ الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ عَلَى الْعُمُومِ جَائِزَةٌ بِلَا مَانِعٍ كَمَا فِي صُورَةِ عَدَمِ تَسَاوِيهِمَا .
فَقُلْنَا : إنْ عَقَدَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ سَمَّيْنَا الشِّرْكَةَ مُفَاوَضَةً وَإِلَّا سَمَّيْنَاهَا عِنَانًا ، غَيْرَ أَنَّا اكْتَفَيْنَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي ثُبُوتِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ لِجَعْلِنَا إيَّاهُ عِلْمًا عَلَى تَمَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي أَمْرِ الشِّرْكَةِ ، فَإِذَا ذَكَرَاهَا تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا إقَامَةً لِلَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرَاهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ رِضَاهُمَا بِأَحْكَامِهَا إلَّا أَنْ يَذْكُرَا تَمَامَ مَعْنَاهَا ، بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا : وَهُمَا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ بَالِغَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ شَارَكْتُك فِي جَمِيعِ مَا أَمْلِكُ مِنْ نَقْدٍ وَقَدْرُ مَا تَمْلِكُ عَلَى وَجْهِ التَّفْوِيضِ الْعَامِّ مِنْ كُلٍّ مِنَّا لِلْآخَرِ فِي التِّجَارَاتِ وَالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ، وَعَلَى أَنَّ كُلًّا مِنَّا ضَامِنٌ عَلَى الْآخَرِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ أَمْرِ كُلِّ بَيْعٍ ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَتَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ لِبُعْدِ شَرَائِطِهَا عَنْ فَهْمِ الْعَوَامّ ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَّا جَمِيعَ مَا تَقْتَضِيه يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى ) وَاللَّفْظُ وَسِيلَةٌ إلَى إفْهَامِهِ ، وَلَوْ عَقَدَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ وَبَعْضُ شَرَائِطِهَا مُنْتَفٍ انْعَقَدَتْ عِنَانًا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُنْتَفَى مِنْ شُرُوطِ الْعِنَانِ وَيَكُونُ تَعْبِيرًا بِالْمُفَاوَضَةِ عَنْ الْعِنَانِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ) إنَّ فِيهِ لِلْوَصْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا قُلْنَا ) أَيْ لِتَحَقُّقِ التَّسَاوِي إذْ الْكُفْرُ كُلُّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ( قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالْبَالِغِ لِتَعَذُّرِ الْمُسَاوَاةِ ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْبَالِغَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ وَالْكَفَالَةَ ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَالصَّبِيُّ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ ) أَصْلًا وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ (
وَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا بِإِذْنِهِ .
قَالَ : وَلَا بَيْنَ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ) وَكَوْنُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْكَافِرُ يَمْلِكُ زِيَادَةَ تَصَرُّفٍ لَا يَمْلِكُهُ الْآخَرُ كَالْعَقْدِ عَلَى الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ بَعْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي أَصْلِ التَّصَرُّفِ مُبَاشَرَةً وَوَكَالَةً وَكَفَالَةً ( وَصَارَ كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَالْحَنَفِيِّ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ ، وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْعَقْدِ عَلَى مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ ) أَيْ عَقْدُ الشِّرْكَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ .
( لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يَهْتَدِي إلَى الْجَائِزِ مِنْ الْعُقُودِ أَوْ لَا يَحْتَرِزُ مِنْ الرِّبَا فَيَكُونُ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْمُسْلِمِ فِي أَكْلِ الْحَرَامِ ) وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اسْتِعْمَالِ الْجَوَازِ فِي أَعَمَّ مِنْ الْإِبَاحَةِ بِمَعْنَى اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَهُوَ مَا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَضِيَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَنْتَفِيَ الْحُكْمُ عَمَّا بَعُدَ إلَّا فَيَكُونُ قَدْ أَخْرَجَ الْكَرَاهَةَ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا الْجَوَازُ عَنْهُ فَلَا يَثْبُتُ ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاكٌ مِنْ الْجَوَازِ فَإِنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى غَيْرِ الْمَكْرُوهِ فَاسْتَدْرَكَ مِنْهُ الْكَرَاهَةَ : أَيْ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَبَعْضُ أَهْلِ الدَّرْسِ قَالُوا : يُرِيدُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لِمَا رَأَوْهُ بِمَعْنَى لَكِنْ ، هُوَ غَلَطٌ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى فِي الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ مُخْرَجٌ مِنْ حُكْمِ الصَّدْرِ ، فَالْحِمَارُ لَمْ يَجِئْ فِي قَوْلِك جَاءُوا إلَّا حِمَارًا فَيَقْتَضِي إخْرَاجَ الْكَرَاهَةِ عَنْ ثُبُوتِ الْجَوَازِ فَلَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَسَاوِي فِي التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ اشْتَرَى بِرَأْسِ مَالِهِ خُمُورًا وَخَنَازِير يَصِحُّ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا
الْمُسْلِمُ لَا يَصِحُّ ) لَكِنْ بَقِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ كَالْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ مَعَ التَّفَاوُتِ فِيمَا يَمْلِكَانِ لَمْ يَجِبْ عَنْهُ ، وَكَذَا بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ فَإِنَّ الْمَجُوسِيَّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ مَالِيَّتَهَا دُونَ الْكِتَابِيِّ ، وَكَذَا الْكِتَابِيُّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ دُونَ الْمَجُوسِيِّ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ فَلَا فَضْلَ بَيْنَ الْمَجُوسِيِّ وَالْكِتَابِيِّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي التَّصَرُّفِ ، وَأَمَّا مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ لِلذَّبْحِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ أَوْ نَائِبُهُ وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ جَائِزَةٌ لِيَسْتَوْجِبَ بِهَا الْأَجْرَ وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ، وَأَمَّا الْحَنَفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ فَالْمُسَاوَاةُ ثَابِتَةٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ لَيْسَ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَائِمٌ ، وَوِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ ثَابِتَةٌ بِاتِّحَادِ الْمِلَّةِ وَالِاعْتِقَادِ فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ كَالْحَنَفِيِّ .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ مَعَ الْمُرْتَدِّ فَلَا تَجُوزُ الشِّرْكَةُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِمْ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ .
وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ
( وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ ) لِانْعِدَامِ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْعِنَانِ كَانَ عِنَانًا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْعِنَانِ ، إذْ هُوَ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا .
( قَوْلُهُ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ ) يَعْنِي وَلَوْ أَذِنَ وَلِيُّهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُكَاتَبَيْنِ ( قَوْلُهُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُفَاوَضَةُ لِفَقْدِ شَرْطِهَا إلَخْ ) وَذَلِكَ كَمَا لَوْ عَقَدَ بَالِغٌ وَصَبِيٌّ أَوْ حُرٌّ وَعَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ شَرَطَا عَدَمَ الْكَفَالَةِ تَصِيرُ عِنَانًا وَإِنْ عَمَّمَا التَّصَرُّفَ وَالْمَالَ وَتَسَاوَيَا فِيهِ ، لِأَنَّ عَقْدَ شِرْكَةِ الْعِنَانِ قَدْ يَكُونُ عَامًّا كَمَا يَكُونُ خَاصًّا ، بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَامَّةً
قَالَ ( وَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ) أَمَّا الْوَكَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الشِّرْكَةُ فِي الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا الْكَفَالَةُ : فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوَاجِبِ التِّجَارَاتِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا جَمِيعًا .
قَالَ ( وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ ) وَكَذَا كِسْوَتُهُ ، وَكَذَا الْإِدَامُ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا ، إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى عَنْ الْمُفَاوَضَةِ لِلضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومَةُ الْوُقُوعِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا التَّصَرُّفُ مِنْ مَالِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الشِّرَاءِ فَيَخْتَصُّ بِهِ ضَرُورَةً .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا ( وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهمَا شَاءَ ) الْمُشْتَرِي بِالْأَصَالَةِ وَصَاحِبُهُ بِالْكَفَالَةِ ، وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا .
قَالَ ( وَمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الدُّيُونِ بَدَلًا عَمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ فَالْآخَرُ ضَامِنٌ لَهُ ) تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ ، فَمِمَّا يَصِحُّ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ وَالِاسْتِئْجَارُ ، وَمِنْ الْقِسْمِ الْآخَرِ الْجِنَايَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَعَنْ النَّفَقَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَلْزَمُهُ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ، وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْمَرِيضِ يَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ وَالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً
وَمُعَاوَضَةُ بَقَاءً لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَمْ تَصِحَّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ وَتَصِحُّ مِنْ الثُّلُثِ مِنْ الْمَرِيضِ ، بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً .
وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ ، وَلَوْ سَلِمَ فَهُوَ إعَارَةٌ فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ حَتَّى لَا يَصِحَّ فِيهِ الْأَجَلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مُعَاوَضَةً ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ تَلْزَمْ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ .
وَمُطْلَقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ عِنْد أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً .
قَالَ ( وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا يَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ أَوْ وَهَبَ لَهُ وَوَصَلَ إلَى يَدِهِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا ) لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ إذْ هِيَ شَرْطٌ فِيهِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْآخَرَ لَا يُشَارِكُهُ فِيمَا أَصَابَهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ ، إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ عِنَانًا لِلْإِمْكَانِ ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ ، وَلِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ ( وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا عَرَضًا فَهُوَ لَهُ وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ ) وَكَذَا الْعَقَارُ لِأَنَّهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَتَنْعَقِدُ ) أَيْ الْمُفَاوَضَةُ ( عَلَى الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ) وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ اللَّفْظِ فَيَثْبُتُ بِذِكْرِهِ : أَيْ وَكَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي نِصْفِ مَا يَشْتَرِيه وَكَفَالَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا الْآخَرَ ( أَمَّا ) انْعِقَادُهَا عَلَى ( الْوَكَالَةِ فَلِتَحَقُّقِ غَرَضِ الشِّرْكَةِ ) وَقَوْلُهُ ( عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ لِيَكُونَ مَا يُسْتَفَادُ بِهِ عَلَى الشِّرْكَةِ فَيَتَحَقَّقُ الِاشْتِرَاطُ فِي الرِّبْحِ ( وَأَمَّا الْكَفَالَةُ فَلِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ ) الَّتِي هِيَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا هُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ التِّجَارَةِ وَهُوَ تَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ نَحْوَهُمَا بِسَبَبِ مَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِهَا وَمَا يُشْبِهُ مَا هُوَ تِجَارَةٌ ( وَمَا يَشْتَرِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عَلَى الشِّرْكَةِ إلَّا طَعَامَ أَهْلِهِ وَكِسْوَتَهُمْ ) فَيَخْتَصُّ بِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا عَنْهُ لَهُ حَتَّى كَانَ لِبَائِعِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ لَهُ وَلِعِيَالِهِ وَإِدَامِهِمْ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِمَا أَدَّى عَلَى الشَّرِيكِ الْمُشْتَرِي ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا جَارِيَةً لِلْوَطْءِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي آخِرِ الشِّرْكَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الشِّرْكَةِ اسْتِحْسَانًا بِالضَّرُورَةِ ( فَإِنَّ الْحَاجَةَ الرَّاتِبَةَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا ) أَيْ الْمُسْتَمِرَّةَ مِنْ قَوْلِهِمْ رَتَبَ الشَّيْءُ إذَا دَامَ ، وَمِنْهُ أَمْرٌ تُرْتَب : أَيْ دَائِمٌ بِفَتْحِ التَّاءِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّهَا .
( وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نَفَقَةِ عِيَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ) فَكَانَ مُسْتَثْنًى ضَرُورَةً ( وَالْقِيَاسُ وُقُوعُهُ عَلَى الشِّرْكَةِ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ الْمُسَاوَاةُ ، ثُمَّ كَفَالَةُ كُلٍّ الْآخَرَ إنَّمَا هِيَ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ ، أَمَّا مَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ فَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِدَيْنِهِ وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ بِهِ شَرِيكُهُ ، وَضَمَانُ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ وَقِيمَتُهُ فِي الْفَاسِدِ وَأُجْرَةُ مَا اسْتَأْجَرَهُ سَوَاءٌ اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِحَاجَةِ التِّجَارَةِ ، وَمَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ ضَمَانُ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ وَدِيعَةٌ إذَا جَحَدَهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا ، كَذَا الْعَارِيَّةُ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُفِيدُ لَهُ تَمَلُّكَ الْأَصْلِ فَتَصِيرُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ ، وَلَوْ لِحَقِّ أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ لَا يُشْبِهُ ضَمَانَ التِّجَارَةِ لَا يُؤْخَذُ بِهِ كَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَبَدَل الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَعَنْ هَذَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الشَّرِيكَ عَلَى الْعِلْمِ إذَا أَنْكَرَ الشَّرِيكُ الْجَانِي ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِهِمَا بَيْعَ خَادِمٍ فَأَنْكَرَ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْبَتَاتِ وَشَرِيكُهُ عَلَى الْعِلْمِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي يَلْزَمُهُمَا ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُ الْآخَرَ فَلَا فَائِدَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ .
وَصُورَةُ الْخُلْعِ مَا لَوْ عَقَدَتْ امْرَأَةٌ شِرْكَةَ مُفَاوَضَةٍ مَعَ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ ثُمَّ خَالَعَتْ زَوْجَهَا عَلَى مَالٍ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهَا ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِبَدَلِ الْخُلْعِ أَوْ الْتَزَمَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كُفِّلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ عَنْ أَجْنَبِيٍّ لَزِمَ صَاحِبَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْكَفِيلُ ( مُتَبَرِّعٌ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ ) الْكَفَالَةُ ( مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا ) أَيْضًا ( لَوْ صَدَرَ ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ ( مِنْ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ صَحَّ مِنْ الثُّلُثِ وَصَارَ كَالْإِقْرَاضِ ) إذَا أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ لِإِنْسَانٍ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى صُدُورِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ فِي
الْمَرَضِ لِأَنَّ الْمَرِيضَ لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى الْمَرَضِ لَزِمَتْهُ فِي كُلِّ الْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يُلَاقِي حَالَ بَقَائِهَا وَهِيَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ مُعَاوَضَةٌ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ .
ذَكَرَهُ فِي الْأَسْرَارِ .
وَكَوْنُ الْإِقْرَاضِ لَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَلَوْ أَخَذَ بِهِ سَفْتَجَةً هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ ، وَنَسَبَهُ إلَى الْإِيضَاحِ ، وَعِبَارَةُ الْإِيضَاحِ نَقَلَهَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا هَكَذَا ، قَالَ يَضْمَنُ : يَعْنِي الْمُقْرِضَ لِشَرِيكِهِ تَوَى الْمَالَ أَوْ لَمْ يَتْوِ ، وَقِيَاسُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْمُقْرِضُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ .
قَالَ : وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْكَفَالَةِ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ ضَمَانُ تَبَرُّعٍ فَلَا يَلْزَمُ الشَّرِيكَ فَكَذَا الْمُقْرِضَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ضَمَانُ الْكَفَالَةِ يَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَالْكَفِيلَ فِي حُكْمِ الْمُقْرِضِ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ) أَيْ عَقْدُ الْكَفَالَةِ ( عَقْدُ تَبَرُّعٍ ابْتِدَاءً وَمُعَاوَضَةٍ بَقَاءً ) كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْكَفِيلُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ ( يَسْتَوْجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا يُؤَدِّيه عَنْهُ ) إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ ( فَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَقَاءِ تَتَضَمَّنُهُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِابْتِدَاءِ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ ذَكَرَهُ ) وَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ مِمَّنْ ذَكَرَاهُ : يَعْنِي الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ الْمَأْذُونَ وَالْمُكَاتَبَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ بِلَا ضَمِيرٍ وَأَنَّهُ سَقَطَ مِنْ قَلَمِ الْكَاتِبِ مَا يُشْبِهُ الْهَاءَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَامُهَا مُعَاوَضَةً لِأَنَّ التَّمَامَ بِنَاءٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ .
وَقَدْ يُقَالُ تَلَاقِي الذِّمَّةِ وَالذِّمَّةُ فِي الْمَأْذُونِ كَالْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمَوْلَى حَتَّى صَحَّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي الذِّمَّةِ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ فَلَمْ تُلَاقِ الْكَفَالَةُ حَقَّهُ ، بِخِلَافِ الْحُرِّ الْبَالِغِ لِأَنَّهَا لَاقَتْ حَقَّهُ فَصَحَّتْ ثُمَّ تَمَّتْ مُعَاوَضَةً فَلَزِمَتْ الشَّرِيكَ لِأَنَّ لُزُومَهَا لَيْسَ فِي حَالِ الْبَقَاءِ ، لِأَنَّا إنَّمَا نَقُولُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَ الْكَفِيلَ .
بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنَّهَا تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، إذْ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْئًا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الْمَالِ .
وَأَمَّا الْإِقْرَاضُ فَإِنَّهُ إعَارَةٌ مَحْضَةٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً لَا مُعَاوَضَةً ، وَإِلَّا كَانَ بَيْعُ النَّقْدِ بِالنَّسِيئَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ( فَيَكُونُ لِمِثْلِهَا ) أَيْ لِمِثْلِ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ الْمَقْرُوضَةِ ( حُكْمُ عَيْنِهَا لَا حُكْمُ الْبَدَلِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّأْجِيلُ ) أَيْ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ التَّأْجِيلِ فِي الْإِعَارَةِ وَالْقَرْضِ ، وَإِلَّا لَزِمَ الْجَبْرُ فِيمَا فِيهِ تَبَرُّعٌ وَهُوَ بَاطِلٌ ، عَلَى أَنَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الشَّرِيكَ بِنَاءً عَلَى شِبْهِ الْمُعَاوَضَةِ بِلُزُومِ الْمِثْلِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَتْ ) الْكَفَالَةُ ( بِغَيْرِ أَمْرِهِ ) أَيْ أَمْرِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ ( لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ فِي الصَّحِيحِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ) انْتِهَاءً أَيْضًا ، إذْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ يُشِيرُ إلَى خِلَافِ الْمَشَايِخِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ ، وَحَمْلُ مُطْلَقِ جَوَابِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَيْهِ ، عَامَّةُ الْمَشَايِخِ جَرَوْا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلتَّفْرِقَةِ بَيْنَ كَوْنِهَا بِأَمْرِهِ أَوْ لَا ( قَوْلُهُ وَضَمَانُ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ) وَكَذَا ضَمَانُ الْمُخَالَفَةِ فِي الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْإِقْرَارُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَلْزَمُ شَرِيكَهُ ، وَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْمُصَنِّفِ أَبَا حَنِيفَةَ هُنَا لِأَنَّ
فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ، وَفِي الْكَفَالَةِ مَعَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا نَقَلَهُ آنِفًا .
