كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا بَلَغَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ عَلَى الضَّارِبِ كَمَا دُونَهُ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ آنِفًا حَيْثُ قَالُوا : إنَّ مَا وَجَبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَهُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ مَعَ جَرَيَانِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَيُنْتَقَضُ بِكُلِّ عَمْدٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ فِيهِ بِشُبْهَةٍ وَوَجَبَ دِيَةٌ بَالِغَةٌ إلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَيْضًا فِيمَا فَوْقَهَا ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَمَا مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مَعَ جَرَيَانِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَيْضًا .
ثُمَّ أَقُولُ : هُنَا تَوْجِيهٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ الشُّرَّاحُ وَهُوَ ، أَنْ يَكُونَ الْقَيْدُ الْمَذْكُورُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ جَنِينِ الْأَمَةِ مُطْلَقًا بِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى الْبَتَاتِ بِتَقْدِيرِ الشَّرْعِ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا إنْ كَانَ ذَكَرًا ، وَعُشْرُ قِيمَتِهِ حَيًّا إنْ كَانَ أُنْثَى مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْعَدَدِ فَضْلًا عَنْ أَنْ تَبْلُغَ خَمْسَمِائَةٍ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَرَامُ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَقَالَ مَالِكٌ فِي مَالِهِ : لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ ) أَقُولُ : فِي تَعْلِيلِهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِهِ بَدَلَ الْجُزْءِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ فِي مَالِ الْجَانِي ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَالْبَدَلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَمَامُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ مَرَّ قُبَيْلَ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ خَطَأٌ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَكَذَا كُلُّ جِنَايَةٍ مُوجِبُهَا خَمْسُمِائَةٍ فَصَاعِدًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنْ لَا يَجِبَ بَدَلُ الْجُزْءِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ كَمَا
صَرَّحُوا بِهِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ، فَيَكُونُ هَذَا التَّعْلِيلُ مِنْ قَبِيلِ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا سَمَّاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةً حَيْثُ قَالَ " دُوهُ " ) أَقُولُ : فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ بِتَسْمِيَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دِيَةً بَحْثٌ ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمَّى كَثِيرًا مِنْ بَدَلِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَجْزَاءِ دِيَةً ؛ أَلَّا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ، وَفِي الْمَارِنِ الدِّيَةُ } وَهَكَذَا كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا " وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ " إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَذَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ وَهِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ ، وَكَأَنَّهُ يَقُولُ : إذَا كَانَتْ الْغُرَّةُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ .
وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ لَا وُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَصْلًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ عَلَى الضَّارِبِ مُطْلَقًا انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَعْقِلُ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا وَلَئِنْ سَلَّمْنَا اعْتِبَارَهُ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي الرِّوَايَاتِ فَمَفْهُومُ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّهَا تَعْقِلُ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا فِي الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا تَعْقِلُهَا فِي كُلِّ مَادَّةٍ حَتَّى يَرِدَ النَّقْضُ
بِالْوَاجِبِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا بَلَغَ خَمْسَمِائَةٍ حَيْثُ يَكُونُ عَلَى الضَّارِبِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ : الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ قَلِيلَةً كَانَتْ أَوْ كَثِيرَةً ، وَأَنْتُمْ قَيَّدْتُمْ بِقَوْلِكُمْ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةٍ وَقَدْ عَلِمْت مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ النَّظَرِ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ : وَرُدَّ بِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ هُوَ فِي مَالِ الضَّارِبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالْبُلُوغِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ ، إلَّا أَنَّك عَلِمْت سُقُوطَهُ أَيْضًا بِمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُقُوطِ نَظَرِ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ آنِفًا .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هُنَا خَلَلٌ ، إذْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ السُّؤَالُ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَدْلُولَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ { قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ جَنِينِ الْحُرَّةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ } وَدِيَتُهُ تَبْلُغُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْإِجْمَاعِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً بِحَيْثُ لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ تَكُونُ أَيْضًا عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى يَتَوَجَّهُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يُنَافِي تَقْيِيدَكُمْ بِقَوْلِكُمْ إذَا كَانَتْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ لَوْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ سَوَاءٌ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمَا صَلَحَ مُجَرَّدُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ مَا دُونَ خَمْسِمِائَةٍ لَأَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا بِهِ فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ دُونَ بَيَانِ نَصٍّ يَشْهَدُ بِذَلِكَ حَتَّى يَصْلُحَ لِلْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ كَمَا قَرَّرَهُ .
( وَتَجِبُ فِي سَنَةٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّهُ بَدَلُ النَّفْسِ وَلِهَذَا يَكُونُ مَوْرُوثًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : " بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي سَنَةٍ " وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ ، وَبِالثَّانِي فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ إلَى سَنَةٍ ، لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ ، بِخِلَافِ أَجْزَاءِ الدِّيَةِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهَا عَلَى مَنْ وَجَبَ يَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ( وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ فِي الْجَنِينِ إنَّمَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ لِتَفَاوُتِ مَعَانِي الْآدَمِيَّةِ وَلَا تَفَاوُتَ فِي الْجَنِينِ فَيُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ وَاحِدٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ فِي حَقِّ التَّوْرِيثِ وَبِالثَّانِي فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ إلَى سَنَةٍ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَمْ يَعْكِسْ الْأَمْرَ : أَيْ لَمْ يَعْمَلْ فِي حَقِّ التَّأْجِيلِ بِالشَّبَهِ الْأَوَّلِ وَفِي حَقِّ التَّوْرِيثِ بِالشَّبَهِ الثَّانِي ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا .
وَالْأَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَخْذًا مِنْ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْهَا حَيَّةً فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ الِانْفِصَالِ تُعْتَبَرُ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ التَّأْجِيلِ إلَّا قَدْرُ الْمُتَيَقَّنِ انْتَهَى تَدَبَّرْ تَفْهَمْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ) يَجِبُ فِي سَنَةٍ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ لَفْظِ الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ أَكْثَرَ بِدُونِ الْوَاوِ بَدَلٌ مِنْ أَقَلَّ : أَيْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ أَوْ أَكْثَرَ ، وَفِي بَعْضِهَا وَأَكْثَرَ ، وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَدَلًا حِينَئِذٍ ، انْتَهَى كَلَامُهُ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ لِأَنَّ بَدَلَ الْعُضْوِ إذَا كَانَ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَوْ أَكْثَرَ ، وَفِي بَعْضِهَا وَأَكْثَرَ قَالَ الشَّارِحُونَ : وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الْأَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ الْأَكْثَرُ صِفَةً لِأَقَلَّ أَوْ بَدَلًا مِنْهُ ، وَلَعَلَّ
الْعَطْفَ بِالْوَاوِ يُفِيدُ ذَلِكَ إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ بَيْنَ قَوْلِهِ وَلَعَلَّ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ يُفِيدُ ذَلِكَ أَيْضًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ النُّسَخِ بِقَصْرِ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ تَدَافُعًا لَا يَخْفَى ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ قَصْرَ الصِّحَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ مِنْ الرِّوَايَةِ لَا مِنْ حَيْثُ سَدَادُ الْمَعْنَى فَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ التَّدَافُعُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَقَوْلُهُ أَكْثَرَ بِدُونِ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ أَقَلَّ : أَيْ إذَا كَانَ بَدَلُ الْعُضْوِ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الدِّيَةِ ، وَكَانَ ذَلِكَ الْأَقَلُّ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ يَجِبُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنْ لَنَا فِي التَّقْيِيدِ بِالْأَكْثَرِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ بَلْ كَانَ قَدْرَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ إلَى ثُلُثِهَا يَجِبُ فِي سَنَةٍ انْتَهَى .
وَنَقَلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مَضْمُونَ نَظَرِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْأَكْثَرِ لَيْسَ بِمُفِيدٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نِصْفَ الْعُشْرِ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ انْتَهَى فَكَأَنَّهُ ارْتَضَاهُ .
وَأَشَارَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ إلَى الْجَوَابِ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ تَصْحِيحِ النُّسْخَةِ الْأُولَى : لَكِنَّ التَّقْرِيبَ إنَّمَا يَتَأَتَّى أَنْ لَوْ كَانَ نِصْفُ الْعُشْرِ وَاجِبًا فِي سَنَةٍ ، لِأَنَّ الْغُرَّةَ مُقَدَّرَةٌ بِنِصْفِ الْعُشْرِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ مُؤَجَّلًا بِسَنَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْعُشْرِ مُؤَجَّلًا بِهَا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ مُؤَجَّلًا بِسَنَةٍ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْعُشْرِ أَيْضًا مُؤَجَّلًا بِسَنَةٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْعُشْرِ غَيْرَ مُؤَجَّلٍ أَصْلًا كَأَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ أَوْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِأَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ
وَبِذَلِكَ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ كَمَا لَا يَخْفَى .
( فَإِنْ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَيًّا بِالضَّرْبِ السَّابِقِ ( وَإِنْ أَلْقَتْهُ مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمُّ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ بِقَتْلِ الْأُمِّ وَغُرَّةٌ بِإِلْقَائِهَا ) وَقَدْ صَحَّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي هَذَا بِالدِّيَةِ وَالْغُرَّةِ } ( وَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ مِنْ الضَّرْبَةِ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَدِيَةٌ فِي الْجَنِينِ ) لِأَنَّهُ قَاتِلُ شَخْصَيْنِ ( وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ أَلْقَتْ مَيِّتًا فَعَلَيْهِ دِيَةٌ فِي الْأُمِّ وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مَوْتُهُ بِالضَّرْبِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَتْهُ مَيِّتًا وَهِيَ حَيَّةٌ .
وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ أَحَدُ سَبَبَيْ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا إذْ تَنَفُّسُهُ بِتَنَفُّسِهَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ .
قَالَ ( وَمَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَرِثُهُ وَرَثَتُهُ ( وَلَا يَرِثُهُ الضَّارِبُ ، حَتَّى لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَتِهِ فَأَلْقَتْ ابْنَهُ مَيِّتًا فَعَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ غُرَّةٌ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا ) لِأَنَّهُ قَاتِلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ مُبَاشَرَةً وَلَا مِيرَاثَ لِلْقَاتِلِ .
قَالَ : ( وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ إذَا كَانَ ذَكَرًا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ أُنْثَى ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ، لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يُؤْخَذُ مِقْدَارُهَا مِنْ الْأَصْلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ فَكَانَ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُقَدَّرُ بِهَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجِبُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لَوْ انْتَقَصَتْ الْأُمُّ اعْتِبَارًا بِجَنِينِ الْبَهَائِمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ ضَمَانُ مَالٍ عِنْدَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَصَحَّ الِاعْتِبَارُ عَلَى
أَصْلِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ ضُرِبَتْ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى مَا فِي بَطْنِهَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ قِيمَتُهُ حَيًّا وَلَا تَجِبُ الدِّيَةُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ الْعِتْقِ ) لِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالضَّرْبِ السَّابِقِ وَقَدْ كَانَ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فَلِهَذَا تَجِبُ الْقِيمَةُ دُونَ الدِّيَةِ ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ حَيًّا لِأَنَّهُ بِالضَّرْبِ صَارَ قَاتِلًا إيَّاهُ وَهُوَ حَيٌّ فَنَظَرْنَا إلَى حَالَتَيْ السَّبَبِ وَالتَّلَفِ .
وَقِيلَ : هَذَا عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجِبُ قِيمَتُهُ مَا بَيْنَ كَوْنِهِ مَضْرُوبًا إلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مَضْرُوبٍ ، لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ : ( وَلَا كَفَّارَةَ فِي الْجَنِينِ ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ لِأَنَّهُ نَفْسٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ احْتِيَاطًا .
وَلَنَا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِيهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَقَدْ عُرِفَتْ فِي النُّفُوسِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا تَتَعَدَّاهَا وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ كُلُّ الْبَدَلِ .
قَالُوا : إلَّا أَنْ يَشَاءَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا ، فَإِذَا تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ أَفْضَلَ لَهُ وَيَسْتَغْفِرُ مِمَّا صَنَعَ ( وَالْجَنِينُ الَّذِي قَدْ اسْتَبَانَ بَعْضُ خَلْقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ التَّامِّ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ) لِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ وَلَدٌ فِي حَقِّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَكَذَا فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ ، وَلِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَتَمَيَّزُ مِنْ الْعَلَقَةِ وَالدَّمِ فَكَانَ نَفْسَهَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ مَوْتَ الْأُمِّ أَحَدُ سَبَبَيْ مَوْتِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَنِقُ بِمَوْتِهَا إذْ تَنَفُّسُهُ بِتَنَفُّسِهَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الشَّكَّ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَوْتُ بِالضَّرْبِ وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ لَمْ يُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ ، وَمَعَ ذَلِكَ وَجَبَ الضَّمَانُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْفَصْلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْغُرَّةَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ ثَبَتَتْ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي مَعْنَاهُ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِمَالَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ وُجُوهٍ وَهِيَ احْتِمَالُ عَدَمِ نَفْخِ الرُّوحِ وَالْمَوْتِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ الْغِذَاءِ بِسَبَبِ مَوْتِ الْأُمِّ وَبِسَبَبِ تَخْنِيقِ الرَّحِمِ وَغَمِّ الْبَطْنِ ، فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ قِيَاسًا وَلَا دَلَالَةً فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ } يَشْمَلُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا أَمْرٌ عَجِيبٌ مِنْ مِثْلِهِ ، فَإِنَّ مَضْمُونَ إيرَادِهِ مَعَ جَوَابِهِ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ ، فَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ الْمَذْكُورُ هُنَاكَ مَقْبُولًا عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ فَمَا مَعْنَى ذِكْرِ السُّؤَالِ وَتَرْكِ الْجَوَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْجَوَابُ مَقْبُولًا عِنْدَهُ كَانَ عَلَيْهِ بَيَانُ فَسَادِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ إلَى مَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ هُنَا وَلَمْ يَظْفَرْ بِجَوَابِ إيرَادِهِ أَصْلًا ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ هُنَا هَكَذَا .
فَإِنْ قُلْت : عُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي الْجَنِينِ غُرَّةٌ ، عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ } يَتَنَاوَلُ الْمُتَنَازَعَ فِيهِ .
قُلْت : لَا بُدَّ مِنْ إضْمَارٍ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ فِي إتْلَافِ الْجَنِينِ
غُرَّةٌ ، وَالشَّكُّ وَاقِعٌ فِي ذَلِكَ انْتَهَى ، تَأَمَّلْ فِي تَفْصِيلِ جَوَابِهِ لَعَلَّهُ سَمْتٌ صَالِحٌ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الطَّرَفِ لَا يَجِبُ إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ النُّقْصَانِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي ضَمَانِ الْجَنِينِ فَكَانَ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيُقَدَّرُ بِهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ سِيَاقِ تَعْلِيلِهِ يَكُونُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا مُنَاقِضًا لِمَا قَالَهُ فِيمَا قَبْلُ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ بَدَلَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ فَهُوَ بَدَلُ الْعُضْوِ مِنْ حَيْثُ الِاتِّصَالُ بِالْأُمِّ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى مُدَّعَانَا دَافِعًا لَمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ وَضَمَانُ الْأَجْزَاءِ يُؤْخَذُ مِقْدَارُهَا مِنْ الْأَصْلِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
.
.
قَالَ ( وَمَنْ أَخْرَجَ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ جُرْصُنًا أَوْ بَنَى دُكَّانًا فَلِرَجُلٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ أَنْ يَنْزِعَهُ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ صَاحِبُ حَقٍّ بِالْمُرُورِ بِنَفْسِهِ وَبِدَوَابِّهِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ ، كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَقُّ النَّقْضِ لَوْ أَحْدَثَ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا فَكَذَا فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ .
قَالَ : ( وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ ) لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَلْيُلْحَقْ مَا فِي مَعْنَاهُ بِهِ ، إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ ، فَإِذَا أَضَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } قَالَ : ( وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الدَّرْبِ الَّذِي لَيْسَ بِنَافِذٍ أَنْ يَشْرَعَ كَنِيفًا أَوْ مِيزَابًا إلَّا بِإِذْنِهِمْ ) لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ أَضَرَّ بِهِمْ أَوْ لَمْ يَضُرَّ إلَّا بِإِذْنِهِمْ .
وَفِي الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَهُ التَّصَرُّفُ إلَّا إذَا أَضَرَّ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى إذْنِ الْكُلِّ ، فَجُعِلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ وَحْدَهُ حُكْمًا كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَيْهِ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ ، وَلَا كَذَلِكَ غَيْرُ النَّافِذِ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى إرْضَائِهِمْ مُمْكِنٌ فَبَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
.
( بَابُ مَا يُحْدِثُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ ) .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِهِ تَسْبِيبًا ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَوْنِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِلَا وَاسِطَةٍ وَلِكَوْنِهِ أَكْثَرَ وُقُوعًا فَكَانَتْ أَمَسُّ حَاجَةٍ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ ( قَوْلُهُ وَيَسَعُ لِلَّذِي عَمِلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُرُورِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَلْيُلْحَقْ بِهِ مَا فِي مَعْنَاهُ إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ ) أَقُولُ : هَذَا الْمَقَامُ مَحَلُّ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى هُنَا وَهُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِالْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا لِلَّذِي عَمِلَهَا مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مَسْأَلَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ، وَدَلِيلُهُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ لَا يَتَمَشَّى إلَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَلْيُلْحَقْ بِهِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، إذْ قَدْ صُرِّحَ فِي الشُّرُوحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ أَصْلَهُمَا أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ عَرَضِ النَّاسِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَنْ يَمْنَعَ الْعَامِلَ مِنْ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا أَرَادَ الْوَضْعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، لِأَنَّ فِيهِ الِافْتِيَاتَ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إلَيْهِ تَدْبِيرُهُ ، فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ ؛ فَظَهَرَ مِنْهُ أَنَّ عَمَلَ ذَلِكَ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرٍ مُنْكَرٍ عَلَى أَصْلِهِمَا وَهُوَ الِافْتِيَاتُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فِيمَا إلَيْهِ تَدْبِيرُهُ وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يُتَصَوَّرْ عِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمُرُورِ الَّذِي لَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَمْرٍ مُنْكَرٍ أَصْلًا حَتَّى يَصِحَّ إلْحَاقُ ذَلِكَ بِهِ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إذْ الْمَانِعُ مُتَعَنَّتٌ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا عَلَى أَصْلِهِمَا قَطْعًا ، إذْ لَوْ صَحَّ عِنْدَهُمَا كَوْنُ الْمَانِعِ مُتَعَنَّتًا لَمَا ذَهَبَ إلَى
جَوَازِ مَنْعِهِ شَرْعًا وَقَدْ عَرَفْت كَوْنَ مَذْهَبِهِمَا ذَلِكَ وَدَلِيلَهُمَا الَّذِي أَقَامَا عَلَيْهِ فَتَبَصَّرْ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ) لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِتَلَفِهِ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَصْلُ ، وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ ( وَكَذَا إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ ، وَإِنْ عَثَرَ بِذَلِكَ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِيهِمَا ) لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالدَّافِعِ إيَّاهُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ بِطَرَفَانِ أَصَابَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْحَائِطِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيهِ لِمَا أَنَّهُ وَضَعَهُ فِي مِلْكِهِ ( وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهُ فِيهِ ) لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِيهِ ، وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُرَكِّبَهُ فِي الْحَائِطِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُحْرَمُ عَنْ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً ( وَلَوْ أَصَابَهُ الطَّرَفَانِ جَمِيعًا وَعَلِمَ ذَلِكَ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَهُدِرَ النِّصْفُ كَمَا إذَا جَرَحَهُ سَبُعٌ وَإِنْسَانٌ ، وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ أَيُّ طَرَفٍ أَصَابَهُ يَضْمَنُ النِّصْفَ ) اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ ( وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ أَوْ وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الْخَشَبَةَ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهَا فَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ ) لِأَنَّ فِعْلَهُ وَهُوَ الْوَضْعُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ وَهُوَ الْمُوجِبُ ( وَلَوْ وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جَمْرًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ ( وَلَوْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا لَا يَضْمَنُهُ ) لِنَسْخِ الرِّيحِ فِعْلَهُ ، وَقِيلَ إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِعَاقِبَتِهِ وَقَدْ أَفْضَى إلَيْهَا فَجُعِلَ
كَمُبَاشَرَتِهِ .
( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : يَعْنِي الْكَنِيفَ وَالْمِيزَابَ وَالْجُرْصُنَ .
أَقُولُ : لَعَلَّ قَوْلَ الْمُصَنَّفِ هَذَا مُسْتَدْرَكٌ ، لِأَنَّ مَا مَرَّ آنِفًا مِنْ لَفْظِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا أَشْرَعَ فِي الطَّرِيقِ رَوْشَنًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ نَحْوَهُ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَانَ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِ مَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
أَمَّا لِلْمِيزَابِ فَصَرَاحَةً كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَبِعُمُومِ قَوْلِهِ أَوْ نَحْوِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا بَلْ لَا وَجْهَ لِلَّفْظِ ، وَكَذَلِكَ سِيَّمَا بِالنَّظَرِ إلَى الْمِيزَابِ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ ) أَقُولُ : فِيهِ نَوْعُ تَسَاهُلٍ ، لِأَنَّ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وُجُوبُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَفِيمَا إذَا عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، وَكَلِمَةُ كَذَا تَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْجَوَابِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِكَلِمَةِ كَذَا هُنَا هُوَ التَّشْبِيهُ وَالتَّشْرِيكُ فِي مُجَرَّدِ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْخَاصِّ الْمَذْكُورِ فِيمَا سَبَقَ ، فَيَعُمُّ قَوْلَهُ إذَا تَعَثَّرَ بِنَقْضِهِ إنْسَانٌ .
وَقَوْلَهُ أَوْ عَطِبَتْ بِهِ دَابَّةٌ ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ الْعِبَارَةِ فَهُوَ عَيْنُ التَّسَاهُلِ .
( وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ ) لِأَنَّ التَّلَفَ بِفِعْلِهِمْ ( وَمَا لَمْ يَفْرُغُوا لَمْ يَكُنْ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى رَبِّ الدَّارِ ) وَهَذَا لِأَنَّهُ انْقَلَبَ فِعْلُهُمْ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يَتَسَلَّمْ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ ( وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ فَالضَّمَانُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا ) لِأَنَّهُ صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ حَتَّى اسْتَحَقُّوا الْأَجْرَ وَوَقَعَ فِعْلُهُمْ عِمَارَةً وَإِصْلَاحًا فَانْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ ( وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ ، وَكَذَا إذَا رَشَّ الْمَاءَ أَوْ تَوَضَّأَ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ بِإِلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَارَّةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ قَعَدَ أَوْ وَضَعَ مَتَاعَهُ ) لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهَا لِكَوْنِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ السُّكْنَى كَمَا فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ .
قَالُوا : هَذَا إذَا رَشَّ مَاءً كَثِيرًا بِحَيْثُ يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً ، أَمَّا إذَا رَشَّ مَاءً قَلِيلًا كَمَا هُوَ الْمُعْتَادُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُزْلَقُ بِهِ عَادَةً لَا يَضْمَنُ ( وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ فَسَقَطَ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ ) لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ .
وَقِيلَ : هَذَا إذَا رَشَّ بَعْضَ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَجِدُ مَوْضِعًا لِلْمُرُورِ لَا أَثَرَ لِلْمَاءِ فِيهِ ، فَإِذَا تَعَمَّدَ الْمُرُورَ عَلَى مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّاشِّ شَيْءٌ ، وَإِنْ رَشَّ جَمِيعَ الطَّرِيقِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ فِي الْمُرُورِ ؛ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْخَشَبَةِ الْمَوْضُوعَةِ فِي الطَّرِيقِ فِي أَخْذِهَا جَمِيعَهُ أَوْ بَعْضَهُ ( وَلَوْ رَشَّ فِنَاءَ حَانُوتٍ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَضَمَانُ مَا عَطِبَ
عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ ) لِفَسَادِ الْأَمْرِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ إلَخْ ) قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : هُوَ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ قَالَ مُخْرِجُ الْجَنَاحِ لِلْأُجَرَاءِ : ابْنُوا جَنَاحًا لِي عَلَى فِنَاءِ دَارِي فَإِنَّهُ مِلْكِي أَوْ لِي حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ إلَيْهِ مِنْ الْقَدِيمِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْعَمَلَةُ بِخِلَافِ مَا قَالَهُ فَفَعَلُوا ثُمَّ سَقَطَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ ، وَيَرْجِعُونَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ ، لِمَا أَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَذْبَحَ لَهُ شَاةً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الشَّاةُ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعَ الذَّابِحُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ وَلِأَنَّهُ غَرَّهُ كَذَا هَذَا .
وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لِلْأُجَرَاءِ : اشْرَعُوا لِي جَنَاحًا عَلَى فِنَاءِ دَارِي وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ حَتَّى بَنَوْا جَنَاحًا بِأَمْرِهِ ثُمَّ سَقَطَ فَأَتْلَفَ شَيْئًا ، إنْ سَقَطَ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ وَلَمْ يَرْجِعُوا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَكَذَلِكَ عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا لَمْ يَمْلِكْ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَلَمْ يُحْكَمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَذْبَحَ شَاةَ جَارٍ لَهُ فَذَبَحَ ثُمَّ ضَمِنَ الذَّابِحُ لِلْجَارِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْآمِرِ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُمْ لِيَبْنُوا بَيْتًا فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ ثُمَّ سَقَطَ فَأَتْلَفَ شَيْئًا لَمْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِنَاءَ دَارِهِ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ
وَجْهٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَمْرَ صَحِيحٌ يَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَاسِدٌ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ عَمَلًا بِهِمَا .
وَإِظْهَارُ شِبْهِ الصِّحَّةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْلَى مِنْ إظْهَارِهِ قَبْلَ الْفَرَاغِ ، لِأَنَّ أَمْرَ الْآمِرِ إنَّمَا صَحَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِفِنَاءِ دَارِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ الْمَنْفَعَةُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، كَذَا ذَكَرَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هُنَا .
أَقُولُ : هَذِهِ الْوُجُوهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ وَالْبَيَانِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَارْتِضَاءُ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ لَكِنَّهُ مُشْكِلٌ عِنْدِي مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ الْقِيَاسِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِمَا لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَقَدْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا أَخْبَرَهُمْ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي ذَلِكَ لَا فِيمَا إذَا لَمْ يُخْبِرْهُمْ بِذَلِكَ ، إذْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَقَدْ سَوَّوْهُمَا فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ حَيْثُ قَالُوا : وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ مِنْ الْقَدِيمِ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُمْ .
وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَالُوا فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ أَنَّ أَمْرَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِنَاءَ دَارِهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ حَيْثُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ ، وَجَعَلُوا الضَّمَانَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ عَلَى الْعَامِلِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، مَعَ أَنَّ مَدْخَلِيَّةَ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ فِي فَسَادِ أَمْرِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ غَيْرُ
ظَاهِرَةٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِبَيْعِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى يَفْسُدَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ وَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْفَعَلَةِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، بَلْ أَمَرَهُمْ بِالِانْتِفَاعِ بِذَلِكَ بِإِشْرَاعِ الْجَنَاحِ إلَيْهِ وَفَعَلُوا ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ الِانْتِفَاعُ بِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَكَيْفَ يَفْسُدُ أَمْرُهُ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ حَتَّى يَجِبَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ بِنَاءً عَلَى فَسَادِ الْأَمْرِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ وَيَرْجِعُونَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَقَالُوا فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ : وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْآمِرِ ابْتِدَاءً مَعَ أَنَّ الْفِقْهَ يَقْتَضِي أَوْلَوِيَّةَ كَوْنِ الضَّمَانِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا إذَا كَانَ السُّقُوطُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى الْآمِرِ ابْتِدَاءً ، لِأَنَّ الْفَعَلَةَ كَانُوا فِيهِ مَغْرُورِينَ بِقَوْلِ الْآمِرِ : إنَّهُ مِلْكِي أَوْ لِي حَقُّ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ الْقَدِيمِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الثَّالِثِ فِي الْغُرُورِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ كَمَا تَرَى .
ثُمَّ أَقُولُ : تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَتَعْلِيلُهَا لَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا مِنْ التَّفْصِيلِ الْمَنْقُولِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ، بَلْ يَأْبَاهُ جِدًّا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا السُّقُوطُ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ ، وَالْآخَرُ السُّقُوطُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْهُ ، وَجَعَلَ حُكْمَ أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْآخَرِ مُطْلَقًا .
وَقَالَ فِي تَعْلِيلِ الْأَوَّلِ : إنَّ التَّلَفَ كَانَ بِفِعْلِهِمْ ، وَإِنَّ فِعْلَهُمْ انْقَلَبَ قَتْلًا حَتَّى وَجَبَ
عَلَيْهِمْ الْكَفَّارَةُ ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي عَقْدِهِ فَلَمْ يُتَسَلَّمْ فِعْلُهُمْ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْ لَا يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْآمِرِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ مُطْلَقًا : أَيْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الشُّرَّاحُ نَقْلًا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَا إذَا أَخْبَرَهُمْ الْآمِرُ بِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي ذَلِكَ ، لِأَنَّ فِعْلَهُمْ لَمَّا انْقَلَبَ قَتْلًا وَصَارَ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي عَقْدِ الْآمِرِ وَلَمْ يَتَسَلَّمْ إلَيْهِ بَلْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ كَانَ إخْبَارُهُ لَهُمْ بِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي ذَلِكَ ، وَعَدَمُ إخْبَارِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ سَيَتَبَيَّنُ قَطْعًا ، وَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتِمَّ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ لِرُجُوعِهِمْ بِالضَّمَانِ عَلَى الْآمِرِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرُوهَا سَوَاءٌ سَقَطَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِمْ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ بِأَمْرِ الْآمِرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ لَمَّا انْقَلَبَ قَتْلًا فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ صَارَ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْآمِرِ خَارِجًا عَنْ عَقْدِهِ فَلَمْ يَكُنْ بِأَمْرِ الْآمِرِ ، فَمَا كَانَ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ بِأَمْرِهِ بَلْ كَانَ بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ ، وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ لَا يَتِمُّ تَنْظِيرُهُمْ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ بِمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَذْبَحَ شَاةً لَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بَعْدَ الذَّبْحِ فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الذَّابِحَ وَيَرْجِعُ الذَّابِحُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، فَإِنْ فَعَلَ الذَّابِحُ هُنَاكَ لَمْ يَنْقَلِبْ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ بَلْ وَقَعَ عَلَى مَا هُوَ الدَّاخِلُ فِي الْعَقْدِ ، فَإِذَا ضَمِنَ الذَّابِحُ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى
الْآمِرِ بِحُكْمِ التَّغْرِيرِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ هُنَا : لَا يُقَالُ فَرَّقَ بَيْنَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا الْمَنْقُولِ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مَحْمَلُهُ الْمُبَاشَرَةُ وَلِهَذَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ عِلْمِ الْعَمَلَةِ وَعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ قَبْلَ الْفَرَاغِ ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الْمُبَاشَرَةُ بَعْدَهُ فَيَكُونُ بِالتَّسْبِيبِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : إشْرَاعُ الْجَنَاحِ مُطْلَقًا مُبَاشَرَةٌ فَلِهَذَا شُبِّهَ بِذَبْحِ الشَّاةِ ، وَسَيَجِيءُ مِنْ الشَّارِحِ أَيْضًا : يَعْنِي صَاحِبَ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ مُبَاشَرَةٌ لِلْقَتْلِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةً لَهُ بَعْدَهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاشَرَةً مِنْ الْفَعَلَةِ أَوْ مِنْ الْآمِرِ ، فَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةً مِنْ الْفَعَلَةِ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَالْكَفَّارَةُ قَطْعًا كَمَا فِي السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْهُمَا بَلْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ رَبُّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَلَوْ كَانَ مُبَاشَرَةً مِنْ الْآمِرِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ لَا مَحَالَةَ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَالتَّشْبِيهُ بِذَبْحِ الشَّاةِ إنَّمَا وَقَعَ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَا فِي صُورَةِ السُّقُوطِ بَعْدَهُ ، وَاَلَّذِي سَيَجِيءُ مِنْ الشَّارِحِ أَيْضًا لَا بُدَّ وَأَنْ يُحْمَلَ عَلَى كَوْنِ إشْرَاعِ الْجَنَاح مُبَاشَرَةً فِي الصُّورَةِ الْأُولَى لَا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ .
وَأَمَّا كَوْنُ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ مُبَاشَرَةً مُطْلَقًا لِفِعْلٍ مَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةً لِلْقَتْلِ فِي صُورَةِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَبِمَعْزِلٍ عَمَّا فِيهِ الْكَلَامُ وَغَيْرِ مُفِيدٍ فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ
وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ فَسَقَطَ لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ ) أَقُولُ : فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا ، وَكَذَا إذَا رَشَّ الْمَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا صَبَّ الْمَاءَ أَنَّ مَسْأَلَةَ رَشِّ الْمَاءِ تَغَايُرُ مَسْأَلَةَ صَبِّ الْمَاءِ ، وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا الصَّبَّ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ تَعَمَّدَ الْمُرُورَ فِي مَوْضِعِ صَبِّ الْمَاءِ وَذَكَرَ الرَّشَّ فِي جَوَابِهَا حَيْثُ قَالَ : لَا يَضْمَنُ الرَّاشُّ فَلَمْ يُطَابِقْ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْهُ بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ هَكَذَا إيمَاءً إلَى اتِّحَادِ مَسْأَلَتَيْ الصَّبِّ وَالرَّشِّ فِي هَذَا الْحُكْمِ مَعَ الِاعْتِمَادِ إلَى الْعِلْمِ بِمُغَايِرَتِهِمَا مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ ذَلِكَ إذَا عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِغَيْرِ الْآمِرِ أَوْ إذَا لَمْ يَعْلَمْ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ يَحْسِبُ أَنَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي الْفِنَاءِ فَحَفَرَ وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ وَالْفِنَاءُ لِغَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ عَالِمًا بِهِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَجِيرُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِلْغَيْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَمْ يَعْلَمْ بِفَسَادِ الْأَمْرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَامِعِهِ وَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَجِيرُ يَحْسِبُ أَنَّ الْفِنَاءَ لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنَّهُ يَدُلُّ بِإِطْلَاقِهِ عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ فِي
مَوْتِ إنْسَانٍ فِيهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجِيرِ مِنْ الْعَمَلِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِ مَوْتِهِ بَعْدَ تَعَقُّلِهِ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجِيرِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الشَّارِحُ أَيْضًا فَتَبَصَّرْ .
قَالَ : ( وَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَتَلِفَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِهِ بَهِيمَةٌ فَضَمَانُهَا فِي مَالِهِ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَضْمَنُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ ، غَيْرَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ النَّفْسَ دُونَ الْمَالِ فَكَانَ ضَمَانُ الْبَهِيمَةِ فِي مَالِهِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ وَاِتِّخَاذُ الطِّينِ فِي الطَّرِيقِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ لِمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعِ كَنْسِهِ إنْسَانٌ حَيْثُ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ فَإِنَّهُ مَا أَحْدَثَ شَيْئًا فِيهِ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ ، حَتَّى لَوْ جَمَعَ الْكُنَاسَةَ فِي الطَّرِيقِ وَتَعَقَّلَ بِهَا إنْسَانٌ كَانَ ضَامِنًا لِتَعَدِّيهِ بِشَغْلِهِ ( وَلَوْ وَضَعَ حَجَرًا فَنَحَّاهُ غَيْرُهُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي نَحَّاهُ ) لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ لِفَرَاغِ مَا شَغَلَهُ ، وَإِنَّمَا اُشْتُغِلَ بِالْفِعْلِ الثَّانِي مَوْضِعٌ آخَرُ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَالُوعَةِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ حَيْثُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ فِي حُقُوقِ الْعَامَّةِ ( وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ ) إمَّا بِالتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ أَوْ بِالِافْتِيَاتِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ أَوْ هُوَ مُبَاحٌ مُقَيِّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ ( وَكَذَا إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَا يَضْمَنُ ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ( وَكَذَا إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ ) لِأَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ دَارِهِ وَالْفِنَاءُ فِي تَصَرُّفِهِ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ ، أَمَّا
إذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا بِأَنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ وَهَذَا صَحِيحٌ .
( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي الْبَالُوعَةِ يَحْفِرُهَا الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْأَمْرُ مِنْ السُّلْطَانِ إكْرَاهٌ ؛ فَقَوْلُهُ أَوْ أَجْبَرَهُ كَالْعِطْفِ التَّفْسِيرِيِّ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ كَوْنَ مُجَرَّدِ الْأَمْرِ مِنْ السُّلْطَانِ إكْرَاهًا لَيْسَ بِقَوْلٍ مُخْتَارٍ سِيَّمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ حَيْثُ قَالَ : إنَّ مُجَرَّدَ أَمْرِ الْإِمَامِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ .
فَجَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ مَبْنِيًّا عَلَى ذَلِكَ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ أَنَّ كَوْنَهُ إكْرَاهًا قَوْلٌ مُخْتَارٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ الْإِذْنِ لِاسْتِلْزَامِ الْأَمْرِ الْإِذْنَ ، وَعَطْفُ أَجْبَرَ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَذَلِكَ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَامَّةً فَلَا يَضْمَنُ مَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَذَكَرَ رِوَايَةَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى بَيَانِ إذْنِ الْإِمَامِ انْتَهَى .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مُجَرَّدَ إذْنِ السُّلْطَانِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَدْفَعُ الضَّمَانَ عَنْ الْفَاعِلِ ، صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ مَسْأَلَةً أُخْرَى لَا مَحَالَةَ .
وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ عَطْفًا تَفْسِيرِيًّا فَمِمَّا لَا وَجْهَ لَهُ ، لِأَنَّ الْعَطْفَ التَّفْسِيرِيَّ لَمْ يُسْمَعْ فِي كَلِمَةِ أَوْ وَمَعْنَاهَا أَيْضًا لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا شَاعَ ذَلِكَ فِي كَلِمَةِ الْوَاوِ لِمُسَاعَدَةِ مَعْنَاهَا إيَّاهُ ، وَلَكِنْ بَقِيَ لَنَا شَيْءٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَلِمَ عَدَمَ ضَمَانِ الْفَاعِلِ فِيمَا إذَا أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِمَا
فَعَلَهُ يَعْلَمُ عَدَمَ ضَمَانِهِ قَطْعًا فِيمَا إذَا أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِ قَوْلِهِ أَوْ أَجْبَرَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَإِنْ أَمَرَهُ السُّلْطَانُ بِذَلِكَ ، نَعَمْ لَوْ قَالَ : فَإِنْ أَجْبَرَهُ السُّلْطَانُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ أَمَرَهُ بِهِ لَكَانَ لَهُ حُسْنٌ لِكَوْنِ الثَّانِي مِنْ قَبِيلِ التَّرَقِّي تَأَمَّلْ تَفْهَمْ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الْجَوَابُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ ) قَالَ عَامَّةُ الشُّرَّاحُ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ : مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا مِنْ إخْرَاجِ الْكَنِيفِ أَوْ الْمِيزَابِ أَوْ الْجُرْصُنِ إلَى الطَّرِيقِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فِيهِ وَإِشْرَاعِ الرَّوْشَنِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ ، وَزَادَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَوَضْعِ الْحَجَرِ .
وَقَالُوا : أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَغَيْرِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ كَبِنَاءِ الظُّلَّةِ وَغَرْسِ الشَّجَرِ وَرَمْيِ الثَّلْجِ وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ .
أَقُولُ : مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا صَبُّ الْمَاءِ فِي الطَّرِيقِ وَكَذَا رَشُّ الْمَاءِ أَوْ التَّوَضُّؤُ فِيهِ وَكَذَا وَضْعُ الْخَشَبَةِ فِيهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَّاحِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْتِزَامِهِمْ الْبَيَانَ وَالتَّفْصِيلَ حَتَّى ذَكَرُوا جَمِيعَ مَا وَقَعَ فِي الْبَابِ قَبْلَ مَا تَرَكُوهُ وَمَا بَعْدَهُ ، وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْجَوَابَ فِيمَا تَرَكُوهُ خِلَافُ الْجَوَابِ فِيمَا ذَكَرُوهُ كَانَ عَلَيْهِمْ الْبَيَانُ وَالنَّقْلُ .
ثُمَّ إنَّهُمْ جَعَلُوا بِنَاءَ الظُّلَّةِ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ وَقَتَلَ إنْسَانًا إلَخْ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُعْتَذَرَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِيمَا فَعَلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ ، وَقَدْ حَمَلَ الشُّرَّاحُ مَسْأَلَةَ اسْتِئْجَارِ الْفَعَلَةِ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ فِيمَا مَرَّ عَلَى مَا فُعِلَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ
لَا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ فَلَمْ يَجْعَلُوهَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ هُنَا ، وَأَرَادُوا بِبِنَاءِ الظُّلَّةِ الَّذِي عَدُوّهُ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِنَاءَهَا فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ ، أَوْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمُرَادَ بِمَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ فِي قَوْلِهِ فِي جَمِيعِ مَا فُعِلَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ دُونَ مَا اسْتَأْجَرَ الْغَيْرَ لِفِعْلِهِ فَلَمْ يَعُدُّوا مَا اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الظُّلَّةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ هُنَا ، وَأَرَادُوا بِبِنَاءِ الظُّلَّةِ الَّذِي عَدُّوهُ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ بِنَاءَهُ بِنَفْسِهِ ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَوَابَ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ضَمِنَ مُتَمَشٍّ فِيمَا فُعِلَ فِي فِنَاءِ الدَّارِ أَيْضًا ، وَفِيمَا فُعِلَ بِاسْتِئْجَارِ الْغَيْرِ لِفِعْلِهِ أَيْضًا فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّخْصِيصِ بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ تَفَكَّرْ .
قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ ) يَعْنِي وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْفِنَاءُ مِلْكَهُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنَافِي مَا ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الْمُقَرَّرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِيَبْنِيَ لَهُ فِي فِنَاءِ حَانُوتِهِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَمَاتَ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا فَتَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدِ أَوْ أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ تَفْسِيرِهِمْ خَلَلٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَمَّا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا إلَخْ يَأْبَاهُ جِدًّا ، فَإِنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ لِأَحَدٍ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي
صُورَةِ كَوْنِهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا أَيْضًا ، وَقَدْ جُعِلَ الْحُكْمُ فِيهَا خِلَافَ مَا إذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ لَهُ الْإِمَامُ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ أَيْضًا فَلَا يَضْمَنُ مَا عَطِبَ فِيهِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ بَيَانِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَكَذَلِكَ إذَا حَفَرَهُ فِي فِنَاءِ دَارِهِ هُوَ أَنَّ الْحَافِرَ لَا يَضْمَنُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ أَيْضًا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الشُّرَّاحُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ : يَعْنِي كَمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فَحَفَرَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَضْمَنْ ، كَذَلِكَ إنْ حَفَرَهُ فِي مِلْكِهِ بِلَا إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَضْمَنْ ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِ مَا قِيلَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فِي فِنَاءِ دَارِهِ الَّتِي جَوَابُهَا عَدَمُ الضَّمَانِ بِدُونِ إذْنِ الْإِمَامِ أَيْضًا عَلَى التَّقْيِيدِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : وَقِيلَ إنَّمَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي فِنَاءِ دَارِهِ إذَا كَانَ الْفِنَاءُ مَمْلُوكًا لَهُ ، أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْحَقْ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِعَدَمِ التَّعَدِّي .
أَمَّا إذَا كَانَ الْفِنَاءُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا كَمَا إذَا كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ يَجِبُ الضَّمَانُ لِوُجُودِ التَّعَدِّي انْتَهَى .
أَقُولُ : قَدْ زَادَ ذَلِكَ الشَّارِحُ نَغْمَةً فِي الطُّنْبُورِ مِنْ جِهَةِ الْفَسَادِ حَيْثُ شَرَحَ قَوْلَهُ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ بِأَنْ قَالَ : أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِغَيْرِهِ ، فَاشْتَرَكَ مَعَ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ فِي أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مَا يَرِدُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهَيْ تَفْسِيرِهِمْ كَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَقَالَ فِي
تَعْلِيلِ ذَلِكَ : لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَلْحَقْ الضَّرَرُ بِالْغَيْرِ يَكُونُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي .
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ يَقْتَضِي الضَّمَانَ عِنْدَ الْهَلَاكِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَسَائِلَ عَدِيدَةٍ ، وَجَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَدَمُ الضَّمَانِ عِنْدَ الْهَلَاكِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ أَقُولُ : الصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ كَانَ لَهُ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ بِالْحَفْرِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ بِالِانْتِفَاعِ فِيهِ أَوْ كَانَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ لِلِانْتِفَاعِ فِيهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ السِّبَاقُ وَاللِّحَاقُ بِلَا غُبَارٍ كَمَا تَرَى .
( وَلَوْ حَفَرَ فِي الطَّرِيقِ وَمَاتَ الْوَاقِعُ فِيهِ جُوعًا أَوْ غَمًّا لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَاتَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ فَلَا يُضَافُ إلَى الْحَفْرِ ، وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا مَاتَ مِنْ الْوُقُوعِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ مَاتَ جُوعًا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ مَاتَ غَمًّا فَالْحَافِرُ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِلْغَمِّ سِوَى الْوُقُوعِ ، أَمَّا الْجُوعُ فَلَا يَخْتَصُّ بِالْبِئْرِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ ضَامِنٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ ، إذْ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ .
.
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْأُجَرَاءِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ صَحَّتْ ظَاهِرًا إذَا لَمْ يَعْلَمُوا فَنُقِلَ فِعْلُهُمْ إلَيْهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَغْرُورِينَ ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ آخَرَ بِذَبْحِ هَذِهِ الشَّاةِ فَذَبَحَهَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشَّاةَ لِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّ الذَّابِحَ مُبَاشِرٌ وَالْآمِرُ مُسَبِّبٌ وَالتَّرْجِيحُ لِلْمُبَاشَرَةِ فَيَضْمَنُ الْمَأْمُورُ وَيَرْجِعُ الْمَغْرُورُ ، وَهُنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ وَالْأَجِيرُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُتَعَدٍّ فَيُرَجَّحُ جَانِبُهُ ( وَإِنْ عَلِمُوا ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَلَا غُرُورَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ ( وَإِنْ قَالَ لَهُمْ : هَذَا فِنَائِي وَلَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ فَحَفَرُوا وَمَاتَ فِيهِ إنْسَانٌ ) فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا ( لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ ) وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ( لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ مِنْ إلْقَاءِ الطِّينِ وَالْحَطَبِ وَرَبْطِ الدَّابَّةِ وَالرُّكُوبِ وَبِنَاءِ الدُّكَّانِ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا فَكَفَى ذَلِكَ لِنَقْلِ الْفِعْلِ إلَيْهِ .
قَالَ ) : وَمَنْ جَعَلَ قَنْطَرَةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا فَعَطِبَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَمِلَ الْقَنْطَرَةَ ، وَكَذَلِكَ ( إذَا وَضَعَ خَشَبَةً فِي الطَّرِيقِ فَتَعَمَّدَ رَجُلٌ الْمُرُورَ عَلَيْهَا ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ تَعَدٍّ هُوَ تَسْبِيبٌ ، وَالثَّانِي تَعَدٍّ هُوَ مُبَاشَرَةٌ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ تَخَلُّلَ فِعْلِ فَاعِلٍ
مُخْتَارٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ كَمَا فِي الْحَافِرِ مَعَ الْمُلْقِي .
.
( قَوْلُهُ وَإِنْ عَلِمُوا بِذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأُجَرَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ وَلَا غُرُورَ فَبَقِيَ الْفِعْلُ مُضَافًا إلَيْهِمْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ تَسَامُحٌ ، لِأَنَّ صِحَّةَ الْأَمْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَحْتَاجُ إلَى كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي مِلْكِهِ حَتَّى يَصِحَّ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ، بَلْ الْمُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرًا حَيْثُ عَلِمُوا ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ مَدَارَ زَعْمِهِ التَّسَامُحَ فِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْغَفْلَةِ عَنْ دُخُولِ قَوْلِهِ وَلَا غُرُورَ فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ ، فَقَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ صِحَّةِ أَمْرِهِ حَقِيقَةً .
وَقَوْلُهُ وَلَا غُرُورَ إشَارَةٌ إلَى انْتِفَاءِ صِحَّتِهِ ظَاهِرًا ، وَالْمَعْنَى لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ حَقِيقَةً لِانْتِفَاءِ الْمِلْكِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَلَا ظَاهِرًا لِعَدَمِ الْغُرُورِ حَيْثُ عَلِمُوا ، فَظَهَرَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ تَعْلِيلٌ مُفِيدٌ وَاسِعٌ لَيْسَ بِمَثَابَةِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَصِحَّ ظَاهِرًا حَيْثُ عَلِمُوا كَمَا تَرَى ، فَلَمْ يَتِمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُنَاسِبُ ( قَوْلُهُ فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا بِالنَّظَرِ إلَى مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِنَاءً لَهُ بِمَنْزِلَةِ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ لِانْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ إلَخْ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يُخَالِفُ هَذَا الظَّاهِرَ وَهُوَ صَرِيحٌ فَلَا تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ بِمُقَابَلَتِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَيْسَ لِي ذَلِكَ فِي الْقَدِيمِ ، وَهَكَذَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ ، فَيَكُونُ الصَّرِيحُ مُشْتَرَكُ الدَّلَالَةِ فَلَا يُعَارِضُ
الدَّلَالَةَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ كَلِمَةَ لَيْسَ لِنَفْيِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ حَالًا عِنْدَ جُمْهُورِ النُّحَاةِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ غَيْرَ نَفْيِ حَقِّ الْحَفْرِ عَنْهُ حَالًا .
وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضِ النُّحَاةِ فَكَلِمَةُ لَيْسَ وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّفْيِ مُطْلَقًا ، إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ إذَا قُيِّدَ بِزَمَانٍ مِنْ الْأَزْمِنَةِ فَهُوَ عَلَى مَا قُيِّدَ بِهِ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقَيَّدْ بِزَمَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ فِي نَحْوِ : زَيْدٌ قَائِمٌ كَذَا حَقَّقَهُ الْأَنْدَلُسِيُّ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّضِيُّ ، وَفِيمَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ لَمْ يُقَيَّدْ بِزَمَانٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْحَالِ كَمَا يُحْمَلُ الْإِيجَابُ عَلَيْهِ قَطْعًا فَلَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكَ الدَّلَالَةِ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ كَوْنِ الضَّمَانِ عَلَى الْأُجَرَاءِ قِيَاسًا لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ ، إذْ الْعِلْمُ بِفَسَادِ الْأَمْرِ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ اشْتِرَاكِ دَلَالَةِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي لَفْظِ الْمَبْسُوطِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ لَيْسَ لِي ذَلِكَ مِنْ الْقَدِيمِ لَكِنَّهُ لِي فِي الْحَالِ وَإِلَّا لَمَا تَمَّ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ لَيْسَ لِي عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقُّ الْحَفْرِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ اللَّامُ فِي لِي لِلِاخْتِصَاصِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِنَاءُ دَارِهِ حَقَّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مُشْتَرَكًا بِأَنْ كَانَتْ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ كَمَا مَرَّ مِثْلُهُ فَلَا يُخَالِفُ الظَّاهِرَ مِنْ انْطِلَاقِ يَدِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ ، إذْ يَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ التَّصَرُّفُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَلَا يُنَافِي أَيْضًا قَوْلَ الْمُصَنَّفِ فِي تَعْلِيلِ وَجْهِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا بِفَسَادِ الْأَمْرِ فَمَا غَرَّهُمْ ؟
لِأَنَّ فَسَادَ الْأَمْرِ مُقَرَّرٌ عَلَى كُلٍّ مِنْ الِاحْتِمَالَيْنِ .
أَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ لِي فِيهِ حَقُّ الْحَفْرِ أَصْلًا : أَيْ عَلَى الِاخْتِصَاصِ وَلَا عَلَى الِاشْتِرَاكِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَيْسَ لِي فِيهِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقُّ الْحَفْرِ فَلِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْحَفْرِ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ أَوْ فِي الْحَقِّ الْمُشْتَرَكِ بِدُونِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ تَعَدٍّ ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ فَتَلِفَ بِهِ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ
قَالَ ( وَمَنْ حَمَلَ شَيْئًا فِي الطَّرِيقِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَكَذَا إذَا سَقَطَ فَتَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ وَإِنْ كَانَ رِدَاءً قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ عَنْهُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ) وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَامِلَ الشَّيْءِ قَاصِدٌ حِفْظَهُ فَلَا حَرَجَ فِي التَّقْيِيدِ بِوَصْفِ السَّلَامَةِ ، وَاللَّابِسُ لَا يَقْصِدُ حِفْظَ مَا يَلْبَسُهُ فَيَخْرُجُ بِالتَّقْيِيدِ بِمَا ذَكَرْنَا فَجَعَلْنَاهُ مُبَاحًا مُطْلَقًا .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا لَبِسَ مَا لَا يَلْبَسُهُ عَادَةً فَهُوَ كَالْحَامِلِ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى لُبْسِهِ .
.
قَوْلُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَأَرَادَ بِالْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِهِ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ تَلَفَ الْإِنْسَانِ بِوُقُوعِ الشَّيْءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ وَتَلَفَهُ بِالتَّعَثُّرِ بِهِ بَعْدَمَا وَقَعَ فِي الطَّرِيقِ .
أَقُولُ : مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ كَوْنِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا تَلَفُ الْإِنْسَانِ بِسُقُوطِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهِ وَتَلَفُهُ بِتَعَثُّرِهِ بِهِ بَعْدَ سُقُوطِ ذَلِكَ لَكَانَ قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا سَقَطَ فَتَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ بَعْدَ قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ مُسْتَدْرَكًا مَحْضًا .
وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ لَذَكَرَ قَوْلَهُ وَهَذَا اللَّفْظُ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ قَبْلَ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ رِدَاءٌ قَدْ لَبِسَهُ فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ، إذْ لَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ بَيَانِ مَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَنْ ذِكْرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ بِلَا أَمْرٍ دَاعٍ إلَيْهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَعَطِبَ بِهِ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ وَذَلِكَ لَا يَشْمَلُ التَّعَثُّرَ بِهِ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ نَظَرَ إلَى الْمَعْطُوفِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ نَظَرَ إلَى الْمَعْطُوفِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِمَّا لَا مَعْنَى لَهُ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ جَوَابُ مَجْمُوعِ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ صِحَّةُ الْمَعْنَى مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ .
وَأَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ
كَيْفَ حَمَلُوا مُرَادَ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ الْمُتْقِنِ التَّحْرِيرَ عَلَى مَا يَأْبَاهُ مَنْ لَهُ أَدْنَى دُرْبَةً بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ .
وَجَعَلَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَهُوَ الْحَقُّ الصَّرِيحُ عِنْدِي أَيْضًا فَإِنَّهُ مَصُونٌ عَنْ الْمَحْذُورَاتِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا .
وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ حَيْثُ قَالَ : وَفِي بَعْضِ الشُّرُوحِ جَعَلَ قَوْلَهُ وَهَذَا اللَّفْظُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الرِّدَاءِ فَاسِدٌ ، لِأَنَّ مَوْتَ الْإِنْسَانِ بِسُقُوطِ الرِّدَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : رَدُّهُ مَرْدُودٌ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَسْقُطَ الرِّدَاءُ عَلَى فَمِ الصَّغِيرِ بَلْ عَلَى فَمِ الْكَبِيرِ أَيْضًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ بَلْ فِي حَالَةِ الْيَقِظَةِ أَيْضًا فَيَخْتَنِقَ بِذَلِكَ فَيَمُوتَ .
نَعَمْ تَحَقُّقُ مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ نَادِرٌ ، لَكِنْ إمْكَانُ وُقُوعِهِ كَافٍ فِي تَعْمِيمِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَصَدَ الْجَوَابَ عَنْ رَدِّ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ : وَلَك أَنْ تَقُولَ : قَوْلُهُ فَسَقَطَ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ : يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَعَطِبَ فَمُرَادُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ نَفْسِهِمَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْغَيْرِ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ بِالرِّدَاءِ مُطْلَقُ اللِّبَاسِ مَجَازًا لَا خُصُوصُهُ ؛ أَلَا يَرَى إلَى دَلِيلِهِ إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
أَقُولُ : كُلٌّ مِنْ مُقَدِّمَاتِ كَلَامِهِ كَاسِدٌ .
أَمَّا قَوْلُهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَشْمَلُ الْوَجْهَيْنِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَسَقَطَ عَلَى إنْسَانٍ فَمُرَادُهُ الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ نَفْسِهِمَا مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْغَيْرِ ، فَلِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ نَفْسِهِمَا بِدُونِ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الْفِقْهِ
بَلْ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ مِنْ الْكَلَامِ هَاهُنَا ، وَمِثْلُهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ فَضْلًا عَنْ الْمُصَنِّفِ الَّذِي هُوَ عَلَمٌ فِي التَّحْقِيقِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ سُلِّمَ فَالْمُرَادُ بِالرِّدَاءِ مُطْلَقُ اللِّبَاسِ مَجَازًا لَا خُصُوصُهُ ، فَلِأَنَّ الْمَجَازَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قَرِينَةٍ وَلَا قَرِينَةَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَلَا يَرَى إلَى دَلِيلِهِ فَلِأَنَّ عُمُومَ الدَّلِيلِ لَا يَقْتَضِي عُمُومَ الْمَسْأَلَةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ كُلِّيَّةَ الْكُبْرَى شَرْطٌ فِي إنْتَاجِ الشَّكْلِ الْأَوَّلِ مَعَ كَوْنِ النَّتِيجَةِ خَاصَّةً
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لِلْعَشِيرَةِ فَعَلَّقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فِيهِ قِنْدِيلًا أَوْ جَعَلَ فِيهِ بَوَارِي أَوْ حَصَاةً فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ ضَمِنَ ) قَالُوا : هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْقُرَبِ وَكُلُّ أَحَدٍ مَأْذُونٌ فِي إقَامَتِهَا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، كَمَا إذَا فَعَلَهُ بِإِذْنِ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَسْجِدِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ لِأَهْلِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ كَنَصْبِ الْإِمَامِ وَاخْتِيَارِ الْمُتَوَلِّي وَفَتْحِ بَابِهِ وَإِغْلَاقِهِ وَتَكْرَارِ الْجَمَاعَةِ إذَا سَبَقَهُمْ بِهَا غَيْرُ أَهْلِهِ فَكَانَ فِعْلُهُمْ مُبَاحًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَفِعْلُ غَيْرِهِمْ تَعَدِّيًا أَوْ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَقَصْدُ الْقُرْبَةِ لَا يُنَافِي الْغَرَامَةَ إذَا أَخْطَأَ الطَّرِيقَ كَمَا إذَا تَفَرَّدَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الزِّنَا وَالطَّرِيقُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَهْلِهِ .
قَالَ : ( وَإِنْ جَلَسَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَعَطِبَ بِهِ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ إنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَأَمَّا الْمُعْتَكِفُ فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِالِاتِّفَاقِ .
لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إلَّا بِانْتِظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ فِيهِ مُبَاحًا لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ ، أَوْ لِأَنَّ الْمُنْتَظِرَ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا بِالْحَدِيثِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَا إذَا
كَانَ فِي الصَّلَاةِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ مُلْحَقَةٌ بِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ التَّفَاوُتِ فَجَعَلْنَا الْجُلُوسَ لِلْأَصْلِ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَالْجُلُوسَ لِمَا يُلْحَقُ بِهِ مُبَاحًا مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا غَرْوَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالرَّمْيِ إلَى الْكَافِرِ أَوْ إلَى الصَّيْدِ وَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ وَالْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا وَطِئَ غَيْرَهُ وَالنَّوْمِ فِيهِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ ( وَإِنْ جَلَسَ رَجُلٌ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ فَتَعَقَّلَ بِهِ إنْسَانٌ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ ) لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَأَمْرُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إنْ كَانَ مُفَوَّضًا إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَحْدَهُ .
.
( فَصْلٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ ) ( قَوْلُهُ وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ) أَيْ فِيمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْعَشِيرَةِ ، وَفِيمَا إذَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِ الْعَشِيرَةِ .
قَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : قَوْلُهُ وَقَالَا : لَا يَضْمَنُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُمَا إذْنُ الْإِمَامِ أَوْ الْعَشِيرَةِ أَوْ عَدَمُ إذْنِهِمَا ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : تَفْسِيرُ الْوَجْهَيْنِ هُنَا بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الشَّارِحَانِ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ أَوْ لِلصَّلَاةِ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ لِلتَّعْلِيمِ : أَيْ تَعْلِيمِ الْفِقْهِ أَوْ الْحَدِيثِ أَوْ لِلصَّلَاةِ : يَعْنِي مُنْتَظِرًا لَهَا أَوْ نَامَ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا أَوْ قَعَدَ فِيهِ لِحَدِيثٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ : فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، وَاخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ : لَيْسَ فِيهَا خِلَافٌ ، بَلْ لَا ضَمَانَ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ ، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيّ قَوْلَ بَعْضِهِمْ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيِّ قَوْلَ الْبَعْضِ الْآخَرِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا قَعَدَ لِلْعِبَادَةِ بِأَنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ أَوْ قَعَدَ لِلتَّدْرِيسِ وَتَعْلِيمِ الْفِقْهِ أَوْ الِاعْتِكَافِ أَوْ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ أَوْ يُسَبِّحُهُ أَوْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا قَعَدَ لِحَدِيثٍ أَوْ نَامَ فِيهِ أَوْ أَقَامَ فِيهِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ مَرَّ فِيهِ مَارًّا فَعَثَرَ
بِهِ إنْسَانٌ فَمَاتَ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا بُيِّنَ ، وَفَصَّلَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيُّ وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا مِنْ الصُّوَرِ فَقَالَ : فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يَشْمَلُ الْقِسْمَيْنِ فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا إلَى آخِرِ كَلَامِهِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ تَكْرَارٌ ، لِأَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ وَغَيْرُ الصَّلَاةِ يَشْمَلُ هَذَا الْمَذْكُورَ كُلَّهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ جَالِسًا لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ بَيَانٌ لِذَلِكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ سَقَامَةٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا قَالَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ إنَّمَا كَانَ فِي الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ يَشْمَلُ قَوْلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ضَمِنَ هَذَا الْمَذْكُورَ كُلَّهُ ، وَمِنْهُ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْجُلُوسِ كَالنَّوْمِ فِيهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَالْمُرُورِ فِيهِ مَارًّا .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُخْتَصٌّ بِالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَفْظُ الْمُصَنِّفِ شَامِلٌ لِلْجُلُوسِ وَغَيْرِهِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا بَيَانًا لِذَاكَ .
ثُمَّ قَالَ : وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ يُفِيدُ اتِّفَاقَ الْمَشَايِخِ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ كَمَا رَأَيْت .
أَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يُفِيدُ اتِّفَاقَ الْمَشَايِخِ عَلَى ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُخْتَارَ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا مَا اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ ، فَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ
الْقَوْلَ الْآخَرَ ، وَمِثْلُ هَذَا لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي كَلِمَاتِ الْمَشَايِخِ .
ثُمَّ قَالَ : وَكَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ : فَقَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَقِيلَ لَا يَضْمَنُ بِلَا خِلَافٍ كَمَا قَالَ فِي الِاعْتِكَافِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَعَلَّ سِرَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَقُلْ هَكَذَا هُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الصُّوَرِ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ أَيْضًا ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ فِي هَذَا الْقِسْمِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ مِثْلَ مَا زَعَمَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَقَّ الْكَلَامِ لَاخْتَلَّ كَلَامُهُ كَاخْتِلَالِ كَلَامِ ذَلِكَ الشَّارِحِ فِي شَرْحِهِ كَمَا مَرَّ حَيْثُ يَلْزَمُ أَنْ يُدْرِجَ فِي اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ مَحَلَّ الْوِفَاقِ أَيْضًا فَقَالَ : وَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ بِالْبَتَاتِ جَرْيًا عَلَى اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُقُوعِ الِاخْتِلَافِ فِيمَا هُوَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْعِبَادَةِ وَاخْتِيَارًا لِمَا اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِيمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَةِ تَأَمَّلْ ، فَإِنَّ هَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ وَتَوْجِيهٌ حَسَنٌ ( قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ إلَّا بِانْتِظَارِهَا فَكَانَ الْجُلُوسُ مُبَاحًا إلَخْ ) .
أَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ مُدَّعَاهُمَا فِي بَعْضٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ كَالنَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْمُرُورِ فِيهِ وَالْقُعُودِ فِيهِ لِحَدِيثٍ : فَإِنَّ شَيْئًا مِنْهَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ الذِّكْرِ وَلَا مِنْ ضَرُورَاتِ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ الِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
.
( فَصْلٌ فِي أَحْكَامِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ ) .
قَالَ : ( وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ إلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَطُولِبَ صَاحِبُهُ بِنَقْضِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْقُضْهُ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ حَتَّى سَقَطَ ضَمِنَ مَا تَلِفَ بِهِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَضْمَنَ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ مِنْهُ مُبَاشَرَةً ، وَالْمُبَاشَرَةُ شَرْطٌ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ ، لِأَنَّ أَصْلَ الْبِنَاءِ كَانَ فِي مِلْكِهِ ، وَالْمَيَلَانُ وَشَغْلُ الْهَوَاءِ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ فَصَارَ كَمَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَائِطَ لَمَّا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَقَدْ اشْتَمَلَ هَوَاءَ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ بِمِلْكِهِ وَرَفْعُهُ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَطُولِبَ بِتَفْرِيغِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَ ثَوْبُ إنْسَانٍ فِي حِجْرِهِ يَصِيرُ مُتَعَدِّيًا بِالِامْتِنَاعِ عَنْ التَّسْلِيمِ إذَا طُولِبَ بِهِ كَذَا هَذَا ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الثَّوْبِ قَبْلَ الطَّلَبِ ، وَلِأَنَّا لَوْ لَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانَ يَمْتَنِعُ عَنْ التَّفْرِيغِ فَيَنْقَطِعُ الْمَارَّةُ حَذَرًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ مِنْ الْوَاجِبِ وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ فَيَتَعَيَّنُ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ ، وَكَمْ مِنْ ضَرَرٍ خَاصٍّ يُتَحَمَّلُ لِدَفْعِ الْعَامِّ مِنْهُ ، ثُمَّ فِيمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ النُّفُوسِ تَجِبُ الدِّيَةُ وَتَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، لِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ جِنَايَةً دُونَ الْخَطَأِ فَيُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّخْفِيفُ بِالطَّرِيقِ الْأُولَى كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ ، وَمَا تَلِفَ بِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ ، لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ وَالشَّرْطُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ وَطَلَبُ النَّقْضِ مِنْهُ دُونَ الْإِشْهَادِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِشْهَادَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِهِ عِنْدَ إنْكَارِهِ فَكَانَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ .
وَصُورَةُ الْإِشْهَادِ أَنْ يَقُولَ
الرَّجُلُ : اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ تَقَدَّمْت إلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي هَدْمِ حَائِطِهِ هَذَا ، وَلَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ قَبْلَ أَنْ يَهِيَ الْحَائِطُ لِانْعِدَامِ التَّعَدِّي .
.
أَحْكَامَ الْقَتْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ مُبَاشَرَةً أَوْ تَسَبُّبًا شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْقَتْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْجَمَادِ وَهُوَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تُؤَخَّرَ عَنْ مَسَائِلِ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ تَقْدِيمًا لِلْحَيَوَانِ عَلَى الْجَمَادِ ، إلَّا أَنَّ الْحَائِطَ الْمَائِلَ لَمَّا نَاسَبَ الْجُرْصُنَ وَالرَّوْشَنَ وَالْجَنَاحَ وَالْكَنِيفَ وَغَيْرَهَا أَلْحَقَ مَسَائِلَهُ بِهَا وَلِهَذَا أَتَى بِلَفْظِ الْفَصْلِ لَا بِلَفْظِ الْبَابِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا
قَالَ : ( وَلَوْ بَنَى الْحَائِطَ مَائِلًا فِي الِابْتِدَاءِ قَالُوا : يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَعَدٍّ ابْتِدَاءً كَمَا فِي إشْرَاعِ الْجَنَاحِ .
قَالَ : ( وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى التَّقَدُّمِ ) لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ عَلَى الْقَتْلِ ، وَشَرْطُ التَّرْكِ فِي مُدَّةٍ يَقْدِرُ عَلَى نَقْضِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ النَّقْضِ لِيَصِيرَ بِتَرْكِهِ جَانِيًا ، وَيَسْتَوِي أَنْ يُطَالِبَهُ بِنَقْضِهِ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ ، لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْمُرُورِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً حُرًّا كَانَ أَوْ مُكَاتَبًا ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُطَالَبَةٌ بِالتَّفْرِيغِ فَيَتَفَرَّدُ كُلُّ صَاحِبِ حَقٍّ بِهِ .
.
قَالَ : ( وَإِنْ مَالَ إلَى دَارِ رَجُلٍ فَالْمُطَالَبَةُ إلَى مَالِكِ الدَّارِ خَاصَّةً ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا سُكَّانٌ لَهُمْ أَنْ يُطَالِبُوهُ لِأَنَّ لَهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ الدَّارَ فَكَذَا بِإِزَالَةِ مَا شَغَلَ هَوَاءَهَا ، وَلَوْ أَجَّلَهُ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَاكِنُوهَا فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَوْ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْحَقَّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ .
.
وَلَوْ بَاعَ الدَّارَ بَعْدَمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ بِتَرْكِ الْهَدْمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ وَقَدْ زَالَ تَمَكُّنُهُ بِالْبَيْعِ ، بِخِلَافِ إشْرَاعِ الْجَنَاحِ لِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا بِالْوَضْعِ وَلَمْ يَنْفَسِخْ بِالْبَيْعِ فَلَا يَبْرَأُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِتَرْكِهِ التَّفْرِيغَ مَعَ تَمَكُّنِهِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى كُلِّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَتَفْرِيغِ الْهَوَاءِ ، وَمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ كَالْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُودَعِ وَسَاكِنِ الدَّارِ ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى الرَّاهِنِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ الْفِكَاكِ وَإِلَى الْوَصِيِّ وَإِلَى أَبِي الْيَتِيمِ أَوْ أُمِّهِ فِي حَائِطِ الصَّبِيِّ لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ ، وَذَكَرَ الْأُمَّ فِي الزِّيَادَاتِ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِأَنَّ فِعْلَ هَؤُلَاءِ كَفِعْلِهِ ، وَإِلَى الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لَهُ ، وَإِلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ وِلَايَةَ النَّقْضِ لَهُ ، ثُمَّ التَّلَفُ بِالسُّقُوطِ إنْ كَانَ مَا لَا فَهُوَ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْسًا فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ وَجْهٍ عَلَى الْمَوْلَى وَضَمَانُ الْمَالِ أَلْيَقُ بِالْعَبْدِ وَضَمَانُ النَّفْسِ بِالْمَوْلَى ، وَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إصْلَاحِ نَصِيبِهِ بِطَرِيقِهِ وَهُوَ الْمُرَافَعَةُ إلَى الْقَاضِي .
قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى كُلِّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَتَفْرِيغِ الْهَوَاءِ وَمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ لَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يَنْتَقِضُ هَذَا الْأَصْلُ بِمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ يَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَصْلُ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ وَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ .
وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فِيهِ فَهُوَ أَنْ لَا يَضْمَنَ أَحَدٌ مِنْ الْوَرَثَةِ شَيْئًا ، أَمَّا الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ فَلِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ النَّقْضِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ فَلِعَدَمِ التَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ أَيْضًا فِيمَا سَيَجِيءُ .
وَثَانِيهمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا بِمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ مُشَارَكَةِ غَيْرِهِ ، وَبِمَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ أَصْلًا ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَعَ مُشَارَكَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَلَا انْتِقَاضَ ( قَوْلُهُ وَالضَّمَانُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ) أَقُولُ : فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ نَوْعُ قُصُورٍ ، لِأَنَّ مَا تَلِفَ بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ إنْ كَانَ مِنْ النُّفُوسِ يَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْحَائِطِ لَا فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَمْوَالِ كَالدَّوَابِّ وَالْعُرُوضِ يَجِبُ ضَمَانُهَا فِي مَالِهِ ، وَقَدْ مَرَّ هَذَا كُلُّهُ فِي الْكِتَابِ ، فَكَوْنُ الضَّمَانِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي تَلَفِ الْأَمْوَالِ لَا فِي تَلَفِ النُّفُوسِ فَمَا مَعْنَى الْحُكْمِ هُنَا بِكَوْنِ الضَّمَانِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
( وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ الْمَائِلُ عَلَى إنْسَانٍ بَعْدَ الْإِشْهَادِ فَقَتَلَهُ فَتَعَثَّرَ بِالْقَتِيلِ غَيْرُهُ فَعَطِبَ لَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ عَنْهُ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إلَيْهِ ( وَإِنْ عَطِبَ بِالنَّقْضِ ضَمِنَهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ إذْ النَّقْضُ مِلْكُهُ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْحَائِطِ إشْهَادٌ عَلَى النَّقْضِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ امْتِنَاعُ الشَّغْلِ ( وَلَوْ عَطِبَ بِجَرَّةِ كَانَتْ عَلَى الْحَائِطِ فَسَقَطَتْ بِسُقُوطِهِ وَهِيَ مِلْكُهُ ضَمِنَهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَيْهِ ( وَإِنْ كَانَ مِلْكَ غَيْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ التَّفْرِيغَ إلَى مَالِكِهَا قَالَ
( وَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ خَمْسَةِ رِجَالٍ أَشْهَدَ عَلَى أَحَدِهِمْ فَقَتَلَ إنْسَانًا ضَمِنَ خُمُسَ الدِّيَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَحَفَرَ أَحَدُهُمْ فِيهَا بِئْرًا وَالْحَفْرُ كَانَ بِغَيْرِ رِضَا الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرِينَ أَوْ بَنَى حَائِطًا فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ ثُلُثَا الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) لَهُمَا أَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ ، وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ ، فَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ كَمَا مَرَّ فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الثِّقَلُ الْمُقَدَّرُ وَالْعُمْقُ الْمُقَدَّرُ ، لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ وَهُوَ الْقَلِيلُ حَتَّى يُعْتَبَرُ كُلُّ جُزْءٍ عِلَّةً فَتَجْتَمِعُ الْعِلَلُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى أَرْبَابِهَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْجِرَاحَاتِ فَإِنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ بِنَفْسِهَا صَغُرَتْ أَوْ كَبِرَتْ عَلَى مَا عُرِفَ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحِمَةِ أُضِيفَ إلَى الْكُلِّ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ لَهُمَا أَنَّ التَّلَفَ بِنَصِيبِ مَنْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ مُعْتَبَرٌ وَبِنَصِيبِ مَنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهِ هَدَرٌ فَكَانَا قِسْمَيْنِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ كَمَا فِي عَقْرِ الْأَسَدِ وَنَهْشِ الْحَيَّةِ وَجَرْحِ الرَّجُلِ ) أَقُولُ : كَانَ مُدَّعَاهُمَا عَامًّا لِلْفَصْلَيْنِ أَيْ فَصْلِ حَائِطٍ بَيْنِ خَمْسَةٍ وَفَصْلِ دَارٍ بَيْنِ ثَلَاثَةٍ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَقَالَا : عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مَنْ قَبْلَهُمَا خَاصٌّ لِلْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَكَانَ قَاصِرًا فِي الظَّاهِرِ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلِهِمَا ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْبِئْرِ تَلِفَتْ النَّفْسُ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ وَفِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ ا هـ .
وَالْجَوَابُ مِنْ جَانِبِ الْمُصَنِّفِ هُنَا هُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَبْلِهِمَا وَإِنْ كَانَ يَخُصُّ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ بِعِبَارَتِهِ إلَّا أَنَّهُ يَعُمُّ الْفَصْلَ الثَّانِيَ أَيْضًا بِدَلَالَتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فَطَانَةٍ ، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَدَارُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِانْفِهَامِ تَمَامِ الْمُرَادِ لَكَانَ مَا زَادَهُ صَاحِبُ الْكَافِي أَيْضًا قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى هُنَا ، لِأَنَّ الْفَصْلَ الثَّانِيَ لَيْسَ مَسْأَلَةَ حَفْرِ الْبِئْرِ وَحْدَهَا بَلْ هُوَ مَسْأَلَةُ حَفْرِ الْبِئْرِ وَبِنَاءِ الْحَائِطِ جَمِيعًا ، وَقَدْ تَعَرَّضَ صَاحِبُ الْكَافِي فِي التَّعْلِيلِ لِحَفْرِ الْبِئْرِ دُونَ بِنَاءِ الْحَائِطِ كَمَا تَرَى .
( بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا ) .
قَالَ ( الرَّاكِبُ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ كَدَمَتْ أَوْ خَبَطَتْ ، وَكَذَا إذَا صَدَمَتْ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُرُورَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ يُتَصَرَّفُ فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ وَجْهٍ لِكَوْنِهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ فَقُلْنَا بِالْإِبَاحَةِ مُقَيَّدًا بِمَا ذَكَرْنَا لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِهَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْعِ عَنْ التَّصَرُّفِ وَسَدِّ بَابِهِ وَهُوَ مَفْتُوحٌ ، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ الْإِيطَاءِ وَمَا يُضَاهِيهِ مُمْكِنٌ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ التَّيْسِيرِ فَقَيَّدْنَاهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ عَنْهُ ، وَالنَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ وَالذَّنَبِ لَيْسَ يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مَعَ السَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فَلَمْ يَتَقَيَّدْ بِهِ ( فَإِنْ أَوْقَفَهَا فِي الطَّرِيقِ ضَمِنَ النَّفْحَةَ أَيْضًا ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْإِيقَافِ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ عَنْ النَّفْحَةِ فَصَارَ مُتَعَدِّيًا فِي الْإِيقَافِ وَشَغْلِ الطَّرِيقِ بِهِ فَيَضْمَنُهُ .
قَالَ ( وَإِنْ أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا حَصَاةٌ أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ كَانَ حَجَرًا كَبِيرًا ضَمِنَ ) لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، إذْ سَيْرُ الدَّوَابِّ لَا يَعْرَى عَنْهُ ، وَفِي الثَّانِي مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْ السَّيْرِ عَادَةً ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِتَعْنِيفِ الرَّاكِبِ ، وَالْمُرْتَدِفُ فِيمَا ذَكَرْنَا كَالرَّاكِبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ .
قَالَ ( فَإِنْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ تَسِيرُ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّهُ
مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ فَلَا يُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ ( وَكَذَا إذَا أَوْقَفَهَا لِذَلِكَ ) لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِيقَافِ ، وَإِنْ أَوْقَفَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِرَوْثِهَا أَوْ بَوْلِهَا ضَمِنَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْإِيقَافِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَاتِ السَّيْرِ ، ثُمَّ هُوَ أَكْثَرُ ضَرَرًا بِالْمَارَّةِ مِنْ السَّيْرِ لِمَا أَنَّهُ أَدْوَمُ مِنْهُ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ( وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا ) وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّفْحَةَ بِمَرْأَى عَيْنِ السَّائِقِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَغَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ : إنَّ السَّائِقَ لَا يَضْمَنُ النَّفْحَةَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهَا ، إذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، بِخِلَافِ الْكَدْمِ لِإِمْكَانِهِ كَبْحَهَا بِلِجَامِهَا .
وَبِهَذَا يَنْطِقُ أَكْثَرُ النُّسَخِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَضْمَنُونَ النَّفْحَةَ كُلُّهُمْ لِأَنَّ فِعْلَهَا مُضَافٌ إلَيْهِمْ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الرِّجْلُ جُبَارٌ } وَمَعْنَاهُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ ، وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ وَهَذَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ .
قَالَ ( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكُلُّ شَيْءٍ ضَمِنَهُ الرَّاكِبُ ضَمِنَهُ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ ) لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ بِمُبَاشَرَتِهِمَا شَرْطَ التَّلَفِ وَهُوَ تَقْرِيبُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَانِ الْجِنَايَةِ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالرَّاكِبِ ( إلَّا أَنَّ عَلَى الرَّاكِبِ الْكَفَّارَةَ ) فِيمَا أَوْطَأَتْهُ الدَّابَّةُ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا ( وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا ) وَلَا عَلَى
الرَّاكِبِ فِيمَا وَرَاءَ الْإِبْطَاءِ ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِأَنَّ التَّلَفَ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ تَبَعٌ لَهُ ، لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَيْهِ وَهِيَ آلَةٌ لَهُ وَهُمَا مُسَبَّبَانِ لِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ مِنْهُمَا إلَى الْمَحَلِّ شَيْءٌ ، وَكَذَا الرَّاكِبُ فِي غَيْرِ الْإِيطَاءِ ، وَالْكَفَّارَةُ حُكْمُ الْمُبَاشَرَةِ لَا حُكْمُ التَّسَبُّبِ ، وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِيطَاءِ فِي حَقِّ الرَّاكِبِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ دُونَ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمُبَاشَرَةِ ( وَلَوْ كَانَ رَاكِبٌ وَسَائِقٌ قِيلَ : لَا يَضْمَنُ السَّائِقُ مَا أَوْطَأَتْ الدَّابَّةُ ) لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَالسَّائِقُ مُسَبِّبٌ ، وَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى .
وَقِيلَ : الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ .
.
بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ ، وَلَا شَكَّ فِي تَقَدُّمِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْبَهِيمَةِ رُتْبَةً ، فَكَذَا ذِكْرًا ، كَذَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْرَغْ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْإِنْسَانِ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهَا أَحْكَامُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مِنْ الْإِنْسَانِ أَيْضًا مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ رُتْبَةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا أَيْضًا ذِكْرًا ، فَلَمْ يَكُنْ الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ مِنْ التَّوْجِيهِ كَافِيًا فِي إفَادَةِ حَقِّ الْمَقَامِ .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْبَابِ أَنْ يُذْكَرَ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ لِفَضِيلَةِ النُّطْقِ فِي الْمَمْلُوكِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ الْبَهِيمَةُ مُلْحَقَةً بِالْجَمَادَاتِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ أُلْحِقَ هَذَا الْبَابُ بِبَابِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْجُرْصُنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا الْبَابُ مُلْحَقًا بِبَابِ مَا يُحْدِثُهُ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَمَا ذُكِرَتْ مَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ فِي بَابٍ مُسْتَقِلٍّ بَلْ كَانَ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي فَصْلٍ كَمَا قَالُوا فِي فَصْلِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا ) قَالَ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً : يُقَالُ نَفَحَتْ الدَّابَّةُ شَيْئًا إذَا ضَرَبَتْهُ بِحَدِّ حَافِرِهَا .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَالْمُغْرِبِ ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبَا الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : كَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الْمُغْرِبِ كَذَلِكَ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : نَفَحَتْهُ الدَّابَّةُ ضَرَبَتْهُ بِحَدِّ حَافِرِهَا ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمَذْكُورِ فِي الصِّحَاحِ كَذَلِكَ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ لَمْ يَعْتَبِرْ فِيهِ كَوْنِ
الضَّرْبِ بِحَدِّ الْحَافِرِ بَلْ قَالَ فِيهِ : وَنَفَحَتْ النَّاقَةُ ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ إشْكَالٌ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَمِمَّا ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا أَنْ لَا تَكُونَ النَّفْحَةُ إلَّا بِالرِّجْلِ فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ قَوْلُهُ أَوْ ذَنَبِهَا فِي قَوْلِهِ وَلَا يَضْمَنُ مَا نَفَحَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ النَّفْحَةُ بِالذَّنَبِ أَيْضًا بَلْ يَلْزَمُ أَيْضًا اسْتِدْرَاكُ قَوْلِهِ بِرِجْلِهَا لِأَنَّ الضَّرْبَ بِالرِّجْلِ كَانَ دَاخِلًا فِي مَفْهُومِ النَّفْحَةِ .
لَا يُقَالُ : ذِكْرُ الرِّجْلِ مَحْمُولٌ عَلَى التَّأْكِيدِ وَذِكْرُ الذَّنَبِ عَلَى التَّجْرِيدِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : اعْتِبَارُ التَّأْكِيدِ وَالتَّجْرِيدِ مَعًا بِالنَّظَرِ إلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُتَعَذِّرٍ لِلتَّنَافِي بَيْنَهُمَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ ، بَلْ التَّأْوِيلُ الصَّحِيحُ أَنْ تُحْمَلَ النَّفْحَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ عَلَى مُطْلَقِ الضَّرْبِ بِطَرِيقِ عُمُومِ الْمَجَازِ ، فَيَصِحُّ ذِكْرُ الرِّجْلِ وَالذَّنَبِ كِلَيْهِمَا بِلَا إشْكَالٍ تَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَالسَّائِقُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا وَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا دُونَ رِجْلِهَا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِهِ : أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا ، وَقَالَ : إنَّمَا فُسِّرَ بِهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا الْوَطْءُ ، وَقَدْ ذَكَرْت أَنَّهُ يُضَمَّنُ فِيهِ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ مِنْ غَيْرِ خِلَافِ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي النَّفْحَةِ ، وَلَمْ لَوْ يُفَسَّرْ بِهَذَا لَكَانَ لِلْمُؤَوِّلِ أَنْ يُؤَوِّلَ ذَلِكَ بِالْوَطْءِ وَيَثْبُتُ الِاخْتِلَافُ فِيهِ وَلَيْسَتْ الرِّوَايَةُ كَذَلِكَ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ : أَمَّا
أَوَّلًا فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ : أَيْ مِنْ قَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْإِصَابَةِ بِيَدِهَا وَبِالْإِصَابَةِ بِرِجْلِهَا كِلَيْهِمَا هُوَ النَّفْحَةُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا يُطْلَقُ عَلَى الْإِصَابَةِ بِالْيَدِ النَّفْحَةُ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا الْخَطُّ إذَا ضَرَبَتْ بِالْيَدِ ، وَلَوْ سَلِمَ إطْلَاقُ النَّفْحَةِ عَلَيْهَا أَيْضًا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ فَلَا يُجْدِي هُنَا ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَطْءِ بِالْيَدِ وَالْخَبْطِ الَّذِي هُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ بِهِمَا عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِلَا خِلَافِ أَحَدٍ ، فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي مَسْأَلَةِ السَّائِقِ أَصْلًا حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ لِمَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا هُوَ الْوَطْءُ إثْبَاتُ الِاخْتِلَافِ فِي الْوَطْءِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي بَيَّنَ الْخِلَافَ فِي هَاتِيكَ الْمَسْأَلَةِ هُنَا هُوَ الْمُصَنِّفُ وَذَا فَرْعُ تَفْسِيرِهِ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِالنَّفْحَةِ لَا مَنْشَأُ هَذَا التَّفْسِيرِ كَمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُمْ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمُرَادُ النَّفْحَةُ هُوَ أَنَّ مُرَادَ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ أَوْ بِرِجْلِهَا فِي مَسْأَلَةِ السَّائِقِ وَبِقَوْلِهِ دُونَ رِجْلِهَا فِي مَسْأَلَةِ الْقَائِدِ هُوَ النَّفْحَةُ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا فَسَّرَ بِذَلِكَ لِيَتِمَّ قَوْلُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَائِدِ دُونَ رِجْلِهَا ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَطْءُ لَمْ يَتِمَّ ذَلِكَ فَإِنَّ وَطْءَ الدَّابَّةِ بِرِجْلِهَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْقَائِدِ أَيْضًا بِلَا خِلَافِ أَحَدٍ .
( قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ النَّفْحَةَ بِمَرْأَى عَيْنِ السَّائِقِ فَيُمْكِنُهُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَغَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ يَدَ الدَّابَّةِ أَيْضًا غَائِبٌ عَنْ بَصَرِ الْقَائِدِ إذْ الْقَوَدْ لَا يَتَيَسَّرُ إلَّا
بِالنَّظَرِ وَالِالْتِفَاتِ إلَى الْقُدَّامِ فَيَغِيبُ مَا فِي الْخَلْفِ عَنْ الْبَصَرِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَمَّا أَصَابَتْهُ بِيَدِهَا أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ ذَلِكَ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ : إنَّ السَّائِقَ لَا يَضْمَنُ النَّفْحَةَ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ يَرَاهَا ، إذْ لَيْسَ عَلَى رِجْلِهَا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ) أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَيْسَ عَلَى يَدِهَا أَيْضًا مَا يَمْنَعُهَا بِهِ كَمَا كَانَ فِي فَمِهَا مِنْ اللِّجَامِ فَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَمَّا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَهُ أَيْضًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ .
قَالَ ( وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْآخَرِ لِمَا رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ ، لِأَنَّهُ بِصَدْمَتِهِ آلَمَ نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ فَيُهْدَرُ نِصْفُهُ وَيُعْتَبَرُ نِصْفُهُ ، كَمَا إذَا كَانَ الِاصْطِدَامُ عَمْدًا ، أَوْ جَرَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ جِرَاحَةً أَوْ حَفَرَا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ بِئْرًا فَانْهَارَ عَلَيْهِمَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ فَكَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْتَ يُضَافُ إلَى فِعْلِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي نَفْسِهِ مُبَاحٌ وَهُوَ الْمَشْيُ فِي الطَّرِيقِ فَلَا يَصْلُحُ مُسْتَنَدًا لِلْإِضَافَةِ فِي حَقِّ الضَّمَانِ ، كَالْمَاشِي إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْبِئْرِ وَوَقَعَ فِيهَا لَا يُهْدَرُ شَيْءٌ مِنْ دَمِهِ ، وَفِعْلُ صَاحِبِهِ وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا ، لَكِنَّ الْفِعْلَ الْمُبَاحَ فِي غَيْرِهِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْفِعْلَانِ مَحْظُورَانِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ .
هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ ، وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَهْدُرُ الدَّمُ فِي الْخَطَإِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ دَفْعًا وَفِدَاءً ، وَقَدْ فَاتَتْ لَا إلَى خُلْفٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ الْمَوْلَى فَهُدِرَ ضَرُورَةً ، وَكَذَا فِي الْعَمْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَلَكَ بَعْدَمَا جَنَى وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَفِي الْخَطَإِ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ قِيمَةُ الْعَبْدِ فَيَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ الْحُرِّ ، وَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ فِي الدِّيَةِ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ ؛
لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ الْآدَمِيِّ فَقَدْ أَخْلَفَ بَدَلًا بِهَذَا الْقَدْرِ فَيَأْخُذُهُ وَرَثَةُ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ وَيَبْطُلُ مَا زَادَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ الْخُلْفِ ، وَفِي الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ هُوَ النِّصْفُ فِي الْعَمْدِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَأْخُذُهُ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ ، وَمَا عَلَى الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ وَهُوَ نِصْفُ دِيَةِ الْحُرِّ يَسْقُطُ بِمَوْتِهِ إلَّا قَدْرَ مَا أَخْلَفَ مِنْ الْبَدَلِ وَهُوَ نِصْفُ الْقِيمَةِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا اصْطَدَمَ فَارِسَانِ فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَفِي تَقْيِيدِ الْفَارِسَيْنِ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ لَيْسَتْ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي اصْطِدَامِ الْمَاشِيَيْنِ وَمَوْتِهِمَا بِذَلِكَ كَذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، سِوَى أَنَّ مَوْتَ الْمُصْطَدِمَيْنِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْفَارِسَيْنِ ا هـ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : حُكْمُ الْمَاشِيَيْنِ حُكْمُ الْفَارِسَيْنِ ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمُصْطَدِمَيْنِ غَالِبًا فِي الْفَارِسَيْنِ خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ ا هـ .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَكَذَا الْحُكْمُ إذَا اصْطَدَمَ الْمَاشِيَانِ وَالتَّقْيِيدُ بِالْفَارِسَيْنِ اتِّفَاقِيٌّ أَوْ بِحَسَبِ الْغَالِبِ ا هـ .
وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : عَجِيبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ مِثْلُ هَذِهِ التَّعَسُّفَاتِ مَعَ كَوْنِ وَجْهِ التَّقْيِيدِ بِالْفَارِسَيْنِ نَيِّرًا ، فَإِنَّ الْبَابَ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ بَابُ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ اصْطِدَامَ الْمَاشِيَيْنِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَكَانَ خَارِجًا مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ .
( قَوْلُهُ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كُلَّ الدِّيَةِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ : فِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْخَصْمَ أَيْضًا تَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى .
وَالثَّانِي أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ يَصْلُحُ حُجَّةً وَمَا صَلُحَ حُجَّةً لَمْ يَصْلُحْ مُرَجِّحًا .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مَنْقُوضٌ بِالْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ بِمَشْيِهِ فَيَكُونُ فَاسِدًا ، وَعَنْ الثَّانِي أَنَّ الْقِيَاسَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً ا هـ .
أَقُولُ : إنَّ الْجَوَابَ مِنْ الثَّانِي بِمَا ذَكَرَ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا لَا
يَصْلُحُ حُجَّةً فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ النَّصُّ مَتْرُوكَ الْعَمَلِ بِهِ بِأَنْ عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ مَتْرُوكَ الْعَمَلِ بِهِ بِأَنْ عَارَضَهُ نَصٌّ آخَرُ وَتَسَاقَطَا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَالْقِيَاسُ يَصْلُحُ حُجَّةً فِي مُقَابَلَتِهِ قَطْعًا ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَتَسَاقَطَا يُصَارُ مِنْ الْكِتَابِ إلَى السُّنَّةِ وَمِنْ السُّنَّةِ إلَى الْقِيَاسِ ، وَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ لَا يَصْلُحُ فِيهِ حُجَّةٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الَّذِي تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ لَمَا صَحَّ الْمَصِيرُ مِنْ السُّنَّةِ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَالتَّسَاقُطِ إلَى الْقِيَاسِ إذْ يَكُونُ الْقِيَاسُ إذْ ذَاكَ فِي مُقَابَلَةِ السُّنَّةِ لَا مَحَالَةَ .
وَالصَّوَابُ فِي الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَرَجَّحْنَا بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّا رَجَّحْنَا قَوْلَنَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي مَآلُهُ الْقِيَاسُ بَعْدَ أَنْ تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ ، لَا أَنَّا رَجَّحْنَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ حَتَّى يُتَّجَهَ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا .
بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ جَوَابُ الْقِيَاسِ وَمَا قُلْنَاهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَإِذَا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَسَاقَطَتَا فَكَانَ مَصِيرُنَا فِي إثْبَاتِ قَوْلِنَا إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعْقُولِ الَّذِي مَآلُهُ الْقِيَاسُ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَا قُلْنَاهُ جَوَابَ الْقِيَاسِ أَيْضًا ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَا يَنْحَصِرُ فِي النَّصِّ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ بِالنَّصِّ كَمَا فِي السَّلَمِ وَالْإِجَارَةِ وَبَقَاءِ الصَّوْمِ فِي النِّسْيَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالضَّرُورَةِ كَمَا فِي طَهَارَةِ الْحِيَضِ وَالْآبَارِ ،
وَقَدْ يَكُونُ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ وَهُوَ الْأَكْثَرُ كَمَا صُرِّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، فَالْمُرَادُ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي قَوْلِهِمْ هُنَا وَمَا قُلْنَاهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ هُوَ الْقِيَاسُ الْخَفِيُّ الْمُقَابِلُ لِلْقِيَاسِ الْجَلِيِّ فَلَا إشْكَالَ
قَالَ ( وَمَنْ سَاقَ دَابَّةً فَوَقَعَ السَّرْجُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ ، وَكَذَا عَلَى هَذَا سَائِرُ أَدَوَاتِهِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ ، وَكَذَا مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ ، لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ وَهُوَ تَرْكُ الشَّدِّ أَوْ الْإِحْكَامِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الرِّدَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُشَدُّ فِي الْعَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَاصِدٌ لِحِفْظِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَمَا فِي الْمَحْمُولِ عَلَى عَاتِقِهِ دُونَ اللِّبَاسِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَيُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ .
قَالَ ( وَمَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَوْطَأَ ) ، فَإِنْ وَطِئَ بَعِيرٌ إنْسَانًا ضَمِنَ بِهِ الْقَائِدُ وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ الْقَائِدَ عَلَيْهِ حِفْظُ الْقِطَارِ كَالسَّائِقِ وَقَدْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ وَقَدْ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالتَّقْصِيرِ فِيهِ ، وَالتَّسَبُّبِ بِوَصْفِ التَّعَدِّي سَبَبٌ لِلضَّمَانِ ، إلَّا أَنَّ ضَمَانَ النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِيهِ وَضَمَانُ الْمَالِ فِي مَالِهِ ( وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّ قَائِدَ الْوَاحِدِ قَائِدٌ لِلْكُلِّ ، وَكَذَا سَائِقُهُ لِاتِّصَالِ الْأَزِمَّةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ السَّائِقُ فِي جَانِبٍ مِنْ الْإِبِلِ ، أَمَّا إذَا كَانَ تَوَسَّطَهَا وَأَخَذَ بِزِمَامٍ وَاحِدٍ يَضْمَنُ مَا عَطِبَ بِمَا هُوَ خَلْفَهُ ، وَيَضْمَنَانِ مَا تَلِفَ بِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّ الْقَائِدَ لَا يَقُودُ مَا خَلْفَ السَّائِقِ لِانْفِصَامِ الزِّمَامِ ، وَالسَّائِقُ يَسُوقُ مَا يَكُونُ قُدَّامَهُ .
قَالَ ( وَإِنْ رَبَطَ رَجُلٌ بَعِيرًا إلَى الْقِطَارِ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ فَوَطِئَ الْمَرْبُوطُ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَائِدِ الدِّيَةُ ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ صِيَانَةُ الْقِطَارِ عَنْ رَبْطِ غَيْرِهِ ، فَإِذَا تَرَكَ الصِّيَانَةَ صَارَ مُتَعَدِّيًا ، وَفِي التَّسْبِيبِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ ( ثُمَّ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الرَّابِطِ ) لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُسَبِّبٌ لِأَنَّ الرَّبْطَ مِنْ الْقَوْدِ بِمَنْزِلَةِ التَّسَيُّبِ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِاتِّصَالِ التَّلَفِ بِالْقَوْدِ دُونَ الرَّبْطِ .
قَالُوا : هَذَا إذَا رَبَطَ وَالْقِطَارُ يَسِيرُ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْقَوْدِ دَلَالَةً ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَفُّظُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَى الرَّابِطِ ، أَمَّا إذَا رَبَطَ وَالْإِبِلُ قِيَامٌ ثُمَّ قَادَهَا ضَمِنَهَا الْقَائِدُ لِأَنَّهُ قَادَ بَعِيرَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً فَلَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ عَلَيْهِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً وَكَانَ لَهَا سَائِقًا فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا يَضْمَنُهُ ) لِأَنَّ الْفِعْلَ انْتَقَلَ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ السَّوْقِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَرْسَلَ طَيْرًا وَسَاقَهُ فَأَصَابَ فِي فَوْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ بَدَنَ الْبَهِيمَةِ يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَاعْتُبِرَ سَوْقُهُ وَالطَّيْرُ لَا يَحْتَمِلُ السَّوْقَ فَصَارَ وُجُودُ السَّوْقِ وَعَدَمِهِ بِمَنْزِلَةٍ ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ سَائِقًا فَأَخَذَ الصَّيْدَ وَقَتَلَهُ حَلَّ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَهِيمَةَ مُخْتَارَةٌ فِي فِعْلِهَا وَلَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْ الْمُرْسِلِ فَلَا يُضَافُ فِعْلُهَا إلَى غَيْرِهَا ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ ، إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ مَسَّتْ فِي الِاصْطِيَادِ فَأُضِيفَ إلَى الْمُرْسِلِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مَشْرُوعٌ وَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَاهُ وَلَا حَاجَةَ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْعُدْوَانِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الضَّمَانَ فِي هَذَا كُلِّهِ احْتِيَاطًا صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ إذَا أَرْسَلَ دَابَّةً فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَالْمُرْسِلُ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ سَيْرَهَا مُضَافٌ إلَيْهِ مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سَنَنِهَا ، وَلَوْ انْعَطَفَتْ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً انْقَطَعَ حُكْمُ الْإِرْسَالِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ آخَرُ سِوَاهُ وَكَذَا إذَا وَقَفَتْ ثُمَّ سَارَتْ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَفَتْ بَعْدَ الْإِرْسَالِ فِي الِاصْطِيَادِ ثُمَّ سَارَتْ فَأَخَذَتْ الصَّيْدَ ، لِأَنَّ تِلْكَ الْوَقْفَةَ تَحَقُّقُ مَقْصُودِ الْمُرْسِلِ لِأَنَّهُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الصَّيْدِ ، وَهَذِهِ تُنَافِي مَقْصُودَ الْمُرْسِلِ وَهُوَ السَّيْرُ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْإِرْسَالِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرْسَلَهُ إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ نَفْسًا أَوْ مَالًا فِي فَوْرِهِ لَا يَضْمَنُهُ مَنْ أَرْسَلَهُ ، وَفِي الْإِرْسَالِ فِي الطَّرِيقِ يَضْمَنُهُ لِأَنَّ شَغْلَ الطَّرِيقِ تَعَدٍّ فَيَضْمَنُ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، أَمَّا الْإِرْسَالُ
لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي .
( قَوْلُهُ أَمَّا الْإِرْسَالُ لِلِاصْطِيَادِ فَمُبَاحٌ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : نَعَمْ إلَّا أَنَّهُ لَمْ لَا يَكُنْ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ا هـ .
أَقُولُ : جَوَابُهُ يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي ، فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ الْمُبَاحِ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا وُجِدَ فِيهِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْمُرُورِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ يُوجَدُ فِيهِ شَغْلُ الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْعَامَّةِ .
وَأَمَّا فِيمَا لَا يُوجَدُ فِيهِ التَّعَدِّي كَمَا فِي الْإِرْسَالِ لِلِاصْطِيَادِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، لِأَنَّ الضَّمَانَ فِي أَمْثَالِ ذَلِكَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالتَّسْبِيبِ وَلَا تَسْبِيبَ إلَّا بِوَصْفِ التَّعَدِّي ، وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ التَّعَدِّي لَمْ يُتَصَوَّرْ التَّسْبِيبُ فَلَا ضَمَانَ أَصْلًا .
وَقَدْ أَوْضَحَ الْفَرْقَ بَيْنَ إرْسَالِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَبَيْنَ إرْسَالِ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِي لِلِاصْطِيَادِ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ : وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إرْسَالَ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يُتْبَعْ مَعَ الدَّابَّةِ وَأَمْكَنَهُ الِاتِّبَاعُ تَعَدٍّ مِنْ صَاحِبِهِ ، فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
وَأَمَّا إرْسَالُ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِي مِنْ غَيْرِ اتِّبَاعٍ مَعَهُ فَلَيْسَ بِتَعَدٍّ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاتِّبَاعُ ، وَالْمُتَسَبِّبُ فِي الْإِتْلَافِ لَا يَضْمَنُ إلَّا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا .
ا هـ تَبَصَّرْ .
قَالَ ( وَلَوْ أَرْسَلَ بَهِيمَةً فَأَفْسَدَتْ زَرْعًا عَلَى فَوْرِهِ ضَمِنَ الْمُرْسِلُ ، وَإِنْ مَالَتْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا ) وَلَهُ طَرِيقٌ آخَرُ لَا يَضْمَنُ لِمَا مَرَّ ، وَلَوْ انْفَلَتَتْ الدَّابَّةُ فَأَصَابَتْ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا ( لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ } وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هِيَ الْمُنْفَلِتَةُ ، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ لِعَدَمِ مَا يُوجِبُ النِّسْبَةَ إلَيْهِ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ ) وَهِيَ السَّوْقُ وَالْقَوْدُ وَالرُّكُوبُ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ بَيَانِهَا عَلَى النَّمَطِ الْمَزْبُورِ كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّفْظِ أَنْ يَقُولَ : مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَمْثَالِهِ ، أَوْ يَقُولَ : مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهَا بِتَأْوِيلِ الْكَلِمَةِ ، إذْ السَّوْقُ أَوْ الْقَوْدُ لَمَّا كَانَ أُخْتًا لَا أَخًا لِلْإِرْسَالِ كَانَ الْإِرْسَالُ أُخْتًا أَيْضًا ، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَعْلُ بَعْضِ أَسْبَابِ التَّعَدِّي أَخًا وَبَعْضُهَا أُخْتًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ النِّهَايَةِ : وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا مُؤَنَّثٌ مَعْنَوِيٌّ خُولِفَ فِيمَا يَقْتَضِيهِ حَتَّى يُنَاقَشَ عَلَى ذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِدَافِعٍ لِمَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَانَ مِنْ حَقِّ اللَّفْظِ أَنْ يُؤْتَى بِأَدَاءِ التَّأْنِيثِ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ : لَيْسَ هُنَا مُؤَنَّثٌ مَعْنَوِيٌّ يَقْتَضِي الْإِتْيَانَ بِأَدَاةِ التَّأْنِيثِ ، بَلْ قَالَ : كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَجْعَلَ أَسْبَابَ التَّعَدِّي فِي قَرْنٍ وَاحِدٍ مِنْ التَّذْكِيرِ وَالتَّأْنِيثِ بِأَنْ يُقَالَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَمْثَالِهِ ، أَوْ يُقَالَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهَا ، وَإِلَّا يَلْزَمُ جَعْلُ بَعْضِهَا مُذَكَّرًا وَبَعْضِهَا مُؤَنَّثًا مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ يَدْعُو إلَيْهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْوَجْهُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا جَازَ تَذْكِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي ظَاهِرِ لَفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَفِي مَعْنَاهُ مِنْ التَّذْكِيرِ وَجَازَ تَأْنِيثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِتَأْوِيلِ لَفْظِهِ بِالْكَلِمَةِ أَوْ تَأْوِيلِ مَعْنَاهُ بِالْفَعْلَةِ صَحَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا الْوَجْهَانِ .
ثُمَّ إنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا قَصَدَ رِعَايَةَ صَنْعَةِ الْمُطَابَقَةِ وَهِيَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَضَادَّيْنِ كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } عَلَى مَا عُرِفَ ذَكَّرَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ وَأَنَّثَ بَعْضَهَا فَقَالَ مِنْ الْإِرْسَالِ وَأَخَوَاتِهِ ، تَدَبَّرْ تَقِفْ .
قَالَ ( شَاةٌ لِقَصَّابٍ فُقِئَتْ عَيْنُهَا فَفِيهَا مَا نَقَصَهَا ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا هُوَ اللَّحْمُ فَلَا يُعْتَبَرُ إلَّا النُّقْصَانُ ( وَفِي عَيْنِ بَقَرَةِ الْجَزَّارِ وَجَزُورِهِ رُبْعُ الْقِيمَةِ ، وَكَذَا فِي عَيْنِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهِ النُّقْصَانُ أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالشَّاةِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ } وَهَكَذَا قَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدَ سِوَى اللَّحْمِ كَالْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْآدَمِيَّ وَقَدْ تُمْسَكُ لِلْأَكْلِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْمَأْكُولَاتِ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِهَا بِأَرْبَعَةِ أَعْيُنٍ عَيْنَاهَا وَعَيْنَا الْمُسْتَعْمِلِ فَكَأَنَّهَا ذَاتُ أَعْيُنٍ أَرْبَعَةٍ فَيَجِبُ الرُّبْعُ بِفَوَاتِ إحْدَاهَا .
