كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
بَابُ مَنْ يُكَاتِبُ عَنْ الْعَبْدِ قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْحُرُّ عَنْ عَبْدٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ أَدَّى عَنْهُ عَتَقَ ، وَإِنْ بَلَغَ الْعَبْدُ فَقَبِلَ فَهُوَ مُكَاتَبٌ ) وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْحُرُّ لِمَوْلَى الْعَبْدِ كَاتِبْ عَبْدَك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَكَاتَبَهُ الْمَوْلَى عَلَى هَذَا يُعْتَقُ بِأَدَائِهِ بِحُكْمِ الشَّرْطِ ، وَإِذَا قَبِلَ الْعَبْدُ صَارَ مُكَاتَبًا ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ مَوْقُوفَةٌ عَلَى إجَارَتِهِ وَقَبُولُهُ إجَازَةٌ ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى أَنِّي إنْ أَدَّيْت إلَيْك أَلْفًا فَهُوَ حُرٌّ فَأَدَّى لَا يُعْتَقُ قِيَاسًا لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ وَالْعَقْدُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْعَبْدِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعْتَقُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ لِلْعَبْدِ الْغَائِبِ فِي تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْقَائِلِ فَيَصِحُّ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ لُزُومِ الْأَلْفِ عَلَى الْعَبْدِ .
وَقِيلَ هَذِهِ هِيَ صُورَةُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ( وَلَوْ أَدَّى الْحُرُّ الْبَدَلَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ .
( بَابُ مِنْ يُكَاتَبُ عَنْ الْعَبْدِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْأَصْلِ فِي الْكِتَابَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالنَّائِبِ فِيهَا ، وَقَدَّمَ أَحْكَامَ الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَصَرُّفِ الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَبْدٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ وَهُوَ غَائِبٌ ، فَإِنْ أَدَّى الشَّاهِدُ أَوْ الْغَائِبُ عَتَقَا ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كَاتِبْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ ، وَهَذِهِ كِتَابَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ : يَصِحُّ عَلَى نَفْسِهِ لِوِلَايَتِهِ عَلَيْهَا وَيُتَوَقَّفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَاضِرَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً جَعَلَ نَفْسَهُ فِيهِ أَصْلًا وَالْغَائِبُ تَبَعًا ، وَالْكِتَابَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَشْرُوعَةٌ كَالْأَمَةِ إذَا كُوتِبَتْ دَخَلَ أَوْلَادُهَا فِي كِتَابَتِهَا تَبَعًا حَتَّى عَتَقُوا بِأَدَائِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ وَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَنْفَرِدُ بِهِ الْحَاضِرُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا فِيهِ ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ الْبَدَلِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ تَبَعٌ فِيهِ .
قَالَ ( وَأَيُّهُمَا أَدَّى عَتَقَا وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ ) أَمَّا الْحَاضِرُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْغَائِبُ فَلِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَدَلُ عَلَيْهِ وَصَارَ كَمُعِيرِ الرَّهْنِ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ يُجْبَرُ الْمُرْتَهِنُ عَلَى الْقَبُولِ لِحَاجَتِهِ إلَى اسْتِخْلَاصِ عَيْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَأَيُّهُمَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ ) لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْغَائِبُ مُتَبَرِّعٌ بِهِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إلَيْهِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْغَائِبَ بِشَيْءٍ ) لِمَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ قَبِلَ الْعَبْدُ الْغَائِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِشَيْءٍ ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ لِلشَّاهِدِ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَافِذَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْغَائِبِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِقَبُولِهِ ، كَمَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَبَلَغَهُ فَأَجَازَهُ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ ،
حَتَّى لَوْ أَدَّى لَا يُرْجَعُ عَلَيْهِ ، كَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَتْ الْأَمَةُ عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ ابْنَيْنِ لَهَا صَغِيرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَأَيُّهُمْ أَدَّى لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ وَيُجْبَرُ الْمَوْلَى عَلَى الْقَبُولِ وَيُعْتَقُونَ ) لِأَنَّهَا جَعَلَتْ نَفْسَهَا أَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ وَأَوْلَادَهَا تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ .
( قَوْلُهُ وَهِيَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ) يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ، فَلَأَنْ يَجُوزَ فِي حَقِّ وَلَدِهَا أَوْلَى لِأَنَّ وَلَدَهَا أَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ : وَأَقُولُ لَعَلَّهُ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هَاهُنَا قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لَهَا ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ وَأَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ ا هـ .
وَأَنَا أَقُولُ : أَرَى أَنَّ الْحَقَّ خِلَافُهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ الْجَوَازِ هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَبَعْضٌ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هَاهُنَا عَلَى وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إنْ أَرَادَ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ هَاهُنَا كَوْنَ الْوَلَدِ تَابِعًا لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لَهَا ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ مُطْلَقًا إنَّمَا تَكُونُ فِي الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ وَالْوَلَدِ الَّذِي اشْتَرَتْهُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ لَا فِي الْوَلَدِ الَّذِي وَلَدَتْهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِمَسَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ خَبَرًا .
وَلَا شَكَّ أَنَّ وَضْعَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فِي كِتَابَةِ الْأَمَةِ عَنْ نَفْسِهَا وَعَنْ ابْنَيْنِ لَهَا مَوْلُودَيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَاهُنَا التَّبَعِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ ، وَأَمَّا التَّبَعِيَّةُ الْحَاصِلَةُ بِالضَّمِّ إلَيْهَا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَمِثْلُ هَذِهِ التَّبَعِيَّةِ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِلَا تَفَاوُتٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ .
وَقَالَ هَاهُنَا لِأَنَّهَا
جُعِلَتْ نَفْسُهَا أَصْلًا فِي الْكِتَابَةِ وَأَوْلَادُهَا تَبَعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ا هـ مَعَ أَنَّ ثُبُوتَ الْجَوَازِ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِوَجْهِ الْقِيَاسِ هَاهُنَا ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى أَوْلَادِهَا كَثُبُوتِهَا عَلَى نَفْسِهَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا قَاطِبَةً بِأَنَّ الْأُمَّ الْحُرَّةَ لَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى أَوْلَادِهَا فَكَيْفَ بِالْأَمَةِ ، وَقَالُوا : هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَمَةِ .
إذْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْعَبْدِ لَرُبَّمَا تُوُهِّمَ أَنَّ الْجَوَازَ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْأَبِ عَلَيْهِمَا فَلَا يُعْلَمُ تَسَاوِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَنْ يُكَاتِبَ نَصِيبَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَيَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَاتَبَ وَقَبَضَ بَعْضَ الْأَلْفِ ثُمَّ عَجَزَ فَالْمَالُ لِلَّذِي قَبَضَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ مُكَاتَبٌ بَيْنَهُمَا وَمَا أَدَّى فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ، لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ لِلتَّجَزُّؤِ ، وَفَائِدَةُ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا يَكُونُ لَهُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ ، وَإِذْنُهُ لَهُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ إذْنٌ لِلْعَبْدِ بِالْأَدَاءِ فَيَكُونُ مُتَبَرِّعًا بِنَصِيبِهِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ كُلُّ الْمَقْبُوضِ لَهُ .
وَعِنْدَهُمَا الْإِذْنُ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ إذْنٌ بِكِتَابَةِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ ، فَهُوَ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ وَكِيلٌ فِي النِّصْفِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ .
بَابُ كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ كِتَابَةِ عَبْدٍ غَيْرِ مُشْتَرَكٍ شَرَعَ فِي كِتَابَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ : ذَكَرَ كِتَابَةَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ كِتَابَةِ الْوَاحِدِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْوَاحِدِ .
أَقُولُ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ ، لِأَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِي لَا يَتَمَشَّى فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ) قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ وَهِيَ أَوْلَى ا هـ .
أَقُولُ : وَجْهُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَعُمُّ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَمَا إذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَوْ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ ، وَلَفْظُ شَرِيكَيْنِ يَنْتَظِمُ الْكُلَّ .
إمَّا بِجَعْلِ الشَّرِيكِ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ شَرِكَهُ فِي كَذَا فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَشَارِكَيْنِ فِي أَمْرٍ شَارِكٌ فِيهِ وَمَشْرُوكٌ وَالْفَعِيلُ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ ، أَوْ بِصَيْرُورَةِ لَفْظِ الشَّرِيكِ مِنْ عِدَادِ الْأَسْمَاءِ الْجَامِدَةِ كَمَا قَالُوا فِي لَفْظِ التَّابِعِ وَنَحْوِهِ حَتَّى جَعَلُوا التَّوَابِعَ جَمْعَ تَابِعٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَيَتَنَاوَلُ الْمُذَكَّرَ وَالْمُؤَنَّثَ عَلَى السَّوِيَّةِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَمَّا أَخَذَ بِنُسْخَةِ : بَيْنَ شَرِيكَيْنِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ : وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَسَّرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ شَرِيكَيْنِ بِرَجُلَيْنِ حَيْثُ قَالَ : أَيْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ .
أَقُولُ : هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَتَخْصِيصُ لَفْظٍ يَتَحَمَّلُ الْعُمُومَ لِلرَّجُلَيْنِ وَغَيْرِهِمَا بِالرَّجُلَيْنِ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ هَاهُنَا أَصْلًا ، وَلَوْ فَسَّرَ لَفْظَ
رَجُلَيْنِ فِي نُسْخَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِالشَّرِيكَيْنِ مُطْلَقًا تَغْلِيبًا لِلذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ وَجِيهٌ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ إيَّاهُ فَكَيْفَ بِالْعَكْسِ ( قَوْلُهُ وَأَصْلُهُ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ لِلتَّجَزُّؤِ .
وَفَائِدَةُ الْإِذْنِ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ كَمَا يَكُونُ لَهُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا كَالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ وَجْهٍ فَتَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ عِنْدَهُ ، وَالْإِذْنُ لَا يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَائِدَتُهُ انْتِفَاءَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ الْفَسْخِ إنْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ا هـ كَلَامُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَالْإِذْنُ لَا يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ : أَيْ عَلَى مَذْهَبِهِمَا ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُفِيدُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمَا قَطْعًا ؛ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِهِمَا فِي تَعْلِيلِ مَذْهَبِهِمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِكِتَابَةِ نَصِيبِهِ إذْنٌ بِكِتَابَةِ الْكُلِّ لِعَدَمِ التَّجَزُّؤِ فَهُوَ أَصِيلٌ فِي النِّصْفِ وَكِيلٌ فِي النِّصْفِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَالْمَقْبُوضُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ ا هـ .
وَلَعَلَّ قَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا وَقَعَ سَهْوًا مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ وَكَانَ الصَّحِيحُ عَلَى مَذْهَبِهِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ دَلِيلَيْ الطَّرَفَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالتَّمَامِ قَالَ : وَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَالَ إلَى قَوْلِهِمَا حَيْثُ أَخَّرَهُ ا هـ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ كَلَامٌ ، لِأَنَّهُ يَأْبَى عَنْهُ تَرْجِيحُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ا هـ .
أَقُولُ : الَّذِي مَرَّ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مَسْأَلَةُ
الْعَتَاقِ وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا مَسْأَلَةُ الْكِتَابَةِ وَاسْتِلْزَامُ تَرْجِيحِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ تَرْجِيحَهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ مَمْنُوعٌ ، سِيَّمَا إذَا كَانَتْ كِتَابَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ الْآخَرِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الْإِبَاءُ ، وَلَئِنْ سَلِمَ الِاسْتِلْزَامُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ فِي كِلْتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ هُوَ التَّجَزُّؤُ وَعَدَمُهُ فَتَرْجِيحُ قَوْلِهِ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ بِالتَّصْرِيحِ بِهِ ، بَلْ إنَّمَا فُهِمَ مِنْ تَأْخِيرِ دَلِيلِهِ فِي الْبَيَانِ ، وَقَدْ عُكِسَ الْأَمْرُ هَاهُنَا ، فَفُهِمَ مِنْهُ تَرْجِيحُ قَوْلِهِمَا لَا مَحَالَةَ ، وَلَمَّا وَقَعَ التَّدَافُعُ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ حَمَلْنَا الثَّانِيَ عَلَى الرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ كَمَا هُوَ الْمَخْلَصُ فِي أَمْثَالِ هَذَا فَلَا مَحْذُورَ تَدَبَّرْ
قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا فَوَطِئَهَا أَحَدُهُمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثُمَّ عَجَزَتْ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا وَصَارَ نَصِيبُهُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَتَقْتَصِرُ أُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ عَلَى نَصِيبِهِ كَمَا فِي الْمُدَبَّرَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَإِذَا ادَّعَى الثَّانِي وَلَدَهَا الْأَخِيرَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ ظَاهِرًا ، ثُمَّ إذَا عَجَزَتْ بَعْدَ ذَلِكَ جُعِلَتْ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كُلَّهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ مِنْ الِانْتِقَالِ وَوَطْؤُهُ سَابِقٌ ( وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ لَمَّا اسْتَكْمَلَ الِاسْتِيلَادَ ( وَنِصْفَ عُقْرِهَا ) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ( وَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ كَمَالَ عُقْرِهَا وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ابْنَهُ ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ ، لِأَنَّهُ حِينَ وَطِئَهَا كَانَ مِلْكُهُ قَائِمًا ظَاهِرًا .
وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا عُرِفَ لَكِنَّهُ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ حَقِيقَةً فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الْعُقْرِ ( وَأَيُّهُمَا دَفَعَ الْعُقْرَ إلَى الْمُكَاتَبَةِ جَازَ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً فَحَقُّ الْقَبْضِ لَهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِمَنَافِعِهَا وَأَبْدَالِهَا ، وَإِذَا عَجَزَتْ تَرُدُّ الْعُقْرَ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ ( وَهَذَا ) الَّذِي ذَكَرْنَا ( كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : هِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ وَلَا يَجُوزُ وَطْءُ الْآخَرِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى الْأَوَّلُ الْوَلَدَ صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ يَجِبُ تَكْمِيلُهَا بِالْإِجْمَاعِ مَا أَمْكَنَ ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفَسْخِ فَتُفْسَخُ فِيمَا لَا
تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ ، وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ فِي تَجْوِيزِهِ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ إذْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْضَى بِبَقَائِهِ مُكَاتِبًا .
وَإِذَا صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَالثَّانِي وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ الْغَيْرِ ( فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ حُرًّا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ) غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ ( وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْعُقْرِ ) لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَعْرَى عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ ، وَإِذَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَصَارَتْ كُلُّهَا مُكَاتَبَةً لَهُ ، قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهَا نِصْفُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِيمَا لَا تَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ وَلَا تَتَضَرَّرُ بِسُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ .
وَقِيلَ يَجِبُ كُلُّ الْبَدَلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَمْ تَنْفَسِخْ إلَّا فِي حَقِّ التَّمَلُّكِ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ سُقُوطِ نِصْفِ الْبَدَلِ وَفِي إبْقَائِهِ فِي حَقِّهِ نَظَرٌ لِلْمَوْلَى وَإِنْ كَانَ لَا تَتَضَرَّرُ الْمُكَاتَبَةُ بِسُقُوطِهِ ، وَالْمُكَاتَبَةُ هِيَ الَّتِي تُعْطِي الْعُقْرَ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَبْدَالِ مَنَافِعِهَا .
وَلَوْ عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تَرُدُّ إلَى الْمَوْلَى لِظُهُورِ اخْتِصَاصِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَالَ ( وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَيَضْمَنُهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ ( وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ ، وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ فَلِتَرَدُّدِهِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الثَّانِي لَمْ يَطَأْهَا وَلَكِنْ دَبَّرَهَا ثُمَّ عَجَزَتْ بَطَلَ التَّدْبِيرُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يُصَادِفْ الْمِلْكَ .
أَمَّا
عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ تَمَلَّكَهَا قَبْلَ الْعَجْزِ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَهُ مِنْ وَقْتِ الْوَطْءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُصَادِفُ مِلْكِ غَيْرِهِ وَالتَّدْبِيرُ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ الْغُرُورَ عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِلْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَكَمَّلَ الِاسْتِيلَادَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا ) لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً ( وَنِصْفَ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نِصْفَهَا بِالِاسْتِيلَادِ وَهُوَ تَمَلَّكَ بِالْقِيمَةِ ( وَالْوَلَدُ وَلَدُ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِقِيَامِ الْمُصَحِّحِ ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا .
وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا .
( قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ شَرِيكُهُ كَمَالَ الْعُقْرِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ ) قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ شَرِيكُهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ حُكْمَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ أُمِّهِ ، وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَهُ فَكَذَا لِابْنِهَا .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْوَلَدِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ ذَاكَ السُّؤَالِ : وَهَذَا الْجَوَابُ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَقُولُ : يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي بِقَوْلِهِ وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يُنَافِي هَذَا الْجَوَابَ قَطْعًا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقِيلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ رِوَايَتَانِ ، فَيَكُونُ الْوَلَدُ مُتَقَوِّمًا عَلَى إحْدَاهُمَا فَكَانَ حُرًّا بِالْقِيمَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا أَسْلَفَهُ الشَّارِحُ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ فَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَا تَقَوُّمَ لِمَالِيَّتِهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا ضَيْرَ فِي مُخَالَفَةِ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي لِمَا أَسْلَفَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ أَسْلَفَهُ هُنَاكَ تَبَعًا لِصَاحِبِ النِّهَايَةِ إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ هُنَاكَ بِتَحَقُّقِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَقَوُّمِ أُمِّ الْوَلَدِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ مَاتَتْ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : عَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ انْتَهَى .
وَالْمُجِيبُ بِهَذَا الْجَوَابِ الثَّانِي إنَّمَا هُوَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَهُمَا لَمْ يَذْكُرَا فِي بَابِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ عَدَمَ تَحَقُّقِ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَلَيْسَ بِمُجِيبٍ بِهَذَا الْجَوَابِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ بَلْ هُوَ نَاقِلٌ مَحْضٌ فَلَا يُنَافِي مَا اخْتَارَهُ هُنَاكَ ( قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إلَخْ ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ هَلَّا قُلْتُمْ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ ضَمَانًا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فِيمَا إذَا بِيعَ الْمُكَاتَبُ كَمَا قُلْتُمْ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ ضَمَانًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ؟ وَوَجْهُ الْجَوَابِ أَنَّ فِي تَجَوُّزِ الْبَيْعِ إبْطَالَ الْكِتَابَةِ ، إذْ الْمُشْتَرِي لَا يَرْضَى بِبَقَائِهِ مُكَاتَبًا ، وَلَوْ أَبْطَلْنَاهَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُكَاتَبُ ، وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُكَاتَبُ لَا يَصِحُّ ، هَذَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي حَمْلِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ بِكَلَامِهِ هَذَا عَلَيْهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ صَرَاحَةً فِي الْكَافِي بِفَإِنْ قِيلَ .
قُلْنَا : ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا بِقِيلِ قَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِيمَا وَرَاءَهُ فَإِنَّ الْبَيْعَ مَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَضَرَّرُ بِهِ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ كَمَا كَانَتْ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ ذَوْقٌ صَحِيحٌ مَا فِيهِ مِنْ الرَّكَاكَةِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلْيُتَفَكَّرْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابٌ عِنْدِي عَنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَةَ نَقْلَ الْمُكَاتَبَةِ الْمَفْرُوضَةِ مِنْ مِلْكِ الثَّانِي إلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ عَلَى بَيْعِهَا .
وَوَجْهُهُ أَنَّ فِي النَّقْلِ لَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ مُطْلَقًا كَمَا فَصَّلَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْقِيَاسَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَمْ يَقَعْ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَطُّ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا جَوَابًا عَنْ ذَاكَ ( قَوْلُهُ وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً ، إلَى قَوْلِهِ :
فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : إذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نُصِيبَهُ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ ، فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ .
قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ : لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ دِرْهَمٌ يَكُونُ حِصَّتُهُ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ تَمَلَّكَهَا أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيلَادِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ جَمِيعُ بَدَلِ نَصِيبِهِ مِنْ هَذِهِ الرَّقَبَةِ إلَّا نِصْفَ دِرْهَمٍ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأَقَلَّ ، هَذَا قَوْلُهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ ، وَالْوَجْهُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ فَاسِدٌ وَتَحْرِيرٌ مُخْتَلٌّ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلَانِ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُكَاتَبًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا خَبْطٌ فَاحِشٌ ، إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْهِدَايَةِ
نَفْسِهَا فِيمَا سَيَأْتِي بَعْدَ نِصْفِ صَفْحَةٍ بِأَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُضَمِّنَ السَّاكِتُ الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
وَمِنْ الْعَجَائِبِ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وَهُوَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، إذْ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ ضَمَانَ الْإِعْتَاقِ ضَمَانُ إفْسَادِ التَّمَلُّكِ لَا ضَمَانُ التَّمَلُّكِ ، أَوْ لَمْ يَرَ قَوْلَ صَاحِبِ الْكِفَايَةِ بِصَدَدِ شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا أَوَّلًا كَانَ هَذَا ضَمَانَ إفْسَادِ الْمِلْكِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ هَذَا قَوْلُهُمَا فِي الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلُ بِأَسْرِهِ كَانَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مَعَ أَنَّ مَا نَقَلَهُ عَنْ صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِيمَا قَبْلُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبَةِ الْمُشْتَرَكَةِ إذَا تَمَلَّكَهَا أَحَدُهُمَا بِالِاسْتِيلَادِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ صَرَفَ الْقِيَاسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا إلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَعًا حَيْثُ قَالَ : وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ قَوْلُهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ الْأَوَّلُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الْأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ انْتَهَى .
مَعَ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَا سَيَأْتِي صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي يُوسُفَ هُنَاكَ فِي أَنْ يَضْمَنَ السَّاكِتُ الْمُعْتِقُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إذَا كَانَ مُوسِرًا دُونَ الْأَقَلِّ مِنْهَا وَمِنْ نِصْفِ
مَا بَقِيَ مِنْ الْبَدَلِ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ فِي مَسْأَلَةِ إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْمُكَاتَبَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا إحْدَاهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي ، وَالْأُخْرَى مَا يُوَافِقُهُ قِيَاسُ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَادِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ كَالْكَافِي وَالْبَدَائِعِ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى وَهِيَ ضَمَانُ الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ نِصْفِ مَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، لَكِنَّ كَلَامَنَا فِي عَدَمِ مُسَاعِدَةِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَفْسِهِ لِصَرْفِ الْقِيَاسِ الَّذِي أَقْحَمَهُ فِي لَفْظِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَاهُنَا إلَى قَوْلِهِمَا مَعًا .
ثُمَّ أَقُولُ : الْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الْإِعْتَاقِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيهِ فَعَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ : يُرْشِدُكَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى قَطْعًا أُسْلُوبُ تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِزِيَادَةِ لَفْظِ قِيَاسٍ فِي الْأَوَّلِ وَحَذْفِهِ فِي الثَّانِي تَدَبَّرْ تَرْشُدْ ( قَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَعَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَهَاهُنَا مَا بَقِيَتْ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْلَدَهَا الْأَوَّلُ مَلَكَ نِصْفَ شَرِيكِهِ وَلَمْ يَبْقَ مِلْكٌ لِلْمُدَبَّرِ فِيهَا فَلَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِيهِ : أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ الْفَرْقُ بِأَنَّ وَجْهَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَنِصْفِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِيمَا إذَا بَقِيَتْ
الْكِتَابَةُ وَهُوَ أَنَّ حَقَّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ عَلَى اعْتِبَارِ الْعَجْزِ وَفِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ فَلِلتَّرَدُّدِ بَيْنَهُمَا يَجِبُ أَقَلُّهُمَا .
وَهَذَا الْوَجْهُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِيمَا إذَا لَمْ يُبْقِ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ كَوْنَ حَقِّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الْبَدَلِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأَدَاءِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ ، وَأَمَّا بَعْدَ زَوَالِهَا فَيَصِيرُ مَا أَدَّتْهُ إلَى شَرِيكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي كُلِّ مُكَاتَبٍ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ تَمَامِ الْبَدَلِ فَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ حَقُّ شَرِيكِهِ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا بِالِاتِّفَاقِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَا كَاتَبَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا وَهُوَ مُوسِرٌ ثُمَّ عَجَزَتْ يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهَا لَمَّا عَجَزَتْ وَرُدَّتْ فِي الرِّقِّ تَصِيرُ كَأَنَّهَا لَمْ تَزَلْ قِنَّةً وَالْجَوَابُ فِيهِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الرُّجُوعِ وَفِي الْخِيَارَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا هُوَ مَسْأَلَةُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ وَقَدْ قَرَرْنَاهُ فِي الْإِعْتَاقِ ، فَأَمَّا قَبْلَ الْعَجْزِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا كَانَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ كَانَ أَثَرُهُ أَنْ يُجْعَلَ نَصِيبُ غَيْرِ الْمُعْتِقِ كَالْمُكَاتَبِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ نَصِيبُ صَاحِبِهِ لِأَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ قَبْلَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا كَانَ لَا يَتَجَزَّأُ بِعِتْقِ الْكُلِّ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُكَاتَبًا إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَيُسْتَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّهُ ضَمَانُ إعْتَاقٍ فَيَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ وَهُوَ مُوسِرٌ ، فَإِنْ شَاءَ الَّذِي دَبَّرَهُ ضَمَّنَ الْمُعْتِقَ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ وَيُسْتَسْعَى أَوْ يُعْتَقُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَتَدْبِيرُ أَحَدِهِمَا يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ الْآخَرِ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيرَةُ الْإِعْتَاقِ وَالتَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، فَإِذَا أَعْتَقَ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ ، وَإِعْتَاقُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ ، وَلَكِنْ يَفْسُدُ بِهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ ، وَلَهُ خِيَارُ الْعِتْقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ صَادَفَ الْمُدَبَّرَ .