لِأَبِي يُوسُفَ فِيهِمَا أَنَّهُ ضَمَانٌ وَجَبَ بِسَبَبٍ غَيْرِ تِجَارَةٍ فَلَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا تَحْتَمِلُهُ الشِّرْكَةُ .
وَلَهُمَا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ كَضَمَانِ التِّجَارَةِ ، وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا حُرًّا ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ وَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ هُوَ بَدَلُ مَالٍ تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلتَّمَلُّكِ ، وَكَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ كُلٌّ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مُلْتَزِمًا لَهُ ضَرَرِهِ وَنَفْعِهِ وَفِي الْكَافِي : الْإِعَارَةُ لِلرَّهْنِ نَظِيرُ الْكَفَالَةِ خِلَافًا وَتَعْلِيلًا .
وَوَجْهُ كَوْنِهَا مُعَاوَضَةً عِنْدَهُ انْتِهَاءً أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ يَرْجِعُ الْمُعِيرُ عَلَى الرَّاهِنِ بِقَدْرِ مَا سَقَطَ مِنْ دَيْنِهِ ، وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ لِمَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآخَرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَلْزَمُهُ عِنْدَهُمَا ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ مَعَ هَؤُلَاءِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ وَإِنْ وَرِثَ أَحَدُهُمَا مَا لَا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ فَقَبَضَهُ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ وَصَارَتْ عِنَانًا ) وَكَذَا إذَا وَهَبَ لَهُ فَقَبَضَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ أَوْ زَادَتْ قِيمَةُ دَرَاهِمِ أَحَدِهِمَا الْبِيضِ عَلَى دَرَاهِمِ الْآخَرِ السُّودِ أَوْ دَنَانِيرِهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، كُلُّ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ إلَى يَدِهِ صَارَتْ عِنَانًا ، وَلَوْ وَرِثَ مَالًا تَصِحُّ فِيهِ الشِّرْكَةُ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ اخْتَصَّ بِهِ وَلَا تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَكَذَا فِي بَاقِي
الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَإِنَّمَا بَطَلَتْ لِفَوَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِيمَا يَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشِّرْكَةِ ، إذْ هِيَ أَيْ الْمُسَاوَاةُ شَرْطٌ لِبَقَاءِ صِحَّتِهَا ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، وَإِنَّمَا كَانَ مَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَائِهَا شَرْطًا لِبَقَائِهَا لِكَوْنِهِ : أَيْ عَقْدِ الشِّرْكَةِ عَقْدًا غَيْرَ لَازِمِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا بَعْدَ الْعَقْدِ لَوْ أَرَادَ فَسْخَهَا فَسَخَهَا .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَصِحُّ التَّعْلِيلُ بِعَدَمِ اللُّزُومِ لِأَنَّهُ لِبَقَائِهَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْإِجَارَةُ عَقْدٌ لَازِمٌ حَتَّى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ فِيهَا بِالْفَسْخِ بَلْ يُجْبِرُ الْقَاضِي الْمُمْتَنِعَ عَلَى الْمُضِيِّ ، وَمَعَ ذَلِكَ لِدَوَامِهَا حُكْمَ الِابْتِدَاءِ حَتَّى لَا تَبْقَى بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَوْنَ الْعَقْدِ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ لَازِمًا كَمَا يَتَحَقَّقُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ لَازِمٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي الْإِجَارَةِ أَنْ لَا تَكُونَ لَازِمَةً كَمَا هُوَ مَذْهَبُ شُرَيْحٍ لِكَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ فَهُوَ كَالْعَارِيَّةِ ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ وَاللُّزُومُ أَصْلٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ تَحْقِيقًا لِلنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَانْفِسَاخُهُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ لِدَوَامِهِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ بَلْ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ الدَّارَ تَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْوَارِثِ بِمَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَلَوْ بَقِيَتْ لَزِمَ إرْثُ الْمَنْفَعَةِ الْمُجَرَّدَةِ وَهِيَ لَا تُورَثُ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِخِدْمَةِ الْعَبْدِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَا تَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُورَثُ وَإِنْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لَازِمَةً ، وَلَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَ فُرُوعًا مِنْ شِرْكَةِ الْعَيْنِ إذْ قَلَّ ذِكْرُهَا فِي الْكِتَابِ : أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ وَكِيلٌ
مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ بِشِرَاءِ نِصْفِ الْمُعَيَّنِ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ حُضُورِ الْمُوَكِّلِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسْتَطِعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْخُرُوجَ مِنْ الشِّرْكَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَّا بِحُضُورِ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ .
وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى إخْرَاجِ الْوَكِيلِ عَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآخَرِ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرْكَةِ ؛ وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك فَقَالَ نَعَمْ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَأْمُورُ فَالْعَبْدُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ .
وَقِيلَ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ ذَلِكَ النِّصْفِ لِنَفْسِهِ ، فَكَذَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ لِغَيْرِهِ مَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَمَّا أَمَرَهُ الثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا تَصْحِيحُ هَذَا الْعَقْدِ وَقَدْ قَبِلَ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا بِذَلِكَ ؛ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَطَلَبَ إلَيْهِ آخَرُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيهِ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ فَلَهُ نِصْفُهُ بِمِثْلِ نِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ مُقْتَضَى الشِّرْكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } إلَّا أَنْ يَبِينُ خِلَافُهُ ، وَلَوْ أَشْرَكَ اثْنَيْنِ فِيهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً كَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَلَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا فَأَشْرَكَا فِيهِ آخَرَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُهُ وَلِكُلٍّ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رُبُعُهُ لِأَنَّ كُلًّا صَارَ مُمَلَّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ فَيَجْتَمِعُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ .
وَفِي
الِاسْتِحْسَانِ لَهُ ثُلُثُهُ ، لِأَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ سَوَّيَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا وَكَانَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ مَعَهُمَا ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فِي نَصِيبِهِ وَنُصِبْ الْآخَرِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ كَانَ لِلرَّجُلِ نِصْفُهُ وَلِلشَّرِيكَيْنِ نِصْفُهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَكَذَا لَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ وَلَمْ يُسَمِّ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ ثُمَّ أَشْرَكَهُ الْآخَرُ فِي نَصِيبِهِ كَانَ لَهُ النِّصْفُ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَانَ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ كَانَ وَاحِدًا فَقَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ كَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ كَقَوْلِهِ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك فِي نَصِيبِي فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ بِإِقَامَةِ حَرْفٍ فِي مَقَامِ حَرْفِ الْبَاءِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك بِنَصِيبِي كَانَ بَاطِلًا فَلِذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ نَصِيبِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ ثُبُوتَ الشِّرْكَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا كُلُّهُ يَنْبَنِي عَلَى صَيْرُورَةِ الْمُشْتَرِي بَائِعًا لِلَّذِي أَشْرَكَهُ وَهُوَ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ مِنْهُ ، فَانْبَنَى عَلَى هَذَا أَنَّ مَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَا لَمْ يُقْبَضْ كَمَا لَوْ وَلَّاهُ إيَّاهُ ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ حَتَّى هَلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ثَمَنٌ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الَّذِي أَشْرَكَهُ لِأَنَّ لَفْظَ أَشْرَكْتُك صَارَ إيجَابًا
لِلْبَيْعِ ، وَلَوْ قَالَ أَشْرَكْتُك فِيهِ عَلَى أَنْ تَنْقُدَ عَنِّي الثَّمَنَ فَفَعَلَ كَانَتْ شِرْكَةً فَاسِدَةً لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَشَرْطٌ فَاسِدٌ وَهُوَ أَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ ثَمَنَ نِصْفِهِ الَّذِي هُوَ لَهُ .
وَلَوْ نَقَدَ عَنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْعَبْدِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ فَاسِدًا وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدُونِ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا ؛ وَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ آخَرَ مَلَكَ الْآخَرُ نِصْفَ الْعَبْدِ لَا نِصْفَ النِّصْفِ الَّذِي قَبَضَهُ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ إذَا انْصَرَفَ إشْرَاكُهُ إلَى الْكُلِّ ، ثُمَّ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ لِأَنَّ تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ اللَّفْظَ ، وَقَضِيَّةُ اللَّفْظِ إشْرَاكُهُ فِي كُلِّهِ ؛ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ أَيُّنَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ صَاحِبَهُ أَوْ فَصَاحِبُهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الْعَبْدِ لَهُ ، فَأَيُّهُمَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَهُوَ كَقَبْضِهِمَا لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ حَتَّى لَوْ مَاتَ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا ، فَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا أَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ قَبْلَ صَاحِبِهِ ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ الْآخَرَ كَانَ بَيْنَهُمَا لِتَمَامِ مَقْصُودِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَوْ نَقَدَ أَحَدُهُمَا كُلَّ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ رَجَعَ بِنِصْفِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا صَارَ كُلٌّ مِنْهُمَا وَكِيلًا عَنْ الْآخَرِ فِي نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ فَإِنْ أَذِنَ كُلٌّ مِنْهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي بَيْعِهِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَهُ كَانَ بَائِعًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ .
وَلَوْ بَاعَهُ إلَّا نِصْفَهُ كَانَ جَمِيعُ
الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا الْبَيْعُ عَلَى نِصْفِ الْمَأْمُورِ خَاصَّةً ، وَمَبْنَاهُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ نِصْفِهِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ .
وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ قَالَ بِعْتُكَ هَذَا إلَّا نِصْفَهُ بِأَلْفٍ كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِأَلْفٍ ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بِعْتُك نِصْفَهُ بِأَلْفٍ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ فَحَاصِلُهُ ضَمَّ نَفْسَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا بَاعَهُ مِنْهُ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَكِنَّهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا تَصِحُّ كَمَا فِي شِرَاءِ رَبِّ الْمَالِ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ فَكَانَ كَالْمُشْتَرِي هُوَ مَالَ نَفْسِهِ مَعَ الْمُشْتَرِي فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا فَيَسْقُطُ نِصْفُهُ عَنْهُ فَيَبْقَى نِصْفُ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي .
( مَسْأَلَةٌ ) اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةٍ وَاشْتَرَى آخَرُ نِصْفَهُ الْآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ بَاعَاهُ مُسَاوَمَةً بِثَلَاثِمِائَةٍ أَوْ بِمِائَتَيْنِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَوْ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةٍ أَوْ بِالْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ يُقَابِلُ الْمِلْكَ فَيُعْتَبَرُ الْمِلْكُ فِي الْمَحِلِّ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضْعِيَّةِ فَبِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الْبُيُوعُ فِي الْمَغْصُوبِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ وَيَسْتَقِيمُ بَيْعُ الْمُسَاوَمَةِ فِيهِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مُشْتَرِي بِعِوَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا ، فَكَذَا الثَّانِي يُوَضِّحُهُ أَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ الْمِلْكَ فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا وَوَضِيعَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ ، وَقَدْ نَصَّا عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي نَصِيبِهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْمُسَاوَمَةِ ، الْكُلُّ مِنْ الْمَبْسُوطِ .
( فَصْلٌ ) ( وَلَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ) وَقَالَ مَالِكٌ : تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَيْضًا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ النُّقُودَ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ .
فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ .
وَلَنَا أَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ وَتَفَاضَلَ الثَّمَنَانِ فَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَمْلِكْ وَمَا لَمْ يَضْمَنْ ، بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا يَشْتَرِيهِ فِي ذِمَّتِهِ إذْ هِيَ لَا تَتَعَيَّنُ فَكَانَ رِبْحُ مَا يَضْمَنُ ، وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ الْبَيْعُ وَفِي النُّقُودِ الشِّرَاءُ ، وَبَيْعُ أَحَدِهِمَا مَالَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ لَا يَجُوزُ ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا بِمَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ جَائِزٌ .
وَأَمَّا الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ فَلِأَنَّهَا تَرُوجُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا .
قَالُوا : هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا مُلْحَقَةٌ بِالنُّقُودِ عِنْدَهُ حَتَّى لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ بِأَعْيَانِهَا عَلَى مَا عُرِفَ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا لِأَنَّ ثُمْنِيَّتَهَا تَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً وَتَصِيرُ سِلْعَةً .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَظْهَرُ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ صِحَّةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا .
( فَصْلٌ ) لَمَّا ذَكَرَ اشْتِرَاطَ الْمُسَاوَاةِ فِي رَأْسِ مَالِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ احْتَاجَ إلَى بَيَانِ أَيِّ مَالٍ تَصِحُّ بِهِ ، فَقَالَ : ( لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ ) أَيْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ ( إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ ) يَعْنِي لَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ إذَا ذُكِرَ فِيهَا الْمَالُ إلَّا بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ وَالْعِنَانَ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ وَالتَّقَبُّلِ فَيَصِحُّ قَوْلُنَا الْمُفَاوَضَةُ تَنْعَقِدُ فِي الْوُجُوهِ وَالتَّقَبُّلِ بِلَا مَالٍ فَصَدَقَ بَعْضُ الْمُفَاوَضَةِ تَنْعَقِدُ بِلَا دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَفُلُوسٍ ، وَهُوَ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ لَا تَنْعَقِدُ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ إلَخْ ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْجُزْئِيَّ يُنَاقِضُ السَّلْبَ الْكُلِّيَّ ، وَالتَّقْيِيدُ بِمَا ذُكِرَ يُخْرِجُ الدَّيْنَ وَالْعُرُوضَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي وَجْهٍ ، وَفِي وَجْهٍ يَجُوزُ بِالْعُرُوضِ الْمُثْلَى ، وَقَالَ مَالِكٌ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ إذَا اتَّحَدَ جِنْسُهَا .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ : تَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ ، وَلَوْ وَقَعَ تَفَاضُلٌ فِي بَيْعِهَا يَرْجِعُ كُلٌّ بِقِيمَةِ عَرْضِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَكَمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَنَا بِالْعَرْضِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا عَرْضًا وَالْآخَرِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ حُضُورَ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَهُوَ صَحِيحٌ ، بَلْ الشَّرْطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ .
وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفًا ، وَقَالَ : أَخْرِجْ مِثْلَهَا وَاشْتَرِ بِهَا وَبِعْ فَمَا رَبِحْت فَهُوَ بَيْنَنَا فَفَعَلَ صَحَّ ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ فَعَلَ لِيَلْزَمَ الْآخَرَ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ لَوْ ثَبَتَتْ وَضِيعَةٌ ، وَقَيَّدَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِإِخْرَاجِ الْحُلِيِّ وَالتِّبْرِ فَلَا يَصْلُحَانِ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ إلَّا فِيمَا سَنَذْكُرُهُ ، وَأَمَّا الْفُلُوسُ النَّافِقَةُ فَلَمْ
يَذْكُرْ الْقُدُورِيُّ وَالْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فِي الْكَافِي فِيهَا خِلَافًا ، بَلْ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ : وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ .
وَخَصَّ الْكَرْخِيُّ الْجَوَازَ بِالْفُلُوسِ عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الظَّاهِرَ الْجَوَازَ ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ : لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا فُلُوسًا لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ ، وَلَيْسَتْ ثَمَنًا فِي الْأَصْلِ وَهُمْ لَمْ يَتَعَامَلُوا أَنْ يَجْعَلُوهَا رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( قَالُوا ) يَعْنِي الْمُتَأَخِّرِينَ : ( هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ) وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنَّ الْفُلُوسَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ إذَا كَانَا بِعَيْنِهِمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا ، وَسَيَأْتِي الْوَجْهُ وَالتَّقْيِيدُ بِأَعْيَانِهِمَا احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ بَاعَ فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ دَيْنًا ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّسَاءِ تَثْبُتُ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ .
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الْجِنْسَ إذَا كَانَ مُتَّحِدًا فَقَدْ ( عُقِدَتْ عَلَى رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ ) فَكَانَتْ كَالنُّقُودِ ( بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ) حَيْثُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالنُّقُودِ ؛ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ( لِمَا فِيهَا مِنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ) فَإِنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُضَارِبِ وَيَسْتَحِقُّ رِبْحَهُ ( فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ .
وَلَنَا أَنَّ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ) فِي الْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ( يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ) ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَرْضَهُ وَاتَّفَقَ تَفَاضُلُ الثَّمَنَيْنِ ( فَمَا يَسْتَحِقُّهُ أَحَدُهُمَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى حِصَّةِ رَأْسِ مَالِهِ ) الَّذِي هُوَ ثَمَنُ عَرْضِهِ ( رِبْحُ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ ) وَلَمْ
يَضْمَنْهُ ( بِخِلَافِ النُّقُودِ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ ثَمَّ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الشِّرَاءِ بِمَالِهِ ، وَمَا يَشْتَرِيهِ كُلٌّ مِنْهُمَا لَا يَتَعَلَّقُ بِرَأْسِ الْمَالِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ ، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي ذِمَّتِهِ فَرِبْحُهُ رِبْحُ مَا ضَمِنَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ خَلْطَ الْعَرْضَيْنِ لِاتِّحَادِ جِنْسِهِمَا مَكِيلَيْنِ أَوْ مَوْزُونَيْنِ أَوْ غَيْرِهِمَا مُتَّحِدِي الْقِيمَةِ كَثِيَابِ الْكِرْبَاسِ مِنْ بَابَةَ وَاحِدَةٍ .