( قَوْلُهُ وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ الْقِيمَةِ } ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ وَالْجَمَالِ وَالْعَمَلِ مَوْجُودٌ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَيَلْحَقُ بِهِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، إذْ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ تِلْكَ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ وَحْدَهَا لِجَوَازِ كَوْنِ أَنْ لَا يُقْصَدَ مِنْهُ اللَّحْمُ أَصْلًا كَمَا يُقْصَدُ ذَلِكَ مِنْ الشَّاةِ دَاخِلًا فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْمَعْنَى أَيْضًا وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، إذْ قَدْ يُقْصَدُ مِنْهُ اللَّحْمُ كَمَا تُقْصَدُ تِلْكَ الْأُمُورُ الْمَذْكُورَةُ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ الْإِلْحَاقُ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهَا مَقَاصِدُ سِوَى اللَّحْمِ إلَخْ ) أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ لَا يَتَمَشَّى فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ ، بَلْ هُوَ بِحُكْمِ انْعِكَاسِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ غَيْرَ الْجَوَابِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا مُتَّحِدٌ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَاخِلًا فِي الْمُدَّعَى هُنَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ : يَعْنِي عَمَلُنَا بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الرُّبْعِ لَيْسَ بِوَاضِحٍ ، لِأَنَّ شَبَهَ الْآدَمِيِّ لَا يَقْتَضِي إيجَابَ الرُّبْعِ بَلْ يَقْتَضِي إيجَابَ النِّصْفِ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْآدَمِيِّ فِي الْجِنَايَةِ الْمَزْبُورَةِ هُوَ النِّصْفُ ، وَإِنَّمَا الْمُقْتَضِي لِإِيجَابِ الرُّبْعِ مَجْمُوعُ الشَّبَهَيْنِ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَضِي لِإِيجَابِ الرُّبْعِ شَبَهَ الْآدَمِيِّ فَقَطْ لَمَا اُحْتِيجَ إلَى الْعَمَلِ بِالشَّبَهِ الْآخَرِ
كَمَا لَا يَخْفَى .
فَالظَّاهِرُ فِي الْأَدَاءِ أَنْ يُقَالَ : فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ بِشَبَهِ الْآدَمِيِّ فِي إيجَابِ الْمُقَدَّرِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ النُّقْصَانِ ، وَبِالشَّبَهِ الْآخَرِ فِي نَفْيِ النِّصْفِ الْوَاجِبِ فِي عَيْنِ الْآدَمِيِّ فَوَجَبَ الرُّبْعُ عَمَلًا بِهِمَا .
وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : فَأَشْبَهَ الْإِنْسَانَ مِنْ وَجْهٍ وَالشَّاةَ مِنْ وَجْهٍ فَوَجَبَ تَنْصِيفُ التَّقْدِيرِ الْوَاجِبِ فِي الْإِنْسَانِ عَمَلًا بِهِمَا ا هـ .
نَعَمْ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا هَذَا الْمَعْنَى لَكِنَّ عِبَارَتَهُ لَا تُسَاعِدُهُ كَمَا تَرَى .
قَالَ ( وَمَنْ سَارَ عَلَى دَابَّةٍ فِي الطَّرِيقِ فَضَرَبَهَا رَجُلٌ أَوْ نَخَسَهَا فَنَفَحَتْ رَجُلًا أَوْ ضَرَبَتْهُ بِيَدِهَا أَوْ نَفَرَتْ فَصَدَمَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ ) هُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمَرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَأُضِيفَ فِعْلُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَدِهِ ، وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَالرَّاكِبُ فِي فِعْلِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي ، حَتَّى لَوْ كَانَ وَاقِفًا دَابَّتَهُ عَلَى الطَّرِيقِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْإِيقَافِ أَيْضًا .
قَالَ ( وَإِنْ نَفَحَتْ النَّاخِسَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ( وَإِنْ أَلْقَتْ الرَّاكِبَ فَقَتَلَتْهُ كَانَ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ ) لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
قَالَ ( وَلَوْ وَثَبَتْ بِنَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ أَوْ وَطِئَتْهُ فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَالْوَاقِفُ فِي مِلْكِهِ وَاَلَّذِي يَسِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَالرَّاكِبِ نِصْفَيْنِ ، لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِثِقَلِ الرَّاكِبِ وَوَطْءِ الدَّابَّةِ ، وَالثَّانِي مُضَافٌ إلَى النَّاخِسِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ ، إذْ النَّخْسُ فِي مَعْنَى السَّوْقِ فَصَحَّ أَمْرُهُ بِهِ ، وَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ وَالْمَرْكَبَ مَدْفُوعَانِ بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَأُضِيفَ فِعْلُ الدَّابَّةِ إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِيَدِهِ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ جَوَابًا عَنْ الشَّافِعِيِّ بِقَوْلِهِ وَانْتِقَالُ الْفِعْلِ بِتَخْوِيفِ الْقَتْلِ كَمَا فِي الْمُكْرَهِ ، وَهَذَا تَخْوِيفٌ بِالضَّرْبِ .
وَجْهُ الْوُرُودِ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْفَطِنِ النَّاظِرِ فِي الْمَقَامَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ النَّاخِسَ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ وَالرَّاكِبَ فِي فِعْلِهِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الرَّاكِبَ إنْ كَانَ فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا فَهُوَ مُبَاشِرٌ ، وَالتَّعَدِّي لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِهِ مَدْفُوعًا فَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِذِكْرِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ فِيمَا إذَا تَلِفَ بِالْوَطْءِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ التَّلَفُ بِالثِّقَلِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ هُنَا فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْحِ بِالرِّجْلِ وَالضَّرْبِ بِالْيَدِ وَالصَّدْمَةِ فَكَانَا مُتَسَبِّبَيْنِ وَتَرَجَّحَ النَّاخِسُ فِي التَّغْرِيمِ لِلتَّعَدِّي .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ اخْتِيَارُ الشِّقِّ الْأَوَّلِ مِنْ التَّرْدِيدِ وَمَنْعُ كَوْنِ الرَّاكِبِ مُبَاشِرًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الرَّاكِبِ مُعْتَبَرًا فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونُ هَذَا الدَّلِيلِ مُنَافِيًا لِمَضْمُونِ الدَّلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ مَدَارُهُ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الرَّاكِبِ مُعْتَبَرًا لِكَوْنِهِ مَدْفُوعًا بِدَفْعِ النَّاخِسِ فَيَتَدَافَعَانِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفَرْضِ وَالْآخَرُ عَلَى التَّحْقِيقِ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا لِأَنَّهُ
أَمَرَهُ بِمَا يَمْلِكُهُ ، إذْ النَّخْسُ فِي مَعْنَى السَّوْقِ فَيَصِحُّ أَمْرُهُ بِهِ وَانْتَقَلَ إلَيْهِ لِمَعْنَى الْأَمْرِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَبْ أَنَّ النَّخْسَ فِي مَعْنَى السَّوْقِ وَأَنَّ الرَّاكِبَ كَانَ يَمْلِكُهُ فَأَمَرَ النَّاخِسُ بِهِ ، لَكِنَّ الْأَمْرَ بِهِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَوْقٌ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ كَمَا سَيَجِيءُ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى النَّاخِسِ وَلَا يَنْتَقِلَ إلَى الرَّاكِبِ فَيَجِبُ عَلَى النَّاخِسِ الضَّمَانُ لِتَعَدِّيهِ فِي الْإِتْلَافِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ فَتَفَكَّرْ فِي الْفَرْقِ وَلَعَلَّهُ تُسْكَبُ فِيهِ الْعَبَرَاتُ .
قَالَ ( وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا النَّاخِسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ جَمِيعًا إذَا كَانَتْ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا ) لِأَنَّ سَيْرَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا ، وَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مِنْ حَيْثُ السَّوْقُ وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، وَالرُّكُوبُ وَإِنْ كَانَ عِلَّةً لِلْوَطْءِ فَالنَّخْسُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ أَوْ عِلَّةٌ لِلسَّيْرِ وَالسَّيْرُ عِلَّةٌ لِلْوَطْءِ وَبِهَذَا لَا يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْعِلَّةِ ، كَمَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَوَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَمَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا لِمَا أَنَّ الْحَفْرَ شَرْطُ عِلَّةٍ أُخْرَى دُونَ عِلَّةِ الْجُرْحِ كَذَا هَذَا .
ثُمَّ قِيلَ : يَرْجِعُ النَّاخِسُ عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ضَمِنَ فِي الْإِيطَاءِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ .
وَقِيلَ : لَا يَرْجِعُ وَهُوَ الْأَصَحُّ فِيمَا أَرَاهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِيطَاءِ وَالنَّخْسُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ ، وَصَارَ كَمَا إذَا أَمَرَ صَبِيًّا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِتَسْيِيرِهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا وَمَاتَ حَتَّى ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَلَى الْآمِرِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالتَّسْيِيرِ وَالْإِيطَاءُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ ، وَكَذَا إذَا نَاوَلَهُ سِلَاحًا فَقَتَلَ بِهِ آخَرَ حَتَّى ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ ، ثُمَّ النَّاخِسُ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ الْإِيطَاءُ فِي فَوْرِ النَّخْسِ حَتَّى يَكُونَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ ذَلِكَ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ لِانْقِطَاعِ أَثَرِ النَّخْسِ فَبَقِيَ السَّوْقُ مُضَافًا إلَى الرَّاكِبِ عَلَى الْكَمَالِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا النَّاخِسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إذَا كَانَتْ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا ، لِأَنَّ سَيْرَهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُضَافٌ إلَيْهِمَا ) أَقُولُ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الرَّاكِبُ مُبَاشِرٌ فِيمَا أَتْلَفَ بِالْوَطْءِ لِحُصُولِ التَّلَفِ بِثِقَلِهِ وَثِقَلِ الدَّابَّةِ جَمِيعًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَالنَّاخِسُ مُسَبِّبٌ كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمُبَاشِرُ وَالْمُسَبِّبُ فَالْإِضَافَةُ إلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ سِيَّمَا فِي مَسْأَلَةِ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ ، فَمَا بَالُهُمْ جَزَمُوا هُنَا بِإِضَافَةِ الْفِعْلِ إلَى الرَّاكِبِ وَالنَّاخِسِ مَعًا وَحَكَمُوا بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَالْإِذْنُ يَتَنَاوَلُ فِعْلَهُ مِنْ حَيْثُ السَّوْقِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ إتْلَافٌ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ يَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ ، إذْ مُقْتَضَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ حَيْثِيَّةُ كَوْنِ فِعْلِ النَّاخِسِ إتْلَافًا أَنْ يَكُونَ النَّاخِسُ مُتَعَدِّيًا بِكَوْنِهِ مُسَبِّبًا لِجِنَايَةِ الدَّابَّةِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يُوجَدَ هُنَاكَ مُسَبِّبٌ آخَرُ أَوْ مُبَاشِرٌ حَتَّى يَلْزَمَ اقْتِصَارُ الضَّمَانِ عَلَى النَّاخِسِ وَقَدْ وُجِدَ فِي مَسْأَلَتِنَا ، فَإِنَّ الرَّاكِبَ فِيهَا مُبَاشِرٌ ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا مُسَبِّبًا فَلَا يَقْتَصِرُ الضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى الرَّاكِبِ جَمِيعًا كَمَا هُوَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ .
فَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ : أَيْ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقْتَصِرُ فِعْلُ النَّاخِسِ وَهُوَ النَّخْسُ عَلَى النَّاخِسِ : أَيْ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْآمِرِ وَهُوَ الرَّاكِبُ ، كَمَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ حَيْثِيَّةُ كَوْنِهِ سَوْقًا كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْكَلَامُ
وَيَتِمُّ الْمَرَامُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَفْهَامِ .
( وَمَنْ قَادَ دَابَّةً فَنَخَسَهَا رَجُلٌ فَانْفَلَتَتْ مِنْ يَدِ الْقَائِدِ فَأَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا فَهُوَ عَلَى النَّاخِسِ وَكَذَا إذَا كَانَ لَهَا سَائِقٌ فَنَخَسَهَا غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ ، وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا فَفِي مَالِهِ لِأَنَّهُمَا مُؤَاخَذَانِ بِأَفْعَالِهِمَا ) وَلَوْ نَخَسَهَا شَيْءٌ مَنْصُوبٌ فِي الطَّرِيقِ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى مَنْ نَصَبَ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِشَغْلِ الطَّرِيقِ فَأُضِيفَ إلَيْهِ كَأَنَّهُ نَخَسَهَا بِفِعْلِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا : يَعْنِي وَنَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ يُدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي ا هـ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ بَحْثٌ .
فَإِنَّهُ إذَا كَانَ التَّلَفُ بِالْوَطْءِ فِي فَوْرِ النَّخْسَةِ فَعَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُ الدِّيَةِ يَدْفَعُ مَوْلَاهُ أَوْ يَفْدِيهِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ إذَا كَانَ النَّخْسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ ا هـ .
أَقُولُ : بَحْثُهُ سَاقِطٌ ، فَإِنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا نَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ الضَّمَانِ فِي رَقَبَتِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ إلَّا إذَا كَانَ نَخَسَ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ ، لَا أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ حَتَّى يُتَّجَهَ عَلَيْهِ أَنَّ فِي صُورَةِ التَّلَفِ بِالْوَطْءِ فِي فَوْرِ النَّخْسِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ نِصْفُهَا إذَا كَانَ النَّخْسُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَيُرْشِدُ إلَى كَوْنِ مُرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ وَغَيْرَهُ قَالُوا فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالنَّاخِسُ إذَا كَانَ عَبْدًا فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ ، هَذَا إذَا نَخَسَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاكِبِ ، وَأَمَّا إذَا نَخَسَهُ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ مِنْ الدَّابَّةِ نَفْحَةٌ أَوْ وَطْءٌ فَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقَالَ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ فَأَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ فَنَخَسَ دَابَّتَهُ فَنَفَحَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ عَبْدًا كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ حُرًّا ، وَإِنْ وَطِئَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُ الدِّيَةِ يَدْفَعُهُ
مَوْلَاهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ ، إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فِي نَخْسِ الدَّابَّةِ ، فَإِذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ لَهُ .
ا هـ تَأَمَّلَ .
( بَابُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ) قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَإٍ قِيلَ لِمَوْلَاهُ : إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ بِهَا أَوْ تَفْدِيهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى الْأَرْشَ ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فِي اتِّبَاعِ الْجَانِي بَعْدَ الْعِتْقِ .
وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
لَهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي مُوجِبِ الْجِنَايَةِ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمُتْلِفِ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ ، وَلَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِنْدِي بِالْقَرَابَةِ وَلَا قَرَابَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاهُ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا فِي الدَّيْنِ .
وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ حَالَةَ الْخَطَإِ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي تَحَرُّزًا عَنْ اسْتِئْصَالِهِ وَالْإِجْحَافِ بِهِ ، إذْ هُوَ مَعْذُورٌ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَتَعَمَّدْ الْجِنَايَةَ ، وَتَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي إذَا كَانَ لَهُ عَاقِلَةٌ ، وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا النُّصْرَةُ حَتَّى تَجِبَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ .
بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَلَا عَاقِلَةَ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ ، إلَّا أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، وَفِي إثْبَاتِ الْخِيرَةِ نَوْعُ تَخْفِيفٍ فِي حَقِّهِ كَيْ لَا يُسْتَأْصَلَ ، غَيْرَ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ ، بِخِلَافِ مَوْتِ الْجَانِي الْحُرِّ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُرِّ اسْتِيفَاءً فَصَارَ كَالْعَبْدِ فِي
صَدَقَةِ الْفِطْرِ .
قَالَ ( فَإِنْ دَفَعَهُ مَلَكَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِأَرْشِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ حَالًّا ) أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْأَعْيَانِ بَاطِلٌ وَعِنْدَ اخْتِيَارِهِ الْوَاجِبَ عُيِّنَ .
وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ جَعَلَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْمُتْلَفِ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ حَالًّا كَالْمُبْدَلِ ( وَأَيُّهُمَا اخْتَارَهُ وَفَعَلَهُ لَا شَيْءَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ غَيْرَهُ ) أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ ، فَإِذَا خَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقَبَةِ سَقَطَ .
وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ ، فَإِذَا أَوْفَاهُ حَقَّهُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى مَاتَ الْعَبْدُ بَطَلَ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَمَا اخْتَارَ الْفِدَاءَ لَمْ يَبْرَأْ لِتَحَوُّلِ الْحَقِّ مِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إلَى ذِمَّةِ الْمَوْلَى .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَالِكِ وَهُوَ الْحُرُّ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَهُوَ الْعَبْدُ ، وَأَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنْ رُتْبَةِ الْحُرِّ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْحُرِّ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَكَذَا مَا وَقَعَ الْفَرَاغُ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ مُطْلَقًا بَلْ بَقِيَ مِنْهُ بَيَانُ حُكْمِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ ، وَهُوَ أَيْضًا إنَّمَا يَتَبَيَّنُ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ : لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْحُرِّ شَرَعَ فِي بَيَانِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ تَعَلُّقٌ بِالْمَمْلُوكِ أَلْبَتَّةَ مِنْ جَانِبٍ أَخَّرَهُ لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ الْمَمْلُوكِ عَنْ الْمَالِكِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَا يُقَالُ : الْعَبْدُ لَا يَكُونُ أَدْنَى مَنْزِلَةً مِنْ الْبَهِيمَةِ فَكَيْفَ أَخَّرَ بَابَ جِنَايَتِهِ عَنْ بَابِ جِنَايَةِ الْبَهِيمَةِ ، لِأَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ وَهُوَ مَالِكٌ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ ، إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَرَادَ أَنَّ جِنَايَةَ الْبَهِيمَةِ كَانَتْ أَلْبَتَّةَ بِاعْتِبَارِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ جِنَايَتَهَا بِطَرِيقِ النَّفْحَةِ بِرِجْلِهَا أَوْ ذَنَبِهَا وَهِيَ تَسِيرُ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ .
وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الضَّمَانُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي بَابِهَا .
وَكَذَا الْحَالُ فِيمَا إذَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً أَوْ أَثَارَتْ غُبَارًا أَوْ حَجَرًا صَغِيرًا فَفَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ أَوْ أَفْسَدَ ثَوْبَهُ .
وَكَذَا إذَا انْفَلَتَتْ فَأَصَابَ مَالًا أَوْ آدَمِيًّا
لَيْلًا أَوْ نَهَارًا كَمَا عُرِفَ كُلُّ ذَلِكَ أَيْضًا فِي بَابِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ جِنَايَتَهَا قَدْ تَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ تَمَامُ التَّقْرِيبِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الصُّوَرُ الَّتِي لَا يَجِبُ فِيهَا مِنْ فِعْلِ الْبَهِيمَةِ ضَمَانٌ عَلَى أَحَدٍ بَلْ يَكُونُ فِعْلُهَا هَدَرًا مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ فِي الشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ فِي بَابِهَا اسْتِطْرَادًا .
وَبِنَاءُ الْكَلَامِ هُنَا عَلَى مَالَهُ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
( قَوْلُهُ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّاحِبَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) قَالَ فِي الْكَافِي وَالْكِفَايَةِ : فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِنَا ، وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِثْلُ مَذْهَبِهِ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا .
وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُمَا ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ ، وَجِنَايَتُهُمْ فِي قِيمَتِهِمْ : أَيْ أَثْمَانِهِمْ .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : رَوَى أَصْحَابُنَا كَالْقُدُورِيِّ وَغَيْرِهِ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا جَنَى الْعَبْدُ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ ، وَجِنَايَتُهُمْ فِي قِيمَتِهِمْ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُهُ .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ جَزَاءُ جِنَايَتِهِمْ فِي رِقَابِ النَّاسِ كَمَذْهَبِنَا ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ مَذْهَبِهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ جَزَاءَ جِنَايَتِهِمْ فِي قِيمَتِهِمْ : أَيْ فِي أَثْمَانِهِمْ ، لِأَنَّ
الثَّمَنَ قِيمَةُ الْعَبْدِ ا هـ .
أَقُولُ : قَدْ اضْطَرَبَتْ كَلِمَاتُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَبَعْضُهُمْ نَقَلَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِ الْخَصْمِ وَبَعْضُهُمْ نَقَلَهَا عَنْهُ مِثْلَ مَذْهَبِنَا كَمَا تَرَى .
ثُمَّ أَقُولُ : قَدْ خَالَفَ الْكُلَّ هُنَا صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ مَذْهَبِنَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمْ يُنْقَلْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ يُخَالِفُ قَوْلَ الْعَامَّةِ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ فِي حَالَةِ الْخَطَإِ أَنْ تَتَبَاعَدَ عَنْ الْجَانِي إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُخْتَلِفٌ ، فَإِنَّ حُكْمَهَا عِنْدَنَا الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ بَنَاهُ عَلَى أَصْلٍ وَنَحْنُ عَلَى أَصْلٍ فَمِنْ أَيْنَ يَقُومُ لِأَحَدِنَا حُجَّةٌ عَلَى الْآخَرِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ وُجُوبَ مُوجِبِ جِنَايَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ كَوُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَكَوُجُوبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ ، فَنَحْنُ إذْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بَقِيَ أَصْلُهُ بِلَا أَصْلٍ فَبَطَلَ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَتَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ صِيَانَةً لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ .
وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ لِأَنَّ الْعَوَاقِلَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ فَيَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَأَمَّا أَصْلُنَا فَهُوَ ثَابِتٌ فِي نَفْسِهِ مُسْتَنِدًا إلَى النَّصِّ الَّذِي لَا يُعْقَلُ إبْطَالُهُ لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى مَا يَبْطُلُ بِإِبْدَاءِ الْفَارِقِ ، إلَى هُنَا كَلَامًا .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ
بِتَامٍّ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ مَدَارَ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَى قِيَاسِ وُجُوبِ مُوجِبِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَوُجُوبِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى يَلْزَمُ مِنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَقِيسِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَنْ يَبْقَى مَذْهَبُهُ بِلَا أَصْلٍ ، بَلْ مَدَارُ دَلِيلِهِ عَلَى أَنْ لَا عَاقِلَةَ لِلْعَبْدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَقْلَ عِنْدَهُ بِالْقَرَابَةِ لَا غَيْرُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَوُجُوبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ فِي ذَيْلِ دَلِيلِهِ لِمُجَرَّدِ التَّنْظِيرِ كَمَا يُرْشِدُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ بِطَرِيقِ التَّنْظِيرِ بَقَاءُ أَصْلِهِ بِلَا أَصْلٍ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ لِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ : أَصْلُنَا مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ كَمَا أَنَّ أَصْلَكُمْ مُسْتَنِدٌ إلَى النَّصِّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ بِمَقِيسٍ عَلَى مَا يَبْطُلُ بِإِبْدَاءِ الْفَرْقِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ عَنْ الْبَحْثِ الْمَذْكُورِ أَنْ يُقَالَ : الْكَلَامُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَبِيلِ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ وَهُوَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ مَنْ هِيَ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ هِيَ أَهْلُ الْعَشِيرَةِ ، وَقُلْنَا : هِيَ أَهْلُ النُّصْرَةِ ، وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مُدَلَّلًا وَمُفَصَّلًا ، وَقَدْ قَامَتْ لَنَا حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ هُنَاكَ فَاكْتَفَيْنَا هُنَا بِجَعْلِ ذَلِكَ الْمُخْتَلِفِ أَصْلًا لِهَذَا الْمُخْتَلِفِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَيْسَ يُخَالِفُ هَذَا حَدِيثَ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا } ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ : يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ لَا يَعْقِلُهُ
الْعَاقِلَةُ عِنْدَهُ فَلَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى مَذْهَبِهِ ا هـ .
وَذَكَرَهُ أَيْضًا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ لِلْوِقَايَةِ أَخْذًا مِنْ التَّسْهِيلِ كَمَا هُوَ حَالُهُ فِي أَكْثَرِ إيرَادَاتِهِ فِي تِلْكَ الْحَاشِيَةِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ عَمَّا ذَكَرَهُ كُلُّهُمْ هُنَا أَنَّ لَفْظَةَ الْعَاقِلَةِ إنَّمَا تُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ لَا عَلَى الْوَاحِدِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ كَلَامُ الْفُقَهَاءِ وَكَلِمَاتُ أَهْلِ اللُّغَةِ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا : الْعَاقِلَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ : أَيْ يُؤَدُّونَ الْعَقْلَ وَهُوَ الدِّيَةُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ .
وَفِي الْمُغْرِبِ : الْعَاقِلَةُ هِيَ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَغْرَمُ الدِّيَةَ ، وَهُمْ عَشِيرَةُ الرَّجُلِ أَوْ أَهْلُ دِيوَانِهِ : أَيْ الَّذِينَ يَرْتَزِقُونَ مِنْ دِيوَانٍ عَلَى حِدَةٍ ا هـ .
وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ : وَعَاقِلَةُ الرَّجُلِ عُصْبَتُهُ ، وَهُمْ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ الَّذِينَ يُعْطُونَ دِيَةَ مَنْ قَتَلَهُ خَطَأً .
وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ : هُمْ أَصْحَابُ الدَّوَاوِينِ ا هـ .
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْعَوَاقِلَ الَّتِي هِيَ الْجَمَاعَاتُ لَا تَعْقِلُ عَبْدًا كَمَا تَعْقِلُ حُرًّا ، وَأَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ : أَيْ الْجَمَاعَةُ بَلْ يَغْرَمُ مَوْلَاهُ جِنَايَتَهُ ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ هُنَا وَالْمَوْلَى عَاقِلَتُهُ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ .
وَمَعْنَاهُ وَالْمَوْلَى كَعَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَنْصِرُ بِهِ كَمَا يَسْتَنْصِرُ الْحُرُّ بِعَاقِلَتِهِ يُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ : لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَا جَنَى الْعَبْدُ عَلَى حُرٍّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِلَةِ وَلَا يَتَحَمَّلُ عَنْ الْعَاقِلَةِ عَوَاقِلَهُمْ فَكَذَا لَا يَتَحَمَّلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَاقِلَةُ
مَوْلَاهُ ا هـ .
فَلَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرُوا هُنَا حَدِيثَ { لَا تَعْقِلُ الْعَوَاقِلُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا } وَلَا يُشْكِلُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى عَلَى الْحُرِّ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَتَبَصَّرْ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ جُعِلَ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ مُقَدَّرًا بِالْمُتْلَفِ وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً فَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ حَالًّا كَالْمُبْدَلِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ قِيلَ : كَوْنُ الشَّيْءِ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمَالَ قَدْ يَقَعُ بَدَلًا عَنْ الْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّحِدْ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ الْقِصَاصَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ وَإِذَا صَارَ مَالًا تَعَلَّقَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ الْوُضُوءِ وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ دُونَ الْأَصْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَأُجِيبَ أَنَّ الْفِدَاءَ لَمَّا وَجَبَ بِمُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ فِي النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ أَشْبَهَ الدِّيَةَ وَالْأَرْشَ وَهُمَا يَثْبُتَانِ مُؤَجَّلًا وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْفِدَاءِ كَذَلِكَ ، وَلَمَّا اخْتَارَهُ الْمَوْلَى كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ كَذَلِكَ ، أَيْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ حَالًّا ، لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٍ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَتَعَارَضَ جَانِبُ الْحُلُولِ وَالْأَجَلَ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْحُلُولِ بِكَوْنِهِ فَرْعَ أَصْلٍ حَالٍّ مُوَافَقَةً بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ ، وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْمُصَنِّفِ مَا يُشْعِرُ بِهِ ا هـ .