ثُمَّ قِيلَ : قِيمَةُ الْمُدَبَّرِ تُعْرَفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، وَقِيلَ يَجِبُ ثُلُثَا قِيمَتِهِ زَهْوَ قِنٍّ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : الْبَيْعُ وَأَشْبَاهُهُ ، وَالِاسْتِخْدَامُ وَأَمْثَالُهُ ، وَالْإِعْتَاقُ وَتَوَابِعُهُ ، وَالْفَائِتُ الْبَيْعُ فَيَسْقُطُ الثُّلُثُ .
وَإِذَا ضَمَّنَهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، كَمَا إذَا غَصَبَ مُدَبَّرًا فَأَبَقَ .
وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا كَانَ لِلْآخَرِ الْخِيَارَاتُ الثَّلَاثُ عِنْدَهُ ، فَإِذَا دَبَّرَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ خِيَارُ التَّضْمِينِ وَبَقِيَ خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يُعْتَقُ وَيُسْتَسْعَى ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا فَعِتْقُ الْآخَرِ بَاطِلٌ ) لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا فَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ بِالتَّدْبِيرِ ( وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا )
لِأَنَّهُ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ قِنًّا لِأَنَّهُ صَادَفَهُ التَّدْبِيرُ وَهُوَ قِنٌّ ( وَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَتَدْبِيرُ الْآخَرِ بَاطِلٌ ) لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ فَعَتَقَ كُلُّهُ فَلَمْ يُصَادِفْ التَّدْبِيرُ الْمِلْكَ وَهُوَ يَعْتَمِدُهُ ( وَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ) وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ عِنْدَهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ وَعَجْزُهُ وَمَوْتُ الْمَوْلَى قَالَ ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ نَجْمٍ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْبِضُهُ أَوْ مَالٌ يَقْدُمُ عَلَيْهِ لَمْ يَعْجَلْ بِتَعْجِيزِهِ وَانْتَظَرَ عَلَيْهِ الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةَ ) نَظَرًا لِلْجَانِبَيْنِ ، وَالثَّلَاثُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَإِمْهَالِ الْخَصْمِ لِلدَّفْعِ وَالْمَدْيُونِ لِلْقَضَاءِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَجْهٌ وَطَلَبَ الْمَوْلَى تَعْجِيزَهُ عَجَّزَهُ وَفَسَخَ الْكِتَابَةَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُعَجِّزُهُ حَتَّى يَتَوَالَى عَلَيْهِ نَجْمَانِ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا تَوَالَى عَلَى الْمُكَاتَبِ نَجْمَانِ رُدَّ فِي الرِّقِّ عَلَّقَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْقَاقٍ حَتَّى كَانَ أَحْسَنُهُ مُؤَجَّلَهُ وَحَالَةُ الْوُجُوبِ بَعْدَ حُلُولِ نَجْمٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِ مُدَّةٍ اسْتِيسَارًا ، وَأَوْلَى الْمُدَدِ مَا تَوَافَقَ عَلَيْهِ الْعَاقِدَانِ وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْعَجْزُ ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمَوْلَى الْوُصُولُ إلَى الْمَالِ عِنْدَ حُلُولِ نَجْمٍ وَقَدْ فَاتَ فَيُفْسَخُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاضِيًا بِدُونِهِ ، بِخِلَافِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ تَأْخِيرًا ، وَالْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُكَاتَبَةً لَهُ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا .
( بَابُ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ وَعَجْزِهِ وَمَوْتِ الْمَوْلَى ) تَأْخِيرُ بَابِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرُ التَّنَاسُبِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، فَكَذَا بَيَانُ أَحْكَامِهَا ( قَوْلُهُ وَالثَّلَاثُ هِيَ الْمُدَّةُ الَّتِي ضُرِبَتْ لِإِبْلَاءِ الْأَعْذَارِ كَإِمْهَالِ الْخَصْمِ لِلدَّفْعِ وَالْمَدْيُونِ لِلْقَضَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْمَدْيُونِ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى كَإِمْهَالِ .
أَقُولُ : هَذَا بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ قَطْعًا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَدْيُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْخَصْمِ وَالْمَعْنَى وَكَإِمْهَالِ الْمَدْيُونِ لِأَجْلِ الْقَضَاءِ ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ وَهُوَ الْعَجْزُ ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَهُمَا هَذَا لَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةِ إنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ آخِرِ النُّجُومِ الَّتِي تَوَافَقَا عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَدَّى سَائِرَ النُّجُومِ بِأَسْرِهَا ، إذْ لَا يَلْزَمُهُ حِينَئِذٍ سِوَى أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ عِنْدَ إمْهَالِهِ مُدَّةَ نَجْمٍ فَيَكُونَ أَعْجَزَ عَنْ أَدَائِهِمَا بَلْ يَكُونَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يُؤَدِّيَ نَجْمًا وَاحِدًا فِي ضِعْفِ مُدَّتِهِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ أَيْسَرُ لَهُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ تَأَمُّلٌ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ دَيْنٌ يَقْبِضُهُ أَوْ مَالٌ يَقْدُمُ عَلَيْهِ لَا نُسَلِّمُ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ هَذِهِ الشَّرْطِيَّةُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ مَنْ عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ وَاحِدٍ مَوْصُولَةٌ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ يَكُونُ أَعْجَزَ عَنْ أَدَاءِ نَجْمَيْنِ خَبَرُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ فَلَا شَرْطَ وَلَا جَزَاءَ فِي الْكَلَامِ حَتَّى تَكُونَ الْجُمْلَةُ شَرْطِيَّةً ( قَوْلُهُ وَالْآثَارُ مُتَعَارِضَةٌ ، فَإِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ مُكَاتَبَةً لَهُ عَجَزَتْ عَنْ أَدَاءِ نَجْمٍ
وَاحِدٍ فَرَدَّهَا فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ اسْتِدْلَالِ أَبِي يُوسُفَ بِأَثَرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ يُعَارِضُهُ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهَا : أَيْ بِالْآثَارِ لِلتَّعَارُضِ ، لِأَنَّ الْآثَارَ إذَا تَعَارَضَتْ وَجُهِلَ التَّارِيخُ سَقَطَتْ فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الْحُجَّةِ فَيَبْقَى مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ بِأَنَّ سَبَبَ الْفَسْخِ قَدْ تَحَقَّقَ إلَخْ سَالِمًا عَنْ الْمُعَارِضِ فَيَثْبُتُ الْفَسْخُ بِهِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هُنَا إشْكَالٌ ، لِأَنَّ مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ رَاجِعٌ إلَى الْقِيَاسِ عَلَى مُقْتَضَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عِنْدَ بَيَانِ انْحِصَارِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْمَعْقُولِ رَاجِعٌ إلَى الْقِيَاسِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْآثَارَ مُتَعَارِضَةٌ وَالتَّارِيخُ مَجْهُولٌ فَيُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهَا مِنْ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْقِيَاسُ انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَيْضًا أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجْرِي فِي الْمَقَادِيرِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الْمَقَادِيرِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا : وَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَالْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، لِأَنَّ مَا يَقُولُهُ الصَّحَابِيُّ مِنْ الْمَقَادِيرِ يُحْمَلُ عَلَى السَّمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْقِيَاسُ انْتَهَى .
فَإِذَا تَعَارَضَتْ الْآثَارُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَتَسَاقَطَتْ كَمَا قَالُوا وَلَمْ يَصِحَّ الْقِيَاسُ فِي الْمَقَادِيرِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فَكَيْفَ يَنْتَهِضُ مَا قَالَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ الَّذِي مَرْجِعُهُ إلَى الْقِيَاسِ حُجَّةً لَهُمَا فِي إثْبَاتِ مَا ذَهَبَا إلَيْهِ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ
قَالَ ( فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ عِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ فَعَجَزَ فَرَدَّهُ مَوْلَاهُ بِرِضَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُفْسَخُ بِالتَّرَاضِي مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَبِالْعُذْرِ أَوْلَى ( وَلَوْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْعَبْدُ لَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ تَامٌّ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
قَالَ ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ عَادَ إلَى أَحْكَامِ الرِّقِّ ) لِانْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ ( وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْأَكْسَابِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَوْ عَلَى مَوْلَاهُ وَقَدْ زَالَ التَّوَقُّفُ .
قَالَ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَكَاتِبُ وَلَهُ مَالٌ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ وَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَحَكَمَ بِعِتْقِهِ فِي آخَرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ وَيَعْتِقُ أَوْلَادُهُ ) وَهَذَا قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا وَمَا تَرَكَهُ لِمَوْلَاهُ ، وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ فَتَبْطُلُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بَعْدَ الْمَمَاتِ مَقْصُودًا أَوْ يَثْبُتَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مُسْتَنِدًا ، لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ ، وَلَا إلَى الثَّانِي لِفَقْدِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَدَاءُ ، وَلَا إلَى الثَّالِثِ لِتَعَذُّرِ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ وَالشَّيْءُ يَثْبُتُ ثُمَّ يَسْتَنِدُ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْمَوْلَى فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا الْحَاجَةُ إلَى إبْقَاءِ الْعَقْدِ لِإِحْيَاءِ الْحَقِّ ، بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى حَتَّى لَزِمَ الْعَقْدُ فِي جَانِبِهِ ، وَالْمَوْتُ أَنَفَى لِلْمَالِكِيَّةِ مِنْهُ لِلْمَمْلُوكِيَّةِ فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا ، أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ عَلَى مَا عُرِفَ تَمَامُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا .
وَمَا تَرَكَهُ لِمَوْلَاهُ وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ فَتَبْطُلُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ وَيَمُوتُ عَبْدًا وَمَا تَرَكَهُ فَلِمَوْلَاهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْمَعْقُولِ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكِتَابَةِ عِتْقُهُ وَعِتْقُهُ بَاطِلٌ وَالْمَقْصُودُ مِنْهَا كَذَلِكَ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْمَعْقُولِ إلَخْ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ لِدَلَالَتِهِ ، عَلَى أَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِأَثَرِ زَيْدٍ وَبِالْمَعْقُولِ حَيْثُ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةُ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِلْمَشْرُوحِ فَإِنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَاسْتَدَلَّ لِلْعَطْفِ أَيْضًا ، وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَعْنًى قَوْلُهُ : وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَأَنَّهُ قَالَ أَخَذَ بِقَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَاسْتَدَلَّ لِمُدَّعَاهُ بِالْمَعْقُولِ أَيْضًا ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ عَطْفٌ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِمَامُهُ فِي ذَلِكَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَأَنَّهُ قَالَ لِأَثَرِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ ، وَالْعَطْفُ بِحَسَبِ الْمَعْنَى شَائِعٌ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِجَوَازِ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كُتُبِ الْبَلَاغَةِ ، فَتَطَابَقَ الشَّرْحُ وَالْمَشْرُوحُ فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى كَمَا تَرَى ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ قَالَ : وَالْمُوَافِقُ لِلْمَشْرُوحِ فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ الْعُقُودَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِأَحْكَامِهَا فَبُطْلَانُ الْحُكْمِ يَلْزَمُهُ بُطْلَانُ الْعَقْدِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ لِأَنَّهُ كَانَ مَدَارَ
رَدِّهِ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِعَدَمِ مُطَابِقَةِ شَرْحِهِ لِلْمَشْرُوحِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي الْمَشْرُوحِ وَعَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي الشَّرْحِ عَلَى زَعْمِهِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ نَفْسُهُ قَطُّ فَإِنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ الْعُقُودَ إلَخْ بِدُونِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فَمَا مَعْنَى عَدَمِ مُطَابَقَةِ ذَلِكَ لِلْمَشْرُوحِ وَمُوَافَقَةِ هَذَا إيَّاهُ ؟ وَأَيْضًا إنَّ الْفَاءَ فِي قَوْلِهِ فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ مِمَّا لَا مَحَلَّ لَهُ فِي الْمَشْرُوحِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي عِبَارَةِ الْمَشْرُوحِ ( قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّهُ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ بَلْ أَوْلَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ لَيْسَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ كَمَوْتِ الْعَاقِدِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دُونَ الْعَاقِدِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدِ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُكَاتَبِ أَدْعَى مِنْ حَيْثُ الْمُقْتَضَى وَالْمَانِعُ إلَخْ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِمُجَرَّدِ الْمُبَالَغَةِ فِي تَحَقُّقِ الْجَامِعِ الْمَذْكُورِ فِي جَانِبِ الْمَقِيسِ وَهُوَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَلَا وَجْهَ لِتَجْوِيزِ كَوْنِهِ جَوَابًا عَمَّا يُقَالُ مِنْ طَرَفِ الْخَصْمِ لَيْسَ مَوْتُ الْمُكَاتَبِ كَمَوْتِ الْعَاقِدِ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دُونَ الْعَاقِدِ ، لِأَنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِمَنْعِ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ .
وَبَيَانُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ سَلَامَةُ مَالِكِيَّةِ الْبَدَلِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي كَلَامِهِ هَذَا لِمَنْعِ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا لِبَيَانِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَاذَا ، فَلَا مَجَالَ لَأَنْ يَكُونَ كَلَامُهُ هَذَا جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ ، لِأَنَّ بُطْلَانَ
الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَمْرٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ جَوَازَهُ بِكَوْنِ الْحَاجَةِ أَدْعَى إلَى إبْقَائِهِ بَعْدَ أَنْ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، فَلَا تُفِيدُ الْمُقَدِّمَاتُ الْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَصْلًا ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَدَحَ فِيمَا جَوَّزَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ كَوْنِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا جَوَابًا عَمَّا ذَكَرَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ بَعْدَ قَوْلِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْكَلَامِ التَّنَزُّلِيِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ لِأَنَّ كَوْنَ قَوْلِهِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَا بِمَوْتِ الْآخَرِ صَرِيحًا فِي عَدَمِ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ مَعَ كَوْنِهِ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ أَيْضًا لِوُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهِ ، أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ فِي تَصْوِيرِ مَسْأَلَةِ كِتَابَةِ الْعَبْدِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ عَبْدٍ آخَرَ لِمَوْلَاهُ غَائِبٍ بِأَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ كَاتَبَنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى نَفْسِي وَعَلَى فُلَانٍ الْغَائِبِ وَلَئِنْ سَلِمَ كَوْنُهُ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ فَعَدَمُ كَوْنِ الْمُكَاتَبِ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَدْعِي عَدَمَ كَوْنِهِ كَذَلِكَ عِنْدَ الْخَصْمِ أَيْضًا ، وَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ مِنْ قِبَلِ الْخَصْمِ .
فَلَوْ قَصَدَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ بَلْ أَوْلَى الْجَوَابَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِقَوْلِهِ السَّابِقِ بَلْ يَكُونُ مُقَرَّرًا لَهُ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى التَّنَزُّلِ ، بَلْ لَا مَعْنَى لَهُ يَظْهَرُ ذَلِكَ كُلُّهُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ ( قَوْلُهُ فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيَكُونُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ مِنْ
التَّرْدِيدِ بِوَجْهَيْنِ ذَهَبَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ يَنْزِلَ حَيًّا تَقْدِيرًا كَمَا أَنْزَلْنَا الْمَيِّتَ حَيًّا فِي حَقِّ بَقَاءِ التَّرِكَةِ عَلَى مِلْكِهِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَفِي حَقِّ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ وَتَنْفِيذِ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ ، وَكَمَا قَدَّرْنَا الْمَوْلَى حَيًّا وَمَالِكًا وَمُعْتِقًا فِي فَصْلِ مَوْتِ الْمَوْلَى .
وَثَانِيهِمَا : أَنَّهُ يَعْتِقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِأَنْ تَسْتَنِدَ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَيُجْعَلُ أَدَاءُ خَلَفِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ .
هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا فِي هَذَا الْمَقَامِ .
ثُمَّ أَقُولُ : مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ بَدَّلَ كَلِمَةَ أَوْ فِي أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِكَلِمَةِ الْوَاوِ فَقَالَ فِي شَرْحِهِ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ تَعْلِيلِ أَئِمَّتِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا وَتَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ بِاسْتِنَادِ سَبَبِ الْأَدَاءِ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ .
وَقَالَ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى قَوْلِهِ وَتَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ : هَذَا مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ ، فَمَنْ قَالَ أَوْ تَسْتَنِدُ فَقَطْ أَخْطَأَ انْتَهَى .
وَفُسِّرَ الْقَائِلُ فِي حَاشِيَةٍ صُغْرَى بِصَاحِبِ الْهِدَايَةِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي شُرُوحِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ أَنَّ الْمُخْطِئَ هُوَ هَذَا الْمُخَطِّئُ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كَلِمَةِ أَوْ هُوَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمَسْلَكَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ الْمُسْتَقِلَّيْنِ فِي إثْبَاتِ قَوْلِ أَئِمَّتِنَا فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، فَحَقُّ التَّعْبِيرِ أَنْ تُذْكَرَ كَلِمَةُ أَوْ دُونَ كَلِمَةِ الْوَاوِ ، وَلَعَلَّ مَنْشَأَ غَلَطِ ذَاكَ الْمُخَطِّئِ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ أَوْ تَسْتَنِدُ الْحُرِّيَّةُ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى أَوَّلِ التَّعْلِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَخَطَّأَهُ
بِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فَكَيْفَ يُعْطَفُ عَلَيْهِ بِكَلِمَةِ أَوْ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَيَنْزِلُ حَيًّا تَقْدِيرًا ، وَأَنَّهُ لَا مَحْذُورَ فِي إتْمَامِ التَّعْلِيلِ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ فِيهِ تَرْبِيَةُ الْفَائِدَةِ بِتَوْسِيعِ الدَّائِرَةِ
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا فِي الْكِتَابَةِ سَعَى فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ عَلَى نُجُومِهِ فَإِذَا أَدَّى حَكَمْنَا بِعِتْقِ أَبِيهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ ) لِأَنَّ الْوَلَدَ دَاخِلٌ فِي كِتَابَةٍ وَكَسْبُهُ كَكَسْبِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي الْأَدَاءِ وَصَارَ كَمَا إذَا تَرَكَ وَفَاءً
( وَإِنْ تَرَكَ وَلَدًا مُشْتَرًى فِي الْكِتَابَةِ قِيلَ لَهُ إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ حَالَّةً أَوْ تُرَدَّ رَقِيقًا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا يُؤَدِّيهِ إلَى أَجَلِهِ اعْتِبَارًا بِالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُكَاتِبُ عَلَيْهِ تَبَعًا لَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ الْأَجَلَ يَثْبُتُ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرَى لَمْ يَدْخُلْ لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْ إلَيْهِ الْعَقْدَ وَلَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَيْهِ لِانْفِصَالِهِ ، بِخِلَافِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ مُتَّصِلٌ وَقْتَ الْكِتَابَةِ فَيَسْرِي الْحُكْمُ إلَيْهِ وَحَيْثُ دَخَلَ فِي حُكْمِهِ سَعَى فِي نُجُومِهِ
( قَوْلُهُ وَلَا يَسْرِي حُكْمُهُ إلَيْهِ لِانْفِصَالِهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْبَحْثِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْرِ حُكْمُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ إلَيْهِ لَمَا دَخَلَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ مِنْ بَابِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ .
وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَسْرِ حُكْمُهُ إلَيْهِ لَمَا عَتَقَ عِنْدَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَالًّا ، لَكِنَّهُ سَاقِطٌ بِوَجْهَيْهِ .
أَمَّا سُقُوطُ وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ دُخُولَ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ لَيْسَ لِسِرَايَةِ حُكْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَمَوْلَاهُ إلَيْهِ ، بَلْ يُجْعَلُ الْمُكَاتَبُ لِوَلَدِهِ بِاشْتِرَائِهِ إيَّاهُ تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ كَمَا أَنَّ الْحُرَّ إذَا اشْتَرَى وَلَدَهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا لَهُ بِالِاشْتِرَاءِ .
وَأَمَّا سُقُوطُ وَجْهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ عِتْقَ الْوَلَدِ الْمُشْتَرَى عِنْدَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حَالًّا لَيْسَ لِأَجْلِ السِّرَايَةِ أَيْضًا بَلْ لِصَيْرُورَةِ الْمُكَاتَبِ إذْ ذَاكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَاعَ بَعْدَ مَوْتِهِ لِفَوَاتِ الْمَتْبُوعِ ، وَلَكِنْ إذَا عَجَّلَ صَارَ كَأَنَّهُ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ انْتَهَى فَتَبَصَّرْ
( فَإِنْ اشْتَرَى ابْنَهُ ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَرِثَهُ ابْنُهُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا حَكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ ابْنِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَبِيهِ فِي الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ هَذَا حُرًّا يَرِثُ عَنْ حُرٍّ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُوَ وَابْنُهُ مُكَاتَبَيْنِ كِتَابَةً وَاحِدَةً ) لِأَنَّ الْوَلَدَ إنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ تَبَعٌ لِأَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا جُعِلَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا حَكَمَ بِحُرِّيَّةِ الْأَبِ يَحْكُمُ بِحُرِّيَّتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى مَا مَرَّ .
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ حُرَّةٍ وَتَرَكَ دَيْنًا وَفَاءً بِمُكَاتَبَتِهِ فَجَنَى الْوَلَدُ فَقُضِيَ بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَضَاءً بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ ) لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّتِهَا إلْحَاقُ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابِ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعْتَقَ فَيَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَالْقَضَاءُ بِمَا يُقَرِّرُ حُكْمَهُ لَا يَكُونُ تَعْجِيزًا ( وَإِنْ اخْتَصَمَ مَوَالِي الْأُمِّ وَمَوَالِي الْأَبِ فِي وَلَائِهِ فَقَضَى بِهِ لِمَوَالِي الْأُمِّ فَهُوَ قَضَاءٌ بِالْعَجْزِ ) لِأَنَّ هَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْوَلَاءِ مَقْصُودًا ، وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى بَقَاءِ الْكِتَابَةِ وَانْتِقَاضِهَا ، فَإِنَّهَا إذَا فُسِخَتْ مَاتَ عَبْدًا وَاسْتَقَرَّ الْوَلَاءُ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ ، وَإِذَا بَقِيَتْ وَاتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ مَاتَ حُرًّا وَانْتَقَلَ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَهَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ مَا يُلَاقِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا كَانَ تَعْجِيزًا .
( قَوْلُهُ وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ حُرَّةٍ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ لَا حَاصِلَ لَهُ ، لِأَنَّ الْفَرْقَ مُتَحَقِّقٌ بَيْنَ كُلِّ مَسْأَلَتَيْنِ ، وَإِلَّا لَمْ تَكُونَا مَسْأَلَتَيْنِ بَلْ صَارَتَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً ، فَكُلُّ مَسْأَلَتَيْنِ إذَا ذُكِرَتَا يُعْرَفُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ عِلِّيَّةِ بَيَانِ الْفَرْقِ بِذِكْرِ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ؟ فَإِنْ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ خَفِيٌّ فَكَانَ بَيَانُهُ أَهَمَّ فِيهِمَا وَلِهَذَا خَصَّ عَلِيَّتَهُ بِذِكْرِهِمَا .
قُلْنَا : خَفَاءُ الْفَرْقِ مُتَحَقِّقٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَلَمْ يَتِمَّ وَجْهُ التَّخْصِيصِ ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذِكْرُهُمَا لِمُجَرَّدِ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا لَمَا اسْتَحَقَّتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِلذِّكْرِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأُخْرَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَسْأَلَةٌ مُهِمَّةٌ بِنَفْسِهَا مَقْصُودَةٌ بِالذِّكْرِ وَالْبَيَانِ ، وَعَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ هَاتَيْنِ الْمَسْأَلَتَيْنِ ظَاهِرٌ غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ ، وَإِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ عَلِيَّتِهِمَا ، وَبَيْنَ الْفَرْقِ بَيْنَ عَلِيَّتِهِمَا إنَّمَا وَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ أَنْفُسُهُمَا مَذْكُورَتَانِ فِي الْبِدَايَةِ أَيْضًا بِدُونِ بَيَانِ الْعِلَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُمَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا بَلْ كَانَ لِبَيَانِ حُكْمِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا ، وَيُفْهَمُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ مِنْ قَضِيَّتِهَا إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابَ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ فَيَنْجَرَّ الْوَلَاءُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَالْقَضَاءُ بِمَا يُقَرَّرُ حُكْمُهُ لَا يَكُونَ تَعْجِيزًا ) .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي
حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ : لِأَنَّ هَذَا الْقَضَاءَ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ ، وَكُلُّ مَا يُقَرِّرُ شَيْئًا لَا يُبْطِلُهُ .