قُلْنَا : الْخَلْطُ لَا يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي كُلِّ ثَوْبٍ وَحَبَّةٍ مَثَلًا ، فَإِذَا بَاعَا جُمْلَةً فِي وَقْتِ طُلُوعِ السِّعْرِ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَدَدَ مَا بِيعَ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مُتَسَاوِيَانِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مُتَفَاوِتَانِ ، فَيَلْزَمُ اخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِزِيَادَةِ رِبْحٍ لِزِيَادَةِ مِلْكِهِ ، وَالتَّخَلُّصُ عَنْهُ لَيْسَ إلَّا بِضَبْطِ قَدْرِ مِلْكِهِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ فَقَدْ أَدَّى إلَى تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى قَدْرِ حَقِّهِ وَرِبْحِ الْآخَرِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَلَا يُفِيدَانِ الْعِلْمَ بِالْقِيمَةِ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيهِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ اُعْتُبِرَ رَأْسُ الْمَالِ قِيمَةَ الْعُرُوضِ ، أَمَّا إذَا كَانَ هُوَ نَفْسُ الْعُرُوضِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُتَّحِدَةِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقَدْ خَلَطَاهُ فِيهِ فَلَا تَنَازُعَ .
نَعَمْ اللَّازِمُ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَتَعَذُّرُ مَا يَدْفَعُهُ ( وَلِأَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفِ فِي الْعُرُوضِ الْبَيْعُ وَفِي النُّقُودِ الشِّرَاءُ ، وَبَيْعُ الْإِنْسَانِ مَالَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِي ثَمَنِهِ لَا يَجُوزُ ، وَشِرَاؤُهُ شَيْئًا بِمَالِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ شَرِيكًا فِيهِ يَجُوزُ ) ، وَعَلِمْت أَنَّ الْخَلْطَ لَا يَنْفِي ذَلِكَ ( وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْفُلُوسَ إذَا كَانَتْ نَافِقَةً تَرُوجُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ فَالْتَحَقَتْ بِهَا ) وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ ثُمْنِيَّتَهَا تَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً ) فَإِنَّهَا
بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ لَا بِالْخِلْقَةِ ، فَفِي كُلِّ سَاعَةٍ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْخِلْقَةِ .
وَتَصِيرُ ثَمَنًا بِالِاصْطِلَاحِ الْقَائِمِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمُلَاحَظَةِ ، أَمَّا فِي الْخَارِجِ فَهِيَ ثَمَنٌ مُسْتَمِرٌّ مَا اسْتَمَرَّ الِاصْطِلَاحُ عَلَيْهَا ، وَلِذَا قَالَ الْإِسْبِيجَابِيُّ : الصَّحِيحُ أَنَّ عَقْدَ الشَّرِكَةِ عَلَى الْفُلُوسِ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ثَمَنًا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِفُلُوسٍ بِعَيْنِهَا لَمْ تَتَعَيَّنْ تِلْكَ الْفُلُوسُ حَتَّى لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِهَلَاكِهَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ وَأَظْهَرُ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ مُسْتَقِرٌّ فِي بَيْعِ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ ، ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا ) وَعَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَبْسُوطِ الْإِسْبِيجَابِيِّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْكُلِّ الْآنَ عَلَى جَوَازِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ النَّافِقَةِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ
قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِالتِّبْرِ ) وَالنُّقْرَةُ فَتَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِمَا ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَا تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيلِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ) وَمُرَادُهُ التِّبْرُ ، فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَصِحُّ رَأْسُ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَاتِ وَالشَّرِكَاتِ .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَا بِهَلَاكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَصْلُحُ رَأْسَ الْمَالِ فِيهِمَا ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّهُمَا خُلِقَا ثَمَنَيْنِ فِي الْأَصْلِ ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا وَإِنْ خُلِقَتْ لِلتِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تُصْرَفُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ ظَاهِرًا إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِاسْتِعْمَالِهِمَا ثَمَنًا فَنَزَلَ التَّعَامُلُ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبِ فَيَكُونُ ثَمَنًا وَيَصْلُحُ رَأْسُ الْمَالِ .
وَعَلَى مَنْعِ بَيْعِ فَلْسٍ بِفَلْسَيْنِ كَمَا ذُكِرَ فِيمَا يَلِيهِ حَيْثُ قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَتَعَامَلَ النَّاسُ بِهَا كَالتِّبْرِ ) وَهُوَ غَيْرُ الْمَصُوغِ ( وَالنُّقْرَةِ ) وَهِيَ الْقِطْعَةُ الْمُذَابَةُ مِنْهَا ، وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي ذَلِكَ ، رِوَايَةُ الْجَامِعِ : لَا تَكُونُ الْمُفَاوَضَةُ بِمَثَاقِيلِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ ، وَمُرَادُهُ التِّبْرُ فَعَلَى هَذِهِ التِّبْرُ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَلَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ ، وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ النُّقْرَةَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ حَتَّى لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، فَعَلَى هَذَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالٍ فِيهِمَا ، وَهَذَا لِمَا عُرِفَ أَنَّهُمَا خُلِقَا ثَمَنَيْنِ .
ثُمَّ قَالَ ( إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ) يَعْنِي دِرَايَةً ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا خُلِقَا لِلتِّجَارَةِ ( لَكِنَّ الثَّمَنِيَّةَ تَخْتَصُّ بِالضَّرْبِ الْمَخْصُوصِ ) فَخَرَجَ ضَرْبُهَا حُلِيًّا فَإِنَّهَا تَتَعَيَّنُ أَلْبَتَّةَ ، وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ ( وَلَمْ يَجْرِ التَّعَامُلُ بِهِمَا ) أَيْ ثُمَّ قَالَ ( إلَّا أَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِهِمَا ) أَيْ بِالتِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ أَصَحُّ ، وَهُوَ كَوْنُهُمَا لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهِمَا فَكَانَ الثَّابِتُ أَنَّهُمْ إذَا تَعَامَلُوا بِقِطَعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ صَلَحَتْ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : قَوْلُهُ أَيْ الْقُدُورِيِّ
ثُمَّ قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْعَدَدِيَّ الْمُتَقَارِبَ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَنَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِبْحُ مَتَاعِهِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ ، وَإِنْ خَلَطَا ثُمَّ اشْتَرَكَا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَالشَّرِكَةُ شَرِكَةُ مِلْكٍ لَا شَرِكَةُ عَقْدٍ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ .
وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْمَالَيْنِ وَاشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ ، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بَعْدَ الْخَلْطِ كَمَا تَعَيَّنَ قَبْلَهُ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّهَا ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى جَازَ الْبَيْعُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ .
وَمَبِيعٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ
( لَا تَجُوزُ بِمَا سِوَى ذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَالْمَعْدُودَ الْمُتَقَارِبَ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ) بَيْنَنَا ( قَبْلَ الْخَلْطِ ) ؛ لِأَنَّهَا عُرُوضٌ مَحْضَةٌ ( لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ ) وَيَخْتَصُّ بِرِبْحِهِ ، ( وَكَذَا إنْ خَلَطَا ثُمَّ اشْتَرَكَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) أَيْ لِكُلٍّ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ يَخُصُّهُ رِبْحُهُ وَوَضِيعَتُهُ لِانْتِفَاءِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ ، وَالْوَضِيعَةُ خَسَارَةُ التَّاجِرِ ، يُقَالُ مِنْهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وُضِعَ التَّاجِرُ وُكِسَ فِي سِلْعَتِهِ يُوضَعُ وَضِيعَةً : أَيْ خَسِرَ .
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْعَرَبِ : وَضِعَ يَوْضَعُ كَوَجِلِ يَوْجَلُ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَصِحُّ شَرِكَةُ عَقْدٍ ) إذَا كَانَ الْمَخْلُوطُ جِنْسًا وَاحِدًا ( وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي اشْتِرَاطِ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ ) فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَصِحُّ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُ ( وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ عَرَضًا مَحْضًا فَلَا يَصِحُّ رَأْسُ مَالِهَا ، وَمَا لَا يَصِحُّ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ ، كَمَا أَنَّ مَا يَصِحُّ مِنْ النُّقُودِ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ قَبْلَ الْخَلْطِ هُوَ كَوْنُهُ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ بَعْدَ الْخَلْطِ بَلْ يَزْدَادُ تَقَرُّرًا ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ لَا يَكُونُ إلَّا مُتَعَيِّنًا فَيَتَقَرَّرُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدُ فَكَيْفَ يَكُونُ مُصَحِّحًا لِلْعَقْدِ ، ( قَوْلُهُ وَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا ) أَيْ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ ( عُرُوضٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ) ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِهَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ مِنْ حُكْمِ الْأَثْمَانِ فَعَمِلْنَا ( بِالشَّبَهَيْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَالَيْنِ ) وَهُمَا الْخَلْطُ وَعَدَمُهُ بِشَبَهِ الْعَرَضِ قَبْلَ الْخَلْطِ فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا قَبْلَهُ ،
وَيُشْبِهُ الثَّمَنَ بَعْدَ الْخَلْطِ فَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا بَعْدَهُ .
وَهَذَا لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ فَيَتَأَكَّدُ بِهَا شَرِكَةُ الْعَقْدِ ( بِخِلَافِ الْعُرُوضِ ) الْمَحْضَةِ ( فَإِنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا بِحَالٍ ) وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ هُوَ الْأَظْهَرُ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ قَبْلَ الْخَلْطِ لَيْسَ شَيْئًا غَيْرَ الْعَرْضِ لَهُ شَبَهٌ بِهِ بَلْ هُوَ عَرْضٌ مَحْضٌ ، وَازْدَادَ فِي الْعَرْضِيَّةِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ مُتَأَصِّلًا فِي حَقِيقَةٍ وَلَهُ شَبَهٌ بِأُخْرَى لَا يُقَالُ لَهُ شَبَهَانِ ، وَغَايَتُهُ أَنَّ الثُّبُوتَ فِي الذِّمَّةِ عَرَضٌ عَامٌّ لِحَقِيقَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَالْمُفْسِدُ وَهُوَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَخْتَلُّ بِالْخَلْطِ وَإِلَّا لَزِمَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ اخْتَلَفَا جِنْسًا كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَخُلِطَا لَا تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بِهَا بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَخْلُوطَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَمِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَتَتَمَكَّنُ الْجَهَالَةُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ فَحُكْمُ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَخْلُوطُ لَهُمَا جِنْسَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ ، ثُمَّ عَقَدَا لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالِاتِّفَاقِ ( وَالْفَرْقُ لِمُحَمَّدٍ ) بَيْنَ الْعَقْدِ بَعْدَ صِحَّةِ الْخَلْطِ فِي مُتَّفِقِي الْجِنْسِ حَيْثُ يَجُوزُ ، وَالْمُخْتَلِفِينَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ .
( أَنَّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ) حَتَّى يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ مِثْلَهُ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ الْمَالِ كُلٌّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ ( وَ ) الْمَخْلُوطُ ( مِنْ جِنْسَيْنِ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ) حَتَّى يَلْزَمُ مُتْلِفَهُ قِيمَتُهُ ( فَتَتَمَكَّنَ الْجَهَالَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى غَيْرِ حَقِّهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ ( كَمَا فِي الْعُرُوضِ ) ، ( قَوْلُهُ فَحُكْمُ الْخَلْطِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقَضَاءِ ) قِيلَ أَرَادَ قَضَاءَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَلَمْ يَتَّفِقْ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَيُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ بَيَّنَّهُ فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْمُعْتَادِ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخَالِطَ تَعَدِّيًا يَضْمَنُ نَصِيبَ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ إذَا خَلَطَهُ بِجِنْسِهِ أَوْ بِخِلَافِ جِنْسِهِ وَلَا يَتَمَيَّزُ كَشَيْرَجِ رَجُلٍ خَلَطَهُ بِزَيْتِ غَيْرِهِ ، أَوْ يَتَمَيَّزُ بِعُسْرٍ كَحِنْطَةٍ خَلَطَهَا بِشَعِيرٍ ؛ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ حَقُّ مَالِكِهَا بِهَذَا الْخَلْطِ ، فَإِنَّ هَذَا الْخَلْطَ اسْتِهْلَاكٌ ، بِخِلَافِ مَا تَيَسَّرَ مَعَهُ كَخَلْطِ السُّودِ بِالْبِيضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ الْمَالِكُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ ، وَحَيْثُ وَجَبَ الضَّمَانُ يَجِبُ عَلَى الْخَالِطِ سَوَاءٌ كَانَ أَجْنَبِيًّا عَنْ الْمَخْلُوطِ مَالُهُ كَغَيْرِ الْمُودِعِ وَغَيْرِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَبِيرًا كَانَ أَوْ صَغِيرًا أَوْ كَانَ فِي عِيَالِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْفَرْ بِالْخَالِطِ فَقَالَ أَحَدُ الْمَالِكَيْنِ أَنَا آخُذُ الْمَخْلُوطَ وَأُعْطِي صَاحِبِي مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ فَرَضِيَ صَاحِبُهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ،
فَإِذَا رَضِيَا بِذَلِكَ صَحَّ ، وَإِنْ أَبَى يُبَاعُ الْمَخْلُوطُ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ عَلَى مَا يُذْكَرُ ، وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ بِقِيمَتِهَا مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ وَصَاحِبُ الشَّعِيرِ بِقِيمَتِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَنْقُصُ بِاخْتِلَاطِهَا بِالشَّعِيرِ ، وَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي بِيعَتْ بِهَا ، وَالشَّعِيرُ يَزْدَادُ قِيمَةً بِالِاخْتِلَاطِ لَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَضْرِبَ بِهَا مَخْلُوطًا فَلِهَذَا يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ .
قِيلَ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الْمَخْلُوطِ بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَخْلُوطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْخَالِطِ ، فَأَمَّا عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ الْمَخْلُوطُ مِلْكٌ لِلْخَالِطِ وَحَقُّهُمَا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يُبَاعُ مَالُهُ فِي دَيْنِهِمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى ذَلِكَ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا وَإِنْ انْقَطَعَ عَنْ الْمَخْلُوطِ فَالْحَقُّ فِيهِ بَاقٍ مَا لَمْ يَصِلْ كُلٌّ مِنْهُمَا إلَى بَدَلِ مِلْكِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْخَالِطِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، فَلِبَقَاءِ حَقِّهِمَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا مِنْ الْمَخْلُوطِ ، إمَّا صُلْحًا بِالتَّرَاضِي أَوْ بَيْعًا وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى الْخَلْطِ وَرَضِيَا بِهِ ، وَهُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ صَارَ عَيْنًا مُشْتَرَكَةً ، فَإِذَا بَاعَهُ انْقَسَمَ عَلَى قَدْرِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَخْلُوطُ غَيْرَ مِثْلِيٍّ كَالثِّيَابِ فَبَاعَاهَا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ اقْتَسَمَاهُ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ بَاعَهُ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَائِعٌ لِمِلْكِهِ ،
وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ الْعَرْضِ ، فَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ مِثْلَيْنِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا إذَا بَاعَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَتَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَا مَخْلُوطًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَمِلْكُ كُلٍّ مِنْهُمَا كَانَ مَعْلُومًا بِالْقِيمَةِ وَقْتَ الْخَلْطِ فَتُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ ، لَكِنْ مَخْلُوطًا إنْ لَمْ تَزِدْ بِالْخَلْطِ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُهُ الْخَلْطُ خَيْرًا فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَيْرَ مَخْلُوطٍ .
مَثَلًا قِيمَةُ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ إذَا خُلِطَ بِالْحِنْطَةِ ، وَقِيمَةُ الْحِنْطَةِ تَنْقُصُ ، فَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهِ مَعَهُ ، وَصَاحِبُ الْحِنْطَةِ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ حَاصِلٌ بِعَمَلٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ وَهُوَ الْخَلْطُ ، وَقِيمَةُ مِلْكِهِ عِنْدَ ذَلِكَ نَاقِصَةٌ فَلَا يَضْرِبُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ .
وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَقَالَ : قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ خَلَطَاهُ ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَلَطٌ ، بَلْ الصَّحِيحُ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ بِهِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ لَمْ يَخْلِطَاهُ وَبَاعَا الْكُلَّ جُمْلَةً ، فَإِنَّ قِسْمَةَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ تَكُونُ وَقْتَ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْبَيْعِ وَيَوْمَ الْخَلْطِ وَالْقِسْمَةِ سَوَاءً .
وَرَدَّهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ مِثْلِهِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوطِ مِثْلٌ يُبَاعُ فِيهَا حَتَّى يُمْكِنَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتَ
الْبَيْعِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْوِيمِ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهَا وَقْتَ الْعِتْقِ فَيُصَارُ إلَى تَقْوِيمِهِ فِي أَوَّلِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ فِيهَا وَهُوَ مَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، فَكَذَا هُنَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ كُلٍّ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْخَلْطِ إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْخَلْطَ يَزِيدُ فِي مَالِ أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ فِي مَالِ الْآخَرِ فَقَدْ تَعَذَّرَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِمَا وَقْتَ الْخَلْطِ لِتَيَقُّنِنَا بِزِيَادَةِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَنُقْصَانِ الْآخَرِ فَاعْتُبِرَتْ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْخَلْطِ مِلْكَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا يَوْمَ الْخَلْطِ كَالْبَاقِي فِي الْمِثْلِ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ كُلٍّ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُخْلَطَا : لِأَنَّ تَقَوُّمَ مِلْكِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ هُنَاكَ مُمْكِنٌ ، فَاعْتَبَرْنَا فِي قِسْمَةِ الثَّمَنِ قِيمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ
قَالَ ( وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مَالِهِ بِنِصْفِ مَالِ الْآخَرِ ، ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ ) قَالَ ( وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ مِلْكٌ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرُوضَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَتَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ قِيمَةُ مَتَاعِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ يَبِيعُ صَاحِبُ الْأَقَلِّ بِقَدْرِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الشَّرِكَةُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَرَادَ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ بَاعَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَ عَرَضِهِ بِنِصْفِ عَرَضِ الْآخَرِ فَتَصِيرُ شَرِكَةَ مِلْكٍ ، ثُمَّ عَقَدَا الشَّرِكَةَ مُفَاوَضَةً أَوْ عِنَانًا ) فَقِيلَ هَذَا عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ تَكُونَ مُضَافَةً إلَى حَالِ بَيْعِهِمَا الْعُرُوضَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُضَافٌ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ ، وَعَقْدُ الشَّرِكَةِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَوْكِيلٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ بِالدَّرَاهِمِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ جَوَازَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِقَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ تَوَارَدَتْ كَلِمَةُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ كَوْنِ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا كُلٌّ مِنْ أَمْرَيْنِ : لُزُومِ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَجَهَالَةِ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْتَفٍ فَيَكُونُ كَمَا رَبِحَهُ أَحَدُهُمَا مَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، وَلَا تَحْصُلُ جَهَالَةٌ فِي رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَعَرُّفِ رَأْسِ مَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ بِالْحَزْرِ فَتَقَعُ الْجَهَالَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي الْمَالِ شَرِيكَانِ فِيهِ ، فَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ كُلُّ مَا يَحْصُلُ مِنْ الثَّمَنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذِهِ شَرِكَةُ مِلْكٍ مُشْكِلٌ ، وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ جَزَمَ بِأَنَّهُ قَصَدَ إلَى الْخِلَافِ حَقِيقَةً اخْتِيَارًا مِنْهُ لِعَدَمِ الْجَوَازِ وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ عَلَى طَرِيقِهِ الْخِلَافِ كَمَا قَالَ الْقُدُورِيُّ أَوَّلَ الْكِتَابِ : وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَنْوِيَ الطَّهَارَةَ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالنِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ سُنَّةٌ ، وَلَمْ يَضَعْ الْخِلَافَ وَضْعَهُ الْمَعْرُوفَ ، وَلِذَا اخْتَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَدَمَ جَوَازِ الشَّرِكَةِ لِبَقَاءِ جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا ، وَفَسَادُهَا
بِالْعُرُوضِ لَيْسَ لِذَاتِ الْعُرُوضِ بَلْ لِلَّازِمِ الْبَاطِلِ وَعَلِمْت أَنَّهُ مُنْتَفٍ
قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَوْعِ بُرٍّ أَوْ طَعَامٍ ، أَوْ يَشْتَرِكَانِ فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَذْكُرَانِ الْكَفَالَةَ ) ، وَانْعِقَادُهُ عَلَى الْوَكَالَةِ لِتَحَقُّقِ مَقْصُودِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَى الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَعْرَاضِ يُقَالُ عَنَّ لَهُ : أَيْ عَرَضَ ، وَهَذَا لَا يُنْبِئُ عَنْ الْكَفَالَةِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ
( قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعِنَانِ فَتَنْعَقِدُ عَلَى الْوَكَالَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ اثْنَانِ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَاتِ بُرٍّ أَوْ طَعَامٍ أَوْ يَشْتَرِكَا فِي عُمُومِ التِّجَارَاتِ وَلَا يَذْكُرَانِ الْكَفَالَةَ ) ؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالْمُفَاوَضَةِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ ذَكَرَاهَا وَكَانَتْ بَاقِي شُرُوطِهَا مُتَوَفِّرَةً انْعَقَدَتْ مُفَاوَضَةً لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي انْعِقَادِهَا بَعْدَ ذِكْرِ جَمِيعِ مُقْتَضَيَاتِهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَوَفِّرَةً يَنْبَغِي أَنْ تَنْعَقِدَ عِنَانًا ، ثُمَّ هَلْ تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ ؟ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : تَبْطُلُ لِأَنَّ الْعِنَانَ مُعْتَبَرٌ فِيهَا عَدَمُ الْكَفَالَةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَا تَبْطُلُ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهَا عَدَمُ اعْتِبَارِ الْكَفَالَةِ لَا اعْتِبَارُ عَدَمِهَا فَتَصِحُّ عِنَانًا ، ثُمَّ كَفَالَةُ كُلٍّ الْآخَرَ زِيَادَةٌ عَلَى نَفْسِ الشَّرِكَةِ : أَيْ كَمَا أَنَّهَا تَكُونُ عِنَانًا مَعَ الْعُمُومِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الثَّابِتَ فِيهَا عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعُمُومِ لَا اعْتِبَارُ عَدَمِ الْعُمُومِ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ يُرَجَّحُ بِأَنَّ هَذِهِ الْكَفَالَةَ لِمَجْهُولٍ فَلَا تَصِحُّ إلَّا ضِمْنًا ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ مِمَّا تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ لَمْ يَكُنْ ثُبُوتُهَا إلَّا قَصْدًا فَلَا تَصِحُّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَقَدَ الْمُفَاوَضَةَ بِغَيْرِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ بِأَنْ ذَكَرَا كُلَّ مُقْتَضَيَاتِهَا فَإِنَّ مِنْهَا الْكَفَالَةَ وَتَصِحُّ ، فَإِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْمُرَكَّبِ الْمُرَادِفِ لِلْمُفْرَدِ الدَّاخِلِ فِي مَفْهُومِهِ الْكَفَالَةُ ، بِخِلَافِ الْعِنَانِ لَيْسَ الْمُفْرَدُ مُعْتَبَرًا فِي مَفْهُومِهِ الْكَفَالَةُ ( قَوْلُهُ مِنْ عَنَّ لِي كَذَا ) أَيْ عَرَضَ .
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَيَّلٍ أَيْ اعْتَرَضَ لَنَا سِرْبٌ : أَيْ قَطِيعٌ يُرِيدُ مِنْ بَقَرِ الْوَحْشِ كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى : أَيْ أَبْكَارَ دُوَارٍ ، وَهُوَ اسْمُ صَنَمٍ كَانَتْ الْعَرَبُ تَنْصِبُهُ وَتَدُورُ حَوْلَهُ ،
وَهُوَ بِضَمِّ الدَّالِ وَفَتْحِهَا .
وَقَوْلُهُ فِي مُلَاءٍ تَشْبِيهٌ لِنِعَاجِ الْبَقَرِ فِي اسْتِرْخَاءِ لَحْمِهَا لِسِمَنِهَا بِالْعَذَارَى ، وَالْمُلَاءُ الْمُذَيَّلُ : أَيْ الطَّوِيلَاتُ الذَّيْلُ ، وَهَذَا الِاشْتِقَاقُ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَلْ عُرُوضُ عَرَضٍ تَعَلَّقَ بِقَدْرٍ مِنْ الِاخْتِلَاطِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ وَعُمُومُهُ ، وَقِيلَ مَأْخُوذٌ مِنْ عِنَانِ الْفَرَسِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكِسَائِيُّ وَالْأَصْمَعِيُّ ، فَإِنَّهُ فِعْلُ كُلٍّ مِنْهُمَا عِنَانَ التَّصَرُّفِ فِي بَعْضِ مَالِهِ لِرَفِيقِهِ وَبَعْضِهِ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ يَجُوزُ تَفَاوُتُهُمَا فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ كَمَا يَتَفَاوَتُ الْعِنَانُ فِي كَفِّ الْفَارِسِ طُولًا وَقِصَرًا فِي حَالَتَيْ الْإِرْخَاءِ وَضِدِّهِ ، إلَّا أَنَّهُ اشْتِقَاقٌ غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا فِيمَا سُمِعَ وَلَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا فِي : اسْتَحْجَرَ الطِّينُ وَأَمْثَالِهِ
( وَيَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي الْمَالِ ) لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةِ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ .
( وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ ) .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا كَانَ نِصْفَيْنِ وَالرِّبْحَ أَثْلَاثًا فَصَاحِبُ الزِّيَادَةِ يَسْتَحِقُّهَا بِلَا ضَمَانٍ ، إذْ الضَّمَانُ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِنْدَهُمَا فِي الرِّبْحِ لِلشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا يَشْتَرِطَانِ الْخَلْطَ ، فَصَارَ رِبْحُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَمَاءِ الْأَعْيَانِ فَيُسْتَحَقُّ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْأَصْلِ .
وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ { الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ } وَلَمْ يَفْصِلْ ، وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ وَأَهْدَى وَأَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقْوَى فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفَاضُلِ ، بِخِلَافِ اشْتِرَاطِ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ يَخْرُجُ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ الشَّرِكَةِ وَمِنْ الْمُضَارَبَةِ أَيْضًا إلَى قَرْضٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِلْعَامِلِ أَوْ إلَى بِضَاعَةٍ بِاشْتِرَاطِهِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ فِي مَالِ الشَّرِيكِ ، وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةِ .
وَقُلْنَا : يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ وَيُشْبِهُ الشَّرِكَةَ حَتَّى لَا تَبْطُلُ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَيْهَا .
( قَوْلُهُ وَيَصِحُّ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيَتَفَاضَلَا فِي الرِّبْحِ ) وَعَكْسُهُ بِأَنْ يَتَفَاضَلَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَيَتَسَاوَيَانِ فِي الرِّبْحِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَزُفَرُ : لَا يَجُوزُ .
وَقَوْلُهُ وَيَتَفَاضَلَا إلَخْ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ ذَلِكَ فِيمَا إذَا شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ عَمِلَ أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ شَرَطَاهُ عَلَى مَنْ شَرَطَ لَهُ زِيَادَةَ الرِّبْحِ ، وَإِنْ شَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى أَقَلِّهِمَا رِبْحًا لَا يَجُوزُ .
وَجْهُ قَوْلِ الثَّلَاثَةِ أَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ أَحَدِهِمَا لِتِلْكَ الزِّيَادَةِ بِلَا ضَمَانٍ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَصَارَ كَالْوَضِيعَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ اعْتِبَارٌ لِلرِّبْحِ بِالْخُسْرَانِ ( وَلَنَا ) مَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ مِنْ ( قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرِّبْحُ عَلَى مَا شَرَطَا ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ } ) وَلَمْ يُعْرَفْ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ يَنْسُبُهُ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَلِأَنَّ الرِّبْحَ كَمَا يُسْتَحَقُّ بِالْمَالِ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ كَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ وَأَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقْوَى فَلَا يَرْضَى بِالْمُسَاوَاةِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّفَاضُلِ ، وَ ) رَأَيْنَا ( هَذَا الْعَقْدَ ) أَيْ شَرِكَةَ الْعِنَانِ ( يُشْبِهُ الْمُضَارَبَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْمَلُ فِي مَالِ ) غَيْرِهِ وَهُوَ ( الشَّرِيكُ ) وَيَسْتَرْبِحُ بِهِ ( وَيُشْبِهُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ اسْمًا وَعَمَلًا فَإِنَّهُمَا يَعْمَلَانِ فَعَمَلُنَا بِشَبَهِ الْمُضَارَبَةَ ) فِي اشْتِرَاطِ الزِّيَادَةِ لِأَحَدِهِمَا ، وَهُوَ الَّذِي شَرَطَ عَمَلَهُ مُنْفَرِدًا أَوْ مَعَ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ رِبْحًا بِلَا ضَمَانٍ ، وَيُشْبِهُ الْمُفَاوَضَةَ حَتَّى أَجَزْنَا شَرْطَ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا ، وَكَوْنُ الْمُضَارَبَةِ تَفْسُدُ بِاشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ لَا يُبْطِلُ اعْتِبَارَ شَبَهِهَا الْآخَرِ الَّذِي
بِاعْتِبَارِهِ أَجَزْنَا الزِّيَادَةَ فِي الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شُرِطَ كُلُّ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَيْضًا إلَى قَرْضٍ إنْ شُرِطَ لِلْعَامِلِ ، كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ مَالَهُ فَاسْتَحَقَّ جَمِيعَ رِبْحِهِ ، وَإِلَى بِضَاعَةٍ إنْ شُرِطَ لِرَبِّ الْمَالِ ، إلَّا أَنَّهُ يَرُدُّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا فَلَا يُعْتَبَرُ شَبَهُهَا إلَّا أَنْ يَمْنَعَ ، وَيُقَالُ بَلْ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ فِي الشَّرْعِ تَارَةً بِالْعَمَلِ وَتَارَةً بِالْمَالِ ، وَالْمَشْرُوطُ لَهُ الزِّيَادَةُ مَشْرُوطٌ عَمَلُهُ ، وَإِنْ شَرَطَ عَمَلَ الْآخَرِ ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَحَذَقَ وَأَقْوَى إلَخْ
قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ مَالِهِ دُونَ الْبَعْضِ ) لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمَالِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِ إذْ اللَّفْظُ لَا يَقْتَضِيهِ ( وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بِهِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَا وَمِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرُ وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمُ ، وَكَذَا مِنْ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ بِيضٌ وَمِنْ الْآخَرِ سُودٌ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا شَرْطٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي مُخْتَلِفِي الْجِنْسِ ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَمَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشَّرِكَةِ طُولِبَ بِثَمَنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْحُقُوقِ .
قَالَ ( ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْهُ ) مَعْنَاهُ إذَا أَدَّى مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ فِي حِصَّتِهِ فَإِذَا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْحُجَّةُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي وُجُوبَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْآخَرِ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ
( قَوْلُهُ إذْ اللَّفْظُ ) أَيْ لَفْظُ الْعِنَانِ ( لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ ) وَلَا يُنْبِئُ عَنْهُ لِيُعْتَبَرَ فِي مَفْهُومِهِ فَلِذَا جَازَ أَنْ يَعْقِدَهَا كُلٌّ بِبَعْضِ مَالِهِ ، وَيَجُوزُ إذَا كَانَ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا دَنَانِيرُ وَمِنْ الْآخَرِ دَرَاهِمُ ، وَيَجُوزُ بِدَرَاهِمَ سُودٍ مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا وَبِيضٍ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ قِيمَتُهُمَا وَالرِّبْحُ عَلَى مَا شُرِطَ فِيهَا تَسَاوَيَا أَوْ تَفَاوَتَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ دَرَاهِمِهِمَا بِشَرْطِهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ
قَالَ ( وَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ أَوْ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ الْمَالُ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَبِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ الثَّمَنَانِ فِيهِمَا بِالتَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَالَانِ ، وَكَذَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ إلَّا لِيُشْرِكَهُ فِي مَالِهِ ، فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِشَرِكَتِهِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ؛ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا إذَا كَانَ هَلَكَ فِي يَدِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْخَلْطِ حَيْثُ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فَيُجْعَلُ الْهَالِكُ مِنْ الْمَالَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا هَلَكَ مَالُ الشَّرِكَةِ كُلُّهُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) وَكَذَا لَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْخَلْطِ وَقَبْلَ الشِّرَاءِ يَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ وَحْدِهُ سَوَاءٌ هَلَكَ فِي يَدِ مَالِكِهِ أَوْ يَدِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْخَلْطِ حَيْثُ يَهْلِكُ عَلَيْهِمَا لِعَدَمِ التَّمْيِيزِ فَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ قَبْلَ الشِّرَاءِ وَقَبْلَ الْخَلْطِ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَأَمَّا بُطْلَانُ الشَّرِكَةِ ( فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَقْدُ الشَّرِكَةِ هُوَ الْمَالُ ) الْمُعَيَّنُ ( لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الشَّرِكَةِ ) وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ( وَبِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ وَالْوَكَالَةِ الْمُفْرَدَةِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَالُ فِيهِمَا بِالتَّعْيِينِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنَانِ بِالْقَبْضِ ) حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِمُوَكِّلِهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ الشِّرَاءِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ ، أَمَّا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَبْطُلُ الْمُضَارَبَةُ وَالْوَكَالَةُ الْمُفْرَدَةُ بِهَلَاكِ الْمَالِ .
وَاحْتُرِزَ بِالْمُفْرَدَةِ عَنْ الْوَكَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الشَّرِكَةِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَالَانِ ( وَكَذَا إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ ) أَيْ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَهْلِكْ مَالُهُ ( لَمْ يَرْضَ بِشَرِكَةِ صَاحِبِهِ فِي مَالِهِ إلَّا لِيُشْرِكَهُ ) هُوَ أَيْضًا ( فِي مَالِهِ ) بِتَقْدِيرِ بَقَائِهِ ، ( فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ ) ظَهَرَ وُقُوعُ مَا ( لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا ) بِهِ عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ( فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ ) وَهِيَ الِاشْتِرَاكُ فِيمَا يَحْصُلُ
( وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ وَهَلَكَ مَالُ الْآخَرِ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ) لِأَنَّ الْمِلْكَ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِهَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ الشَّرِكَةُ شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ ، حَتَّى إنَّ أَيَّهُمَا بَاعَ جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَمَّتْ فِي الْمُشْتَرَى فَلَا يُنْتَقَضُ بِهَلَاكِ الْمَالِ بَعْدَ تَمَامِهَا .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّةٍ مِنْ ثَمَنِهِ ) لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ بِوَكَالَتِهِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ .
أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالٍ الْآخَرِ ، إنْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ فَالْمُشْتَرَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنْ بَطَلَتْ فَالْوَكَالَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا قَائِمَةٌ فَكَانَ مُشْتَرَكًا بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ ، وَيَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ ذَكَرَا مُجَرَّدَ الشَّرِكَةِ وَلَمْ يَنُصَّا عَلَى الْوَكَالَةِ فِيهَا كَانَ الْمُشْتَرَى لِلَّذِي اشْتَرَاهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الشَّرِكَةِ لَهُ حُكْمُ الْوَكَالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الشَّرِكَةُ ، فَإِذَا بَطَلَتْ يَبْطُلُ مَا فِي ضِمْنِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَرَّحَ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِمَالِهِ ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ فَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حِينَ وَقَعَ وَقَعَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ وَقْتَ الشِّرَاءِ ) لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَقَعْ قَبْلَهُ لِيُبْطِلَ فَيَخْتَصُّ الْمُشْتَرِي بِمَا اشْتَرَاهُ ( فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ ) أَيْ حُكْمُ ( الشَّرِكَةِ بِهَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الشَّرِكَةُ ) .