أَقُولُ : بَلْ هُوَ كَلَامٌ قَبِيحٌ ، لِأَنَّ الْمُوَافَقَةَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَفَرْعِهِ إنْ كَانَتْ أَمْرًا لَازِمًا أَوْ رَاجِحًا يَرْتَفِعُ السُّؤَالُ عَنْ أَصْلِهِ ، وَيَكْفِي ذِكْرُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ ، وَيَصِيرُ بَاقِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ مُسْتَدْرَكًا جِدًّا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَمْرًا لَازِمًا وَلَا رَاجِحًا
فَكَيْفَ يَتِمُّ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحُلُولِ بِكَوْنِهِ فَرْعَ أَصْلٍ حَالٍّ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، وَالْمَسَائِلُ الْمَذْكُورَةُ تَغَيَّرَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْقِصَاصَ غَيْرُ صَالِحٍ لِحَقِّ الْمُوصَى لَهُ بِالْمَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِهِ ، وَالتُّرَابُ غَيْرُ مُطَهِّرٍ بِطَبْعِهِ فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إلْحَاقِ النِّيَّةِ بِهِ لِيَكُونَ مُطَهِّرًا شَرْعًا ، بِخِلَافِ الْمَاءِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ يَمْنَعُهُ عَنْ الْحُلُولِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ أَصْلِهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ كَانَ حَاصِلُ السُّؤَالِ أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ لَا يَسْتَلْزِمُ الِاتِّحَادَ فِي الْحُكْمِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ الْأَصْلُ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْفَرْعُ الْأَصْلَ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، هُوَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُفَارِقَهُ فِي الْحُكْمِ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الْأَصْلِ عِنْدَ الْمُحَصِّلِينَ عِبَارَةٌ عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ إلَّا بِأُمُورٍ ضَرُورِيَّةٍ هُوَ كَوْنُهُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةً عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا تَتَغَيَّرُ نَفْسُهَا إلَّا بِالضَّرُورَةِ ، لَا كَوْنُهُ عِبَارَةً عَنْ حَالَةٍ مُسْتَمِرَّةٍ لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُهَا بَعْدَ أَنْ تَغَيَّرَتْ نَفْسُهَا إلَّا بِالضَّرُورَةِ ، وَالْمَطْلُوبُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فَتَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْفِدَاءُ فَلِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ سِيَّمَا فِي الْحَصْرِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا قَبْلُ
أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْلَى حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ ، فَإِذَنْ كَانَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مُنْحَصِرًا فِي الدَّفْعِ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْحَصِرْ فِيهِ فَمَا مَعْنَى حَصْرِهِ فِي الْأَرْشِ بِقَوْلِهِ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا الْأَرْشُ ، وَهَذَا يَكُونُ مُنَاقِضًا لِمَا ذَكَرَهُ قُبَيْلَهُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الدَّفْعُ فَلِأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ
قَالَ ( فَإِنْ عَادَ فَجَنَى كَانَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ كَحُكْمِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ) مَعْنَاهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا طَهُرَ عَنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ ، وَهَذَا ابْتِدَاءُ جِنَايَةٍ .
قَالَ ( وَإِنْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ قِيلَ لِلْمَوْلَى إمَّا أَنْ تَدْفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا وَإِمَّا أَنْ تَفْدِيهِ بِأَرْشِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْأُولَى بِرَقَبَتِهِ لَا يَمْنَعُ تَعَلُّقَ الثَّانِيَةِ بِهَا كَالدُّيُونِ الْمُتَلَاحِقَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَمْ يَمْنَعْ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ فَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا عَلَى قَدْرِ أَرْشِ جِنَايَتِهِمَا ( وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً يَقْتَسِمُونَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمْ وَإِنْ فَدَاهُ فَدَاهُ بِجَمِيعِ أُرُوشِهِمْ ) لِمَا ذَكَرْنَا ( وَلَوْ قَتَلَ وَاحِدًا وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ ) يَقْتَسِمَانِهِ أَثْلَاثًا ( لِأَنَّ أَرْشَ الْعَيْنِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ أَرْشِ النَّفْسِ ) ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّجَّاتِ ( وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَفْدِيَ مِنْ بَعْضِهِمْ وَيَدْفَعَ إلَى بَعْضِهِمْ مِقْدَارَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ مِنْ الْعَبْدِ ) لِأَنَّ الْحُقُوقَ مُخْتَلِفَةٌ بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِهَا وَهِيَ الْجِنَايَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ ، بِخِلَافِ مَقْتُولِ الْعَبْدِ إذَا كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيَدْفَعَ إلَى الْآخَرِ لِأَنَّ الْحَقَّ مُتَّحِدٌ لِاتِّحَادِ سَبَبِهِ وَهِيَ الْجِنَايَةُ الْمُتَّحِدَةُ ، وَالْحَقُّ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ ثُمَّ لِلْوَارِثِ خِلَافَةً عَنْهُ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ فِي مُوجَبِهَا .
قَالَ ( فَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَرْشُ ) لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ فَوْتُ حَقِّهِ فَيَضْمَنُهُ وَحَقُّهُ فِي أَقَلِّهِمَا ، وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ بِدُونِ الْعِلْمِ ، وَفِي الثَّانِي صَارَ مُخْتَارًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّفْعِ فَالْإِقْدَامُ عَلَيْهِ اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْبَيْعُ وَالْهِبَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ ، لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الدَّفْعَ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِهِ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ عَلَى رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ .
وَلَيْسَ فِيهِ نَقْلُ الْمِلْكِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ الْمُقِرُّ وَأَلْحَقَهُ الْكَرْخِيُّ بِالْبَيْعِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ فِي الظَّاهِرِ فَيَسْتَحِقُّهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِقْرَارِهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ .
وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا ، وَكَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ وَإِطْلَاقُ الْبَيْعِ يَنْتَظِمُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَنَقْضِهِ ، وَبِخِلَافِ الْعَرْضِ عَلَى الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا زَالَ ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا حَتَّى يُسَلِّمَهُ لِأَنَّ الزَّوَالَ بِهِ ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِأَنَّ مُوجَبَهُ يَثْبُتُ قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلِ فَيَصِيرُ بِنَفْسِهِ مُخْتَارًا ، وَلَوْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَهُوَ مُخْتَارٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ مُتَحَقِّقٌ فِي الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ ، وَإِعْتَاقُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَمْرِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْمَوْلَى فِيمَا ذَكَرْنَاهُ ، لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ مُضَافٌ
إلَيْهِ ، وَلَوْ ضَرَبَهُ فَنَقَصَهُ فَهُوَ مُخْتَارٌ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ حَبَسَ جُزْءًا مِنْهُ وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَوَطِئَهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّقًا لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ عَيْبٌ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ ، وَبِخِلَافِ وَطْءِ الثَّيِّبِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ غَيْرِ إعْلَاقٍ ، وَبِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا يَصِيرُ مُخْتَارًا بِالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ فِي الْأَظْهَرِ مِنْ الرِّوَايَاتِ ، وَكَذَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ ، إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَلَزِمَ الْمَوْلَى قِيمَتُهُ .
( قَوْلُهُ وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا ) يُرِيدُ قَوْلَهُ ضَمِنَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا ، وَقِيلَ : يُرِيدُ بِهِ قَوْلَهُ فِي أَوَّلِ الْبَابِ وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةَ خَطَإٍ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ النَّفْسَ وَمَا دُونَهَا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَا سَدَادَ لِمَا ذَكَرَ ثَانِيًا ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ التَّعَرُّضِ لِإِطْلَاقِ مَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ إلَى هُنَا مَعَ كَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْ نَهْجِ السَّدَادِ فِي نَفْسِهِ يَمْنَعُ عَنْ الْحَمْلِ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَإِطْلَاقُ الْجَوَابِ ، لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ هُنَاكَ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا فِي الْجَوَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ فَالْمُرَادُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ ، لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يُفَوِّتُ الدَّفْعَ وَلَا يُنْقِصُ الرَّقَبَةَ ) أَقُولُ : فِي التَّعْلِيلِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ رَكِبَهُ دَيْنٌ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ رِضَا وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ مُتَّصِلًا بِهِ إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ ، وَإِذَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ يَفُوتُ الدَّفْعُ بِغَيْرِ رِضَاهُ قَطْعًا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِرِضَا وَلَيِّ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أَنْ يُنْتَقَضَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا لَوْ ضَرَبَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْجَانِيَ فَنَقَصَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ هُنَاكَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، مَعَ أَنَّهُ يَجْرِي أَنْ يُقَالَ هُنَاكَ أَيْضًا : إنَّ الضَّرْبَ وَإِذَا نَقَصَهُ لَا يَفُوتُ الدَّفْعُ بِرِضَا وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَهُ نَاقِصًا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى جَازَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا يَنْقُصُ الرَّقَبَةَ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ ، فَفِي صُورَةِ مَا إذَا ضَرَبَهُ
فَنَقَصَهُ إنْ لَمْ يَفُتْ الدَّفْعُ بِرِضَا وَلِيِّ الْجِنَايَةِ نَقَصَتْ الرَّقَبَةُ ، فَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ هُنَا لَمْ يَجُزْ بِتَمَامِهِ هُنَاكَ فَلَمْ يُنْتَقَضْ بِذَلِكَ .
نَعَمْ فِي تَمَامِ قَوْلِهِ وَلَا يَنْقُصُ الرَّقَبَةَ فِيمَا إذَا رَكِبَهُ دَيْنُ كَلَامٍ ، لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ لَهُ لِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يَتْبَعُونَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ إذَا دَفَعَ الْعَبْدُ إلَيْهِ فَيَتْبَعُونَهُ بِدُيُونِهِمْ كَمَا صَرَّحَ بِهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى .
وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَلَكِنَّ الرَّقَبَةَ قَدْ اُنْتُقِصَتْ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّيْنِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَهُوَ الْإِذْنُ فَكَانَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ نَاقِصًا فَيَلْزَمُ الْمَوْلَى قِيمَتُهُ ا هـ فَتَأَمَّلْ .
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ قَتَلْت فُلَانًا أَوْ رَمَيْته أَوْ شَجَجْته فَأَنْتَ حُرٌّ ) فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْفِدَاءِ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ ( وَقَالَ زُفَرُ : لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ لِأَنَّ وَقْتَ تَكَلُّمِهِ لَا جِنَايَةَ وَلَا عِلْمَ لَهُ بِوُجُودِهِ ، وَبَعْدَ الْجِنَايَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا ) ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ أَوْ الْعَتَاقَ بِالشَّرْطِ ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا يُطَلِّقَ أَوْ لَا يُعْتِقَ وُجِدَ الشَّرْطُ وَثَبَتَ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ تِلْكَ ، كَذَا هَذَا .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْإِعْتَاقَ بِالْجِنَايَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يُنَزَّلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك يَصِيرُ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ الدُّخُولِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ لَهَا إذَا مَرِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَمَرِضَ حَتَّى طَلُقَتْ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ يَصِيرُ فَارًّا لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُطَلِّقًا بَعْدَ وُجُودِ الْمَرَضِ ، بِخِلَافِ مَا أَوْرَدَ لِأَنَّ غَرَضَهُ طَلَاقٌ أَوْ عِتْقٌ يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، إذْ الْيَمِينُ لِلْمَنْعِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا لَا يُمْكِنُهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ حَرَّضَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الشَّرْطِ بِتَعْلِيقِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إلَيْهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ ، فَهَذَا دَلَالَةُ الِاخْتِيَارِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَطَعَ الْعَبْدُ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَدُفِعَ إلَيْهِ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْتِقْهُ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى وَقِيلَ لِلْأَوْلِيَاءِ اُقْتُلُوهُ أَوْ اُعْفُوا عَنْهُ ) وَوَجْهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّ الصُّلْحَ كَانَ عَنْ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبْدِ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَطْرَافِ الْحُرِّ فَإِذَا سَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ وَاجِبٍ ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَبَطَلَ وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ ، كَمَا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَهُ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ يَدُلُّ عَلَى قَصْدِهِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى تَصَرُّفٍ يَقْصِدُ تَصْحِيحَهُ وَلَا صِحَّةَ لَهُ إلَّا وَأَنْ يُجْعَلَ صُلْحًا عَنْ الْجِنَايَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَلِهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ وَرَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ يَصِحُّ وَقَدْ رَضِيَ الْمَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِ الْعَبْدِ عِوَضًا عَنْ الْقَلِيلِ يَكُونُ أَرْضَى بِكَوْنِهِ عِوَضًا عَنْ الْكَثِيرِ فَإِذَا أُعْتِقَ يَصِحُّ الصُّلْحُ فِي ضِمْنِ الْإِعْتَاقِ ابْتِدَاءً وَإِذَا لَمْ يُعْتِقْ لَمْ يُوجَدْ الصُّلْحُ ابْتِدَاءً وَالصُّلْحُ الْأَوَّلُ وَقَعَ بَاطِلًا فَيُرَدُّ الْعَبْدُ إلَى الْمَوْلَى وَالْأَوْلِيَاءُ عَلَى خِيرَتِهِمْ فِي الْعَفْوِ وَالْقَتْلِ .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا فَصَالَحَ الْقَاطِعُ الْمَقْطُوعَةَ يَدَهُ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَالْعَبْدُ صُلْحٌ بِالْجِنَايَةِ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الرِّوَايَةِ .
وَهَذَا الْوَضْعُ يَرِدُ إشْكَالًا فِيمَا إذَا عَفَا عَنْ الْيَدِ ثُمَّ سَرَى إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ هُنَالِكَ ،
وَهَاهُنَا قَالَ يَجِبُ .
قِيلَ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَيَكُونُ الْوَضْعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ .
وَقِيلَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْيَدِ صَحَّ ظَاهِرًا لِأَنَّ الْحَقَّ كَانَ لَهُ فِي الْيَدِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَصِحُّ الْعَفْوُ ظَاهِرًا ، فَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ بَطَلَ حُكْمًا يَبْقَى مَوْجُودًا حَقِيقَةً فَكَفَى ذَلِكَ لِمَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ .
أَمَّا هَاهُنَا الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا حَيْثُ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ ، فَإِذَا لَمْ يُبْطِلْ الْجِنَايَةَ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ ، هَذَا إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ ، أَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ فَالتَّخْرِيجُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
( قَوْلُهُ وَوَجْهُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ بَاطِلًا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : يُرِيدُ بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا أَعْتَقَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعْتِقْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَسَرَى تَبَيَّنَ أَنَّ الصُّلْحَ : أَيْ الدَّفْعَ وَقَعَ بَاطِلًا وَسَمَّاهُ صُلْحًا بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْفِدَاءُ فَكَانَ الدَّفْعُ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ لِسُقُوطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ بِهِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْمُوجَبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدَّفْعُ فِي الصَّحِيحِ وَقَالَ : وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجَبُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ فَكَيْفَ يَتِمُّ تَسْمِيَةُ الدَّفْعِ هُنَا صُلْحًا عَلَى الْبِنَاءِ عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ وَصَحَّحَهُ نَفْسُهُ فِيمَا قَبْلُ ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا ، حَتَّى أَنَّ صَاحِبَ الْأَسْرَارِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ مَا اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْأَرْشُ قَالَ : وَالرِّوَايَةُ بِخِلَافِ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْعَبْدُ انْتَهَى .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ عِنْدِي أَنْ يُحْمَلَ تَسْمِيَةُ الدَّفْعِ هُنَا صُلْحًا عَلَى الْمُشَاكَلَةِ بِأَنْ عَبَّرَ عَنْ الدَّفْعِ بِالصُّلْحِ لِوُقُوعِ ذِكْرِهِ فِي صُحْبَةِ مَا هُوَ صُلْحٌ وَمَا هُوَ إذَا أَعْتَقَهُ تَدَبَّرْ تَرْشُدْ .
( قَوْلُهُ وَالْبَاطِلُ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ كَمَا إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ فِيمَا إذَا عَلِمَ بُطْلَانَهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي تَنْظِيرِهِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا هُنَا لِأَنَّ
الدَّافِعَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَطْعَ يَسْرِي فَيَكُونُ مُوجَبَهُ الْقَوَدُ ، بَلْ ظَنَّ أَنَّهُ لَا يَسْرِي وَكَانَ مُوجَبَهُ الْمَالُ ، وَإِنْ أَرَادَ الْبَاطِلَ لَا يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بُطْلَانَهُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ إذَا وَطِئَ الْمُطَلَّقَةَ الثَّلَاثَ فِي عِدَّتِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ بَلْ ظَنَّ أَنَّهَا تَحِلُّ لَهُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ فَيَدْرَأُ الْحَدَّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ ، وَفُهِمَ أَيْضًا هَاهُنَا مِنْ قَوْلِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ أَمَّا هَاهُنَا الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا حَيْثُ صَالَحَ عَنْهَا عَلَى مَالٍ ، فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الْجِنَايَةُ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِمْ الصُّلْحُ لَا يُبْطِلُ الْجِنَايَةَ بَلْ يُقَرِّرُهَا أَنَّ الصُّلْحَ لَا يُسْقِطُ مُوجَبَ الْجِنَايَةِ بَلْ يُبْقِيهِ عَلَى حَالِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ بِأَنَّ مُوجَبَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْقَوَدُ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْأَوْلِيَاءُ أَوْ يُصَالِحُوا ، فَقَدْ جَعَلُوا الصُّلْحَ كَالْعَفْوِ فِي إسْقَاطِ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ لَا يُنَافِي ثُبُوتَ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ بَلْ يُقَرِّرُ ذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ عَلَى مَالٍ ، وَإِنْ سَقَطَ بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّلْحِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ قَوْلُهُمْ فَإِذَا لَمْ تَبْطُلْ الْجِنَايَةُ لَمْ تَمْتَنِعْ الْعُقُوبَةُ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ الْجِنَايَةِ بِمَعْنَى ثُبُوتِهَا فِي الْأَصْلِ عَدَمُ امْتِنَاعِ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ تَحَقُّقِ الصُّلْحِ عَنْهَا كَمَا هُوَ الْحَالُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، بَلْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ الْفَرْقُ رَأْسًا بَيْنَ صُورَتَيْ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ ، إذْ الْعَفْوُ أَيْضًا لَا يُنَافِي ثُبُوتَ مُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ الْعَفْوِ كَمَا لَا يَخْفَى
قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ جِنَايَةً وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتَانِ : قِيمَةٌ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ ، وَقِيمَةٌ لِأَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ) لِأَنَّهُ أَتْلَفَ حَقَّيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونٌ بِكُلِّ الْقِيمَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ : الدَّفْعُ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَالْبَيْعُ لِلْغُرَمَاءِ ، فَكَذَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ .
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ إيفَاءً مِنْ الرَّقَبَةِ الْوَاحِدَةِ بِأَنْ يُدْفَعَ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعَ لِلْغُرَمَاءِ فَيَضْمَنُهُمَا بِالْإِتْلَافِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْمَوْلَى وَيَدْفَعُهَا الْمَوْلَى إلَى الْغُرَمَاءِ ، لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنَّمَا يَضْمَنُ لِلْمَوْلَى بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ الْحَقُّ لِأَنَّهُ دُونَهُ ، وَهَاهُنَا يَجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِتْلَافِ الْحَقِّ فَلَا تَرْجِيحَ فَيَظْهَرَانِ فَيَضْمَنُهُمَا .
قَالَ ( وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْوَلَدُ مَعَهَا فِي الدَّيْنِ ، وَإِنْ جَنَتْ جِنَايَةً لَمْ يُدْفَعْ الْوَلَدُ مَعَهَا ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الدَّيْنَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ فِيهَا وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهَا مُتَعَلِّقٌ بِرَقَبَتِهَا اسْتِيفَاءً فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ كَوَلَدِ الْمَرْهُونَةِ ، بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ الدَّفْعِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى لَا فِي ذِمَّتِهَا ، وَإِنَّمَا يُلَاقِيهَا أَثَرُ الْفِعْلِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الدَّفْعُ وَالسِّرَايَةُ فِي الْأَوْصَافِ الشَّرْعِيَّةِ دُونَ الْأَوْصَافِ الْحَقِيقِيَّةِ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ زَعَمَ رَجُلٌ آخَرُ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَتَلَ الْعَبْدُ وَلِيًّا لِذَلِكَ الرَّجُلِ الزَّاعِمِ خَطَأً فَلَا شَيْءَ لَهُ ) لِأَنَّهُ لَمَّا زَعَمَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ فَقَدْ ادَّعَى الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَأَبْرَأَ الْعَبْدَ وَالْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ .
قَالَ ( وَإِذَا أُعْتِقَ الْعَبْدُ فَقَالَ لِرَجُلٍ قَتَلْتُ أَخَاك خَطَأً وَأَنَا عَبْدٌ وَقَالَ الْآخَرُ قَتَلْته وَأَنْتَ حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلضَّمَانِ لَمَّا أَنَّهُ أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ ، إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا عُرِفَ رِقُّهُ ، وَالْوُجُوبُ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعًا أَوْ فِدَاءً ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا صَبِيٌّ أَوْ بِعْت دَارِي وَأَنَا صَبِيٌّ ، أَوْ قَالَ طَلَّقْت امْرَأَتِي وَأَنَا مَجْنُونٌ أَوْ بِعْت دَارِي وَأَنَا مَجْنُونٌ وَقَدْ كَانَ جُنُونُهُ مَعْرُوفًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْتُ يَدَك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ قَطَعْتَهَا وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أُخِذَ مِنْهَا إلَّا الْجِمَاعَ وَالْغَلَّةَ اسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَضْمَنُ إلَّا شَيْئًا قَائِمًا بِعَيْنِهِ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَيْهَا ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِإِسْنَادِهِ الْفِعْلَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لَهُ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَكَمَا فِي الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ .
وَفِي الشَّيْءِ الْقَائِمِ أَقَرَّ بِيَدِهَا حَيْثُ اعْتَرَفَ بِالْأَخْذِ مِنْهَا ثُمَّ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهَا وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهَا ، وَلَهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ فَقَأْت عَيْنَكَ الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ ثُمَّ فُقِئَتْ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ : لَا بَلْ فَقَأْتَهَا وَعَيْنُك الْيُمْنَى مَفْقُوءَةٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَسْنَدَهُ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ يَدَهَا لَوْ قَطَعَهَا وَهِيَ مَدْيُونَةٌ ، وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ ، بِخِلَافِ الْوَطْءِ وَالْغَلَّةِ لِأَنَّ وَطْءَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ الْمَدْيُونَةَ لَا يُوجِبُ الْعُقْرَ ، وَكَذَا أَخْذُهُ مِنْ غَلَّتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَدْيُونَةً لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَحَصَلَ الْإِسْنَادُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا قَطَعْتُ يَدِك وَأَنْتِ أَمَتِي وَقَالَتْ بَلْ قَطَعْتَهَا وَأَنَا حُرَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَيْضًا مَبْنَاهَا عَلَى إسْنَادِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ مَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَوَابُهَا كَوْنُ الْقَوْلِ قَوْلُهَا لَيْسَ عَلَى إسْنَادِ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا ، بَلْ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَإِنَّمَا مَبْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَمَا يَظْهَرُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
نَعَمْ مَبْنَاهَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إسْنَادُ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِجَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هُنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ لَا الْأَصَالَةِ فَمَا مَعْنَى بِنَاءِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي كَانَ جَوَابُهَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ عَلَى أَصْلِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِيهَا .
( قَوْلُهُ وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ بَيَانًا لِمَسْأَلَةٍ أُخْرَى .
صُورَتُهَا : مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَأَخَذَ مَالَ حَرْبِيٍّ ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ثُمَّ خَرَجَا إلَيْنَا فَقَالَ لَهُ الْمُسْلِمُ : أَخَذْتُ مِنْك مَالًا وَأَنْتَ حَرْبِيٌّ فَقَالَ بَلْ أَخَذْتَ مِنِّي وَأَنَا مُسْلِمٌ فَإِنَّهَا عَلَى خِلَافٍ ، كَذَا قِيلَ .
فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَسْنَدَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ ، وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ
لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ دَيْنًا فَكَانَ قَدْ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبَرِّئُهُ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نُبَذٌ مِنْ الِاخْتِلَالِ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ نَفْسِهَا إلَّا أَنَّهُ نَظِيرٌ لَهَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ حَيْثُ لَمْ يُوجَدْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إسْنَادُ الْإِقْرَارِ إلَى حَالَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُمَا : وَكَوْنُهُ نَظِيرًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ تَعَلُّقٌ مَحْضٌ بِهِ ، فَإِنَّ التَّنْظِيرَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ فِي اسْتِدْلَالَاتهمْ شَائِعٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ .
فَصَارَ قَوْلُهُ هُنَا وَكَذَا يَضْمَنُ مَالَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ فَقَأْتُ عَيْنَك الْيُمْنَى وَعَيْنِي الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ إلَخْ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ دَيْنًا لَيْسَ بِشَرْحٍ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ ، وَإِنَّمَا الْمُطَابِقُ لَهُ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ قَدْ يُضْمَنُ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ مُسْتَأْمَنٌ تَدَبَّرْ
قَالَ ( وَإِذَا أَمَرَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ صَبِيًّا حُرًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ الدِّيَةُ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ حَقِيقَةً ، وَعَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ( وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآمِرِ ) وَكَذَا إذَا كَانَ الْآمِرُ صَبِيًّا لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَاخَذَانِ بِأَقْوَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا بِاعْتِبَارِ الشَّرْعِ وَمَا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُمَا ، وَلَا رُجُوعَ لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ الْآمِرِ أَبَدًا ، وَيَرْجِعُونَ عَلَى الْعَبْدِ الْآمِرِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ عَدَمَ الِاعْتِبَارِ لِحَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ لَا لِنُقْصَانِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ قَاصِرُ الْأَهْلِيَّةِ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ عَبْدًا ) مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ عَبْدًا وَالْمَأْمُورُ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِمَا ( يُخَاطَبُ مَوْلَى الْقَاتِلِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ) وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ فِي الْحَالِ ، وَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ الْعِتْقِ بِأَقَلَّ مِنْ الْفِدَاءِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي دَفْعِ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً ، وَكَذَا إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْعَبْدُ الْقَاتِلُ صَغِيرًا لِأَنَّ عَمْدَهُ خَطَأٌ ، أَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِجَرَيَانِهِ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلَيْنِ عَمْدًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَى الْآخَرَيْنِ أَوْ يَفْدِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمَ ) لِأَنَّهُ لَمَّا عَفَا أَحَدُ وَلِيِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَقَطَ الْقِصَاصُ وَانْقَلَبَ مَالًا فَصَارَ كَمَا لَوْ وَجَبَ الْمَالُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الرَّقَبَةِ أَوْ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَقَدْ سَقَطَ نَصِيبُ الْعَافِيَيْنِ وَهُوَ النِّصْفُ وَبَقِيَ النِّصْفُ ( فَإِنْ كَانَ قَتَلَ أَحَدَهُمَا عَمْدًا وَالْآخَرَ خَطَأً فَعَفَا أَحَدُ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فَإِنْ فَدَاهُ الْمَوْلَى فَدَاهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا خَمْسَةُ آلَافٍ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ مِنْ وَلِيِّي الْعَمْدِ وَعَشَرَةُ آلَافٍ لِوَلِيَّيْ الْخَطَأِ ) لِأَنَّهُ لَمَّا انْقَلَبَ الْعَمْدُ مَالًا كَانَ حَقُّ وَلِيَّيْ الْخَطَإِ فِي كُلِّ الدِّيَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ ، وَحَقُّ أَحَدِ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ فِي نِصْفِهَا خَمْسَةَ آلَافٍ ، وَلَا تَضَايُقَ فِي الْفِدَاءِ فَيَجِبُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا ( وَإِنْ دَفَعَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ ، وَثُلُثُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : يَدْفَعُهُ أَرْبَاعًا : ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ ، وَرُبْعُهُ لِوَلِيِّ الْعَمْدِ ) فَالْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، فَيُسَلِّمُ النِّصْفَ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ فَيَتَنَصَّفُ ، فَلِهَذَا يُقَسَّمُ أَرْبَاعًا .
