كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْجِنَايَةِ ) قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : لَا يُقَالُ إنَّ ضَمَانَ بَنِي آدَمَ يَجِبُ بِالتَّسْبِيبِ وَقَدْ وُجِدَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا تَعَدَّى وَكَلَامُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي .
ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَيْفَ يَكُونُ كَلَامُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي وَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ضَمَانُ الْمَتَاعِ الْهَالِكِ بِعَمَلِهِ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْلَا التَّعَدِّي لَمَا ضَمِنَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَتَاعَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْأَجِيرِ إنْ هَلَكَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا كَمَا مَرَّ .
وَوَجْهُ التَّعَدِّي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا هُوَ مُخَالَفَةُ الْأَجِيرِ لِإِذْنِ الْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ أَتَى بِالْعَمَلِ الْمُفْسِدِ ، مَعَ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ إذْنِهِ إنَّمَا هُوَ الْعَمَلُ الْمُصْلِحُ ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الْمُصَنِّفُ التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِ التَّعَدِّي فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي الْأَحْكَامِ .
قَالَ : ( وَإِذَا فَصَدَ الْفَصَّادُ أَوْ بَزَغَ الْبَزَّاغُ وَلَمْ يَتَجَاوَزْ الْمَوْضِعَ الْمُعْتَادَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : بَيْطَارٌ بَزَغَ دَابَّةً بِدَانِقٍ فَنَفَقَتْ أَوْ حَجَّامٌ حَجَمَ عَبْدًا بِأَمْرِ مَوْلَاهُ فَمَاتَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لِأَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى قُوَّةِ الطِّبَاعِ وَضَعْفِهَا فِي تَحَمُّلِ الْأَلَمِ فَلَا يُمْكِنُ التَّقْيِيدُ بِالْمُصْلِحِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَلَا كَذَلِكَ دَقُّ الثَّوْبِ وَنَحْوُهُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الثَّوْبِ وَرِقَّتَهُ تُعْرَفُ بِالِاجْتِهَادِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِالتَّقْيِيدِ .
( قَوْلُهُ : وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ ) ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ عَدَمَ التَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ حَتَّى إنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ يَجِبُ الضَّمَانُ وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الْأُجْرَةَ وَحِجَامَةَ الْعَبْدِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى ، حَتَّى إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ يَجِبُ الضَّمَانُ فَيَجْعَلُ الْمَذْكُورَ فِي إحْدَاهُمَا مَذْكُورًا فِي الْأُخْرَى ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ ، وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَأَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْبَيَانِ عِبَارَةُ الْكِفَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : لِأَنَّ رِوَايَةَ الْمُخْتَصَرِ نَاطِقَةٌ بِعَدَمِ التَّجَاوُزِ سَاكِتَةٌ عَنْ الْإِذْنِ ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ نَاطِقَةٌ بِالْإِذْنِ سَاكِتَةٌ عَنْ التَّجَاوُزِ ، فَصَارَ مَا نَطَقَ بِهِ رِوَايَةُ الْمُخْتَصَرِ بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَمَا نَطَقَ بِهِ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَيَانًا لِمَا سَكَتَ عَنْهُ رِوَايَةُ الْمُخْتَصَرِ .
فَيُسْتَفَادُ بِمَجْمُوعِ الرِّوَايَتَيْنِ اشْتِرَاطُ عَدَمِ التَّجَاوُزِ وَالْإِذْنِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، حَتَّى إذَا عَدِمَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
ا هـ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَالَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَشْتَمِلُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْبَيَانِ .
أَمَّا فِي الْقُدُورِيِّ فَلِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَمَ التَّجَاوُزِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ ، وَيُفِيدُ أَنَّهُ إذَا تَجَاوَزَ ضَمِنَ ، وَأَمَّا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرُ فَلِأَنَّهُ بَيَّنَ الْأُجْرَةَ وَكَوْنُ الْحِجَامَةِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى وَالْهَلَاكِ ، وَيُفِيدُ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ بِأَمْرِهِ ضَمِنَ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي بَيَانِهِ خَلَلٌ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الْهَلَاكَ أَيْضًا مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِبَارَتَيْنِ نَوْعُ بَيَانٍ أَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعًا مِنْ الْبَيَانِ مَخْصُوصًا بِهِ ، وَالْهَلَاكُ مَذْكُورٌ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ
مَخْصُوصٍ بِأَحَدِهِمَا ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ : فِيمَا عَطِبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : فَنَفَقَتْ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى الْهَلَاكِ ، بَلْ مَا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ صَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ فَسَّرُوا عَطِبَ بِهَلَكَ وَنَفَقَ بِمَاتَ .
قَالَ : ( وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ ) وَإِنَّمَا سُمِّيَ أَجِيرَ وَحْدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْمَلَ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي الْمُدَّةِ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ وَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِالْمَنَافِعِ ، وَلِهَذَا يَبْقَى الْأَجْرُ مُسْتَحَقًّا ، وَإِنْ نُقِضَ الْعَمَلُ .
( قَوْلُهُ : وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا يَرُدُّ عَلَى الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ فَعَلَيْك بِمِثْلِهِ هَاهُنَا ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ مِثْلَ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ هُنَاكَ عَنْ الْإِيرَادِ عَلَى تَعْرِيفِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ بِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ دَوْرِيٌّ لَا يَتَمَشَّى هَاهُنَا ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِأَدْنَى وَجْهِ تَدَبُّرٍ ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ تَدَارَكَ هَذَا حَيْثُ قَالَ : وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ انْتَهَى .
وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَوَابِ ، لَكِنْ فِي تَحْرِيرِهِ أَيْضًا رَكَاكَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيمَا تَقَدَّمَ تَعْرِيفُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ لَا تَعْرِيفَ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصَارَ إلَى حَذْفِ الْمُضَافِ فَيَكُونَ التَّقْدِيرُ قَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَهُ ، وَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ .
قَالَ : ( وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فِيمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ وَلَا مَا تَلِفَ مِنْ عَمَلِهِ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ بِإِذْنِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَالْأَجِيرُ الْوَحْدُ لَا يَتَقَبَّلُ الْأَعْمَالَ فَتَكُونُ السَّلَامَةُ غَالِبَةً فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ مَتَى صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ صَحَّ وَيَصِيرُ نَائِبًا مَنَابَهُ فَيَصِيرُ فِعْلُهُ مَنْقُولًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ عِنْدَهُمَا لِصِيَانَةِ أَمْوَالِ النَّاسِ ) فَإِنَّهُ يَقْبَلُ أَعْمَالًا كَثِيرَةً رَغْبَةً فِي كَثْرَةِ الْأَجْرِ ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ قَضَاءِ حَقِّ الْحِفْظِ فِيهَا فَضَمِنَ حَتَّى لَا يُقَصِّرَ فِي حِفْظِهَا ، وَلَا يَأْخُذَ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ حُكْمَهُمَا بِالضَّمَانِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ ، وَمَا ذَكَرَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لِئَلَّا يُقَصِّرَ الْأُجَرَاءُ فِي الْحِفْظِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْبَحْثُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَ هُنَا حِكْمَةٌ حَكَمَهَا بِضَمَانِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا هُوَ دَلِيلُ حُكْمِهَا بِذَلِكَ فَلَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا أَصْلًا ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا ذَكَرَ هُنَا أَيْضًا دَلِيلًا لَا حِكْمَةً لَمْ يَلْزَمْ مَحْذُورٌ قَطُّ ، إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ مَا ذَكَرَ هُنَا ، وَمَا ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ وَلَا تَعَارُضَ ، فَلَا مَانِعَ عَنْ كَوْنِ هَذَا وَذَاكَ مَعًا دَلِيلًا عَلَى الْحُكْمِ .
بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ( وَإِذَا قَالَ لِلْخَيَّاطِ إنْ خِطْتَ هَذَا الثَّوْبَ فَارِسِيًّا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ خِطْته رُومِيًّا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ ، وَأَيَّ عَمَلٍ مِنْ هَذَيْنِ الْعَمَلَيْنِ عَمِلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ بِهِ ) وَكَذَا إذَا قَالَ لِلصَّبَّاغِ إنْ صَبَغْته بِعُصْفُرٍ فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ صَبَغْتَهُ بِزَعْفَرَانٍ فَبِدِرْهَمَيْنِ ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِأَنْ قَالَ : آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ الْأُخْرَى بِعَشَرَةٍ ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قَالَ : آجَرْتُك هَذِهِ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ بِكَذَا أَوْ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا ، وَكَذَا إذَا خَيَّرَهُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ ، وَإِنْ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ لَمْ يَجُزْ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا ، وَفِي الْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ( وَلَوْ قَالَ : إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ ) قَالَ : زُفَرُ : الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ ذُكِرَ بِمُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ ، وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ .
وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ .
وَذِكْرَ الْغَدِ
لِلتَّعْلِيقِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ ؛ وَلِأَنَّ التَّعْجِيلَ وَالتَّأْخِيرَ مَقْصُودٌ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ النَّوْعَيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً .
وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى التَّأْقِيتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ ، فَيَصِحُّ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَيَجِبُ الْمُسَمَّى ، وَيَفْسُدُ الثَّانِي وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلُ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَمَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتُعْتَبَرُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ ، فَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْضَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ فَبِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ إلَى مَا بَعْدَ الْغَدِ أَوْلَى ( وَلَوْ قَالَ : إنْ سَكَّنْتَ فِي هَذَا الدُّكَّانِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ فِي الشَّهْرِ ، وَإِنْ سَكَّنْتَهُ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ جَازَ ، وَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ فَعَلَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ، وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَّنَ فِيهِ عَطَّارًا فَبِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ سَكَّنَ فِيهِ حَدَّادًا فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ) .
( بَابُ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْإِجَارَةِ عَلَى شَرْطٍ وَاحِدٍ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ الْإِجَارَةَ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ قَبْلَ الِاثْنَيْنِ ( قَوْلُهُ : غَيْرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ ، إلَى قَوْلِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْجَهَالَةُ عَلَى وَجْهٍ لَا تَرْتَفِعُ الْمُنَازَعَةُ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ) اسْتَشْكَلَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ هَذَا الْفَرْقَ حَيْثُ قَالَ : أَقُولُ الْجَهَالَةُ الَّتِي فِي طَرَفِ الْأُجْرَةِ تَرْتَفِعُ كَمَا ذَكَرُوا ، وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الَّتِي فِي طَرَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ آجَرْتُك هَذِهِ الدَّارَ سَنَةً بِخَمْسَةٍ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ بِعَشَرَةٍ فَهِيَ ثَابِتَةٌ ، وَهِيَ تُفْضِي إلَى النِّزَاعِ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَتَسَلُّمِهِ ، إذْ الْمُسْتَأْجِرُ يُرِيدُ هَذَا وَالْمُؤَجِّرُ يَدْفَعُ الْآخَرَ فَيَتَحَقَّقُ النِّزَاعُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ بِدُونِ شَرْطِ خِيَارِ التَّعْيِينِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاسْتِشْكَالِ فِي صُورَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنْ يُقَالَ : إنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ فِي بَابِ الْبَيْعِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فَلَا تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى النِّزَاعِ حِينَ وُجُوبِ الثَّمَنِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ ، وَالْأُجْرَةُ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ لَا تَجِبُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بَلْ بِالْعَمَلِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْعَمَلِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ لَا مَحَالَةَ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ .
إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا الْجَوَابُ بِشَيْءٍ إذْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي الْفَرْقِ هَاهُنَا ، وَالْإِشْكَالُ الْمَزْبُورُ إنَّمَا يُتَّجَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الَّتِي فِي طَرَفِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ تُفْضِي إلَى النِّزَاعِ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَتَسَلُّمِهَا فَلَا يَبْقَى الْمَجَالُ لِلْعَمَلِ نَفْسِهِ ، إذْ الْعَمَلُ فِي نَحْوِ اسْتِئْجَارِ
الدَّارِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَحَقُّقِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَتَسَلُّمِهَا ، وَعِنْدَ النِّزَاعِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فَلَا يُفِيدُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَرْتَفِعُ عِنْدَ وُجُودِ الْعَمَلِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ فِي دَفْعِ أَصْلِ الْإِشْكَالِ ( قَوْلُهُ : وَقَالَ زُفَرُ : الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ بِمُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى الْبَدَلِ فَيَكُونُ مَجْهُولًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ ) بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ ؛ لِأَنَّهُ حَالُ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ فِي الْغَدِ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ ، فَكَذَا هَاهُنَا .
وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّرْفِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حَالُ إفْرَادِ الْعَقْدِ فِي الْغَدِ بِأَنْ قَالَ خِطْهُ غَدًا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّرْفِيهِ فَكَذَا هَاهُنَا ، إذْ لَيْسَ لِتَعْدَادِ الشَّرْطِ أَثَرٌ فِي تَغْيِيرِهِ فَيَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ .
أَمَّا فِي الْيَوْمِ فَلِأَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ إذَا كَانَ لِلتَّرْفِيهِ كَانَ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى غَدٍ ثَابِتًا الْيَوْمَ مَعَ عَقْدِ الْيَوْمِ .
وَأَمَّا فِي الْغَدِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُنْعَقِدَ فِي الْيَوْمِ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُضَافِ إلَى غَدٍ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَسْمِيَتَانِ لَزِمَ مُقَابَلَةُ الْعَمَلِ الْوَاحِدِ بِبَدَلَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ خِطْهُ بِدِرْهَمٍ أَوْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِكَوْنِ الْأَجْرِ مَجْهُولًا وَذَلِكَ يُفْضِي إلَى النِّزَاعِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ الْبَيَانِ : وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَزُولُ بِوُقُوعِ الْعَمَلِ ، فَإِنَّ بِهِ يَتَعَيَّنُ الْأَجْرُ لِلُزُومِهِ عِنْدَ الْعَمَلِ كَمَا تَقَدَّمَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ
زَوَالَ الْجَهَالَةِ بِوُقُوعِ الْعَمَلِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا لَمْ يَجْتَمِعْ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ ، وَمَدَارُ دَلِيلِ زُفَرَ عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَمَا تَبَيَّنَ مِنْ قَبْلُ ، فَحِينَئِذٍ لَا تَزُولُ الْجَهَالَةُ قَطْعًا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ أَمْرٌ وَاحِدٌ ، فَفِي أَيِّ يَوْمٍ يَقَعُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي مُقَابَلَتِهِ بَدَلَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ .
فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ دَلِيلِ زُفَرَ مَنْعُ لُزُومِ اجْتِمَاعِ التَّسْمِيَتَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ كَمَا سَيُفْهَمُ مِنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ سَائِرِ الْأَئِمَّةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْجَوَابِ عَنْهُ صَرِيحًا ( قَوْلُهُ : وَلَهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ وَذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ فَلَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ نَقْلِ دَلِيلِهِمَا هَذَا عَنْ الْهِدَايَةِ : وَفِيهِ كَلَامٌ .
وَهُوَ أَنَّ الْإِمَامَيْنِ جَعَلَا الْيَوْمَ فِي مَسْأَلَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِيَخْبِزَ لَهُ الْيَوْمَ كَذَا بِكَذَا لِلتَّعْجِيلِ هَرَبًا عَنْ بُطْلَانِ الْحَمْلِ عَلَى التَّوْقِيتِ فَكَيْفَ يَلْتَزِمَانِ الْأَمْرَ الْبَاطِلَ هَاهُنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الْكَلَامُ ظَاهِرُ الِانْدِفَاعِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَيْنِ إنَّمَا حَمَلَا الْيَوْمَ هَاهُنَا عَلَى التَّوْقِيتِ لِكَوْنِ التَّوْقِيتِ حَقِيقَتَهُ ، وَعَدَمِ تَحَقُّقِ الصَّارِفِ عَنْهَا إلَى الْمَجَازِ عِنْدَهُمَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ .
وَإِنَّمَا جَعَلَا الْيَوْمَ فِي مَسْأَلَةِ الْخَبْزِ لِلتَّعْجِيلِ لِتَحَقُّقِ الصَّارِفِ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ هُنَاكَ ، وَهُوَ يُصَحِّحُ الْعَقْدَ .
فَإِنَّ الْأَصْلَ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ ، وَإِنَّمَا أَمْكَنَ هُنَاكَ بِجَعْلِ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْمَقَامَيْنِ عَلَى أَصْلِهِمَا ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ عَمَّا ذَكَرْنَا تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : قَدْ جَعَلَا ذِكْرَ الْيَوْمِ فِي مَسْأَلَةِ خَبْزِ الْمَخَاتِيمِ لِلتَّعْجِيلِ فَمَا لَهُمَا لَمْ يَجْعَلَا كَذَلِكَ هَاهُنَا ؟ قُلْت : هُنَالِكَ حَمَلَا
عَلَى الْمَجَازِ تَصْحِيحًا لِلْعَقْدِ ، وَهَاهُنَا حَمَلَا عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلتَّصْحِيحِ أَيْضًا إذْ لَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ فِي الْفَصْلَيْنِ يَلْزَمُ إبْطَالُ مَا قَصَدَ الْعَاقِدَانِ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَالْأَصْلُ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مَا أَمْكَنَ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
( قَوْلُهُ : وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ حَقِيقَةً ) ، وَمُرَادُهُ بِالتَّعْلِيقِ الْإِضَافَةُ : أَيْ لِلْإِضَافَةِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَلَكِنْ تَقْبَلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَتَكُونُ مُرَادَةً ، كَذَا رَأَى عَامَّةُ الشُّرَّاحِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذِكْرَ الْغَدِ لِلْإِضَافَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ تَفْسِيرِ التَّعْلِيقِ هُنَا بِالْإِضَافَةِ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : عَبَّرَ عَنْ الْإِضَافَةِ بِالتَّعْلِيقِ إشَارَةً إلَى أَنَّ النِّصْفَ فِي الْغَدِ لَيْسَ بِتَسْمِيَةٍ جَدِيدَةٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِحَطِّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالتَّأْخِيرِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ ذِكْرَ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ : أَيْ لِتَعْلِيقِ الْحَطِّ بِالتَّأْخِيرِ ، وَهُوَ يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ النِّصْفُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَةً جَدِيدَةً بَلْ كَانَ ذِكْرُ الْغَدِ لِمُجَرَّدِ تَعْلِيقِ حَطِّ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالتَّأْخِيرِ لَمَا صَحَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَجْتَمِعُ فِي الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ دُونَ الْيَوْمِ فَيَصِحُّ الْأَوَّلُ وَيَفْسُدُ الثَّانِي ، إذْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يَكُونُ فِي الْغَدِ إلَّا تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ التَّسْمِيَةُ الْأُولَى ، وَلَكِنْ يُحَطُّ نِصْفُ الْمُسَمَّى بِالتَّأْخِيرِ فَتَجْوِيرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هَاهُنَا إفْسَادٌ لِدَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ لِمُدَّعَاهُ أَيْضًا ، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا اغْتَرَّ بِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّعْلِيقِ أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ .
الْمُرَادُ مِنْ
التَّعْلِيقِ الْإِضَافَةُ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْإِجَارَةِ لَا يَجُوزُ وَقَالَ : أَوْ نَقُولُ الْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيقُ حَطِّ النِّصْفِ بِالتَّأْخِيرِ إلَى الْغَدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَا تَعْلِيقَ الْإِجَارَةِ انْتَهَى ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ لَا يَسْتَلْزِمُ مَحْذُورًا يَسْتَلْزِمُهُ تَجْوِيزُهُ أَثْنَاءَ تَقْرِيرِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ : لَا يَجْتَمِعُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تَسْمِيَتَانِ فَلَا يُنَافِيهِ تَجْوِيزُ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا عَرَفْت ( قَوْلُهُ : وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْيَوْمِ عَلَى التَّأْقِيتِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَسَادَ الْعَقْدِ لِاجْتِمَاعِ الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ ) فَإِنَّا إذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْعَمَلِ كَانَ الْأَجِيرُ مُشْتَرَكًا ، وَإِذَا نَظَرْنَا إلَى ذِكْرِ الْيَوْمِ كَانَ أَجِيرَ وَحْدٍ ، وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ لِتَنَافِي لَوَازِمِهِمَا ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعَمَلِ يُوجِبُ عَدَمَ وُجُوبِ الْأُجْرَةِ مَا لَمْ يَعْمَلْ ، وَذِكْرَ الْوَقْتِ يُوجِبُ وُجُوبَهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْمُدَّةِ ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ يَدُلُّ عَلَى تَنَافِي الْمَلْزُومَاتِ ؛ وَلِذَلِكَ عَدَلْنَا عَنْ الْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ التَّأْقِيتُ إلَى الْمَجَازِ الَّذِي هُوَ التَّعْجِيلُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : يُشْكِلُ هَذَا بِمَسْأَلَةِ الرَّاعِي فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ فِيهَا الْعَمَلُ وَالْوَقْتُ ، وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا يُحْمَلُ الْوَقْتُ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ فِي قَوْلِ أَحَدٍ ، بَلْ يُعْتَبَرُ الْأَجِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا إنْ وَقَعَ ذِكْرُ الْعَمَلِ أَوَّلًا ، وَأَجِيرَ وَحْدٍ إنْ وَقَعَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ أَوَّلًا ، صُرِّحَ بِذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ سِيَّمَا فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ .
قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَفِي الْمَسْأَلَةِ إشْكَالٌ هَائِلٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ هُنَا حَتَّى أَجَازَ الْعَقْدَ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْمَخَاتِيمِ جَعَلَ ذِكْرَ
الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ عَلَى مَا سَبَقَ تَقْرِيرُهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ حَقِيقَةٌ لِلتَّوْقِيتِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ ، وَهُنَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ ، وَهُوَ نُقْصَانُ الْأَجْرِ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ فَعَدْلنَا عَنْ الْحَقِيقَةِ وَصِرْنَا إلَى الْمَجَازِ بِهَذَا الدَّلِيلِ ، وَلَمْ يَقُمْ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ ثَمَّةَ فَكَانَ التَّوْقِيتُ مُرَادًا فَفَسَدَ الْعَقْدُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَزَادَ عَلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ سُؤَالًا وَجَوَابًا فَلَخَّصَهُمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ .
وَالْجَوَابُ وَرَدَ بِأَنَّ دَلِيلَ الْمَجَازِ قَائِمٌ ثَمَّةَ ، وَهُوَ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ عَلَى تَقْدِيرِ التَّعْجِيلِ فَيَكُونُ مُرَادًا نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ الْحَالِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْجَوَازَ بِظَاهِرِ الْحَالِ فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ دَلِيلٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ نُقْصَانَ الْأَجْرِ دَلِيلٌ زَائِدٌ عَلَى الْجَوَازِ بِظَاهِرِ الْحَالِ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُشْكِلُ الْجَوَابُ الْمَذْكُورُ عَنْ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ بِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ ، وَهِيَ مَا قَالَ فِيهِ ، وَلَوْ قَالَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك ، قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَمَالِي : إنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَهُ دِرْهَمٌ : وَإِنْ خَاطَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرٌ مِثْلُهُ لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْأَجْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي وُجُوبَهُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ، وَنَفْيُ التَّسْمِيَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي أَصْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَقْدًا لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ .
انْتَهَى لَفْظُ الْمُحِيطِ .
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُفْسِدْ الْعَقْدَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ كَمَا أَفْسَدَهُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِيهَا
دَلِيلٌ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ إنْ خِطْته غَدًا فَلَا أَجْرَ لَك لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ إرَادَةِ مَا كَانَ ذِكْرُ الْيَوْمِ حَقِيقَةً فِيهِ ، وَهُوَ التَّوْقِيتُ ، بَلْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى إرَادَةِ حَقِيقَةِ ذَلِكَ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ التَّوْقِيتَ لَمَا نَفَى الْأَجْرَ بِالْكُلِّيَّةِ فِي الْغَدِ ، وَإِذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُرَادًا بِذِكْرِ الْيَوْمِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ يُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْمَخَاتِيمِ جِدًّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَاسْتَشْكَلَ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَلَا بُدَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ مِنْ بَيَانِ دَلِيلِ الْمَجَازِ فِيمَا إذَا قِيلَ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ حَيْثُ حَمَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ عَلَى التَّعْجِيلِ .
وَقَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ صِيغَةَ الْأَمْرِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْخِيَاطَةِ مَطْلُوبَةً فَلَا يَكُونُ ذِكْرُ الْيَوْمِ لِلتَّأْقِيتِ ، وَقَالَ : وَفِيهِ تَأَمُّلٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يُتَوَجَّهُ هَذَا الِاسْتِشْكَالُ رَأْسًا إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَمَلَ ذِكْرَ الْيَوْمِ عَلَى التَّعْجِيلِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى أَصْلِهِ هُنَاكَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ ذِكْرِ الْوَقْتِ وَذِكْرِ الْعَمَلِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ .
وَإِنِّي تَتَبَّعْت عَامَّةَ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَلَمْ أَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، بَلْ وَجَدْت فِي بَعْضٍ مِنْهَا التَّصْرِيحَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ الزَّاهِدِيَّ قَالَ فِي شَرْحِهِ لِمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ : وَلَوْ قَالَ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ وَلَك دِرْهَمٌ لَمْ يَصِحَّ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنَّهُ الْمُدَّةُ أَوْ الْعَمَلُ انْتَهَى .
نَعَمْ قَدْ قِيلَ فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ فِي أَثْنَاءِ
بَيَانِ دَلِيلِ زُفَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا تَوْضِيحًا لِقَوْلِهِ إنَّ ذِكْرَ الْيَوْمِ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَفْرَدَ الْعَقْدَ فِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ خِطْهُ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ كَانَ لِلتَّعْجِيلِ لَا لِلتَّوْقِيتِ ، حَتَّى لَوْ خَاطَهُ فِي الْغَدِ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ فَكَذَا هَاهُنَا انْتَهَى .
لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ فِي دَلِيلِ زُفَرَ إنَّمَا يَنْتَهِضُ حُجَّةً عَلَى الْإِمَامَيْنِ .
فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ بِالتَّعْجِيلِ حَالَةَ الْإِفْرَادِ لَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ : وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : لَا يُزَادُ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَا يُنْتَقَصُ مِنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ الْأُولَى لَا تَنْعَدِمُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَتُعْتَبَرُ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ ، وَتُعْتَبَرُ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ ) أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ تَمْنَعُ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا وَلَا تَمْنَعُ النُّقْصَانَ أَصْلًا ، بَلْ يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ نَقَصَ عَنْ الْمُسَمَّى فَمَا مَعْنَى أَنْ تُعْتَبَرَ التَّسْمِيَةُ الثَّانِيَةُ هَاهُنَا لِمَنْعِ النُّقْصَانِ ، وَهَلَّا هَذَا مُخَالِفًا لِمَا تَقَرَّرَ .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ جَاوَزَ بِهَا إلَى الْقَادِسِيَّةِ فَبِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَيُحْتَمَلُ الْخِلَافُ وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْحِيرَةِ عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ شَعِيرٍ فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كُرَّ حِنْطَةٍ فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَا : لَا يَجُوزُ ) وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَكَذَا الْأَجْرُ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُوجِبُ الْفَسَادَ ، بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ .
أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ ، وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ عَقْدَيْنِ صَحِيحَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَيَصِحُّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ يُخَالِفُ إسْكَانَهُ الْحَدَّادَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي مُطْلَقِ الْعَقْدِ وَكَذَا فِي أَخَوَاتِهَا ، وَالْإِجَارَةُ تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ وَعِنْدَهُ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ ، وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ .
( قَوْلُهُ : أَمَّا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَبْقَى الْجَهَالَةُ ، وَهَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُمَا ) قَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ : يَرُدُّ عَلَى أَصْلِهِمَا مَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، فَإِنَّ الْأَجْرَ يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ فَيَلْزَمُ أَنْ يَفْسُدَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ ثَمَّةَ عِنْدَهُمَا مَعَ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وِفَاقًا إلَّا عِنْدَ زُفَرَ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْأَجْرَ ، وَإِنْ وَجَبَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالتَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ وَالتَّخْلِيَةِ ، بَلْ لَا بُدَّ فِي وُجُوبِهِ مِنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ ، فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْكُوفَةِ فَسَلَّمَهَا الْمُؤَجِّرُ وَأَمْسَكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ بِبَغْدَادَ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُهُ الْمَسِيرُ فِيهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ سَاقَهَا مَعَهُ إلَى الْكُوفَةِ فَلَمْ يَرْكَبْهَا وَجَبَتْ الْأُجْرَةُ .
انْتَهَى .
فَفِي مَسْأَلَةِ التَّخْيِيرِ بَيْنَ مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ مِنْ تَيْنِك الْمَسَافَتَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى أَصْلِهِمَا ( قَوْلُهُ : وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى الْإِيجَابِ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ ) يَعْنِي وَلَوْ اُحْتِيجَ إلَى إيجَابِ الْأَجْرِ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ وَالتَّسْلِيمِ ، بِأَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ الْمُسْتَأْجَرَةَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ قَطُّ حَتَّى تُعْلَمَ الْمَنْفَعَةُ يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ سُمِّيَا فِي الْعَقْدِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ جَازَ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ فِي دَفْعِ الْجَهَالَةِ الْوَاقِعَةِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ مُتَيَقِّنًا لَصَحَّتْ الْإِجَارَةُ فِيمَا إذَا سَمَّى لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ أَوْ لِمَنْفَعَةٍ مُعَيَّنَةٍ
أَجْرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَأَنْ قَالَ : خِطْ هَذَا الثَّوْبَ بِدِرْهَمٍ أَمْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ قَالَ : اُسْكُنْ فِي هَذَا الْبَيْتِ بِدِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ اللَّذَيْنِ سَمَّاهُمَا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ فَتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ ، وَلِهَذَا جُعِلَ السَّفَرُ عُذْرًا فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِهِ كَإِسْكَانِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ فِي الدَّارِ ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ لَا يَبْقَى غَيْرُهُ دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ
( بَابُ إجَارَةِ الْعَبْدِ ) .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ ، إذْ الْعَبْدُ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنْ الْحُرِّ فَانْحَطَّ ذِكْرُهُ عَنْ ذِكْرِ الْحُرِّ لِذَلِكَ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي ذِكْرِ هَذَا الْوَجْهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : لَمَّا كَانَتْ إجَارَةُ الرَّقِيقِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِجَارَةِ وَبِالرَّقِيقِ مَسَائِلُ خَاصَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذَكَرَهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَأَخَّرَ ذِكْرَهَا ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّوْعِ ، وَقَالَ هَذَا مَا لَاحَ لِي مِنْ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ ، وَمَا قِيلَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ إنَّ الْعَبْدَ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنْ الْحُرِّ فَانْحَطَّ ذِكْرُهُ عَنْ ذِكْرِ الْحُرِّ لِذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا اسْتِئْجَارَ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَمَّامِ وَالدَّوَابِّ ، وَذَكَرَ هُنَا اسْتِئْجَارَ الرَّقِيقِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَتَرْجَمَ الْبَابَ بِبَابِ إجَارَةِ الْعَبْدِ كَمَا تَرْجَمَ فِي الْأَصْلِ بِبَابِ إجَارَةِ الرَّقِيقِ لِلْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا ، وَظَاهِرُ كَلَامِ هَذَا الشَّارِحِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ مُنْحَطُّ الدَّرَجَةِ عَنْ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ أَصْلًا فَلَا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِي شَيْءٍ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَهَذَا مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَمْ يَبْدَأْ أَوَّلَ الْبَابِ بِاسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ أَصْلًا فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا أَصَالَةً وَلَا نِيَابَةً ، بَلْ هُوَ مَحَلُّ التَّصَرُّفِ ، وَمَوْقِعُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ غَرَضَ الْمُصَنِّفِ لَمْ يَكُنْ إلَّا تَنْوِيعُ الْمَسَائِلِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْوَجْهِ الَّذِي لَاحَ لَهُ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الْجِنْسِ مُقَدَّمًا عَلَى النَّوْعِ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ إلَى
هُنَا ، فَإِنَّ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ مُخْتَصَّةٌ أَيْضًا بِالنَّوْعِ لَا عَامَّةٌ لِلْجِنْسِ ، أَلَا يُرَى أَنَّ مَسَائِلَ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالنَّوْعِ الْفَاسِدِ مِنْ جِنْسِ الْإِجَارَةِ ، وَكَذَا مَسَائِلُ بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ مُخْتَصَّةٌ بِالنَّوْعِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ الشَّرْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْأُخْرَى الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَإِنَّمَا يَقْتَضِي هَذَا الْوَجْهُ تَأْخِيرَ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ عَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَامَّةِ لِجِنْسِ الْإِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْبَيْنِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ مِنْ النَّظَرِ فَقَدْ قَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَهُ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ إجَارَةِ الْعَبْدِ : أَيْ نَفْسِهِ وَقَالَ : وَإِجَارَةُ الْغَيْرِ إيَّاهُ ذُكِرَتْ اسْتِطْرَادًا ، وَقَدْ يُقَدَّمُ فِي الذِّكْرِ مَا يُذْكَرُ اسْتِطْرَادًا كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ ، فَعَلَى هَذَا الْإِجَارَةُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْأُجْرَةِ ، وَهِيَ كِرَاءُ الْأَجِيرِ ، صَرَّحَ بِهِ فِي الْمُغْرِبِ وَعَامَّةِ كُتُبِ اللُّغَةِ ، وَلَمْ يُسْمَعْ مَجِيءُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَصْدَرًا قَطُّ ، وَإِنَّمَا الْمَصْدَرُ مِنْ الثُّلَاثِيِّ الْأَجْرُ ، وَمِنْ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ الْإِيجَارُ وَالْمُؤَاجَرَةُ ، فَلَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِجَارَةِ فَاعِلٌ ، وَمَفْعُولٌ ، فَلَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْإِجَارَةَ هَاهُنَا مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ ، وَأَنَّ الْمَعْنَى إجَارَةُ الْعَبْدِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي هَذَا الْبَابِ خَمْسُ مَسَائِلَ : ثِنْتَانِ مِنْهَا مُتَعَلِّقَتَانِ بِإِيجَارِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ ، وَثَلَاثٌ مِنْهَا مُتَعَلِّقَاتٌ بِإِيجَارِ الْغَيْرِ إيَّاهُ ، فَحَمَلَ عُنْوَانَ الْبَابِ
عَلَى أَقَلَّ مَا ذَكَرَ فِي الْبَابِ ، وَجَعَلَ أَكْثَرَ مَا ذَكَرَ فِيهِ اسْتِطْرَادِيًّا كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ : وَإِجَارَةُ الْغَيْرِ إيَّاهُ ذُكِرَتْ اسْتِطْرَادًا مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي دَفْعِ مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ النَّظَرِ إنَّ انْحِطَاطَ دَرَجَةِ الْعَبْدِ عَنْ الْحُرِّ كَمَا يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِيمَا إذَا وُجِدَ مِنْ الْعَبْدِ تَصَرُّفٌ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، كَذَلِكَ يَظْهَرُ لَهُ أَثَرٌ فِيمَا إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَكِنْ كَانَ هُوَ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ ، وَمَوْقِعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ فِي كُلِّ مِنْ تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ حُكْمًا خَاصًّا يَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ : فِي الْوَجْهِ الَّذِي اخْتَارَهُ ، وَبِالرَّقِيقِ مَسَائِلُ خَاصَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذَكَرَهَا فِي بَابٍ عَلَى حِدَةٍ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ اخْتِصَاصَ مِثْلِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِالْعَبْدِ لَيْسَ لِارْتِفَاعِ دَرَجَتِهِ عَنْ الْحُرِّ بَلْ إنَّمَا هُوَ لِانْحِطَاطِ دَرَجَتِهِ عَنْ الْحُرِّ ؛ فَكَانَ قَوْلُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ ، وَمَنْ تَبِعَهُ : أَخَّرَ الْأَحْكَامَ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْعَبْدِ عَنْ أَحْكَامِ الْحُرِّ ؛ لِانْحِطَاطِ دَرَجَةِ الْعَبْدِ عَنْ الْحُرِّ وَجْهًا جَارِيًا فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا شَامِلًا لِلْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَسْرِهَا فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ صَاحِبِ الْغَايَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَمْ يَبْدَأْ أَوَّلَ الْبَابِ بِاسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ إلَخْ ، إذْ مَدَارُهُ عَلَى أَنْ لَا يَجْرِيَ الْوَجْهُ الْمَزْبُورُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ كَمَا يُنَادِي عَلَيْهِ تَعْلِيلُهُ .
ثُمَّ إنَّ إضَافَةَ الْإِجَارَةِ إلَى الْعَبْدِ فِي عُنْوَانِ الْبَابِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ إلَى الْفَاعِلِ وَلَا مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمَفْعُولِ لِمَا عَرَفْت ، بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ لِأَدْنَى الْمُلَابَسَةِ فَتَشْمَلُ مَا كَانَ الْعَبْدُ مُتَصَرِّفًا فِي نَفْسِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَا فِي بَعْضِ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ .
وَمَا كَانَ الْعَبْدُ مَحَلَّ
التَّصَرُّفِ ، وَمَوْقِعَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَا فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَعْضِ الْمَسْأَلَةُ الْمُبْتَدَأُ بِهَا أَوَّلَ الْبَابِ فَلَا مَحْذُورَ وَلَا اسْتِطْرَادَ فِي شَيْءٍ تَأَمَّلْ تَرْشُدْ ( قَوْلُهُ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ اشْتَمَلَتْ عَلَى زِيَادَةِ مَشَقَّةٍ فَلَا يَنْتَظِمُهَا الْإِطْلَاقُ ) فَإِنْ قِيلَ : إنَّ الْمُسْتَأْجَرَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى بِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ أَجِيرِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَنَقْضُ هَذَا الْجَوَابِ بِمَنْ ادَّعَى دَارًا وَصَالَحَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدِهِ سَنَةً فَإِنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ إلَى السَّفَرِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهُ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَرِّرُ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ ، فَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِالْعَبْدِ فَهُوَ يُلْزِمُ الْمُؤَجِّرَ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ ، وَرُبَّمَا تَرْبُو عَلَى الْأُجْرَةِ .
وَأَمَّا فِي الصُّلْحِ فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَالْمُدَّعِي بِالْإِخْرَاجِ إلَى السَّفَرِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ وَلَهُ ذَلِكَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَقْدِرَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْعَبْدِ إذَا الْتَزَمَ مُؤْنَةَ الرَّدِّ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ الْمُؤَجِّرُ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُ إنْ سَافَرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِالْعَبْدِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ يَتَرَتَّبُ الضَّرَرُ عَلَى
الْمُؤَجِّرِ بِإِلْزَامِهِ إيَّاهُ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ الضَّرَرَ يَنْدَفِعُ بِالْتِزَامِ الْمُسْتَأْجِرِ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ عِبَارَاتِ الْكُتُبِ عَدَمُ جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ بِهِ مُطْلَقًا مَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ .
وَطَعَنَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَهَذَا كَمَا تَرَى انْقِطَاعٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّلَ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَضُمَّ إلَى عِلَّتِهِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ قَيْدًا ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ وَيَلْزَمُهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ كَالْمَوْلَى فَإِنَّ الْمَوْلَى لَهُ الْمَنْفَعَةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ زَمَانًا ، وَمَكَانًا وَنَوْعًا ، وَلَيْسَ الْمُسْتَأْجِرُ كَذَلِكَ بَلْ يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ ضَرُورِيٍّ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ الْمَوْلَى وَالْعُرْفُ يُوجِبُهُ ، أَوْ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُؤْنَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يُوجِبُهُ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيمَا اسْتَصْوَبَهُ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِضُ بِمَسْأَلَةِ الصُّلْحِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَالِحَ أَيْضًا لَا يَمْلِكُ مَنَافِعَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَالْمَوْلَى ، بَلْ هُوَ أَيْضًا إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِعَقْدٍ ضَرُورِيٍّ هُوَ عَقْدُ الصُّلْحِ مَعَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِالْعَبْدِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ ( قَوْلُهُ : وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْخِدْمَتَيْنِ ظَاهِرٌ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ لَا يَبْقَى غَيْرُهُ دَاخِلًا كَمَا فِي الرُّكُوبِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ غَيْرُ وَاضِحٍ ظَاهِرًا انْتَهَى .
أَقُولُ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَدَارَ الْأَوَّلِ عَلَى أَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ مِمَّا لَا يَدْخُلُ فِي إطْلَاقِ الْعَقْدِ رَأْسًا بِنَاءً عَلَى انْصِرَافِ مُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَى الْمُتَعَارَفِ الَّذِي هُوَ الْخِدْمَةُ فِي الْحَضَرِ ، وَمَدَارُ
الثَّانِي عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ خِدْمَتَيْ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَإِنْ كَانَتَا دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ الْخِدْمَةَ فِي الْحَضَرِ تَعَيَّنَتْ بِقَرِينَةٍ حَالَ حَضَرَ الْعَاقِدُ ، وَمَكَانَ الْعَقْدِ ، فَبَعْدَ تَعَيُّنِهَا لَا يَبْقَى الْمَحَالُ لِلْأُخْرَى كَمَا فِي الرُّكُوبِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَطْلَقَ الرُّكُوبَ ثُمَّ رَكِبَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ يَتَعَيَّنُ هُوَ فَبَعُدَ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَنْ رَكِبَهُ أَوَّلًا لِتَعَيُّنِهِ لِلرُّكُوبِ فَكَذَا هَاهُنَا ، وَيُرْشِدُ إلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْكِتَابِ عِبَارَةُ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى التَّعَارُفِ ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ صَاحِبِ الْعَبْدِ أَنَّهُ يُرِيدُ الِاسْتِخْدَامَ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ حَتَّى لَا تَلْزَمَهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ ، وَرُبَّمَا يَرْبُو ذَلِكَ عَلَى الْآجِرِ فَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ مَكَانًا لِلِاسْتِيفَاءِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ انْتَهَى .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ ) وَأَصْلُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ صَحِيحَةٌ اسْتِحْسَانًا إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِانْعِدَامِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقِيَامِ الْحَجْرِ فَصَارَ كَمَا إذَا هَلَكَ الْعَبْدُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ التَّصَرُّفَ نَافِعٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ سَالِمًا ضَارٌّ عَلَى اعْتِبَارِ هَلَاكِ الْعَبْدِ ، وَالنَّافِعُ مَأْذُونٌ فِيهِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ ، وَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ .
( قَوْلُهُ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْأَجْرَ ) قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ : وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا فَعَمِلَ فَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ فَعَمِلَ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ وَضْعَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ شَهْرًا كَمَا تَرَى فَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ الْمُدَّةَ ، وَهِيَ الشَّهْرُ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ ، وَعَرَفْت فِيمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْأَجِيرَ يَصِيرُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ أَجِيرًا خَاصًّا ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ ضَمَانِ الْأَجِيرِ أَنَّ الْأَجِيرَ الْخَاصَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ فِي الْمُدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ شَهْرًا لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِرَعْيِ الْغَنَمِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَّةِ .
نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ مِنْ الْأَجْرِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْقَيْدَ صَرَاحَةً فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ اعْتِمَادًا عَلَى ظُهُورِ كَوْنِهِ مُرَادًا .
فَإِنْ قُلْت : مَنْ زَادَ قَيْدَ فَعَمِلَ أَرَادَ بِالْعَمَلِ تَسْلِيمَ النَّفْسِ .
قُلْت : لَا يُرَى لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ ، إذْ لَا اتِّحَادَ بَيْنَهُمَا وَلَا اسْتِلْزَامَ ، فَإِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ بِدُونِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ مُطْلَقًا ، وَتَسْلِيمُ النَّفْسِ يُوجَدُ بِدُونِ الْعَمَلِ فِي الْأَجِيرِ الْخَاصِّ الَّذِي سَلَّمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْعَمَلِ ، وَإِرَادَةِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ ؟ .
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ تَرْكَهُ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهِ كَمَا صَنَعَ الْمُصَنِّفُ
( وَمَنْ غَصَبَ عَبْدًا فَآجَرَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَجْرَ فَأَكَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : هُوَ ضَامِنٌ ) ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ مَالَ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، إذْ الْإِجَارَةُ قَدْ صَحَّتْ عَلَى مَا مَرَّ .
وَلَهُ أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِتْلَافِ مَالٍ مُحْرَزٍ ؛ لِأَنَّ التَّقَوُّمَ بِهِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُحْرَزٍ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ عَنْهُ فَكَيْفَ يُحْرِزُ مَا فِي يَدِهِ .
( وَإِنْ وَجَدَ الْمَوْلَى الْأَجْرَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ ( وَيَجُوزُ قَبْضُ الْعَبْدِ الْأَجْرَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ عَلَى اعْتِبَارِ الْفَرَاغِ عَلَى مَا مَرَّ .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ ) ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ فَيَنْصَرِفُ الثَّانِي إلَى مَا يَلِي الْأَوَّلَ ضَرُورَةً .
( قَوْلُهُ : لِأَنَّ الشَّهْرَ الْمَذْكُورَ أَوَّلًا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ تَحَرَّيَا لِلْجَوَازِ أَوْ نَظَرًا إلَى تَنَجُّزِ الْحَاجَةِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : هَذَا التَّعْلِيلُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا نُكِّرَ الشَّهْرُ ، وَهُنَا عُرِّفَ بِقَوْلِهِ هَذَيْنِ .
قُلْت : رَأَيْت فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ وَغَيْرِهِمَا عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِقَوْلِهِ هَذَيْنِ ، بَلْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ هَذَيْنِ عَلَى مَا إذَا قَالَ الْمُؤَجِّرُ آجَرْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَيَنْصَرِفُ قَوْلُهُ : هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ إلَى الشَّهْرَيْنِ الْمُنَكَّرَيْنِ اللَّذَيْنِ دَخَلَا تَحْتَ إيجَابِ الْمُؤَجِّرِ فَيَنْفِي التَّنْكِيرَ فَصَلُحَ التَّعْلِيلُ بِتَنَجُّزِ الْحَاجَةِ لِإِثْبَاتِ التَّعْيِينِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي نَسْجِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ ، وَلَكِنْ بِنَوْعِ تَغْيِيرِ تَحْرِيرٍ فِي أَوَائِلِ الْمَقَالِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قِيلَ مَبْنَى هَذَا الْكَلَامِ عَلَى أَنَّهُ ذُكِرَ مُنَكَّرًا مَجْهُولًا وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَاللَّامُ فِيهِ لِلْعَهْدِ لِمَا كَانَ فِي كَلَامِ الْمُؤَجِّرِ مِنْ الْمُنَكَّرِ ، فَكَأَنَّ الْمُؤَجِّرَ قَالَ : آجَرْتُ عَبْدِي هَذَا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ ، فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْتُهُ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا الشُّبْهَةُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الشُّبْهَةُ فَلِأَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَزْبُورَ يَسْتَقِيمُ ، وَيَتِمُّ بِتَنْكِيرِ شَهْرٍ فِي شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَنْكِيرِ شَهْرَيْنِ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ
تَعْرِيفِ الشَّهْرَيْنِ يَصِيرُ الْمُتَعَيَّنُ مَجْمُوعَ الشَّهْرَيْنِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ وَالثَّانِي بِخَمْسَةٍ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ بِنَاءً عَلَى تَنْكِيرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِبْهَامِهِ ، فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى كَوْنِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا بِأَرْبَعَةٍ ، وَالثَّانِي بِخَمْسَةٍ دُونَ الْعَكْسِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ أَصْلًا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ لَمَا صَحَّ تَنْكِيرُ عَبْدًا فِي قَوْلِهِ ، وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ ، بَلْ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّعْرِيفِ مِنْ الشَّهْرَيْنِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ هُوَ الْعَبْدُ الَّذِي آجَرَهُ الْمُؤَجِّرُ مِنْهُ .
عَلَى أَنَّ كَوْنَ اللَّامِ فِي قَوْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْعَهْدِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا كَانَ كَلَامُ الْمُؤَجِّرِ مُقَدَّمًا عَلَى كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ فَإِنَّ أَيًّا مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَكَلَّمَ أَوَّلًا يَصِيرُ كَلَامُهُ إيجَابًا ، فَإِذَا قِيلَ الْآخَرُ أُلْزِمَ الْعَقْدَ ، فَحَمْلُ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا يَقْتَضِي تَعْرِيفَ الشَّهْرَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِبَعْضِ الصُّوَرِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا عَرَّفَ الشَّهْرَيْنِ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفًا لِمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ مِنْ تَنْكِيرِ ذَلِكَ إشْعَارًا بِأَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَعْرِيفِ لَفْظِ الشَّهْرَيْنِ ، بَلْ تَنْكِيرُ ذَلِكَ وَتَعْرِيفُهُ سِيَّانِ عِنْدَ تَنْكِيرِ شَهْرًا فِي شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي رَدِّ الشُّبْهَةِ آنِفًا .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْمُسْتَأْجِرُ لَفْظَ
الشَّهْرَيْنِ بِالتَّنْكِيرِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مُعَرَّفًا نَظَرًا إلَى تَعَيُّنِهِ الْمَآلِيّ حَيْثُ يَتَصَرَّفُ إلَى مَا يَلِي الْعَقْدَ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ : هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ هُوَ لَفْظُ الْمُصَنِّفِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ أَيْضًا ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ شَهْرًا بِأَرْبَعَةٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَأَنَّهُ تَفْصِيلٌ لِلشَّهْرَيْنِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ : هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ مِنْ كَلَامِ الْمُسْتَأْجِرِ بَلْ كَانَ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُجْمَلُ لَفْظَ الْمُصَنِّفِ وَالْمُفَصَّلُ لَفْظَ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْتَضِيهِ الْعَاقِلُ .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِصُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ عَبْدًا بَلْ هُوَ مُتَمَشٍّ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ حُرًّا أَيْضًا لِعَيْنِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، فَوَجْهُ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي بَابِ إجَارَةِ الْعَبْدِ غَيْرُ وَاضِحٍ ، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ مَا لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَإِلَّا فَكَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَبْوَابِ السَّابِقَةِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ كَوْنَ الْأَجِيرِ عَبْدًا أَكْثَرُ مِنْ كَوْنِهِ حُرًّا ، فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَ الْأَجِيرِ حُرًّا أَكْثَرُ لِاسْتِقْلَالِهِ وَكَثْرَةُ احْتِيَاجِهِ إلَى الْأُجْرَةِ لِإِنْفَاقِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ بِنَاءُ الْأَمْرِ عَلَى ذَلِكَ لَذَكَرَ سَائِرَ مَسَائِلِ الْأَجِيرِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ جَاءَ آخِرُ الشَّهْرِ ، وَهُوَ آبِقٌ أَوْ مَرِيضٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَبَقَ أَوْ مَرِضَ حِينَ أَخَذْته وَقَالَ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِسَاعَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَجِّرِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي أَمْرٍ مُحْتَمَلٍ فَيَتَرَجَّحُ بِحُكْمِ الْحَالِ ، إذْ هُوَ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِهِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا إنْ لَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً فِي نَفْسِهِ .
أَصْلُهُ الِاخْتِلَافُ فِي جَرَيَانِ مَاءِ الطَّاحُونَةِ وَانْقِطَاعِهِ .
بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْخَيَّاطُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُك أَنْ تَعْمَلَهُ قَبَاءً وَقَالَ الْخَيَّاطُ بَلْ قَمِيصًا أَوْ قَالَ : صَاحِبُ الثَّوْبِ لِلصَّبَّاغِ أَمَرْتُك أَنْ تَصْبُغَهُ أَحْمَرَ فَصَبَغْته أَصْفَرَ وَقَالَ الصَّبَّاغُ لَا بَلْ أَمَرْتنِي أَصْفَرَ فَالْقَوْلُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَا إذَا أَنْكَرَ صِفَتَهُ ، لَكِنْ يَحْلِفُ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ شَيْئًا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ .
قَالَ : ( وَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ ) وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ ، وَكَذَا يُخَيَّرُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ إذَا حَلَفَ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوَزُ بِهِ الْمُسَمَّى .
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : يُضَمِّنُهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ .
( بَابُ الِاخْتِلَافِ فِي الْإِجَارَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ اتِّفَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَحْكَامَ اخْتِلَافِهَا ، وَهُوَ الْفَرْعُ ، إذْ الِاخْتِلَافُ إنَّمَا يَكُونُ بِعَارِضٍ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا حَلَفَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ ، وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ) يَعْنِي بِهِ مَا مَرَّ قَبْلَ بَابِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ فِي مَسْأَلَةِ : وَمَنْ دَفَعَ إلَى الْخَيَّاطِ ثَوْبًا لِيَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَانَا هُنَاكَ مُتَّفِقَيْنِ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ خِيَاطَةُ الْقَمِيصِ وَالْأَجِيرُ خَالَفَ فَخَاطَ قَبَاءً ، وَهَاهُنَا قَدْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَيْفَ يَتَّحِدُ الْجَوَابُ ؟ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ اخْتَلَفَتْ صُورَتَا الْمَسْأَلَتَيْنِ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ اتَّحَدَتَا انْتِهَاءً ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ هُنَا بَعْدَ حَلِفِ صَاحِبِ الثَّوْبِ ، وَلَمَّا حَلَفَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَلَمْ يَبْقَ لِخِلَافِ الْآخَرِ اعْتِبَارٌ فَكَانَتَا فِي الْحُكْمِ فِي الِانْتِهَاءِ سَوَاءً ، هَذَا خُلَاصَةُ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ : وَلَك أَنْ تَقُولَ إذَا كَانَ الْحُكْمُ ذَلِكَ إذَا اتَّفَقَا فَبِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى إذَا اخْتَلَفَا مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ غَيْرُ الْقِيَاسِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُمَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَانَ التَّعَدِّي مُقَرَّرًا عِنْدَهُمَا فَيَجِبُ الضَّمَانُ قَطْعًا .
وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمُخَالَفَةِ فَلَا تَعَدِّيَ عَلَى زَعْمِ الْأَجِيرِ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ نَوْعُ خَفَاءٍ .
فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إذَا كَانَ الْحُكْمُ ذَلِكَ : أَيْ الضَّمَانُ إذَا اتَّفَقَا فَبِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى إذَا اخْتَلَفَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَوْرِدَ الِاعْتِرَاضِ هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ،
وَمَعْنَاهُ مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ .
وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ هُوَ الِاتِّحَادُ فِي الْحُكْمِ لَا التَّشْبِيهُ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ مَعَ أَنَّ التَّشْبِيهَ غَيْرُ الْقِيَاسِ فَهَلَّا هُوَ لَغْوٌ هُنَا .