الْوَاقِعَةُ فِي هَذَا الْمُشْتَرَى بَعْدَ هَلَاكِ مَالِ الْآخَرِ ( شَرِكَةُ عَقْدٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِلْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) فَإِنَّهَا شَرِكَةُ مِلْكٍ عِنْدَهُ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي نَصِيبِهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدُ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الْمَالِ فَصَارَ كَمَا لَوْ هَلَكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِمَالِ الْآخَرِ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا حُكْمُ ذَلِكَ الشِّرَاءِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَلْزَمُ انْفِرَادُ الْمِلْكِ بِعَدَمِ مَا يُوجِبُ زِيَادَةً عَلَيْهِ .
وَلِمُحَمَّدٍ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ هَلَاكَ مَالِ أَحَدِهِمَا إذَا وَقَعَ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِمَالِ الْآخَرِ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِهَا فَلَا يَكُونُ الْهَلَاكُ مُبْطِلًا شَرِكَةَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ تَمَامِهَا كَمَا لَوْ كَانَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ .
( وَإِذَا وَقَعَ الْمُشْتَرَى عَلَى الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ) ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهُ لَهُ بِوَكَالَتِهِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) قَرِيبًا ( هَذَا إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ هَلَكَ مَالُ الْآخَرِ ، أَمَّا إذَا هَلَكَ مَالُ أَحَدِهِمَا ثُمَّ اشْتَرَى الْآخَرُ ) يَعْنِي الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ ( بِالْمَالِ الْآخَرِ إنْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ) بِأَنْ قَالَا عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَالِهِ هَذَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَنَا ، كَذَا صَوَّرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ( فَالْمُشْتَرَى مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا شَرَطَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ
إنْ بَطَلَتْ فَالْوَكَالَةُ الْمُصَرَّحُ بِهَا قَائِمَةٌ فَتَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ ) وَبِهَذَا جَمَعَ فِي الْمَبْسُوطِ بَيْنَ التَّنَاقُضِ الْوَاقِعِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ : فَاشْتَرَى بِالْمَالِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ ، وَفِي بَعْضِهَا : إنْ اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، فَجَعَلَ مَحْمَلَ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّرِكَةِ وَكَالَةٌ مُصَرَّحٌ بِهَا ، وَمَحْمَلَ الثَّانِي إذَا صَرَّحَا بِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ .
وَقَوْلُهُ ( لِمَا بَيَّنَّاهُ ) يُرِيدُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ إلَخْ
قَالَ ( وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ ، وَلَا يَقَعُ الْفَرْعُ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ وَأَنَّهُ بِالْخَلْطِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُوَ الْمَالُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ ، وَيُشْتَرَطُ تَعْيِينُ رَأْسِ الْمَالِ ، بِخِلَافِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرِكَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ يَعْمَلُ لِرَبِّ الْمَالِ فَيَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِمَالَةً عَلَى عَمَلِهِ ، أَمَّا هُنَا بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا أَصْلٌ كَبِيرٌ لَهُمَا حَتَّى يُعْتَبَرُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ .
وَيُشْتَرَطُ الْخَلْطُ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ .
( قَوْلُهُ وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ مَالِكًا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ يَدِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ فِي حَانُوتٍ أَوْ فِي يَدِ وَكِيلِهِمَا ، ( وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الرِّبْحَ فَرْعُ الْمَالِ ، وَلَا يَكُونُ الْفَرْعُ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا وَالْأَصْلُ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَإِنَّهُ ) أَيْ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ عَلَى مَعْنَى الِاشْتِرَاكِ ( بِالْخَلْطِ ) لِمَا سَلَف مِنْ أَنَّ مَعْنَاهَا الِاخْتِلَاطُ أَوْ الْخَلْطُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ شَرِكَةٌ بِلَا خَلْطٍ ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كُلِّ عَقْدٍ شَرْعِيٍّ مَا هُوَ مُقْتَضَى اسْمِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ الرِّبْحِ فَرْعَ الْمَالِ ( أَصْلٌ كَبِيرٌ لَهُمَا ) حَتَّى تَفَرَّعَ عَلَيْهِ ( اعْتِبَارُ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ) فَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ ، وَلَا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا بِيضٌ وَلِلْآخَرِ سُودٌ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْخَلْطِ وَالِاخْتِلَاطِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ مَا لِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، ( وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّسَاوِي فِي الْمَالِ ) لِاخْتِلَافِ الشَّرِكَةِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ، وَلَا شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ وَالْأَعْمَالِ لِعَدَمِ الْمَالِ
وَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَعْمَالِ لِانْعِدَامِ الْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يُسَمَّى شَرِكَةً فَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ الْخَلْطُ شَرْطًا ، وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فَلَا يُسْتَفَادُ الرِّبْحُ بِرَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ بِالتَّصَرُّفِ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ .
وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي التَّصَرُّفِ بِدُونِ الْخَلْطِ تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِهِ وَهُوَ الرِّبْحُ بِدُونِهِ ، وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَالتَّسَاوِي فِي الرِّبْحِ ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ مُسْتَنِدَةٌ إلَى الْعَقْدِ دُونَ الْمَالِ ) حَاصِلُ تَقْرِيرِ الشَّارِحِينَ أَنَّ الرِّبْحَ يُضَافُ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَهُوَ الْعِلَّةُ ، وَإِلَى الْعَقْدِ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّصَرُّفِ ، وَالْحُكْمُ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالذَّاتِ إنَّمَا يُضَافُ إلَى عِلَّتِهِ لِمَا عُرِفَ أَنْ لَا أَثَرَ لِلْعِلَّةِ الْبَعِيدَةِ فِي الْحُكْمِ ، وَحَقِيقَةُ الْإِضَافَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ مَجَازِهَا فِي حُكْمٍ يَنْبَنِي عَلَى الْإِضَافَةِ ، وَإِنَّمَا وَجْهُ التَّقْرِيرِ الْمُرَادِ أَنَّ الرِّبْحَ الْمُسْتَحَقَّ شَرْعًا لِكُلٍّ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي مَالِ الْآخَرِ لَيْسَ مُضَافًا إلَّا إلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي بِهِ حَلَّ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ لَا إلَى نَفْسِ الْمَالِ وَلَا التَّصَرُّفِ فِيهِ ، لِأَنَّ إضَافَةَ الرِّبْحِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ مَعْنَاهَا أَنَّهُ اُكْتُسِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُفِيدٍ لَنَا إذْ هُوَ مَعْلُومٌ ، وَإِنَّمَا حَاجَتُنَا إلَى ثُبُوتِ حِلِّ الرِّبْحِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حِلَّهُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْعَقْدِ الشَّرْعِيِّ لَا التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ نَفْسَ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ شَرْعًا لَا يُوجِبُ حِلَّ الرِّبْحِ لِلْمُتَصَرِّفِ ، كَمَا فِي الْمُبْضِعِ وَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَحِلَّ إلَّا بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ مُتَحَقِّقًا فِيهِ مَعْنَى اسْمِهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ الشَّرْعِيَّ يُسَمَّى شَرِكَةً ، فَتَحَقُّقُ مَعْنَاهُ بِمَا يُفِيدُهُ شَرْعًا وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَالتَّصَرُّفِ مَعًا لَا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ لِيَكُونَ عِلَّةَ الْعِلَّةِ ، بَلْ التَّصَرُّفُ عِلَّةٌ فِي وُجُودِ الرِّبْحِ وَالْعَقْدُ عِلَّةُ حِلِّهِ ، وَالْكَلَامُ لَيْسَ إلَّا فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَوَقَّفْ الِاسْمُ عَلَى خَلْطِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلَّ الْعَقْدِ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِهَا خَارِجٌ عَنْهُ
.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ يَعْنِي عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهِمَا ) مَا فِيهِ الرِّبْحُ حَتَّى جَازَ أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَهُمَا فَلَمْ يَكُنْ الرِّبْحُ مُسْتَفَادًا بِعَيْنِ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَلْزَمَ فِيهِ بِالْخَلْطِ بَلْ بِالتَّصَرُّفِ ، وَإِذَا ظَهَرَ تَحَقُّقُ الشَّرِكَةِ بِلَا خَلْطٍ ( تَحَقَّقَتْ فِي الْمُسْتَفَادِ بِدُونِهِ ) أَيْ بِدُونِ الْخَلْطِ ( وَصَارَ كَالْمُضَارَبَةِ ) تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ بِلَا خَلْطٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَبْطُلَ بِهَلَاكِ الْمَالِ قَبْلَ الشِّرَاءِ لِوُجُودِ الْمَالِ وَقْتَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ فِي الْمَحَلِّ .
قُلْنَا : إنَّمَا بَطَلَتْ لِمُعَارِضٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ هَلَاكَ الْمَحَلِّ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ يُبْطِلُهُ كَالْبَيْعِ يَبْطُلُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ الِاسْتِرْبَاحُ وَهُوَ بِالشِّرَاءِ أَوَّلًا ، فَإِذَا هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ كَهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعَقْدُ لَا الْمَالُ ( لَمْ يُشْتَرَطْ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَلَا التَّسَاوِي ) فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا ( فِي الرِّبْحِ وَتَصِحُّ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ )
قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ مُسَمَّاةً مِنْ الرِّبْحِ ) لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الشَّرِكَةِ فَعَسَاهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا قَدْرَ الْمُسَمَّى لِأَحَدِهِمَا ، وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ .
قَوْلُهُ ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إذَا شُرِطَ لِأَحَدٍ دَرَاهِمُ مُسَمَّاةً مِنْ الرِّبْحِ ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا خِلَافَ فِي هَذَا لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُوجِبُ انْقِطَاعَ الشَّرِكَةِ فَعَسَاهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا قَدْرَ الْمُسَمَّى فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ ، وَاشْتِرَاطُهُ لِأَحَدِهِمَا يُخْرِجُ الْعَقْدَ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَى قَرْضٍ أَوْ بِضَاعَةٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَنَظِيرُهُ فِي الْمُزَارَعَةِ ) يَعْنِي إذَا شَرَطَا لِأَحَدِهِمَا قُفْزَانًا مُسَمَّاةً بَطَلَتْ لِأَنَّهُ عَسَى أَنْ لَا تُخْرِجَ الْأَرْضُ غَيْرَهَا
قَالَ ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يُبْضِعَ الْمَالَ ) لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَالتَّحْصِيلُ بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَهُ فَيَمْلِكَهُ ، وَكَذَا لَهُ أَنْ يُودِعَهُ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا .
قَالَ ( وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً ) ؛ لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ فَتَتَضَمَّنَهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَ بِأَجْرٍ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّتِهِ ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ .
قَالَ ( وَيُوَكِّلُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ ) لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ لِلتِّجَارَةِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ حَيْثُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ طُلِبَ مِنْهُ تَحْصِيلَ الْعَيْنِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ قَالَ ( وَيَدُهُ فِي الْمَالِ يَدُ أَمَانَةٍ ) لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ فَصَارَ كَالْوَدِيعَةِ .
( قَوْلُهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَشَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ يُبْضِعَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ) مِنْ الْمُتَشَارِكَيْنِ ( وَلِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ عَلَى عَمَلِ التِّجَارَةِ ، وَالتَّحْصِيلُ ) لِلرِّبْحِ ( بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَهُ ) وَأَنَّهُ أَقَلُّ ضَرَرًا ، فَإِذَا مَلَكَ مَا هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا مَلَكَ مَا هُوَ أَقَلُّ ، وَظَهَرَ أَنَّ لَفْظَ التَّحْصِيلِ مَرْفُوعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا لَهُ أَنْ يُودِعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَادٌ وَلَا يَجِدُ التَّاجِرُ بُدًّا مِنْهُ ) فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَالْمَضَايِقِ .
وَقَوْلُهُ ( وَيَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً لِأَنَّهَا دُونَ الشَّرِكَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ فِي الشَّرِكَةِ تَلْزَمُ الشَّرِيكَ وَلَا تَلْزَمُ الْمُضَارِبَ ، فَتَتَضَمَّنُ الشَّرِكَةُ الْمُضَارَبَةَ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ ( أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ شَرِكَةٍ ) فِي الرِّبْحِ ( وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ ) فَصَارَ ( كَمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ بِأُجْرَةٍ ) لِيَعْمَلَ لَهُ بَعْضَ أَعْمَالِ التِّجَارَةِ ( بَلْ أَوْلَى لِأَنَّهُ تَحْصِيلٌ بِدُونِ ضَمَانٍ فِي ذِمَّةِ الشَّرِيكِ ، بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ ) فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ ( لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ ) ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ الْمُكَاتِبُ يُكَاتِبُ عَبْدَهُ وَالْمَأْذُونُ يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ وَاقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ وَالْمُتَنَفِّلِ بِمِثْلِهِمَا ، وَالنَّاسِخُ مِثْلُ الْمَنْسُوخِ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ مِلْكَهُمَا ذَلِكَ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ بَلْ بِإِطْلَاقِ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا ، وَكَذَا الِاقْتِدَاءُ لَيْسَ صَلَاةُ الْإِمَامِ مُسْتَتْبِعَةً لِصَلَاتِهِمَا بَلْ تِلْكَ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهَا ، وَحَقِيقَةُ النَّاسِخِ مُبَيِّنٌ لَا غَيْرُ ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ وِزَانَ مَا نَحْنُ فِيهِ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ
بِالنَّسِيئَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ الرَّهْنُ : أَيْ رَهْنُ عَيْنٍ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ مِنْ التِّجَارَةِ عَلَيْهِ وَالِارْتِهَانُ بِدَيْنٍ لَهُ ، بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ وَيَرْتَهِنَ عَلَى شَرِيكِهِ ، فَإِنْ رَهَنَ فِي الْعِنَانِ مَتَاعًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلرَّهْنِ ، وَلَوْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لَهُمَا لَمْ يَجُزْ عَلَى شَرِيكِهِ ، فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ وَقِيمَتُهُ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ وَيَرْجِعُ الْمَطْلُوبُ بِنِصْفِ قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، وَإِنْ شَاءَ شَرِيكُ الْمُرْتَهِنِ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ حِصَّتَهُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الرَّهْنِ فِي يَدِهِ كَالِاسْتِيفَاءِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لِلْآخَرِ قَبْضُهُ ، وَلِلْمَدِينِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ بَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الْقَابِضِ ، وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُخَاصِمَ فِيمَا أَدَانَهُ الْآخَرُ أَوْ بَاعَهُ ، وَالْخُصُومَةُ لِلَّذِي بَاعَ وَعَلَيْهِ ، وَلَا أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنًا ، فَإِنْ أَخَّرَهُ لَمْ يَمْضِ عَلَى الْآخَرِ ، وَكَذَا لَا يَمْضِي إقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِدَيْنٍ فِي تِجَارَتِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَإِنْ أَقَرَّ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَهُ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَكِيلًا كَانَ أَوْ مُبَاشِرًا ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ لَزِمَهُ نِصْفُهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مُضَارَبَةً اخْتَصَّ بِرِبْحِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ ، بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ،
وَيَمْضِي إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُشَارِكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَيَمْضِي عَلَى الْآخَرِ ، بِخِلَافِ شَرِيكِ الْعِنَانِ .
وَيَجُوزُ قَبْضُ كُلٍّ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَا أَدَانَهُ الْآخَرُ أَوْ أَدَانَاهُ ، أَوْ وَجَبَ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ غَصْبٍ أَوْ كَفَالَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيَرُدُّ بِعَيْبٍ مَا اشْتَرَاهُ الْآخَرُ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَنْ الْآخَرِ يُطَالَبُ بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَتُقَامُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ ، وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا أَوَّلَ الْبَابِ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَمَانِ التِّجَارَةِ ( وَ ) لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيْ الْعِنَانِ أَنْ ( يُوَكِّلَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ أَعْمَالِ التِّجَارَاتِ ، وَالشَّرِكَةُ انْعَقَدَتْ لَهَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ) صَرِيحًا ( بِالشِّرَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ خَاصٌّ طُلِبَ بِهِ ) شِرَاءُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ ، وَكُلُّ مَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَعْمَلَهُ إذَا نَهَاهُ شَرِيكُهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلُهُ فَإِنْ عَمِلَهُ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا اُخْرُجْ لِدِمْيَاطَ وَلَا تُجَاوِزْهَا فَجَاوَزَ فَهَلَكَ الْمَالُ ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَقَلَ حِصَّتَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَكَذَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ بَيْعِ النَّسِيئَةِ بَعْدَ مَا كَانَ أَذِنَ لَهُ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَيَدُهُ ) أَيْ يَدُ الشَّرِيكِ مُطْلَقًا ( فِي الْمَالِ يَدُ أَمَانَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ وَالْوَثِيقَةِ ) فَيَكُونُ أَمَانَةً ، بِخِلَافِ الْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ إعْطَاءِ الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّهُ مَقْبُوضٌ لِلتَّوَثُّقِ بِدَيْنِهِ فَيَضْمَنُ بِذَلِكَ الدَّيْنَ ، وَإِذَا كَانَ مَقْبُوضًا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا صَارَ كَالْوَدِيعَةِ فَكَانَ أَمَانَةً .
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمَانَاتِ إذَا مَاتَ تَنْقَلِبُ مَضْمُونَةً بِالْمَوْتِ مَعَ التَّجْهِيلِ إلَّا فِي
مَسَائِلَ : إحْدَاهَا إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نَصِيبَهُ .
وَالْأُخْرَى فِي السِّيَر إذَا أَوْدَعَ الْإِمَامُ بَعْضَ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْجُنْدِ فَمَاتَ .