وَعِنْدَهُ يُقَسَّمُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَثْلَاثًا ، لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ أَصْلُهُ التَّرِكَةُ الْمُسْتَغْرَقَةُ بِالدُّيُونِ فَيَضْرِبُ هَذَا بِالْكُلِّ وَذَلِكَ بِالنِّصْفِ ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ وَأَضْدَادٌ ذَكَرْنَاهَا فِي الزِّيَادَاتِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ دَفَعَهُ دَفَعَهُ إلَيْهِمْ أَثْلَاثًا : ثُلُثَاهُ لِوَلِيَّيْ الْخَطَإِ ، وَثُلُثُهُ لِغَيْرِ الْعَافِي مِنْ وَلِيَّيْ الْعَمْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : يَدْفَعُهُ أَرْبَاعًا إلَخْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَأَصْلُ هَذَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ إذَا وَجَبَتْ بِسَبَبِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ، لِأَنَّهُ لَا تَضَايُقَ فِي الذِّمَّةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ فَيَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ .
أَمَّا إذَا وَجَبَتْ قِسْمَةُ الْعَيْنِ ابْتِدَاءً لَا بِسَبَبِ دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَهِيَ أَنَّ فُضُولِيًّا لَوْ بَاعَ عَبْدَ إنْسَانٍ كُلِّهِ وَفُضُولِيًّا آخَرَ بَاعَ نِصْفَهُ وَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَرْبَاعًا وَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِي الْعَيْنِ ابْتِدَاءً لَا يَثْبُتُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ ، لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ تَضِيقُ عَنْ الْحَقَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ .
وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ : ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ لِوَلِيِّ الْخَطَإِ .
وَرُبْعُهُ لِلسَّاكِتِ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ .
لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْعَمْدِ كَانَ فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا بَطَلَ حَقُّهُ وَفَرَغَ النِّصْفُ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْخَطَإِ بِهَذَا النِّصْفِ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، بَقِيَ النِّصْفُ الْآخَرُ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ وَلِيِّ الْخَطَإِ وَالسَّاكِتِ مِنْ وَلِيِّ الْعَمْدِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَصَارَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْفُضُولِيَّيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَصْلَ حَقِّهِمَا لَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ بَلْ فِي الْأَرْشِ الَّذِي هُوَ بَدَلُ
الْمُتْلَفِ ، وَالْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ تَكُونُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْخَطَإِ فِي عَشْرَةٍ وَحَقَّ شَرِيكِ الْعَافِي فِي خَمْسَةٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِصَّةٍ ، كَرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَلْفٌ لِرَجُلٍ وَأَلْفَانِ لِآخَرَ مَاتَ الْمَدْيُونُ وَتَرَكَ أَلْفًا كَانَتْ التَّرِكَةُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الدَّيْنِ أَثْلَاثًا بِطَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ ثُلُثَاهَا لِصَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ وَثُلُثُهَا لِصَاحِبِ الْأَلْفِ ، فَكَذَا هَاهُنَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْعَيْنِ ابْتِدَاءً ، إلَى هُنَا أَشَارَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ وَالْمَحْبُوبِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا الشَّرْحِ وَالْبَيَانِ صَاحِبَا الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ صَرَّحَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْبَابِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ هُوَ الدَّفْعُ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْمُوجِبَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْوَاجِبِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَوْلَى حَقُّ النَّقْلِ إلَى الْفِدَاءِ كَمَا فِي مَالِ الزَّكَاةِ ، وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِهِمْ فَمَا مَعْنَى بِنَاءِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّ أَصْلَ حَقِّهِمَا لَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ بَلْ فِي الْأَرْشِ ، وَهَلَّا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ فِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ هُوَ الْفِدَاءُ دُونَ دَفْعِ عَيْنِ الْعَبْدِ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِي بَيَانِ طَرِيقَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحَقَّ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ يَنْبُو عَمَّا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ .
.
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ ) ( عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَقَتَلَ مَوْلًى لَهُمَا ) أَيْ قَرِيبًا لَهُمَا ( فَعَفَا أَحَدُهُمَا ) ( بَطَلَ الْجَمِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَدْفَعُ الَّذِي عَفَا نِصْفَ نَصِيبِهِ إلَى الْآخَرِ أَوْ يَفْدِيهِ بِرُبْعِ الدِّيَةِ ) وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَتَلَ وَلِيًّا لَهُمَا ، وَالْمُرَادُ الْقَرِيبُ أَيْضًا ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ : عَبْدٌ قَتَلَ مَوْلَاهُ وَلَهُ ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُ الِابْنَيْنِ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ .
لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ ، لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْقِصَاصِ لَهُ فَإِذَا عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ وَهُوَ النِّصْفُ مَالًا ، غَيْرَ أَنَّهُ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ نِصْفُهُ فِي نَصِيبِهِ وَالنِّصْفُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَمَا يَكُونُ فِي نَصِيبِهِ سَقَطَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ مَالًا ، وَمَا كَانَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ بَقِيَ وَنِصْفُ النِّصْفِ هُوَ الرُّبْعُ فَلِهَذَا يُقَالُ : ادْفَعْ نِصْفَ نَصِيبِك أَوْ افْتَدَاهُ بِرُبْعِ الدِّيَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ يَكُونُ حَقَّ الْمَقْتُولِ لِأَنَّهُ بَدَلُ دَمِهِ ، وَلِهَذَا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ بِهِ وَصَايَاهُ ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِيهِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَاجَتِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا فَلَا تَخْلُفُهُ الْوَرَثَةُ فِيهِ .
( فَصْلٌ ) .
( وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لَا تُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ قَضَى لَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً ، وَفِي الْأَمَةِ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهَا عَلَى الدِّيَةِ خَمْسَةُ آلَافٍ إلَّا عَشَرَةً ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى وَهُوَ لَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْقَى الْعَقْدُ وَبَقَاؤُهُ بِبَقَاءِ الْمَالِيَّةِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا وَصَارَ كَقَلِيلِ الْقِيمَةِ وَكَالْغَصْبِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ قَوْله تَعَالَى { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } أَوْجَبَهَا مُطْلَقًا ، وَهِيَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ ، إذْ الْغَصْبُ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى الْمَالِ ، وَبَقَاءُ الْعَقْدِ يَتْبَعُ الْفَائِدَةَ حَتَّى يَبْقَى بَعْدَ قَتْلِهِ عَمْدًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْقِصَاصُ بَدَلًا عَنْ الْمَالِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَمْرُ الدِّيَةِ ، وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا سَمْعَ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا ، بِخِلَافِ كَثِيرِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحُرِّ مُقَدَّرَةٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَنَقَصْنَا مِنْهَا فِي الْعَبْدِ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ ، وَتَعْيِينُ الْعَشَرَةِ بِأَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
قَالَ ( وَفِي يَدِ الْعَبْدِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَا يُزَادُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ إلَّا
خَمْسَةً ) لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ فَتُعْتَبَرُ بِكُلِّهِ ، وَيَنْقُصُ هَذَا الْمِقْدَارُ إظْهَارًا لِانْحِطَاطِ رُتْبَتِهِ ، وَكُلُّ مَا يُقَدَّرُ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ فَهُوَ مُقَدَّرٌ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ إذْ هُوَ بَدَلُ الدَّمِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ، وَإِنْ غَصَبَ أَمَةً قِيمَتُهَا عِشْرُونَ أَلْفًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ ، وَقَدَّمَ الْأَوْلَى تَرْجِيحًا لِجَانِبِ الْفَاعِلِيَّةِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَهُوَ حَقُّ الْأَدَاءِ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ : إنَّمَا قَدَّمَ جِنَايَةَ الْعَبِيدِ عَلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْفَاعِلَ قَبْلَ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَكَذَا تَرْتِيبًا ، أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ ذَاتَ الْفَاعِلِ قَبْلَ ذَاتِ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ ذَاتِ الْمَفْعُولِ قَبْلَ وُجُودِ ذَاتِ الْفَاعِلِ مُدَّةً طَوِيلَةً ، مَثَلًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمْرُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ وَعُمْرُ الْجَانِي عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ أَقَلَّ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ فَاعِلِيَّةَ الْفَاعِلِ قَبْلَ مَفْعُولِيَّةِ الْمَفْعُولِ وُجُودًا فَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمَفْعُولِيَّةَ وَالْفَاعِلِيَّةَ تُوجَدَانِ مَعًا فِي آنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آنُ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي بِالْمَفْعُولِ بِوُقُوعِهِ عَلَيْهِ ، إذْ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَّصِفُ الْفَاعِلُ بِالْفَاعِلِيَّةِ وَلَا الْمَفْعُولُ بِالْمَفْعُولِيَّةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى الْفَطِنِ الْعَارِفِ بِالْقَوَاعِدِ .
( قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَوْله تَعَالَى { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } أَوْجَبَهَا مُطْلَقًا وَهِيَ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ ) وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الدِّيَةَ مُطْلَقًا فِيمَنْ قَتَلَ خَطَأً حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا .
وَالدِّيَةُ اسْمٌ لِلْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيمَنْ قَتَلَ الْعَبْدَ أَيْضًا خَطَأً هُوَ الدِّيَةُ الَّتِي تَكُونُ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَتَفَاوَتَ دِيَاتُ الْعَبِيدِ فِي الْمِقْدَارِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي الْآدَمِيَّةِ ، كَمَا لَا تَتَفَاوَتُ دِيَاتُ الْأَحْرَارِ فِي الْقِيمَةِ لِتَسَاوِيهِمْ فِي
ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَشْرَفَ مِنْ بَعْضٍ بِوُجُوهٍ شَتَّى ، مَعَ أَنَّ دِيَاتِ الْعَبِيدِ تَتَفَاوَتُ فِي الْمِقْدَارِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ قِيمَتِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ : وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا بِلَا خِلَافٍ ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ حَتَّى وَرَدَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ بِلَا خِلَافٍ وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا لَا مَحَالَةَ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا إذْ الْعَكْسُ يُفْضِي إلَى إهْدَارِهِمَا جَمِيعًا ، لِأَنَّ الْآدَمِيَّةَ أَصْلٌ لِقِيَامِ الْمَالِيَّةِ بِهَا ، وَفِي إهْدَارِ الْأَصْلِ إهْدَارُ التَّابِعِ ، وَإِهْدَارُ أَحَدِهِمَا أَوْلَى مِنْ إهْدَارِهِمَا انْتَهَى ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِصُورَةِ الْغَصْبِ فَإِنَّ فِيهَا إهْدَارَ الْأَصْلِ دُونَ التَّابِعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ ، فَإِنَّ إهْدَارَ أَحَدِهِمَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا وُجِدَ إتْلَافُهُمَا مَعًا فَاعْتُبِرَ أَحَدُهُمَا وَأُهْدِرَ الْآخَرُ بِأَنْ يُعْطَى لِإِتْلَافِ أَحَدِهِمَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ دُونَ إتْلَافِ الْآخَرِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ إتْلَافَ آدَمِيَّةٍ وَمَالِيَّةٍ مَعًا ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إتْلَافُ الْآدَمِيَّةِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ بِهِ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ بِإِزَالَةِ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ فِيهِ ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ بِمُقَابَلَةِ الْمَالِيَّةِ ، إذْ الْغَصْبُ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى الْمَالِ ، فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ إتْلَافُ الْآدَمِيَّةِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ إهْدَارُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْآدَمِيَّةُ ، فَإِنَّ مَعْنَى إهْدَارِهِ أَنْ لَا يُعْطَى لِإِتْلَافِهِ
حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ إتْلَافُهُ لَمْ يُتَصَوَّرْ أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ إهْدَارُهُ تَفَكَّرْ .
( قَوْلُهُ وَفِي قَلِيلِ الْقِيمَةِ الْوَاجِبِ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا سَمْعَ فِيهِ فَقَدَّرْنَاهُ بِقِيمَتِهِ رَأْيًا ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَشَاعَ فِي عِلْمِ الْفُرُوعِ أَيْضًا أَنَّ الرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ لَا يَجْرِيَانِ فِي الْمَقَادِيرِ ، بَلْ إنَّمَا تُعْرَفُ الْمَقَادِيرُ بِالسَّمْعِ فَكَيْفَ يَجُوزُ التَّقْدِيرُ بِالْقِيمَةِ هُنَا بِالرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ سَمْعٍ ؟ وَأَيْضًا أَنَّ الْعَبِيدَ لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي نَفْسِ الْآدَمِيَّةِ لَا مَحَالَةَ ، وَعَنْ هَذَا لَا يَتَفَاوَتُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ الْمُتَوَجِّهَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ الْآدَمِيَّةُ ، كَالتَّكْلِيفِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شَرَائِعِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ تَقْدِيرُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ بِمُقَابَلَةِ الْآدَمِيَّةِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بِقِيمَتِهِمْ وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْقِيَمِ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ غَصَبَ أَمَةً قِيمَتُهَا عِشْرُونَ أَلْفًا فَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ تَمَامُ قِيمَتِهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً فِيمَا قَبْلُ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ غَصَبَ عَبْدًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ أَلْفًا وَهَلَكَ فِي يَدِهِ يَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ فَمَا وَجْهُ الْإِعَادَةِ هُنَا ، وَتَكْرَارُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْمُصَنِّفِينَ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَ هُنَا فَإِنَّهُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْبِدَايَةِ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَ فِيمَا قَبْلُ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ الِاسْتِطْرَادِ فَرْقًا بَيْنَ مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ غَصْبِهِ فِي الْحُكْمِ ، حَيْثُ يَجِبُ فِي الْأُولَى أَقَلُّ مِنْ عَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إذَا زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ ، وَيَجِبُ فِي الثَّانِيَةِ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ بِالْإِجْمَاعِ وَجَمْعًا لِدَلِيلَيْ تَيْنِكَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي الْبَيَانِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ .
قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى فَلَا قِصَاصَ فِيهِ وَإِلَّا اُقْتُصَّ مِنْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا قِصَاصَ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَى الْقَاطِعِ أَرْشُ الْيَدِ ، وَمَا نَقَصَهُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَعْتِقَهُ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ ) وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْجُرْحِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ فَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ فَلَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى وَفِيهِ الْكَلَامُ ، وَاجْتِمَاعُهُمَا لَا يُزِيلُ الِاشْتِبَاهَ لِأَنَّ الْمُلْكَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ لِرَجُلٍ وَبِرَقَبَتِهِ لِآخَرَ إذَا قُتِلَ ، لِأَنَّ مَا لِكُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْحَقِّ ثَابِتٌ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا زَالَ الِاشْتِبَاهُ .
وَلِمُحَمَّدٍ فِي الْخِلَافِيَّةِ وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ سِوَى الْمَوْلَى أَنَّ سَبَبَ الْوِلَايَةِ قَدْ اخْتَلَفَ لِأَنَّهُ الْمِلْكُ عَلَى اعْتِبَارِ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ وَالْوِرَاثَةُ بِالْوَلَاءِ عَلَى اعْتِبَارِ الْأُخْرَى ، فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ كَمَا إذَا قَالَ لِآخَرَ بِعْتنِي هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِكَذَا فَقَالَ الْمَوْلَى زَوَّجْتهَا مِنْك لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ ، وَبِانْقِطَاعِهَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ .
وَلَهُمَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ لِلْمَوْلَى فَيَسْتَوْفِيَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَعْلُومٌ وَالْحُكْمُ مُتَّحِدٌ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ مَجْهُولٌ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ
السَّبَبِ هَاهُنَا لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ ، بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ يُغَايِرُ مِلْكَ النِّكَاحِ حُكْمًا ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ لِذَاتِهِ بَلْ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَذَلِكَ فِي الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ لِحُرِّيَّتِهِ فَيُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَيُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فَجَاءَ الِاشْتِبَاهُ .
أَمَّا الْعَمْدُ فَمُوجِبُهُ الْقِصَاصُ وَالْعَبْدُ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ إذْ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْقِصَاصُ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ أَرْشُ الْيَدِ ، وَمَا نَقَصَهُ مِنْ وَقْتِ الْجُرْحِ إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ كَمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّهُ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ ، وَعِنْدَهُمَا الْجَوَابُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَالْجَوَابِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّانِي .
( قَوْلُهُ وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِاشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عِنْدَ الْمَوْتِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْجُرْحِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ لِلْوَرَثَةِ فَتَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ إلَخْ ) وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ مَا مَعْنَى هَذَا التَّرَدُّدِ وَقَدْ صَرَّحُوا فِيمَا لَوْ ضَرَبَ الْأَمَةَ الْحَامِلَةَ فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى الْأَمَةَ ثُمَّ أَلْقَتْهُ حَيًّا فَمَاتَ الْوَلَدُ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الضَّرْبِ حَتَّى تَجِبَ الْقِيمَةُ لَا الدِّيَةُ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي بَيَانِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّا اعْتَبَرْنَا حَالَتَيْ الضَّرْبِ وَالتَّلَفِ مَعًا ، فَأَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ دُونَ الدِّيَةِ اعْتِبَارًا لِحَالَةِ الضَّرْبِ ، وَأَوْجَبْنَا قِيمَتَهُ حَيًّا اعْتِبَارًا لِحَالَةِ التَّلَفِ ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَشُرُوحِهِ مُفَصَّلًا فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الْجَنِينِ فَكَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ حَفِظَ بَعْضَ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ وَنَسِيَ بَعْضَهُ فَزَعَمَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ حَالَةُ الضَّرْبِ فَقَطْ .
( قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : أَيْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْعَبْدِ وَرَثَةٌ سِوَى الْمَوْلَى .
وَقَالَ : وَوَصَلَ شَيْخِي بِخَطِّهِ الضَّمِيرَ فِي وَفِيهِ إلَى وَتَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ لَكِنْ مَآلُ ذَلِكَ إلَى مَا قُلْنَا ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ : أَيْ فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسْتَوْفَى ، وَلَا كَلَامَ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِإِفَادَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِذَا فَاتَ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ : أَيْ كَلَامُنَا فِي تَحَقُّقِ اشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ : يَعْنِي أَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِتَحَقُّقِ اشْتِبَاهِ مَنْ لَهُ الِاسْتِيفَاءُ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاشْتِبَاهُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَيَتَعَذَّرُ
الِاسْتِيفَاءُ ا هـ .
وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ الْأَقْوَالِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ : قَوْلُهُ وَفِيهِ الْكَلَامُ : أَيْ وَفِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى ، وَنَقَلَ سَائِرَ الْأَقْوَالِ بِقَوْلِهِ وَقِيلَ وَقِيلَ وَقِيلَ .
أَقُولُ : مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدِي ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بَعْدَ أَنْ قَالَ فِيمَا قَبْلُ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَرِيدًا بِهِ مَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً كَيْفَ يَحْتَاجُ هُنَا إلَى أَنْ يَقُولَ وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا كَانَ لَهُ وَرَثَةٌ غَيْرُ الْمَوْلَى ، وَهَلَّا يَكُونُ هَذَا لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ .
وَأَمَّا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ فَلَا يَخْلُو كُلٌّ مِنْهُمَا عَنْ الرَّكَاكَةِ ، بَلْ عَنْ اللُّغَوِيَّةِ أَيْضًا كَمَا يُدْرِكُهُ الذَّوْقُ الصَّحِيحُ .
وَإِنَّمَا الْحَقُّ الصَّرِيحُ هُنَا مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ ، إذْ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ جِدًّا وَيَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِقَرِيبِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ كَمَا تَرَى .
( قَوْلُهُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْمُسْتَحِقِّ فِيمَا يُحْتَاطُ فِيهِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَفْسِيرِ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ : أَيْ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَقَالُوا : فَإِنَّهُ يُحْتَرَزُ بِهَذَا عَمَّنْ قَالَ لِآخَرَ لَك عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ قَرْضٍ فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ وَإِنْ اخْتَلَفَ السَّبَبُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْوَالُ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا الْبَدَلُ وَالْإِبَاحَةُ فَلَا يُبَالِي بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الشُّرُوحِ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ بِاَلَّذِي لَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ إنَّمَا يَكُونُ
عَمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَالْأَمْوَالُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ سَاقِطٌ جِدًّا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَةِ مِنْ أَنَّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَتُقْبَلُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ مَالًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَالٍ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسِّرَ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ ، فَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ مَا اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ بِعَدَمِ حِلِّهِ كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَيْسَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ قَطْعًا .
نَعَمْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ أَوْ بِشُبْهَةِ الْمَحَلِّ ، لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا عُرِفَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
فَإِنَّ وَجْهَ الْخَلَلِ الْأَوَّلِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ بِعَدَمِ حِلِّ الْوَطْءِ يَبْقَى الْخَلَلُ الثَّانِي بِلَا تَحَمُّلِ تَوْجِيهٍ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ فِي نَقْلِ عِبَارَةِ الْعِنَايَةِ : وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ بَدَلٌ وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَقَالَ لَفْظَةُ " مَا " نَافِيَةٌ .
أَقُولُ : نُسَخُ الْعِنَايَةِ الَّتِي رَأَيْنَاهَا لَا تُوَافِقُ مَا ذَكَرَهُ ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّةِ ذَلِكَ لَا يَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ عَنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُنَا ، لِأَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ لَزِمَ أَنْ يَحْتَرِزَ بِهِ عَنْ الْأَمْوَالِ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الدِّمَاءِ وَلَا مِنْ الْفُرُوجِ ، فَإِنْ كَانَ عِبَارَةُ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُ اسْتَشْهَدَ بَعْدَهُ بِحِلِّ الْوَطْءِ وَهُوَ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَكَانَ
لَفْظَةُ مَا نَافِيَةً لَزِمَ أَنْ يَرِدَ عَلَيْهِ مِثْلُ النَّظَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ عَلَى سَائِرِ الشُّرُوحِ بِأَنْ يُقَالَ : الْأَمْوَالُ أَيْضًا لَا تَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ عَلَى زَعْمِك فَصَارَتْ كَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ ، فَمَا مَعْنَى الِاحْتِرَازِ عَنْهَا بِتَفْسِيرِ مَا يُحْتَاطُ فِيهِ بِالدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَّهُ أَوْلَى مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ ، وَبِانْقِطَاعِهَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ ) هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ يُصَيِّرُ النِّهَايَةَ مُخَالِفَةً لِلْبِدَايَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ مَنْ جَرَحَ عَبْدَ إنْسَانٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَلَا الْقِيمَةُ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ النُّقْصَانَ ؛ فَإِنْ كَانَ خَطَأً فَبِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ وَهُوَ مُخَالَفَةُ النِّهَايَةِ لِلْبِدَايَةِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا ، وَبِانْقِطَاعِهِمَا يَبْقَى الْجُرْحُ بِلَا سِرَايَةٍ وَالسِّرَايَةُ بِلَا قَطْعٍ فَيَمْتَنِعُ الْقِصَاصُ كَأَنَّهُ تَلِفَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِ جُرْحًا بِلَا سِرَايَةٍ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ نَظَرًا إلَى حَقِيقَةِ الْجِنَايَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ ، لِأَنَّهُ إذَا سَرَى تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَتْلٌ لَا قَطْعٌ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ : أَرْشُ الْيَدِ دُونَ أَنْ يَقُولَ أَرْشُ الْجُرْحِ فَلَا وُرُودَ لِلسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا ، إذْ يَجِبُ أَرْشُ
الْيَدِ لِلْمَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكِتَابِ ، فَلَا مَجَالَ لِلسُّؤَالِ عَلَى دَلِيلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى مُقْتَضَاهُ أَنْ يَجِبَ أَرْشُ الْيَدِ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرُوهَا هَاهُنَا عَلَى سَبِيلِ التَّنْوِيرِ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ جَرَحَ عَبْدَ إنْسَانٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ فَلِلسُّؤَالِ الْمَذْكُورِ وُرُودٌ ، وَلَكِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ مَنْقُوضٌ بِمَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِيهَا أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهَا أَرْشُ الْيَدِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَقَّقْتُهُ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَذَلِكَ فِي الْخَطَإِ دُونَ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَصْلُحُ مَالِكًا لِلْمَالِ ، فَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ يَكُونُ الْحَقُّ لِلْمَوْلَى ، وَعَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ يَكُونُ لِلْمَيِّتِ لِحُرِّيَّتِهِ فَجَاءَ الِاشْتِبَاهُ ) أَقُولُ : فِي هَذَا الْمَقَامِ ضَرْبٌ مِنْ الْإِشْكَالِ لِأَنَّ الْحَقَّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى بِالْوِرَاثَةِ ، فَكَانَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْمَالِ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ هُوَ الْمَوْلَى فَلَا اشْتِبَاهَ ؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي صُورَةِ الْعَمْدِ وَعَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ فَالْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّاهُ ، إذْ لَا وَارِثَ سِوَاهُ فَلَا اشْتِبَاهَ فِيمَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ اخْتِلَافَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ابْتِدَاءً كَافٍ فِي تَحَقُّقِ الِاشْتِبَاهِ الْمُقْتَضِي لِقَطْعِ الْإِعْتَاقِ السِّرَايَةِ وَاتِّحَادِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الِانْتِهَاءِ ، وَالْمَالُ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي دَفْعِ ذَلِكَ يَتَّجِهُ الْإِشْكَالُ عَلَى صُورَةِ الْعَمْدِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْقِصَاصِ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ لِلْعَبْدِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْجُرْحِ لِكَوْنِ الْعَبْدِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْقِصَاصِ
كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَلِلْمَوْلَى عَلَى اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّ حَقَّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ثَابِتٌ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْوِرَاثَةِ كَمَا فِي الدِّيَةِ ، لِأَنَّ مِلْكَ الْقِصَاصِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْفِعْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ الْفِعْلُ مِنْ الْمَيِّتِ ، بِخِلَافِ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فِي الْأَمْوَالِ ، كَمَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً وَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدًا بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ كُلُّهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الشَّهَادَةِ فِي الْقَتْلِ مِنْ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ فَيَلْزَمُ اشْتِبَاهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ابْتِدَاءً فِي صُورَةِ الْعَمْدِ أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ صُورَتَيْ الْخَطَإِ وَالْعَمْدِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ عَلَى أَصْلِهِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ عَلَى قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ
قَالَ ( وَمَنْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ شُجَّا فَأَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَأَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى ) لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ فِي الْمُعَيَّنِ وَالشَّجَّةُ تُصَادِفُ الْمُعَيَّنَ فَبَقِيَا مَمْلُوكَيْنِ فِي حَقِّ الشَّجَّةِ ( وَلَوْ قَتَلَهُمَا رَجُلٌ تَجِبُ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْبَيَانَ إنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ وَإِظْهَارٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَبَعْدَ الشَّجَّةِ بَقِيَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءً فِي حَقِّهِمَا ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتَبَرْنَاهُ إظْهَارًا مَحْضًا ، وَأَحَدُهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ فَتَجِبُ قِيمَةُ عَبْدٍ وَدِيَةُ حُرٍّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ حَيْثُ تَجِبُ قِيمَةُ الْمَمْلُوكِينَ ، لِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِقَتْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرًّا وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فَائِدَةً ، وَإِنَّمَا صَحَّحْنَاهُ ضَرُورَةَ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ وَأَثْبَتْنَا لَهُ وِلَايَةَ النَّقْلِ مِنْ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ فِي النَّفْسِ دُونَ الْأَطْرَافِ فَبَقِيَ مَمْلُوكًا فِي حَقِّهَا .