( وَإِنْ قَالَ : صَاحِبُ الثَّوْبِ عَمِلْته لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ الصَّانِعُ بِأَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ تَقَوُّمَ عَمَلِهِ إذْ هُوَ يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَيُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالصَّانِعُ يَدِّعِيهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنْ كَانَ الرَّجُلُ حِرِّيفًا لَهُ ) أَيْ خَلِيطًا لَهُ ( فَلَهُ الْأَجْرُ وَإِلَّا فَلَا ) ؛ لِأَنَّ سَبْقَ مَا بَيْنَهُمَا يُعَيِّنُ جِهَةَ الطَّلَبِ بِأَجْرٍ جَرْيًا عَلَى مُعْتَادِهِمَا ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ الصَّانِعُ مَعْرُوفًا بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ بِالْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَتَحَ الْحَانُوتَ لِأَجْلِهِ جَرَى ذَلِكَ مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى الْأَجْرِ اعْتِبَارًا لِلظَّاهِرِ ، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ .
وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِحْسَانِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ لِلدَّفْعِ ، وَالْحَاجَةُ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ : وَالْجَوَابُ عَنْ اسْتِحْسَانِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ لِلدَّفْعِ وَالْحَاجَةِ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ ) يَعْنِي أَنَّ الْحَاجَةَ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا إلَى الدَّفْعِ ، وَالظَّاهِرُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فَرَّقَ بَيْنَ الظَّاهِرُ وَالِاسْتِصْحَابِ ، فَالْأَوَّلُ يَصْلُحُ لِلِاسْتِحْقَاقِ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ هَاهُنَا ظَاهِرُ الْحَالِ ، وَكَوْنُ مِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ مَمْنُوعٌ .
وَأَمَّا أَخْبَارُ الْآحَادِ فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهَا مِنْ الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ الظَّنِّيَّةِ تُوجِبُ الْعَمَلَ دُونَ الْعَمَلِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ فَسْخِ الْإِجَارَةِ قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَهُ الْفَسْخُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنَافِعُ ، وَأَنَّهَا تُوجَدُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَ هَذَا عَيْبًا حَادِثًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ فَعَلَ الْمُؤَجِّرُ مَا أَزَالَ بِهِ الْعَيْبَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِزَوَالِ سَبَبِهِ .
( بَابُ فَسْخِ الْإِجَارَةِ )
قَالَ : ( وَإِذَا خَرِبَتْ الدَّارُ أَوْ انْقَطَعَ شُرْبُ الضَّيْعَةِ أَوْ انْقَطَعَ الْمَاءُ عَنْ الرَّحَى انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ ، وَهِيَ الْمَنَافِعُ الْمَخْصُوصَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَشَابَهُ فَوْتُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَوْتِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ قَدْ فَاتَتْ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ عَوْدُهَا فَأَشْبَهَ الْإِبَاقَ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْآجِرَ لَوْ بَنَاهَا لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ وَلَا لِلْآجِرِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفَسِخْ لَكِنَّهُ يُفْسَخُ .
( وَلَوْ انْقَطَعَ مَاءُ الرَّحَى ، وَالْبَيْتُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ .
لِغَيْرِ الطَّحْنِ فَعَلَيْهِ عَنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
قَالَ : ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَوْ الْأُجْرَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ( وَإِنْ عَقَدَهَا لِغَيْرِهِ لَمْ تَنْفَسِخْ ) مِثْلُ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُتَوَلِّي فِي الْوَقْفِ لِانْعِدَامِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى .
ذَكَرَ بَابَ الْفَسْخِ آخِرًا ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ فَنَاسَبَ ذِكْرُهُ آخِرًا ( قَوْلُهُ : وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَقَدْ عَقَدَ الْإِجَارَةَ لِنَفْسِهِ انْفَسَخَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ تَصِيرُ الْمَنْفَعَةُ الْمَمْلُوكَةُ بِهِ أَوْ الْأُجْرَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَقِلُ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ الْمُوَرِّثِ إلَى الْوَارِثِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْأُجْرَةِ الْمَمْلُوكَةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَنْعَقِدُ سَاعَةً فَسَاعَةً عَلَى الْمَنَافِعِ ، فَلَوْ قُلْنَا بِالِانْتِقَالِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِانْتِقَالِ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْمُوَرِّثُ إلَى الْوَارِثِ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْأَجْرِ مَتَى يُسْتَحَقُّ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ، أَوْ بِالتَّعْجِيلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، أَوْ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
فَلَوْ قُلْنَا بِالِانْتِقَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ الْأَوَّلِيَّيْنِ فِيمَا إذَا مَاتَ الْمُؤَجِّرُ لَمْ يَلْزَمْ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْمُوَرِّثُ إلَى الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ قَدْ كَانَ مَلَكَ الْأُجْرَةَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِتَعْجِيلِ الْأُجْرَةِ أَوْ بِشَرْطِ تَعْجِيلِهَا ، فَالتَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَإِنْ تَمَّ فِي حَقِّ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَتِمَّ فِي حَقِّ الْأُجْرَةِ .
وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَفْصِلَ فَيُسْتَدَلَّ عَلَى انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُؤَجِّرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ سِيَّمَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ فِيهَا : وَلَنَا طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا فِي مَوْتِ الْمُؤَجِّرِ فَنَقُولُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْمُؤَجِّرِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ
بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَقَبَةَ الدَّارِ تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَتَحَدَّدُ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْعَقْدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ .
وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ فِي مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَبْقَى عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ وَالْمَنْفَعَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُوَرَّثُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَبْقَى وَقْتَيْنِ لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، وَيَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي ، وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى لِتُوَرَّث ، وَاَلَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا فَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
قَالَ : ( وَيَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْإِجَارَةِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ لِفَوَاتِ بَعْضِهِ ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِيَارَ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَامَلَةٍ لَا يُسْتَحَقُّ الْقَبْضُ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ فَجَازَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَفَوَاتُ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ ، فَكَذَا بِخِيَارِ الشَّرْطِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْكُلِّ مُمْكِنٌ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ دُونَهَا وَلِهَذَا يُجْبَرُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْقَبْضِ إذَا سَلَّمَ الْمُؤَجَّرَ بَعْدَ مُضِيِّ بَعْضِ الْمُدَّةِ .
( قَوْلُهُ : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ لِفَوَاتِ بَعْضِهِ ، وَلَوْ كَانَ لِلْمُؤَجِّرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ وَكُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُ الْخِيَارَ ) أَقُولُ : فِي هَذَا الدَّلِيلِ لِلشَّافِعِيِّ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى نَوْعَيْنِ : نَوْعٌ يَرِدُ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى الْعَمَلِ كَاسْتِئْجَارِ رَجُلٍ عَلَى صَبْغِ ثَوْبٍ أَوْ خِيَاطَتِهِ ، وَنَوْعٌ يَرِدُ الْعَقْدُ فِيهِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَاسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى وَأَرْضٍ لِلزِّرَاعَةِ ، وَالدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ لَا يَتَمَشَّى فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ إمْكَانِ رَدِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ ، وَعَدَمَ إمْكَانُ تَسْلِيمِهِ أَيْضًا عَلَى الْكَمَالِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ أَنْ يَتْلَفَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ ، وَفِي الْعَقْدِ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَتْلَفُ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَمَلِ قَطْعًا ، وَكَذَا لَا يَتَمَشَّى فِي بَعْضٍ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي ، وَهُوَ مَا لَا يَتَعَيَّنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ بَلْ يَتَعَيَّنُ بِالتَّسْمِيَةِ ، كَاسْتِئْجَارِ دَابَّةٍ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا أَوْ يَرْكَبَهَا مَسَافَةً سَمَّاهَا ، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَيَّنُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِيهِ بِالْمُدَّةِ مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي كَاسْتِئْجَارِ دَارٍ لِلسُّكْنَى فَكَانَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ مَا ادَّعَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ مُطْلَقًا فَلْيُتَأَمَّلْ .
قَالَ : ( وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ بِالْأَعْذَارِ ) عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تُفْسَخُ إلَّا بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ حَتَّى يَجُوزَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ ، إذْ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْعُذْرِ عِنْدَنَا ( وَهُوَ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَدَّادًا لِيَقْلَعَ ضِرْسَهُ لِوَجَعٍ بِهِ فَسَكَنَ الْوَجَعُ أَوْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا لِيَطْبُخَ لَهُ طَعَامَ الْوَلِيمَةِ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْمُضِيِّ عَلَيْهِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ ( وَكَذَا مَنْ اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا فِي السُّوقِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ فَذَهَبَ مَالُهُ ، وَكَذَا مَنْ أَجَّرَ دُكَّانًا أَوْ دَارًا ثُمَّ أَفْلَسَ ، وَلَزِمَتْهُ دُيُونٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا إلَّا بِثَمَنِ مَا أَجَّرَ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ وَبَاعَهَا فِي الدُّيُونِ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ إلْزَامَ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ وَهُوَ الْحَبْسُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُصَدَّقُ عَلَى عَدَمِ مَالٍ آخَرَ .
ثُمَّ قَوْلُهُ فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فِي النَّقْضِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ فِي عُذْرِ الدَّيْنِ ، وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ عُذْرٌ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ فِيهِ تُنْتَقَضُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي .
وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْمَبِيعِ عَلَى مَا مَرَّ فَيَنْفَرِدُ الْعَاقِدُ بِالْفَسْخِ .
وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إلْزَامِ الْقَاضِي ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ : إذَا كَانَ الْعُذْرُ
ظَاهِرًا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ظَاهِرٍ كَالدَّيْنِ يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ لِظُهُورِ الْعُذْرِ ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيُسَافِرَ عَلَيْهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ مِنْ السَّفَرِ فَهُوَ عُذْرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَضَى عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ يَلْزَمُهُ ضَرَرٌ زَائِدٌ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَذْهَبُ لِلْحَجِّ فَذَهَبَ وَقْتُهُ أَوْ لِطَلَبِ غَرِيمِهِ فَحَضَرَ أَوْ لِلتِّجَارَةِ فَافْتَقَرَ ( وَإِنْ بَدَا لِلْمُكَارِي فَلَيْسَ ذَلِكَ بِعُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْقِدَ وَيَبْعَثَ الدَّوَابَّ عَلَى يَدِ تِلْمِيذِهِ أَوْ أَجِيرِهِ ( وَلَوْ مَرِضَ الْمُؤَاجِرُ فَقَعَدَ فَكَذَا الْجَوَابُ ) عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ .
وَرَوَى الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ ضَرَرٍ فَيَدْفَعُ عَنْهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ دُونَ الِاخْتِيَارِ ( وَمَنْ آجَرَ عَبْدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى مُوجِبِ عَقْدٍ ، وَإِنَّمَا يَفُوتُهُ الِاسْتِرْبَاحُ وَأَنَّهُ أَمْرٌ زَائِدٌ ( وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطُ غُلَامًا فَأَفْلَسَ وَتَرَكَ الْعَمَلَ فَهُوَ الْعُذْرُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ الضَّرَرُ بِالْمُضِيِّ عَلَى مُوجِبِ الْعَقْدِ لِفَوَاتِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ رَأْسُ مَالِهِ ، وَتَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ خَيَّاطٌ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ ، أَمَّا الَّذِي يَخِيطُ بِأَجْرٍ فَرَأْسُ مَالِهِ الْخَيْطُ وَالْمَخِيطُ وَالْمِقْرَاضُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِفْلَاسُ فِيهِ .
( وَإِنْ أَرَادَ تَرْكَ الْخِيَاطَةِ ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي الصَّرْفِ فَلَيْسَ بِعُذْرٍ ) ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُقْعِدَ الْغُلَامَ لِلْخِيَاطَةِ فِي نَاحِيَةٍ ، وَهُوَ يَعْمَلُ فِي الصَّرْفِ فِي نَاحِيَةٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دُكَّانًا لِلْخِيَاطَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَتْرُكَهَا وَيَشْتَغِلَ بِعَمَلٍ آخَرَ حَيْثُ جَعَلَهُ عُذْرًا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعَمَلَيْنِ ، أَمَّا هَاهُنَا الْعَامِلُ شَخْصَانِ فَأَمْكَنَهُمَا ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ غُلَامًا يَخْدُمُهُ فِي الْمِصْرِ ثُمَّ سَافَرَ فَهُوَ
عُذْرٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ إلْزَامِ ضَرَرٍ زَائِدٍ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ ، وَفِي الْمَنْعُ مِنْ السَّفَرِ ضَرَرٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا ( وَكَذَا إذَا أَطْلَقَ ) لِمَا مَرَّ أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْحَضَرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا آجَرَ عَقَارًا ثُمَّ سَافَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ إذْ الْمُسْتَأْجِرُ يُمْكِنُهُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بَعْدَ غَيْبَتِهِ ، حَتَّى لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ السَّفَرَ فَهُوَ عُذْرٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ أَوْ إلْزَامِ الْأَجْرِ بِدُونِ السُّكْنَى وَذَلِكَ ضَرَرٌ .
( قَوْلُهُ : وَلَنَا أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ ، وَهِيَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا ، فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتُفْسَخُ بِهِ إلَخْ ) قَالَ ابْنُ الْعِزِّ : الْقَوْلُ بِفَسْخِ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ ، وَمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قَوْلِ صَحَابِيٍّ بَلْ بِمُجَرَّدِ الِاعْتِبَارِ بِالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ فِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ ، وَلَا زَالَتْ الْأَعْذَارُ تَحْدُثُ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ ، وَقَدْ يَمُوتُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ الْفَسْخُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ تَقْبَلُ الْفَسْخَ بِذَلِكَ لَنُقِلَ لِتَوَفُّرِ الْهِمَمِ عَلَى نَقْلِ مِثْلِهِ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْهُمْ مَا هُوَ دُونَ ذَلِكَ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْفَسْخِ لِلْعُذْرِ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ اعْتَبَرُوا الْعُذْرَ الْكَامِلَ فِيمَا لَوْ اكْتَرَى مَنْ يَقْلَعُ ضِرْسَهُ فَبَرِئَ وَانْقَلَعَ قَبْلَ قَلْعِهِ أَوْ اكْتَرَى كَحَّالًا لِيُكَحِّلَ عَيْنَهُ فَبَرِئَتْ أَوْ ذَهَبَتْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَا هُوَ دُونَهُ .
إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ فِي حَقِّ فَسْخِ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ أَنْ لَا يَصِحَّ الْقَوْلُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَحَدُ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَيَكْفِي تَحَقُّقُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَصَارَ الْعُذْرُ فِي الْإِجَارَةِ كَالْعَيْبِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الْبَيْعِ فَتُفْسَخُ بِهِ .
وَبَيَّنَ الْجَامِعَ بِقَوْلِهِ : إذْ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا ، وَهُوَ عَجْزُ الْعَاقِدِ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِهِ إلَّا بِتَحَمُّلِ ضَرَرٍ زَائِدٍ لَمْ يُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِالْقِيَاسِ لِوُرُودِ نَصٍّ يَدُلُّ عَلَى
خِلَافِ ذَلِكَ ، أَوْ انْعِقَادِ إجْمَاعٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْهُمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، وَكَوْنُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ عَقْدًا لَازِمًا وَكَثْرَةُ حُدُوثِ الْأَعْذَارِ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ مِمَّا لَا يَقْدَحُ أَصْلًا فِي الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِي حُكْمِ فَسْخِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالْأَعْذَارِ ، وَكَذَا مُجَرَّدُ أَنْ لَا يُنْقَلَ الْفَسْخُ بِذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ عِنْدَ تَحَقُّقِ شَرَائِطِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ جُمْلَةَ مَا تَشَبَّثَ بِهِ فِي تَرْوِيجِ نَظَرِهِ هُنَا أَضْعَفُ مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ ، ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ كُلَّهُ مَنْقُوضٌ بِمَا اعْتَرَفَ بِهِ مِنْ أَنَّ الْعُذْرَ الْكَامِلَ مُعْتَبَرٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ الْعُذْرِ أَيْضًا نَصٌّ وَلَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ الصَّحَابَةِ فِيهِ شَيْءٌ ، فَالْمَدَارُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا هُوَ الْقِيَاسُ .
مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا أَوْ اسْتَعَارَهَا فَأَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فَاحْتَرَقَ شَيْءٌ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ فَأَشْبَهَ حَافِرَ الْبِئْرِ فِي دَارِ نَفْسِهِ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ هَادِئَةً ثُمَّ تَغَيَّرَتْ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ مُضْطَرِبَةً يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ مُوقِدَ النَّارِ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ فِي أَرْضِهِ .
( مَسَائِلُ مَنْثُورَةٌ ) .
قَالَ : ( وَإِذَا أَقْعَدَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَتَنْتَظِمُ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ فِيمَا يَحْصُلُ .
أَيْ مَسَائِلُ نُثِرَتْ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَذُكِرَتْ هُنَا تَلَافِيًا لِمَا فَاتَ ( قَوْلُهُ : وَإِذَا أَقْعَدَ الْخَيَّاطُ أَوْ الصَّبَّاغُ فِي حَانُوتِهِ مَنْ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ ) صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ : إذَا كَانَ لِلْخَيَّاطِ أَوْ الصَّبَّاغِ دُكَّانٌ مَعْرُوفٌ ، وَهُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ النَّاسِ وَلَهُ وَجَاهَةٌ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ حَاذِقٍ فَيُقْعِدُ فِي دُكَّانِهِ رَجُلًا حَاذِقًا ؛ لِيَتَقَبَّلَ الْعَمَلَ مِنْ النَّاسِ وَيَعْمَلَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى أَنَّ مَا أَصَابَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَهَذَا فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ صَاحِبِ الدُّكَّانِ الْمَنْفَعَةُ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِلْعَمَلِ إنْ كَانَ صَاحِبَ الدُّكَّانِ فَالْعَامِلُ أَجِيرُهُ بِالنِّصْفِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ نِصْفَ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ كَانَتْ مَجْهُولَةً لَا مَحَالَةَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَبِّلُ هُوَ الْعَامِلَ فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ مِنْ دُكَّانِهِ بِنِصْفِ مَا يَعْمَلُ وَذَلِكَ أَيْضًا مَجْهُولٌ .
وَالطَّحَاوِيُّ أَخَذَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ : الْقِيَاسُ عِنْدِي أَوْلَى مِنْ الِاسْتِحْسَانِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَجُوزُ هَذَا ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ فِي الْعَمَلِ بِأَبْدَانِهَا سَوَاءٌ ، فَيَصِيرُ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا التَّقَبُّلَ ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ الْعَمَلَ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجِبُ بِهِ الْأَجْرُ فَجَازَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِإِجَارَةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ ، وَهِيَ شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا ، وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ ، وَهُوَ مُتَعَارَفٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِجَوَازِهَا لِلتَّعَامُلِ بِهَا ا هـ كَلَامُهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَأَحَدُهُمَا
يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : بَحْثٌ ، فَإِنَّ تَعَيُّنَ أَحَدِهِمَا لِتَوَلِّي الْقَبُولِ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ ، وَلَعَلَّ مُرَادَهُ كَوْنُهُ مِنْ مُتَنَاوَلَاتِهَا فَفِي الْعِبَارَةِ مُسَامَحَةٌ .
ا هـ .
أَقُولُ : مَنْشَأُ تَوَهُّمِهِ جَعْلُ الْوَاوِ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ لِلْعَطْفِ وَحَمْلُ الْمَعْنَى عَلَى بَيَانِ تَعَيُّنِ أَحَدِهِمَا لِتَوَلِّي الْقَبُولِ فِي شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِمُرَادٍ ، بَلْ الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ شَرِكَةَ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا حَالَ كَوْنِ أَحَدِهِمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ كَوْنُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا حَالَ أَنْ يَتَوَلَّيَا الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ مَعًا فَيَصِيرُ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي ؛ لِأَنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ لِجَاهِهِ ، وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ .
ا هـ .
فَلَا مَحْذُورَ فِي عِبَارَةِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَلَا مُسَامَحَةَ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِمُنْفَرِدٍ فِي التَّعْبِيرِ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ ، بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا وَأَحَدُهُمَا يَتَوَلَّى الْقَبُولَ مِنْ النَّاسِ لِجَاهِهِ ، وَالْآخَرُ يَتَوَلَّى الْعَمَلَ لِحَذَاقَتِهِ ، وَهُوَ مُتَعَارَفٌ ، وَوَجَبَ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ انْتَهَى ( قَوْلُهُ : لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ ، وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَتَنْتَظِمُ بِذَلِكَ الْمَصْلَحَةُ فَلَا تَضُرُّهُ الْجَهَالَةُ فِيمَا يَحْصُلُ ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ : هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ
، وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ ، فِيهِ نَوْعُ إشْكَالٍ ، فَإِنَّ تَفْسِيرَ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ أَنْ يَشْتَرِكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا بِوُجُوهِهِمَا وَيَبِيعَا وَلَيْسَ فِي هَذِهِ بَيْعٌ وَلَا شِرَاءٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ .
وَإِنَّمَا هِيَ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِشَرِكَةِ الْوُجُوهِ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي الْحَقِيقَةِ مَا هُوَ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ الْمَارُّ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ بَلْ مُرَادُهُ بِهَا هَاهُنَا مَا وَقَعَ فِيهِ تَقَبُّلُ الْعَمَلِ بِالْوَجَاهَةِ يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ : فَهَذَا بِوَجَاهَتِهِ يَقْبَلُ ، وَهَذَا بِحَذَاقَتِهِ يَعْمَلُ فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ كَوْنُهَا شَرِكَةَ الصَّنَائِعِ وَالتَّقَبُّلِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ .
وَقَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ : فَفِي الْهِدَايَةِ حَمَلَهُ عَلَى شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرِكَةُ الصَّنَائِعِ وَالتَّقَبُّلِ ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْهِدَايَةِ أَطْلَقَ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَقْبَلُ الْعَمَلَ بِوَجَاهَتِهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ : وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَقِيقَةِ نَوْعَ نَبْوَةٍ عَنْ هَذَا انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ كَوْنِهَا شَرِكَةً أُخْرَى بَلْ هُوَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ كَوْنِهَا إجَارَةً ، وَأَنَّ مُرَادَهُ بِالْحَقِيقَةِ مَا يُقَابِلُ الظَّاهِرَ وَالصُّورَةَ لَا مَا يُقَابِلُ الْمَجَازَ ، فَالْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْمُعَاقَدَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِحَسَبِ الصُّورَةِ وَظَاهِرِ الْحَالِ عَقْدُ إجَارَةٍ بِالنِّصْفِ إلَّا أَنَّهَا بِحَسَبِ حَقِيقَةِ الْحَالِ عَقْدُ شَرِكَةِ الْوُجُوهِ : أَيْ عَقْدُ شَرِكَةِ التَّقَبُّلِ بِالْوَجَاهَةِ فَلَا نَبْوَةَ عَنْ هَذَا فِي شَيْءٍ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
قَالَ : ( وَمَنْ اسْتَأْجَرَ جَمَلًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مَحْمَلًا وَرَاكِبَيْنِ إلَى مَكَّةَ جَازَ وَلَهُ الْمَحْمَلُ الْمُعْتَادُ ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ لِلْجَهَالَةِ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الرَّاكِبُ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْمَحْمَلُ تَابِعٌ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ يَرْتَفِعُ بِالصَّرْفِ إلَى التَّعَارُفِ فَلَا يُفْضِي ذَلِكَ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَكَذَا إذَا لَمْ يَرَ الْوَطَاءَ وَالدُّثُرَ .
قَالَ : ( وَإِنْ شَاهَدَ الْجَمَّالُ الْحِمْلَ فَهُوَ أَجْوَدُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ وَأَقْرَبُ إلَى تَحَقُّقِ الرِّضَا .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَعِيرًا لِيَحْمِلَ عَلَيْهِ مِقْدَارًا مِنْ الزَّادِ فَأَكَلَ مِنْهُ فِي الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عِوَضَ مَا أَكَلَ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ حِمْلًا مُسَمًّى فِي جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ ( وَكَذَا غَيْرُ الزَّادِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ) وَرَدُّ الزَّادِ مُعْتَادٌ عِنْدَ الْبَعْضِ كَرَدِّ الْمَاءِ فَلَا مَانِعَ مِنْ الْعَمَلِ بِالْإِطْلَاقِ .
كِتَابُ الْمُكَاتَبِ قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ الْعَبْدُ ذَلِكَ صَارَ مُكَاتَبًا ) أَمَّا الْجَوَازُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } وَهَذَا لَيْسَ أَمْرَ إيجَابٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ هُوَ الصَّحِيحُ .
وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ ، أَمَّا النَّدْبِيَّةُ مُعَلَّقَةٌ بِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قِيلَ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ لَوْ فَعَلَهُ .
كِتَابُ الْمُكَاتَبِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَبِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ا هـ أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَبِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُسْتَدْرَكٌ بَلْ مُخْتَلٌّ ، لِأَنَّهُ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : إنْ وَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ غَيْرِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ أَيْضًا ، فَمَا مَعْنَى تَخْصِيصِ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ ؟ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا فَمَا فَائِدَةُ بَيَانِ وُقُوعِ الِاحْتِرَازِ بِهِ عَنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ فَقَطْ ، إذْ يُنْتَفَضُ حِينَئِذٍ مَا ذَكَرَهُ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَغْيَارِ ، وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إنْ وَجَبَ الِاطِّرَادُ فِي وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ لَزِمَ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْوُجُوهِ فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ فَيَلْزَمُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ جَمِيعِ مَا عَدَاهُ ، فَلَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الِاحْتِرَازِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الِاطِّرَادُ فِيهَا ، بَلْ كَفَى تَحَقُّقُ كُلٍّ مِنْهَا فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ سَوَاءٌ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا أَمْ لَا لَمْ يَكُنْ فَائِدَةٌ فِي بَيَانِ وُقُوعِ الِاحْتِرَازِ بِمَا ذَكَرَهُ وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، سِيَّمَا إذَا لَمْ يَنْحَصِرْ مَا يَقَعُ الِاحْتِرَازُ بِذَلِكَ عَنْهُ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُنَاسِبَ فِي وُجُوهِ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ هَذِهِ الْكُتُبِ هُوَ الِاطِّرَادُ ، وَأَنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَاهُنَا لَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ فِي غَيْرِ مَا نَحْنُ فِيهِ أَصْلًا كَمَا يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ فَكَانَ مُطَّرِدًا ، فَلَا وَجْهَ
لِتَخْصِيصِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ مَا وَقَعَ عَنْهُ الِاحْتِرَازُ بِذَلِكَ الْوَجْهِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ نَقَلَ مَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَبَيَّنَ الْمُرَادَ مِنْهُ حَيْثُ قَالَ : قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَبِهَذَا وَقَعَ الِاحْتِرَازُ عَنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ : يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ خَرَجَ بِهِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .
وَقَوْلُهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ خَرَجَ بِهِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ فِيهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ نَقْلِهِ وَبَيَانِهِ اخْتِلَالٌ .
أَمَّا فِي نَقْلِهِ فَلِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ نُسَخِ النِّهَايَةِ ، وَقَدْ ضَمَّهَا فِي النَّقْلِ إلَى الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ .
وَأَمَّا فِي بَيَانِهِ فَلِأَنَّهُ قَيَّدَ الْهِبَةَ فِي الْبَيَانِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَأَطْلَقَهَا فِي أَثْنَاءِ النَّقْلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يُخْرِجُهَا عَنْ الْإِطْلَاقِ ، إذْ الْهِبَةُ بِلَا شَرْطٍ عِوَضٌ لَا مُقَابَلَةَ فِيهَا أَصْلًا فَتَخْرُجُ بِقَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا تَخْرُجُ بِهِ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَلَا وَجْهَ لِلتَّقْيِيدِ فِي الْبَيَانِ .
وَأَيْضًا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مَذْكُورًا فِي نُسَخِ النِّهَايَةِ وَلَا فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهَا ، وَقَدْ تَعَرَّضَ فِي الْبَيَانِ لِخُرُوجِ النِّكَاحِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ .
وَأَيْضًا كَانَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ مُطْلَقَيْنِ فِي الْمَنْقُولِ ، وَقَدْ قُيِّدَ مَا فِي الْبَيَانِ بِكَوْنِهِمَا عَلَى مَالٍ وَجَعَلَهُمَا خَارِجَيْنِ بِقَوْلِهِ بِطَرِيقِ
الْأَصَالَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ خُرُوجَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِغَيْرِ مَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَيْدَيْنِ مَعَ أَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ بِقَيْدِ الْمُقَابَلَةِ فِي قَوْلِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْهِبَةِ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ فَتَأَمَّلْ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : إنَّ ذِكْرَ الْمُكَاتَبِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ كَانَ أَنْسَبَ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي كِتَابَ الْمُكَاتَبِ وَكِتَابَ الْوَلَاءِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْعِتْقُ بِمَالٍ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا انْتَهَى .
وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَزَيَّفَهُ حَيْثُ قَالَ : وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ ذِكْرَ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ كَانَ أَنْسَبَ ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي عَقِيبَ كِتَابِ الْعَتَاقِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْوَلَاءُ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِتْقَ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ بِلَا عِوَضٍ ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ فِيهَا مِلْكُ الرَّقَبَةِ لِشَخْصٍ وَمَنْفَعَتُهُ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنْسَبُ لِلْإِجَارَةِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرَضِيَّاتِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي نَقْلِهِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْغَايَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْعِتْقُ ، وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي النَّقْلِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مَآلُهَا الْوَلَاءُ .
وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ مَآلَهَا الْعِتْقُ بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالْكِتَابَةِ ، وَبِقَوْلِهِ وَالْوَلَاءُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ أَيْضًا بَيَانُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالْوَلَاءِ أَيْضًا ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ حَسِبَ مَجْمُوعَ الْكَلَامَيْنِ بَيَانًا لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْعَتَاقِ وَالْكِتَابَةِ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ مِنْ تَغْيِيرِ الْعِبَارَةِ فِي النَّقْلِ تَدَبَّرْ .
ثُمَّ
إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَمَا تَنَبَّهَ لِمَا فِي نَقْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ قَصَدَ رَدَّ تَزْيِيفَةِ أَيْضًا فَقَالَ : وَقَوْلُهُ وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لَا إخْرَاجَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمُكَابَرَةِ .
أَلَا يَرَى أَنَّهُ إخْرَاجُ الْيَدِ حَالًا وَالرَّقَبَةِ مَآلًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَا عِوَضٍ فَمُسَلَّمٌ وَلَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْمُنَاسَبَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهِ مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَيْضًا وَكَيْفَ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالِ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرَضِيَّاتِ مَحَلُّ تَأَمُّلٍ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ ، أَقُولُ : يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ الْعِتْقَ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ حَالٌّ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ : أَيْ لَيْسَ فِيهَا إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ حَالًّا وَلَيْسَتْ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ بَلْ هِيَ بِشَرْطِ عِوَضٍ فَيَسْقُطُ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ فِي كُلٍّ مَنْ شِقَّيْ تَرْدِيدِهِ .
أَمَّا سُقُوطُ مَا ذَكَرَهُ فِي شِقِّهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ لَيْسَ فِي الْكِتَابَةِ إخْرَاجُ الرَّقَبَةِ عَنْ الْمِلْكِ حَالًّا وَإِنْ وُجِدَ فِيهَا مُطْلَقُ الْإِخْرَاجِ .
وَأَمَّا سُقُوطُ مَا ذَكَرَهُ فِي شِقِّهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْأَنْسَبِيَّةِ لَا فِي مُجَرَّدِ الْمُنَاسَبَةِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِقَوْلِهِ وَلَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الْمُنَاسَبَةِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ مَفْهُومِهِ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا كَانَ مُرَادُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ بِلَا عِوَضٍ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ لَا بِشَرْطِ لَا عِوَضَ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ لَمْ يُفِدْ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ ، مَعَ أَنَّ اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ مِمَّا لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ
أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ بِلَا عِوَضٍ بِشَرْطِ لَا عِوَضَ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ بِلَا شَرْطِ عِوَضٍ فَيَعُمُّ مَا بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَيْضًا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنْ بِلَا شَرْطِ شَيْءٍ أَعَمُّ مِنْ بِشَرْطِ شَيْءٍ ، وَمِنْ بِشَرْطِ لَا شَيْءَ فَيَصِيرُ الْمُعْتَبَرُ فِي مَفْهُومِ الْعِتْقِ انْتِفَاءَ اعْتِبَارِ الْعِوَضِ لَا اعْتِبَارَ انْتِفَاءِ الْعِوَضِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ لِأَنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِ شَيْءٍ لَيْسَ اعْتِبَارَ عَدَمِهِ كَمَا عُرِفَ .
ثُمَّ إنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِالذَّاتِيَّاتِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ نِسْبَةَ الذَّاتِيَّاتِ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْعَرَضِيَّاتِ مَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْمَفْهُومِ ، وَبِالْعَرْضِيَّاتِ مَا هُوَ الْخَارِجُ عَنْهُ .
إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ أَنَّ الذَّاتِيَّاتِ فِي الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ مَا اعْتَبَرَهُ الْمُعْتَبِرُ دَاخِلًا فِيهَا ، وَالْعَرَضِيَّاتِ مَا اعْتَبَرَهُ خَارِجًا عَنْهَا ، بِخِلَافِ حَقَائِقِ النَّفْسِ الْأَمْرِيَّةِ ، فَفِي الْكِتَابَةِ كَوْنُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِشَخْصٍ وَهُوَ الْمَوْلَى وَكَوْنُ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمُكَاتَبُ دَاخِلٌ فِي مَفْهُومِهَا الْمُعْتَبَرِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ ، وَأَمَّا الْعِتْقُ فَأَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ مَفْهُومِهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ مَآلُهَا الْحَاصِلُ عِنْدَ أَدَاءِ كُلِّ الْبَدَلِ ، وَكَذَا الْوَلَاءُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْهُ فَإِنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ فَكَانَ مُنَاسَبَةُ الْكِتَابَةِ بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتِيَّةُ وَبِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ الْعَرَضِيَّةُ فَكَانَتْ أَنْسَبَ لِلْإِجَارَةِ مِنْ الْعِتْقِ .
ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الشُّرَّاحِ قَالُوا : وَقَدَّمَ الْإِجَارَةَ لِشَبَهِهَا بِالْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ التَّمْلِيكُ وَالشَّرَائِطُ فَكَانَ أَنْسَبَ بِالتَّقْدِيمِ .
ثُمَّ أَقُولُ : هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ شَبَهِهَا مِنْ بَعْضِ الْحَيْثِيَّاتِ بِالْبَيْعِ الَّذِي مِنْ بَيْنِهِ وَبَيْنِهَا كُتُبٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِالْبَيْعِ مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّاتِ وَغَيْرِهَا ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ هَاهُنَا وَجْهًا
لِتَقْدِيمِهَا عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَهَلْ تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ .
وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ وَجْهَ تَقْدِيمِ الْإِجَارَةِ هُوَ الْمُنَاسَبَةُ الْكَائِنَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَ قَبْلَهَا الْمُبَيَّنَةُ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فَإِنَّ تِلْكَ الْمُنَاسَبَاتِ لَمَّا اقْتَضَتْ ذِكْرَ الْإِجَارَةِ عَقِيبَ مَا ذُكِرَ قُبَيْلَهَا وَهُوَ الْهِبَةُ اقْتَضَتْ أَيْضًا بِالضَّرُورَةِ تَقْدِيمَ الْإِجَارَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَلَا يَفُوتُ أَمْرُ التَّعْقِيبِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ : الْكِتَابَةُ عَقْدٌ بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا تَعْرِيفٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ قَرِيبٌ مِنْ تَعْرِيفِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ فِي الشَّرْعِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْعَقْدَ الْجَارِيَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ مَا يُؤَدِّي مَعْنَاهُ بَلْ مَعْرِفَةُ الثَّانِي تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَلَعَلَّ الْبَاعِثَ عَلَى وُقُوعِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَضِيقِ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ لَمَّا قَالَ : وَأَمَّا الْكِتَابَةُ شَرْعًا فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ بِلَفْظِ الْكِتَابَةِ أَوْ بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ عَلَى مَا يَجِيءُ عَلَى أَدَاءِ الْعَبْدِ مَالًا مَعْلُومًا لِمُقَابَلَةِ عِتْقٍ يَحْصُلُ لَهُ عِنْدَ أَدَائِهِ ا هـ .
حَسِبَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّ تَعْرِيفَ الْكِتَابَةِ شَرْعًا قَدْ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ أَوْ بِلَفْظٍ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَقَطَعَ بِهِ الْكَلَامَ فِي كِتَابِهِ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا حَسِبَهُ فَإِنَّ قَوْلَ صَاحِبِ النِّهَايَةِ عَلَى أَدَاءِ الْعَبْدِ مَالًا مَعْلُومًا إلَخْ مِنْ تَمَامِ التَّعْرِيفِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ عَقْدٌ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدِ بَيَانٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودِ بِهِ فَيَحْصُلُ بِالْمَجْمُوعِ مَعْرِفَةُ مَعْنَى الْكِتَابَةِ شَرْعًا كَمَا تَرَى ، ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي تَعْرِيفِهَا الشَّرْعِيِّ مَا
ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ بِأَنْ يُقَالَ : الْكِتَابَةُ التَّحْرِيرُ يَدًا فِي الْحَالِ وَرَقَبَةً عِنْدَ أَدَاءِ الْمَالِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنْ يُقَالَ : الْكِتَابَةُ إعْتَاقُ الْمَمْلُوكِ يَدًا حَالًّا وَرَقَبَةً مَآلًا فَلْيُتَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لَيْسَ أَمْرَ إيجَابٍ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ : خُصَّ الْفُقَهَاءُ ، لِأَنَّ عِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ كَدَاوُد الْأَصْفَهَانِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ أَنَّ هَذَا أَمْرُ إيجَابٍ ، حَتَّى إذَا طَلَبَ الْعَبْدُ مِنْ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ وَقَدْ عَلِمَ الْمَوْلَى فِيهِ خَيْرًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَاتِبَهُ ا هـ .
أَقُولُ : بَقِيَ إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : وَهَذَا الْأَمْرُ لِلنَّدَبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ : لَيْسَ ذَاكَ بِعَزْمٍ إنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هِيَ عَزْمَةٌ مِنْ عَزَمَاتِ اللَّهِ .
وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ مِثْلُهُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُد ا هـ .
فَعَلَى هَذَا كَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْإِيجَابِ بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَجِلَّةِ الصَّحَابَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْفِقْهِ وَالرِّوَايَةِ ، وَابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَعْيَانِ التَّابِعِينَ وَكِبَارِ الْفُقَهَاءِ وَالصَّالِحِينَ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : جَالِسْ الْحَسَنَ أَوْ ابْنَ سِيرِينَ ، فَقَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ بِالْوُجُوبِ يُنَافِي ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنْ لَيْسَ هَذَا الْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ فِي هَذَا الْأَمْرِ رِوَايَةٌ مَحْضَةٌ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ سِيرِينَ لَا أَنَّهُ مَذْهَبُهُمَا الْمُقَرَّرُ ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مَذْهَبًا مُقَرَّرًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فَتَأَمَّلْ ، وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَبِقَوْلِهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ
يُحْتَرَزُ عَنْ قَوْلِ دَاوُد وَمَنْ تَابَعَهُ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَعَطَاءٍ ، وَرِوَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا : تَجِبُ الْكِتَابَةُ إذَا سَأَلَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ ذَا أَمَانَةٍ وَذَا كَسْبٍ ، إذْ الْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِ الْخَيْرِيَّةِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ فُقَهَاءُ سِيَّمَا الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاحْتِرَازُ بِقَوْلِهِ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَنْ قَوْلِهِمْ بِالْإِيجَابِ فِي هَذَا الْأَمْرِ ، وَقَوْلُهُمْ بِذَلِكَ يُنَافِي ادِّعَاءَ إجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ عَلَى عَدَمِ الْإِيجَابِ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَأَنَّى يَصِحُّ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْهُ ، اللَّهُمَّ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ الِاحْتِرَازِ عَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ فِقْهِ بَعْضِهِمْ وَعَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ ثُبُوتِ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِرُوَاةِ الْقَوْلِ بِذَلِكَ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ نَدْبٍ هُوَ الصَّحِيحُ ) هَذَا احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : إنَّ الْأَمْرَ لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلنَّدَبِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وقَوْله تَعَالَى { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } مَذْكُورٌ عَلَى وِفَاقِ الْعَادَةِ ، فَإِنَّهَا جَرَتْ عَلَى أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُكَاتِبُ عَبْدَهُ إذَا عَلِمَ فِيهِ خَيْرًا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : بِهَذَا وَبِمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ الْأَمْرُ فِيهِ لِلْوُجُوبِ يُظْهِرُ اخْتِلَالَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّاهِدِيُّ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فِي الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّهُ لِلنَّدَبِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ انْتَهَى .
إذْ قَدْ عُلِمَ مِنْهُمَا أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ لِلنَّدَبِ فِي { فَكَاتِبُوهُمْ } لَيْسَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ بَلْ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافُهُمْ وَلَكِنَّ الْمُخْتَارَ هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لِلنَّدَبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ( قَوْلُهُ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ
الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ { إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ ثَابِتَةٌ بِدُونِهِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : إنَّ مَفْهُومَ الشَّرْطِ لَا اعْتِبَارَ لَهُ عِنْدَنَا ا هـ : أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ ، لِأَنَّ مَعْنَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ ، لَا أَنْ لَيْسَ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ أَصْلًا ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِكَلَامِ الْبَشَرِ فَضْلًا عَنْ كَلَامِ خَالِقِ الْقُوَى وَالْقَدَرِ .
نَعَمْ يَرِدُ عَلَى ذَلِكَ مَنْعُ أَنَّ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَلْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَهِيَ إخْرَاجُ الْكَلَامِ عَلَى مَجْرَى الْعَادَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَنْ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا قِيلَ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ لَوْ فَعَلَهُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ ، لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ بِدُونِ الشَّرْطِ حِينَئِذٍ مَكْرُوهًا لَا مُبَاحًا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْمُبَاحَ مَا اسْتَوَى طَرَفَا فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ ، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ مَا كَانَ طَرَفُ تَرْكِهِ أَوْلَى ، إذَا كَانَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَنْ لَا يُكَاتِبَهُ كَانَ جَانِبُ التَّرْكِ أَوْلَى فَيَصِيرُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ إذْ ذَاكَ مَكْرُوهًا لَا مُبَاحًا فَيُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ ، وَفِي الْحَمْلِ عَلَى الْإِبَاحَةِ إلْغَاءُ الشَّرْطِ إذْ هُوَ مُبَاحٌ بِدُونِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ
وَأَمَّا اشْتِرَاطُ قَبُولِ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ مَالٌ يَلْزَمُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْتِزَامِهِ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ كُلِّ الْبَدَلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَفِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَيُعْتَقُ بِأَدَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يَجِبُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ .
( قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ } إلَخْ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ وَتَكَلُّمُهُمْ فِيهَا بِالرَّأْيِ يَدُلُّ عَلَى زِيَافَةِ الْحَدِيثِ كَمَا عُرِفَ ، وَلِهَذَا زَيَّفْنَا مَا رَوَى أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا يَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ } فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ .
قُلْت : جَازَ أَنَّهُ مَا بَلَغَ إلَيْهِمْ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ ، إذْ يَجْرِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَقَعَ فِيهِ اخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ أَنْ يُقَالَ : جَازَ إنْ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِمْ الْحَدِيثُ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي مَسْأَلَةٍ وَتَكَلُّمِهِمْ فِيهَا بِالرَّأْيِ عَلَى زِيَافَةِ حَدِيثٍ قَطُّ مَعَ أَنَّهُ خِلَافُ مَا عُرِفَ .
وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّأْيِ ، وَيُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمْ فِيهَا بِاعْتِبَارِ وُرُودِ حَدِيثٍ آخَرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إذَا أَصَابَ الْمُكَاتَبُ مِيرَاثًا وَرِثَ بِحِسَابِ مَا عَتَقَ مِنْهُ } وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ ، وَبِمَا بَقِيَ دِيَةَ عَبْدٍ } كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ ، وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى زِيَافَةِ الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ اخْتِلَافُهُمْ بِالرَّأْيِ ، لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ النَّصِّ لَا يَجُوزُ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( قَوْلُهُ وَيُعْتَقُ بِأَدَائِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى إذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ يَثْبُتُ
مِنْ غَيْرِ التَّصْرِيحِ بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يَقُلْ كَاتَبْتُك عَلَى كَذَا عَلَى أَنَّك إنْ أَدَّيْته إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ .
قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ ، فَعِنْدَنَا تَفْسِيرُهَا شَرْعًا ضَمُّ حُرِّيَّةِ الْيَدِ إلَى حُرِّيَّةِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : أَوْجَبْت حُرِّيَّةَ الْيَدِ فِي الْحَالِ وَحُرِّيَّةَ الرَّقَبَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الْمَالِ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى هَذَا عَتَقَ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، كَذَا هَذَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : تَفْسِيرُهَا ضَمُّ نَجْمٍ إلَى نَجْمٍ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ : ضَرَبْت عَلَيْك أَلْفًا عَلَى أَنْ تُؤَدِّيَهَا إلَيَّ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا لَمْ يُعْتَقْ ، كَذَا هَذَا انْتَهَى كَلَامُهُمْ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْحَوَاشِي الْجَلَّالِيَّةِ مَنْقُولًا فِيهَا عَنْ الْمَبْسُوطِ : لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الضَّمِّ لَيْسَ بِتَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ بَلْ مُوجِبُ الْعَقْدِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ انْتَهَى .
أَقُولُ : تَنْصِيصُ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي عِبَارَتِهِ هَاهُنَا ، بَلْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَدَّعِيَ تَنْصِيصَهُ عَلَى خِلَافِهِ بَعْدَ صَحِيفَةٍ حَيْثُ قَالَ : أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ انْتَهَى .
وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَكَوْنُ الضَّمِّ الْمَذْكُورِ مُوجِبَ الْعَقْدِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ تَفْسِيرًا لِلْكِتَابَةِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الشَّيْءِ مِنْ لَوَازِمِهِ وَتَفْسِيرُ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ كَمَا هُوَ حَالُ الرُّسُومِ عَامَّةً .
وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ أَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ رَاجِعٌ إلَى تَفْسِيرِ مُوجِبِ الْكِتَابَةِ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا هُوَ الطَّرِيقَةُ الشَّائِعَةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَجَازِ بِالْحَذْفِ ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى { وَجَاءَ رَبُّك } أَيْ أَمْرُ رَبِّك وقَوْله تَعَالَى { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } أَيْ
أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِرَدِّ كَلَامِ الثِّقَاتِ بِمَا هُوَ وَهْمٌ مَحْضٌ ( قَوْلُهُ وَلَا يَجِبُ حَطُّ شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ اعْتِبَارًا بِالْبَيْعِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَطُّ رُبْعِ الْبَدَلِ وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ مَمْنُوعَةٌ لِأَنَّهُ قَالَ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى أَمْوَالِ الْقُرَبِ كَالصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ ، فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نُعْطِيَ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ صَدَقَاتِنَا لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى أَدَاءِ الْكِتَابَةِ ، وَالْمَأْمُورُ بِهِ الْإِيتَاءُ وَهُوَ الْإِعْطَاءُ ، وَالْحَطُّ لَا يُسَمَّى إعْطَاءً ، وَالْمَالُ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ هُوَ مَا فِي أَيْدِينَا لَا الْوَصْفُ الثَّابِتُ فِي ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِينَ ، فَحَمْلُهُ عَلَى حَطِّ رُبْعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْمُرَادُ بِهِ النَّدْبُ كَاَلَّذِي فِي قَوْلِهِ { فَكَاتِبُوهُمْ } لَا يُقَالُ : الْقُرْآنُ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقُرْآنَ فِي الْحُكْمِ ، لِأَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْقُرْآنَ مُوجِبًا نَقُولُ : الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ عَلَى قَرِينَةٍ غَيْرِ الْوُجُوبِ لِلْوُجُوبِ ، وَقَوْلُهُ { فَكَاتِبُوهُمْ } قَرِينَةٌ لِذَلِكَ .
كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَكَاتِبُوهُمْ } لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَرِينَةً لِكَوْنِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ { وَآتُوهُمْ } لِغَيْرِ الْوُجُوبِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ إيجَابِ الْقُرْآنِ فِي نَظْمِ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ ، إذْ لَا دَلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِ أَمْرٍ لِغَيْرِ الْوُجُوبِ عَلَى كَوْنِ أَمْرٍ آخَرَ أَيْضًا لِذَلِكَ حَتَّى يُجْعَلَ كَوْنُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ بَعْدُ { فَكَاتِبُوهُمْ } لِلنَّدَبِ قَرِينَةً لِكَوْنِ الْأَمْرِ فِي { وَآتُوهُمْ } أَيْضًا لِذَلِكَ
قَالَ ( وَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَالَ حَالًّا وَيَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَمُنَجَّمًا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ حَالًّا وَلَا بُدَّ مِنْ نَجْمَيْنِ ، لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي زَمَانٍ قَلِيلٍ لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ قَبْلَهُ لِلرِّقِّ ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ فَكَانَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ ثَابِتًا ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ .
وَلَنَا ظَاهِرُ مَا تَلَوْنَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّنْجِيمِ ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيُمْهِلُهُ الْمَوْلَى ظَاهِرًا ، بِخِلَافِ السَّلَمِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى الْمُضَايَقَةِ وَفِي الْحَالِ كَمَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمِلْكِ فَكَانَ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ ثَابِتًا ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيَثْبُتُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ أَثْبَتُ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ مَأْمُورُونَ بِإِعَانَتِهِ ، وَالطُّرُقُ مُتَّسَعَةٌ اسْتِدَانَةٌ وَاسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِيهَابٌ وَاسْتِعَانَةٌ بِالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْعُشُورِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَقَدْ دَلَّ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَتَثْبُتُ انْتَهَى ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ بِوَارِدٍ ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ احْتِمَالَ الْقُدْرَةِ قَبْلَ الْعَقْدِ أَثْبَتُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَ بِذَاكَ قَطْعًا ، إذْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ قَطُّ ، فَأَنَّى يَثْبُتُ لَهُ احْتِمَالُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَالِ قَبْلَهُ ، فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ احْتِمَالَ الْقُدْرَةِ عَقِيبَ الْعَقْدِ أَثْبَتُ فِي حَقِّهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا لِأَنَّ مَدَارَ فَرْقِ الشَّافِعِيِّ بَيْنَ الْكِتَابَةِ وَبَيْنَ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِهِ إنَّمَا هُوَ ثُبُوتُ احْتِمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَبِيعِ لِلْعَاقِدِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي السَّلَمِ لِكَوْنِ الْعَاقِدِ فِيهِ أَهْلًا لِلْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ الْعَاقِدَ فِيهَا لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ قَطُّ قَبْلَ الْعَقْدِ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ احْتِمَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْبَدَلِ لَهُ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَهَذَا أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ لَا مَجَالَ لِإِنْكَارِهِ ، فَلَا وَجْهَ لِلْمُنَاقَشَةِ فِيهِ كَمَا فَعَلَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ .
وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ هَاهُنَا أَنْ يَسْلُكَ طَرِيقَةَ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ فَيُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْأَمْوَالِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ لِلْمِلْكِ قَبْلَهُ ، وَلَكِنْ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَالَ الْعَقْدِ
إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ دُونَ الْمَعْقُودِ بِهِ ، أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُفْلِسَ لَوْ اشْتَرَى أَمْوَالًا عَظِيمَةً يَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَالِكًا لَهُ حَالَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، بِخِلَافِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فَإِنَّهُ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ السَّلَمِ عَلَى أَصْلِنَا لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ا هـ تَدَبَّرْ
قَالَ ( وَتَجُوزُ كِتَابَةُ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ ) لِتَحَقُّقِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، إذْ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْقَبُولِ وَالتَّصَرُّفُ نَافِعٌ فِي حَقِّهِ .
وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِيهِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ إذْنِ الصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِأَنَّ الْقَبُولَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ ، حَتَّى لَوْ أَدَّى عَنْهُ غَيْرُهُ لَا يَعْتِقُ وَيَسْتَرِدُّ مَا دَفَعَ .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : جَعَلْت عَلَيْك أَلْفًا تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا أَوَّلُ النَّجْمِ كَذَا وَآخِرُهُ كَذَا فَإِذَا أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ فَإِنَّ هَذِهِ مُكَاتَبَةٌ ) لِأَنَّهُ أَتَى بِتَفْسِيرِ الْكِتَابَةِ ، وَلَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتِ حُرٌّ فَهَذِهِ مُكَاتَبَةٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ .
لِأَنَّ التَّنْجِيمَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ .
وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ لَا تَكُونُ مُكَاتَبَةً اعْتِبَارًا بِالتَّعْلِيقِ بِالْأَدَاءِ مَرَّةً .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ) أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ أَوْ لِتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَدَاءُ الْبَدَلِ فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ وَإِنْ نَهَاهُ الْمَوْلَى ، وَأَمَّا عَدَمُ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ فَلِمَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَاهُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِتَنَجُّزِ الْعِتْقِ وَيَتَحَقَّقُ بِتَأَخُّرِهِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ نَوْعُ مَالِكِيَّةٍ وَيَثْبُتُ لَهُ فِي الذِّمَّةِ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ عَتَقَ بِعِتْقِهِ ) لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ ( وَسَقَطَ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ إلَّا مُقَابَلًا بِحُصُولِ الْعِتْقِ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ دُونَهُ .
قَالَ ( وَإِذَا وَطِئَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَتَهُ لَزِمَهُ الْعُقْرُ ) لِأَنَّهَا صَارَتْ أَخَصَّ بِأَجْزَائِهَا تَوَسُّلًا إلَى الْمَقْصُودِ بِالْكِتَابَةِ وَهُوَ الْوُصُولُ إلَى الْبَدَلِ مِنْ جَانِبِهِ وَإِلَى الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَانِبِهَا بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَمَنَافِعُ الْبُضْعِ مُلْحَقَةٌ بِالْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ ( وَإِنْ جَنَى عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلَدِهَا لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ أَتْلَفَ مَالًا لَهَا غَرِمَ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ أَكْسَابِهَا وَنَفْسِهَا ، إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ لَأَتْلَفَهُ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ حُصُولُ الْغَرَضِ الْمُبْتَغَى بِالْعَقْدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ : أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ لُغَةً وَهُوَ الضَّمُّ فَيَضُمُّ مَالِكِيَّةَ يَدِهِ الْحَاصِلَةِ فِي الْحَالِ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ .
وَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا وَمَالِكِيَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَالِ لَيْسَتْ بِمَوْجُودَةٍ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ الضَّمُّ ؟ أُجِيبُ بِأَنْ مَالِكِيَّةَ النَّفْسِ قَبْلَ الْأَدَاءِ ثَابِتَةٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ ، وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبَةَ لَزِمَهُ الْعُقْرُ فَيَتَحَقَّقُ الضَّمُّ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ هَذَا الْجَوَابَ يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ إلَى مَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، لِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُومُ وَالْمَضْمُومُ إلَيْهِ مَوْجُودِينَ فِي الْحَالِ ، وَالْمَدْلُولُ مَا قَالَهُ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُومُ إلَيْهِ حَاصِلًا عِنْدَ الْأَدَاءِ لَا فِي الْحَالِ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ لَغْوًا مَحْضًا كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِمَا قُلْنَا قَالَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَيْضًا أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الضَّمُّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حِينَ وُجُودِ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ عَلَى قِيَاسِ ضَمِّ النَّجْمِ إلَى النَّجْمِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، إذْ لَوْ كَفَى تَحَقُّقُ الضَّمِّ حِينَ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ لَبَطَلَ أَصْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَمَّا الْخُرُوجُ مِنْ يَدِهِ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ الضَّمُّ ، فَإِنَّ تَحَقُّقَ الضَّمِّ حِينَ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ يَدِهِ فِي الْحَالِ ، بَلْ
يَتَيَسَّرُ بِالْخُرُوجِ مِنْ يَدِهِ حِينَ مَالِكِيَّةِ النَّفْسِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَمَبْنَى السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَلَى تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى الضَّمِّ فِي الْحَالِ .
فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ عَلَى قِيمَةِ نَفْسِهِ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ ) أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولَةٌ قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ ، وَلِأَنَّهُ تَنْصِيصٌ عَلَى مَا هُوَ مُوجِبُ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ .
قَالَ ( فَإِنْ أَدَّى الْخَمْرَ عَتَقَ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَا يُعْتَقُ إلَّا بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْبَدَلَ هُوَ الْقِيمَةُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً ، وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ مَعْنًى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ إذَا قَالَ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِتْقُ بِالشَّرْطِ لَا بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ وَلَا فَصْلَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَيْتَةِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ فِي الْجُمْلَةِ فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ ، وَمُوجِبُهُ الْعِتْقُ عِنْدَ أَدَاءِ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ .
وَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلَيْسَتْ بِمَالٍ أَصْلًا فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ وَذَلِكَ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ ( وَإِذَا عَتَقَ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ لَزِمَهُ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ) لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ .
قَالَ ( وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْمُبْدَلِ
بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَفِيمَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ .
وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْعَقْدِ فِيهِ وَأَثَرُ الْجَهَالَةِ فِي الْفَسَادِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ عَلَى ثَوْبٍ حَيْثُ لَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ ثَوْبٍ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ فِيهِ عَلَى مُرَادِ الْعَاقِدِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثَّوْبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ .
( فَصْلٌ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ) أَخَّرَ الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ عَنْ الصَّحِيحَةِ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْفَاسِدَةِ عَنْ الصَّحِيحَةِ ( قَوْلُهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسْلِمُ ) عَبَّرَ عَنْ مَسْأَلَتَيْ الْكِتَابَةِ عَلَى الْخَمْرِ وَالْكِتَابَةِ عَلَى الْخِنْزِيرِ بِالْأَوَّلِ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ لِاتِّحَادِهِمَا فِي جِهَةِ الْفَسَادِ وَهِيَ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْمَالِيَّةِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَكَأَنَّمَا صَارَا مَسْأَلَةً وَاحِدَةً ، وَإِلَّا فَهُمَا مَسْأَلَتَانِ مُسْتَقِلَّتَانِ فِي الْحَقِيقَةِ كَمَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ أَوْمَأَ إلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي بَسْطِ نَفْسِ الْمَسَائِلِ أَيْضًا حَيْثُ أَعَادَ كَلِمَةَ عَلَى عِنْدَ ذِكْرِ الْقِيمَةِ دُونَ ذِكْرِ الْخِنْزِيرِ كَمَا تَرَى ، وَلِهَذَا عَبَّرَ عَنْ عَقْدِ الْكِتَابَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ بِالثَّانِي فَقَالَ : وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولًا إلَخْ مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ بِلَا رَيْبٍ .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ صُورَةً ، وَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ هُوَ الْبَدَلُ مَعْنًى ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا الْحُكْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ ، فَعَلَى هَذَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَخُصَّ أَبَا يُوسُفَ وَأَنْ لَا يَذْكُرَ بِكَلِمَةِ " عَنْ " انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ : قُلْت صَحِيحٌ إنْ كَانَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ كَمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ غَيْرَ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ جَمِيعًا قُلْت : سَوَاءٌ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ
نَفْسِهِ أَوْ عَنْ الْخَمْرِ فَعِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ هُوَ ظَاهِرُ الرَّاوِيَةِ عِنْدَهُمْ ، وَالشُّرَّاحُ مَا جَعَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ إلَّا بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرُهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا قَالَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ إنَّمَا هُوَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ وَبِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَاهُنَا بِكَلِمَةِ عَنْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَجْعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ إنَّمَا يَكُونُ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ وَبِأَدَاءِ قِيمَةِ الْخَمْرِ ، وَهَذَا غَيْرُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَطْعًا ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاكِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي أَحَدِ الْجُزْأَيْنِ وَهُوَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ اتِّحَادُهُمَا ضَرُورَةً اخْتِلَافَهُمَا بِالْجُزْءِ الْآخَرِ وَهُوَ عِتْقُهُ بِأَدَاءِ قِيمَةِ نَفْسِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعِتْقُهُ بِأَدَاءِ قِيمَةِ الْخَمْرِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى .
فَقَوْلُهُ سَوَاءٌ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ الْخَمْرِ فَعِتْقُهُ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ لَغْوٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ مِنْ الشُّرَّاحِ جَعَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ : وَأَبُو يُوسُفَ قَالَ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ عَيْنِ الْخَمْرِ وَقِيمَتِهَا بَدَلُ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ وَالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فَعَتَقَ إذَا أَدَّى أَيَّهُمَا كَانَ انْتَهَى .
وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقَوْلِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ بَدَلًا عَنْ الْخَمْرِ كَمَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ فَقَوْلُ الْعَيْنِيِّ وَالشُّرَّاحِ مَا جَعَلُوا الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْقِيمَةِ إلَّا بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ إنْ أَرَادَ بِهِ الْكُلِّيَّةَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُفِيدٍ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ
بِالنُّقْصَانِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَهَذَا أَيْ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِلْكُهُ فِي مُقَابَلَةِ بَدَلٍ فَلَا يَرْضَى بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ بِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ يَبْقَى مِلْكُهُ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَفُوتُ لَهُ شَيْءٌ ، وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْقِيمَةِ أَوْ فِي الْمُسَمَّى كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا يَمْتَنِعُ الْمَوْلَى عَنْ الْعَقْدِ فَيُفَوِّتُ لَهُ إدْرَاكَ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا الشَّرْحُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ وَغَيْرُ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ كَلِمَةَ هَذَا فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَيُزَادُ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْنَى وَهَذَا : أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ النُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ بِالْكُلِّيَّةِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الدَّلِيلُ وَالْمُدَّعِي بِلَا كُلْفَةٍ أَصْلًا ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلَا تَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى وَتُزَادُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ رَضِيَ بِالْمُسَمَّى وَزِيَادَةً كَيْ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا ، وَالْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ عَنْهُ ا هـ .
وَأَمَّا عَلَى مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ كَوْنِ كَلِمَةِ هَذِهِ إشَارَةً إلَى وُجُوبِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَيَحْتَمِلُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ .
لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالنُّقْصَانِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْقِيمَةِ
فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِيمَا قَبْلُ وَلَا يَنْقُصُ عَنْ الْمُسَمَّى خَالِيًا عَنْ التَّعْلِيلِ وَالْبَيَانِ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ أَنَّهُ مَطْلَبٌ مَقْصُودٌ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْمُسَمَّى فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُطَابِقَ الدَّلِيلَ الْمُدَّعَى وَأَنْ لَا يُفِيدَهُ ، إذْ لَا يَسْتَدْعِي عَدَمُ رِضَا الْمَوْلَى بِالنَّقْصِ عَنْ الْمُسَمَّى إلَّا وُجُوبَ الْمُسَمَّى دُونَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْمُسَمَّى وَالْقِيمَةِ جَمِيعًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ ، لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ : إنْ عُدِمَ رِضَاهُ بِالنُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَمَا مَعْنَى تَعْمِيمِ النُّقْصَانِ هَاهُنَا لِلنُّقْصَانِ عَنْ الْمُسَمَّى ، فَلَعَلَّ الشَّارِحَ الْمَزْبُورَ إنَّمَا اغْتَرَّ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ فَتَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَلَكِنَّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ إلَخْ لَا عَلَى مَجْمُوعِ الدَّلِيلِ فَلَا وَجْهَ لِلِاغْتِرَارِ بِذَلِكَ أَيْضًا .
وَأَمَّا الثَّانِي : أَيْ أَنَّهُ غَيْرُ تَامٍّ فِي نَفْسِهِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمُسَمَّى أَوْ فِي الْقِيمَةِ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَتَنْصِيصُ الْمَوْلَى عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مُسَمًّى دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِهِ قَطْعًا سَوَاءٌ كَانَ نَاقِصًا عَنْ الْقِيمَةِ أَمْ لَا ، فَمَا يُخَالِفُ رِضَاهُ إنَّمَا هُوَ النُّقْصَانُ عَنْ الْمُسَمَّى لَا غَيْرُ ، وَلَئِنْ سَلِمَ فَيُنْتَقَضُ بِالْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ إذَا كَانَ الْبَدَلُ الْمُسَمَّى فِيهَا أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ هُنَاكَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُسَمَّى مِنْ الْقِيمَةِ قَطْعًا مَعَ جَرَيَانِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي تِلْكَ
الصُّورَةِ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ تَعْمِيمِ النُّقْصَانِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ لِلنُّقْصَانِ الْكَائِنِ فِي الْمُسَمَّى وَفِي الْقِيمَةِ تَأَمَّلْ تَقِفْ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلَعَلَّ التَّصَوُّرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُسْقِطُ مَا قِيلَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ إنَّمَا هُوَ بَعْدَ وُقُوعِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ عَيْنِ الْخَمْرِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا بِعَدَمِ الرِّضَا بِالزِّيَادَةِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا إنَّمَا هُوَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا فِي بَقَائِهِ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ الَّذِي يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الرِّضَا بِالزِّيَادَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ لَهُ رَأْسًا لَا بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِيهِ كَمَا تَقْتَضِيهِ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ وَهِيَ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ بُطْلَانَ حَقِّ شَخْصٍ فِي شَيْءٍ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِهِ أَوَّلًا .
وَمَوْرِدُ مَا قِيلَ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ : الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ ؟ وَأَجَابَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالُوا : فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ قَوْلِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ وَاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْبُطْلَانَ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ بُطْلَانُ حَقِّهِ فِي الْعِتْقِ ؟ قُلْنَا : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي يَرَى صِحَّةَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى الْخَمْرِ وَلَمْ يَقُلْ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى الْخَمْرَ لَا يُعْتَقُ ، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مُقْتَضَى هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ عِلَّةً لِعَدَمِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِتِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا لِرِضَا الْعَبْدِ بِالزِّيَادَةِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ خِلَافُهُ ، وَالْكَلَامُ فِيمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتِمُّ ذَاكَ الْجَوَابُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ إنَّمَا يَتَمَشَّى فِي صُورَةٍ إنْ لَمْ يَقُلْ الْمَوْلَى لِلْمُكَاتَبِ عَلَى الْخَمْرِ إنْ أَدَّيْتهَا فَأَنْتَ حُرٌّ ، لَا فِي صُورَةٍ إنْ قَالَ لَهُ ذَلِكَ ، إذْ لَا رِوَايَةَ لِعَدَمِ الْعِتْقِ عِنْدَ أَدَاءِ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا رَأْيَ لِلْقَاضِي فِيهَا مَعَ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ يَعُمُّ الصُّورَتَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى ، فَيَبْقَى السُّؤَالُ فِي صُورَةٍ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ رَدَّا عَلَى الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَا : ثُمَّ قَوْلُهُ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ لَا يَصْلُحُ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ غَيْرَ رَاضٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى وَإِنْ بَطَلَ حَقُّهُ فِي الْعِتْقِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ نَفْعٌ مَشُوبٌ بِالضَّرَرِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الزِّيَادَةِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ عِتْقُهُ نَفْعًا لَهُ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ الزِّيَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ ضَرَرًا عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ عَدَمِ تَحَمُّلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَاخْتِيَارِ الرِّقِّ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ إذَا اخْتَارَ الرِّقَّ يَصِيرُ جَمِيعُ مَا اكْتَسَبَهُ مِلْكًا لِمَوْلَاهُ ، وَيَقْدِرُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ كَيْفَ يَشَاءُ فَيَحْصُلُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ فِي رِضَا الْعَبْدِ بِالزِّيَادَةِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَلَا فِي عَدَمِ رِضَاهُ بِهَا نَفْعٌ لَهُ أَصْلًا .
ثُمَّ قَالَا : وَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمَّا عَقَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ مَعَ مَوْلَاهُ
كَانَ قَابِلًا قِيمَةَ نَفْسِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُوجَبُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ وَهُوَ أَقْدَمَ عَلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ ، ثُمَّ قِيمَةُ نَفْسِهِ قَدْ تَرْبُو عَلَى الْمُسَمَّى فَكَانَ رَاضِيًا بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى ضَرُورَةً ا هـ .
أَقُولُ : وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ فِي التَّعْلِيلِ بِمَا ذَكَرَاهُ مُصَادَرَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّا بِصَدَدِ أَنْ يَثْبُتَ بِدَلِيلِ أَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَمِنْ جُمْلَةِ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ ، فَلَوْ عَلَّلْنَا هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ بِمَا يُبْتَنَى عَلَى كَوْنِ الْوَاجِبِ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ قَطْعًا .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ شَيْءٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا رَضِيَ بِالنُّقْصَانِ إلَخْ دَلِيلٌ شَافٍ مُفِيدٌ لِتَمَامِ الْمُدَّعِي وَهُوَ أَنْ لَا تَنْقُصَ الْقِيمَةُ عَنْ الْمُسَمَّى وَتُزَادَ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَ هَلَاكِ الْمُبْدَلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ يُرَى مُسْتَدْرَكًا هَاهُنَا لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ رَقَبَتِهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ وَقَدْ تَعَذَّرَ بِالْعِتْقِ فَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ وَلَيْسَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى تَمَامِ الْمُدَّعِي فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا تَنْقُصَ الْقِيمَةُ عَنْ الْمُسَمَّى فَلَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ فَكَانَ الْأَوْلَى طَرْحُهُ مِنْ الْبَيِّنِ كَمَا فِي الْكَافِي ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ فِيهِ عَلَى مُرَادِ الْعَاقِدِ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِ الثَّوْبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الثَّوْبَ عِوَضٌ وَالْعِوَضُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ، وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ
فِي الْخَارِجِ فَلَا يَكُونُ مُرَادًا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَيَّنُ مُرَادًا ، وَالِاطِّلَاعُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ فَلَا يُعْتَقُ بِدُونِ إرَادَتِهِ ، بِخِلَافِ الْقِيمَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً يُمْكِنُ اسْتِدْرَاكُ مُرَادِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمُطْلَقِ فِي قَوْلِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ فَرَدَّا مُبْهَمًا مِنْ الثَّوْبِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ ، إذْ الْإِبْهَامُ إنَّمَا يُنَافِي التَّعْيِينَ لَا الْوُجُودَ فِي الْخَارِجِ ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ جُزِمَ بِوُجُودِهِ فِي الْخَارِجِ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنَ خُصُوصِيَّتُهُ عِنْدَنَا وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَفْهُومَهُ الْكُلِّيَّ فَنُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَيِّنُ مُرَادًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُوَ الْمُبْهَمُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ بُطْلَانِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَيْضًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ إمْكَانَ اسْتِدْرَاكِ مُرَادِهِ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقِيمَةِ بِنَاءً عَلَى تَقْرِيرِهِ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الثَّوْبِ ، إذْ قَدْ حَكَمَ فِيهِ بِتَعَيُّنِ كَوْنِ الْمُتَعَيِّنِ مُرَادًا وَبِتَعَذُّرِ الِاطِّلَاعِ عَلَى ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقِيمَةِ أَيْضًا ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ : وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مَجْهُولَةٌ قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا فَتَفَاحَشَتْ الْجَهَالَةُ وَصَارَ كَمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ ا هـ .
فَكَيْفَ يُمْكِنُ اطِّلَاعُ الْمُقَوِّمِينَ عَلَى مُرَادِهِ فِي صُورَةِ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقِيمَةِ حَتَّى تَتَعَيَّنَ بِتَعْيِينِهِمْ فَتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَهُ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ .
وَمُرَادُهُ شَيْءٍ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، حَتَّى لَوْ قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ الدَّرَاهِمِ وَهِيَ لِغَيْرِهِ جَازَ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَيَتَعَلَّقُ بِدَرَاهِمِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ ، حَتَّى إذَا مَلَكَهُ وَسَلَّمَهُ يُعْتَقُ ، وَإِنْ عَجَزَ يُرَدُّ فِي الرِّقِّ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ وَالْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ فَأَشْبَهَ الصَّدَاقَ .
قُلْنَا : إنَّ الْعَيْنَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِلصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بِخِلَافِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَعَلَى مَا هُوَ تَابِعٌ فِيهِ أَوْلَى .
فَلَوْ أَجَازَ صَاحِبُ الْعَيْنِ ذَلِكَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْبَيْعُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِحَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الْمَكَاسِبِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مِنْهَا وَلَا حَاجَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الْبَدَلُ عَيْنًا مُعَيَّنًا ، وَالْمَسْأَلَةُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَجُزْ ، غَيْرَ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَجِبُ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يَجِبُ تَسْلِيمُ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ لِكَوْنِهِ مَالًا ، وَلَوْ مَلَكَ الْمُكَاتَبُ ذَلِكَ الْعَيْنَ ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا أَدَّاهُ لَا يُعْتَقُ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ إلَّا إذَا قَالَ لَهُ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَحِينَئِذٍ يُعْتَقُ
بِحُكْمِ الشَّرْطِ ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَعَنْهُ أَنَّهُ يُعْتَقُ قَالَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مَعَ الْفَسَادِ لِكَوْنِ الْمُسَمَّى مَالًا فَيُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْمَشْرُوطِ .
وَلَوْ كَاتَبَهُ عَلَى عَيْنٍ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ ) فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : هِيَ جَائِزَةٌ ، وَيُقَسَّمُ الْمِائَةُ الدِّينَارِ عَلَى قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ وَعَلَى قِيمَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ فَيَبْطُلُ مِنْهَا حِصَّةُ الْعَبْدِ فَيَكُونُ مُكَاتَبًا بِمَا بَقِيَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ يَصْلُحُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ ، فَكَذَا يَصْلُحُ مُسْتَثْنًى مِنْهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي أَبْدَالِ الْعُقُودِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى الْعَبْدُ مِنْ الدَّنَانِيرِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا فَكَذَلِكَ مُسْتَثْنًى .
( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى الْعَبْدُ مِنْ الدَّنَانِيرِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا فَكَذَلِكَ مُسْتَثْنًى ) يَعْنِي أَنَّهُمَا يُسَلِّمَانِ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ ، وَلَكِنْ يَقُولَانِ ذَلِكَ فِيمَا صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُورِدَ فَسَادَ الْعَقْدِ ، وَهَاهُنَا اسْتِثْنَاءُ الْعَبْدِ عَيْنِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْهَا بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لِتَفَاحُشِ جَهَالَتِهَا قَدْرًا وَجِنْسًا وَوَصْفًا كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَقَعَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْكِتَابَةُ فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا أَيْضًا لِجَرَيَانِهِ فِيهِ أَيْضًا بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا مَجْهُولَةٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً ، وَلِهَذَا لَوْ كَاتَبَ عَلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ كَمَا مَرَّ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ ، وَعَدَمُ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَ عَيْنِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ وَبَيْنَ الدَّرَاهِمِ أَيْضًا ظَاهِرٌ ، مَعَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْكِتَابَةَ صَحِيحَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فِيمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا .
وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ أَنَّهُ عَلَّلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ ، وَعَزَاهُ إلَى الزَّيْلَعِيِّ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ النَّقْضَ بِمَا إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا وَجَعَلَ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ هُوَ الصَّوَابُ ، وَعَزَاهُ إلَى الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ اشْتَمَلَ عَلَى بَيْعٍ وَكِتَابَةٍ ، لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْ الْمِائَةِ بِإِزَاءِ الْوَصِيفِ الَّذِي يَرُدُّهُ الْمَوْلَى بَيْعٌ وَمَا كَانَ مِنْهَا بِإِزَاءِ رَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ كِتَابَةٌ فَيَكُونُ صَفْقَةً فِي صَفْقَةٍ فَلَا يَجُوزُ النَّهْيُ عَنْهَا ، كَذَا قَالَ الزَّيْلَعِيُّ .
وَيَرُدُّ عَلَيْهِ
أَنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الْعَقْدِ إذَا شَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ عَبْدًا مُعَيَّنًا أَوْ أَمَةً مُعَيَّنَةً ، وَالْقَوْمُ صَرَّحُوا بِخِلَافِهِ ، وَالصَّوَابُ مَا فِي الْكَافِي وَهُوَ أَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَلَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ كَاتَبَهُ عَلَى قِيمَةِ الْوَصِيفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُمْكِنُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَثْنَى قِيمَتُهُ ، وَالْقِيمَةُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لِجَهَالَتِهَا ، فَكَذَا لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَجْهِ الَّذِي عَزَاهُ إلَى الزَّيْلَعِيِّ وَالْوَجْهِ الَّذِي عَزَاهُ إلَى الْكَافِي فِي وُرُودِ النَّقْضِ بِالصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ عَلَيْهِمَا ، فَرَدُّ الْأَوَّلِ بِوُرُودِ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَاسْتِصْوَابُ الثَّانِي لَيْسَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَهُ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ ) مَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْجِنْسَ وَلَا يُبَيِّنَ النَّوْعَ وَالصِّفَةَ ( وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ وَيُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ ) وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ ، أَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِنْسَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ دَابَّةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً فَتُتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ ، وَإِذَا بَيَّنَ الْجِنْسَ كَالْعَبْدِ وَالْوَصِيفِ فَالْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ وَمِثْلُهَا يُتَحَمَّلُ فِي الْكِتَابَةِ فَتُعْتَبَرُ جَهَالَةُ الْبَدَلِ بِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ .
( قَوْلُهُ أَمَّا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْجِنْسَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ دَابَّةٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَجْنَاسًا فَتَتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ ، وَإِذَا بَيَّنَ الْجِنْسَ كَالْعَبْدِ وَالْوَصِيفِ فَالْجَهَالَةُ يَسِيرَةٌ وَمِثْلُهَا يُتَحَمَّلُ فِي الْكِتَابَةِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِلْأَجْنَاسِ لَوْ مَنَعَ الْجَوَازَ لَمَا جَازَتْ فِيمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ شَمِلَ أَجْنَاسًا عَالِيَةً كَالدَّابَّةِ مَثَلًا أَوْ مُتَوَسِّطَةً كَالْمَرْكُوبِ مَنَعَ الْجَوَازَ مُطْلَقًا فِي الْكِتَابَةِ وَالْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَغَيْرِهَا ، وَإِنْ شَمِلَ أَجْنَاسًا سَافِلَةً كَالْعَبْدِ مَنَعَهُ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ كَالْبَيْعِ وَالْوَكَالَةِ لَا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الْمُسَامَحَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالنِّكَاحِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ شُمُولَ اللَّفْظِ لِلْأَجْنَاسِ إنْ مَنَعَ الْجَوَازَ مَا جَازَتْ فِيمَا إذَا كَاتَبَ عَلَى عَبْدٍ ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ الْعَبْدِ فِرْيَةً بِلَا مِرْيَةٍ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا ذَكَرَ قَطُّ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ إنَّمَا هُوَ أَنَّ الْعَبْدَ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا ، وَأَنَّ مَا يَشْمَلُ أَنْوَاعًا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : ثُمَّ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَجْمَعُ أَجْنَاسًا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ ، لِأَنَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَلَا يُدْرَى مُرَادُ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ
الْجَهَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ جِنْسًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ ، لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا ، وَبِذِكْرِ النَّوْعِ تَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ الِامْتِثَالُ .
مِثَالُهُ : إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَشْمَلَ أَنْوَاعًا ، فَإِنَّ بَيَّنَ النَّوْعَ كَالتُّرْكِيِّ وَالْحَبَشِيِّ وَالْمُوَلَّدِ جَازَ ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ لِمَا ذَكَرْنَا ا هـ .
فَهَلْ يَتَوَهَّمُ الْعَاقِلُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا حَتَّى يَجْعَلَهُ مَدَارًا لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ، وَقَدْ سَبَقَ إلَى هَذَا التَّوَهُّمِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ؟ وَلَعَمْرِي إنَّهُ مِنْ الْعَجَائِبِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الْفُحُولِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَزْبُورَ مَعَ ابْتِنَائِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَرَاتِبِ الْأَجْنَاسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ الْمَعْقُولِ دُونَ اصْطِلَاحَاتِ أَهْلِ الْفِقْهِ بِمَعْزِلٍ عَمَّا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَقَامَيْنِ : أَيْ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، أَمَّا هُنَاكَ فَلِمَا عَرَفْت آنِفًا ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ لَزِمَهُ أَنْ يُقَيِّدَ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُبَيِّنَ الْجِنْسَ بِالْجِنْسِ الْعَالِي وَالْمُتَوَسِّطِ ، إذًا بَيَانُ الْجِنْسِ الْأَسْفَلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْجَوَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِمَالٍ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ يُبْتَنَى عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا يَعْنِي مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ قِيَاسٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ ابْتِدَاؤُهَا أَوْ مِنْ
حَيْثُ الِانْتِهَاءُ وَالْأَوَّلُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ ، وَالْكِتَابَةُ مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي لِأَنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ وَهُوَ الرَّقَبَةُ لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ يَسْقُطُ الْمِلْكُ فِيهِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَفِي أَنَّ مَبْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْمُسَامَحَةِ ، وَهَذَا الْمِقْدَارُ كَافٍ فِي إلْحَاقِهَا بِالنِّكَاحِ .
وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لِزِيَادَةِ اسْتِظْهَارٍ .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ مُتَفَرِّعًا عَلَى الشِّقِّ الثَّانِي حَيْثُ قَالَ : فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَلَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّ كَوْنَ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ وَهُوَ الْمَهْرُ بِغَيْرِ مَالٍ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْبُضْعِ ظَاهِرٌ مُقَرَّرٌ عِنْدَهُمْ فِي مَحِلِّهِ .
أَمَّا كَوْنُهُ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ فَغَيْرُ ظَاهِرٍ وَمِمَّا لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا سِوَى تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَالْعَيْنِيِّ فَإِنَّهُمَا قَالَا فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَالٌ عِنْدَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ انْتَهَى ، فَكَانَ حَقُّ الْمَقَامِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ مُتَفَرِّعًا إمَّا عَلَى الشِّقِّ الْأَوَّلِ فَقَطْ أَوْ عَلَى مَجْمُوعِ الشِّقَّيْنِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَالَ : وَهَذَا الْمِقْدَارُ كَافٍ فِي إلْحَاقِهَا بِالنِّكَاحِ ، وَجُعِلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لِزِيَادَةِ الِاسْتِظْهَارِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَامٍّ أَيْضًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ لِشَيْءٍ فِي وَجْهٍ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ أَوْ فِي وَجْهٍ آخَرَ ، فَمُشَابَهَةُ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِلنِّكَاحِ فِيمَا ذُكِرَ لَا
يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ لِلْبَيْعِ أَيْضًا .
فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُمَاكَسَةِ لَمَا ظَهَرَ اخْتِصَاصُ هَاتِيكَ الْمُشَابَهَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى يَثْبُتَ عَدَمُ صِحَّةِ قِيَاسِ الشَّافِعِيِّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عَلَى مَا أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ .
وَلَنَا أَنَّ هَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ قِيَاسَ الْكِتَابَةِ عَلَى الْبَيْعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الِابْتِدَاءُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الِانْتِهَاءُ إلَخْ ، فَكَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ عُمْدَةً فِي إثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ وَلَمْ يَكُنْ لِزِيَادَةِ الِاسْتِظْهَارِ فَقَطْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ مِقْدَارًا مَعْلُومًا وَالْعَبْدُ كَافِرًا لِأَنَّهَا مَالٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ فِي حَقِّنَا ( وَأَيُّهُمَا أَسْلَمَ فَلِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْخَمْرِ ) لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَتَمَلَّكَهَا ، وَفِي التَّسْلِيمِ ذَلِكَ إذْ الْخَمْرُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَعْجَزُ عَنْ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَبَايَعَ الذِّمِّيَّانِ خَمْرًا ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ عَلَى مَا قَالَهُ الْبَعْضُ ، لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْكِتَابَةِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَاتِب عَلَى وَصِيفٍ وَأَتَى بِالْقِيمَةِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْقِيمَةِ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ فَلَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا عَلَى الْقِيمَةِ فَافْتَرَقَا .
قَالَ ( وَإِذَا قَبَضَهَا عَتَقَ ) لِأَنَّ فِي الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ .
فَإِذَا وَصَلَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ إلَى الْمَوْلَى سَلَّمَ الْعِوَضَ الْآخَرَ لِلْعَبْدِ وَذَلِكَ بِالْعِتْقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا حَيْثُ لَمْ تَجُزْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْخَمْرِ ، وَلَوْ أَدَّاهَا عَتَقَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ قَالَ ( وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ ) لِأَنَّ مُوجَبَ الْكِتَابَةِ أَنْ يَصِيرَ حُرًّا يَدًا ، وَذَلِكَ بِمَالِكِيَّةِ التَّصَرُّفِ مُسْتَبِدًّا بِهِ تَصَرُّفًا يُوَصِّلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ وَهُوَ نَيْلُ الْحُرِّيَّةِ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، وَكَذَا السَّفَرُ لِأَنَّ التِّجَارَةَ رُبَّمَا لَا تَتَّفِقُ فِي الْحَضَرِ فَتَحْتَاجُ إلَى الْمُسَافَرَةِ ، وَيَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، فَإِنَّ التَّاجِرَ قَدْ يُحَابِي فِي صَفْقَةٍ لِيَرْبَحَ فِي أُخْرَى .
( بَابُ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ ) الظَّاهِرُ أَنَّ اكْتِفَاءَ الْمُصَنِّفِ فِي عِنْوَانِ هَذَا الْبَابِ بِمَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ لِكَوْنِهِ الْعُمْدَةَ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ ، وَإِلَّا فَقَدْ ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرٌ مِمَّا لَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا تَرَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ : لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ ، فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى مُسْكَةٍ سَمَاجَةُ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ يُبْتَنَى عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ ، فَإِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لَا يَقْتَضِي تَأْخِيرَ هَذَا الْبَابِ عَنْ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ ، بَلْ يَقْتَضِي تَقْدِيمَهُ عَلَيْهَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَفْعَلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا سَالِمٌ مِمَّا يُتَّجَهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَسْفُورَانِ ، لَكِنْ فِيهِ أَيْضًا سَمَاجَةٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَهُ فِي حَيِّزِ يَجُوزُ وَعَطَفَهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ فَصَارَ الْمَعْنَى شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُكَاتَبُ وَمَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَصَدَ بَيَانَهُ إنَّمَا هُوَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ الْمُكَاتَبُ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُهُ وَلَا يَتَزَوَّجُ وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ وَلَا يَتَكَفَّلُ وَلَا يُقْرِضُ لَا مُجَرَّدَ مَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، فَإِنَّ جَوَازَ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا لَا يُنَافِي جَوَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ الَّتِي يَسْتَوِي فِيهَا جَانِبَا الْفِعْلِ
وَالتَّرْكِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ ، وَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا فَإِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ بِبَيَانِهِ ثَمَّةَ ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إنَّمَا هُوَ جَوَازُ السَّفَرِ لِلْمُكَاتَبِ لَا جَوَازُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَحَدِيثُ الْإِعَادَةِ لِلتَّمْهِيدِ لَا يَتِمُّ عُذْرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَسْأَلَتَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَمَا تَرَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ اسْتِطْرَادًا ، وَإِنَّمَا مَحِلُّ ذِكْرِهِ هُنَا وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا انْتَهَى .
أَقُولُ : وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ هُنَا لَيْسَ بِلَفْظِ الْقُدُورِيِّ ، وَإِنَّمَا لَفْظُهُ : فَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ ، وَبِإِضْمَارِ الْمُكَاتَبِ دُونَ إظْهَارِهِ ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ هُنَا بِالْوَاوِ بَدَلِ فَاءِ التَّفْرِيعِ ، وَبِإِظْهَارِ لَفْظِ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا هُوَ لَفْظُ الْبِدَايَةِ .
نَعَمْ حَاصِلُ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ ، لَكِنْ هَذَا مُتَحَقِّقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : فَيَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَالْخُرُوجَ إلَى السَّفَرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حَاصِلَ مَعْنَاهُ مُتَّحِدٌ بِمَا ذَكَرَهُ هُنَا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَقَعَ بَيَانُهَا مُكَرَّرًا لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ قَوْلِهِ وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ خَرَجَ الْمُكَاتَبُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى وَلَمْ
يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبِدَايَةِ ثَمَّةَ قَوْلِهِ فَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالسَّفَرُ ، وَذَكَرَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالسَّفَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْبِدَايَةِ ، فَلَمَّا بَلَغَ فِي الْهِدَايَةِ وَهِيَ شَرْحُ الْبِدَايَةِ هَذَا الْمَوْضِعَ سَاقَ الْكَلَامَ كَمَا سَاقَ مِنْ غَيْرِ إخْلَالٍ وَإِنْ كَانَ ذَكَرَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالسَّفَرِ فِي الْهِدَايَةِ قَبْلَ هَذَا ا هـ فَتَبَصَّرْ
قَالَ ( فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مَالِكِيَّةُ الْيَدِ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِبْدَادِ وَثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، وَبِمِثْلِهِ لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ فَأَلْحَقْنَاهُ بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، كَمَا إذَا شَرَطَ خِدْمَةً مَجْهُولَةً لِأَنَّهُ فِي الْبَدَلِ وَبِالنِّكَاحِ فِي شَرْطٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ .
أَوْ نَقُولُ : إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَخُصُّ الْعَبْدَ فَاعْتُبِرَ إعْتَاقًا فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
( قَوْلُهُ وَصَحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِمِثْلِهِ لَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ : يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ الْبَاطِلَ إنَّمَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ إذَا تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ، كَمَا إذَا قَالَ كَاتَبْتُك عَلَى أَنْ تَخْدُمَنِي مُدَّةً أَوْ زَمَانًا ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا شَرْطَ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ فَلَا تَفْسُدُ بِهِ الْكِتَابَةُ انْتَهَى .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : قَوْلُهُ وَلَا فِيمَا يُقَابِلُهُ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ مُقَابِلُهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَحُرِّيَّةُ الْيَدِ وَالْمَنْعُ مِنْ الْخُرُوجِ تَخْصِيصٌ لِلْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلْيُتَأَمَّلْ ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِمَا يُقَابِلُهُ هُوَ الْمُكَاتَبُ ، إلَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَخْتَصُّ بِهِ أَيْضًا كَمَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ تَخْصِيصًا لِلْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ دَاخِلًا فِيهِمَا ، فَإِنَّهُ تَخْصِيصُ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْهُ أَخَصَّ مِنْهُ ، كَمَا إذَا عَرَّفْنَا الْإِنْسَانَ بِالْحَيَوَانِ الضَّاحِكِ فَإِنَّ قَيْدَ الضَّاحِكِ يُخَصِّصُ الْحَيَوَانَ بِالْإِنْسَانِ مَعَ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ قَطْعًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَإِذْ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْخُرُوجِ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْفَكِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَكَذَا الْحَالُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِمَا يُقَابِلُهُ هُوَ الْمُكَاتَبُ ، فَإِنَّ اخْتِصَاصَ هَذَا الشَّرْطِ بِهِ لَا يَقْتَضِي دُخُولَهُ فِيهِ ، بَلْ لَا مَجَالَ لِدُخُولِهِ فِيهِ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَاَلَّذِي نَفَاهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ إنَّمَا هُوَ دُخُولُ هَذَا الشَّرْطِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَوْ فِيمَا يُقَابِلُهُ ، إذْ بِهِ يَتَحَقَّقُ التَّمَكُّنُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ كَمَا عَيَّنَهُ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْبَيْعَ وَتُشْبِهُ النِّكَاحَ فَأَلْحَقْنَاهُ
بِالْبَيْعِ فِي شَرْطٍ تَمَكَّنَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، كَمَا إذَا شَرَطَ خِدْمَةً مَجْهُولَةً لِأَنَّهُ فِي الْبَدَلِ وَبِالنِّكَاحِ فِي شَرْطٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِي صُلْبِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْبَابِ فِي مَسْأَلَةِ جَوَازِ الْكِتَابَةِ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ أَنَّ أَئِمَّتَنَا قَالُوا بِمُشَابَهَةِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ لِلنِّكَاحِ وَعَمِلُوا بِهَا .
وَرَدُّوا عَلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلَهُ بِمُشَابَهَتِهِ لِلْبَيْعِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُمْ الْعَمَلُ هَاهُنَا بِشَبَهِهِ بِالْبَيْعِ أَيْضًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ مَعًا فِيمَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يُنَافِي الْعَمَلَ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دُونَ الْآخَرِ لِرُجْحَانِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَعًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ أَوْ نَقُولُ إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَخُصُّ الْعَبْدَ إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : لَوْ قَالَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى إعْتَاقٌ أَوْ قَالَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ عِتْقٌ كَانَ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : كُلُّ مَنْ شِقَّيْ كَلَامِهِ مَنْظُورٌ فِيهِ .
أَمَّا شِقُّهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي جَانِبِ الْمَوْلَى إعْتَاقٌ لَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ ، لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَخُصُّ الْعَبْدَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْكِتَابَةِ إعْتَاقًا فِي جَانِبِ الْمَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ مُفَسَّرًا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ إعْتَاقًا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلِهَذَا قَالَ : إنَّ الْكِتَابَةَ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ .
وَأَمَّا شِقُّهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ فِي قَوْلِهِ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ دُونَ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ فَيَئُولُ إلَى الْعِتْقِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ إعْتَاقٌ وَقَوْلُهُ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ
عِتْقٌ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ ضَعِيفٌ ، إذْ حَاصِلُ كَلَامِهِمْ أَنَّ الْكِتَابَةَ تُشْبِهُ الْعِتْقَ وَالْعِتْقُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْكِتَابَةُ أَيْضًا بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ لِشُبْهَةٍ بِالْعِتْقِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ لِشُبْهَةٍ بِالْعِتْقِ أَثَرٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَفْسُدَ الْكِتَابَةُ أَيْضًا إذَا دَخَلَ الشَّرْطُ الْفَاسِدُ فِي صُلْبِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنْ الْبَيَانِ ضَعِيفٌ .
وَالْأَوْلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ رِعَايَةِ الشَّبَهَيْنِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ اعْتِرَاضِ صَاحِبِ الْغَايَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ : وَلَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُهُ بِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ مِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ فَإِنَّهَا مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى مُعَاوَضَةٌ فَلِذَلِكَ فَسَدَتْ بِالدَّاخِلِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، أَوْ نَقُولُ يَنْدَفِعُ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ وَجْهَيْ دَفْعِهِ غَيْرُ سَالِمٍ .
أَمَّا وَجْهُهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابَةِ مِنْ جَانِبِ الْمَوْلَى مُعَاوَضَةً مُتَحَقِّقٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ الْكِتَابَةِ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِلَّةً لِلْفَسَادِ لَفَسَدَتْ بِغَيْرِ الدَّاخِلِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ أَيْضًا ، وَإِنْ رُجِعَ إلَى الْعَمَلِ بِكَوْنِهَا مُعَاوَضَةً فِيمَا دَخَلَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَبِكَوْنِهَا إعْتَاقًا فِي غَيْرِ مَا دَخَلَ فِيهِ رِعَايَةً لِلشَّبَهَيْنِ رُجِعَ هَذَا الْوَجْهُ إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا وَجْهُهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِقَوْلِهِ فِي حَقِّ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ .
إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا كَانَ لِشَبَهِهِ بِالْعِتْقِ أَثَرٌ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ إعْتَاقًا فِي غَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ أَيْضًا
قَالَ ( وَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ ، وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ ، وَيَجُوزُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ( وَلَا يَهَبُ وَلَا يَتَصَدَّقُ إلَّا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ ) لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ تَبَرُّعٌ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ لَيُمَلِّكَهُ ، إلَّا أَنَّ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ضِيَافَةٍ وَإِعَارَةٍ لِيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْمُجَاهِزُونَ .
وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ وَتَوَابِعِهِ ( وَلَا يَتَكَفَّلُ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ ، فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَالِاكْتِسَابِ وَلَا يَمْلِكُهُ بِنَوْعَيْهِ نَفْسًا وَمَالًا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ ( وَلَا يُقْرِضُ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ الِاكْتِسَابِ ( فَإِنْ وَهَبَ عَلَى عِوَضٍ لَمْ يَصِحَّ ) لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً ( وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ جَازَ ) لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمَهْرَ فَدَخَلَ تَحْتَ الْعَقْدِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ، لِأَنَّ مَآلَهُ الْعِتْقُ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ كَالْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَقْدُ اكْتِسَابٍ لِلْمَالِ فَيَمْلِكُهُ كَتَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَكَالْبَيْعِ وَقَدْ يَكُونُ هُوَ أَنْفَعَ لَهُ مِنْ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِ وَالْبَيْعُ يُزِيلُهُ قَبْلَهُ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ثُمَّ هُوَ يُوجِبُ لِلْمَمْلُوكِ مِثْلَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ .
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ عَلَى مَالٍ لِأَنَّهُ يُوجِبُ فَوْقَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ .
قَالَ : فَإِنْ أَدَّى الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ الْأَوَّلُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى ، لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَوْعَ مِلْكٍ .
وَتَصِحُّ إضَافَةُ الْإِعْتَاقِ إلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى مُبَاشِرِ الْعَقْدِ لِعَدَمِ
الْأَهْلِيَّةِ أُضِيفَ إلَيْهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ( فَلَوْ أَدَّى الْأَوَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَتَقَ لَا يَنْتَقِلُ الْوَلَاءُ إلَيْهِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى جُعِلَ مُعْتِقًا وَالْوَلَاءُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمُعْتِقِ ( وَإِنْ أَدَّى الثَّانِي بَعْدَ عِتْقِ الْأَوَّلِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ) لِأَنَّ الْعَاقِدَ مِنْ أَهْلِ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ فَيَثْبُتُ لَهُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ ضَرُورَةَ التَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُودِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : تَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ تَعْمِيمُ هَذَا الدَّلِيلِ لِعَدَمِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا ؟ وَقَالَ : وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَلْ يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ لَهُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَدَارَ حُكْمِهِ بِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ هُوَ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بِتَزْوِيجِ نَفْسَهَا تَتَمَلَّكُ الْمَهْرَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ وَسِيلَةً إلَى اكْتِسَابِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَمَأْخَذُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابُ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمَهْرَ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ انْتَهَى .
لَكِنَّهُ لَيْسَ بِتَامٍّ ، فَإِنَّ بَيْنَ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا وَتَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ فَرْقًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ مَسْأَلَةِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبِ أَمَتَهُ فِيمَا سَيَأْتِي ، وَقَدْ أَوْضَحَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ سَأَلَ هُنَاكَ بِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا مَلَكَ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ تَمْلِكَ الْمُكَاتَبَةُ تَزْوِيجَ نَفْسِهَا لِوُجُودِ هَذِهِ الْعِلَّةِ فِيهَا لِأَنَّهَا تَكْسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَتُسْقِطُ نَفَقَتَهَا عَنْ نَفْسِهَا .
وَمَعَ ذَلِكَ ذَكَرَ فِي بَابِ جِنَايَةِ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ وَوَلَدِهِ مِنْ كِتَابِ عَتَاقِ الْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى .
وَأَجَابَ بِأَنَّ تَزْوِيجَ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا لَيْسَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ بَلْ لِلتَّحْصِينِ وَالْعِفَّةِ ، فَإِنَّ مَقْصُودَهَا مِنْ تَزْوِيجِ نَفْسِهَا شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْمَالِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْفَكُّ الثَّابِتُ بِالْكِتَابَةِ .
وَقَالَ : وَبِهَذَا وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ ، وَعَزَاهُ إلَى الْمَبْسُوطِ .
فَتَلَخَّصَ مِنْ ذَلِكَ الْجَوَابِ
أَنَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ لِعَدَمِ جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمُكَاتَبَةِ نَفْسَهَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ تَقِفْ .
نَعَمْ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ الشُّرَّاحِ وَصَاحِبِ الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالتَّزَوُّجُ لَيْسَ وَسِيلَةً إلَيْهِ بَلْ فِيهِ الْتِزَامُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ يُشْعِرُ بِاخْتِصَاصِ هَذَا الدَّلِيلِ بِالْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّ الْتِزَامَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ دُونَ الْمُكَاتَبَةِ ، لَكِنْ الْكَلَامُ فِي إمْكَانِ تَعْمِيمِ الدَّلِيلِ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ ، ثُمَّ إنَّ الدَّلِيلَ الْأَظْهَرَ الْخَالِيَ عَنْ شَائِبَةٍ تُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ بِالْمُذَكَّرِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ، وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ } لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَمَكَاسِبَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ وَاحِدُهُمَا بِالنِّكَاحِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
نَعَمْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ بِعِبَارَتِهِ وَرَدَ فِي الْمُذَكَّرِ وَلَكِنْ بِدَلَالَتِهِ يَعُمُّ الْمُؤَنَّثَ أَيْضًا لَا مَحَالَةَ
قَالَ ( وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ عَنْ رَقَبَتِهِ وَإِثْبَاتُ الدَّيْنِ فِي ذَمِّهِ الْمُفْلِسِ فَأَشْبَهَ الزَّوَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ عَلَى مَالٍ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّهُ تَنْقِيصٌ لِلْعَبْدِ وَتَعْيِيبٌ لَهُ وَشَغْلُ رَقَبَتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ، بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ لِأَنَّهُ اكْتِسَابٌ لِاسْتِفَادَتِهِ الْمَهْرَ عَلَى مَا مَرَّ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَحَلِّ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا ، وَإِعْتَاقُ الْعَبْدِ عَلَى مَالٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ هَاهُنَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْلِكُهُ ا هـ .
أَقُولُ : قَدْ أَخَلَّ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِحَقِّ الْمَقَامِ فِي تَقْرِيرِ الْكَلَامِ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا كَانَ مِنْ التِّجَارَةِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ أَيْضًا مَا كَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ دُونَ التِّجَارَةِ وَضَرُورَاتِهَا كَتَزْوِيجِ أَمَتِهِ وَكِتَابَةِ عَبْدِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِنَّ الِاكْتِسَابَ أَعَمُّ مِنْ التِّجَارَةِ كَمَا سَيَجِيءُ .
فَالْحَقُّ هَاهُنَا عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الْكَسْبِ وَلَا مِنْ تَوَابِعِهِ .
لَا يُقَالُ : إنَّ مِثْلَ تَزْوِيجِ أَمَتِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَفْسِ التِّجَارَةِ فَانْدَرَجَ فِي قَوْلِهِ أَوْ مِنْ ضَرُورَاتِهَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا أَيْضًا لِأَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ إجْمَاعًا وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ أَمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا سَيَأْتِي .
وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِهَا لَمَلَكَهُ الْمَأْذُونُ لَهُ أَيْضًا إجْمَاعًا .
فَلَا مَحِيصَ عَنْ الْمَحْذُورِ فِي كَلَامِ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ إلَّا بِأَنْ يَجْعَلَ لَفْظَ التِّجَارَةِ فِي كَلَامِهِ مَجَازًا عَنْ مُطْلَقِ الْكَسْبِ إطْلَاقًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ
قَالَ ( وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ ) لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الِاكْتِسَابَ كَالْمُكَاتَبِ ، وَلِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ وَالْكِتَابَةِ نَظَرًا لَهُ ، وَلَا نَظَرَ فِيمَا سِوَاهُمَا وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ .
قَالَ ( فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمُضَارِبُ وَالْمُفَاوِضُ وَالشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ هُوَ قَاسَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْإِجَارَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ يَتَمَلَّكُ الِاكْتِسَابَ وَهَذَا اكْتِسَابٌ ، وَلِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ ) يَعْنِي يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ مَا يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ فِي رَقِيقِ نَفْسِهِ ، وَلَا يَمْلِكَانِ فِي رَقِيقِ الصَّغِيرِ مَا لَا يَمْلِكُهُ فِي رَقِيقِ نَفْسِهِ فَيَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ أَمَةِ الصَّغِيرِ وَكِتَابَةَ عَبْدِهِ لَا تَزْوِيجَهُ وَلَا بَيْعَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا إعْتَاقَهُ عَلَى مَالٍ ، كَذَا قَالُوا .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ فِي الْحَاشِيَةِ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْإِعْتَاقُ عَلَى مَالٍ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ عَلَى مَا مَرَّ وَلَا مَانِعَ هَاهُنَا ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ كَوْنَ الْعِتْقِ فَوْقَ الْكِتَابَةِ مَانِعٌ ثَمَّةَ فَإِذَا مَلَكَا الْبَيْعَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَا الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ أَيْضًا ا هـ .
أَقُولُ : لَمْ يَمُرَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلَا فِي كِتَابِهِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّ الْعِتْقَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي مَرَّ وَتَقَرَّرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنَّ الْكِتَابَةَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ لِأَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ الْبَدَلِ إلَى الْمَالِكِ وَالْبَيْعُ يُزِيلُهُ قُبَيْلَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِعْتَاقَ عَلَى مَالٍ يُزِيلُهُ قَبْلَهُ أَيْضًا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ كَمَا مَرَّ آنِفًا فَلَمْ يَكُنْ أَنْفَعَ مِنْ الْبَيْعِ لَا مَحَالَةَ وَلَا نَظِيرَ الْبَيْعِ فَبَطَلَ قَوْلُهُ فَإِذَا مَلَكَا الْبَيْعَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَا الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ أَيْضًا .
( قَوْلُهُ فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّحْرِيرِ نَوْعُ إشْكَالٍ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ قُبَيْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ أَوْ زَوَّجَ
عَبْدَهُ لَمْ يَجُزْ ، فَمَعَ كَوْنِ كَلِمَةِ أَمَّا فِي قَوْلِهِ فَأَمَّا الْمَأْذُونُ لَهُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَأْبَاهُ ، إذْ حُكْمُ مَا ذَكَرَ قُبَيْلَهُ أَيْضًا عَدَمُ الْجَوَازِ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ ، فَإِنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي هَاتِيكَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ قُبَيْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَا مَعْنَى بَيَانِ خِلَافِ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ مَجْمُوعَ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ بَعْضُ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَإِنَّهُمَا يَجُوزَانِ لِلْمَأْذُونِ لَهُ قَطْعًا كَمَا يَجُوزَانِ لِلْمُكَاتَبِ فَلَا مَعْنَى لِلسَّلْبِ الْكُلِّيِّ .
فَإِنْ قُلْت : الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ مَجْمُوعُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَصَالَةً ، وَمَسْأَلَةُ جَوَازِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالسَّفَرِ إنَّمَا ذُكِرَتْ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَخْ كَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ثَمَّةَ .
قُلْت : قَدْ عَرَفْت هُنَاكَ أَنَّ مَا يَصْلُحُ لِلتَّمْهِيدِ إنَّمَا هُوَ مَسْأَلَةُ جَوَازِ السَّفَرِ دُونَ مَسْأَلَتَيْ جَوَازِ الْبَيْعِ وَجَوَازِ الشِّرَاءِ ، فَحَدِيثُ الذَّكَرِ لِلتَّمْهِيدِ دُونَ الْأَصَالَةِ لَا يَتِمُّ عُذْرًا لَا هُنَاكَ وَلَا هُنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ أَوَّلًا مَا يَصِحُّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمُكَاتَبِ بِقَوْلِهِ صَحَّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَسَفَرُهُ وَإِنْ شَرَطَ ضِدَّهُ وَإِنْكَاحُ أَمَتِهِ وَكِتَابَةُ عَبْدِهِ .
وَثَانِيًا مَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا بِقَوْلِهِ لَا تَزَوُّجُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا هِبَتُهُ وَلَوْ بِعِوَضٍ وَتَصَدُّقُهُ إلَّا بِيَسِيرٍ وَتَكَفُّلُهُ وَإِقْرَاضُهُ وَإِعْتَاقُ عَبْدِهِ وَلَوْ بِمَالٍ .
ثُمَّ لَمَّا قَالَ : وَشَيْءٌ مِنْ ذَا لَا يَصِحُّ مِنْ مَأْذُونٍ وَمُضَارِبٍ وَشَرِيكٍ تَفَطَّنَ شَارِحُهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ لِمَا فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْإِشْكَالِ .
فَحَمَلَ الْإِشَارَةَ عَلَى الْمَنْفِيَّاتِ
فَقَطْ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَزَوُّجُهُ إلَخْ لِكَوْنِهَا عَلَى قَرْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْمِلْهَا عَلَى مَجْمُوعِ الْمَنْفِيَّاتِ وَالْمُثْبَتَاتِ لِعَدَمِ تَمَامِهَا فِي صُورَتَيْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ الْمُثْبَتَاتِ .
وَأَمَّا فِي هَذَا الْكِتَابِ فَلَا يَتَيَسَّرُ هَذَا التَّوْجِيهُ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَنْفِيَّاتِ لَمْ تُذْكَرْ فِيهِ عَلَى قَرْنٍ وَاحِدٍ بَلْ ذُكِرَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفِيَّاتِ وَالْمُثْبَتَاتِ مُخْتَلِطَةً مَعَ الْأُخْرَى فَلَا تُفْهَمُ الْإِشَارَةُ إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْآخَرِ مِنْ اللَّفْظِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ .
لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ قَبِيلِ الْمُثْبَتَاتِ فِي الْمُكَاتَبِ ، وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ كَيْفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَاهُنَا لَا لِلتَّوْجِيهِ وَلَا لِلِاسْتِشْكَالِ مَعَ ظُهُورِ الرَّكَاكَةِ فِي التَّحْرِيرِ ( قَوْلُهُ هُوَ قَاسَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَاعْتَبَرَهُ بِالْإِجَارَةِ ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ قَاسَ الْمَأْذُونَ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ ، وَاعْتَبَرَ التَّزْوِيجَ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْمَأْذُونَ لَهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ قِيَاسِهِ وَاعْتِبَارِهِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ قِيَاسُ الْمَأْذُونِ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ فِيمَا يَجُوزُ لَهُ لَصَحَّ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ فِي كِتَابَةِ عَبْدِهِ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِلْمَأْذُونِ لَهُ أَيْضًا أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، مَعَ أَنَّ كِتَابَةَ الْمَأْذُونِ لَهُ عَبْدَهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَإِنَّهُ لَوْ تَمَّ اعْتِبَارُ التَّزْوِيجِ بِالْإِجَارَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ جَوَازَهَا لِلْمَأْذُونِ لَهُ يَقْتَضِي جَوَازَهُ لَهُ أَيْضًا لَزِمَ أَنْ يَجُوزَ تَزْوِيجُ
عَبْدِهِ أَيْضًا كَمَا يَجُوزُ إجَارَةُ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ عَلَى مَا نَصُّوا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ عَبْدِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ : ثُمَّ اسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْقِيَاسِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَهُمَا الْمَأْذُونُ وَالْمُكَاتَبُ ، وَلَفْظَ الِاعْتِبَارِ فِي الْفِعْلَيْنِ وَهُمَا التَّزْوِيجُ وَالْإِجَارَةُ ، لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْعَيْنَيْنِ ظَاهِرَةٌ ، وَإِذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ فَكَانَ شَرْطُ الْقِيَاسِ مَوْجُودًا فَاسْتَعْمَلَ لَفْظَ الْقِيَاسِ لِذَلِكَ .