وَنَذْكُرُ الثَّالِثَةَ فِي الْوَقْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
[ فُرُوعٌ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ ] قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُقْرِضَ وَلَا يَهَبَ وَلَا يَتَصَدَّقَ وَلَا يُعِيرُ دَابَّةً مِنْ شَرِكَتِهِمَا ؛ وَلَوْ ادَّعَى عَلَى آخَرَ أَنَّهُ شَارَكَهُ مُفَاوَضَةً فَأَنْكَرَ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَاحِدِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعَقْدَ وَاسْتِحْقَاقَ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَشَهِدُوا أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ أَوْ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، أَوْ قَالُوا هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ قَضَى لِلْمُدَّعِي بِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ ، وَجَمِيعُ مَا ذُكِرَ مُقْتَضَاهُ انْقِسَامُ مَا فِي يَدِهِ فَيُقْضَى بِذَلِكَ .
فَلَوْ ادَّعَى الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْعَيْنَ لِي مِيرَاثًا مِمَّا فِي يَدِهِ ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَلَمْ تُقْبَلْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ قِبَلِ الْمَقْضِيِّ لَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُفَسِّرَةً .
وَلَوْ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا فِي يَدِهِ أَنَّهَا لَهُ خَاصَّةً وَهَبَ شَرِيكَهُ مِنْهُ حِصَّتَهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قُبِلَتْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ادَّعَى تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْهُ ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَقَرَّ وَقَضَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ ادَّعَى عَيْنًا
مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ مِيرَاثًا أَوْ هِبَةً وَأَقَامَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَا الْيَدِ هُنَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ مُدَّعٍ لِلْمِيرَاثِ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَفِي الْأَوَّلِ ذُو الْيَدِ جَاحِدٌ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي صُورَةِ الْإِنْكَارِ لَمْ يَسْتَحْلِفْ خَصْمَهُ ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْحَيِّ فَادَّعَى الْوَرَثَةُ الْمُفَاوَضَةَ وَجَحَدَ الْحَيُّ ذَلِكَ فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ لَمْ يُقْضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ فِيمَا فِي يَدِ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدٍ عُلِمَ ارْتِفَاعُهُ لِانْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ فِيمَا شَهِدَا بِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِيمَا مَضَى لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا إلَّا أَنْ يُقِيمُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَإِنَّهُمْ حِينَئِذٍ شَهِدُوا بِالنِّصْفِ لِلْمَيِّتِ وَوَرَثَتُهُ خُلَفَاؤُهُ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَجَحَدُوا الشَّرِكَةَ فَأَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ ، وَأَقَامُوا أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا مِيرَاثًا مِنْ مُفَاوَضَةٍ بَيْنَهُمَا لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ ، فَإِنَّمَا يُقِيمُونَهَا عَلَى النَّفْيِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الشَّرِكَةَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ فَيُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ ، وَصَحَّحَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ وَلَوْ قَالُوا : مَاتَ جَدُّنَا وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لِأَبِينَا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَتُقْبَلُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ حَيًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْمُفَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ ، وَإِذَا افْتَرَقَ
الْمُتَفَاوِضَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَأَنَّ قَاضِيَ بَلْدَةِ كَذَا قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَسَمَّوْا الْمَالَ ، وَأَنَّهُ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَأَقَامَ الْآخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ أَوْ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ قَاضٍ وَاحِدٍ ، وَعُلِمَ تَارِيخُ الْقَضَاءَيْنِ أُخِذَ بِالْآخِرِ ، وَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْأَوَّلِ وَنَقْضٌ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ قَاضِيَيْنِ لَزِمَ كُلًّا مِنْهُمَا الْقَضَاءُ الَّذِي أَنْفَذَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا صَحِيحٌ ظَاهِرًا فَيُحَاسِبُ كُلٌّ صَاحِبَهُ بِمَا عَلَيْهِ ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ
قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ ) وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ ( كَالْخَيَّاطِينَ وَالصَّبَّاغِينَ يَشْتَرِكَانِ عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْأَعْمَالَ وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا ) ( فَيَجُوزُ ذَلِكَ ) وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا وَهُوَ التَّثْمِيرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الرِّبْحِ تُبْتَنَى عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ عَلَى أَصْلِهِمَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحْصِيلُ وَهُوَ مُمْكِنٌ بِالتَّوْكِيلِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَكِيلًا فِي النِّصْفِ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ تَحَقَّقَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ
( قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ وَتُسَمَّى شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ ) وَشَرِكَةَ الْأَبْدَانِ وَشَرِكَةَ الْأَعْمَالِ ( فَنَحْوَ الْخَيَّاطِينَ وَالصَّبَّاغِينَ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنْ يَتَقَبَّلَ كُلٌّ الْأَعْمَالَ ) أَوْ نَحْوَ الصَّبَّاغِ وَالْخَيَّاطِ يَفْعَلَانِ ذَلِكَ ( وَيَكُونُ الْكَسْبُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ لَا تُفِيدُ مَقْصُودَهَا ) أَيْ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : مَقْصُودَهُمَا بِالتَّثْنِيَةِ أَيْ الشَّرِيكَيْنِ ( وَهُوَ التَّثْمِيرُ ) أَيْ الرِّبْحُ ( لِأَنَّهُ لَا بُدَّ ) فِي الرِّبْحِ ( مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُبْنَى عَلَيْهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْخِلَافِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ ، ( وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ ) عَلَى الِاشْتِرَاكِ ، وَهُوَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَالِ بَلْ جَازَ بِالْعَمَلِ أَيْضًا كَمَا مَرَّ ، فَجَازَ بِالتَّوْكِيلِ بِأَنْ وَكَّلَ الْآخَرَ بِقَبُولِ الْعَمَلِ عَلَيْهِ كَمَا يَقْبَلُهُ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ كُلٌّ أَصِيلًا فِي نِصْفِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ وَوَكِيلًا فِي نِصْفِهِ الْآخَرِ ، فَتَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، فَإِنْ عَمِلَا اسْتَحَقَّ كُلٌّ فَائِدَةَ عَمَلِهِ وَهُوَ الْمَالُ الْمُسْتَفَادُ وَهُوَ كَسْبُهُ ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا كَانَ الْعَامِلُ مُعِينًا لِشَرِيكِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِتَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ مُطْلَقُ الْعَمَلِ لَا عَمَلُ الْمُتَقَبَّلِ بِنَفْسِهِ أَوْ وَكِيلِهِ بِنَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ نَحْوَ الْخَيَّاطِ يَتَقَبَّلُ ثُمَّ يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَعْمَلُهُ وَيَدْفَعُهُ إلَى مَالِكِهِ فَتَطِيبُ لَهُ الْأُجْرَةُ .
وَمِنْ صُوَرِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَجْلِسَ آخَرُ عَلَى دُكَّانِهِ فَيَطْرَحَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ وَمِنْ الْآخَرِ الْحَانُوتَ ، وَاسْتُحْسِنَ جَوَازُهَا ؛ لِأَنَّ التَّقَبُّلَ مِنْ صَاحِبِ الْحَانُوتِ عَمَلٌ
وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَزُفَرَ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا يَتَفَاوَتُ
( قَوْلُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ ) أَيْ فِي جَوَازِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ ( اتِّحَادُ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَالِكٍ ) .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدَّمَ فِي اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ لِزُفَرَ أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِهِ عَدَمَ جَوَازِ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ ، وَهُوَ يُنَافِي اشْتِرَاطَهُ لِصِحَّتِهَا اتِّحَادَ الْعَمَلِ وَالْمَكَانِ .
أُجِيبُ بِأَنَّ عَنْ زُفَرَ فِي جَوَازِ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ رِوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي الْمَبْسُوطِ ، فَفَرَّعَ رِوَايَةَ الْمَنْعِ عَلَى شَرْطِ خَلْطِ الْمَالِ ، وَذَكَرَ هُنَا شَرْطَهُ فِي تَجْوِيزِهَا ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَجْهَ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُجَوِّزَ لِشَرِكَةِ التَّقَبُّلِ ) مِنْ كَوْنِ الْمَقْصُودِ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ ( لَا يَتَفَاوَتُ ) بَيْنَ كَوْنِ الْعَمَلِ فِي دُكَّانَيْنِ أَوْ دُكَّانٍ وَكَوْنِ الْأَعْمَالِ مِنْ أَجْنَاسٍ أَوْ جِنْسٍ فَلَا وَجْهَ لِاشْتِرَاطِ شَرْطٍ بِلَا دَلِيلٍ يُوجِبُهُ
( وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ وَالْمَالَ أَثْلَاثًا جَازَ ) وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِقَدْرِ الْعَمَلِ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ لِتَأْدِيَتِهِ إلَيْهِ ، وَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَا يَأْخُذُهُ لَا يَأْخُذُهُ رِبْحًا لِأَنَّ الرِّبْحَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ فَكَانَ بَدَلَ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يُتَقَوَّمُ بِالتَّقْوِيمِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا قُوِّمَ بِهِ فَلَا يَحْرُمُ ، بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ وَالرِّبْحُ يَتَحَقَّقُ فِي الْجِنْسِ الْمُتَّفِقِ ، وَرِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَا الْعَمَلَ نِصْفَيْنِ ) يَعْنِي التَّسَاوِيَ فِي الْعَمَلِ وَالرِّبْحَ أَثْلَاثًا ( جَازَ ) بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَشْرُوطِ لَهُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِ الْعَمَلُ ( وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( لِأَنَّ الضَّمَانَ هُنَا إنَّمَا هُوَ بِقَبُولِ الْعَمَلِ ) أَيْ لِأَنَّهُ لَا مَالَ عُقِدَتْ الشَّرِكَةُ عَلَيْهِ فَزِيَادَةُ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا ( رِبْحٌ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَمْ تَجُزْ ) كَمَا لَمْ تَجُزْ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ مَعَ شَرْطِ التَّفَاضُلِ فِي رِبْحِ مَا يُبَاعُ مِمَّا اشْتَرَى بِالْوُجُوهِ ، وَأَمَّا كَوْنُ التَّفَاضُلِ يَجْرِي فِيهَا إذَا شَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلٌّ مِنْهُمَا يَكُونُ لِلْآخَرِ رُبْعُهُ فَقَطْ ، فَيَنْقَسِمُ الرِّبْحُ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ عَدَمُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ .
قُلْنَا : الْمَأْخُوذُ مِنْ هَذِهِ الشَّرِكَةِ لَيْسَ رِبْحًا حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبْحِ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ اتِّحَادِ جِنْسِ الرِّبْحِ وَمَا بِهِ الِاسْتِرْبَاحُ ، وَهُوَ هُنَا مُخْتَلِفٌ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عَمَلٌ وَالرِّبْحَ مَالٌ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لَهُ رِبْحٌ مَجَازًا ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلُ عَمَلِهِ وَالْعَمَلُ يَتَقَدَّرُ بِالتَّقْدِيرِ : أَيْ بِحَسَبِ التَّرَاضِي ، فَمَا قُدِّرَ لِكُلٍّ هُوَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّرَاضِي أَنْ يُجْعَلَ بَدَلَ عَمَلِهِ فَلَا يَحْرُمُ خُصُوصًا إذَا كَانَ أَحْذَقَ فِي الْعَمَلِ وَأَهْدَى ، وَعَلَى هَذَا اتَّجَهَ خِلَافُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِيمَا لَوْ شُرِطَتْ الزِّيَادَةُ لِأَكْثَرِهِمَا عَمَلًا .
وَصَحَّحُوا الْجَوَازَ لِأَنَّ الرِّبْحَ لِضَمَانِ الْعَمَلِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَمَلِ ، وَلِذَا لَوْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا أَوْ غَابَ فَلَمْ يَعْمَلْ وَعَمِلَ الْآخَرُ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِلَا خِلَافٍ يُعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمَالِ مُتَّفِقٌ ) فَإِنَّ الرِّبْحَ بَدَلُ مَا هُوَ مَالٌ فَيَتَحَقَّقُ بِالتَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى خِلَافِ
الْقِيَاسِ .
هَذَا وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ وَصَارَ كَشَرِكَةِ الْوُجُوهِ يُعْطِي ظَاهِرُهُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ بِشَرْطِ الزِّيَادَةِ .
وَالْوَجْهُ أَنْ تَبْطُلَ الزِّيَادَةُ فَقَطْ وَيَسْتَحِقَّ مِثْلَ الْأَجْرِ ، فَإِنَّهُ نَصَّ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ الَّتِي شَبَّهَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ فَقَالَ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ الضَّمَانِ وَإِنْ شَرَطَا الرِّبْحَ بِخِلَافِ الضَّمَانِ بَيْنَهُمَا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ ضَمَانِهِمَا
قَالَ ( وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ ) حَتَّى إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِالْعَمَلِ وَيُطَالِبُ بِالْأَجْرِ ( وَيَبْرَأُ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ) وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْمُفَاوَضَةِ وَفِي غَيْرِهَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً وَالْكَفَالَةُ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ ( مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ ) ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ فَجَرَى مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ .
( قَوْلُهُ وَمَا يَتَقَبَّلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْعَمَلِ يَلْزَمُهُ وَيَلْزَمُ شَرِيكَهُ ) حَتَّى أَنَّ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ الشَّرِيكَ بِعَمَلِهِ ، وَلِلشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يَتَقَبَّلْ الْعَمَلَ أَنْ يُطَالِبَ رَبَّ الثَّوْبِ مَثَلًا بِالْأُجْرَةِ ، وَيَبْرَأَ الدَّافِعُ بِدَفْعِ الْأُجْرَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَمَلُهُ الَّذِي تَقَبَّلَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( هَذَا ) وَهُوَ ضَمَانُ كُلٍّ مِنْهُمَا عَمَلَ مَا تَقَبَّلَهُ الْآخَرُ ، وَمُطَالَبَةُ كُلٍّ بِأُجْرَةِ الْآخَرِ وَبَرَاءَةُ الدَّافِعِ إلَيْهِ الْأُجْرَةَ ( ظَاهِرٌ ) فِيمَا إذَا عَقَدَا شَرِكَةَ الصَّنَائِعِ مُفَاوَضَةً ( وَفِي غَيْرِهَا ) وَهُوَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ أَوْ قَيَّدَاهَا بِالْعِنَانِ ( اسْتِحْسَانٌ ) فَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُمُورِ بَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ وَالْعِنَانِ فِيهَا ( وَالْقِيَاسُ خِلَافُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ وَقَعَتْ مُطْلَقَةً ) وَإِذَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً انْصَرَفَتْ إلَى الْعِنَانِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بِالنَّصِّ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى مَعْنَاهُ ، وَبِهَذَا عَلِمْت أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ إطْلَاقِ الشَّرِكَةِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى جَعْلِهَا عِنَانًا فِي أَنَّ الْمُنْعَقِدَ عِنَانٌ وَالْكَفَالَةُ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ ) أَعْنِي شَرِكَةَ الصَّنَائِعِ ( مُقْتَضِيَةٌ لِلضَّمَانِ ) فِي الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ، لَا أَنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَوْكِيلَ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالضَّرُورَةِ مَضْمُونًا عَلَى الْآخَرِ وَلِذَا اسْتَحَقَّ مِنْ الْأُجْرَةِ بَعْضَ مَا سُمِّيَ لِلْآخَرِ ( بِسَبَبِ نَفَاذِ تَقَبُّلِهِ عَلَيْهِ فَجَرَى ) هَذَا الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ عِنَانًا ( مَجْرَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ضَمَانِ الْعَمَلِ ) عَنْ الْآخَرِ ( وَاقْتِضَاءِ الْبَدَلِ ) وَإِنْ لَمْ يَتَقَبَّلْ ضَرُورَةً ، بِخِلَافِ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ هُوَ فِيهَا عَلَى مُقْتَضَى الْعِنَانِ ، وَلِذَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ مِنْ أَمْرِ الصِّنَاعَةِ كَثَمَنِ صَابُونٍ أَوْ صَبْغٍ أَوْ بِدَيْنٍ لِلْعُمْلَةِ عَنْ عَمَلِهِمْ أَوْ
أُجْرَةِ بَيْتٍ أَوْ دُكَّانٍ لِمُدَّةٍ مَضَتْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ نَفَاذَ الْإِقْرَارِ عَلَى الْآخَرِ مُوجَبٌ الْمُفَاوَضَةَ وَلَمْ يَنُصَّا عَلَيْهَا .
ثَلَاثَةٌ لَمْ يَعْقِدُوا بَيْنَهُمْ شَرِكَةُ تَقَبُّلٍ تَقَبَّلُوا عَمَلًا ثُمَّ جَاءَ أَحَدُهُمْ فَعَمِلَهُ كُلَّهُ فَلَهُ ثُلُثُ الْأَجْرِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يَكُونُوا شُرَكَاءَ كَانَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ بِثُلُثِ الْأَجْرِ ، فَإِذَا عَمِلَ الْكُلَّ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي الثُّلُثَيْنِ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا ثُلُثَ الْأَجْرِ
قَالَ ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا فَتَصِحَّ الشَّرِكَةُ عَلَى هَذَا ) سُمِّيَتْ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يَشْتَرِي بِالنَّسِيئَةِ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ وَجَاهَةٌ عِنْدَ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مُفَاوَضَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْكَفَالَةِ وَالْوَكَالَةِ فِي الْأَبْدَالِ ، وَإِذَا أُطْلِقَتْ تَكُونُ عِنَانًا لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَهِيَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ .
قَالَ ( كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ الْآخَرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ ) لِأَنَّ التَّصَرُّفَ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَكَالَةٍ أَوْ بِوِلَايَةٍ وَلَا وِلَايَةَ فَتَتَعَيَّنُ الْوَكَالَةُ ( فَإِنْ شَرَطَا أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالرِّبْحَ كَذَلِكَ يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلَا فِيهِ ، وَإِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَالرِّبْحُ كَذَلِكَ ) ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْمَالِ أَوْ الْعَمَلِ أَوْ بِالضَّمَانِ فَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّهُ بِالْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ يَسْتَحِقُّهُ بِالْعَمَلِ ، وَالْأُسْتَاذُ الَّذِي يُلْقِي الْعَمَلَ عَلَى التِّلْمِيذِ بِالنِّصْفِ بِالضَّمَانِ ، وَلَا يُسْتَحَقُّ بِمَا سِوَاهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَصَرَّفْ فِي مَالِكِ عَلَى أَنَّ لِي رِبْحَهُ لَمْ يَحُزْ لِعَدَمِ هَذِهِ الْمَعَانِي .
وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَالضَّمَانُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى وَكَانَ الرِّبْحُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُهُ إلَّا فِي الْمُضَارَبَةِ وَالْوُجُوهُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهَا ، بِخِلَافِ الْعِنَانِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَاهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْمَلُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ فَيُلْحَقُ بِهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فَالرَّجُلَانِ يَشْتَرِكَانِ وَلَا مَالَ لَهُمَا لِيَشْتَرِيَا بِوَجْهِهِمَا ) أَيْ بِوَجَاهَتِهِمَا وَجَاهِهِمَا وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْجَاهَ مَقْلُوبُ الْوَجْهِ لِمَا عُرِفَ غَيْرَ أَنَّ الْوَاوَ انْقَلَبَتْ حِينَ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْعَيْنِ لِلْمُوجِبِ لِذَلِكَ ، وَلِذَا كَانَ وَزْنُهُ عَفَلَ ( وَأَنَّهَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً ) بِأَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا نِصْفُ ثَمَنِهِ وَيَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ وَيَتَلَفَّظَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ ، أَوْ يَذْكُرَا مُقْتَضَيَاتِهَا كَمَا سَلَفَ ( فَتَتَحَقَّقُ الْوَكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ فِي الْأَبْدَالِ ) أَيْ الْأَثْمَانِ وَالْمَبِيعَاتِ ، وَإِنْ فَاتَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَتْ عِنَانًا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِتَبَادُرِهِ وَزِيَادَةِ تَعَارُفِهِ عَمَلًا .
وَمَنَعَهَا الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ، وَالْوَجْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ تَقَدَّمَ فِي شَرِكَةِ الْأَعْمَالِ .
وَنَقُولُ : صِحَّةُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، وَتَوَصُّلُ كُلٍّ مِنْ الْآخَرِ بِالشَّرِكَةِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثْلَاثًا صَحِيحٌ ، فَكَذَا الشَّرِكَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْوَكَالَةَ ، وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْبَاقِي غَيْرِ الْفَرْقِ بَيْنِ الْوُجُوهِ وَالْعِنَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ لَا يَصِحُّ التَّفَاوُتُ فِي الرِّبْحِ وَيَصِحُّ فِي الْعِنَانِ مَعَ أَنَّ الرِّبْحَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ الْأَصْلِ ، فَفَرَّقَ بِأَنَّ شَرِكَةَ الْعِنَانِ فِي مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا عَامِلٌ فِي مَالِ صَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ فَصَحَّ إعْمَالُ شَبَهِ الْمُضَارَبَةِ فِي الْعِنَانِ فِي إجَازَةِ تَفَاوُتِ الرِّبْحِ ، بِخِلَافِ الْوُجُوهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَبَهَ الْمُضَارَبَةِ إنَّمَا جَوَّزَ زِيَادَةَ رِبْحِ أَحَدِهِمَا فِي الْعِنَانِ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ فِي مَالِ الْآخَرِ وَلَيْسَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ أَحَدُهُمَا عَامِلٌ فِي مَالِ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا يُجْعَلُ
الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ إلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ لِشَبَهِهِ بِهِ ، بَلْ نَقُولُ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ شَرْعًا بِأَحَدِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ ، مِنْهَا الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لِلِاسْتِحْقَاقِ شَرْعًا بِالْعَمَلِ فِي الْإِجَارَةِ ، وَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ اعْتِرَاضُ بَعْضِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ جَازَ رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ فِي الْعِنَانِ لِشَبَهِهِ بِالْمُضَارَبَةِ يَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ فِي الْعِنَانِ ، وَنَحْنُ إنَّمَا لَمْ نُجَوِّزْهَا لِأَدَائِهَا إلَى رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ ؛ لِأَنَّ فِي جَعْلِ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ عُرُوضًا رِبْحُ مَا لَمْ يُضْمَنْ لَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي مَالِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ عِنْدَ بَيْعِ الْعُرُوضِ مُتَفَاوِتَةَ الثَّمَنِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ فَضْلِ الْعَمَلِ كَمَا فِي الصَّنَائِعِ ؟ أُجِيبُ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَكُونُ الْعَمَلُ فِي مَالٍ مَعْلُومٍ كَمَا فِي الْعِنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ هُنَا .
( فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ ) ( وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ، وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ) ، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي أَخْذِ كُلِّ شَيْءٍ مُبَاحٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مُتَضَمِّنَةٌ مَعْنَى الْوَكَالَةِ ، وَالتَّوْكِيلُ فِي أَخْذِ الْمَالِ الْمُبَاحِ بَاطِلٌ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ بِدُونِ أَمْرِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا بِالْأَخْذِ وَإِحْرَازِ الْمُبَاحِ ، فَإِنْ أَخَذَاهُ مَعًا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ ، وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ فِي عَمَلِهِ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ الْآخَرُ ، أَوْ قَلَعَهُ وَجَمَعَهُ وَحَمَلَهُ الْآخَرُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
فَصْلٌ فِي الشَّرِكَةِ الْفَاسِدَةِ ) وَجْهُ تَقْدِيمِ الصَّحِيحَةِ عَلَى الْفَاسِدَةِ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ فِي الِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ) وَكَذَا الِاحْتِشَاشُ وَالتَّكَدِّي وَسُؤَالُ النَّاسِ ( وَمَا اصْطَادَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ احْتَطَبَهُ ) أَوْ أَصَابَهُ مِنْ التَّكَدِّي ( فَهُوَ لَهُ دُونَ صَاحِبِهِ ، وَعَلَى هَذَا الِاشْتِرَاكُ فِي كُلِّ مُبَاحٍ ) كَأَخْذِ الْحَطَبِ وَالثِّمَارِ مِنْ الْجِبَالِ كَالْجَوْزِ وَالتِّينِ وَالْفُسْتُقِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَا فِي نَقْلِ الطِّينِ وَبَيْعِهِ مِنْ أَرْضٍ مُبَاحَةٍ أَوْ الْحَصَى أَوْ الْمِلْحِ أَوْ الثَّلْجِ أَوْ الْكُحْلِ أَوْ الْمَعْدَنِ أَوْ الْكُنُوزِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يُلَبِّنَا مِنْ طِينٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وَيَطْبُخَا آجُرًّا ، وَلَوْ كَانَ الطِّينُ مَمْلُوكًا أَوْ سَهْلَةَ الزُّجَاجِ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا وَيَطْبُخَا وَيَبِيعَا جَازَ وَهُوَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةَ الْأَبْدَانِ كَالصَّبَّاغِينَ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { اشْتَرَكْنَا أَنَا وَعَمَّارٌ وَسَعْدٌ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَلَمْ أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ ، وَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ فَأَشْرَكَ بَيْنَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
أُجِيبُ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَقْسُومَةٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَشْتَرِكَ هَؤُلَاءِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِخُصُوصِهِمْ ، وَفِعْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا هُوَ تَنْفِيلٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ قَدَّرَ مَا يَخُصُّهُمْ ، وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ ظَاهِرٌ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ بِهِ ) أَيْ بِأَخْذِ الْمُبَاحِ ( غَيْرُ صَحِيحٍ ) لِعَدَمِ مِلْكِهِ وَوِلَايَتِهِ ( وَالْوَكِيلُ يَمْلِكُهُ ) أَيْ يَمْلِكُ الْمُبَاحَ ( بِدُونِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَصْلُحُ الْوَكِيلُ نَائِبًا ) عَنْ
الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ وِلَايَةٍ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِلْوَكِيلِ ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ لَمْ تَثْبُتْ الشَّرِكَةُ .
وَاسْتَشْكَلَ بِالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ وَبَعْدَهُ .
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ قَادِرًا بِاعْتِبَارٍ آخَرَ وَهُوَ شَغْلُ ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ لَوْلَا الْوَكَالَةُ فِيهَا تَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ أَنْ يَشْغَلَ ذِمَّتَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِمَا يُوجِبُ حَقًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إثْبَاتِهِ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَالْكَلَامُ فِي التَّوْكِيلِ بِخِلَافِهِ ، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ سَبَبَ مِلْكِ الْمُبَاحِ سَبْقَ الْيَدِ إلَيْهِ ، فَإِذَا وَكَّلَهُ بِهِ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ سَبَقَ مِلْكُهُ لَهُ مِلْكَ الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ قِيلَ عَلَيْهِ هَذَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِقَصْدِهِ لِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَلِمَ لَا يَكُونُ لِلْغَيْرِ ؟ يُجَابُ بِأَنَّ إطْلَاقَ نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ } لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ قَصْدٍ وَقَصْدٍ ( قَوْلُهُ فَإِنْ أَخَذَاهُ جَمِيعًا ) يَعْنِي ثُمَّ خَلَطَاهُ وَبَاعَاهُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى كَيْلِ أَوْ وَزْنِ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَزْنِيًّا وَلَا كَيْلِيًّا قُسِّمَ عَلَى قِيمَةِ مَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا كَانَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا صُدِّقَ كُلُّ وَاحِدٍ إلَى النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاكْتِسَابِ ، وَكَانَ الْمُكْتَسَبُ فِي أَيْدِيهِمَا ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ ( وَإِنْ أَخَذَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا فَهُوَ لِلْعَامِلِ ) لِوُجُودِ السَّبَبِ
مِنْهُ ( وَإِنْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا وَأَعَانَهُ الْآخَرُ بِأَنْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا ، وَجَمَعَهُ الْآخَرُ أَوْ قَلَعَهُ أَحَدُهُمَا وَجَمَعَهُ وَالْآخَرُ حَمَلَهُ فَلِلْمُعِينِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ ثَمَنِ ذَلِكَ ) وَقَوْلُهُ ( وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ) يَعْنِي كِتَابَ الشَّرِكَةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ وَجْهَ قَوْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ إذْ لَمْ يَدْرِ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ ، وَهَلْ يُصِيبَانِ شَيْئًا أَوْ لَا ، وَالرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَغْوٌ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ بِالنِّصْفِ لِلْجَهَالَةِ ، وَصَارَ مُسْتَوْفِيًا مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا لَمْ يُصِيبَا شَيْئًا ، وَفِيمَا إذَا أَصَابَا أَنَّهُ إنْ كَانَ أَجْرُ مِثْلِهِ أَكْثَرَ فَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَهُ مِنْ النِّصْفِ ، وَكَوْنُهُ مَجْهُولًا فِي الْحَالِ فَهِيَ حَالَةٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَإِنَّهُ عَلَى عَرَضِ أَنْ يَصِيرَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْجَمْعِ وَالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُصِيبَا شَيْئًا فَإِنَّ الْمُسَمَّى لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِجَهَالَتِهِ بِالتَّفَاحُشِ حَالًا وَمَآلًا فَحِينَئِذٍ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ .
وَقَوْلُهُ ( لَا يُجَاوَزُ بِهِ ) بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ .
وَقَوْلُهُ ( نِصْفُ ثَمَنِ ذَلِكَ ) بِالرَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ النَّائِبُ عَنْ الْفَاعِلِ .
[ فَرْعٌ ] لَهُمَا كَلْبٌ فَأَرْسَلَاهُ فَمَا أَصَابَ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا وَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا كَانَ مَا أَصَابَهُ لِمَالِكِهِ
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ فَالْكَسْبُ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ ، وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الرَّاوِيَةِ إنْ كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْبَغْلِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ الرَّاوِيَةِ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ ) أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ الْمَاءُ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ إذَا صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ وَهُوَ الْمُسْتَقِي ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْبَغْلُ أَوْ الرَّاوِيَةُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُهُ
( قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ رَاوِيَةٌ يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ وَمَا تَحَصَّلَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ ) اعْلَمْ أَنَّ الرَّاوِيَةَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْجَمَلُ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَرْوِيهِ ، وَيُقَالُ رَوَيْت لِلْقَوْمِ : إذَا سَقَيْت لَهُمْ ، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى قِيلَ لِلْمَزَادَةِ وَهِيَ الْجُلُودُ الثَّلَاثَةُ الْمَصْنُوعَةُ لِنَقْلِ الْمَاءِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا جَمَلٌ وَلِلْآخَرِ بَغْلٌ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ كُلًّا يُؤَجِّرُ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ فَمَا رُزِقَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ مَعْنَى هَذَا أَنَّ كُلًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ بِعْ مَنَافِعَ دَابَّتِك لِيَكُونَ ثَمَنُهُ بَيْنَنَا وَمَنَافِعَ دَابَّتِي عَلَى أَنَّ ثَمَنَهُ بَيْنَنَا ، وَلَوْ صَرَّحَا بِهَذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً ثُمَّ إنْ أَجَرَاهُمَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ قُسِّمَ الْأَجْرُ عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ وَمِثْلِ أَجْرِ الْجَمَلِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا فَسَدَتْ وَالْإِجَارَةُ صَحِيحَةٌ لِانْعِقَادِهَا عَلَى مَنَافِعَ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ كَانَ الْأَجْرُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا ، كَذَلِكَ كَمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْمَبِيعَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَتَقَبَّلَا الْحُمُولَاتِ الْمَعْلُومَةَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَمْ يُؤَاجِرْ الْبَغْلَ وَالْجَمَلَ كَانَتْ صَحِيحَةً لِأَنَّهَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ وَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ زِيَادَةُ حَمْلِ الْجَمَلِ عَلَى حَمْلِ الْبَغْلِ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ زِيَادَةُ عَمَلِ أَحَدِهِمَا كَصَبَّاغَيْنِ لِأَحَدِهِمَا آلَةُ الصَّبْغِ وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ يَعْمَلُ فِيهِ اشْتَرَكَا عَلَى تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ لِيَعْمَلَا بِتِلْكَ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ .
وَإِنْ أَجَّرَ الْبَعِيرَ أَوْ الْبَغْلَ بِعَيْنِهِ كَانَ كُلُّ الْأَجْرِ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ ، فَلَوْ أَعَانَهُ الْآخَرُ عَلَى التَّحْمِيلِ وَالنَّقْلِ كَانَ لَهُ
أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ نِصْفُ الْأَجْرِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَبَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَكَذَا لَوْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى رَجُلٍ لِيُؤَاجِرَهَا وَمَا أَطْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِمَالِكِ الدَّابَّةِ ، وَكَذَا فِي السَّفِينَةِ وَالْبَيْتِ لِمَا بَيَّنَّا ، إذْ تَقْدِيرُهُ أَنَّهُ قَالَ بِعْ مَنَافِعَ دَابَّتِي لِيَكُونَ الْأَجْرُ بَيْنَنَا ، ثُمَّ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ عَقَدَ الْعَقْدَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ بِأَمْرِهِ ، وَلِلْعَاقِدِ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَعْمَلَ مَجَّانًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً لِيَبِيعَ عَلَيْهَا طَعَامًا لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ فَاسِدَةٌ وَالرِّبْحَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ الدَّابَّةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا ، وَالرِّبْحُ لِلْعَامِلِ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ مَالِهِ .
وَعَلَى الثَّانِي أَنْ يَكُونَ لِهَذَا بَغْلٌ وَلِلْآخَرِ مَزَادَةٌ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَسْتَقِيَا الْمَاءَ فِيهَا عَلَى الْبَغْلِ فَالشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، وَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِلَّذِي اسْتَقَى ، وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الْمَزَادَةِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الْبَغْلِ ، وَأَجْرُ مِثْلِ الْبَغْلِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الْمَزَادَةِ .
وَجَمْعُ الْمَزَادَةِ مَزَادٌ وَمَزَايِدٌ .
( أَمَّا فَسَادُ الشَّرِكَةِ فَلِانْعِقَادِهَا عَلَى إحْرَازِ الْمُبَاحِ وَهُوَ ) نَقْلُ ( الْمَاءِ ) ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْأَجْرِ فَلِأَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ صَارَ مِلْكًا لِلْمُحْرِزِ ، وَهُوَ الْمُسْتَقِي وَقَدْ اسْتَوْفَى مَنَافِعَ مِلْكِ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ
( وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهِمَا عَلَى قَدْرِ الْمَالِ ، وَيَبْطُلُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ ) لِأَنَّ الرِّبْحَ فِيهِ تَابِعٌ لِلْمَالِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، كَمَا أَنَّ الرِّيعَ تَابِعٌ لِلْبَذْرِ فِي الزِّرَاعَةِ ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَقَدْ فَسَدَتْ فَبَقِيَ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ
( قَوْلُهُ وَكُلُّ شَرِكَةٍ فَاسِدَةٍ فَالرِّبْحُ فِيهَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ إلَخْ ) كَأَلْفٍ لِأَحَدِهِمَا مَعَ أَلْفَيْنِ لِلْآخَرِ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَإِنْ كَانَا شَرَطَا الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بَطَلَ ذَلِكَ الشَّرْطُ ، وَلَوْ كَانَ لِكُلٍّ مِثْلُ مَا لِلْآخَرِ وَشَرَطَا الرِّبْحَ أَثْلَاثًا بَطَلَ شَرْطُ التَّفَاضُلِ وَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا ( لِأَنَّ الرِّبْحَ فِي ) وُجُودِهِ ( تَابِعٌ لِلْمَالِ ) ، وَإِنَّمَا طَابَ عَلَى التَّفَاضُلِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ فَيَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ الْمُوَلَّدِ لَهُ ، وَنَظِيرُهُ الْبِزْرُ فِي الْمُزَارَعَةِ وَالرِّيعُ الزِّيَادَةُ
( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا لِتَتَحَقَّقَ الشَّرِكَةُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، وَكَذَا بِالِالْتِحَاقِ مُرْتَدًّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَمَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ ، وَإِذَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ عَزْلٌ قَصْدِيٌّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَوْ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ ) مُفَاوَضَةً كَانَتْ أَوْ عِنَانًا إذَا قَضَى بِلَحَاقِهِ عَلَى الْبَتَاتِ حَتَّى لَوْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ انْقَطَعَتْ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِلَحَاقِهِ فَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَطَعَتْ ، وَلَوْ لَمْ يَلْحَقْ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْبُطْلَانِ حَتَّى أَسْلَمَ عَادَتْ الْمُفَاوَضَةُ ، وَإِنْ مَاتَ بَطَلَتْ مِنْ وَقْتِ الرِّدَّةِ ، وَإِذَا انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ هَلْ تَصِيرُ عِنَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؟ لَا .
