كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ الْقَاضِي عِنْدَهُ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ الضَّرَرِ وَالنَّظَرِ وَالْحَجْرُ لِنَظَرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ فِعْلِ الْقَاضِي .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ ، إذْ الْعِلَّةُ هِيَ السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا
( وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا ) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ .
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ إلَخْ وَمَا لَا فَلَا ، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يُخْرِجُ كَلَامَهُ لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا الطَّلَاقَ كَالْمَرْقُوقِ ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ ( وَ ) إذَا صَحَّ عِنْدَهُمَا ( كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ) لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ وَالسِّعَايَةُ مَا عُهِدَ وُجُوبُهَا فِي الشَّرْعِ إلَّا لِحَقِّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ ( وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ ) لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ
( قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ وَمَا لَا فَلَا ، إلَى قَوْلِهِ : وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ السَّفِيهَ لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً لَمْ يُنْفِذْهُ الْقَاضِي ، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ بِهَدْيٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُنْفِذْهُ .
فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ } وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ بِالسَّفَهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْهَازِلَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَتَقَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ وَالْمَحْجُورُ بِالسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ ، فَالْهَزْلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وُجُوبِ السِّعَايَةِ وَالْحَجْرُ أَثَّرَ فِيهِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ السَّفِيهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ .
وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي الْعَقْلِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ ، لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِمَا إضَاعَةَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْحَجْرِ لِإِمْكَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ وَالنَّذْرِ .
وَعَنْ الثَّانِي مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ .
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ قَصْدَ اللَّعِبِ بِالْكَلَامِ وَتَرْكَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ا هـ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ وَعَنْ الثَّانِي عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بَحْثٌ أَيْضًا .
أَمَّا فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْجَوَابِ بَيَانُ وَجْهِ عَدَمِ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ الْوَاقِعَةِ مِنْ السَّفِيهِ ، وَهَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا فِي دَفْعِ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ ، لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ
الْبَحْثِ كَمَا تَرَى نَقَضَ كُلِّيَّةَ قَوْلِهِمَا إنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ ، وَمَا لَا فَلَا ، بِعَدَمِ تَنْفِيذِ الْقَاضِي تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ مَعَ عَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا ، فَمَا ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ يُقَوِّي الْبَحْثَ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَدْفَعَهُ .
وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ ، وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَدْفَعُ نَقْضَ الْكُلِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَصْلِهِمَا كَمَا هُوَ حَاصِلُ الْبَحْثِ الثَّانِي أَيْضًا ، بَلْ يُقَوِّيهِ كَمَا عَرَفْت آنِفًا .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الْبَحْثِ الثَّالِثِ ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي السَّفِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ الِاشْتِرَاكِ ا هـ .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ غَلِطَ فِي الِاسْتِخْرَاجِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ فِي قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى التَّعْلِيلِ .
فَاعْتَرَضَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَعْنِي قَصْدَ اللَّعِبِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا يُوجَدُ فِي السَّفِيهِ ، كَمَا أَنَّ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ لَا يُوجَدُ فِي الْهَازِلِ عَلَى زَعْمِ صَاحِبِ الْبَحْثِ الثَّالِثِ ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَزْبُورَ رَاجِعٌ إلَى حَقِّ الْهَازِلِ فِي قَوْلِهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ .
فَالْمَعْنَى وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي حَقِّ الْهَازِلِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ السَّفِيهِ فَقَطْ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ
لِبَحْثِ ذَلِكَ الْقَائِلِ وَجْهٌ كَمَا لَا يَخْفَى
وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ
( وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ) لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَأُلْحِقَ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّهِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا ، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا ) لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا .
وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى وَلَدَ جَارِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
قَالَ ( وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا ) لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ ( وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا ) لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ ( وَبَطَلَ الْفَضْلُ ) لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ ، وَهَذَا الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَلَا نَظَرَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ وَصَارَ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ( وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ فِي مَالِهِ ) لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ إلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ ( وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةً ) لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ( وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ السَّفِيهِ ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ( وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ ) لِأَنَّ إحْيَاءَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ حَوَائِجِهِ ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ ، وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ النَّاسِ ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهَا إلَى مَصْرِفِهَا ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً ، لَكِنْ يَبْعَثُ أَمِينًا مَعَهُ كَيْ لَا يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ .
وَفِي النَّفَقَةِ يَدْفَعُ إلَى أَمِينِهِ لِيَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ ، فَلَوْ فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَلَا كَذَلِكَ مَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ فِعْلِهِ .
قَالَ ( فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ ( وَلَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ إلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ مِنْ الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ) كَيْ لَا يُتْلِفُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ( وَلَوْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ) اسْتِحْسَانًا لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا ، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَجِّ ( وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْقِرَانِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إفْرَادِ السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ( وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسُوقَ بَدَنَةً ) تَحَرُّزًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، إذْ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا وَهِيَ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ .
قَالَ ( فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ ) لِأَنَّ نَظَرَهُ فِيهِ إذْ هِيَ حَالَةَ انْقِطَاعِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَخْلُفُ ثَنَاءً أَوْ ثَوَابًا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى .
قَالَ ( وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا لِمَالِهِ عِنْدَنَا وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي السَّفِيهِ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ .
وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ لَهُ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي الْمَبْسُوطِ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى رُشْدًا مُنْكَرٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَا تَعُمُّ ، فَإِذَا أُوجِدَ رُشْدٌ مَا فُقِدَ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : تَقْرِيرُ دَلِيلِ أَئِمَّتِنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، وَفِي الْمَبْسُوطِ : يَنْتَقِضُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي السَّفِيهِ الْمُصْلِحِ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا كَمَا مَرَّ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي دِينِهِ ، فَتَتَنَاوَلُهُ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَيَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ أَيْضًا مَالُهُ .
وَالْأَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ اسْتِدْلَالِ أَئِمَّتِنَا بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَشَرْحُهُ عَلَى وَفْقِ مَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَنَّ الرُّشْدَ فِي الْمَالِ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَا يَكُونُ الرُّشْدُ فِي الدِّينِ مُرَادًا كَيْ لَا تَعُمَّ النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ ، أَوْ لِأَنَّ الدَّفْعَ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ رُشْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، فَلَا يَكُونُ الرُّشْدُ فِي الدِّينِ مُرَادًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِرُشْدَيْنِ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ ) أَقُولُ : يَرِدُ النَّقْضُ بِالسَّفِيهِ الْمُصْلِحِ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا مَحَالَةَ ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِيهِ أَيْضًا مُتَحَقِّقٌ بَلْ فِيهِ أَقْوَى ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ أَيْضًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ ( قَوْلُهُ وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ ، وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ إلَخْ ) .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ مَا حَجَرَ عَلَى حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي التِّجَارَاتِ ، بَلْ قَالَ لَهُ { قُلْ لَا خِلَابَةَ لِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } فَأَثْبَتَ لَهُ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَمَا حَجَرَ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } لِمَا أَنَّهُ يُتْلِفُ الْأَمْوَالَ كَالسَّفِيهِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ ، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ .
وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ الْمَالُ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الْحَجْرِ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَجْرُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْمَنْعَ كَمَا سَبَقَ مِنْ دَلِيلِهِمَا ا هـ .
أَقُولُ : وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ فِي الْعُقُوبَةِ كَمَا مَرَّ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ ، فَأَنَّى يُفْهَمُ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ الْحَجْرُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ كَمَا مَرَّ هَذَا أَيْضًا فِي دَلِيلِهِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمَا الْمَنْعُ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ فَيَسْقُطُ قَوْلُ ذَلِكَ الْقَائِلِ هَاهُنَا وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْمَنْعَ كَمَا سَبَقَ مِنْ دَلِيلِهِمَا .