وَأَمَّا فِي هَذَيْنِ الْفِعْلَيْنِ فَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِيَّةِ لَا غَيْرُ ، لِمَا أَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ لِلْمَنْفَعَةِ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ الْمَنَافِعِ كَمَا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا بِمُقَابَلَةِ الْأَمْوَالِ الْحَقِيقِيَّةِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الِاعْتِبَارِ هُنَاكَ أَلْيَقَ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكُّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقَ جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ، إذْ لَا يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَثِيرٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى مَا فُصِّلَ فِي كِتَابَيْهِمَا ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقَ التَّصَرُّفِ الَّذِي أُطْلِقَ فِي الْآخَرِ أَيْضًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمَأْذُونِ لَهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرِ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ بَعْضٌ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْجُمْلَةِ فَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ الْمُصَحِّحَةُ لِلْقِيَاسِ فَضْلًا عَنْ ظُهُورِهَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِمَا أَنَّ
الْإِجَارَةَ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إلَخْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ ذَيْنَكَ الْفِعْلَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْفِعْلِيَّةُ لَا غَيْرُ ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْمُمَاثَلَةِ الْغَيْرِ الْفِعْلِيَّةِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَخْصُوصَةِ لَا يَسْتَدْعِي انْتِفَاءَهَا مِنْ الْحَيْثِيَّاتِ الْأُخَرِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُ كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْكَسْبِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَاسِ إنْ كَانَ هُوَ الشَّرْعِيُّ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا نُسَلِّمُ أَوْلَوِيَّتَهُ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ مُنْدَفِعٌ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَاسِ هُوَ الشَّرْعِيُّ كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ جَعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الشَّرْعِيَّةِ .
قَوْلُهُ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيْنَ عَيْنَيْنِ إنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ نَفْسَيْ الْعَيْنَيْنِ مِنْ حَيْثُ ذَاتَيْهِمَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِاسْتِعْمَالِ الْقِيَاسِ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ اسْتِعْمَالَهُ بَيْنَهُمَا مِنْ تِلْكَ الْحَيْثِيَّةِ ، بَلْ مُرَادُهُ بِذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ عَمَلُهُمَا وَتَصَرُّفُهُمَا ، وَلَا رَيْبَ فِي جَرَيَانِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ بِحَيْثِيَّةٍ مِنْ الْحَيْثِيَّاتِ فَهُوَ فَاسِدٌ اسْتِعْمَالًا فِي مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ مِنْ لَفْظِ الِاعْتِبَارِ ، حَتَّى أَنَّ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي أَصْلِ مَعْنَى الْقِيَاسِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ : قَاسَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ قَدَّرَهُ عَلَى مِثَالِهِ ، فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْقِيَاسِ فِي الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَاسْتِعْمَالُ لَفْظِ الِاعْتِبَارِ فِي الْأَمْرَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُمَاثَلَةٌ خَفِيَّةٌ أَوْلَى مِنْ الْعَكْسِ
قَطْعًا ، لِأَنَّ فِيهِ تَوْفِيَةَ الْأَقْوَى لِلْأَقْوَى وَالْأَضْعَفِ لِلْأَضْعَفِ .
ثُمَّ إنْ رَأَى صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْقِيَاسِ وَلَفْظُ الِاعْتِبَارِ مُتَرَادِفَيْنِ حَيْثُ قَالَ قَبْلَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ : وَقَاسَهُ وَاعْتَبَرَهُ مُتَرَادِفَانِ ا هـ .
أَقُولُ : إنْ أَرَادَ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُمَا مُتَرَادِفَانِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ أَوْ الْمُصَنَّفِينَ فَلَا وَجْهَ فَلْيُتَّبَعْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ فَيُعْتَبَرُ بِالْكِتَابَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ) أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى قَوْلِهِ إذْ هِيَ : أَيْ الْإِجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أَنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْتَقَضَ تَعْرِيفُهُمْ الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِمَالٍ بِالْإِجَارَةِ مَعَ أَنَّهُ تَعْرِيفٌ مُسَلَّمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُونَ فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ الْكِتَابَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ الْكِتَابَةِ بِالْإِجَارَةِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ا هـ ، بِأَنَّ مُرَادَهُمْ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَا لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً ، وَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْمَالِ فِي قَوْلِهِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مَا هُوَ مَالٌ حُكْمًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا حَقِيقَةً ، فَإِنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَالِ بِتَسْلِيمِ رَقَبَةِ الْعَيْنِ وَإِقَامَتِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ ، بِخِلَافِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَيُفْصِحُ عَنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَالِ فِي قَوْلِهِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ
الْمَالِ بِالْمَالِ مَا قُلْنَا قَوْلُ صَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ الْمَالِ ا هـ .
ثُمَّ أَقُولُ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ الْمَالُ فِي تَعْرِيفِهِمْ الْبَيْعَ بِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ عَلَى الْمَالِ الْحَقِيقِيِّ دُونَ مَا يَتَنَاوَلُ الْحُكْمِيَّ بِنَاءً عَلَى قَاعِدَةِ انْصِرَافِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْكَمَالِ ، فَحِينَئِذٍ لَا يُرَدُّ انْتِقَاضُ تَعْرِيفِ الْبَيْعِ بِالْإِجَارَةِ لِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ هُنَاكَ مَالٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً كَمَا عَرَفْتَهُ آنِفًا .
ثُمَّ إنَّ عَامَّةَ الشُّرَّاحِ قَالُوا فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مَالٌ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ التَّعْلِيلِ : وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ تَصْلُحُ مَهْرًا فِي النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ شُرِعَ ابْتِغَاؤُهُ بِالْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } ا هـ وَهَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ تَصْلُحُ مَهْرًا فِي بَابِ النِّكَاحِ بَلْ جَعَلَهُ عِلَّةً لِمَا قَبْلَهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ امْرَأَةً عَلَى خِدْمَتِهِ سَنَةً أَوْ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ بَيَانِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ : وَلَنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ الِابْتِغَاءُ بِالْمَالِ وَالتَّعْلِيمُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَا الْمَنَافِعُ عَلَى أَصْلِنَا ا هـ .
فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِمَالٍ عَلَى أَصْلِنَا سِيَّمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَتَأَمَّلْ .
فَصْلٌ قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ ) لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُكَاتِبَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيُجْعَلُ مُكَاتَبًا تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ مَتَى كَانَ يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَوْلَادٍ لَهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَدْخُلُ ) اعْتِبَارًا بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ إذْ وُجُوبُ الصِّلَةِ يَنْتَظِمُهُمَا وَلِهَذَا لَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْحُرِّ فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ .
وَلَهُ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ كَسْبًا لَا مِلْكًا ، غَيْرَ أَنَّ الْكَسْبَ يَكْفِي الصِّلَةَ فِي الْوِلَادِ حَتَّى أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ يُخَاطَبُ بِنَفَقَةِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَلَا يَكْفِي فِي غَيْرِهِمَا حَتَّى لَا تَجِبَ نَفَقَةُ الْأَخِ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ قَرَابَةٌ تَوَسَّطَتْ بَيْنَ بَنِي الْأَعْمَامِ وَقَرَابَةِ الْوِلَادِ فَأَلْحَقْنَاهَا بِالثَّانِي فِي الْعِتْقِ ، وَبِالْأَوَّلِ فِي الْكِتَابَةِ وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ أَسْرَعُ نُفُوذًا مِنْ الْكِتَابَةِ ، حَتَّى أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا كَاتَبَ كَانَ لِلْآخَرِ فَسْخُهُ ، وَإِذَا أَعْتَقَ لَا يَكُونُ لَهُ فَسْخُهُ .
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ دَخَلَ وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا ، أَمَّا دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا امْتِنَاعُ بَيْعِهَا فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدُهَا فَكَذَا الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ لِأَنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ هَذَا الْحَقُّ فِيمَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ تَبَعًا لِثُبُوتِهِ فِي الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَبِدُونِ الْوَلَدِ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ ( وَإِنْ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ مِنْ أَمَةٍ لَهُ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا فِي الْمُشْتَرَى ( وَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِهِ وَكَسْبُهُ لَهُ ) لِأَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبٌ كَسَبَهُ وَيَكُونُ كَذَلِكَ قَبْلَ الدَّعْوَةِ فَلَا يَنْقَطِعُ بِالدَّعْوَةِ اخْتِصَاصُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا لِأَنَّ حَقَّ امْتِنَاعِ الْبَيْعِ ثَابِتٌ فِيهَا مُؤَكَّدًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ .
فَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَسَائِلِ وُقُوعِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ شَرَعَ فِي ذِكْرِ مَسَائِلِ وُقُوعِهَا بِسَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ وَمَا يَتْبَعُهَا لِأَنَّ التَّبَعَ يَتْلُو الْأَصْلَ ( قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ دَخَلَ وَلَدُهَا فِي الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُهَا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ الْمَقَامِ : امْرَأَةُ الْمُكَاتَبِ الْقِنَّةُ إذَا وَلَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا الْمُكَاتَبُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَمَلَكَهَا فَإِنْ مَلَكَهَا مَعَ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِالِاتِّفَاقِ .
أَقُولُ : فِي عِبَارَتِهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ الْقِنَّةَ بِالتَّاءِ فِي وَصْفِ الْمَرْأَةِ تُخَالِفُ اللُّغَةَ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ عَامَّةً أَنَّ لَفْظَ الْقِنِّ يَسْتَوِي فِيهِ الِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالْمُؤَنَّثُ حَيْثُ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ : وَأَمَّا أَمَةٌ قِنَّةٌ فَلَمْ أَسْمَعْهُ ا هـ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا امْتِنَاعُ بَيْعِهَا فَلِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْوَلَدِ فِي هَذَا الْحُكْمِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : إذَا ثَبَتَ لِلْوَلَدِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ يَثْبُتُ لِلْأُمِّ حَقُّهَا وَهَاهُنَا يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْأُمِّ حَقُّهَا تَحْقِيقًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ الْوَلَدِ .
قُلْت : لِلْكِتَابَةِ أَحْكَامٌ : مِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ الْبَيْعِ فَيَثْبُتُ لِلْأُمِّ هَذَا الْحُكْمُ دُونَ الْكِتَابَةِ تَحْقِيقًا لِانْحِطَاطِ الرُّتْبَةِ .
فَإِنْ قُلْت : لِمَ لَا تَصِيرُ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِلْوَلَدِ ؟ قُلْت : لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ عَلَيْهَا ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ عَدَمَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِيرَ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِلْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِيرَ مُكَاتَبَةً أَصَالَةً ، أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ دَخَلَ أَبُوهُ فِي كِتَابَتِهِ وَيَصِيرُ مُكَاتَبًا تَبَعًا
لِوَلَدِهِ كَمَا مَرَّ ، مَعَ أَنَّ الْعَقْدَ مَا وَرَدَ عَلَى الْأَبِ هُنَاكَ أَيْضًا قَطْعًا .
فَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا لَا تَصِيرُ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِوَلَدِهِ تَحْقِيقًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهَا عَنْ وَلَدِهَا فِي حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، أَلَا يُرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ حُرَّةً فِي الْحَالِ تَبَعًا لِحُرِّيَّةِ وَلَدِهَا فِي الْحَالِ بَلْ يَثْبُتُ لَهَا عِتْقٌ مُؤَجَّلٌ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَكَذَا لَا تَصِيرُ مُكَاتَبَةً تَبَعًا لِوَلَدِهَا بَلْ يَثْبُتُ لَهَا بَعْضُ أَحْكَامِ الْكِتَابَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا مَلَكَهُ وَلَدُهُ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي عَيْنِ حُرِّيَّةِ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقُّهَا تَحْقِيقًا لِلصِّلَةِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ عَلَى مَا مَرَّ .
ثُمَّ قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : الْعَقْدُ مَا وَرَدَ عَلَى الْوَلَدِ أَيْضًا .
قُلْت : وَرَدَ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْوَلَدُ جُزْؤُهُ فَيَكُونُ وَارِدًا عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ، لِأَنَّ كَوْنَ قَرَابَةِ الْوَلَدِ قَرَابَةً جُزْئِيَّةً لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وُرُودُ الْعَقْدِ عَلَى الْأَبِ وُرُودًا عَلَى الْوَلَدِ أَيْضًا وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ كِتَابَةُ الْوَلَدِ أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَصَالَةً لَا تَبَعًا لِوَالِدِهِ فَلَا يَصِحُّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ : أَمَّا دُخُولُ الْوَلَدِ فِي الْكِتَابَةِ فَلِمَا ذَكَرْنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَيَلْزَمُ أَيْضًا أَنْ لَا يَثْبُتَ .
فَرْقٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا فِي الِاشْتِرَاءِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا مَعَهَا فِيهِ تَدَبَّرْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُهَا وَإِنْ كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ ، إلَى قَوْلِهِ : وَبِدُونِ الْوَلَدِ لَوْ ثَبَتَ ثَبَتَ ابْتِدَاءً وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْقِيَاسُ كَمَا يَنْفِيهِ ابْتِدَاءً يَنْفِيهِ مَعَ الْوَلَدِ عَلَى مَا
ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الدَّلِيلِ ، فَتَخْصِيصُ نَفْيِهِ بِالِابْتِدَاءِ مَعَ أَنَّهُ مُنَافٍ لِصَدْرِ الْكَلَامِ تَحَكُّمٌ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَحَكُّمٍ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِحْسَانِ بِالْأَثَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ .
وَقَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ يَنْفِيهِ : يَعْنِي وَلَا نَصَّ فِيهِ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدُهَا وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ ، بَلْ هُوَ بِظَاهِرِ إطْلَاقِهِ يَتَنَاوَلُ الصُّورَتَيْنِ مَعًا ، فَقَوْلُهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْأَثَرَ الْمَذْكُورَ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى ثَابِتٌ مُقَرَّرٌ بِدُونِ دَلَالَةِ الْأَثَرِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ فَهُوَ يُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ إذْ هُوَ أَوَّلُ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الْإِمَامَيْنِ لَمْ يَقْبَلَاهُ فَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزَا بَيْعَ الْمُكَاتَبِ امْرَأَتَهُ الْمُشْتَرَاةَ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ وَلَدَهَا قَطُّ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا ، لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ مِلْكَ الْيَمِينِ فَهُوَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي إعْتَاقِ الْوَلَدِ أُمَّهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، أَلَا يُرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا اسْتَوْلَدَ أَمَةَ نَفْسِهِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْأَثَرِ الْمَزْبُورِ بِعَيْنِهِ مَعَ أَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلْأَبِ مِلْكَ الْيَمِينِ بِلَا رَيْبٍ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فِي أَمْرِهِ بِالْوِلَايَةِ عَلَيْهِ فَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ
بِشَرْطٍ فِي إعْتَاقِ الْوَلَدِ أُمَّهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَوْلَدَ أَمَةَ غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ ثُمَّ مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ كِتَابِ الْعَتَاقِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عِنْدَهُمْ ، مَعَ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي أَمْرِ ذَلِكَ الْوَلَدِ فِي الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي كَانَ مَوْلَى ذَلِكَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ أَنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مَمْلُوكَةً لَهُ عِنْدَ الِاسْتِيلَادِ لَا لِأَبِيهِ ، فَظَهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُعْتِقُ الْأُمَّ إذَا مَلَكَهُ الْأَبُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى كُلِّ حَالٍ
قَالَ ( وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا ) لِأَنَّ تَبَعِيَّةَ الْأُمِّ أَرْجَحُ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ .
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ امْرَأَةً زَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَأَوْلَادُهَا عَبِيدٌ وَلَا يَأْخُذُهُمْ بِالْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَأْذَنُ لَهُ الْمَوْلَى بِالتَّزْوِيجِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : أَوْلَادُهَا أَحْرَارٌ بِالْقِيمَةِ ) لِأَنَّهُ شَارَكَ الْحُرَّ فِي سَبَبِ ثُبُوتِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْغُرُورُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا رَغِبَ فِي نِكَاحِهَا إلَّا لِيَنَالَ حُرِّيَّةَ الْأَوْلَادِ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَوْلُودٌ بَيْنَ رَقِيقَيْنِ فَيَكُونُ رَقِيقًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَخَالَفَنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْحُرِّ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى هُنَاكَ مَجْبُورٌ بِقِيمَةٍ نَاجِزَةٍ وَهَاهُنَا بِقِيمَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ .
( وَقَوْلُهُ وَمَنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ ثُمَّ كَاتَبَهُمَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَلَدًا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِمَا وَكَانَ كَسْبُهُ لَهَا أَيْ فِي الدُّخُولِ يَتْبَعُهُمَا ، وَفِي الْكَسْبِ يَتْبَعُهَا خَاصَّةً ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الدُّخُولِ هُوَ الْكَسْبُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ تَأَمُّلٌ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فَائِدَتُهُ أَنْ يُعْتَقَ بِعِتْقِهَا سَوَاءٌ كَسَبَ أَمْ لَا بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْكَسْبِ مَثَلًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ فَائِدَةَ دُخُولِ الْوَلَدِ فِي كِتَابَةِ الْأَبِ هُوَ الْكَسْبُ لَهُ لَا غَيْرُ ، لِأَنَّهُ لَا يَتْبَعُ الْأَبَ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَلَمَّا كَانَ كَسْبُهُ لِلْأُمِّ خَاصَّةً لَمْ تَتَحَقَّقْ فَائِدَةٌ قَطُّ فِي دُخُولِهِ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ فَكَانَ الْقَوْلُ بِدُخُولِهِ فِي كِتَابَةِ أُمِّهِ فَقَطْ هُوَ الْوَجْهُ ، ثُمَّ إنْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِ أُمِّهِ إنَّمَا يَكُونُ فَائِدَةً لِلْوَلَدِ نَفْسِهِ لَا لِلدُّخُولِ فِيهِ .
وَالْكَلَامُ فِي الثَّانِي .
وَلَئِنْ سَلِمَ تَعْمِيمُ الْفَائِدَةِ أَوْ جَعَلَ فَائِدَةَ الْوَلَدِ فَائِدَةً لِأُمِّهِ أَيْضًا فَتِلْكَ الْفَائِدَةُ أَيْضًا إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالنَّظَرِ إلَى دُخُولِهِ فِي كِتَابَةِ أُمِّهِ فَقَطْ ، فَلَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَوَّلِ هُوَ الْوَجْهُ ، بَلْ يُؤَيِّدُهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنْ لَا يَبْلُغَ الْوَلَدُ مَبْلَغَ الْكَسْبِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ هَاهُنَا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِفَائِدَةِ الدُّخُولِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فَائِدَةً فِي الْجُمْلَةِ ، وَالْكَسْبُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهِ يَصِيرُ فَائِدَةً
قَالَ ( وَإِنْ وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً عَلَى وَجْهِ الْمِلْكِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ وَطِئَهَا عَلَى وَجْهِ النِّكَاحِ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ وَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ ) وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِأَنَّ التِّجَارَةَ وَتَوَابِعَهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْكِتَابَةِ ، وَهَذَا الْعُقْرُ مِنْ تَوَابِعِهَا ، لِأَنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَمَا سَقَطَ الْحَدُّ وَمَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ لَا يَجِبُ الْعُقْرُ .
أَمَّا لَمْ يَظْهَرْ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ فِي شَيْءٍ فَلَا تَنْتَظِمُهُ الْكِتَابَةُ كَالْكَفَالَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا ثُمَّ وَطِئَهَا فَرَدَّهَا أُخِذَ بِالْعُقْرِ فِي الْمُكَاتَبَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ ) لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ تَارَةً يَقَعُ صَحِيحًا وَمَرَّةً يَقَعُ فَاسِدًا ، وَالْكِتَابَةُ وَالْإِذْنُ يَنْتَظِمَانِهِ بِنَوْعَيْهِ كَالتَّوْكِيلِ فَكَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى .
فَصْلٌ قَالَ ( وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ مِنْ الْمَوْلَى فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا ، وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) لِأَنَّهَا تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ عَاجِلَةٌ بِبَدَلٍ وَآجِلَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَتُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، وَنَسَبُ وَلَدِهَا ثَابِتٌ مِنْ الْمَوْلَى وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ فِي وَلَدِهَا وَمَا لَهُ مِنْ الْمِلْكِ يَكْفِي لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ بِالدَّعْوَةِ .
وَإِذَا مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ الْعُقْرَ مِنْ مَوْلَاهَا لِاخْتِصَاصِهَا بِنَفْسِهَا وَبِمَنَافِعِهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَا .
ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَتَرَكَتْ مَالًا تُؤَدَّى مِنْهُ مُكَاتَبَتُهَا وَمَا بَقِيَ مِيرَاثٌ لِابْنِهَا جَرْيًا عَلَى مُوجَبِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَتْرُكْ مَالًا فَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ حُرٌّ ، وَلَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْمَوْلَى إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ لِحُرْمَةِ وَطْئِهَا عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَدَّعِ وَمَاتَتْ مِنْ غَيْرِ وَفَاءٍ سَعَى هَذَا الْوَلَدُ لِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ تَبَعًا لَهَا ، فَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ عَتَقَ وَبَطَلَ عَنْهُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ إذْ هُوَ وَلَدُهَا فَيَتْبَعُهَا .
( فَصْلٌ ) مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ جِنْسِ مَسَائِلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، فَفَصَلَهَا بِفَصْلٍ وَوَصَلَهَا بِالذِّكْرِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ، فَإِنْ قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْقُطَ لِأَنَّ الْأَكْسَابَ تُسَلَّمُ لَهَا وَكَذَا أَوْلَادُهَا الَّتِي اشْتَرَاهَا بَعْدُ لِلْكِتَابَةِ وَهَذَا آيَةُ بَقَاءِ الْكِتَابَةِ .
قُلْت : الْكِتَابَةُ تُشْبِهُ الْمُعَاوَضَةَ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ الْبَدَلُ وَتُشْبِهُ الشَّرْطَ ، وَبِالنَّظَرِ إلَيْهِ يَسْقُطُ ، أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ فَلَمَّا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ بَطَلَتْ جِهَةُ الْكِتَابَةِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ وَقُلْنَا بِسَلَامَةِ الْأَكْسَابِ عَمَلًا بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَقُلْنَا بِسُقُوطِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَمَلًا بِجِهَةِ الشَّرْطِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ ، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ جِهَةَ كَوْنِ الْكِتَابَةِ مُعَاوَضَةً تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ سُقُوطِ الْبَدَلِ ، وَجِهَةَ كَوْنِهَا شَرْطًا تَسْتَلْزِمُ سُقُوطَهُ ، وَهُمَا : أَيْ السُّقُوطُ وَعَدَمُهُ مُتَنَافِيَانِ قَطْعًا لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَتَنَافِي اللَّازِمَيْنِ يُوجِبُ تَنَافِي الْمَلْزُومَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا كَذَلِكَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ لَوْ تُصُوِّرَ هَاهُنَا فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ ثُبُوتِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُشَابِهُ لِكُلٍّ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ وَالشَّرْطِ ، لَا عِنْدَ بُطْلَانِهَا لِأَنَّهُ يَنْتَفِي حِينَئِذٍ مَحِلُّ الْمُشَابَهَةِ
بِالْكُلِّيَّةِ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ : فَلَمَّا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ بَطَلَتْ جِهَةُ الْكِتَابَةِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ .
وَقُلْنَا بِسَلَامَةِ الْأَكْسَابِ عَمَلًا بِشَبَهِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَقُلْنَا بِسُقُوطِ الْكِتَابَةِ عَمَلًا بِشَبَهِ الشَّرْطِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ بِقَوْلِهِ غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ انْتَهَى تَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ ) لِحَاجَتِهَا إلَى اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ ، وَلَا يُنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ ( فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ ) لِتَعَلُّقِ عِتْقِهَا بِمَوْتِ السَّيِّدِ ( وَسَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ إيجَابِ الْبَدَلِ الْعِتْقُ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، فَإِذَا عَتَقَتْ قَبْلَهُ لَمْ يُمْكِنْ تَوْفِيرُ الْغَرَضِ عَلَيْهِ فَسَقَطَ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ لِامْتِنَاعِ إبْقَائِهَا بِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَلَوْ أَدَّتْ الْمُكَاتَبَةُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا كَاتَبَ الْمَوْلَى أُمَّ وَلَدِهِ جَازَ لِحَاجَتِهَا إلَى اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَذَلِكَ بِالْكِتَابَةِ ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ تَلَقَّتْهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَا يُقَالُ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ بِلَا بَدَلٍ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ ، لِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا لِكَوْنِهِمَا جِهَتَيْ عِتْقٍ تَلَقَّتَاهَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ انْتَهَى .
وَرَدَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا فَكَانَا مُتَنَافِيَيْنِ بِأَنْ قَالَ : إنْ أَرَادَ الْوَحْدَةَ الشَّخْصِيَّةَ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ، كَيْفَ وَفِي الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ أَرَادَ النَّوْعِيَّةَ فَلَا تَنَافِي انْتَهَى .
أَقُولُ : وَهُوَ مَرْدُودٌ بِشِقَّيْهِ .
أَمَّا شِقُّهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا الْوَحْدَةُ الشَّخْصِيَّةُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا مَجَالَ لِعَدَمِ تَسْلِيمِهِ ، لِأَنَّهُ مَا قَالَ الْعِتْقُ الْوَاحِدُ يَثْبُتُ بِهِمَا حَتَّى لَا يَسْلَمَ ذَلِكَ وَيُجْعَلَ اخْتِلَافُ الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ ، وَالْعِتْقِ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فِي اللَّوَازِمِ سَنَدًا لِمَنْعِ ذَلِكَ ، بَلْ قَالَ : الْعِتْقُ الْوَاحِدُ لَا يَثْبُتُ بِهِمَا ، وَعَدَمُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ الْوَاحِدِ الشَّخْصِيِّ بِالسَّبَبَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ فِي اللَّوَازِمِ أَمْرٌ جَلِيٌّ لَا يَقْبَلُ الْمَنْعَ ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ وَفِي الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ إلَخْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ سَنَدًا لِمَنْعِ ذَلِكَ ، بَلْ إنَّمَا يَكُونُ عِلَّةً لِسُقُوطِ الْمَنْعِ عَنْهُ .