أَمَّا أَنَّهُ يُقَرِّرُ حُكْمَ الْكِتَابَةِ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَسْتَلْزِمُ إلْحَاقَ الْوَلَدِ بِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِيجَابَ الْعَقْلِ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ الْمَكَاتِبُ فَيَنْجَرَّ وَلَاءُ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ قَوْمِ الْأُمِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ إثْبَاتِهِ مِنْ الْأَبِ ، حَتَّى لَوْ ارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنْ إثْبَاتِهِ مِنْهُ ، كَمَا إذَا أَكْذَبَ الْمُكَاتَبُ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ عَادَ النَّسَبُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ، فَكَانَ إيجَابُ الْعَقْلِ مِنْ لَوَازِمِهَا ، وَثُبُوتُ اللَّازِمِ يُقَرِّرُ ثُبُوتَ مَلْزُومِهِ .
وَأَمَّا أَنَّ كُلَّ مَا يُقَرِّرُ شَيْئًا لَا يُبْطِلُهُ فَلِئَلَّا يَعُودَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ نَوْعُ إشْكَالٍ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ فَإِنَّ قَوْلَهُ ثُبُوتُ اللَّازِمِ يُقَرِّرُ ثُبُوتَ مَلْزُومِهِ مَمْنُوعٌ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ اللَّازِمِ ثُبُوتُ الْمَلْزُومِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اللَّازِمُ أَعَمَّ مِنْ الْمَلْزُومِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحَقُّقَ الْعَامِّ لَا يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْخَاصِّ ، وَالظَّاهِرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عُمُومُ اللَّازِمِ لِأَنَّ إيجَابَ الْعَقْلِ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ أَنْ يَقْضِيَ بِعَجْزِ الْمَكَاتِبِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ أَنْ يَبْقَى عَلَى كِتَابَتِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِأَنَّ اللَّازِمَ هَاهُنَا لَيْسَ مُطْلَقَ إيجَابِ الْعَقْلِ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ ، بَلْ إيجَابُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْتِقَ الْمَكَاتِبُ فَيَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِيهِ وَإِيجَابُهُ عَلَيْهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ لَازِمٌ مُسَاوٍ لِصُورَةِ إبْقَاءِ الْكِتَابَةِ ، إذْ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ بِالْعَجْزِ يَنْتَفِي هَذَا اللَّازِمُ بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ وَهُوَ احْتِمَالُ جَرِّ الْوَلَاءِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ
الْآتِيَةِ ، وَلَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَانِعَ أَنْ يَمْنَعَ ثُبُوتَ هَذَا اللَّازِمِ الْمُقَيَّدِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهُ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ الْقَضَاءُ بِمُوجِبِ جِنَايَةِ الْوَلَدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ قَضَاءً بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ ، فَلَا يَخْلُو التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ عَنْ نَوْعِ الْمُصَادَرَةِ فَتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَمَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى مَوْلَاهُ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ طَيِّبٌ لِلْمَوْلَى لِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ ) فَإِنَّ الْعَبْدَ يَتَمَلَّكُهُ صَدَقَةً وَالْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ الْعِتْقِ ، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ النَّبَوِيَّةُ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَبَاحَ لِلْغَنِيِّ وَالْهَاشِمِيِّ ، لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ يَتَنَاوَلُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ ، وَنَظِيرُهُ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا أَبَاحَ لِغَيْرِهِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَلَوْ مَلَكَهُ يَطِيبُ ، وَلَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْأَدَاءِ إلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ظَاهِرٌ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ ، وَكَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَجْزِ يَتَقَرَّرُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا خُبْثَ فِي نَفْسِ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّمَا الْخُبْثُ فِي فِعْلِ الْآخِذِ لِكَوْنِهِ إذْلَالًا بِهِ .
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْغَنِيِّ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلِلْهَاشِمِيِّ لِزِيَادَةِ حُرْمَتِهِ وَالْأَخْذُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى فَصَارَ كَابْنِ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى وَطَنِهِ وَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَقَدْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمَا مَا أَخَذَا مِنْ الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ يَطِيبُ لَهُمَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ وَاسْتَغْنَى يَطِيبُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي يَدِهِ .
( قَوْلُهُ وَمَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ مِنْ الصَّدَقَاتِ إلَى مَوْلَاهُ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ طَيِّبٌ لِلْوَلِيِّ لِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ ) وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ فِي الشَّرِيعَةِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ كَانَ لِلْمَوْلَى فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ تَبَدُّلُ الْمِلْكِ ؟ قُلْنَا : مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى كَانَ مَغْلُوبًا فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ ، حَتَّى كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ الْمُكَاتَبَ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ ، ثُمَّ بِالْعَجْزِ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ ، وَلَيْسَ هَذَا إلَّا بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ لِلْمَوْلَى كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ .
وَاعْتِرَاضُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ تَبَدُّلٌ ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ ا هـ .
وَقَصَدَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ دَفْعَ ذَلِكَ فَقَالَ : قُلْت أَوَّلُ كَلَامِهِ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ ، وَالثَّانِي دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ الْمَنْعَ الْمُجَرَّدَ وَالْمَنْعَ مَعَ السَّنَدِ كِلَاهُمَا مِنْ دَأْبِ الْمُنَاظِرِينَ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الثَّانِيَ أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ ، فَلَا يُفِيدُ قَوْلُهُ أَوَّلَ كَلَامِهِ مَنْعٌ مُجَرَّدٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالثَّانِي دَعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ فَفَاسِدٌ ، إذْ لَا دَعْوَى لَهُ فِي الثَّانِي بَلْ هُوَ أَيْضًا مَنْعٌ مَحْضٌ كَمَا تَرَى فَلَا يَلْزَمُهُ الْبُرْهَانُ ، وَالصَّوَابُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : أَنَّ مَنْعَ التَّبَدُّلِ مُكَابَرَةٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الِانْعِكَاسَ يَقْتَضِي التَّبَدُّلَ بَلْ هُوَ عَيْنُ التَّبَدُّلِ ، وَإِنَّ مَنْعَ كَوْنِ مِثْلِ هَذَا التَّبَدُّلِ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ سَاقِطٌ ، لِأَنَّ كَوْنَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الْعَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، وَكَوْنُهُ بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ
فِي حُكْمِ الشَّرْعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ الشَّرْعِ فَلَا مَجَالَ لِمَنْعِهِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكُ يَدٍ قَبْلَ الْعَجْزِ وَحَصَلَ بِهِ فَكَانَ تَبَدُّلًا ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِلْكُ يَدٍ فَلَهُ مِلْكُ رَقَبَةٍ .
أَقُولُ : هَذَا أَيْضًا كَلَامُ لَغْوٍ ، إذْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِلْكُ رَقَبَةٍ قَبْلَ الْعَجْزِ لَا يُنَافِي تَحَقُّقَ التَّبَدُّلِ بِالنَّظَرِ إلَى مِلْكِ الْيَدِ ، وَهُوَ كَافٍ فِي كَوْنِ مَا أُدِّيَ إلَى الْمُكَاتَبِ مِنْ الصَّدَقَاتِ طَيِّبًا لِلْمَوْلَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
وَالصَّوَابُ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْمَآلِ عَيْنُ الْجَوَابِ الَّذِي اخْتَارَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ ، وَأَوْرَدَ هُوَ النَّظَرَ عَلَيْهِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ الْجَوَابِ مِنْ الْمَزِيَّةِ وَهِيَ الْإِشَارَةُ إلَى وَجْهِ اعْتِبَارِهِمْ تَبَدُّلَ مِلْكِ الْيَدِ دُونَ بَقَاءِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ بِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ مَغْلُوبٌ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ ، فَكَانَ اعْتِبَارُ حَالِ الْغَالِبِ وَهِيَ التَّبَدُّلُ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَغْلُوبِ وَهِيَ الْبَقَاءُ فَلَا وَجْهَ لِإِيرَادِ النَّظَرِ عَلَى ذَلِكَ الْجَوَابِ ، وَذَكَرَ هَذَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَادِّعَاءُ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا خُبْثَ فِي نَفْسِ الصَّدَقَةِ ، وَإِنَّمَا الْخُبْثُ فِي فِعْلِ الْآخِذِ ، إلَى قَوْلِهِ : وَالْأَخْذُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَوْلَى ) .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فَعَلَى هَذَا لَوْ أَبَاحَ الْفَقِيرُ لِلْغَنِيِّ أَوْ الْهَاشِمِيِّ يَنْبَغِي أَنْ يَطِيبَ لَهُمَا عِنْدَهُ إذْ لَا أَخْذَ مِنْهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى ا هـ .
أَقُولُ : إنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمَا الْأَخْذُ مِنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا الْأَخْذُ مِنْ يَدِ الْفَقِيرِ حَيْثُ تَنَاوَلَا مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَمِلْكِهِ فَقَدْ تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِمَا هُنَاكَ سَبَبُ الْخُبْثِ ، إذْ لَا فَرْقَ فِي إيرَاثِ الْخُبْثِ بَيْنَ أَخْذٍ مِنْ وَاحِدٍ وَأَخْذٍ مِنْ آخَرَ إذَا
وُجِدَ الْإِذْلَالُ بِالْأَخْذِ ، بِخِلَافِ الْمَوْلَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْأَخْذُ لَا مِنْ يَدِ الْمُتَصَدِّقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا مِنْ يَدِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّ أَكْسَابَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَبِالْعَجْزِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ فَلَا يُوجَدُ مِنْهُ الْأَخْذُ بَلْ يَبْقَى مِلْكُهُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ تَشْبِيهُهُ بِابْنِ السَّبِيلِ إذَا وَصَلَ إلَى وَطَنِهِ وَالْفَقِيرِ إذَا اسْتَغْنَى وَقَدْ بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمَا مَا أَخَذَا مِنْ الصَّدَقَةِ .
فَإِنْ قُلْت : لَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ مِلْكُ الْيَدِ قَبْلَ الْعَجْزِ بِالِاتِّفَاقِ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ مَنْعُ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ ، فَبِالْعَجْزِ انْتَقَلَ ذَلِكَ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى فَوُجِدَ مِنْ الْمَوْلَى الْأَخْذُ مِنْ يَدِ الْعَبْدِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ .
قُلْت : ذَاكَ الِانْتِقَالُ ضَرُورِيٌّ وَالْأَخْذُ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ أَخْذًا ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنْ يُعَدَّ ذَلِكَ أَخْذًا فَاللَّازِمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَخْذُ الْمَوْلَى مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ يَدِ عَبْدِهِ ، وَاَلَّذِي كَانَ سَبَبًا لِلْخُبْثِ إنَّمَا هُوَ أَخْذُ مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إبَاحَةِ الْفَقِيرِ لِلْغَنِيِّ أَوْ الْهَاشِمِيِّ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ
قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ فَكَاتَبَهُ مَوْلَاهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ أَوْ يَفْدِي ) لِأَنَّ هَذَا مُوجِبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي الْأَصْلِ وَلَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ حَتَّى يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ إلَّا أَنَّ الْكِتَابَةَ مَانِعَةٌ مِنْ الدَّفْعِ ، فَإِذَا زَالَ عَادَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ ( وَكَذَلِكَ إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى عَجَزَ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ زَوَالِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ قَضَى بِهِ عَلَيْهِ فِي كِتَابَتِهِ ثُمَّ عَجَزَ فَهُوَ دَيْنٌ يُبَاعُ فِيهِ ) لِانْتِقَالِ الْحَقِّ مِنْ الرَّقَبَةِ إلَى قِيمَتِهِ بِالْقَضَاءِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَدْ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ إلَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الدَّفْعِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ قَائِمٌ وَقْتَ الْجِنَايَةِ ، فَكَمَا وَقَعَتْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْقِيمَةِ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِلتَّرَدُّدِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَبِيعِ إذَا أَبَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَتَوَقَّفُ الْفَسْخُ عَلَى الْقَضَاءِ لِتَرَدُّدِهِ وَاحْتِمَالِ عَوْدِهِ ، كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ الزَّوَالَ بِحَالٍ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِتَرَدُّدِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ ، لِأَنَّ مَذْهَبَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ تَصِيرُ مَالًا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى الرِّضَا أَوْ الْقَضَاءِ فَمَا وَجْهُ أَخْذِهِ فِي الدَّلِيلِ ؟ قُلْنَا ظُهُورُهُ ، فَإِنَّ التَّرَدُّدَ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ لِإِمْكَانِ عَوْدِ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ ، كَيْفَ وَهَذَا التَّرَدُّدُ مُتَحَقِّقٌ فِيمَا إذَا عَجَزَ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَيْضًا مَعَ ثُبُوتِ الِانْتِقَالِ هُنَاكَ بِالِاتِّفَاقِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَمْنَعَ هَاهُنَا أَيْضًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زُفَرَ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ؟ فَمِنْ أَيْنَ يَثْبُتُ الظُّهُورُ ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ مُجَرَّدَ التَّرَدُّدِ فِي زَوَالِ الْمَانِعِ يَمْنَعُ الِانْتِقَالَ فِي الْحَالِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ مُسْتَدْرَكًا بَعْدَ أَنْ قَالَ إنَّ الْمَانِعَ قَابِلٌ لِلزَّوَالِ لِلتَّرَدُّدِ ، أَوْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَقُولَ فَلَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ فِي الْحَالِ بِالتَّفْرِيعِ عَلَى مَا قَبْلَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ : وَلَمَّا كَانَ الْمَانِعُ مُتَرَدِّدًا لَمْ يَثْبُتْ الِانْتِقَالُ عَنْ الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا بِالْقَضَاءِ أَوْ الرِّضَا .
قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الْمَوْلَى الْمَكَاتِبُ لَمْ تَنْفَسِخْ الْكِتَابَةُ ) كَيْ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُكَاتَبِ ، إذْ الْكِتَابَةُ سَبَبُ الْحُرِّيَّةِ وَسَبَبُ حَقِّ الْمَرْءِ حَقُّهُ ( وَقِيلَ لَهُ أَدِّ الْمَالَ إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى عَلَى نُجُومِهِ ) لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَالسَّبَبُ انْعَقَدَ كَذَلِكَ فَيَبْقَى بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ ، إلَّا أَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَا بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ .
وَإِنْ أَعْتَقُوهُ جَمِيعًا عَتَقَ وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إبْرَاءً عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ حَقُّهُمْ وَقَدْ جَرَى فِيهِ الْإِرْثُ ، وَإِذَا بَرِئَ الْمُكَاتَبُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يُعْتَقُ كَمَا إذَا أَبْرَأَهُ مَوْلَاهُ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الْوَرَثَةِ لَا يَصِيرُ إبْرَاءً عَنْ نَصِيبِهِ ، لِأَنَّا نَجْعَلُهُ إبْرَاءَ اقْتِضَاءٍ تَصْحِيحًا لِعِتْقِهِ .
وَالْعِتْقُ لَا يَثْبُتُ بِإِبْرَاءِ الْبَعْضِ أَوْ أَدَائِهِ فِي الْمُكَاتَبِ لَا فِي بَعْضِهِ وَلَا فِي كُلِّهِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى إبْرَاءِ الْكُلِّ لِحَقِّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْوَلَاءِ الْوَلَاءُ نَوْعَانِ : وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَيُسَمَّى وَلَاءَ نِعْمَةٍ .
( كِتَابُ الْوَلَاءِ ) أَوْرَدَ كِتَابَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ مِنْ آثَارِ التَّكَاتُبِ بِزَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مِنْ آثَارِ الْإِعْتَاقِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ مُوجِبَاتِ تَرْتِيبِ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ سَاقَتْ التَّكَاتُبَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فَوَجَبَ تَأْخِيرُ كِتَابِ الْوَلَاءِ عَنْ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ لِئَلَّا يَتَقَدَّمَ الْأَثَرُ عَلَى الْمُؤَثِّرِ ، ثُمَّ إنَّ الْوَلَاءَ لُغَةً مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ ، وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَيُسَمَّى وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بِهِ لِأَنَّ حُكْمَهُمَا وَهُوَ الْإِرْثُ يَقْرُبُ وَيَحْصُلُ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَقِيلَ الْوَلَاءُ وَالْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ .
فَالْوَلَاءُ شَرْعًا عِبَارَةٌ عَنْ التَّنَاصُرِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَقُولُ : فِيهِ فُتُورٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلِيَّ صِفَةُ الثَّانِي مِنْ الْمُتَقَارِبَيْنِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَهُوَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ صِفَةُ حُكْمِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لَا صِفَةُ أَنْفُسِهِمَا فَكَيْفَ نُحْسِنُ تَسْمِيَتَهُمَا بِمَا لَا يَقُومُ مَعْنَى مَأْخَذِ اشْتِقَاقِهِ بِهِمَا بَلْ بِمَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُمَا وَهُوَ حُكْمُهُمَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ التَّنَاصُرِ غَيْرَهُمَا لِأَنْفُسِهِمَا ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَفْسَهُ بَلْ يَكُونُ أَمْرًا مُغَايِرًا لَهُ ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الشَّيْءِ وَسِيلَةً إلَى نَفْسِهِ
فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى كَوْنِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةً عَنْ التَّنَاصُرِ بِأَنْ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ ، وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : الْوَلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ ، وَحُصُولُ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ .
وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ تَنَاصُرٍ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ الْمُشْتَقَّ مِنْ الْوَلْيِ الَّذِي هُوَ الْقُرْبُ لَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ بَلْ يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْقَرَابَةِ ، لِأَنَّ الِاشْتِقَاقَ أَنْ تَجِدَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ تَنَاسُبًا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَلَا تَنَاسُبَ فِي الْمَعْنَى بَيْنَ الْوَلْيِ الَّذِي مَعْنَاهُ الْقُرْبُ وَبَيْنَ الْوَلَاءِ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَإِنَّمَا التَّنَاسُبُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى بَيْنَ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ وَبَيْنَ الْوَلَاءِ بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ : هُوَ مِنْ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ ، وَيُقَالُ بَيْنَهُمَا وَلَاءٌ : أَيْ قَرَابَةٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } أَيْ وَصْلَةٌ كَوَصْلَةِ النَّسَبِ ا هـ .
فَالْوَلَاءُ الَّذِي يَكُونُ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ إنَّمَا يُشْتَقُّ مِنْ الْوَلَايَةِ بِالْفَتْحِ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ كَوْنِ الْوَلَاءِ فِي اللُّغَةِ مُشْتَقًّا مِنْ الْوَلْيِ بِمَعْنَى الْقُرْبِ : وَقِيلَ الْوَلَاءُ وَالْوَلَايَةُ بِالْفَتْحِ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ا هـ .
وَقَالَ فِي التَّبْيِينِ : هُوَ مِنْ الْوَلْيِ فَهُوَ قَرَابَةٌ حُكْمِيَّةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ الْعِتْقِ أَوْ الْمُوَالَاةِ .
ثُمَّ قَالَ : أَوْ مِنْ الْمُوَالَاةِ وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ مِنْ
الْوَلَايَةِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ النُّصْرَةُ وَالْمَحَبَّةُ إلَّا أَنَّهُ اخْتَصَّ فِي الشَّرْعِ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ا هـ .
فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ الْوَلَاءُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ خَلْطٌ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَإِخْلَالٌ بِحَقِّ الْبَيَانِ
وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مُلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ قَرِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ .
وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ ، وَسَبَبُهُ الْعَقْدُ وَلِهَذَا يُقَالُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَتَنَاصَرُ بِأَشْيَاءَ ، وَقَرَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصُرَهُمْ بِالْوَلَاءِ بِنَوْعَيْهِ فَقَالَ : { إنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ } وَالْمُرَادُ بِالْحَلِيفِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَكِّدُونَ الْمُوَالَاةَ بِالْحِلْفِ .
( قَوْلُهُ وَسَبَبُهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الصَّحِيحِ ، حَتَّى لَوْ عَتَقَ قَرِيبُهُ عَلَيْهِ بِالْوِرَاثَةِ كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ ) إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ سَبَبُهُ الْإِعْتَاقُ وَيَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ مَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُ وَلَا إعْتَاقَ هُنَاكَ ، فَالصَّحِيحُ أَنَّ سَبَبَهُ الْعِتْقُ عَلَى مِلْكِهِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وَلَا يُقَالُ وَلَاءُ الْإِعْتَاقِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى سَبَبِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } فَالْمُرَادُ أَنَّ الْوَلَاءَ لَهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ لَا بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ ، فَإِنَّ فِي الْإِعْتَاقِ عِتْقًا بِدُونِ الْعَكْسِ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ هَاهُنَا .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : أَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا أَوْ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ كَالْإِعْتَاقِ عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أَوْ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أَوْ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَ صَرِيحًا أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أَوْ كِنَايَةً أَوْ يَجْرِي مَجْرَى الْكِنَايَةِ ، وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ .
أَقُولُ : كَوْنُ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا فِي حَقِّ الصُّوَرِ الْمَزْبُورَةِ كُلِّهَا مَحَلُّ نَظَرٍ ، فَإِنَّ فِي
صُورَةِ إنْ كَانَ الْعِتْقُ حَاصِلًا بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَمَا إذَا وَرِثَ قَرِيبَهُ لَا يُوجَدُ الْإِعْتَاقُ فَلَا تَنْدَرِجُ تَحْتَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَيْسَ مَفْهُومُهُمَا الشَّرْعِيُّ مُطْلَقَ التَّنَاصُرِ ، بَلْ تَنَاصُرٌ يُوجِبُ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ ، وَبِهَذَا الْخُصُوصِ يَمْتَازُ مَفْهُومُهُمَا الشَّرْعِيُّ عَنْ مَفْهُومِهِمَا اللُّغَوِيِّ كَمَا عَرَفْت ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بَيَانَ مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ لَمَا أَطْلَقَ التَّنَاصُرَ بَلْ خَصَّصَهُ بِمَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِهِمَا الشَّرْعِيِّ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ بَيَانَ مَفْهُومِهِمَا لُغَوِيًّا كَانَ أَوْ شَرْعِيًّا لَقَالَ وَمَعْنَاهُمَا التَّنَاصُرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ .
وَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بَيَانُ الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا لَا بَيَانُ مَفْهُومِهِمَا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي بَدَلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا التَّنَاصُرُ ، وَالْمَطْلُوبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّنَاصُرُ كَمَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا كَذَلِكَ كَمَا مَرَّ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ
قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ) لِقَوْلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ، وَكَذَا الْمَرْأَةُ تَعْتِقُ لِمَا رَوَيْنَا { وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْهَا وَعَنْ بِنْتٍ فَجَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } .
وَيُسْتَوَى فِيهِ الْإِعْتَاقُ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ لِإِطْلَاقِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَمْلُوكَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا تَرَتَّبَ عَلَى مُشْتَقٍّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَقَّ مِنْهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ الْحُكْمِ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبْ عَلَيْكَ أَنَّ حَلَّ هَذَا الْمَحَلِّ بِهَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ مَنْ لَهُ الْوَلَاءُ لَا بَيَانُ عِلَّةِ الْوَلَاءِ ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ لَامَ الْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " الْوَلَاءُ " وَلَامَ الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ " لِمَنْ أَعْتَقَ " تَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْوَلَاءِ لِمَنْ أَعْتَقَ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا قَالُوا فِي قَوْله تَعَالَى { الْحَمْدُ لِلَّهِ } دَلَّ بِلَامَيْ الْجِنْسِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى اخْتِصَاصِ جِنْسِ الْمَحَامِدِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُنَاقِضُ جَعْلَ الْعِتْقِ سَبَبًا لِأَنَّ أَعْتَقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِعْتَاقِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الِاشْتِقَاقِ هُوَ مَصْدَرُ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ الْعِتْقُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي جَوَابِهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ كَوْنَ مَصْدَرِ الثُّلَاثِيِّ أَصْلًا فِي الِاشْتِقَاقِ لَا يَسْتَدْعِي كَوْنَهُ أَصْلًا فِي الْعِلِّيَّةِ لِتَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ مِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ مَصَادِرِ الْمَزِيدَاتِ يَصْلُحُ عِلَّةً لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ مَصَادِرُ الثُّلَاثِيِّ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ مَثَلًا يَكُونُ عِلَّةً لِلْعِتْقِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ ، وَمَدَارُ السُّؤَالِ عَلَى الْعِلِّيَّةِ فَلَا يَدْفَعُهُ الْجَوَابُ الْمَزْبُورُ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ
وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : قَوْلُهُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ : أَيْ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَثَرَيْنِ الثَّابِتَيْنِ بِهِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْمِيرَاثُ ، وَتَقْرِيرُهُ الْمَوْلَى يَنْتَصِرُ بِمَوْلَاهُ بِسَبَبِ الْعِتْقِ ، وَمَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ لِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْنَمُ عَقْلَهُ ، وَالْمَوْلَى أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ لِأَنَّ الرَّقِيقَ هَالِكٌ حُكْمًا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِالْإِحْيَاءِ نَحْوِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَالْخُرُوجِ إلَى الْعِيدَيْنِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، وَبِالْإِعْتَاقِ تَثْبُتُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ إحْيَاءً مَعْنًى ، وَمَنْ أَحْيَا غَيْرَهُ مَعْنًى وَرِثَهُ كَالْوَالِدِ فَيَصِيرُ الْوَلَاءُ كَالْوِلَادِ وَالْوِلَادُ يُوجِبُ الْإِرْثَ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي أَوَائِلِ تَقْرِيرِهِ الدَّلِيلَ خَلَلٌ ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ النَّصْرَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمُعْتَقِ بِالْفَتْحِ ، وَالِانْتِصَارَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَأَمَّلَ فِي بَسْطِ كَلَامِهِ سِيَّمَا فِي قَوْلِهِ فَحَيْثُ يَغْنَمُ بِنَصْرِهِ يَغْرَمُ عَقْلَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ ، إذْ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ يَنْتَصِرُ بِنَصْرِ الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ حَيْثُ يَنَالُ شَرَفَ الْحُرِّيَّةِ بِسَبَبِ إعْتَاقِ ذَلِكَ إيَّاهُ فَهُوَ الْغَانِمُ ، وَأَيْضًا قَدْ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ يَعْقِلُهُ بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ إنْ رَجَعَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَعْقِلُهُ إلَى مَنْ يَنْتَصِرُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سَوْقِ كَلَامِهِ لَمْ يَصِحَّ الْمُدَّعَى فِي نَفْسِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُطَابِقُهُ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ .
أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الْمُدَّعَى فِي
نَفْسِهِ فَلِأَنَّ الْعَاقِلَ فِي الشَّرْعِ هُوَ النَّاصِرُ لَا الْمُنْتَصِرُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا عَدَمُ مُطَابَقَةِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إيَّاهُ فَلِأَنَّ الْمُدَّعَى حِينَئِذٍ وُجُوبُ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ الْغُرْمُ بِالِانْتِصَارِ الَّذِي هُوَ الْغُنْمُ ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يُفِيدُ عَكْسَ ذَلِكَ ، فَالدَّلِيلُ الْمُطَابِقُ لَهُ عَكْسُ مَا ذَكَرَ وَهُوَ الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ كَمَا هُوَ نَظْمُ الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَمَرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ رَجَعَ ذَلِكَ الضَّمِيرُ إلَى شَخْصٍ فِي قَوْلِهِ مَنْ يَنْتَصِرُ بِشَخْصٍ لَمْ يَصِحَّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ أَصْلًا لِأَنَّ الْغَانِمَ هُوَ الْمُنْتَصِرُ بِشَخْصٍ وَالْغَارِمُ وَهُوَ ذَلِكَ الشَّخْصُ النَّاصِرُ .
فَلَمْ يَجْتَمِعْ الْغُنْمُ وَالْغُرْمُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال بِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ غُنْمَ شَخْصٍ لَا يَصِيرُ سَبَبًا لِغُرْمِ شَخْصٍ آخَرَ وَلَا الْعَكْسُ .
ثُمَّ أَقُولُ : الصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ هُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ بِالْفَتْحِ يَنْتَصِرُ بِنَصْرِ الْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ بِسَبَبِ إعْتَاقِهِ إيَّاهُ فَيَعْقِلُهُ : أَيْ فَيَعْقِلُ الْمُعْتِقُ بِالْكَسْرِ الْمُعْتَقَ بِالْفَتْحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ نَاصِرًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ حَيْثُ صَرَّحُوا فِيهِ بِأَنَّ وَجْهَ ضَمِّ الْعَاقِلَةِ إلَى الْجَانِي فِي الدِّيَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ هُوَ أَنَّ الْجَانِيَ إنَّمَا قَصْرُ الْقُوَّةِ فِيهِ وَتِلْكَ بِأَنْصَارِهِ وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَكَانُوا هُمْ الْمُقَصِّرِينَ فِي تَرْكِهِمْ مُرَاقَبَتَهُ فَخُصُّوا بِالضَّمِّ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ يَخْدُمُ الْوَجْهَيْنِ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ ا هـ .
أَقُولُ : يُرِيدُ بِالْوَجْهَيْنِ الْعَقْلَ وَالْإِرْثَ لَكِنَّهُ مَنْظُورٌ فِيهِ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِمَا نَبَّهْنَا
عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ أَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى أَنْ يَعْقِلَ الْمُعْتِقُ إنَّمَا هُوَ كَوْنُ الْغُرْمِ بِالْغُنْمِ لَا كَوْنُ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ ، وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي فَكَيْفَ يَخْدُمُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَلِأَنَّ التَّنَاصُرَ بِهِ فَيَعْقِلُهُ مَبْنِيًّا عَلَى كَوْنِ الْغُنْمِ بِالْغُرْمِ كَمَا عَرَفْت فَكَيْفَ يَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ وَاوُ الْعَطْفِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ .
عَلَى أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَجْهَيْنِ مَعًا آلَ الْمَعْنَى إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَعْقِلُهُ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ ، وَإِنَّمَا يَرِثُهُ لِأَنَّهُ يَعْقِلُهُ فَأَدَّى إلَى الدَّوْرِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ دَلِيلٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَقَطْ وَهُوَ الْإِرْثُ مَعْطُوفٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ مَعْنًى بِإِزَالَةِ الرِّقِّ عَنْهُ فَيَرِثُهُ ، وَلِأَنَّ الْغُنْمَ بِالْغُرْمِ فَحَيْثُ يَغْرَمُ عَقْلَهُ يَرِثُ مَالَهُ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا سَيَأْتِي وَمَاتَ مُعْتَقٌ لِابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِمَا رَوَيْنَا مَعْنًى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ هُنَاكَ ، وَنَظَائِرُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى
قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ أَنَّهُ سَائِبَةٌ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَلَا يَصِحُّ .
قَالَ ( وَإِذَا أَدَّى الْمُكَاتَبُ عَتَقَ وَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِمَا بَاشَرَ مِنْ السَّبَبِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي الْمُكَاتَبِ ( وَكَذَا الْعَبْدُ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ أَوْ بِشِرَائِهِ وَعِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ كَفِعْلِهِ وَالتَّرِكَةُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ
( وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ ( وَوَلَاؤُهُمْ لَهُ ) لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُمْ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ
( وَمَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْعَتَاقِ ( وَوَلَاؤُهُ لَهُ ) لِوُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْعِتْقُ عَلَيْهِ
( وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدُ رَجُلٍ أَمَةً لِآخَرَ فَأَعْتَقَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْأَمَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَتْ وَعَتَقَ حَمْلُهَا ، وَوَلَاءُ الْحَمْلِ لِمَوْلَى الْأُمِّ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا ) لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ مَقْصُودًا إذْ هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا يَقْبَلُ الْإِعْتَاقَ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ عَنْهُ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَا ( وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ ( أَوْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ يَتَعَلَّقَانِ مَعًا .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَالَتْ رَجُلًا وَهِيَ حُبْلَى وَالزَّوْجُ وَالَى غَيْرَهُ حَيْثُ يَكُونُ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْأَبِ لِأَنَّ الْجَنِينَ غَيْرُ قَابِلٍ لِهَذَا الْوَلَاءِ مَقْصُودًا ، لِأَنَّ تَمَامَهُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لَهُ .
قَالَ ( فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَلَدًا فَوَلَاؤُهُ لِمَوَالِي الْأُمِّ ) لِأَنَّهُ عَتَقَ تَبَعًا لِلْأُمِّ لِاتِّصَالِهِ بِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَيَتْبَعُهَا فِي الْوَلَاءِ وَلَمْ يَتَيَقَّنْ بِقِيَامِهِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حَتَّى يَعْتِقَ مَقْصُودًا ( فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ وَانْتَقَلَ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ) لِأَنَّ الْعِتْقَ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ يَثْبُتُ تَبَعًا لِلْأُمِّ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ } ثُمَّ النَّسَبُ إلَى الْآبَاءِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ وَالنِّسْبَةُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ كَانَتْ لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْأَبِ ضَرُورَةً ، فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ؛ كَوَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ يُنْسَبُ إلَى قَوْمِ الْأُمِّ ضَرُورَةً ، فَإِذَا أَكَذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ
سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجَعًا بِالشَّكِّ فَأُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا
( قَوْلُهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ عَبْدُ رَجُلٍ أَمَةً لِآخَرَ فَأَعْتَقَ مَوْلَى الْأَمَةِ الْأَمَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ الْعَبْدِ عَتَقَتْ وَعَتَقَ حَمْلُهَا ، وَوَلَاءُ الْحَمْلِ لِمَوْلَى الْأُمِّ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ أَبَدًا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ عَنْهُ عَمَلًا بِمَا رَوَيْنَا .
وَقَالَ الشُّرَّاحُ : إنَّمَا صَارَ الْحَمْلُ مُعْتَقًا مَقْصُودًا لِأَنَّ الْمَوْلَى قَصَدَ إعْتَاقَ الْأُمِّ وَالْقَصْدُ إلَيْهَا بِالْإِعْتَاقِ قَصْدٌ إلَى جَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَالْحَمْلُ جُزْءٌ مِنْهَا فَصَارَ مُعْتَقًا مَقْصُودًا ا هـ .
أَقُولُ : يَرَى الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : وَإِنْ أَعْتَقَ حَامِلًا عَتَقَ حَمْلُهَا تَبَعًا لَهَا إذْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِهَا ا هـ .
وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنْ يَصِيرَ الْحَمْلُ مُعْتَقًا تَبَعًا أَلْبَتَّةَ لَا مَقْصُودًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ وَانْتَقَلَ عَنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي الْأَبِ ) قَالَ فِي الْكَافِي : فَإِنْ قِيلَ : الْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَكَذَا الْوَلَاءُ يَجِبُ أَنْ لَا يَنْفَسِخَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ .
قُلْنَا : لَا يَنْفَسِخُ ، وَلَكِنْ حَدَثَ وَلَاءٌ أَوْلَى مِنْهُ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ كَمَا نَقُولُ فِي الْأَخِ إنَّهُ عَصَبَةٌ فَإِذَا حَدَثَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْإِرْثِ لَا يُبْطِلُ تَعْصِيبَهُ وَلَكِنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ ا هـ .
وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ نَقْلًا عَنْ الشَّيْخِ أَبِي نَصْرٍ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْوَلَاءُ بَلْ قُدِّمَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ أَوْلَى مِنْهُ فِي الْإِرْثِ لَزِمَ أَنْ تَرِثَ مَوَالِي الْأُمِّ عِنْدَ انْقِطَاعِ مَوَالِي الْأَبِ بَعْدَ انْتِقَالِ الْوَلَاءِ عَنْ مَوَالِيهَا إلَى مَوَالِيهِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي الْعَصَبَةِ الْأَدْنَى عِنْدَ انْقِطَاعِ الْعَصَبَةِ
الْأَوْلَى مِنْهُ كَالْأَخِ عِنْدَ عَدَمِ الِابْنِ وَالْأَبِ ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ أَنْ يَرِثَ مَوَالِي الْأُمِّ بِالْوَلَاءِ فِي حَالٍ بَعْدَ أَنْ انْتَقَلَ عَنْهُمْ الْوَلَاءُ بِالْجَرِّ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ إلَخْ ) .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا إلَخْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ : يَعْنِي إذَا وَلَدَتْ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُعْتِقَ الْأَبُ يَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ مِنْ مَوَالِي الْأُمِّ إلَى مَوَالِي نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ حَيْثُ لَا يَجُرُّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوَالِي نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ بَعْدَ عِتْقِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَلْ يَكُونُ وَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوَالِي أُمِّهِ وَإِنْ أَعْتَقَ الْأَبَ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لِاسْتِحَالَتِهِ مِنْ الْمَيِّتِ وَإِلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ .
أَمَّا إذَا كَانَ بَائِنًا فَلِحُرْمَةِ الْوَطْءِ بَعْدَهُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ رَجْعِيًّا فَلِئَلَّا يَصِيرَ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ فَأُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْحَمْلُ مَوْجُودًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ فَعَتَقَ مَقْصُودًا فَلَا يَنْتَقِلُ انْتَهَى .
وَأَدَّى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنْ بِطَرِيقِ النَّقْضِ ، وَالْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ : وَنُوقِضَ قَوْلُهُ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ بِمَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ امْرَأَةَ مُكَاتَبٍ فَمَاتَ عَنْ وَفَاءٍ أَوْ أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ حَيْثُ يَكُونُ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ وَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَوْدَ إلَيْهِ بِعَوْدِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا
الْعِتْقِ لِلْأَبِ أَهْلِيَّةٌ لِتَعَذُّرِ إضَافَةِ الْعُلُوقِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَإِلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِمَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ ، لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ فَيَحْتَاجَ إلَى إثْبَاتِهَا لِيَثْبُتَ النَّسَبُ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ أُسْنِدَ إلَى حَالَةِ النِّكَاحِ فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَعَتَقَ مَقْصُودًا ، وَمَنْ عَتَقَ مَقْصُودًا لَا يَنْتَقِلُ وَلَاؤُهُ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : مَدَارُ كَلَامِهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ إلَخْ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ، لَكِنَّهُ مَحَلُّ بَحْث ، فَإِنَّ الْعَوْدَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ أَوَّلًا لِمَوَالِي الْأُمِّ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى مَوَالِي الْأَبِ بِصَيْرُورَتِهِ أَهْلًا ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ عِتْقُ الْأُمِّ عَلَى عِتْقِ الْأَبِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عِتْقَ الْأَبِ مُقَدَّمٌ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ فِي صُورَةِ إنْ عَتَقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ ، إذْ لَا مَجَالَ لِإِحْدَاثِ الْعِتْقِ فِي الْمَيِّتِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ الْعَوْدُ أَصْلًا فَلَا يُتَوَهَّمُ بِهَا النَّقْضُ رَأْسًا عَلَى قَوْلِهِ فَإِذَا صَارَ أَهْلًا عَادَ الْوَلَاءُ إلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ مَوْتٍ ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا مِسَاسَ لِتِلْكَ الصُّورَةِ أَصْلًا بِمَسْأَلَةِ انْتِقَالِ الْوَلَاءِ بِالْجَرِّ بِخِلَافِ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ مَا إذَا أُعْتِقَتْ الْمُعْتَدَّةُ عَنْ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ هُنَاكَ أَنْ يَقَعَ عِتْقُ الْأَبِ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ فَتَصِيرَ مَظِنَّةَ النَّقْضِ بِهَا عَلَى
مَسْأَلَةِ جَرِّ الْوَلَاءِ فَيَحْسُنُ تَدَارُكُ دَفْعِهِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ تَدَارَكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ رَبْطَ الصُّورَةِ الْأُولَى أَيْضًا بِمَا نَحْنُ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي تَصْوِيرِهَا : بِأَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ امْرَأَةَ مُكَاتَبٍ فَمَاتَ عَنْ وَفَاءٍ فَأَدَّى إلَى تَأَخُّرِ عِتْقِ الْأَبِ عَنْ عِتْقِ الْأُمِّ .
قُلْت : لَا يَتَيَسَّرُ التَّأَخُّرُ فِيمَا قَالَهُ أَيْضًا ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ الَّذِي مَاتَ عَنْ وَفَاءِ قَوْلَيْنِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَحَدُهُمَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ أَنَّهُ يُعْتَقُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ ، فَعَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ تَقَدُّمُ عِتْقِ الْأَبِ عَلَى عِتْقِ الْأُمِّ فِيمَا صَوَّرَهُ أَيْضًا .
وَثَانِيهِمَا مَذْهَبُ الْبَعْضِ وَهُوَ أَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْزِلَ حَيًّا تَقْدِيرًا فِي حَقِّ الْأَدَاءِ كَمَا يَنْزِلُ الْمَيِّتُ حَيًّا فِي حَقِّ التَّجْهِيزِ وَالتَّكْفِينِ ، فَعَلَى هَذَا أَنَّ اللَّازِمَ فِيمَا صَوَّرَهُ أَيْضًا اعْتِبَارُ عِتْقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا اعْتِبَارُ عِتْقِهِ بَعْدَ عِتْقِ امْرَأَتِهِ الْمُعْتَدَّةِ عَنْ مَوْتِهِ حَتَّى يَتَأَخَّرَ عِتْقُهَا عَنْ عِتْقِهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُفْرَضَ تَحَقُّقُ الْأَدَاءِ عَمَّا تَرَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَفَاءً بَعْدَمَا أُعْتِقَتْ امْرَأَتُهُ وَيُعْتَبَرُ عِتْقُهُ حِينَ تَحَقُّقِ الْأَدَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى مَذْهَبِ الْبَعْضِ فَتَأَمَّلْ
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِذَا تَزَوَّجَتْ مُعْتَقَةً بِعَبْدٍ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا فَجَنَى الْأَوْلَادُ فَعَقْلُهُمْ عَلَى مَوَالِي الْأُمِّ ) لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا تَبَعًا لِأُمِّهِمْ وَلَا عَاقِلَةَ لِأَبِيهِمْ وَلَا مَوْلَى ، فَأُلْحِقُوا بِمَوَالِي الْأُمِّ ضَرُورَةً كَمَا فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( فَإِنْ أُعْتِقَ الْأَبُ جَرَّ وَلَاءَ الْأَوْلَادِ إلَى نَفْسِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِمَا عَقَلُوا ) لِأَنَّهُمْ حِينَ عَقَلُوهُ كَانَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ مَقْصُودًا لِأَنَّ سَبَبَهُ مَقْصُودٌ وَهُوَ الْعِتْقُ ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ إذَا عَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ الْأُمِّ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ حَيْثُ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ النَّسَبَ هُنَالِكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَكَانُوا مَجْبُورِينَ عَلَى ذَلِكَ فَيَرْجِعُونَ .
قَالَ ( مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْعَجَمِ بِمُعْتَقَةٍ مِنْ الْعَرَبِ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ) فَوَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : حُكْمُهُ حُكْمُ أَبِيهِ ، لِأَنَّ النَّسَبَ إلَى الْأَبِ كَمَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرَبِيًّا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ مَعْنًى وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ ، وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَفَاءَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ ، وَالْقَوِيُّ لَا يُعَارِضُهُ الضَّعِيفُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَرِيبًا لِأَنَّ أَنْسَابَ الْعَرَبِ قَوِيَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي حُكْمِ الْكَفَاءَةِ وَالْعَقْلِ ، كَمَا أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِهَا فَأَغْنَتْ عَنْ الْوَلَاءِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْخِلَافُ فِي مُطْلَقِ الْمُعْتَقَةِ وَالْوَضْعُ فِي مُعْتَقَةِ الْعَرَبِ وَقَعَ اتِّفَاقًا
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ هَالِكٌ مَعْنًى ) لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَ مَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } أَيْ كَافِرًا فَهَدَيْنَاهُ ، فَصَارَ هَذَا الْوَلَدُ كَأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ فَيُنْسَبُ إلَى مَوَالِي الْأُمِّ ضَرُورَةً ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هَاهُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْعَبْدِ هَالِكًا مَعْنَى أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَيِّتِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ لِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ أَثَرِ الْكُفْرِ ، وَالْكُفْرُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ مَوْتِ الْأَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِمَوَالِيهِ ، بَلْ إنَّمَا يَظْهَرُ أَثَرُ الْوَلَاءِ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، إذْ عِنْدَ حَيَاتِهِ هُوَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ مَجْهُولِ الْأُبُوَّةِ وَأَنَّ وَلَدَهُ فِي حُكْمِ مَجْهُولِ النَّسَبِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَصَارَ هَذَا الْوَلَدُ كَأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ لَا يَرِثَ مِنْ هَذَا الْوَلَدِ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ بِأَبِيهِ الْعَبْدِ مِنْ الْأَقَارِبِ الْأَحْرَارِ كَالْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَبْقَى أَبُوهُ ذَلِكَ عَبْدًا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ مَجْهُولِ النَّسَبِ عَلَى الْفَرْضِ الْمَزْبُورِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْمَحْرُومَ عَنْ الْمِيرَاثِ كَالْكَافِرِ وَالْقَاتِلِ وَالرَّقِيقُ لَا يَحْجُبُ مَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا ، بَلْ يَرِثُ الْأَبْعَدُ عِنْدَ حِرْمَانِ الْأَقْرَبِ ، فَالْأَوْلَى هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ عَبْدًا لِأَنَّهُ لَا أَهْلِيَّةَ لَهُ لِرِقِّهِ كَمَا مَرَّ ، فَمَا لَمْ تَحْصُلْ الْأَهْلِيَّةُ لَهُ بِزَوَالِ رِقِّهِ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ وَلَا لِمَوَالِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ
مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ حَتَّى اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ فِيهِ ، وَالنَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّهُمْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ وَلِهَذَا لَمْ تُعْتَبَرْ الْكَفَاءَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ ، وَالْقَوِيُّ لَا يُعَارِضُهُ الضَّعِيفُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : ظَاهِرُ هَذَا التَّعْلِيلِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَوَالِي الْأُمِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مُقَدَّمِينَ فِي الْإِرْثِ عَلَى الْعَصَبَاتِ النِّسْبِيَّةِ لِأَوْلَادِهَا ، بَلْ عَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ لَهُمْ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلٍّ مِنْ الْعَصَبَاتِ النِّسْبَةَ وَأَصْحَابِ الْفَرَائِضِ بِالْقَرَابَةِ النِّسْبِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ النَّسَبُ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ضَعِيفًا لَا يَصْلُحُ أَنْ يُعَارِضَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَدْ يُرَى أَنْ لَا يُعَارِضَ أَحَدٌ مِنْ الْعَجَمِ فِي الْإِرْثِ بِجِهَةِ نَسَبِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الْجِهَةُ جِهَةَ الْعُصُوبَةِ أَوْ جِهَةَ الْفَرْضِ مَوَالِي الْعَتَاقَةِ لِقُوَّةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَضَعْفِ النَّسَبِ فِي حَقِّ الْعَجَمِ ، وَمَعَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي الْإِرْثِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفَرَائِضِ وَسَيَجِيءُ فِي نَفْسِ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا أَنَّ مَوَالِيَ الْعَتَاقَةِ مُطْلَقًا مُؤَخَّرُونَ فِي الْإِرْثِ عَنْ أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَعَنْ الْعَصَبَاتِ النِّسْبِيَّةِ ، وَإِنَّمَا يُقَدَّمُونَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ .
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : نَبَطِيٌّ كَافِرٌ تَزَوَّجَ بِمُعْتَقَةٍ كَافِرَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ النَّبَطِيُّ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ وَلَدَتْ أَوْلَادًا .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ : مَوَالِيهِمْ مَوَالِي أُمِّهِمْ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : مَوَالِيهمْ مَوَالِي أَبِيهِمْ ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ وَإِنْ كَانَ أَضْعَفَ فَهُوَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ فَصَارَ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوَالِي وَبَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ أَضْعَفُ حَتَّى يَقْبَلَ الْفَسْخَ ، وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ لَا يَقْبَلُهُ ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْأَبَوَانِ مُعْتَقَيْنِ فَالنِّسْبَةُ إلَى قَوْمِ الْأَبِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا ، وَالتَّرْجِيحُ لِجَانِبِهِ لِشَبَهِهِ بِالنَّسَبِ أَوْ لِأَنَّ النُّصْرَةَ بِهِ أَكْثَرُ .
قَالَ ( وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ تَعْصِيبٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ مِنْ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ ) { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ هُوَ أَخُوك وَمَوْلَاك ، إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ لَهُ ، وَلَوْ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ } { وَوَرَّثَ ابْنَةَ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْعُصُوبَةِ مَعَ قِيَامِ وَارِثٍ } وَإِذْ كَانَ عَصَبَةً تَقَدَّمَ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْمُعْتِقِ ) ، لِأَنَّ الْمُعْتِقَ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا } قَالُوا : الْمُرَادُ مِنْهُ وَارِثٌ هُوَ عَصَبَةٌ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الثَّانِي فَتَأَخَّرَ عَنْ الْعَصَبَةِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَهُوَ أَوْلَى ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَصَبَةٌ مِنْ النَّسَبِ فَمِيرَاثُهُ لِلْمُعْتَقِ ) تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ صَاحِبُ فَرْضٍ ذُو حَالٍ ، أَمَّا إذَا كَانَ فَلَهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ عَلَى مَا رَوَيْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَصَبَةَ مَنْ يَكُونُ التَّنَاصُرُ بِهِ لِبَيْتِ النِّسْبَةِ وَبِالْمَوَالِي الِانْتِصَارُ عَلَى مَا مَرَّ وَالْعَصَبَةُ تَأْخُذُ مَا بَقِيَ
( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَمِيرَاثُهُ لِبَنِي الْمَوْلَى دُونَ بَنَاتِهِ ) ، وَلَيْسَ لِلنِّسَاءِ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ كَاتَبْنَ أَوْ كَاتَبَ مَنْ كَاتَبْنَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي آخِرِهِ { أَوْ جَرَّ وَلَاءَ وَلَاءِ مُعْتَقِهِنَّ } وَصُورَةُ الْجَرِّ قَدَّمْنَاهَا ، وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهَا فَيُنْسَبُ بِالْوَلَاءِ إلَيْهَا وَيُنْسَبُ إلَيْهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى مَوْلَاهَا ، بِخِلَافِ النَّسَبِ لِأَنَّ سَبَبَ النِّسْبَةِ فِيهِ الْفِرَاشِ ، وَصَاحِبُ الْفِرَاشِ إنَّمَا هُوَ الزَّوْجُ ، وَالْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةٌ لَا مَالِكَةٌ ، وَلَيْسَ حُكْمُ مِيرَاثِ الْمُعْتَقِ مَقْصُورًا عَلَى بَنِي الْمَوْلَى بَلْ هُوَ لِعَصَبَتِهِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ، لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ وَيَخْلُفُهُ فِيهِ مَنْ تَكُونُ النُّصْرَةُ بِهِ ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى أَبًا وَابْنًا فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ أَقْرَبُهُمَا عُصُوبَةً ، وَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ لِلْجَدِّ دُونَ الْأَخِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فِي الْعُصُوبَةِ عِنْدَهُ .