( قَوْلُهُ وَبَعْدَ الشَّجَّةِ بَقِيَ مَحَلًّا لِلْبَيَانِ فَاعْتُبِرَ إنْشَاءٌ فِي حَقِّهِمَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الظَّاهِرُ الْمُطَابِقُ لِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ : فَاعْتُبِرَ إنْشَاءُ فِي حَقِّ مَنْ أَوْقَعَ الْعِتْقَ عَلَيْهِ وَهُوَ أَحَدُهُمَا الْمُتَعَيَّنُ بِالْبَيَانِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ
قَالَ ( وَمَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْلَى دَفَعَ عَبْدَهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ النُّقْصَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : إنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ مَا نَقَصَهُ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُضَمِّنُهُ كُلَّ الْقِيمَةِ وَيُمْسِكُ الْجُثَّةَ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الضَّمَانَ مُقَابِلًا بِالْفَائِتِ فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى مِلْكِهِ ، كَمَا إذَا قَطَعَ إحْدَى يَدَيْهِ أَوْ فَقَأَ إحْدَى عَيْنَيْهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً وَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَرِعَايَةً لِلْمُمَاثَلَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ حُرٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، وَبِخِلَافِ عَيْنَيْ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ، وَفِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَفَقْءِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ مَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا فَاحِشًا إنْ شَاءَ الْمَالِكُ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ .
وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ آخَرَ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْآدَمِيَّةِ ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ أَنْ تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِيهَا ثُمَّ مِنْ أَحْكَامِ الْأُولَى أَنْ لَا يَنْقَسِمَ عَلَى
الْأَجْزَاءِ ، وَلَا يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَنْقَسِمَ وَيَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ فَوَفَّرْنَا عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ .
( قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَقَامِ : يَعْنِي أَنَّ الْمَالِيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ كَمَا أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الذَّاتِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ : أَيْ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الذَّاتِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ : يَعْنِي لَمْ يَقْتَصِرْ اعْتِبَارُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الذَّاتِ فَحَسْبُ ، بَلْ اُعْتُبِرَتْ فِي حَقِّ الذَّاتِ وَالْأَطْرَافِ جَمِيعًا ، هَذَا زُبْدَةُ مَا قَالُوا .
أَقُولُ : فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا مُنَافِيًا لِمَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ فِيهِ : أَيْ فِي الْعَبْدِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ حَتَّى كَانَ مُكَلَّفًا وَفِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالْآدَمِيَّةُ أَعْلَاهُمَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا بِإِهْدَارِ الْأَدْنَى عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ا هـ .
فَإِنَّ مَدْلُولَ مَا قَالَهُ هُنَاكَ أَنَّ الْمَالِيَّةَ الَّتِي هِيَ أَدْنَى مِنْ الْآدَمِيَّةِ مُهْدَرَةٌ فِي حَقِّ ذَاتِ الْعَبْدِ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآدَمِيَّةِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرَةُ فِيهِ هِيَ الْآدَمِيَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَمَدْلُولُ كَلَامِهِ هُنَا عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ أَنَّ الْمَالِيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ ذَاتِ الْعَبْدِ وَأَطْرَافِهِ جَمِيعًا عِنْدَ أَئِمَّتِنَا فَبَيْنَهُمَا تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ مِنْ بَيْنِ هَؤُلَاءِ الْجُمْهُورِ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ : وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْمَالِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ وَهِيَ مُعْتَبَرَةٌ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ ، لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ : أَيْ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ وَحْدِهِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ سَاقِطٌ
بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ زَائِدٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ فَسَّرَ الذَّاتَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ مِنْ الْأَطْرَافِ .
قَالَ فِي الصِّحَاحِ : بَدَنُ الْإِنْسَانِ جَسَدُهُ وقَوْله تَعَالَى { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِك } قَالُوا : بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ ا هـ .
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالذَّاتِ مَا يُقَابِلُ الْأَطْرَافَ وَهُوَ النَّفْسُ وَإِتْلَافُهَا بِإِزَالَةِ الرُّوحِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَّلَ سُقُوطَ اقْتِصَارِ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الذَّاتِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ إيجَابَ الشَّرْعِ كَمَالِ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إيجَابُهُ إيَّاهُ لِلْآدَمِيَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ تَدَبَّرْ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا : يَعْنِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَطْرَافِ لَا فِي الذَّاتِ لِأَنَّهَا تَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا لَا يَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ ، وَفَسَّرَ الذَّاتَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْمَالِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ بِالْعَبْدِ حَيْثُ قَالَ : أَيْ فِي الْعَبْدِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ : يَعْنِي أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ مُقْتَصَرًا فِي النَّفْسِ لَا فِي الْأَطْرَافِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بَدَلُ الْآدَمِيَّةِ لَا بَدَلَ الْمَالِيَّةِ ، وَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ بَلْ يَنْقُصُ عَشَرَةً فَتَكُونُ الْمَالِيَّةُ فِي الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الْأَطْرَافِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي
اسْتِفَادَتِهِ مَنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا تَمَحُّلٌ كَثِيرٌ كَمَا تَرَى ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَكَلَامُهُ هُنَا مَسُوقٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا وَلِهَذَا قَالَ : وَنَحْنُ نَقُولُ : فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ لِأَصْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ .
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ الِاضْطِرَابِ كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ تَرَكَ أُسْلُوبَ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَسَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ مَعَ كَوْنِ عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ الْمُصَنِّفِ فِي وَضْعِ الْمَسَائِلِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ .
( قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا ) أَقُولُ : الظَّاهِرُ مِنْ هَذَا الْبَيَانِ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْآدَمِيَّةَ مُعْتَبَرَتَانِ مَعًا فِي ذَاتِ الْعَبْدِ : أَيْ نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ مَرَّ مِنْ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي ذَاتِ الْعَبْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ الْآدَمِيَّةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، فَإِنَّهَا مُهْدَرَةٌ فِي ذَاتِهِ عِنْدَهُمَا فِي فَصْلِ الْجِنَايَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ زَادَتْ قِيمَتُهُ عَلَى تَمَامِ الدِّيَةِ يَنْقُصُ عَنْهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَ هُمَا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَدَافُعٌ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ هُنَا إنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ عَلَى مُجَرَّدِ الْفَرْضِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ فُرِضَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ بُعْدٍ .
( فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) .
( فَصْلٌ فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ) قَالَ ( وَإِذَا جَنَى الْمُدَبَّرُ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ جِنَايَةً ضَمِنَ الْمَوْلَى الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِهَا ) لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا عَنْ تَسْلِيمِهِ فِي الْجِنَايَةِ بِالتَّدْبِيرِ أَوْ الِاسْتِيلَادِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ الْفِدَاءَ فَصَارَ كَمَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ ، وَلَا مَنْعَ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَلَا تَخْيِيرَ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ لِاخْتِيَارِهِ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ ، بِخِلَافِ الْقِنِّ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ صَادِقَةٌ فِي الْأَعْيَانِ فَيُفِيدُ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ( وَجِنَايَاتُ الْمُدَبَّرِ وَإِنْ تَوَالَتْ لَا تُوجِبُ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةٍ ) لِأَنَّهُ لَا مَنْعَ مِنْهُ إلَّا فِي رَقَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلِأَنَّ دَفْعَ الْقِيمَةِ كَدَفْعِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ فَهَذَا كَذَلِكَ ، وَيَتَضَارَبُونَ بِالْحِصَصِ فِيهَا ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ فِي حَالِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ فِي هَذَا الْوَقْتِ يَتَحَقَّقُ .
لَمَّا ذَكَرَ بَابَ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةَ عَلَيْهِ قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْعَبْدُ ، ثُمَّ ذَكَرَ فَصْلَ مَنْ هُوَ أَحَطُّ رُتْبَةً فِي اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ أَنَّ الْمِلْكَ كَامِلٌ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ دُونَ الرِّقِّ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ عَلَى الْعَكْسِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ طَرَفِ الشُّرَّاحِ أَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ فِي الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَاتَبِ حَيْثُ يَمْلِكُهُمَا الْمَوْلَى يَدًا وَرَقَبَةً ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ مَوْلَاهُ يَمْلِكُهُ رَقَبَةً لَا يَدًا كَمَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ لَا يُنَافِي أَكْمَلِيَّةَ الْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ ، فَإِنَّ مَوْلَاهُ كَمَا يَمْلِكُهُ يَدًا وَرَقَبَةً يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَاتِ عَامَّةِ التَّصَرُّفَاتِ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّ مَوْلَاهُمَا لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَشْبَاهِهَا لِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى مَا عُرِفَ أَيْضًا فِي مَحَلِّهِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْمَلِيَّةَ الْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ كَافِيَةٌ فِي تَقْدِيمِهِ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فِي الذِّكْرِ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ عِبَارَةُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ قَالُوا : قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ فِي اسْتِحْقَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَهُوَ الْعَبْدُ تَبَصَّرْ .
( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) .
قَالَ ( فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَقَدْ دَفَعَ الْمَوْلَى الْقِيمَةَ إلَى وَلِيِّ الْأُولَى بِقَضَاءٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَى الدَّفْعِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى دَفَعَ الْقِيمَةَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى ) لِأَنَّهُ حِينَ دَفَعَ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ مَوْجُودَةً فَقَدْ دَفَعَ كُلَّ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ وَصَارَ كَمَا إذَا دَفَعَ بِالْقَضَاءِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَوْلَى جَانٍ بِدَفْعِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ طَوْعًا ، وَوَلِيُّ الْأُولَى ضَامِنٌ بِقَبْضِ حَقِّهِ ظُلْمًا فَيَتَخَيَّرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَمُتَأَخِّرَةٌ حُكْمًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا فَجُعِلَتْ كَالْمُقَارِنَةِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لِإِبْطَالِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ .
( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُدَبَّرَ وَقَدْ جَنَى جِنَايَاتٍ لَمْ تَلْزَمْهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمَنْعِ فَصَارَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ مِنْ بَعْدُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ ( وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا ) لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ مَانِعٌ مِنْ الدَّفْعِ كَالتَّدْبِيرِ ( وَإِذَا أَقَرَّ الْمُدَبَّرُ بِجِنَايَةِ الْخَطَإِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ عَتَقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ ) لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْخَطَإِ عَلَى سَيِّدِهِ وَإِقْرَارَهُ بِهِ لَا يَنْفُذُ عَلَى السَّيِّدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) ( قَوْلُهُ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : يَعْنِي لَمَّا عَمِلْنَا بِشَبَهِ التَّأَخُّرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ حَتَّى اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّهَا وَجَبَ أَنْ نَعْمَلَ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فِي حَقِّ تَضْمِينِ نِصْفِ الْمَدْفُوعِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ : قَدْ تَحَقَّقَ الْعَمَلُ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فِي حَقِّ تَشْرِيكِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، إذْ لَوْلَا الْعَمَلُ بِذَلِكَ لَكَانَ الْمَدْفُوعُ كُلُّهُ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، خَاصَّةً لِتَقَدُّمِهِ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْمَدْفُوعِ عَلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَلَكِنْ لَمَّا جَعَلْنَاهُ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةً لِلْأُولَى حُكْمًا عَمِلْنَا بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ فَشَرَكْنَا وَلِيَّ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْأُولَى كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةً حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، فَإِذَا وَقَعَ الْعَمَلُ بِشَبَهِ الْمُقَارَنَةِ مَرَّةً فَقَدْ وُجِدَ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ الِاحْتِيَاجُ إلَى الْعَمَلِ بِشَبَهِهِمَا مَرَّةً أُخْرَى بِتَضْمِينِ بَعْضِ الْمَدْفُوعِ لِلْمَوْلَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْمَقَامِ : جُعِلَتْ الثَّانِيَةُ كَالْمُقَارِنَةِ فِي حَقِّ التَّضْمِينِ إذَا وَقَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الثَّانِي ، وَلَمْ تُجْعَلْ كَالْمُقَارِنَةِ إذَا وَقَعَ بِقَضَاءٍ لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ بِالدَّفْعِ عَمَلًا بِشَبَهَيْ الْمُقَارَنَةِ وَالتَّأَخُّرِ ا هـ .
وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِقِيلَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْمَعْنَى الْأَوَّلَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ بِشَيْءٍ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالشَّبَهَيْنِ أَمْرٌ وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ .
فَلَمَّا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ وَهِيَ
مَا إذَا وَقَعَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا ظَهَرَ مِمَّا سَبَقَ لَمْ يَصِحَّ الْمَصِيرُ فِي اعْتِبَارِ الْعَمَلِ بِهِمَا إلَى التَّوْزِيعِ عَلَى مَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ كَمَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَصِحُّ ذَاكَ لَوْ لَمْ يُتَصَوَّرْ الْعَمَلُ بِهِمَا فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ .
بَلْ كَانَ اعْتِبَارُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
ثُمَّ إنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ : يَتَحَقَّقُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ بِأَنْ تُجْعَلَ الثَّانِيَةُ كَالْمُقَارَنَةِ لِلْأُولَى فِي حَقِّ تَشْرِيكِ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْأُولَى ، وَأَنْ تُجْعَلَ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا مِنْ حَيْثُ إنْ يَعْتَبِرَ قِيمَتَهُ يَوْمَ الْجِنَايَةِ فَلَمْ يَقْتَضِ الْعَمَلَ بِهِمَا مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) .
قَالَ ( وَمَنْ قَطَعَ يَدَ عَبْدِهِ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ وَمَاتَ فِي يَدِهِ مِنْ الْقَطْعِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَطَعَ يَدَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَصْبَ قَاطِعٌ لِلسَّرَايَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ أَقْطَعَ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَاطِعُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي فَكَانَتْ السِّرَايَةُ مُضَافَةً إلَى الْبِدَايَةِ فَصَارَ الْمَوْلَى مُتْلِفًا فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا ، كَيْفَ وَأَنَّهُ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ اسْتِرْدَادٌ فَيَبْرَأُ الْغَاصِبُ عَنْ الضَّمَانِ .
( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَا يُرَدُّ مِنْهُ وَذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِيهِ قُصُورٌ وَفُتُورٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وَجْهَ ذِكْرِ غَصْبِ الْعَبْدِ فِي هَذَا الْبَابِ كَانَ ضَائِعًا عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِمَّا يُرَدُّ عَلَى الْمُدَبَّرِ وَيُرَدُّ مِنْهُ مِنْ قَبِيلِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَوْ الْجِنَايَةِ مِنْهُ فَكَانَ مِنْ حُكْمِ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ .
فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ وَمَا يُرَدُّ مِنْهُ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ بِمُلْحَقٍ بِالْمُدَبَّرِ فِي حُكْمِهِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْبَابِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ فِي الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ فِي هَذَا الْبَابِ .
نَعَمْ يَجُوزُ أَنْ يُعَدَّ مُلْحَقًا بِالْمُدَبَّرِ بَلْ بِالْعَبْدِ فِي كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي ذِكْرَ حُكْمِهِ فِي هَذَا الْبَابِ دُونَ الْبَابِ السَّابِقِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ فِي قَوْلِهِ وَذِكْرِ حُكْمِ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : لَمَّا ذَكَرَ حُكْمَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ فِي الْجِنَايَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِمَا وَمَا يُرَدُّ مِنْهُمَا وَذَكَرَ حُكْمَ مَنْ يَلْحَقُ بِهِمَا ا هـ .
أَقُولُ : وَقَعَ فِيهِ تَدَارُكُ دَفْعِ الْمَحْذُورِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى تَقْرِيرِ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ ، وَلَكِنْ بَقِيَ الْمَحْذُورَانِ الْأَخِيرَانِ مِنْهَا وَارِدَيْنِ عَلَيْهِ أَيْضًا كَمَا تَرَى .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : لَمَّا ذَكَرَ جِنَايَةَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَابِ جِنَايَتَهُمَا مَعَ غَصْبِهِمَا لِأَنَّ الْمُفْرَدَ قَبْلَ
الْمُرَكَّبِ ثُمَّ جَرَّ كَلَامُهُ إلَى بَيَانِ حُكْمِ غَصْبِ الصَّبِيِّ ا هـ .
وَتَبِعَهُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : هَذَا أَشْبَهُ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ أَمْكَنَ التَّقْرِيرُ بِأَحْسَنَ مِنْهُ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْغَصْبَ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ كَالْبَيْعِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ إلَخْ ) وَاعْتَرَضَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بَعْدَ أَنْ نَقَلَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، ثُمَّ عَلَّلَ الْمَسْأَلَةَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : إلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ مَذْهَبَنَا ، فَإِنَّ الْغَصْبَ لَا يَقْطَعُ السِّرَايَةَ مَا لَمْ يَمْلِكْ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا ، لِأَنَّ السِّرَايَةَ إنَّمَا تَقْطَعُ بِهِ بِاعْتِبَارِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا يَتَبَدَّلُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَأَمَّا قَبْلَهُ فَلَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي آخِرِ رَهْنِ الْجَامِعِ وَالْبَابِ الثَّانِي مِنْ جِنَايَاتِهِ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ هُنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ أَقْطَعَ لِأَنَّ السِّرَايَةَ وَإِنْ لَمْ تَنْقَطِعْ فَالْغَصْبُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَانْعَقَدَ سَبَبُ الضَّمَانِ فَلَا يَبْرَأُ عَنْهُ الْغَاصِبُ إلَّا إذَا ارْتَفَعَ الْغَصْبُ ، وَلَمْ يَرْتَفِعْ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ ، وَيَدُ الْغَاصِبِ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَغْصُوبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَيَدُ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّ بَعْدَ الْغَصْبِ لَمْ تَثْبُتْ يَدُهُ عَلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً ، وَالثَّابِتُ حُكْمًا دُونَ الثَّابِتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَمْ يَرْتَفِعْ الْغَصْبُ بِاتِّصَالِ السِّرَايَةِ إلَى فِعْلِ الْمَوْلَى فَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْغَصْبِ لِأَنَّ الْغَصْبَ يَرْتَفِعُ بِهَا ، إلَى هُنَا كَلَامُ قَاضِي خَانْ .
وَقَدْ نَقَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ بِشَيْءٍ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ
فَبَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَهُ قَاضِي خَانْ أَوْرَدَ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ نَظَرًا حَيْثُ قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ حُكْمًا ، فَإِنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ حُكْمًا وَلَا يَثْبُتُ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّتَانِ بِكَمَالِهِمَا وَالْيَدُ الْحَقِيقِيَّةُ وَاجِبَةُ الرَّفْعِ لِكَوْنِهَا عُدْوَانًا لَا تَصْلُحُ مُعَارِضًا وَلَا مُرَجِّحًا انْتَهَى .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ ، إذْ لَا وَجْهَ لِمَنْعِ ثُبُوتِ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ حُكْمًا ، فَإِنَّ مَعْنَى ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَى الشَّيْءِ حُكْمًا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الْيَدِ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَقَدْ تَرَتَّبَ عَلَى يَدِ الْغَاصِبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ .
وَأَمَّا سَنَدُ مَنْعِهِ فَلَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا إذْ لَا مَحْذُورَ فِي أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَدَانِ حُكْمِيَّتَانِ بِكَمَالِهِمَا مِنْ جِهَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ ، فَإِنَّ ثُبُوتَ يَدِ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ سِرَايَةِ الْقَطْعِ الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ فِي يَدِهِ ، وَثُبُوتُ يَدِ الْغَاصِبِ عَلَيْهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَاخْتَلَفَتْ الْجِهَتَانِ
قَالَ ( وَإِذَا غَصَبَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ) لِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ مُؤَاخَذٌ بِأَفْعَالِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَجَنَى عِنْدَهُ جِنَايَةً أُخْرَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ أَعْجَزَ نَفْسَهُ عَنْ الدَّفْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ فَيَصِيرُ مُبْطِلًا حَقَّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ إذْ حَقُّهُمْ فِيهِ وَلَمْ يَمْنَعْ إلَّا رَقَبَةً وَاحِدَةً فَلَا يُزَادُ عَلَى قِيمَتِهَا ، وَيَكُونُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمُوجَبِ .
قَالَ ( وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى بِنِصْفِ قِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ) لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْبَدَلِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَصَارَ كَمَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِهَذَا السَّبَبِ .
قَالَ ( وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ) لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَكِيلَا يَتَكَرَّرَ الِاسْتِحْقَاقُ .
وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِاعْتِبَارِ مُزَاحَمَةِ الثَّانِي فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْعَبْدِ فِي يَدِ الْمَالِكِ فَارِغًا يَأْخُذُهُ لِيُتِمَّ حَقَّهُ فَإِذَا أَخَذَهُ مِنْهُ يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَهُ عَلَى الْغَاصِبِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
( بَابُ غَصْبِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالصَّبِيِّ وَالْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ ) ( قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ، لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ عِوَضُ مَا سَلَّمَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ جَوَابًا عَنْهُ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ : وَهُمَا يَقُولَانِ لَيْسَ هَذَا عِوَضَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى حَتَّى يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، بَلْ هُوَ عِوَضُ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكٍ وَاحِدٍ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الَّذِي يَرْجِعُ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ كَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ وَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ وَقَعَتْ عِنْدَ الْمَوْلَى لَا عِنْدَ الْغَاصِبِ ، فَأَنَّى يَصِحُّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ عِوَضًا عَمَّا دَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الَّتِي صَدَرَتْ مِنْ مُدَبَّرِهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ ، وَالْعُهْدَةُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ دُونَ غَيْرِهِ كَمَا لَا رَيْبَ فِيهِ .
وَعَنْ هَذَا فَرَّقَ مُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ الَّتِي هِيَ عَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ وَافَقَ الْإِمَامَيْنِ هُنَاكَ كَمَا سَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوْلَى مَلَكَ مَا قَبَضَهُ مِنْ الْغَاصِبِ وَدَفَعَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عِوَضًا عَمَّا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى فَلَا يَجْتَمِعُ الْبَدَلُ وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا قَرِيبٌ مِمَّا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي تَقْرِيرِهِ مَسَاغَ التَّخَلُّصِ عَمَّا أَوْرَدْنَاهُ عَلَى تَقْرِيرِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ اعْتَبَرَ التَّعَارُضَ فِي جَانِبِ الدَّفْعِ إلَى
وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى لَا فِي جَانِبِ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ تَأَمَّلْ تَفْهَمْ .
ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ وَعَزَاهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إلَى الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ : وَجَوَابُهُ مَا قَالَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ أَنَّ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْغَاصِبِ هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْمَدْفُوعِ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى مِنْ الْعَبْدِ فِيمَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْغَاصِبِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَلَا يُعْتَبَرُ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ بَلْ يُعْتَبَرُ بَدَلًا عَنْ الْمَيِّتِ وَيَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ بَدَلًا عَنْ عَيْنٍ فِي حَقِّ إنْسَانٍ ، وَيَكُونُ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ آخَرَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَالنَّصْرَانِيِّ إذَا بَاعَ الْخَمْرَ وَقَضَى مِنْهُ دَيْنَ الْمُسْلِمِ يَجُوزُ وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ بَدَلَ الْخَمْرِ فِي حَقِّ النَّصْرَانِيِّ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بَدَلَ دَيْنِهِ كَذَا هَاهُنَا ا هـ .
( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى فِي حَقِّهِ لَا يُزَاحِمُهُ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَ بِاعْتِبَارِ مُزَاحَمَةِ الثَّانِي إلَخْ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةً لِلْأُولَى حُكْمًا فَكَيْفَ يَكُونُ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي حَقِّ التَّضْمِينِ لَا غَيْرُ ، وَالْأُولَى مُتَقَدِّمَةٌ حَقِيقَةً وَقَدْ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِكُلِّ الْقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ مُزَاحِمٍ وَأَمْكَنَ تَوْفِيرُ مُوجَبِهَا فَلَا يَمْتَنِعُ بِلَا مَانِعٍ ا هـ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُقَارَنَةَ جُعِلَتْ حُكْمًا فِي التَّضْمِينِ لَا غَيْرُ بَلْ جُعِلَتْ حُكْمًا أَيْضًا فِي حَقِّ مُشَارَكَةِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى كَمَا أَرْشَدَ إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ ، لِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُقَارِنَةٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ وَلِهَذَا يُشَارِكُ وَلِيُّ
الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ الْأُولَى ا هـ .
فَإِذَا جُعِلَتْ الْمُقَارَنَةُ حُكْمًا فِي حَقِّ مُشَارَكَةِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ أَيْضًا كَانَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ مُزَاحِمًا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فِي اسْتِحْقَاقِهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، فَكَيْفَ يَأْخُذُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَحْدَهُ كُلَّ الْقِيمَةِ مَعَ مُزَاحَمَةِ وَلِيِّ الثَّانِيَةِ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ الِاعْتِبَارُ لِتَقَدُّمِ الْأُولَى حَقِيقَةً دُونَ الْمُقَارَنَةِ الْحُكْمِيَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ وَلِيُّ الثَّانِيَةِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ الشَّافِي .