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ قُلْت : فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ نَوْعَ حَجْرٍ ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَطْلَقَ لَهُ الْبُيُوعَ كُلَّهَا بِالْخِيَارِ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ فِي
الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ فَافْهَمْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ مَا قَالَهُ بِشَيْءٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا حَجْرَ فِي الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ عَلَى حِبَّانَ فِي شَيْءٍ ، بَلْ فِيهِ إرْشَادُهُ إلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ مِنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ الْمَذْكُورُ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ يُشْعِرُ بِاعْتِرَافِهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ فَلَا يُجْدِي مَا قَالَهُ شَيْئًا هَاهُنَا ، وَلَوْ سُلِّمَ دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ : أَيْ فِي الْبُيُوعِ الَّتِي لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الْخِيَارُ فَلَا نَفْعَ لَهَا فِي دَفْعِ مَادَّةِ الِاعْتِرَاضِ هَاهُنَا فَإِنَّ مَذْهَبَ الْإِمَامَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَى الْمُغَفَّلِ فِي بُيُوعِهِ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ شَرَطَ فِيهَا الْخِيَارَ أَمْ لَا ، فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ فِي بُيُوعِهِ الَّتِي شُرِطَ فِيهَا الْخِيَارُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ .
( فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ ) قَالَ ( بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إذَا تَمَّ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَعَنْهُ فِي الْغُلَامِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنْ يَطْعَنَ فِي التَّاسِعِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَتِمُّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا اخْتِلَافَ .
وَقِيلَ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، أَمَّا الْعَلَامَةُ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ حَقِيقَةً وَالْحَبَلُ وَالْإِحْبَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الْإِنْزَالِ ، وَكَذَا الْحَيْضُ فِي أَوَانِ الْحَبَلِ ، فَجُعِلَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ ، وَأَدْنَى الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ .
وَأَمَّا السِّنُّ فَلَهُمْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ لَا يَتَأَخَّرُ فِيهِمَا عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ .
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } وَأَشُدُّ الصَّبِيِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ الْقُتَيْبِيُّ ، وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْإِنَاثَ نُشُوءُهُنَّ وَإِدْرَاكُهُنَّ أَسْرَعُ فَنَقَصْنَا فِي حَقِّهِنَّ سَنَةً لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يُوَافِقُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْمِزَاجَ لَا مَحَالَةَ .
الْبُلُوغُ فِي اللُّغَةِ الْوُصُولُ ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ : انْتِهَاءُ الصِّغَرِ .
وَلَمَّا كَانَ الصِّغَرُ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحَجْرِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ انْتِهَائِهِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ ، فَيَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ اعْتِرَاضٌ قَوِيٌّ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ فِي بُلُوغِ الصَّبِيِّ رُشْدَهُ إنَّمَا هُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي أَشُدِّهِ مِنْ الْمَدَدِ دُونَ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْهَا ، لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ بَلَغَ الْأَقَلَّ مِنْهَا دُونَ الْعَكْسِ .
نَعَمْ وُجُودُ الْأَقَلِّ فِي نَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْأَكْثَرِ ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ ، لَكِنْ لَيْسَ الْكَلَامُ هَاهُنَا فِي وُجُودِ مُدَّةٍ فِي نَفْسِهَا بَلْ فِي كَوْنِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَشُدَّ الصَّبِيِّ ، وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي أَشُدِّهِ بِلَا رَيْبٍ ، ثُمَّ إنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الشُّرَّاحِ حَامَ حَوْلَ هَذَا الْإِشْكَالِ سِوَى تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْكِفَايَةِ ، فَإِنَّهُمَا قَالَا : فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ الْمُتَيَقَّنُ ، إذْ الْأَدْنَى يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ دُونَ الْعَكْسِ .
قُلْنَا : أَوَّلُ الْآيَةِ { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ } إلَى قَوْلِهِ { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } وَاَللَّهُ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ إلَى غَايَةِ الْأَشُدِّ ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ ، إذْ لَوْ مَدَّ إلَى أَقْصَاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمُدَّ إلَى ثَمَانِيَ عَشَرَةَ ، وَلَوْ مَدَّ إلَيْهَا لَا يَكُونُ مُمْتَدًّا إلَى أَقْصَاهُ فَكَانَتْ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مُتَيَقَّنًا فِي كَوْنِ الْحُكْمِ مُمْتَدًّا إلَيْهَا فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ الْأَشُدَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ ، وَغَايَتُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }
فَمُجَرَّدُ دُخُولِ مَدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ إلَى ثَمَانِيَ عَشَرَةَ فِي مَدِّهِ إلَى أَقْصَى مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ وَغَايَتَهُ حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُهَا أَشُدَّهُ فِيمَا إذَا مَدَّ الْحُكْمَ إلَى أَقْصَاهُ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا فِي ضِمْنِ وُجُودِ مُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَلَمْ يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا الْأَشُدَّ بَلْ مِنْ حَيْثُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا ، وَالْمَطْلُوبُ هَاهُنَا هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي ، فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ : وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ لِلِاحْتِيَاطِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ : وَلِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَأَمَّا فِي التَّبْيِينِ فَقَدْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ .
قَالَ ( وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ الْحُلُمَ وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ قَدْ بَلَغْتُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْبَالِغِينَ ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِمَا ظَاهِرًا ، فَإِذَا أَخْبَرَا بِهِ وَلَمْ يُكَذِّبْهُمَا الظَّاهِرُ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ .
بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ( قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ ، وَإِذَا وَجَبَتْ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ ( فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ ) لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ ، وَلِأَنَّهُ تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ ( وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ ) إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ ( وَقَالَا : إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ ) لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ إنَّمَا جَوَّزَاهُ نَظَرًا لَهُ ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ ، أَمَّا الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْمَنْعُ لِحَقِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ .
قَالَ ( وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّ الْبَيْعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ لِأَجْلِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ .
قُلْنَا : التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ ، وَالْمُسْتَحَقُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ بِطَرِيقٍ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ الطَّرِيقِ ، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ كَانَ الْحَبْسُ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَرَاهِمُ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ ) وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ ، لِأَنَّ لِلدَّائِنِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ ( وَإِنْ كَانَ
دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ بَاعَهَا الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ جَبْرًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا مُتَّحِدَانِ فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ ، فَبِالنَّظَرِ إلَى الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعُرُوضِ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا وَأَعْيَانِهَا ، أَمَّا النُّقُوذُ فَوَسَائِلُ فَافْتَرَقَا
( بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ) تَلْقِيبُ هَذَا الْبَابِ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَمَا قَبْلَهُ بِالْحَجْرِ لِلْفَسَادِ إمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَطْ كَمَا قَالُوا فِي فَصْلِ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَفِي بَابِ مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ .
لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْهَا ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ نَظَرِ كُلِّهِمْ بِذَلِكَ إثْبَاتًا مِنْهُمَا وَنَفْيًا مِنْهُ .
ثُمَّ إنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِيهِ وَصْفٌ زَائِدٌ ، فَصَارَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَلَا جَرْمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ عَنْهُ ( قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ ، وَإِذَا وَجَبَ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ يُنَافِيهِ فِي الظَّاهِرِ ، فَكَانَ حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ : فَلَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَلَعَلَّ الْعِبَارَةَ فَلَا يُرْتَكَبُ ، وَقَوْلُهُ فَلَا يُتْرَكُ سَهْوٌ مِنْ النَّاسِخِ انْتَهَى .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَا عَلَيْهِ النُّسَخُ الْآنَ بِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى عَلَى أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ لَا إهْدَارِ أَهْلِيَّتِهِ ،
وَبِالْأَدْنَى عَلَى الْمَالِ نَفْسِهِ لَا عَلَى ضَرَرِهِ ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَدْنَى وَلَمْ يَقُلْ لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ إهْدَارِ أَهْلِيَّتِهِ ضَرَرًا فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ بِسَبَبِ كَوْنِ أَهْلِيَّتِهِ أَعْلَى : أَيْ أَشْرَفَ ، وَكَوْنِ الْمَالِ أَدْنَى : أَيْ أَخَسَّ ، فَإِنَّ ضَرَرَ فَوْتِ الْأَشْرَفِ فَوْقَ ضَرَرِ فَوْتِ الْأَخَسِّ لَا مَحَالَةَ .
فَإِنْ قُلْت : الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ فِي السُّؤَالِ الْآتِي وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى أَنْ لَوْ كَانَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَعْلَى إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْأَدْنَى ضَرَرًا يُقَابِلُهُ .