وَكَذَا الْوَلَاءُ لِابْنِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى يَرِثَهُ دُونَ أَخِيهَا لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنَّ عَقْلَ جِنَايَةِ الْمُعْتَقِ عَلَى أَخِيهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا وَجِنَايَتُهُ كَجِنَايَتِهَا
( وَلَوْ تَرَكَ الْمَوْلَى ابْنًا وَأَوْلَادَ ابْنٍ آخَرَ ) مَعْنَاهُ بَنِي ابْنٍ آخَرَ ( فَمِيرَاثُ الْمُعْتَقِ لِلِابْنِ دُونَ بَنِي الِابْنِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَعْنَاهُ الْقُرْبُ عَلَى مَا قَالُوا ، وَالصُّلْبِيُّ أَقْرَبُ .
فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ قَالَ ( وَإِذَا أَسْلَمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثُهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَالْوَلَاءُ صَحِيحٌ وَعَقْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَإِنْ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَمِيرَاثُهُ لِلْمَوْلَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْمُوَالَاةُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ وَارِثٍ آخَرَ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ الْوَصِيَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي وَارِثٌ لِحَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الثُّلُثِ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ إيمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَالْآيَةُ فِي الْمُوَالَاةِ .
{ وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَجُلٍ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ فَقَالَ : هُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ } وَهَذَا يُشِيرُ إلَى الْعَقْلِ وَالْإِرْثِ فِي الْحَالَتَيْنِ هَاتَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَالَهُ حَقُّهُ فَيَصْرِفُهُ إلَى حَيْثُ شَاءَ ، وَالصَّرْفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ لَا أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ .
( فَصْلٌ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ) أَخَّرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عَنْ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ قَوِيٌّ لِأَنَّهُ غَيْرُ قَابِلٍ لِلتَّحَوُّلِ وَالِانْتِقَالِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى فِيهِ أَنْ يَنْتَقِلَ قَبْلَ الْعَقْلِ ، وَلِأَنَّهُ يُوجَدُ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ الْإِحْيَاءُ الْحُكْمِيُّ وَلَا يُوجَدُ فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ إحْيَاءٌ أَصْلًا ، وَلِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَنَّهُ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ وَأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ ، بِخِلَافِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَقُلْ بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ وَقَالَ : لَا وَلَاءَ إلَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، ثُمَّ إنَّ مَعْنَى مُطْلَقِ الْوَلَاءِ لُغَةً وَشَرِيعَةً قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَلَاءِ .
وَتَفْسِيرُ هَذَا الْوَلَاءِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ أَنْ يُسْلِمَ رَجُلٌ عَلَى يَدِ رَجُلٍ فَيَقُولَ لِلَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَالَيْتُكَ عَلَى أَنِّي إنْ مِتَّ فَمِيرَاثِي لَك ، وَإِنْ جَنَيْتُ فَعَقْلِي عَلَيْك وَعَلَى عَاقِلَتِك وَقَبِلَ الْآخَرُ مِنْهُ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ : وَلَهُ ثَلَاثُ شَرَائِطَ : إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ مَجْهُولَ النَّسَبِ بِأَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا نِسْبَةُ غَيْرِهِ إلَيْهِ فَغَيْرُ مَانِعٍ .
وَالثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَلَا وَلَاءُ مُوَالَاةٍ مَعَ أَحَدٍ وَقَدْ عَقَلَ عَنْهُ .
وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرِيطَةَ الْأُولَى تُغْنِي عَنْ الشَّرِيطَةِ الثَّالِثَةِ ، إذْ لَا جَهَالَةَ فِي نَسَبِ الْعَرَبِ فَيَظْهَرُ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمُوَالِي مَجْهُولَ النَّسَبِ اشْتِرَاطُ أَنْ لَا يَكُونَ عَرَبِيًّا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الثَّالِثَةِ اسْتِقْلَالٌ مِنْ قَبِيلِ التَّصْرِيحِ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ حَصْرُ شَرَائِطِ الْوَلَاءِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ كَمَا
هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ مِنْ شَرَائِطِهِ أَيْضًا شَرْطُ الْإِرْثِ وَالْعَقْلُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّمَا يَصِحُّ وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ بِشَرَائِطَ : مِنْهَا أَنْ يُشْتَرَطَ الْمِيرَاثُ وَالْعَقْلُ ، وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَلَهُ شَرَائِطُ ، وَعَدَّ مِنْهَا أَنْ يُشْتَرَطَ الْإِرْثُ وَالْعَقْلُ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَصْرَ شَرَائِطِهِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ يَكُونُ تَخْصِيصُ هَذِهِ الثَّلَاثِ بِالذِّكْرِ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ وَيَكُونُ ذِكْرُ الْعَدَدِ عَبَثًا ، وَلَا يَكُونُ لِلسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مُتَّصِلًا بِذَلِكَ كَمَا سَتَعْرِفُهُمَا وَجْهٌ لِأَنَّ مَدَارَهُمَا عَلَى إرَادَةِ الْحَصْرِ وَإِلَّا لَا يَتَوَجَّهُ ذَلِكَ السُّؤَالُ رَأْسًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ أَصْلًا .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ عَقْلُ الْأَعْلَى وَحُرِّيَّتُهُ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بَاطِلَةٌ فَكَيْفَ جَعَلَ الشَّرَائِطَ ثَلَاثًا .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصُّوَرِ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْت فَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ .
أَقُولُ : فِي هَذَا الْجَوَابِ خَلَلٌ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَقْلِ الْأَعْلَى وَحُرِّيَّتِهِ أَيْضًا مِنْ الشَّرَائِطِ الْعَامَّةِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صُوَرِ الْمُوَالَاةِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ عَقْلِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِدُونِ الْعَقْلِ ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَبْدِ أَصْلًا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَإِنَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقَبُولِ كَانَ عَقْدُهُ كَعَقْدِ مَوْلَاهُ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى ، نَصَّ
عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُ فَإِنَّمَا هُوَ نَادِرٌ فَلَمْ يَذْكُرْهُ .
ثُمَّ إنَّ فِي تَقْرِيرِ السُّؤَالِ أَيْضًا خَلَلًا ، فَإِنَّ تَقْيِيدَ الْعَقْلِ بِعَقْلِ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ مِنْ شَرْطِ الْعَقْدِ عَقْلُ الْأَعْلَى مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّ عَقْلَ الْأَسْفَلِ أَيْضًا شَرْطُ الْعَقْدِ ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِيجَابُ بِدُونِ الْعَقْلِ كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ الْقَبُولُ بِدُونِهِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا شَرَائِطُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْعَاقِدَيْنِ ، إذْ لَا صِحَّةَ لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ انْتَهَى .
وَكَذَا تَقْيِيدُ الْحُرِّيَّةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى ضَمِيرِ الْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ وَحُرِّيَّتِهِ مِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ ، إذْ حُرِّيَّةُ الْأَسْفَلِ أَيْضًا شَرْطٌ بَلْ هِيَ أَظْهَرُ اشْتِرَاطًا مِنْ حُرِّيَّةِ الْأَعْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْعَبْدِ عَقْدَ الْمُوَالَاةِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي ذَلِكَ ، وَيَجُوزُ قَبُولُهُ إيَّاهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَيَصِيرُ الْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَأَيْضًا لَا وَجْهَ لِتَرْكِ ذِكْرِ الْبُلُوغِ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ السُّؤَالِ فَإِنَّهُ مِنْ شَرْطِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ كَالْعَقْلِ وَالْحُرِّيَّةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْبَدَائِعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ فِي وَقَوْلِهِ فَإِنَّ مُوَالَاةَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بَاطِلَةٌ أَوْفَقُ بِاشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَقْلِ ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ قَدْ يَكُونُ عَاقِلًا فَلَمْ يَكُنْ بُطْلَانُ مُوَالَاتِهِ لِعَدَمِ عَقْلِهِ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ بُلُوغِهِ كَمَا لَا يَخْفَى
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ فَهُوَ أَوْلَى مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ) لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدُهُمَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرُهُمَا ، وَذُو الرَّحِمِ وَارِثٌ ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ لِأَنَّهُ بِالِالْتِزَامِ وَهُوَ بِالشَّرْطِ ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْلَى مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقَبَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ الْمُوَالَاةِ .
قَالَ ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَكَذَا لِلْأَعْلَى أَنْ يَتَبَرَّأَ عَنْ وَلَائِهِ لِعَدَمِ اللُّزُومِ ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَقَدَ الْأَسْفَلُ مَعَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ ) لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِهِ الْقَاضِي ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ عِوَضٍ نَالَهُ كَالْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ ، وَكَذَا لَا يَتَحَوَّلُ وَلَدُهُ ، وَكَذَا إذَا عَقَلَ عَنْ وَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ لِأَنَّهُمْ فِي حَقِّ الْوَلَاءِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ .
( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ) أَشَارَ بِهِ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ بِقَوْلِهِ : وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ عَلَى أَنْ يَرِثَهُ وَيَعْقِلَ عَنْهُ ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ عَلَى وُجُوبِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ فِي صِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِ الْكَافِي : قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ : إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ وَيَعْقِلُ عَنْهُ ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ ، فَإِذَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى غَيْرِهِ .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، هَذَا لَفْظُ الْكَافِي بِعَيْنِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ لَيْسَ بِمَوْقُوفٍ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْمُوَالَاةِ بَلْ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَافٍ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا وَالَيْتُك وَالْآخَرُ قَبِلْت ، لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَمْ يَذْكُرْ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْمُوَالَاةِ بَلْ جَعَلَهُمَا حُكْمًا لَهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا فَافْهَمْ .
وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ .
يُوَضِّحُهُ قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ : وَتَفْسِيرُ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَقَالَ لَهُ أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتَّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْتُ وَقَالَ الْآخَرُ قَبِلْت فَيَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالتَّيْكَ وَالْآخَرُ قَبِلْت ، وَكَذَا إذَا عَقَدَ مَعَ رَجُلٍ غَيْرِ الَّذِي أَسْلَمَ عَلَى يَدِهِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ التُّحْفَةِ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ فِي صِحَّةِ الْمُوَالَاةِ .
أَمَّا مَا نَقَلَهُ عَنْ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ
فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ وُقُوعِ الصَّرِيحِ بِاشْتِرَاطِهِمَا هُنَاكَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ تَضَمُّنِ الْمُوَالَاةِ اشْتِرَاطَهُمَا ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَوَلَاءٌ فِي قَوْلِهِ إذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَلَى يَدِ رَجُلٍ وَوَالَاهُ مُغْنِيًا عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا وَالَيْتُك وَالْآخَرُ قَبِلْت كَافٍ فِي تَمَامِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ ، وَجَعْلُ نَفْسِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ حُكْمًا لِلْمُوَالَاةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ ذِكْرِهِمَا فِي الْعَقْدِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْعَقْد كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَوْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ غَيْرِهِ وَوَالَاهُ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِسْلَامَ عَلَى يَدِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا .
وَأَمَّا قَوْلُ صَاحِبِ التُّحْفَةِ : فَلِأَنَّ مَحِلَّ تَوَهُّمِ عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالَيْتُكَ وَالْآخَرُ قَبِلْت ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ وَالَيْتُكَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ فَقَطْ لَا بَدَلَ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ أَنْتَ مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا مِتَّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْتُ فَلَا دَلَالَةَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِمَا .
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ عَدَمَ التَّصْرِيحِ بِشَرْطٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَبَيَانِ صُورَةِ الْمُوَالَاةِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ التَّصْرِيحِ بِهِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِهِ مِنْ بَيَانِهِمْ إيَّاهُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ ، أَلَا يُرَى أَنَّ لِصِحَّةِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ شَرَائِطَ كَثِيرَةً ، كَكَوْنِ الْمُوَالِي مَجْهُولَ النَّسَبِ ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُعْتَقٍ ، وَكَوْنِهِ غَيْرَ عَرَبِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ عَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَبَيَانِ صُورَتِهِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي هَذَا أَنْ يَكُونَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ كَمَا فِي عَزْلِ الْوَكِيلِ قَصْدًا ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ سَبَبَ اشْتِرَاطِ
حَضْرَةِ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ الْعَزْلِ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ تَضَرُّرُ الْوَكِيلِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عِنْدَ رُجُوعِ الْحُقُوقِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْوَكَالَةِ ، فَمَا مَعْنَى اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلِ .
وَأُجِيبَ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ سَبَبَ الِاشْتِرَاطِ هَاهُنَا هُوَ السَّبَبُ هُنَالِكَ وَهُوَ دَفْعُ الضَّرَرِ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ كَانَ بَيْنَهُمَا ، وَفِي تَفَرُّدِ أَحَدِهِمَا إلْزَامُ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ ، وَنَفْسُ إلْزَامِ أَحَدِهِمَا حُكْمَ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ بِدُونِ عِلْمِهِ ضَرَرٌ لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّ فِيهِ جَعْلَ عَقْدِ الرَّجُلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ كَلَا عَقْدٍ ، وَفِيهِ إبْطَالُ فِعْلِهِ فَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْعِلْمِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَقَصَرَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ذِكْرَ الْجَوَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَكَأَنَّهُ اخْتَارَهُ أَيْضًا .
أَقُولُ : هَذَا الْوَجْهُ مَحَلُّ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ كَوْنَ نَفْسِ إلْزَامِ الْفَسْخِ عَلَى الْآخَرِ ضَرَرًا أَمْرٌ ظَاهِرٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِيهِ إبْطَالَ فِعْلِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ، وَأَمَّا مَدْخَلِيَّةُ عَدَمِ عِلْمِ الْآخَرِ بِذَلِكَ الْإِلْزَامِ فِي كَوْنِهِ ضَرَرًا فَغَيْرُ ظَاهِرٍ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْآخَرِ بِهِ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لِاسْتِقْلَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْعَقْدِ عِنْدَ عِلْمِ الْآخِرِ بِلَا رَيْبٍ فَيَتَحَقَّقُ إبْطَالُ فِعْلِ الْآخَرِ فِي صُورَةِ الْعِلْمِ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عِلْمَ الْإِنْسَانِ بِالْأَمْرِ الَّذِي يَكْرَهُهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ لَا يُجْدِي شَيْئًا ، فَإِذَنْ لَمْ يَظْهَرْ كَوْنُ سَبَبِ اشْتِرَاطِ تَوَقُّفِ الْفَسْخِ هَاهُنَا عَلَى حَضْرَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ الضَّرَرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : دَفْعُ الضَّرَرِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ هَاهُنَا كَمَا تَعَيَّنَ فِي صُورَةِ
الْعَزْلِ عَنْ الْوَكَالَةِ إلَّا أَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ بِإِرْضَاءِ الْآخَرِ بِالْبِرِّ وَالْمُجَازَاةِ ، لَكِنْ فِيهِ مَا فِيهِ فَتَأَمَّلْ .
وَثَانِيهِمَا : أَنَّ فَسْخَ أَحَدِهِمَا هَذَا الْعَقْدَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ يَتَضَمَّنُ إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ .
أَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَسْفَلِ فَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَمُوتُ الْأَسْفَلُ فَيَحْسِبُ الْأَعْلَى أَنَّ مَالَهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ فَيَتَصَرَّفُ فِيهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ الْأَسْفَلَ رُبَّمَا يُعْتِقُ عَبِيدًا عَلَى حُسْبَانِ أَنَّ عَقْلَ عَبِيدِهِ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَلَوْ صَحَّ فَسْخُ الْأَعْلَى يَجِبُ الْعَقْلُ عَلَى الْأَسْفَلِ بِدُونِ عِلْمِهِ فَيَتَضَرَّرُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ .
أَقُولُ : هَذَا الْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ هُوَ الصَّوَابُ ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ فِي الْفَسْخِ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ ضَرَرَ الِاغْتِرَارِ ، وَفِي الْإِعْلَامِ دَفْعُ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فَسْخٌ حُكْمِيٌّ بِمَنْزِلَةِ الْعَزْلِ الْحُكْمِيِّ فِي الْوَكَالَةِ ) قِيلَ عَلَيْهِ لِمَاذَا يَجْعَلُ صِحَّةَ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي مُوجِبَةَ بُطْلَانِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ؟ قُلْنَا : إنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ ، وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلَاءُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ مَعَ الثَّانِي بُطْلَانُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الْمَبْسُوطِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ أَنَّ قَوْلَهُمْ وَالنَّسَبُ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ مَمْنُوعٍ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا عِنْدَنَا كَمَا مَرَّ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ مُدَلَّلًا وَمَشْرُوحًا ،
وَالثَّانِي أَنَّ قِيَاسَ الْوَلَاءِ عَلَى النَّسَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ يَصِحَّ مَعَ الْأَوَّلِ إذْ النَّسَبُ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ إنْسَانٍ بَعْدَ ثُبُوتِهِ مِنْ آخَرَ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ كَذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى الْقِيَاسِ ، فَمِنْ أَيْنَ يُتَصَوَّرُ الِاسْتِدْلَال بِصِحَّةِ عَقْدِ الْوَلَاءِ مَعَ الثَّانِي عَلَى بُطْلَانِ عَقْدِهِ مَعَ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ النَّسَبَ مَا دَامَ ثَابِتًا مِنْ إنْسَانٍ أَوَّلًا لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ مِنْ غَيْرِهِ ثَانِيًا ، وَثُبُوتُ نَسَبِ وَلَدِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْهُمَا إنَّمَا هُوَ فِيمَا ادَّعَيَاهُ مَعًا .
وَأَمَّا إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا وَالْآخَرُ ثَانِيًا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي كَمَا فُصِّلَ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُجَرَّدِ عَدَمِ صِحَّةِ اجْتِمَاعِ ثُبُوتِهِ لِلشَّخْصَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَ ثُبُوتُهُ لَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّعَاقُبِ لَا فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِانْتِقَالِ مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ نَاشِئٌ مِنْ كَوْنِ الثَّابِتِ لَازِمًا وَعَقْدُ الْوَلَاءِ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَيُخَالِفُ النَّسَبَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فَلِهَذَا يَصِحُّ الِانْتِقَالُ فِيهِ دُونَ النَّسَبِ فَتَأَمَّلْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لِمَوْلَى الْعَتَاقَةِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا ) لِأَنَّهُ لَازِمٌ ، وَمَعَ بَقَائِهِ لَا يَظْهَرُ الْأَدْنَى .
كِتَابُ الْإِكْرَاهِ قَالَ ( الْإِكْرَاهُ يَثْبُتُ حُكْمُهُ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ مَا تَوَعَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ لِصًّا ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مَعَ بَقَاءِ أَهْلِيَّتِهِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا خَافَ الْمُكْرَهُ تَحْقِيقَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْقَادِرِ وَالسُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ سِيَّانِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْقُدْرَةِ ، وَاَلَّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ لِمَا أَنَّ الْمَنَعَةَ لَهُ وَالْقُدْرَةُ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمَنَعَةِ .
فَقَدْ قَالُوا هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ ، وَلَمْ تَكُنْ الْقُدْرَةُ فِي زَمَنِهِ إلَّا لِلسُّلْطَانِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ ، ثُمَّ كَمَا تُشْتَرَطُ قُدْرَةُ الْمُكْرِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ يُشْتَرَطُ خَوْفُ الْمُكْرَهِ وُقُوعَ مَا يُهَدَّدُ بِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ لِيَصِيرَ بِهِ مَحْمُولًا عَلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ .
( كِتَابُ الْإِكْرَاهِ ) قِيلَ فِي مُنَاسَبَةِ الْوَضْعِ لَمَّا ذَكَرَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لِمُنَاسَبَةِ الْمُكَاتَبِ ، وَذَكَرَ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ لِمُنَاسَبَةِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ لَاقَ إيرَادُ الْإِكْرَاهِ عَقِيبَ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَغَيُّرَ حَالِ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْحُرْمَةِ إلَى الْحِلِّ ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمَوْلَى الْأَعْلَى مِنْ حُرْمَةِ تَنَاوُلِ مَالِ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى حِلِّهِ بِالْإِرْثِ ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ يُغَيِّرُ حَالَ الْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمُكْرَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى حِلِّهَا فِي عَامَّةِ الْمَوَاضِعِ .
ثُمَّ إنَّ الْإِكْرَاهَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَمْلِ الْإِنْسَانِ عَلَى شَيْءٍ يَكْرَهُهُ ، يُقَالُ أَكْرَهْت فُلَانًا إكْرَاهًا : أَيْ حَمَلْته عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ ، وَأَمَّا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى وَالِابْتِلَاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ ، وَيَأْثَمُ مَرَّةً وَيُؤْجَرُ أُخْرَى وَهُوَ آيَةُ الْخِطَابِ وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ فِعْلٌ يُوجَدُ مِنْ الْمُكْرِهِ فَيُحْدِثُ فِي الْمَحَلِّ مَعْنًى فَيَصِيرُ بِهِ مَدْفُوعًا إلَى الْفِعْلِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ .
وَذَكَرَ فِي الْوَافِي أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ تَهْدِيدِ الْقَادِرِ غَيْرَهُ عَلَى مَا هَدَّدَهُ بِمَكْرُوهٍ عَلَى أَمْرٍ بِحَيْثُ يَنْتَفِي بِهِ الرِّضَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَلَك أَنْ تَخْتَارَ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ أَيَّهَا شِئْت قُلْت : وَقَدْ اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ عِبَارَةَ الْمَبْسُوطِ كَمَا تَرَى ، وَسَيَجِيءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَفْسِيرِهَا .
وَأَمَّا شَرْطُهُ وَحُكْمُهُ فَيَأْتِي فِي
الْكِتَابِ أَثْنَاءَ الْمَسَائِلِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَحْمِلَ الْمَرْءُ غَيْرَهُ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ حَمْلًا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَيَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ " لَا " فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ ، فَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْإِكْرَاهِ الثَّلَاثَةُ وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : قَدْ خَرَجَ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا عَنْ سَنَنِ الصَّوَابِ ، وَسَلَكَ مَسْلَكًا لَا يَرْتَضِيهِ أَحَدٌ مِنْ ذَوِي الْأَلْبَابِ ، وَإِنْ شِئْت مَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي هَذَا الْمَقَامِ فَاسْتَمِعْ لِمَا نَتْلُو عَلَيْك مِنْ الْكَلَامِ : فَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ هُوَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِقَتْلٍ أَوْ بِقَطْعِ عُضْوٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ الْمُلْجِئُ ، وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ بِضَرْبٍ أَوْ بِقَيْدٍ أَوْ بِحَبْسٍ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ الْغَيْرُ الْمُلْجِئِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ وَلَا الْخِطَابَ .
وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ فَقَالَ فِي أُصُولِهِ : الْإِكْرَاهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَيُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الْمُلْجِئُ .
وَنَوْعٌ يُعْدِمُ الرِّضَا وَلَا يُفْسِدُ الِاخْتِيَارَ وَهُوَ الَّذِي لَا يُلْجِئُ ، وَنَوْعٌ آخَرُ لَا يُعْدِمُ الرِّضَا وَهُوَ أَنْ يَهُمَّ بِحَبْسِ أَبِيهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ مَا يَجْرِي مُجْرَاهُ .
وَالْإِكْرَاهُ بِجُمْلَتِهِ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يُوجِبُ وَضْعَ الْخِطَابِ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشْفِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ :
الْإِكْرَاهُ حَمْلُ الْغَيْرِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُ مُبَاشَرَتَهُ لَوْلَا الْحَمْلُ عَلَيْهِ .
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا التَّعْرِيفِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هُوَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ بِغَيْرِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْقِسْمُ الثَّالِثُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مِنْ أَقْسَامِ الْإِكْرَاهِ لِعَدَمِ تَرَتُّبِ أَحْكَامِهِ عَلَيْهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشْفِ ، إذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ ظَهَرَ لَك أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ .
وَمَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بِعَيْنِهِ ، وَأَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَمَا تَوَهَّمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَشْفِ ، وَهُوَ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ إدْخَالِ ذَلِكَ الْقِسْمِ فِي مَعْنَى الْإِكْرَاهِ شَرْعًا عَدَمُ تَرَتُّبِ أَحْكَامِ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ ، وَانْكَشَفَ عِنْدَك أَيْضًا سِتْرُ مَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ تَنْوِيعِ الْإِكْرَاهِ إلَى نَوْعَيْنِ فَقَطْ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فِي الْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ أَحْوَالُ مَا هُوَ الْوَاقِعُ كَمَا عَرَفْت غَيْرُ صَحِيحٍ فِي نَفْسِهِ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَعَمَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَ فَسَادِ اخْتِيَارٍ أَوْ مَعَ عَدَمِهِ مَعَ أَنَّ مُقَابَلَةَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ رِضَاهُ تَمْنَعُهُ قَطْعًا ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ : إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارٌ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا ، وَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ : أَيْ بِدُونِ تَقْدِيرِ شَيْءٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ،
لِأَنَّ فَسَادَ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الرِّضَا لَا نَفْيَ عَدَمِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ إذَا أُخْرِجَ عَنْ ظَاهِرِهِ بِتَقْدِيرِ " لَا " كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا بَعْدُ يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا ، إذْ بِتَقْدِيرِ لَا يَصِيرُ الْمَعْنَى أَوْ لَا يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَصِحَّ اخْتِيَارُهُ مَعَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ لَا تَسْتَلْزِمُ نَفْيَ عَدَمِ الرِّضَا وَهُوَ ثُبُوتُ الرِّضَا لِجَوَازِ أَنْ يَصِحَّ الِاخْتِيَارُ وَانْعِدَامُ الرِّضَا كَمَا فِي النَّوْعِ الْغَيْرِ الْمُلْجِئِ مِنْ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ قَالَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى الْقِسْمِ الْآخَرِ ، لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ لَا فِي أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ ، وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَلٌّ لِأَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ مَعَ كَوْنِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ جِدًّا سِيَّمَا فِي مَقَامِ التَّعْرِيفِ لَا يُجْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ مَقْصُودِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةَ إلَى الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ لِلْإِكْرَاهِ ، لِأَنَّ نَفْيَ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ إنَّمَا يُفِيدُ صِحَّةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الرِّضَا بَلْ تُحَقِّقُ عَدَمَ الرِّضَا أَيْضًا كَمَا عَرَفْت آنِفًا فَلَا تَحْصُلُ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ الِاخْتِيَارُ عَلَى تَقْدِيرِ كَلِمَةِ " لَا " فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ الْإِكْرَاهِ لِصِدْقِهِ عَلَى الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ كَمَا تَرَى ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : نَفْيُ فَسَادِ الِاخْتِيَارِ فِي مُقَابَلَةِ انْتِفَاءِ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الرِّضَا فِي الْمُقَابِلِ فَيَخْرُجُ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ هَاهُنَا إلَى الْمُصَنِّفِ كَانَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَقُولَ بَدَلَ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ أَوْ لَا بِمَعْنَى أَوْ لَا يَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ ، فَهَلْ يُجَوِّزُ الْعَاقِلُ بِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتْرُكَ ذَاكَ اللَّفْظَ الْأَقْصَرَ
الْخَالِي عَنْ التَّمَحُّلَاتِ بِأَسْرِهَا لَوْ أَرَادَ إفَادَةَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي نَسَبَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ إلَيْهِ وَيَخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ الْأَطْوَلَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَمَحُّلَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي إفَادَةِ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَلَعَمْرِي إنَّ رُتْبَةَ الْمُصَنِّفِ بِمَعْزِلٍ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ .
فَالْحَقُّ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِهِ رِضَاهُ بِدُونِ فَسَادِ اخْتِيَارِهِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ فَإِنَّ الْعَامَّ إذَا قُوبِلَ بِالْخَاصِّ يُرَادُ بِهِ مَا عَدَا ذَلِكَ الْخَاصَّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } فَكَانَ قَوْلُهُ فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ إشَارَةً إلَى أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ غَيْرُ الْمُلْجِئِ ، وَقَوْلُهُ أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ إشَارَةٌ إلَى النَّوْعِ الْآخَر مِنْهُمَا وَهُوَ الْمُلْجِئُ فَانْتَظَمَ كَلَامُهُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ أَصْلًا وَانْطَبَقَ لِمَا فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ
قَالَ ( وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ أَوْ عَلَى شِرَاءِ سِلْعَةٍ أَوْ عَلَى أَنْ يُقِرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ أَوْ يُؤَاجِرَ دَارِهِ فَأُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْقَتْلِ أَوْ بِالضَّرْبِ الشَّدِيدِ أَوْ بِالْحَبْسِ فَبَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ وَرَجَعَ بِالْمَبِيعِ ) لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ إلَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَنْصِبٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ لِفَوَاتِ الرِّضَا ، وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ فِيهِ عَلَى جَنَبَةِ الْكَذِبِ ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ يَكْذِبُ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ ، ثُمَّ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ جَازَ وَالْمَوْقُوفُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ ، وَلَنَا أَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَالْفَسَادُ لِفَقْدِ شَرْطِهِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَصَارَ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَ الْقَبْضِ ، حَتَّى لَوْ قَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ تَصَرُّفًا لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ جَازَ ، وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَبِإِجَازَةِ الْمَالِكِ يَرْتَفِعُ الْمُفْسِدُ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ وَعَدَمُ الرِّضَا فَيَجُوزُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ حَقُّ اسْتِرْدَادِ الْبَائِعِ وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَلَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ فِيهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ وَقَدْ تَعَلَّقَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي حَقُّ الْعَبْدِ
وَحَقُّهُ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ ، أَمَّا هَاهُنَا الرَّدُّ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَهُمَا سَوَاءٌ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْأَوَّلِ لِحَقِّ الثَّانِي .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَمَنْ جَعَلَ الْبَيْعَ الْجَائِزَ الْمُعْتَادَ بَيْعًا فَاسِدًا يَجْعَلُهُ كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ حَتَّى يَنْقَضِ بَيْعُ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّ الْفَسَادَ لِفَوَاتِ الرِّضَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ رَهْنًا لِقَصْدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ وَمَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَعَلُوهُ بَيْعًا جَائِزًا مُفِيدًا بَعْضَ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ
( قَوْلُهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا ) أَرَادَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْقَتْلَ وَالضَّرْبَ الشَّدِيدَ وَالْحَبْسَ الْمَدِيدَ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ أَظْهَرَ مِنْ أَنْ يَخْفَى قَدْ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ فَقَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ : يَعْنِي بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّ الْبَيْعَ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ سَائِرِ سَقَطَاتِهِ فِي كِتَابِهِ هَذَا ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ لِأَنَّهُ لَا يُبَالِي بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَادَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّحْرِيرِ أَنَّ آخِرَ الْكَلَامِ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ حَبْسِ يَوْمٍ أَوْ قَيْدِ يَوْمٍ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ أَيْضًا وَإِلَّا لَمَا قَالَ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِخِلَافِ مَا إذَا ضُرِبَ بِسَوْطٍ أَوْ حُبِسَ يَوْمًا أَوْ قُيِّدَ يَوْمًا ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ الْإِكْرَاهُ ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ فَتَنَاقَضَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ حَمْلُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ كَمَا مَرَّ ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي هَاتِيك الصُّوَرِ ، وَاَلَّذِي نَفَاهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إنَّمَا هُوَ تَحَقُّقُ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الَّذِي تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَلَا تَنَاقُضَ .
وَلَك أَنْ تَقُولَ : التَّعْبِيرُ بِالْإِكْرَاهِ فِي قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أُكْرِهَ لِلْمُشَاكَلَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك } فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لَفْظُ الْإِكْرَاهِ هُنَالِكَ حَقِيقَةً لَا لُغَوِيَّةً وَلَا شَرْعِيَّةً ، بَلْ يَصِيرُ مَجَازًا
فَلَا تَنَاقُضَ أَصْلًا ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ : أَيْ وَالْإِقْرَارُ أَيْضًا يَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً فِي غَيْرِ الْإِكْرَاهِ لِتَرَجُّحِ جَنَبَةِ الصِّدْقِ ، وَعِنْدَ الْإِكْرَاهِ يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ لِدَفْعِ الْمَضَرَّةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً ا هـ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذِهِ الْعُقُودِ التَّرَاضِي إلَى قَوْلِهِ فَيَفْسُدُ لَا عَلَى قَوْلِهِ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذَا الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا فَيَفْسُدُ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَالْإِكْرَاهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يُعْدِمُ الرِّضَا بَعْضُ الدَّلِيلِ بِمَنْزِلَةِ الْكُبْرَى مِنْ غَيْرِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ فَعَطْفُ قَوْلِهِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ إلَخْ عَلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مِنْ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى ، مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ وَكَذَا الْإِقْرَارُ حُجَّةٌ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي حَقِّ فَسَادِ الْإِقْرَارِ بِالْإِكْرَاهِ غَيْرُ مُسْتَمَدٍّ بِمُقَدِّمَةٍ مِنْ الدَّلِيلِ السَّابِقِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَجْمُوعِ الدَّلِيلِ السَّابِقِ لَا عَلَى بَعْضِهِ ، وَالذَّوْقُ الصَّحِيحُ يَشْهَدُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ مَعْنَى الْهَزْلِ أَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَكُونُ الْمُتَكَلِّمُ هَازِلًا ا هـ ، أَقُولُ : لَمْ يَقُلْ مَنْ جَعَلَهُ بَاطِلًا أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهِ هَازِلٌ حَقِيقَةً حَتَّى يَتَّجِهَ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ ، بَلْ قَالَ : إنَّهُ كَالْهَازِلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِلَفْظِ
الْبَيْعِ هُنَاكَ لَا يَقْصِدُ مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ هَازِلًا حَقِيقَةً أَنْ تَجْرِيَ الْمُوَاضَعَةُ قَبْلَ الْعَقْدِ بِأَنْ يُقَالَ نَحْنُ نَتَكَلَّمُ بِلَفْظِ الْعَقْدِ هَازِلًا كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَفِي صُورَةِ بَيْعِ الْوَفَاءِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ الشَّرْطُ قَطْعًا ، وَيُرْشِدُ إلَى كَوْنِ الْمُرَادِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْهَازِلِ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ قِيَاسًا عَلَى الْهَازِلِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ بِحَسَبِ الذَّاتِ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي الْعِلَّةِ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ طَوْعًا فَقَدْ أَجَازَ الْبَيْعَ ) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَكَذَا إذَا سَلَّمَ طَائِعًا ، بِأَنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ لَا عَلَى الدَّفْعِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الْهِبَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ الدَّفْعَ فَوَهَبَ وَدَفَعَ حَيْثُ يَكُونُ بَاطِلًا ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ الِاسْتِحْقَاقُ لَا مُجَرَّدُ اللَّفْظِ ، وَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ بِالدَّفْعِ وَفِي الْبَيْعِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ ، فَدَخَلَ الدَّفْعُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ .
قَالَ ( وَإِنْ قَبَضَهُ مُكْرَهًا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِجَازَةٍ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ ) لِفَسَادِ الْعَقْدِ .
قَالَ ( وَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَهُوَ غَيْرِ مُكْرَهٍ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ ) مَعْنَاهُ وَالْبَائِعُ مُكْرَهٌ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ
( وَلِلْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ ) لِأَنَّهُ آلَةٌ لَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي فَيُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ كَالْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ ، فَلَوْ ضَمِنَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْبَائِعِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي نَفَذَ كُلُّ شِرَاءٍ كَانَ بَعْدَ شِرَائِهِ لَوْ تَنَاسَخَتْهُ الْعُقُودُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَهُ ، وَلَا يَنْفُذُ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ لِأَنَّ الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ قَبْضِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَ الْمَالِكُ الْمُكْرَهَ عَقْدًا مِنْهَا حَيْثُ يَجُوزُ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ وَهُوَ الْمَانِعُ فَعَادَ الْكُلُّ إلَى الْجَوَازِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ أَوْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ ، إنْ أُكْرِهَ عَلَى ذَلِكَ بِحَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إلَّا أَنْ يُكْرَهَ بِمَا يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ ) وَكَذَا عَلَى هَذَا الدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ، لِأَنَّ تَنَاوُلَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي الْمَخْمَصَةِ لِقِيَامِ الْمُحَرَّمِ فِيمَا وَرَاءَهَا ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَّا إذَا خَافَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ ، حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ ( وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا أُبِيحَ كَانَ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ مُعَاوِنًا لِغَيْرِهِ عَلَى هَلَاكِ نَفْسِهِ فَيَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ إذْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ فَكَانَ آخِذًا بِالْعَزِيمَةِ .
قُلْنَا : حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مُسْتَثْنَاةٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثُّنْيَا فَلَا مُحَرَّمَ فَكَانَ إبَاحَةً لَا رُخْصَةً إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، لِأَنَّ فِي انْكِشَافِ الْحُرْمَةِ خَفَاءٌ فَيُعْذَرُ بِالْجَهْلِ فِيهِ كَالْجَهْلِ بِالْخِطَابِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
.
فَصْلٌ ) قَالَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ : لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ الْوَاقِعِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَكَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْإِكْرَاهِ بِقَتْلٍ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرُوهُ بِالنَّظَرِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، فَالْأَشْبَهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : إنَّمَا فَصَلَ بِفَصْلٍ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا يَحِلُّ فِعْلُهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ ، وَمَسَائِلُ الْفَصْلِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَحْظُورَةٌ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ فِي حَالَةِ السَّعَةِ ( قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ خِيفَ عَلَى ذَلِكَ بِالضَّرْبِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إلَخْ ) أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ إشْكَالٌ ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا خِيفَ عَلَى النَّفْسِ أَوْ عَلَى الْعُضْوِ كَانَ طَرَفَا الْفِعْلِ رَاجِحًا بَلْ فَرْضًا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَإِطْلَاقُ الْمُبَاحِ عَلَى ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُنَافِيًا لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْمُبَاحِ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ فَرْضًا لِذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ ، فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى أَوْقَعُوا بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ فَهُوَ آثِمٌ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : إضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى تَرْكِ الْمُبَاحِ مِنْ بَابِ فَسَادِ الْوَضْعِ وَهُوَ فَسَادٌ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُبَاحَ إنَّمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ ، وَالْإِتْيَانُ بِهِ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ ، وَهَاهُنَا قَدْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَتْلُ
النَّفْسِ الْمُحَرَّمُ فَصَارَ التَّرْكُ حَرَامًا ، لِأَنَّ مَا أَفْضَى إلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الْمُبَاحَ هَاهُنَا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا لِإِفْضَائِهِ إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا ؟ كَيْفَ وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ وَمَا صَارَ طَرَفُ تَرْكِهِ حَرَامًا لَا يَسْتَوِي طَرَفَاهُ قَطْعًا ، فَلَوْ صَارَ تَرْكُهُ حَرَامًا حَالَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَزِمَ اجْتِمَاعُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ مُحَالٌ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ مَا كَانَ مُبَاحًا فِي حَالَةٍ قَدْ يَصِيرُ تَرْكُهُ حَرَامًا فِي حَالَةٍ أُخْرَى لِعِلَّةٍ تَقْتَضِي ذَلِكَ فَيَنْقَلِبُ وَاجِبًا فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، لِأَنَّ نَحْوَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إنَّمَا كَانَ مُبَاحًا حَالَةَ الِاضْطِرَارِ دُونَ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ صَيْرُورَةَ تَرْكِهِ حَرَامًا إنَّمَا هِيَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ أَيْضًا ، إذْ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ يَصِيرُ تَرْكُهُ وَاجِبًا قَطْعًا فَلَزِمَ أَنْ تَجْتَمِعَ إبَاحَتُهُ وَحُرْمَةُ تَرْكِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْقِلَابُ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْوُجُوبِ بِحَسَبِ الْحَالَتَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
لَا يُقَالُ : سَبَبُ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ حَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ النَّصُّ الْمُحَرِّمُ بِاسْتِثْنَاءِ حَالَةِ الِاضْطِرَارِ ، وَسَبَبُ حُرْمَةِ التَّرْكِ فِيهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِعَدَمِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ إنَّمَا هُوَ إفْضَاءُ التَّرْكِ فِيهِ إلَى قَتْلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمِ أَوْ إلَى قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُحَرَّمِ ، فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِ اسْتِوَاءِ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمِ اسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّا نَقُولُ : اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ وَعَدَمُ اسْتِوَائِهِمَا مُتَنَاقِضَانِ قَطْعًا ، فَيَسْتَحِيلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ،
سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَقَّقَهُ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ بِأَنَّهُ لَوْ عُلِّلَ بِهِمَا لَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى كُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا وَمُسْتَغْنِيًا عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ .
قَالَ : لَا يُقَالُ مَنْشَأُ الِاحْتِيَاجِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا هُوَ عِلِّيَّتُهَا لَهُ ، وَمَنْشَأُ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا عِلِّيَّةُ الْأُخْرَى لَهُ فَلَا اسْتِحَالَةَ فِي اجْتِمَاعِهِمَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : احْتِيَاجُ الشَّيْءِ إلَى آخَرَ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمُ احْتِيَاجِهِ إلَيْهِ فِيهِ مُتَنَاقِضَانِ ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ سَوَاءٌ كَانَا مُسْتَنِدَيْنِ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ أَوْ إلَى سَبَبَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَقَدْ ظَهَرَ بِمَا قَرَّرْنَاهُ مَا فِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ أَيْضًا فِي هَذَا الْمَقَامِ فَلْيُنْظَرْ إلَيْهِ وَلْيُتَأَمَّلْ فِيهِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ كَأَنَّهُ يَقُولُ : إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ .
فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى تَلِفَ لِأَنَّهُ يَصِيرُ سَاعِيًا فِي إتْلَافِ نَفْسِهِ انْتَهَى ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ ، إذْ لَا مُمَانَعَةَ لِلْعِلْمِ فِي أَنْ لَا يَأْثَمَ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ ، فَإِنَّ الْمُبَاحَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبَاحٌ لَا يَأْثَمُ الْإِنْسَانُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ عَلِمَ إبَاحَتَهُ ، بَلْ بِالْعِلْمِ بِإِبَاحَتِهِ يَنْكَشِفُ عَدَمُ الْإِثْمِ فِي تَرْكِهِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ الْجَوَابُ بِقَوْلِهِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَأْثَمُ إذَا عَلِمَ
بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَمَّا يُقَالُ إذَا ثَبَتَ إبَاحَتُهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ ، إذْ الْإِنْسَانُ لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْمُبَاحِ ، فَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَذَا إنَّمَا هُوَ لِبَيَانِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِثْمِ عَلَى تَقْدِيرِ الصَّبْرِ ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، بَلْ فِيمَا إذَا عَلِمَ بِالْإِبَاحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهَا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا بِالْجَهْلِ فِي أَمْثَالِ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْخَفَاءِ
قَالَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ أَوْ سَبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا مَرَّ ، فَفِي الْكُفْرِ وَحُرْمَتُهُ أَشَدُّ أَوْلَى وَأَحْرَى .
قَالَ ( وَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أَمَرُوهُ بِهِ وَيُوَرِّي ، فَإِنْ أَظْهَرَ ذَلِكَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ) لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَيْفَ وَجَدْت قَلْبَك ؟ قَالَ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } } الْآيَةَ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ .
قَالَ ( فَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ وَلَمْ يُظْهِرْ الْكُفْرَ كَانَ مَأْجُورًا ) لِأَنَّ { خُبَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صُلِبَ وَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ ، وَقَالَ فِي مِثْلِهِ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ } وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ .
.
( قَوْلُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } إلَخْ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ } إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لَا إلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالطُّمَأْنِينَةِ جَمِيعًا كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ ، لِأَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُبَاحًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا تَنْكَشِفُ حُرْمَتُهُ أَصْلًا انْتَهَى .
وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنْ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْأَمْرُ لِلتَّرْخِيصِ .
قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّسَفِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ الْكَافِي : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَنْفِي الْحَظْرَ ، فَإِنَّ الْمَحْظُورَ قَدْ يُرَخَّصُ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ حَتَّى لَا يَقَعَ فِي مَحْظُورٍ فَوْقَهُ كَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ وَقَطْعِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرَهُ هُنَا كَذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : مُرَادُ الشُّرَّاحِ أَنَّ أَدْنَى دَرَجَاتِ مَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ حَقِيقَةً هُوَ الْإِبَاحَةُ ، وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي التَّرْخِيصِ وَنَحْوِهِ مَجَازًا ، وَلَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنْ الْحَمْلِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ تُوجَدْ الْقَرِينَةُ فَلَا جَرْمَ نَحْمِلُهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ هَاهُنَا بِصَرْفِ الْإِعَادَةِ إلَى الطُّمَأْنِينَةِ دُونَ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لِمَا بَيَّنُوا .
وَعَنْ هَذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ النَّسَفِيُّ هَاهُنَا أَيْ عُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ وَمَا قِيلَ فَعُدْ إلَى مَا كَانَ مِنْك مِنْ النَّيْلِ مِنِّي وَذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِخَيْرِ فَغَلَطٌ ، لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْمُرُ بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الشِّرْكِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ (
قَوْلُهُ لِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ لَا يَفُوتُ الْإِيمَانُ حَقِيقَةً لِقِيَامِ التَّصْدِيقِ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : قَوْلُهُ وَلِأَنَّ بِهَذَا الْإِظْهَارِ دَلِيلٌ مَعْقُولٌ .
وَوَجْهه أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَفُوتُ بِهَذَا الْإِظْهَارِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ فِيهِ هُوَ التَّصْدِيقُ وَهُوَ قَائِمٌ حَقِيقَةً ، وَالْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا ، لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَفِي الِامْتِنَاعِ فَوْتُ النَّفْسِ حَقِيقَةً فَكَأَنَّمَا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَوَهُّمًا فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَإِنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَهُوَ قَائِمٌ تَقْدِيرًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ لَا يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْإِقْرَارِ تَقْدِيرًا ، إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ لَا يَطْرَأَ عَلَيْهِ مَا يُضَادُّهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَالْمَفْرُوضُ هَاهُنَا طَرَيَانُهُ عَلَيْهِ ، إذْ الْكَلَامُ فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَهُوَ مُضَادٌّ لِلْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ .
فَإِنْ قُلْت : إظْهَارُهَا إكْرَاهًا لَا يُضَادُّهُ الْإِقْرَارُ طَوَاعِيَةً ، وَإِنَّمَا يُضَادُّهُ إظْهَارُهَا طَوَاعِيَةً .
قُلْت : هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ إظْهَارِهَا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ ، فَأَخْذُهُ فِي أَثْنَاءِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهَا مُصَادَرَةٌ فَبِهَذَا ظَهَرَ سُقُوطُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَاهُنَا إنَّهُ كَكَلَامِ النَّاسِي وُجُودُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ فَيَسْتَلْزِمُ الْمُصَادَرَةَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَكَانَ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ فَوْتُ حَقِّ الْعَبْدِ يَقِينًا ، وَفَوْتُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى تَوَهُّمًا يُشْعِرُ بِعَدَمِ فَوْتِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً هَاهُنَا أَصْلًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
إذْ لَوْلَا فَوْتُ حَقِّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً أَصْلًا لَمَا كَانَ مَأْجُورًا فِيمَا إذَا صَبَرَ حَتَّى قُتِلَ ، وَلَا نُسَلِّمُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ فَوْتِ حَقِّهِ تَعَالَى بِدُونِ أَنْ يَفُوتَ حَقِيقَةً ، بَلْ التَّحْقِيقُ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ حَرَامٌ فِي كُلِّ حَالٍ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحُرْمَةُ أَصْلًا ، وَأَنَّ فِيهِ تَرْكَ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، بَلْ هُوَ كُفْرٌ صُورَةً فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ ، وَكُفْرٌ صُورَةً وَمَعْنًى فِي حَالَةِ صِحَّةِ الِاخْتِيَارِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، إلَّا أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مَعْذُورًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَيَسَعُهُ الْمَيْلُ إلَيْهِ عِنْدَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إحْيَاءً لِحَقِّهِ مَعَ بَقَاءِ حُرْمَتِهِ أَبَدًا .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ ، وَالِامْتِنَاعُ لِإِعْزَازِ الدِّينِ عَزِيمَةٌ ) ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِلِاسْتِثْنَاءِ ( وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَيْضًا مُسْتَثْنًى بِقَوْلِهِ { إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ } مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ } فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ) .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ فِي الْآيَةِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ : مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ وَشَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ، فَاَللَّهُ تَعَالَى مَا أَبَاحَ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِمْ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ ، وَإِنَّمَا وَضَعَ عَنْهُمْ الْعَذَابَ وَالْغَضَبَ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْغَضَبِ وَهُوَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ الْحُكْمِ عَدَمُ الْعِلَّةِ كَمَا فِي شُهُودِ الشَّهْرِ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ ، فَإِنَّ السَّبَبَ مَوْجُودٌ وَالْحُكْمُ مُتَأَخِّرٌ ،
فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْغَضَبُ مُنْتَفِيًا مَعَ قِيَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْغَضَبِ وَهِيَ الْحُرْمَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ إبَاحَةُ إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعِلَّةِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُصْطَلَحَ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَلَى الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا السَّبَبَ الشَّرْعِيَّ كَمَا مَثَّلَ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وَلَا دَلِيلَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ نَخْتَارَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ شِقَّيْ التَّرْدِيدِ وَلَا يَلْزَمُ مَحْذُورٌ أَصْلًا ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعِلَّةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، وَهُوَ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ مُؤَثِّرًا فِيهِ .
قَوْلُهُ فَذَاكَ مُمْتَنِعُ التَّخَلُّفِ عَنْ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ مَعْلُولُهُ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ وُجُوبَ مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْمَعْلُولِ إنَّمَا هُوَ فِي بَعْضِ أَقْسَامِهَا ، وَهُوَ مَا كَانَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا دُونَ بَعْضِهَا الْآخَرِ وَهُوَ مَا كَانَ عِلَّةً اسْمًا فَقَطْ أَوْ اسْمًا وَمَعْنًى كَمَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِي فَلَا يَمْتَنِعُ التَّخَلُّفُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ التَّمْثِيلِ ، وَهُوَ مَا كَانَ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ وَلَمْ يَكُنْ مُؤَثِّرًا فِيهِ بَلْ كَانَ مُوصِلًا إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ .
وَقَوْلُهُ فَإِنَّمَا يَتَخَلَّفُ الْحُكْمُ عَنْهُ بِدَلِيلٍ آخَرَ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ تَأْخِيرَهُ مَمْنُوعٌ ، بَلْ السَّبَبُ الشَّرْعِيُّ مُطْلَقًا مِنْ
حَيْثُ إنَّهُ سَبَبٌ يَجُوزُ تَخَلُّفُ الْحُكْمِ عَنْهُ ، إذْ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ ، فَمَا لَمْ تَتَحَقَّقْ تِلْكَ الْعِلَّةُ لَا يَتَحَقَّقُ الْحُكْمُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ ، وَهَذَا أَيْضًا مَعَ كَوْنِهِ مُقَرَّرًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ مَفْهُومٌ مِنْ نَفْسِ مَعْنَى السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ ، فَإِنَّ الْإِيصَالَ فِي الْجُمْلَةِ كَيْفَ يَسْتَلْزِمُ تَحَقُّقَ الْحُكْمِ ، وَالْمِثَالُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَوَابِ لَيْسَ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيلِ لِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ الشَّرْعِيِّ بَلْ هُوَ مَسُوقٌ لِمُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ ، فَتَحَقُّقُ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْحُكْمِ هُنَاكَ لَا يَقْتَضِي قِيَامَ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي كُلِّ صُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ ، عَلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ حَدِيثَ خُبَيْبٍ دَلِيلًا عَلَى بَقَاءِ الْحُرْمَةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ نَفَى حُكْمَهُ وَهُوَ الْغَضَبُ ، فَإِنَّ خُبَيْبًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أُكْرِهَ عَلَى إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فَصَبَرَ وَلَمْ يُظْهِرْهَا حَتَّى قُتِلَ مَدَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ سَمَّاهُ سَيِّدَ الشُّهَدَاءِ وَقَالَ { هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ } وَلَوْ لَمْ تَبْقَ الْحُرْمَةُ أَبَدًا فِي إظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمَا وَسِعَهُ الصَّبْرُ عَلَى مَا تُوُعِّدَ بِهِ مِنْ الْقَتْلِ ، وَلَمَا اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ عَنْ الْمُبَاحِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إعَانَةَ الْغَيْرِ عَلَى إهْلَاكِ نَفْسِهِ وَهِيَ حَرَامٌ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَأْثَمَ بِذَلِكَ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ كَمَا مَرَّ
قَالَ ( وَإِنْ أُكْرِهَ عَلَى إتْلَافِ مَالِ مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ) لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَتْ ( وَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ آلَةٌ لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ ) آلَةً لَهُ وَالْإِتْلَافُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ بِقَتْلِهِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ وَيَصْبِرُ حَتَّى يُقْتَلَ ، فَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ آثِمًا ) لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ مِمَّا لَا يُسْتَبَاحُ لِضَرُورَةٍ مَا فَكَذَا بِهَذِهِ الضَّرُورَةِ .
.
قَالَ ( وَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ إنْ كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ زُفَرُ : يَجِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجِبُ عَلَيْهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَيْهِمَا .
لِزُفَرَ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً وَحِسًّا ، وَقَرَّرَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِثْمُ ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ سَقَطَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِثْمُ فَأُضِيفَ إلَى غَيْرِهِ ، وَبِهَذَا يَتَمَسَّكُ الشَّافِعِيُّ فِي جَانِبِ الْمُكْرَهِ ، وَيُوجِبُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ أَيْضًا لِوُجُودِ التَّسْبِيبِ إلَى الْقَتْلِ مِنْهُ ، وَلِلتَّسْبِيبِ فِي هَذَا حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَهُ كَمَا فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَتْلَ بَقِيَ مَقْصُورًا عَلَى الْمُكْرَهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى التَّأْثِيمِ ، وَأُضِيفَ إلَى الْمُكْرِهِ مِنْ وَجْهٍ نَظَرًا إلَى الْحَمْلِ فَدَخَلَتْ الشُّبْهَةُ فِي كُلِّ جَانِبٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَتْلِ بِطَبْعِهِ إيثَارًا لِحَيَاتِهِ فَيَصِيرُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ وَهُوَ الْقَتْلُ بِأَنْ يُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَلَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى دِينِهِ فَيَبْقَى الْفِعْلُ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْإِثْمِ كَمَا نَقُولُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَفِي إكْرَاهِ الْمَجُوسِيِّ عَلَى ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ الْفِعْلُ إلَى الْمُكْرَهِ فِي الْإِتْلَافِ دُونَ الذَّكَاةِ حَتَّى يَحْرُمَ كَذَا هَذَا .
قَالَ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَتِهِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ فَفَعَلَ وَقَعَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَدْ مَرَّ فِي الطَّلَاقِ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِإِتْلَافِهِ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ بِنِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْدِ مُسَمًّى يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِمَا لَزِمَهُ مِنْ الْمُتْعَةِ ) لِأَنَّ مَا عَلَيْهِ كَانَ عَلَى شَرْفِ السُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ إتْلَافًا لِلْمَالِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيُضَافُ إلَى الْمُكْرَهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ .
بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ بِهَا لِأَنَّ الْمَهْرَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالدُّخُولِ لَا بِالطَّلَاقِ .
( قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ عَلَى الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَلَحَ آلَةً لَهُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْإِتْلَافُ فَيُضَافُ إلَيْهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَمَنَعَ صَلَاحِيَّتَهُ لِذَلِكَ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ يَثْبُتُ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ فَكَذَا فِي حَقِّ مَا يَثْبُتُ فِي ضِمْنِهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ وَهُوَ يَصْلُحُ آلَةً لَهُ فِيهِ ، وَالتَّلَفُّظُ قَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ آلَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِتْلَافِ دُونَ التَّلَفُّظِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الِانْفِكَاكَ فِي إعْتَاقِ الصَّبِيِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ ثُبُوتِ التَّلَفُّظِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْإِعْتَاقِ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْإِعْتَاقِ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ عَكْسُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَثْبُتَ الْإِعْتَاقُ بِدُونِ التَّلَفُّظِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي صُورَةِ إعْتَاقِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَتِمَّ التَّمْثِيلُ وَلَا التَّقْرِيبُ .
وَكَأَنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ : فِيهِ تَأَمُّلٌ ، فَإِنَّ الَّذِي يَهُمُّنَا ثُبُوتُ الْإِعْتَاقِ لَا فِي ضِمْنِ التَّكَلُّمِ كَمَا إذَا وَرِثَ الْقَرِيبَ ا هـ .
أَقُولُ : لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ ، فَإِنَّ الثَّابِتَ فِي صُورَةِ إنْ وَرِثَ الْقَرِيبَ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ دُونَ الْإِعْتَاقِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ مُفَصَّلًا ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي الْإِعْتَاقِ دُونَ مُجَرَّدِ الْعِتْقِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَلَا يَتِمُّ التَّمْثِيلُ بِتِلْكَ الصُّورَةِ أَيْضًا وَلَا التَّقْرِيبُ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَا فَائِدَةَ لِحَدِيثِ الِانْفِكَاكِ أَصْلًا فِي الْجَوَابِ هَاهُنَا فَإِنَّ كَوْنَ ثُبُوتِ الْإِتْلَافِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّلَفُّظِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا يَقْبَلُ الْإِنْكَارَ ، فَيَكُونُ مَدَارُ الْوُرُودِ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ لَا مَحَالَةَ ، وَلَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِهِ انْفِكَاكُ الْإِتْلَافِ عَنْ التَّلَفُّظِ فِي صُورَةٍ
أُخْرَى .
فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْمُكْرَهِ لِلْآلِيَّةِ فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ عَدَمُ صَلَاحِيَّتِهِ لَهَا فِي حَقِّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْإِتْلَافُ ، لِأَنَّ عَدَمَ صَلَاحِيَّتِهِ لَهَا فِي حَقِّ التَّلَفُّظِ لِعِلَّةِ امْتِنَاعِ التَّكَلُّمِ بِلِسَانِ الْغَيْرِ ، وَهِيَ غَيْرُ مُتَحَقِّقَةٍ فِي حَقِّ مَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِهِ مِنْ الْإِتْلَافِ ، فَإِنَّ الْمُكْرِهَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ وَيُلْقِيَهُ عَلَى الْمَالِ فَيُتْلِفَهُ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِيمَا مَرَّ ( قَوْلُهُ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ) لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يُضَمَّنَ الْمُكْرِهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ بِعِوَضٍ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ وَهُوَ الْوَلَاءُ ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافَ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ إنَّمَا يَكُونُ كَلَا إتْلَافَ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ طَعَامِ الْغَيْرِ فَأَكَلَ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لِلْمُكْرَهِ عِوَضٌ ، أَوْ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَالِ كَمَا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ إذَا أَتْلَفَهَا مُكْرَهًا ، لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تُعَدُّ مَالًا عِنْدَ الدُّخُولِ ، وَالْوَلَاءُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَاهِدَيْ الْوَلَاءِ إذَا رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ يُشْكِلُ بِمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مِنْهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَرْجِعُ هُنَاكَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضٌ هُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ لَيْسَتْ بِمَالٍ كَالْوَلَاءِ ، أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ كَمَا قَالُوا فِي مَنَافِعِ الْبُضْعِ عِنْدَ الدُّخُولِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ
لِأَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ أَوْ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ) بِخِلَافِ الْمَرِيضِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، لِأَنَّ السِّعَايَةَ تَجِبُ ثَمَّةَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَبِخِلَافِ الرَّاهِنِ إذَا أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ تَجِبُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَدَلَ ذَلِكَ : بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ الْمُرْتَهِنُ بِهِ ا هـ .
أَقُولُ : لَمْ أَرَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ سِوَى شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ لِهَذَا الْكِتَابِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ هَاهُنَا : وَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ حَقُّ الْغَيْرِ أَيْضًا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى السِّعَايَةِ لِذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِرَقَبَتِهِ .
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ا هـ .
و لَعَلَّهُ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ تَاجِ الشَّرِيعَةِ فَاغْتَرَّ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ الْمُعْتَقِ لَا يُوجِبُ السِّعَايَةَ عَلَيْهِ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ لَا يَقْدِرَ مُعْتِقُهُ عَلَى إيفَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ وَلِهَذَا قَالُوا : إذَا أَعْتَقَ الرَّاهِنُ الْعَبْدَ الْمَرْهُونَ وَهُوَ مُعْسِرٌ تَجِبُ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ حَيْثُ زَادُوا قَيْدَ الْإِعْسَارِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الرَّاهِنَ فِيمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى إعْتَاقِ عَبْدِهِ الْمَرْهُونِ فَفَعَلَ يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ بِمَا ضُمِّنَهُ الْمُكْرِهُ مِنْ قِيمَةِ ذَلِكَ الْعَبْدِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إيَّاهَا لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَرْهُونًا فَأُكْرِهَ الرَّاهِنُ عَلَى إعْتَاقِهِ إلَخْ لَا يَكَادُ يَصِحُّ هَاهُنَا لِأَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ دَاخِلَةٌ هَاهُنَا فِي إطْلَاقِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ فَإِنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُغَايِرَتَانِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَيَصِحُّ الْحُكْمُ بِالْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَكَذَا قَوْلُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ .
وَأَمَّا هَاهُنَا فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْغَيْرِ بِالْعَبْدِ إلَخْ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْمُخَالَفَةِ أَيْضًا بَيْنَ تِلْكَ الصُّورَةِ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَمَعَ أَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي إطْلَاقِ مَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَأَيْضًا لَوْ وَجَبَ السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ لَانْتَقَضَ بِهَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ السِّعَايَةَ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ، إذْ لَا تَخْرِيجَ إلَى الْحُرِّيَّةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِمَا ذَكَرُوا أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ خَرَجَ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ إلَيْهَا ثَانِيًا فَلَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهِمَا فِي ذَيْلِ شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّعْلِيلِ كَافٍ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ سَالِمٌ عَنْ النَّقْضِ .
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِهِمَا فَمُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا أَعْتَقَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ عِنْدَهُمَا وَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَهُ وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَيُزَادُ لَهُمَا فِي التَّعْلِيلِ وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ انْتَهَى تَأَمَّلْ تَفْهَمْ
( وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ جَازَ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مُؤَثِّرٌ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَيَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُكْرِهِ زَوَالُ مِلْكِهِ إذَا بَاشَرَ الْوَكِيلُ ، وَالنَّذْرُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِمَا لَزِمَهُ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَلَا يُطَالَبُ بِهِ فِيهَا ، وَكَذَا الْيَمِينُ ، وَالظِّهَارُ لَا يَعْمَلُ فِيهِمَا الْإِكْرَاهُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِمَا الْفَسْخَ ، وَكَذَا الرَّجْعَةُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِيهِ بِاللِّسَانِ لِأَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْهَزْلِ ، وَالْخُلْعُ مِنْ جَانِبِهِ طَلَاقٌ أَوْ يَمِينٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ ، فَلَوْ كَانَ هُوَ مُكْرَهًا عَلَى الْخُلْعِ دُونَهَا لَزِمَهَا الْبَدَلُ لِرِضَاهَا بِالِالْتِزَامِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ أَكْرَهَهُ عَلَى الزِّنَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يُكْرِهَهُ السُّلْطَانُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجِبُ الْحَدُّ ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ مُلْجِئًا وَذَلِكَ بِقُدْرَةِ الْمُكْرِهِ عَلَى الْإِيقَاعِ وَخَوْفِ الْمُكْرَهِ الْوُقُوعَ كَمَا مَرَّ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ أَكْثَرُ تَحَقُّقًا ، لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ فَهُوَ ذُو أَنَاةٍ فِي أَمْرِهِ وَغَيْرُهُ يَخَافُ الْفَوْتَ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ فَيُعَجِّلُ فِي الْإِيقَاعِ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَعْجَزُ عَنْ دَفْعِ السُّلْطَانِ عَنْ نَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فَوْقَهُ مَنْ يَلْتَجِئُ إلَيْهِ وَيَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ اللِّصِّ بِالِالْتِجَاءِ إلَى السُّلْطَانِ ، فَإِنْ اتَّفَقَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ ، وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
أَقُولُ : يَتَّجِهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُقَالَ : نُدْرَةُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَوُقُوعُ ظَفَرِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِالنَّاسِ وَعَجْزُهُمْ عَنْ دَفْعِ شَرِّ هَؤُلَاءِ الْمُتَغَلِّبَةِ سِيَّمَا فِي الْمَوَاضِعِ النَّائِيَةِ عَنْ الْعُمْرَانِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، وَلَئِنْ سَلَّمَ النُّدْرَةَ فَأَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِنْ الْحُدُودِ سِيَّمَا فِي حَدِّ الزِّنَا كَمَا نَحْنُ فِيهِ مَمْنُوعٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ فَضْلًا عَنْ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ النُّدْرَةِ .
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَدَلِيلُهُمَا ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَأْتِي مِنْ السُّلْطَانِ فِي مَوْضِعٍ لَا مَدْفَعَ لَهُ عَادَةً ، وَفِي مِثْلِ هَذَا السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ
كَانَ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ اُعْتُبِرَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَادَةً إذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ النَّاسِ أَوْ مِنْ السُّلْطَانِ فَيَنْدَفِعُ ، وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ يَغْلِبُ كَمَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ نَعْتَبِرُهُ كَذَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ فِي شَرْحِ الْكَافِي انْتَهَى .
أَقُولُ : عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْدَفِعَ مَنْعُ النُّدْرَةِ ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَنْعُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلنَّادِرِ حُكْمٌ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى حَالِهِ .
ثُمَّ أَقُولُ : إطْلَاقُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَإِطْلَاقَاتِ عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي أَنَّ حُكْمَ الْإِكْرَاهِ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ عِنْدَهُ وَعَامٌّ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عِنْدَهُمَا مِمَّا لَا يُسَاعِدُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ مُعْتَبَرٌ بِالْإِجْمَاعِ ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَتَتَبُّعِ سَائِرِ الْمُعْتَبَرَاتِ .
قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ مِنْ فَتَاوَاهُ : الْإِكْرَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ صَاحِبَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُتَغَلِّبٍ يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : وَمِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ فَهُوَ إكْرَاهٌ صَحِيحٌ شَرْعًا .
وَالِاخْتِلَافُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَذْكُورٌ فِي مَسْأَلَةِ الزِّنَا ، وَصُورَتُهَا : غَيْرُ السُّلْطَانِ إذَا أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى الزِّنَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الزَّانِي كَأَنَّهُ بَاشَرَ الزِّنَا طَوْعًا ، وَعَلَى
قَوْلِهِمَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، فَظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الزِّنَا خَاصَّةً ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِ فَإِكْرَاهُ غَيْرِ السُّلْطَانِ وَإِكْرَاهُ السُّلْطَانِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْخِلَافُ فِي الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ أَيْضًا سَوَاءٌ .
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ : بَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا اخْتِلَافُ حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ
قَالَ ( وَإِذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الرِّدَّةِ لَمْ تَبِنْ امْرَأَتُهُ مِنْهُ ) لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ بِنْتُ مِنْك وَقَالَ هُوَ قَدْ أَظْهَرْتُ ذَلِكَ وَقَلْبِي مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا ، لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى وَهَذَا بَيَانُ الْحُكْمِ ، أَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ثُمَّ رَجَعَ لَمْ يُقْتَلْ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقَتْلِ .
وَلَوْ قَالَ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَى إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَخْبَرْتُ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْتُ بَانَتْ مِنْهُ حُكْمًا لَا دِيَانَةً .
لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ طَائِعٌ بِإِتْيَانِ مَا لَمْ يُكْرَهْ عَلَيْهِ ، وَحُكْمُ هَذَا الطَّائِعِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ قَالَ أَرَدْت مَا طُلِبَ مِنِّي وَقَدْ خَطَرَ بِبَالٍ الْخَبَرُ عَمَّيْ مَضَى بَانَتْ دِيَانَةً وَقَضَاءً ، لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكُفْرِ هَازِلٌ بِهِ حَيْثُ عَلِمَ لِنَفْسِهِ مَخْلَصًا غَيْرَهُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يَكْفُرُ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ بِالشَّكِّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ دَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ إنَّ الرِّدَّةَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ لَيْسَ بِثَابِتٍ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَهُوَ الْإِكْرَاهُ .
وَالثَّانِي أَنْ يُقَالَ الرِّدَّةُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَفِي اعْتِقَادِهِ الْكُفْرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إلَّا بِتَرْجَمَةِ اللِّسَانِ ، وَقِيَامُ الْإِكْرَاهِ يَصْرِفُ عَنْ صِحَّةِ التَّرْجَمَةِ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْكُفْرِ بِالشَّكِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ مَا قَالَهُ لَغْوٌ مِنْ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ مَا زَعَمَهُ دَلِيلَانِ مُتَّحِدَانِ فِي الْمَعْنَى ، وَإِنَّمَا التَّغَايُرُ بَيْنَهُمَا فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ وَهُوَ تَبَدُّلُ الِاعْتِقَادِ فِي الْأَوَّلِ وَاعْتِقَادُ الْكُفْرِ فِي الثَّانِي ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَبَدُّلَ اعْتِقَادِ الْمُسْلِمِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِقَادِ الْكُفْرِ فَاتَّحَدَا مَعْنًى فَمَا مَعْنَى جَعْلِهِمَا دَلِيلَيْنِ ؟ وَإِنْ جُعِلَ مَدَارَ جَعْلِهِمَا دَلِيلَيْنِ مُجَرَّدُ تَغَايُرِهِمَا فِي اللَّفْظِ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ دَلِيلَيْنِ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُوَ اللَّفْظُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ اللَّفْظَ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ وَهِيَ بِتَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اللَّفْظَ يَعْنِي كَلِمَةَ الْكُفْرِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ : يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ حَتَّى يَكُونَ صَرِيحًا يَقُومُ اللَّفْظُ فِيهِ مَقَامَ مَعْنَاهُ كَمَا فِي الطَّلَاقِ ، بَلْ
دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّفْظَ دَلِيلٌ وَتَرْجَمَةٌ لِمَا فِي الْقَلْبِ .
فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً وَمَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّبَدُّلِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ صَرِيحًا فِيهِ يَقُومُ لَفْظُهُ مَقَامَ مَعْنَاهُ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ دَلَّ عَلَى تَبَدُّلِ الِاعْتِقَادِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْفُرْقَةِ كَانَ دَلَالَتُهُ عَلَيْهَا دَلَالَةً مَجَازِيَّةً لَا يَكَادُ يَتِمُّ ، إذْ لَا بُدَّ فِي الْمَجَازِ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ مُسْتَعْمَلًا فِي الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّفْظَ هَاهُنَا وَهُوَ كَلِمَةُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُسْتَعْمَلٍ فِي الْفُرْقَةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ، وَإِنَّمَا هِيَ : أَيْ الْفُرْقَةُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِمَعْنَى اللَّفْظِ وَهُوَ الِاعْتِقَادُ الرَّدِيءُ ، فَلَمْ تَكُنْ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا مَجَازِيَّةً بَلْ كَانَتْ الْتِزَامِيَّةً مَحْضَةً ، فَكَانَ انْفِهَامُهَا مِنْ اللَّفْظِ بِطَرِيقِ الِاسْتِتْبَاعِ لَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَصَارَتْ مِنْ قَبِيلِ مُسْتَتْبَعَاتِ الْأَلْفَاظِ الْمُغَايِرَةِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْبَلَاغَةِ .
فَإِنْ قُلْتَ : يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَجَازِيَّةِ هَاهُنَا الْمُتَجَاوِزَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ ، لَا الْمُتَجَاوِزَةُ عَنْ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ إلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ فَقَطْ فَتَعُمُّ مُسْتَتْبَعَاتِ الْأَلْفَاظِ أَيْضًا .
قُلْتُ : هَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْعُرْفِ وَالِاصْطِلَاحِ بِالْكُلِّيَّةِ يَأْبَاهُ جِدًّا قَوْلُهُ مِنْ قَبْلُ : يَعْنِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا ظُهُورًا بَيِّنًا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ فَتَأَمَّلْ .
فَالْوَجْهُ الْمُجْمَلُ الْمُفِيدُ الْمُطَابِقُ لِلْمَشْرُوحِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْفُرْقَةِ ، وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاعْتِبَارِ
تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ تَغَيُّرِ الِاعْتِقَادِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ ، كَذَا فِي الْإِيضَاحِ ا هـ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ حَيْثُ يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا ، لِأَنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ وَاحْتَمَلَ رَجَّحْنَا الْإِسْلَامَ فِي الْحَالَيْنِ لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ ، وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ شَرْطُ إجْرَاءِ الْأَحْكَامِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْهَبَ أَهْلِ أُصُولِ الْفِقْهِ ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْإِقْرَارَ رُكْنًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ كَيْفَ يَكُونُ إشَارَةً إلَى مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ مَعَ تَمْشِيَتِهِ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ مَعًا ، بَلْ تَمْشِيَتُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي أَظْهَرُ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إذَا كَانَ رُكْنًا مِنْ الْإِيمَانِ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ آتِيًا بِأَحَدِ رُكْنَيْهِ فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا تَحَقَّقَ أَحَدُ رُكْنَيْ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ الْجَزْمِ بِانْتِفَاءِ الْآخَرِ حَكَمْنَا بِوُجُودِ الْإِسْلَامِ تَرْجِيحًا لِجَانِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقَ وَكَانَ الْإِقْرَارُ شَرْطًا لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ شَيْءٌ مِنْ رُكْنَيْ الْإِيمَانِ فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُتَحَقِّقُ فِيهِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ ، فَوَجْهُ الْحُكْمِ بِالْإِسْلَامِ بِمُجَرَّدِ تَحَقُّقِ مَا هُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِهِ لَا يَظْهَرُ ظُهُورَهُ فِي الْأَوَّلِ .
لَا يُقَالُ : كَيْفَ يَتَمَشَّى مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى الْمَذْهَبِ الثَّانِي فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الرِّدَّةِ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ رُكْنًا مِنْ
الْإِيمَانِ يَلْزَمُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الرِّدَّةِ بِإِجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي الْإِقْرَارُ إذْ ذَاكَ ، وَانْتِفَاءُ رُكْنٍ وَاحِدٍ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْكُلِّ لَا مَحَالَةَ .
لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ رُكْنٌ مِنْ الْإِيمَانِ لَمْ يَقُلْ إنَّهُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ مِنْهُ كَالتَّصْدِيقِ ، بَلْ قَالَ : إنَّهُ رُكْنٌ زَائِدٌ وَالتَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ ، وَفَسَّرَ مَعْنَى كَوْنِهِ رُكْنًا زَائِدًا بِأَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَهُ فِي وُجُودِ الْمُرَكَّبِ ، لَكِنْ إنْ عُدِمَ بِنَاءً عَلَى ضَرُورَةِ جَعْلِ الشَّارِعِ عَدَمَهُ عَفْوًا وَاعْتَبَرَ الْمُرَكَّبَ مَوْجُودًا حُكْمًا وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي كُتُب الْأُصُولِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ تَمَشِّي مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَيْضًا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ تَقِفْ .
وَعَلَى هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ وَسَبِّ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَفَعَلَ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الصَّلَاةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدٍ آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَانَتْ مِنْهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً ، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَسَبَّ مُحَمَّدًا النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ الصَّلَاةُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَبِّ غَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَانَتْ مِنْهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً لِمَا مَرَّ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ زِيَادَةً عَلَى هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْحَجْرِ قَالَ ( الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ : الصِّغَرُ ، وَالرِّقُّ ، وَالْجُنُونُ ، فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ ، وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ ، وَلَا تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ ) .