وَعِنْدَهُمَا تَبْقَى عِنَانًا ذَكَرَهُ الْوَلْوَالِجِيُّ .
وَإِنَّمَا بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِالْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ : أَيْ مَشْرُوطٌ ابْتِدَاؤُهَا وَبَقَاؤُهَا بِهَا ضَرُورَةً فَإِنَّهَا لَا يَتَحَقَّقُ ابْتِدَاؤُهَا إلَّا بِوِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا فِي مَالِ الْآخَرِ ، وَلَا تَبْقَى الْوِلَايَةُ إلَّا بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ انْدَفَعَ السُّؤَالُ الْقَائِلُ الْوَكَالَةُ تَثْبُتُ تَبَعًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِ التَّبَعِ بُطْلَانُ الْأَصْلِ وَبُطْلَانُهَا بِالِالْتِحَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فِي بَابِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ ، وَلَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ الْبُطْلَانِ بَيْنَ مَا إذَا عَلِمَ الشَّرِيكُ بِمَوْتِ شَرِيكِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِذَلِكَ حَتَّى لَا تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُ الْآخَرِ عَلَى الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَإِنَّ مِلْكَهُ يَتَحَوَّلُ شَرْعًا إلَى وَارِثِهِ عَلِمَ مَوْتَهُ أَوْ لَا فَلَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُهُ ، وَقَدْ نَفَّذَهُ الشَّرْعُ حَيْثُ نَقَلَ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ وَمَالُهَا دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ حَيْثُ يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ
قَصْدِيٌّ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ فَيُشْتَرَطُ عِلْمُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، وَتَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عُرُوضًا فَلَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا الرِّوَايَةُ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ إذَا نَهَى الْمُضَارِبَ عَنْ التَّصَرُّفِ ، فَإِنْ كَانَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ صَحَّ نَهْيُهُ غَيْرَ أَنَّهُ يَصْرِفُ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ الشَّرِكَةِ دَنَانِيرَ وَعَكْسُهُ فَقَطْ ، وَإِنْ كَانَ عُرُوضًا لَمْ يَصِحَّ فَجَعَلَ الطَّحَاوِيُّ الشَّرِكَةَ كَالْمُضَارَبَةِ فَقَالَ لَا تَنْفَسِخُ ، وَبَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالُوا : تَنْفَسِخُ الشَّرِكَةُ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ بِأَنَّ مَالَ الشَّرِكَةِ فِي أَيْدِيهِمَا مَعًا وَوِلَايَةُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِمَا جَمِيعًا فَيَمْلِكُ كُلٌّ نَهْيَ صَاحِبِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ نَقْدًا كَانَ أَوْ عَرَضًا ، بِخِلَافِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَمَا صَارَ عَرَضًا ثَبَتَ حَقُّ الْمُضَارِبِ فِيهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ رِبْحَهُ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ .
[ فُرُوعٌ ] إنْكَارُ الشَّرِكَةِ فَسْخٌ .
وَقَوْلُهُ لَا أَعْمَلُ فَسْخٌ ، حَتَّى لَوْ عَمِلَ الْآخَرُ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : قَالَ : أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ : أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ لِنَفْسِي فَسَكَتَ فَاشْتَرَاهَا لَا تَكُونُ لَهُ .
وَلَوْ قَالَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ فَسَكَتَ الْمُوَكِّلُ فَاشْتَرَاهَا تَكُونُ لَهُ .
ثُمَّ فَرَّقَ فَقَالَ إنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ إذَا عَلِمَ الْمُوَكِّلُ رَضِيَ أَمْ سَخِطَ ، بِخِلَافِ الشَّرِيكِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَمْلِكُ فَسْخَ الشَّرِكَةِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ ا هـ .
وَهَذَا غَلَطٌ ، وَقَدْ صَحَّحَ هُوَ انْفِرَادَ الشَّرِيكِ بِالْفَسْخِ وَالْمَالُ عُرُوضٌ وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ مَا ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ ، فَإِنَّ أَحَدَ
الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ مُوجَبِهَا إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ ، وَفِي الرِّضَا احْتِمَالٌ : يَعْنِي إذَا كَانَ سَاكِتًا ، وَالْمُرَادُ بِمُوجَبِهَا وُقُوعُ الْمُشْتَرَى عَلَى الِاخْتِصَاصِ .
وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي ثَلَاثَةٍ اشْتَرَكُوا شَرِكَةً صَحِيحَةً عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَخَرَجَ وَاحِدٌ إلَى نَاحِيَةٍ مِنْ النَّوَاحِي لِشَرِكَتِهِمْ فَشَارَكَ الْحَاضِرَانِ آخَرَ عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لَهُ وَالثُّلُثَيْنِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْحَاضِرَيْنِ وَثُلُثُهُ لِلْغَائِبِ فَعَمِلَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْمَالِ سِنِينَ مَعَ الْحَاضِرَيْنِ ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ فَاقْتَسَمُوا وَلَمْ يَزَلْ يَعْمَلُ مَعَهُمْ هَذَا الرَّابِعُ حَتَّى خَسِرَ الْمَالَ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ ، فَأَرَادَ الْغَائِبُ أَنْ يُضَمِّنَ شَرِيكَيْهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَعَمَلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ رِضًا بِالشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَخَصُّ مِنْ السُّكُوتِ الثَّابِتِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَمَلِ .
( فَصْلٌ ) وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ مَالِ الْآخَرِ إلَّا بِإِذْنِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ ، فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ .
فَإِنْ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالثَّانِي ضَامِنٌ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْأَوَّلِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ .
وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ ، أَمَّا إذَا أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ .
وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى الْفَقِيرِ بَعْدَمَا أَدَّى الْآمِرُ بِنَفْسِهِ .
لَهُمَا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَا يَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ التَّمْلِيكَ لَا وُقُوعَهُ زَكَاةً لِتَعَلُّقِهِ بِنِيَّةِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ كَالْمَأْمُورِ بِذَبْحِ دَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ بَعْدَمَا زَالَ الْإِحْصَارُ وَحَجَّ الْآمِرُ لَمْ يَضْمَنْ الْمَأْمُورُ عَلِمَ أَوْ لَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَمْرِ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عَنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ الضَّرَرَ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَصَلَ بِأَدَائِهِ وَعَرَّى أَدَاءَ الْمَأْمُورِ عَنْهُ فَصَارَ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ .
وَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ فَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ دُونَ دَمِ الْإِحْصَارِ .
( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ أَحْكَامُ هَذَا الْفَصْلِ بَعِيدَةً عَنْ الشَّرِكَةِ إذْ لَيْسَتْ مِنْ أُمُورِ التِّجَارَةِ وَالِاسْتِرْبَاحِ أَفْرَدَهَا بِفَصْلٍ وَأَخَّرَهُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا أَذِنَ كُلٌّ أَنْ يُؤَدِّيَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ فَحَالَ فَأَدَّى ) وَقَدْ أَدَّى الْآذِنُ الْمَالِكَ ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ مَا أَدَّاهُ ( عَلِمَ بِالْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِأَدَائِهِ ، هَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَبْسُوطِ .
وَنَقَلَ الْوَلْوَالِجِيُّ أَنَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَهُمَا وَإِنْ عَلِمَ بِأَدَاءِ الْمَالِكِ ، وَنَصَّ فِي زِيَادَاتِ الْعَتَّابِيِّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ عَلِمَ بِأَدَائِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ قَالَ : وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُمَا .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ لِيُكَفِّرَ عَنْهُ فَكَفَّرَ الْآمِرُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ كَفَّرَ الْمَأْمُورُ ( وَعَلَى هَذَا الْمَأْمُورُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ ) وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا أَدَّيَا عَلَى التَّعَاقُبِ ، فَإِنْ أَدَّيَا مَعًا ضَمِنَ كُلٌّ نَصِيبَ الْآخَرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَزِيَادَاتِ الْعَتَّابِيِّ وَعَلَّلَ فِيمَا نَقَلَ عَنْ الْمَبْسُوطِ بِأَنَّ زَكَاةَ كُلٍّ مِنْهُمَا تَقَعُ بِمَا أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ وَأَدَاؤُهُ بِنَفْسِهِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ تَسْلِيمٍ أَنَّ أَدَاءَهُ يَتَضَمَّنُ عَزْلَ الْوَكِيلِ وَهُوَ لَا يَنْعَزِلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ فِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا فِي خِلَافِيَّةِ الْكِتَابِ أَنَّهُ أَدَّاهُ بِالْأَمْرِ وَلَا ضَمَانَ مَعَ الْأَمْرِ .
وَلَا يُقَالُ : إنَّمَا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ مَا هُوَ زَكَاةٌ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَيْسَ هَذَا مِنْ وُسْعِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَهُ زَكَاةً يَتَعَلَّقُ بِأَمْرٍ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ كَنِيَّتِهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا فِي وُسْعِهِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا الْأَدَاءُ ، وَلِهَذَا لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ لِيَقْضِيَ بِهَا دَيْنًا
عَلَيْهِ ثُمَّ أَدَّى الدَّافِعُ الدَّيْنَ لَا يَضْمَنُ إذَا دَفَعَ وَلَمْ يَعْلَمْ ، وَصَارَ أَيْضًا كَدَمِ الْإِحْصَارِ إذَا ذَبَحَ الْمَأْمُورُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ .
( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالْمُؤَدَّى ) بَعْدَ أَدَائِهِ ( لَمْ يَقَعْ زَكَاةً فَصَارَ مُخَالِفًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ الضَّرَرَ ) بِتَنْقِيصِ الْمَالِ إلَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ الدِّينِيِّ ، وَقَدْ خَلَا أَدَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ ( فَصَارَ بِأَدَائِهِ مَعْزُولًا عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ ) لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ بِالْمَوْتِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَأَمَّا مَا الْتَزَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ فَقِيلَ يَمْنَعُ تَسْلِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَوَابَ فِيهِمَا ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ عَلَى الِاتِّفَاقِ .
وَالْفَرْقُ ( أَنَّ الدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْآمِرِ الْمُحْصَرِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَزُولَ الْإِحْصَارُ ) أَدْرَكَ الْحَجَّ أَوْ لَمْ يُدْرِكْهُ ، وَيَفْعَلُ أَفْعَالَ فَائِتِ الْحَجِّ ( وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْأَدَاءُ وَاجِبٌ فَاعْتُبِرَ الْإِسْقَاطُ مَقْصُودًا فِيهِ ) ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الدَّيْنِ : فَالْفَرْقُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِ مَضْمُونٍ عَلَى الْآخِذِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ دَائِنَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بَلْ دَفْعُ مَالٍ مَضْمُونٍ عَلَى الْقَابِضِ ثُمَّ يَصِيرُ الضَّمَانُ بِالضَّمَانِ قِصَاصًا ، وَقَدْ وَقَعَ وَلَمْ يَفُتْ لِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْقَضَاءِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ إيقَاعُهُ زَكَاةً فَكَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ دَفَعَهُ إلَى الْمَصْرِفِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَكَوْنُهُ عَزْلًا حُكْمِيًّا لَهُمَا أَنْ يَمْنَعَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى كَوْنِ الْأَمْرِ صَحَّ بِدَفْعِهِ مُقَيَّدًا بِوُقُوعِهِ زَكَاةً وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَمَّا أَمَرَهُ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ كَانَ نَاوِيًا لَهَا ، فَلَوْ بَادَرَ إلَى الْأَدَاءِ وَقَعَ الْمَأْمُورُ بِهِ ، فَلَمَّا أَخَّرَ حَتَّى أَدَّى
الْآمِرُ كَانَ بِتَأْخِيرِهِ مُتَسَبِّبًا لِوُقُوعِهَا غَيْرَ زَكَاةٍ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ
قَالَ ( وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَيَطَأَهَا فَفَعَلَ فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ بِنَصِيبِهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ( وَهَذَا ) لِأَنَّ الْمِلْكَ وَاقِعٌ لَهُ خَاصَّةً وَالثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ .
وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ إذْ هُمَا لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَأَشْبَهَ حَالَ عَدَمِ الْإِذْنِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيْعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ فَأَثْبَتْنَاهُ بِالْهِبَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْإِذْنِ ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْهَا لِلضَّرُورَةِ فَيَقَعُ الْمِلْكُ لَهُ خَاصَّةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ .
وَفِي مَسْأَلَتِنَا قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا ( وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَضَمَّنَتْ الْكَفَالَةَ فَصَارَ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَذِنَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِلْآخَرِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً وَيَطَأَهَا فَفَعَلَ ) وَأَدَّى جَمِيعَ ثَمَنِهَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ( فَهِيَ لَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَرْجِعُ عَلَيْهِ ) شَرِيكُهُ ( بِنِصْفِ ) مَا أَدَّى ( لِأَنَّهُ أَدَّى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَهُ خَاصَّةً كَطَعَامِ أَهْلِهِ ( وَلَهُ أَنَّ الْجَارِيَةَ دَخَلَتْ فِي الشِّرَاءِ عَلَى الشَّرِكَةِ ) جَرْيًا عَلَى مُوجَبِ الْمُفَاوَضَةِ ( إذْ لَا يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَهُ فَكَانَ كَحَالِ عَدَمِ الْإِذْنِ ) ثُمَّ ( الْإِذْنُ ) لَهُ بِالْوَطْءِ ( يَتَضَمَّنُ هِبَةَ نَصِيبِهِ مِنْهُ ) إذْ ( لَا يَحِلُّ إلَّا فِي مِلْكٍ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيْعِ ) الصَّادِرِ مِنْ الْبَائِعِ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ( لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ عَدَمِ مِلْكِهِمَا تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَلَا مِنْ الشَّرِيكِ لِعَدَمِ تَعْيِينِ الثَّمَنِ فَكَانَ هِبَةً وَإِنْ كَانَ شَائِعًا .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ الْمِلْكُ حُكْمًا لِلْإِحْلَالِ لَكَانَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ أَحْلَلْت لَك وَطْءَ هَذِهِ الْأَمَةِ تَمْلِيكًا لَهَا مِنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
وَأُجِيبُ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ أَقْبَلُ لِتَمَلُّكِ الشَّرِيكِ لَهَا مِنْ الْجَارِيَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ الْمُخَاطَبُ بِالْإِحْلَالِ شِقْصًا مِنْهَا ، وَلِذَا كَانَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَادِ دُونَ الْأَجْنَبِيِّ ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ كَالْأَبِ وَالْجَدِّ فَالرِّوَايَةُ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ فِي تَمَلُّكِ الْجَارِيَةِ بِالْإِحْلَالِ .
كِتَابُ الْوَقْفِ مُنَاسَبَتُهُ بِالشَّرِكَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يُرَادُ لِاسْتِبْقَاءِ الْأَصْلِ مَعَ الِانْتِفَاعِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرِكَةِ مُسْتَبْقًى فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ ، وَفِي الْوَقْفِ مَخْرَجٌ عَنْهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَمَحَاسِنُ الْوَقْفِ ظَاهِرَةٌ وَهِيَ الِانْتِفَاعُ الدَّارُّ الْبَاقِي عَلَى طَبَقَاتِ الْمَحْبُوبِينَ مِنْ الذُّرِّيَّةِ وَالْمُحْتَاجِينَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَالْمَوْتَى لِمَا فِيهِ مِنْ إدَامَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ } الْحَدِيثَ ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرِهِ لُغَةً وَشَرْعًا ، وَبَيَانِ سَبَبِهِ وَشَرْطِهِ وَرُكْنِهِ وَحُكْمِهِ ، أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً فَالْحَبْسُ مَصْدَرُ وَقَفْت أَقِفُ حَبَسْت ، قَالَ عَنْتَرَةُ : وَوَقَفْت فِيهَا نَاقَتِي فَكَأَنَّهَا فَدَنٌ لِأَقْضِيَ حَاجَةَ الْمُتَلَوِّمِ وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى فَعَلْتُهُ فَفَعَلَ يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى ، وَيَجْتَمِعَانِ فِي قَوْلِك وَقَفْت زَيْدًا أَوْ الْحِمَارَ فَوَقَفَ ، وَأَمَّا أَوْقَفْته بِالْهَمْزِ فَلُغَةٌ رَدِيئَةٌ .
وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنِّي : أَخْبَرَنِي أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْمَازِنِيِّ قَالَ : يُقَالُ وَقَفْت دَارِي وَأَرْضِي وَلَا يُعْرَفُ أَوْقَفْت مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ ، ثُمَّ اُشْتُهِرَ الْمَصْدَرُ : أَعْنِي الْوَقْفَ فِي الْمَوْقُوفِ .
فَقِيلَ هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ ، فَلِذَا جُمِعَ عَلَى أَفْعَالٍ فَقِيلَ وَقْفٌ وَأَوْقَافٌ كَوَقْتِ وَأَوْقَاتٍ .
وَأَمَّا شَرْعًا : فَحَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِمَنْفَعَتِهَا أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا عَلَى مَنْ أَحَبَّ وَعِنْدَهُمَا حَبْسُهَا لَا عَلَى مِلْكِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ .
وَقَدْ انْتَظَمَ هَذَا بَيَانَ حُكْمِهِ وَسَيَأْتِي تَمَامُهُ فَلَا حَاجَةَ لِإِفْرَادِهِ هُنَا أَيْضًا .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : أَوْ صَرْفُ مَنْفَعَتِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ يَصِحُّ لِمَنْ يُحِبُّ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا قَصْدِ الْقُرْبَةِ