قُلْت : تَطْبِيقُ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي حَيِّزِ الْمُرَادِ غَيْرُ لَازِمٍ ، فَإِنَّ عُلُوَّ نَفْسِ الْأَهْلِيَّةِ شَرَفًا وَعُلُوَّ إهْدَارِهَا ضَرَرًا مُتَلَازِمَانِ ، وَكَذَا دَنَاءَةُ نَفْسِ الْمَالِ وَدَنَاءَةُ ضَرَرِهِ ، فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَعْلَى وَالْأَدْنَى فِي مَوْضِعٍ نَفْسُ الْأَهْلِيَّةِ وَنَفْسُ الْمَالِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ضَرَرُهُمَا ، وَيَحْصُلُ بِهَذَا الْقَدْرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي كُلٍّ مِنْ الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ .
وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ التَّرْكُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى مَعْنَى الْإِبْقَاءِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى فَلَا يُبْقَى الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِأَجْلِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى : أَيْ لِأَجْلِ دَفْعِهِ ، وَمَجِيءُ التَّرْكِ بِمَعْنَى الْإِبْقَاءِ وَاقِعٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ جَلَّ اسْمُهُ { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخَرِينَ } أَيْ أَبْقَيْنَا ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ وَشَائِعٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ حَيْثُ يَقُولُونَ : تُرِكَ عَلَى حَالِهِ ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالَ : وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي .
فَإِنْ قُلْت : مَعْنَى الْإِبْقَاءِ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَحَلَّ ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ نَفْيِ إبْقَاءِ إهْدَارِ الْأَهْلِيَّةِ تَحَقُّقُ إهْدَارِهَا
أَوَّلًا ، إذْ الْبَقَاءُ فَرْعُ التَّحَقُّقِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَجُوزَ إهْدَارُ أَهْلِيَّةِ الْإِنْسَانِ رَأْسًا لِأَنَّ فِيهِ إلْحَاقَهُ بِالْبَهَائِمِ .
قُلْت : لَا نُسَلِّمُ تَبَادُرَ ذَلِكَ فِي صُورَةِ النَّفْيِ ، وَكَوْنُ الْبَقَاءِ فَرْعَ التَّحَقُّقِ إنَّمَا هُوَ فِي الثُّبُوتِ ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَمْلَ عَلَى خِلَافِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ تُحْمَلَ كَلِمَةُ لَا فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى الزَّائِدَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ عُيِّنَتْ مَوَاقِعُ زِيَادَةِ لَا فِي أَكْثَرِ كُتُبِ النَّحْوِ : أَحَدُهُمَا مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ النَّفْيِ .
وَثَانِيهِمَا بَعْدَ " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةِ .
وَثَالِثُهَا قَبْلَ الْقَسَمِ عَلَى قِلَّةٍ .
وَرَابِعُهَا مَعَ الْمُضَافِ عَلَى الشُّذُوذِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْهَا فِي شَيْءٍ .
قُلْت : ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وُقُوعَ لَا الزَّائِدَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ التَّنْزِيلِ ، وَعَدَّ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ .
وَقَالَ : فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْخَلِيلُ وَالْفَارِسِيُّ لَا زَائِدَةٌ ، وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ ، وَعَدَّ مِنْهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } وَقَالَ فَقِيلَ لَا زَائِدَةٌ ، وَالْمَعْنَى مُمْتَنِعٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ الْكُفْرِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ا هـ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَا مِنْ الْمَوَاقِعِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَمُوَافِقَيْنِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَكَفَى بِهِمَا حُجَّةً لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّوْجِيهِ .
فَإِنْ قُلْت : لَا يَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ آخِرُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْأَدْنَى ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ : يُتْرَكُ الضَّرَرُ
الْأَعْلَى لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى ، فَإِنَّ تَرْكَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى لَيْسَ لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى بَلْ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ وَأَقْبَحَ مِنْهُ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ذَاكَ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَفَسَادُ الْمَعْنَى أَظْهَرُ ، إذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى إذْ ذَاكَ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُتَحَمَّلَ شَيْءٌ مِنْ الضَّرَرَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا .
قُلْت : يُمْكِنُ نَظْمُ ذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى عَلَى مَعْنَى عِنْدَ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى عِنْدَ تَيَسُّرِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِوُجُوبِ اخْتِيَارِ أَهْوَنِ الشَّرَّيْنِ ، وَهَذَا مَعْنًى مُسْتَقِيمٌ كَمَا تَرَى ، وَمَجِيءُ اللَّامِ بِمَعْنَى عِنْدَ قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِمْ كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ ، وَقَالَ : وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ جِنِّي قِرَاءَةَ قَوْله تَعَالَى { بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ } بِكَسْرِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ ا هـ .