أَمَّا الصَّغِيرُ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ ، غَيْرَ أَنَّ إذْنَ الْوَلِيِّ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ ، وَالرِّقُّ لِرِعَايَةِ حَقِّ الْمَوْلَى كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ مَنَافِعُ عَبْدِهِ .
وَلَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ ، وَالْجُنُونُ لَا تُجَامِعُهُ الْأَهْلِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ بِحَالٍ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَأَهْلٌ فِي نَفْسِهِ وَالصَّبِيُّ تُرْتَقَبُ أَهْلِيَّتُهُ فَلِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ ) لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ ، وَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا فِيهِ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْقِلَا الْبَيْعَ لِيُوجَدَ رُكْنُ الْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَالْمَجْنُونُ قَدْ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يُرَجِّحُ الْمَصْلَحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ الْمَعْتُوهُ الَّذِي يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْوَكَالَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : التَّوَقُّفُ عِنْدَكُمْ فِي الْبَيْعِ .
أَمَّا الشِّرَاءُ فَالْأَصْلُ فِيهِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ .
قُلْنَا : نَعَمْ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا عَلَيْهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ ، وَهَاهُنَا لَمْ نَجِدْ نَفَاذًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ لِضَرَرِ الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ .
قَالَ ( وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ ) لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهَا لِوُجُودِهَا حِسًّا وَمُشَاهَدَةً بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ ( إلَّا
إذَا كَانَ فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ) فَيُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ .
( كِتَابُ الْحَجْرِ ) أَوْرَدَ الْحَجْرَ عَقِيبَ الْإِكْرَاهِ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا سَلْبُ وِلَايَةِ الْمُخْتَارِ عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الِاخْتِيَارِ ، إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا لِأَنَّ فِيهِ سَلْبَهَا عَمَّنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَوِلَايَةٌ كَامِلَةٌ ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجْرِ أَنَّ فِيهِ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ أَحَدُ قُطْبَيْ أَمْرِ الدِّيَانَةِ ، وَالْآخَرُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجْرِ ، فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولِي الرَّأْيِ وَالنُّهَى ، وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى بِبَعْضِ أَسْبَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا ، كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الْعَقْلِ ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ ، فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ تَصَرُّفِهِمَا ضَرَرٌ يَلْزَمُهُمَا ، إذْ لَيْسَ لَهُمَا عَقْلٌ كَامِلٌ يَرْدَعُهُمَا وَتَمْيِيزٌ وَافِرٌ يَرُدُّهُمَا ، وَكَذَلِكَ حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالرَّقِيقِ .
أُمًّا الصَّبِيُّ فَفِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ كَالْمَجْنُونِ وَفِي آخِرِهَا كَالْمَعْتُوهِ ، فَمَا هُوَ الْمُتَوَقَّعُ مِنْ ضَرَرِهِمَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ .
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ عَادَةً ، فَسَدَّ بَابَ التَّصَرُّفِ عَلَى الرَّقِيقِ بِالْحَجْرِ لِرِقِّهِ نَظَرًا لِلْمَوْلَى ، ثُمَّ إنَّ الْحَجْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ فَإِنَّهُ مَصْدَرُ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي إذَا مَنَعَهُ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ قُصُورٌ .
أَمَّا
أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَنْعَ عَنْ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لَا فِعْلًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الصَّغِيرِ وَالرَّقِيقِ وَالْمَجْنُونِ .
بَلْ الْمُفْتِي الْمَاجِنُ وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَقَوْلُهُ فِي ذَيْلِ التَّعْرِيفِ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ تَفْسِيرٌ زَائِدٌ وَتَقْيِيدٌ كَاسِدٌ .
وَبِالْجُمْلَةِ فِي التَّعْرِيفِ الْمَزْبُورِ تَقْصِيرٌ مِنْ حَيْثُ إطْلَاقُ الْمُقَيَّدِ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ .
وَقَالَ فِي الْكَافِي : الْحَجْرُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ .
وَفِي الشَّرْعِ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا بِصِغَرٍ وَرِقٍّ وَجُنُونٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ تَدَارُكٌ لِلْمَحْذُورِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ يَبْقَى الْمَحْذُورُ الثَّانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَالْأَوَّلُ مَا ذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : ثُمَّ الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ مَصْدَرُ حَجَرَ عَلَيْهِ .
وَشَرْعًا مَنْعٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لِشَخْصٍ مَعْرُوفٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَجْرِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ انْتَهَى تَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ : الصِّغَرُ ، وَالرِّقُّ ، وَالْجُنُونُ ) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَلْحَقَ بِمَا اُشْتُقَّ مِنْهَا ثَلَاثَةً أُخْرَى بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا وَهِيَ : الْمُفْتِي الْمَاجِنُ ، وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ .
وَأَمَّا حَجْرُ الْمَدْيُونِ وَالسَّفِيهِ بَعْدَمَا بَلَغَ رَشِيدًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، كَذَا فِي
الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : قَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ عَلَى إدْرَاجِ الْعَتَهِ فِي الْجُنُونِ وَجَعْلِ الْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ثَلَاثَةً وَهِيَ : الصِّغَرُ ، وَالرِّقُّ ، وَالْجُنُونُ .
وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى جَعْلِ الْعَتَهِ قَسِيمًا لِلْجُنُونِ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، فَقَدْ خَالَفَ اصْطِلَاحُهُمْ فِي الْفُرُوعِ اصْطِلَاحَهُمْ فِي الْأُصُولِ وَهَذَا مِنْ النَّوَادِرِ ( قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ ) الَّتِي هِيَ الصِّغَرُ وَالرِّقُّ وَالْجُنُونُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ ، حَتَّى أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تُرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ .
وَأَوْجَبَ الْحَجْرَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْإِعْدَامِ فِي حُكْمِ أَقْوَالٍ تَتَمَحَّضُ ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ ، وَالْمَجْنُونُ دُونَ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ : وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ : يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ : يَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ : أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ ، وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ ، وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا نَفْعًا كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ فِيهِ عَلَى الْعُمُومِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : خَصَّصَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِالْأَقْوَالِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ حَيْثُ قَالَ : أَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ
وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَلَمَّا أَخْرَجَ عَنْ الْأَقْوَالِ مَا تَمَحَّضَ نَفْعًا وَمَا تَمَحَّضَ ضَرَرًا وَكَانَ فَائِدَةُ إخْرَاجِ الْأَوَّلِ ظَاهِرَةً لِعَدَمِ ثُبُوتِ الْحَجْرِ فِيهَا أَصْلًا دُونَ فَائِدَةِ ثُبُوتِ إخْرَاجِ الثَّانِي لِثُبُوتِ الْحَجْرِ فِيهِ أَيْضًا فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ خَصَّصَ مَعْنَى إيجَابِ الْحَجْرِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمَخْصُوصِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا مِنْ الْأَقْوَالِ .
وَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ عِبَارَةَ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَتِهَا لِشَيْءٍ مِنْ التَّخْصِيصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ مَحْذُورَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ يَصِيرُ مَآلُ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ : وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ فَلَا يَكُونُ فِي إعَادَةِ الثَّانِيَةِ فَائِدَةٌ إلَّا تَجَرُّدُ كَوْنِهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ دُونَ الْأَفْعَالِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ حِينَئِذٍ إدْرَاجَ مَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا مِنْ الْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَالْإِقْرَارُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ ، وَقَدْ أَدْرَجَهُ فِيهَا فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا بَعْدُ : وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا
إقْرَارُهُمَا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا .
وَصَرَّحَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ هُنَاكَ بِأَنَّ تِلْكَ الْمَسَائِلَ ذُكِرَتْ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا بَعْدَ قَوْلِهِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيعُ بِنَفْسِ عِبَارَتِهِ .
فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَقْوَالِ فِي قَوْلِهِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ لِلْجِنْسِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ فِي قَوْلِهِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ مَا يَعُمُّ إيجَابَ التَّوَقُّفِ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ ، وَإِيجَابُ الْإِعْدَامِ مِنْ الْأَصْلِ كَمَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُتَمَحِّضَةِ لِلضَّرَرِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ هَذَا الْقِسْمِ : أَعْنِي مَا تَمَحَّضَ ضَرَرًا عَنْ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَصْلِ الْمَسْفُورِ ، بَلْ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا دَاخِلٌ فِي جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَيَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْأَصْلُ فَيُنَاسِبُ تَفْرِيعَ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ بِأَسْرِهَا عَلَيْهِ ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْحَجْرِ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تَتَمَحَّضُ نَفْعًا ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْحَجْرِ فِي جِنْسِ الْأَقْوَالِ لَا يَقْتَضِي تَحَقُّقَهُ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهَا فَصَارَ الْأَصْلُ الْمَزْبُورُ مُجْمَلًا وَمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ تَبْيِينًا لَهُ ، فَمَا جُعِلَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِمَّا يُحْجَرُ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ الْحَجْرِ ، وَمَا لَا فَلَا تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ شَرْطِهِ ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينَ وَالنَّذْرَ كُلَّهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ
بِشَرْطٍ لِاعْتِبَارِهَا فِي الشَّرْعِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ طَلَاقَ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ هَازِلًا ، وَكَذَا عَتَاقُ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ هَازِلًا ، وَكَذَا يَمِينُهُ هَازِلًا وَنَذْرُهُ هَازِلًا صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعِهَا سِيَّمَا فِي مَبَاحِثِ الْهَزْلِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ ، مَعَ أَنَّ الْهَزْلَ يُنَافِي الْقَصْدَ لَا مَحَالَةَ ، فَإِنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِ مَفْهُومِ الْهَزْلِ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : الْأَقْوَالُ مَوْجُودَةٌ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً فَمَا بَالُهَا شَرْطُ اعْتِبَارِهَا مَوْجُودَةً شَرْطًا بِالْقَصْدِ دُونَ الْأَفْعَالِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً لَيْسَتْ عَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا بَلْ هِيَ دَلَالَاتٌ عَلَيْهَا ، وَيُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ دَلِيلِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ الْمَوْجُودُ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا عَيْنُهَا ، فَبَعْدَمَا وُجِدَتْ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَقَعُ صِدْقًا وَقَدْ يَقَعُ كَذِبًا وَقَدْ يَقَعُ جِدًّا وَقَدْ يَقَعُ هَزْلًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إذَا وُجِدَ هَزْلًا لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا فَكَذَا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ وَقَعَتْ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّهَا إيجَادَاتٌ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ مَدْلُولَاتِهَا عَنْهَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ الْأَقْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ فِي إفَادَةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْشَاءَاتِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا تَسَاوَى فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ مِنْ الْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
قَالَ ( وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ } وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً ، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ ، وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ ، فَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا ضَمَانُهُ ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَ الْإِتْلَافِ مُوجِبًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ كَاَلَّذِي يَتْلَفُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَيْهِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
( قَوْلُهُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا إلَخْ ) أَرَادَ بِعَدَمِ الصِّحَّةِ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، وَإِنَّمَا أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةَ تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَقْوَالِ لِتَنْسَاقَ الْقَوْلِيَّاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَإِذَا أُرِيدَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الصَّبِيُّ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ عَدَمِ الصِّحَّةِ بِعَدَمِ النَّفَاذِ ، وَيَخْلُصُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَنْ وَصْمَةِ التَّكْرَارِ انْتَهَى .
وَقَدْ أُخِذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ آخِرِ كَلَامِ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ قَالَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا يَصِحُّ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ بَيْعَهُمَا وَسَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِمَا الَّذِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ ، أَلَا يُرَى إلَى مَا قَالَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ ، إلَّا إذَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ مَنْ لَا يَعْقِلُ أَصْلًا وَبِقَوْلِهِ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفِيقُ أَصْلًا فَحِينَئِذٍ يَجْرِي قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ عَلَى ظَاهِرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا مَسَاغَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حَمْلَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا عَلَى الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ فَقَطْ مِمَّا لَا تُسَاعِدُهُ الْقَاعِدَةُ ، فَإِنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَاعِدَةِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَعَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي قَاعِدَةِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَمَا تَقَرَّرَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ ، فَهَاهُنَا الصَّبِيُّ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ
لَمْ يُعْهَدَا بِخُصُوصِهِمَا قَطْعًا ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْمَذْكُورَيْنِ هَاهُنَا جِنْسُهُمَا أَوْ جَمِيعُ أَفْرَادِهِمَا عَلَى إحْدَى الْقَاعِدَتَيْنِ لَا حِصَّةٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمَا كَمَا تُوُهِّمَ .
وَلَئِنْ سُلِّمَ مُسَاعَدَةُ الْقَاعِدَةِ لِذَلِكَ ، فَلَوْ أُرِيدَ بِهِمَا هَاهُنَا ذَلِكَ الْقِسْمُ الْمُعَيَّنُ مِنْهُمَا لَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحْكَامُ عُقُودِ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْغَيْرِ الْمَغْلُوبِ الَّذِي هُوَ الْمَعْتُوهُ وَلَا أَحْكَامُ إقْرَارِهِمَا وَطَلَاقِهِمَا وَعَتَاقِهِمَا مَذْكُورَةً فِي كِتَابِ الْحَجْرِ أَصْلًا ، إذْ مَوْضِعُ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ هُنَا وَلَمْ تُذْكَرْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكَةً سُدًى وَلَا يَخْفَى فَسَادُهُ .
وَلَا يَخْتَلِجَنَّ فِي وَهْمِكَ أَنَّهَا تُفْهَمُ مِمَّا ذُكِرَ دَلَالَةً ، لِأَنَّ سَبَبَ الْحَجْرِ فِي الصَّبِيِّ الْغَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ أَقْوَى مِنْ سَبَبِهِ فِي غَيْرِهِمَا فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ صِحَّةِ تَصَرُّفٍ فِي حَقِّهِمَا عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً ، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ ، وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَالْإِعْتَاقُ يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً لَا مَحَالَةَ ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ .
أَمَّا فِي الْحَالِ فَلِعَدَمِ الشَّهْوَةِ ، وَأَمَّا فِي الْمَآلِ فَلِأَنَّ عِلْمَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ الطِّبَاعِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ ، وَالْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ لَكِنْ لَا وُقُوفَ لَهُ
عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ جَعْلَهُ الطَّلَاقَ مِمَّا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ نَفْسُهُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ فِيمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ مِمَّا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ هَاهُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَأَمَّلْ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ فِي قَوْلِهِ وَالْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ مَصْلَحَةَ الصَّبِيِّ فِي الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ ، لِأَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ عَدَمُ شَهْوَتِهِ فِي الْحَالِ ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ وَالشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ وُقُوفِ الصَّبِيِّ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ ، فَعِنْدَ تَقَرُّرِ هَاتِيكَ الْعِلَّةِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقِفَ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ الْمَذْكُورَةِ مَصْلَحَتَهُ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ يَكُونُ ذِكْرُهَا لَغْوًا فِي إثْبَاتِ مَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
قَالَ ( فَأَمَّا ) ( الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ) لِقِيَامِ أَهْلِيَّتِهِ ( غَيْرُ نَافِذٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ) رِعَايَةً لِجَانِبِهِ ، لِأَنَّ نَفَاذَهُ لَا يَعْرَى عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ إتْلَافُ مَالِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ) لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ ( وَإِنْ أَقَرَّ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ ) لِأَنَّهُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ حَتَّى لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ ( وَيَنْفُذُ طَلَاقُهُ ) لِمَا رَوَيْنَا ، وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ } وَلِأَنَّهُ عَارِفٌ بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَكَانَ أَهْلًا ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا تَفْوِيتُ مَنَافِعِهِ فَيَنْفُذُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُحْجَرُ عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ ، وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ وَلَا مَصْلَحَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ وَلِهَذَا مُنِعَ عَنْهُ الْمَالُ ، ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ لِأَنَّهُ يُتْلِفُ بِلِسَانِهِ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ وَهَذَا لِأَنَّ فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ وَهُوَ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ كَالْحَجْرِ عَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ جَازَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ ، إذْ هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ ، وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ نَظَرَ لَهُ الشَّرْعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ ، وَمَنْعُ الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ .
( بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحَجْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ سَمَاوِيَّةٌ .
وَسَبَبُ الْحَجْرِ هَاهُنَا مُكْتَسَبٌ ، وَالسَّمَاوِيُّ فِي التَّأْثِيرِ أَقْوَى فَكَانَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَفِي الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحْرَى بِالتَّقْدِيمِ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا هُوَ السَّفَهُ ، وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْ مَعْنَى السَّفَهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ شَيْءٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ مُشْكِلٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْكَافِي : السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحِجَا .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى السَّفَهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَبْذِيرَ الْمَالِ وَإِتْلَافَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ فَكَيْفَ الْقَوْلُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ ، إذْ لَا مَسَاغَ لِعَدَمِ الْمَنْعِ عَمَّا هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ خِلَافُ مُوجَبِ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا خِلَافُ مُوجَبِ نَفْسِ الْعَقْلِ ، فَاللَّازِمُ عَدَمُ التَّخَلُّفِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ حُكْمُ الْعَقْلِ كَمَا هُوَ حَالُ النُّفُوسِ الْخَبِيثَةِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَا هُوَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ مُرْتَكِبُهُ بِاللِّسَانِ
عَلَى الِاتِّفَاقِ ، وَمِنْهُ عَمَلُ السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ .
وَأَمَّا الْحَجْرُ عَنْهُ بِمَعْنَى إبْطَالِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِ مَالِ التَّصَرُّفِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى اسْتِدْعَائِهِ ضَرَرًا أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ إتْلَافِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِسَدِيدٍ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ كَقَوْلِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا .
وَقَوْلُهُ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ ، وَقَوْلُهُ وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ، وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ مَالِهِ ، وَقَوْلُهُ وَلَا يُحْجَرُ الْفَاسِقُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ .
وَإِنَّمَا الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ ثَلَاثٌ : ثِنْتَانِ مِنْهَا مَذْكُورَتَانِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ : إحْدَاهُمَا مَسْأَلَةُ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ السَّفِيهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَيُحْجَرُ عِنْدَهُمَا .
وَأُخْرَاهُمَا مَسْأَلَةُ أَنَّ الْغُلَامَ الْبَالِغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسُ مِنْهُ رُشْدُهُ .
وَوَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي الْهِدَايَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عِنْدهمَا ، وَمَعَ ذَلِكَ جُعِلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَصْلًا فِي الذِّكْرِ وَقَوْلُهُمَا تَبَعًا لَهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مَا هِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا عَلَى قَوْلِهِ إلَّا الْمَسْأَلَةَ الْأَخِيرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْهِدَايَةِ وَحْدَهَا ، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَوْ قَالَ بَدَلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ : ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ تَلْقِيبَ هَذَا الْبَابِ بَابَ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ فَهَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ا هـ .
أَقُولُ : تَقْرِيرُهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا قِيَاسُ السَّفِيهِ عَلَى الصَّبِيِّ قِيَاسًا تَقْرِيبًا فِي وُجُوبِ الْحَجْرِ ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ فِيمَا سَيَأْتِي مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ وَلَا عَلَى
الصَّبِيِّ ، وَقَدْ قَرَّرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْقِيَاسِ الْمَنْطِقِيِّ حَيْثُ قَدَّرَ الْكُبْرَى الْكُلِّيَّةَ وَجَعَلَ قَوْلَهُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ الْقِيَاسِ كَمَا تَرَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَالَا : هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لَا بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ ، وَقَالَا : وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّفِيهُ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ .
فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا وَعُقُوبَةً ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ لَا يُسَمَّى سَفِيهًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ قَالَ : وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصْلِحِ فِي مَالِهِ إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا هَاهُنَا ، إذْ نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِ حُكْمِ السَّفِيهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَلَوْ كَانَ الْفَاسِقُ دَاخِلًا فِي السَّفِيهِ فِي عُرْفِهِمْ لَمَا صَحَّ بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ ) قِيلَ : يُشْكِلُ هَذَا بِالْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُخَاطَبَ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ
بِمُخَاطَبٍ كَامِلٍ لِسُقُوطِ الْخِطَابَاتِ الْمَالِيَّةِ عَنْهُ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ ، وَسُقُوطُ بَعْضِ الْخِطَابَاتِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالشَّهَادَاتِ وَشَطْرِ الْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ مُخَاطَبٌ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ فَحِينَئِذٍ لَا يَتَنَاوَلُ قَوْلُهُ إنَّهُ مُخَاطَبٌ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِي الْمَالِ وَلَا خِطَابَ فِيهِ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : بَقِيَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ عَاقِلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ إنَّهُ مُخَاطَبٌ مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَكُونُ إلَّا عَاقِلًا ، فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِعَاقِلٍ كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ لَا مَحَالَةَ
قَالَ ( وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ ) لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْهُ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ ، حَتَّى لَوْ رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ بَعْدَ ذَلِكَ
( ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ .
وَقَالَا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ ، وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ ) لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ وَصَارَ كَالصِّبَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ ، وَلَا يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ وَيَتَقَطَّعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا ، ثُمَّ لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ .
فَعِنْدَهُمَا لَمَّا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إذَا بَاعَ تَوْفِيرًا لِفَائِدَةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ .
( قَوْلُهُ وَقَالَا : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَتَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى ظَاهِرٌ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَتِهِ بِأَنْ يُحْمَلَ الْأَبَدُ عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ ، كَمَا حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْخُلُودَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } عَلَى الْمُكْثِ الطَّوِيلِ ، فَحِينَئِذٍ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَلَا يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَهَذَا الدَّلِيلُ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ : سَلَّمْنَا أَنْ عِلَّةَ الْمَنْعِ السَّفَهُ ، لَكِنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا لِلتَّأْدِيبِ وَلَا تَأْدِيبَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ ظَاهِرًا وَغَالِبًا ، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَصِيرُ جَدًّا بِاعْتِبَارِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ فِي الْإِنْزَالِ وَهُوَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَإِذَا لَمْ يَبْقَ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ .
وَالثَّانِي : أَنْ يُجْعَلَ مُعَارَضَةً فَيُقَالُ : مَا ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ لَكِنْ عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ إلَخْ ا هـ كَلَامُهُ ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ خَلَلٌ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِ عِلَّةِ الْمَنْعِ السَّفَهَ وَادَّعَاهُ أَنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ دُونَ الْمَنْعِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ عَنْ الْعِلَّةِ بَعْدَ
تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَنْعِ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ مَعَ تَحَقُّقِ السَّفَهِ بَعْدَهَا أَيْضًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَخَلُّفَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ : فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ ، فَاعْتِبَارُ التَّأْدِيبِ مَعَ الْمَنْعِ فِي جَانِبِ الْمَعْلُولِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ الْبَاطِلَ الْمُحَالَ .
وَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ لَيْسَ هُوَ السَّفَهُ وَحْدَهُ بَلْ هُوَ مَعَ قَصْدِ التَّأْدِيبِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ الْمَحِلُّ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يُقْصَدْ التَّأْدِيبُ بَعْدَهَا فَانْتَفَتْ الْعِلَّةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ جُزْأَيْهَا وَهُوَ قَصْدُ التَّأْدِيبِ فَلَزِمَ انْتِفَاءُ الْمَعْلُولِ الَّذِي هُوَ الْمَنْعُ أَيْضًا بَعْدَهَا فَوَجَبَ الدَّفْعُ ، فَصَارَ حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ الْمَنْعُ لَا التَّسْلِيمُ كَمَا تُوُهِّمَ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمَنْعَ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ ، وَيَنْقَطِعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ ) فَإِنْ قِيلَ : الدَّفْعُ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ لَا الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ .
سَلَّمْنَاهُ ، لَكِنَّهُ مُنْكَرٌ يُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْإِنْسَانُ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لِصَيْرُورَةِ فُرُوعِهِ أَصْلًا فَكَانَ مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يَقْتَضِي رُشْدَهُ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي الْمَجْنُونِ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ تَصَوَّرْ الرُّشْدِ فِيهِ .
سَلَّمْنَاهُ لَكِنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ
يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرُّشْدِ هُنَاكَ الرُّشْدُ الْكَامِلُ ، لَكِنْ لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ وَيَأْبَاهُ دَلِيلُهُ ، تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ .
وَرُدَّ بِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ إذَا وُجِدَ مِنْ أَهْلِهِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ بِالْعَقْلِ وَالسَّفَهُ لَا يَنْفِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَامَ التَّوَقُّفُ ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ لِلنَّظَرِ لَهُ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ نَصَّبَ نَاظِرًا فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ ، وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ وُجِدَ حَيْثُ قَالَ : هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَقَطْ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ إلَخْ : أَيْ اسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ إلَخْ ، فَحَصَلَ مِنْ الْمَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ مَعًا وَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ مِنْ أَوَّلِ قَوْلِهِ هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ فَقَطْ .
وَلَمَّا اتَّجَهَ عَلَى أَوَّلِ اسْتِدْلَالِهِ سُؤَالٌ ظَاهِرُ الْوُرُودِ تَصَدَّى الشَّارِحُ لِذِكْرِهِ مَعَ جَوَابِهِ فَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ دَلِيلِ الْجَوَازِ وَدَلِيلِ التَّوَقُّفِ فِي الْبَيَانِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