وَأَمَّا شِقُّهُ الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فَلَا تَنَافِي فِي قَوْلِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ النَّوْعِيَّةَ فَلَا تَنَافِي أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الِاجْتِمَاعُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَالْعِتْقُ
بِالْكِتَابَةِ يَسْتَلْزِمُ سَلَامَةَ الْأَكْسَابِ لَهَا ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ بِأُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ فَأَنَّى يَجْتَمِعَانِ مَعًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ التَّلَقِّي عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَهُوَ عَيْنُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلٍ لَا يُقَالُ ( قَوْلُهُ غَيْرَ أَنَّهُ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ ، لِأَنَّ الْفَسْخَ لِنَظَرِهَا وَالنَّظَرُ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : النَّظَرُ فِي إيفَاءِ حَقِّهَا إلَيْهَا وَحَقُّهَا الْحُرِّيَّةُ وَقَدْ حَصَلَ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ، لِأَنَّ الْكَسْبَ حَصَلَ لَهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَكَلَامِنَا فِيهِ ، وَلَمْ تُعْتَقْ هِيَ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى بَلْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ حِينَئِذٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْكَسْبُ لِلْمَوْلَى لَا لَهَا لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالِاسْتِيلَادِ لَا بِالْكِتَابَةِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : بَعْدَ نَقْلِ هَذَا الْإِيرَادِ عَنْ الشَّارِحِ الْمَزْبُورِ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَيْرِ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ ، وَمِلْكُهَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهِ تَأَمَّلْ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِدَفْعٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ فِي أَكْسَابِهِمَا إنَّمَا هُوَ يَدًا لَا رَقَبَةً وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ فِيهِمَا ، وَإِنَّمَا رَقَبَةُ أَكْسَابِهِمَا مِلْكُ مَوْلَاهُمَا كَرَقَبَةِ أَنْفُسِهِمَا مَا لَمْ يُؤَدِّيَا بَدَلَ كِتَابَتِهِمَا بِالتَّمَامِ كَمَا يُفْهَمُ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا سَبَقَ وَمِمَّا يَأْتِي .
فَقَوْلُهُ وَمِلْكُهَا يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ مِلْكِ الْغَيْرِ فِيهِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ مِلْكَهَا فِي كَسْبِهَا يَدًا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْغَيْرِ الَّذِي هُوَ الْمَوْلَى فِيهِ رَقَبَةً فَلَا يَنْدَفِعُ الِاسْتِشْكَالُ بِلُزُومِ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ :
وَلَنَا فِي قَوْلِهِ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَوْلَادُ أَيْضًا نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْأَوْلَادِ بِالتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَوْ اُعْتُبِرَتْ مَفْسُوخَةً أَيْضًا فِي حَقِّ الْأَوْلَادِ يَكُونُ النَّظَرُ لَهَا بَاقِيًا ، لِأَنَّ حُكْمَ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ لَهُ حُكْمُ الْأُمِّ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْأُمِّ حَالَةَ الْوِلَادَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوْلَادِ الَّتِي ذُكِرَتْ بِالتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ هِيَ الْأَوْلَادُ الَّتِي وُلِدَتْ قَبْلَ كِتَابَةِ أُمِّهَا مِنْ غَيْرِ مَوْلَى أُمِّهَا وَقَدْ اشْتَرَتْهَا أُمُّهَا حَالَةَ الْكِتَابَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ فَسَّرَ الْأَوْلَادَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ تُسَلَّمُ لَهَا الْأَكْسَابُ وَالْأَوْلَادُ بِقَوْلِهِ : أَيْ الْأَوْلَادُ الَّتِي اشْتَرَتْهَا الْمُكَاتَبَةُ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ لَا الْأَوْلَادُ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ مَوْلَاهَا انْتَهَى .
وَلَا شَكَّ فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَيَانِ سَلَامَةِ أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَوْلَادِ ، إذْ لَوْ اُعْتُبِرَتْ الْكِتَابَةُ مَفْسُوخَةً أَيْضًا فِي حَقٍّ بِأَمْثَالِهِمْ لَكَانُوا أَرِقَّاءَ لِوَرَثَةِ الْمَوْلَى فَلَمْ يَكُنْ النَّظَرُ لَهَا بَاقِيًا فِي حَقِّهِمْ إذْ ذَاكَ قَطْعًا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْكِتَابَةُ عَقْدُ أَحَدٍ فَكَيْفَ وَيُتَصَوَّرُ بُطْلَانُهُ وَعَدَمُ بُطْلَانِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ تَحْقِيقَ كَلَامِهِ أَنَّ بُطْلَانَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ يُتَصَوَّرُ بِاعْتِبَارَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْطُلَ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ عَنْ إيفَاءِ الْبَدَلِ ، وَالثَّانِي أَنْ يَبْطُلَ بِانْتِهَائِهِ بِإِيفَائِهِ .
وَبِالْأَوَّلِ يَعُودُ رَقِيقًا فَأَوْلَادُهُ وَأَكْسَابُهُ لِمَوْلَاهُ ، وَبِالثَّانِي يُعْتَقُ هُوَ وَأَوْلَادُهُ وَيَخْلُصُ لَهُ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْسَابِهِ ، وَحَيْثُ احْتَجْنَا إلَى إبْطَالِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لِلْمُكَاتَبِ وَكَانَ النَّظَرُ لَهُ فِي الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ صِرْنَا إلَيْهِ .
أَقُولُ :
لَا السُّؤَالُ شَيْءٌ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْكِتَابَةِ عَقْدًا وَاحِدًا لَا يُنَافِي تَصَوُّرَ بُطْلَانِهِ وَعَدَمَ بُطْلَانِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، فَإِنَّهُمْ شَرَطُوا فِي تَحَقُّقِ التَّنَاقُضِ أُمُورًا مِنْهَا وَحْدَةُ الْجِهَةِ ، وَهَاهُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ تِلْكَ الْوَحْدَةُ لِأَنَّ بُطْلَانَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِنْ جِهَةِ الْبَدَلِ وَعَدَمَ بُطْلَانِهِ مِنْ جِهَةِ الْأَوْلَادِ وَالْأَكْسَابِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ، لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ فَلَا مَحْذُورَ أَصْلًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ انْتِهَاءَ الْكِتَابَةِ بِإِيفَاءِ الْبَدَلِ إنَّمَا هُوَ تَمَامُهَا وَتَقَرُّرُهَا ، فَجُعِلَ أَحَدُ طَرِيقَيْ بُطْلَانِهَا مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ .
وَثَانِيهَا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ مِمَّنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ إيفَاءُ الْبَدَلِ فَكَيْفَ يُحْمَلُ بُطْلَانُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّهَا عَلَى إيفَائِهِ وَاعْتِبَارِ غَيْرِ الْوَاقِعِ وَاقِعًا لِمُجَرَّدِ النَّظَرِ لَهَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ .
وَثَالِثُهَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقِيَتْ فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ يُنَافِي الْمَعْنَى الَّذِي عَدَّهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ تَحْقِيقَ كَلَامِهِ ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُحْمَلَ الْمَقَامُ عَلَى انْتِهَاءِ الْكِتَابَةِ بِإِيفَاءِ تَمَامِ الْبَدَلِ يَصِيرُ إتْمَامُ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَفِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ عَلَى السَّوَاءِ كَمَا هُوَ الْحَالُ عِنْدَ إيفَاءِ الْبَدَلِ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ لِاعْتِبَارِ انْفِسَاخِ الْكِتَابَةِ فِي حَقِّ الْبَدَلِ وَبَقَائِهَا فِي حَقِّ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ وَجْهٌ .
وَرَابِعُهَا أَنَّ حَمْلَ بُطْلَانِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ هَاهُنَا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي الَّذِي تَخَيَّلَهُ هَذَا الشَّارِحُ لَا يَدْفَعُ أَصْلَ السُّؤَالِ ، لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ عَلَى أَيِّ
مَعْنًى كَانَ وَعَدَمَهُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُتَنَافِيَانِ قَطْعًا إذَا كَانَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ صِيرَ إلَى اخْتِلَافِ الْجِهَتَيْنِ لَا يَبْقَى احْتِيَاجٌ إلَى مُقَدِّمَةٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَا يُقَالُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ لِأَنَّهُ عَلَّلَ بُطْلَانَهُ بِامْتِنَاعِ بَقَائِهِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ ، ثُمَّ عَلَّلَهُ بِالنَّظَرِ لَهُ وَالْمَعْلُولُ الْوَاحِدُ بِالشَّخْصِ لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، لِأَنَّ لِلْكِتَابَةِ جِهَتَيْنِ : جِهَةٌ هِيَ لِلْمُكَاتَبِ ، وَجِهَةٌ هِيَ عَلَيْهِ ، وَعَلَّلَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى وَالْأُولَى بِالثَّانِيَةِ فَتَأَمَّلْهُ فَلَعَلَّهُ سَدِيدٌ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا السُّؤَالُ أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَجَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمَعْلُولَ الْوَاحِدَ بِالشَّخْصِ إنَّمَا لَا يُعَلَّلُ بِعِلَّتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ .
وَأَمَّا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ فَيُعَلَّلُ بِهِمَا قَطْعًا عَلَى مَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَفِي سَائِرِ الْمَسَائِلِ الَّتِي يُذْكَرُ لَهَا دَلِيلَانِ أَوْ أَدِلَّةٌ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ أَوْ الْأَدِلَّةِ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُعَلَّلَ بِهِ الْمَطْلُوبُ بَدَلًا عَنْ الْآخَرِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُعَلَّلِ بِالْعِلَّةِ الْأُولَى الْجِهَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْمُكَاتَبِ مَمْنُوعٌ ، لِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ أَنْ يَلْزَمَهُ إبْقَاءُ الْبَدَلِ وَقَوْلُهُ لِامْتِنَاعِ إبْقَائِهَا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفَائِدَةِ بِسُقُوطِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْهَا ، وَإِذَا أُسْقِطَ عَنْهَا الْبَدَلُ لَا يَلْزَمُهَا إيفَاؤُهُ قَطْعًا فَلَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوْزِيعِ التَّعْلِيلَيْنِ عَلَى مَا لَهَا وَمَا عَلَيْهَا سَدِيدًا كَمَا لَا يَخْفَى
قَالَ ( وَإِنْ كَاتَبَ مُدَبَّرَتَهُ جَازَ ) لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَاجَةِ وَلَا تَنَافِي ، إذْ الْحُرِّيَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ مُجَرَّدُ الِاسْتِحْقَاقِ ( وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ تَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا أَوْ جَمِيعِ مَالِ الْكِتَابَةِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَسْعَى فِي أَقَلَّ مِنْهُمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا وَثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَالْخِلَافُ فِي الْخِيَارِ وَالْمِقْدَارِ ، فَأَبُو يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمِقْدَارِ ، وَمَعَ مُحَمَّدٍ فِي نَفْيِ الْخِيَارِ .
أَمَّا الْخِيَارُ فَفَرْعُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ لَمَّا تَجَزَّأَ بَقِيَ الثُّلُثَانِ رَقِيقًا وَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ بِبَدَلَيْنِ مُعَجَّلٌ بِالتَّدْبِيرِ وَمُؤَجَّلٌ بِالْكِتَابَةِ فَتُخَيَّرُ .
وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ الْمَالَيْنِ فَتَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ .
وَأَمَّا الْمِقْدَارُ فَلِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَابَلَ الْبَدَلَ بِالْكُلِّ وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا الثُّلُثَ بِالتَّدْبِيرِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَجِبَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ لَهَا الْكُلَّ بِأَنْ خَرَجَتْ مِنْ الثُّلُثِ يَسْقُطُ كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُنَا يَسْقُطُ الثُّلُثُ وَصَارَ كَمَا إذَا تَأَخَّرَ التَّدْبِيرُ عَنْ الْكِتَابَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ مُقَابَلٌ بِثُلُثَيْ رَقَبَتِهَا فَلَا يَسْقُطُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ وَإِنْ قُوبِلَ بِالْكُلِّ صُورَةً وَصِيغَةً لَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا ذَكَرْنَا مَعْنًى وَإِرَادَةً لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ وَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثِنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا عَلَى أَلْفٍ كَانَ جَمِيعُ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ الْبَاقِيَةِ
لِدَلَالَةِ الْإِرَادَةِ ، كَذَا هَاهُنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَقَدَّمَتْ الْكِتَابَةُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تَلِيهِ لِأَنَّ الْبَدَلَ مُقَابَلٌ بِالْكُلِّ إذْ لَا اسْتِحْقَاقَ عِنْدَهُ فِي شَيْءٍ فَافْتَرَقَا قَالَ ( وَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ صَحَّ التَّدْبِيرُ ) لِمَا بَيَّنَّا .
( وَلَهَا الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَتْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ مُدَبَّرَةً ) لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فِي جَانِبِ الْمَمْلُوكِ ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى كِتَابَتِهَا فَمَاتَ الْمَوْلَى وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ سَعَتْ فِي ثُلُثَيْ مَالِ الْكِتَابَةِ أَوْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : تَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْهُمَا ، فَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْخِيَارِ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
أَمَّا الْمِقْدَارُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَوَجْهُهُ مَا بَيَّنَّا .
( قَوْلُهُ وَالْإِعْتَاقُ عِنْدَهُ لِمَا تَجَزَّأَ ) بَقِيَ الثُّلُثَانِ رَقِيقًا وَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا حُرِّيَّةٍ بِبَدَلَيْنِ مُعَجَّلٌ بِالتَّدْبِيرِ ( وَمُؤَجَّلٌ بِالْكِتَابَةِ فَتُخَيَّرُ ) لِأَنَّ فِي التَّخْيِيرِ فَائِدَةً وَإِنْ كَانَ جِنْسُ الْمَالِ مُتَّحِدًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَدَاءُ أَكْثَرِ الْمَالَيْنِ أَيْسَرَ بِاعْتِبَارِ الْأَجَلِ وَأَدَاءُ أَقَلِّهِمَا أَعْسَرَ لِكَوْنِهِ حَالًّا فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَعَزَاهُ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الْفَائِدَةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ إنْ كَانَ الْبَدَلُ الْمُعَجَّلُ بِالتَّدْبِيرِ أَقَلَّ مِنْ الْبَدَلِ الْمُؤَجَّلِ بِالْكِتَابَةِ .
وَأَمَّا فِي الْعَكْسِ فَلَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَدَاءَ الْأَقَلِّ الْمُؤَجَّلِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ الْمُعَجَّلِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْيِيرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَصْلًا لِتَعَيُّنِ اخْتِيَارِهَا الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ صَاحِبَاهُ ، مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْخِيَارِ يَعُمُّ بِالصُّورَتَيْنِ عِنْدَهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ إطْلَاقِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكُتُبِ بِأَسْرِهَا ( قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَجَبَ عَلَيْهَا أَحَدُ الْمَالَيْنِ فَتَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لَمْ يَتَجَزَّأْ عِنْدَهُمَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالتَّدْبِيرِ لِعِتْقِ بَعْضِهَا بِهِ وَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَوَجَبَ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا لَا غَيْرُ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّا قَدْ حَكَمْنَا بِصِحَّةِ الْكِتَابَةِ نَظَرًا لَهَا فَتَبْقِيَتُهَا لِذَلِكَ فَلَرُبَّمَا يَكُونُ بَدَلُهَا أَقَلَّ فَيَحْصُلُ النَّظَرُ بِوُجُوبِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ إشْكَالٌ ، لِأَنَّ الْقَوْلَ بِإِبْقَاءِ الْكِتَابَةِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ عَتَقَ كُلُّهَا بِالتَّدْبِيرِ يُنَافِي قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ، وَعِنْدَهُمَا لَمَّا
عَتَقَ كُلُّهَا بِعِتْقِ بَعْضِهَا فَهِيَ حُرَّةٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْكِتَابَةَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ إبْقَاءُ الْكِتَابَةِ فِيهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ حُرَّةً عِنْدَهُمَا .
فَإِنْ قُلْت : الْمُرَادُ إبْقَاءُ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لَا إبْقَاءُ حَقِيقَتِهَا وَالْمُنَافِي لِلْحُرِّيَّةِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ .
قُلْت : لَوْ أَبْقَى حُكْمَ الْكِتَابَةِ لِأَبْقَى تَأْجِيلَهَا لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهَا .
وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكَافِي فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ هُنَا .
وَعِنْدَهُمَا لَمَّا عَتَقَ كُلُّهُ بِعِتْقِ ثُلُثِهِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَبَطَلَ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ الْكِتَابَةِ وَبَقِيَ أَصْلُ الْمَالِ عَلَيْهِ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ إلَخْ .
وَلَوْ أَبْقَى تَأْجِيلَهَا لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُمَا فَتَخْتَارَ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ ، فَلَا مَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ لِجَوَازِ أَنْ تَخْتَارَ الْأَكْثَرَ الْمُؤَجَّلَ لِكَوْنِ أَدَائِهِ أَيْسَرَ مِنْ أَدَاءِ الْأَقَلِّ الْمُعَجَّلِ كَمَا مَرَّ فِي بَيَانِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْمَعْنَى لِلتَّخْيِيرِ فَلَا تَنْقَطِعُ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ ( قَوْلُهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ ) أَقُولُ : لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مُجَرَّدِ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ ، وَالثَّابِتُ فِي الْمُدَبَّرَةِ فِي الْحَالِ مُجَرَّدُ اسْتِحْقَاقِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا فَجَازَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى اسْتِفَادَةِ حَقِيقَتِهَا عَاجِلًا فَتَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابِلَتِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُكَاتِبَ أُمَّ وَلَدِهِ بِالْإِجْمَاعِ مَعَ اسْتِحْقَاقِهَا حُرِّيَّةَ الْكُلِّ قَطْعًا لِعِتْقِهَا عِنْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ دُونَ ثُلُثِهِ ، فَإِذَا جَازَ الْتِزَامُ الْمَالِ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ بِمُقَابَلَةِ مَا تَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ كُلًّا لِلِاحْتِيَاجِ إلَى
اسْتِفَادَةِ الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى كَمَا مَرَّ ، فَلَأَنْ جَازَ ذَلِكَ مِنْ الْمُدَبَّرَةِ بِمُقَابَلَةِ مَا تَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ بَعْضًا لِتِلْكَ الْعِلَّةِ بِعَيْنِهَا أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا التَّعْلِيلَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : لَا يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ اسْتَحَقَّ حُرِّيَّةَ الْكُلِّ عِنْدَهُ لِعَدَمِ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ ا هـ .
أَقُولُ : ذَاكَ سَاقِطٌ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُدَبَّرَ وَالْمُدَبَّرَةَ يَسْتَحِقَّانِ بِالتَّدْبِيرِ حُرِّيَّةَ الْكُلِّ عِنْدَهُ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَلِهَذَا يُعْتَقَانِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَيَسْعَيَانِ فِي ثُلُثِهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُمَا بِالْإِجْمَاعِ ، وَثُبُوتُ عِتْقِ الْكُلِّ بِعِتْقِ الْبَعْضِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى عَلَى أَصْلِ الْإِمَامَيْنِ وَهُوَ عَدَمُ تَجَزُّؤِ الْإِعْتَاقِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ حُرِّيَّةِ الثُّلُثِ بِنَفْسِ التَّدْبِيرِ عِنْدَهُمَا أَيْضًا .
وَلَئِنْ سَلِمَ اسْتِحْقَاقُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ بِنَفْسِ التَّدْبِيرِ حُرِّيَّةَ الْكُلِّ عِنْدَهُمَا فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ حُرِّيَّةَ الثُّلُثِ ظَاهِرًا هُوَ أَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهَا مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهَا سِعَايَةٌ فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ كَمَا تَلْزَمُهَا فِي الثُّلُثَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، وَبِقَوْلِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ هُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ مَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ مَجَّانًا ، بِخِلَافِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ حُرِّيَّتَهُ أَوْ يَسْتَحِقُّهَا وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ مَالِ السِّعَايَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمَالَ بِمُقَابَلَتِهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْلِ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا تَفَكَّرْ تَفْهَمْ .
قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ ) لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِيهِ ( وَسَقَطَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ ) لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَهُ إلَّا مُقَابَلًا بِالْعِتْقِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ دُونَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ، وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَازِمَةً فِي جَانِبِ الْمَوْلَى وَلَكِنَّهُ يُفْسَخُ بِرِضَا الْعَبْدِ وَالظَّاهِرُ رِضَاهُ تَوَسُّلًا إلَى عِتْقِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ مَعَ سَلَامَةِ الْأَكْسَابِ لَهُ لِأَنَّا نُبْقِي الْكِتَابَةَ فِي حَقِّهِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَجَّلَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ) اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ فَكَانَ رِبًا ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الْحُرِّ وَمُكَاتَبِ الْغَيْرِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ فَأُعْطِيَ لَهُ حُكْمُ الْمَالِ ، وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَاعْتَدَلَا فَلَا يَكُونُ رِبًا ، وَلِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَالْأَجَلُ رِبًا مِنْ وَجْهٍ فَيَكُونُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَ رِبًا وَالْأَجَلُ فِيهِ شُبْهَةٌ .
( قَوْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ فَكَانَ رِبًا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ اعْتِيَاضٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَا هُوَ مَالٌ ، لِأَنَّ الْأَجَلَ لَيْسَ بِمَالٍ وَالدَّيْنُ مَالٌ ، وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَانَ خَمْسُمِائَةٍ بَدَلًا عَنْ أَلْفٍ وَذَلِكَ رِبًا ا هـ كَلَامُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : أَشَارَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ إلَى قَوْلِهِ اعْتِيَاضٌ عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَا هُوَ مَالٌ ، وَلَكِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْمَهْرِ وَالْمَالِ الْمُقَابَلِ بِالطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ مَنْقُوضًا بِالْمَهْرِ وَالْمَالِ الْمُقَابَلِ بِالطَّلَاقِ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فِي قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ مَا ذُكِرَ الْعِوَضُ فِيهِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ عَلَى مَالٍ وَنَحْوُهُمَا ، لِأَنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ .
وَقَدْ صَرَّحَ الشُّرَّاحُ بِمِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى فِي صَدْرِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ حَيْثُ قَالُوا : أَوْرَدَ عَقْدَ الْكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِمُنَاسَبَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ يُسْتَفَادُ بِهِ الْمَالُ بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذِكْرِ الْعِوَضِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ .
وَقَالُوا : خَرَجَ بِقَوْلِنَا مَا لَيْسَ بِمَالٍ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ .
وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ .
فَإِنَّ ذِكْرَ الْعِوَضِ فِيهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ا هـ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَا يُقَالُ هَلَّا جُعِلَتْ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ لِيَجُوزَ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ
إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا ا هـ .
وَقَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ مِنْ الْفُضَلَاءِ : لَوْ صَحَّ هَذَا لَمْ تَجُزْ هِبَةُ الْمَهْرِ الْمُؤَجَّلِ وَإِسْقَاطُ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هُوَ الْمُؤَجَّلُ ، وَالْمُسْقَطُ أَيْضًا هُوَ الْمُؤَجَّلُ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَرْطُ شَيْءٍ مُعَجَّلٍ فِي الْمُقَابَلَةِ فَلَمْ يُوجَدْ التَّصَرُّفُ فِي غَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ أَصْلًا ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الْمُعَجَّلَةَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الصُّلْحُ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ الصُّلْحِ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَاسْتِيفَاءً لِبَعْضِهِ الْآخَرِ ، فَإِنَّ الْإِسْقَاطَ وَالِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءُ .
نَعَمْ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يُقَالُ هَلَّا جَعَلْت الصُّلْحَ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَاسْتِيفَاءً لِبَعْضِهِ الْآخَرِ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ وَالِاسْتِيفَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ فِي الْمُسْتَحَقِّ وَالْمُعَجَّلِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا لَكَانَ أَظْهَرَ ، لِأَنَّ تَأْثِيرَ قَوْلِهِ وَالْمُعَجَّلُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا فِي حَقِّ انْتِفَاءِ الِاسْتِيفَاءِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ دُونَ انْتِفَاءِ الْإِسْقَاطِ فِيهِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَعَنْ هَذَا قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ الْأَجَلِ ، لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الصُّلْحِ إسْقَاطًا لِلْبَعْضِ وَاسْتِيفَاءً لِلْبَعْضِ ، فَلَوْ جُعِلَ إنَّمَا يُجْعَلُ اعْتِيَاضًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَعَنْ الْأَجَلِ بِخَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى ، وَالِاعْتِيَاضُ عَنْ الْأَجَلِ لَا يَجُوزُ ا هـ ( قَوْلُهُ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : فِيهِ مُنَاقَشَةٌ ظَاهِرَةٌ ، إذْ قَدْ سَبَقَ أَنَّ
الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : هَذِهِ الْمُنَاقَشَةُ إنَّمَا تُظْهِرُ أَنْ لَوْ أَرَادُوا بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ إلَّا بِهِ نَفْيَ الْقُدْرَةِ الْمُمْكِنَةِ وَهِيَ أَدْنَى مَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْأَدَاءِ ، وَأَمَّا إذَا أَرَادُوا بِذَلِكَ نَفْيَ الْقُدْرَةِ الْمُيَسَّرَةِ وَهِيَ مَا يُوجِبُ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَلَا يَكُونُ لِلْمُنَاقَشَةِ مَجَالٌ لِظُهُورِ أَنَّ الْيُسْرَ عَلَى الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالْأَجَلِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْ يَدِ الْمَوْلَى مُفْلِسًا فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ غَالِبًا عَنْ إقْرَاضِهِ الْمَالَ فِي الْحَالِ فَيَعْسُرُ الْأَدَاءُ عَلَيْهِ جِدًّا بِدُونِ الْأَجَلِ وَإِنْ أَمْكَنَ فِي الْجُمْلَةِ .
عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ وَأَضْرَابَهُ لَمْ يَتَشَبَّثُوا فِي تَعْلِيلِ صِحَّةِ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ عِنْدَنَا بِجَوَازِ الِاسْتِقْرَاضِ ، بَلْ قَالُوا : إنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْبَدَلُ مَعْقُودٌ بِهِ فَأَشْبَهَ الثَّمَنَ فِي الْبَيْعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ مَبْنَى الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ فَيُمْهِلُهُ الْمَوْلَى ، وَمَتَى امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ فِي الْحَالِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ ا هـ فَلَمْ يَتِمَّ قَوْلُ ذَلِكَ الْمُنَاقِشِ ، وَبِذَلِكَ الِاعْتِبَارِ صَحَّ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَتَدَبَّرْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ ( وَإِذَا كَاتَبَ الْمَرِيضُ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفَيْنِ حَالًّا وَالْبَاقِيَ إلَى أَجَلِهِ أَوْ يُرَدُّ رَقِيقًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤَدِّي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ حَالًّا وَالْبَاقِيَ إلَى أَجَلِهِ ) لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الزِّيَادَةَ بِأَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى قِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا وَصَارَ كَمَا إذَا خَالَعَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ جَازَ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَلَهُمَا أَنَّ جَمِيعَ الْمُسَمَّى بَدَلُ الرَّقَبَةِ حَتَّى أُجْرِيَ عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْأَبْدَالِ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُبْدَلِ فَكَذَا بِالْبَدَلِ ، وَالتَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ مَعْنًى فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْجَمِيعِ ، بِخِلَافِ الْخُلْعِ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِ لَا يُقَابِلُ الْمَالَ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِالْمُبْدَلِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَلِ ، وَنَظِيرُ هَذَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ دَارِهِ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهَا أَلْفٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَهُمَا يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ ثُلُثَيْ جَمِيعِ الثَّمَنِ حَالًّا وَالثُّلُثَ إلَى أَجَلِهِ وَإِلَّا فَانْقُضْ الْبَيْعَ ، وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ الثُّلُثُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ لَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَى ، قَالَ ( وَإِنْ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُقَالُ لَهُ أَدِّ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًّا أَوْ تُرَدُّ رَقِيقًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ هَاهُنَا فِي الْقَدْرِ وَالتَّأْخِيرِ فَاعْتُبِرَ الثُّلُثُ فِيهِمَا .