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِتَوْجِيهِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا لَكِنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ جُمْلَةِ مَا لُوحِظَ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ وَتَرْكُ الْحَجْرِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الدَّائِنَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى لَوْ كَانَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَإِهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى مِنْ الْحَبْسِ فَيَكُونُ أَعْلَى مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : حَاصِلُ السُّؤَالِ مَنْعُ كَوْنِ إهْدَارِ أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ
أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ مُسْتَنِدًا بِكَوْنِهِمَا فِي شَخْصَيْنِ دُونَ شَخْصٍ وَاحِدٍ .
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ إثْبَاتُ الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ بِطَرِيقِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مِنْهُ بُطْلَانُ السَّنَدِ أَيْضًا .
تَقْرِيرُهُ أَنَّ إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ الْحَبْسِ ، وَالْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ يَنْتِجُ أَنَّ إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ بِمُلَاحَظَةِ مُقَدِّمَةٍ مُقَرَّرَةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْأَعْلَى مِنْ الْأَعْلَى مِنْ الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ يَقْتَضِي كَوْنَ إهْدَارِ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ وَإِنْ كَانَ فِي شَخْصَيْنِ فَسَقَطَ الْمَنْعُ وَبَطَلَ السَّنَدُ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْقِيَاسِ الْمَزْبُورِ وَهِيَ قَوْلُنَا وَالْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ نَوْعُ خَفَاءٍ بَيَّنَهَا الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ لَمَّا انْدَفَعَ هَذَا بِذَاكَ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَالنَّتِيجَةَ لِظُهُورِهِمَا بِلَا بَيَانٍ .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَدْيُونُ الْحَبْسَ أَبَدًا وَلَا يُوفِي حَقَّ الدَّائِنِ فَلَا يَنْدَفِعُ حِينَئِذٍ ضَرَرُ الدَّائِنِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَوْ كَانَ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ لَمَّا جَازَ الْحَبْسُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ لَا يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى كَمَا هُوَ الْأَسَاسُ فِي إثْبَاتِ مَذْهَبِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، مَعَ أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمُتَعَيِّنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ الْمَدْيُونِ
الْحَبْسَ الْأَبَدِيَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الْعَادَةِ إلَّا بِغَايَةِ النُّدْرَةِ ، وَمَبْنَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْغَالِبِ الْأَكْثَرِ .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ ، بَلْ هُوَ مَعَ ذَلِكَ جَزَاءٌ لِظُلْمِ الْمَدْيُونِ الدَّائِنَ بِالْمُمَاطَلَةِ ، وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْحَبْسِ مِنْ قَضَاءِ الْقَضَاءِ بِكَوْنِ الْحَبْسِ مِنْ جَزَاءِ الْمُمَاطَلَةِ حَيْثُ قَالَ : وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِهَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي أَثْنَاءِ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ بِقَوْلِهِ : وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا ، وَلَعَلَّ قَصْدَهُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ كَانَ بَاعِثًا عَلَى ذِكْرِهِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ أَثْنَاءَ الْجَوَابِ ، وَإِلَّا فَلَا مَدْخَلَ لَهُ أَصْلًا فِي إثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ فِي السُّؤَالِ كَمَا ظَهَرَ مِنْ تَقْرِيرِنَا السَّابِقِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاخْتِيَارُ الْحَبْسِ لِلْمُجَازَاةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ انْدِفَاعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ بِهِ أَيْضًا لَا لِمُجَرَّدِ دَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مِنْ ضَرَرِ الْحَبْسِ حَتَّى يَنْتَقِضَ بِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى .
فَإِنْ قُلْت : هَبْ أَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ بَلْ لَهُ وَلِجَزَاءِ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ مَعًا لَكِنْ يَنْدَفِعُ بِهِ ظُلْمُ الْمُمَاطَلَةِ أَيْضًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ ا هـ .
فَبِقِيَاسِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ الْقَائِلَةِ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ ، يُقَالُ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
الْحَبْسُ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ لَمَا انْدَفَعَ بِهِ ذَلِكَ الظُّلْمُ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ أَيْضًا فَيَعُودُ انْتِقَاضُ قَوْلِهِ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى بِالْحَبْسِ .
قُلْت : الْمُنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ ظُلْمُهُ الْآتِي وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ دَفْعًا لِظُلْمِهِ لَا ظُلْمُهُ الْمَاضِي ، إذْ لَا مَجَالَ لِدَفْعِ مَا تَحَقَّقَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُمَاطَلَةِ لِأَنَّهُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى ، وَاَلَّذِي جُعِلَ الْحَبْسُ جَزَاءً لَهُ إنَّمَا هُوَ ظُلْمُهُ الْمَاضِي وَاخْتِيَارُ الْحَبْسِ لِمُجَازَاةِ ظُلْمِهِ الْمَاضِي مَعَ دَفْعِ ظُلْمِهِ الْآتِي وَدَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ أَيْضًا فَلَا يَتَمَشَّى النَّقْضُ بِالنَّظَرِ إلَى مُجَازَاةِ ظُلْمِهِ الْمَاضِي كَمَا لَا يَخْفَى .
وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُ الْحَبْسِ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِهِ مُطْلَقًا وَمِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ فَنَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى قَوْلٌ عَلَى مُوجَبِ الْقِيَاسِ ، وَالْحَبْسُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مِنْ كِتَابٍ وَسُنَّةٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي فَصْلِهِ وَفَصَّلُوهُ فَيُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصٍّ فَيَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ وَيَسْقُطُ النَّقْضُ بِالْحَبْسِ قَطْعًا .
لَا يُقَالُ : الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ أَيْضًا ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ مُعَاذًا رَكِبَتْهُ دُيُونٌ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ } كَمَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ وَالتَّبْيِينِ وَبَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِ الْإِمَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : أَجَابُوا عَنْهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَيْضًا عَنْ قِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ بَيْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَ مُعَاذٍ كَانَ بِإِذْنِهِ ، اسْتَعَانَ بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَأْمُرَهُ
وَيَأْبَى ، وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : مَعَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبِيعَ مَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرَ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا بِبَرَكَتِهِ } ا هـ .
فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ هُوَ الْقِيَاسُ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي وُفِّقْت لَهَا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى .
ثُمَّ إنَّ مِنْ الْعَجَائِبِ هَاهُنَا أَنِّي قَدْ اُبْتُلِيت فِي زَمَانٍ مِنْ الْأَزْمَانِ بِأَنْ أُمْتَحَنَ مَعَ بَعْضِ مَنْ عُدَّ مِنْ الْأَهَالِي وَالْأَعْيَانِ لِأَجْلِ بَعْضٍ مِنْ الْمَدَارِسِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ كُتُبٍ ثَلَاثَةٍ : الْهِدَايَةُ ، وَشَرْحُ الْمَوَاقِفِ ، وَشَرْحُ الْمِفْتَاحِ ، فَاتَّفَقَ أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ ، فَكَانَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضٍ مِنْ أَصْحَابِ الِامْتِحَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ لَوْ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَصْلِيَّةً ، فَجَعَلَ كَلِمَةَ أَعْلَى مُضَافَةً إلَى كَلِمَةِ مَا ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ مَا مَوْصُولَةً ، فَبَنَى عَلَى هَذَا الِاسْتِخْرَاجِ خُرَافَاتٍ مِنْ الْأَوْهَامِ ، فَلَمَّا عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى الصَّدْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا حَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ الِامْتِحَانِ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ وَشَنَّعَا عَلَيْهِ جِدًّا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رَأْيِهِ الْبَاطِلِ بَلْ أَصَرَّ عَلَيْهِ ، وَرَاجَعَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ وَاسْتَعَانَ بِشَهَادَةِ بَعْضٍ مِنْ جَهَلَةِ الْمُدَرِّسِينَ بِالْمَدَارِسِ الْعَالِيَةِ فَوَقَعَ النِّزَاعُ وَشَاعَ الْأَمْرُ حَتَّى كَادَ تَقَعُ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَرَفَ قَدْرَهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ طَوْرَهُ ( قَوْلُهُ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ ) أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى
ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى نَظِيرِهَا فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ بِأَنْ قَالَ : تَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى ظَاهِرٌ .
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَتِهِ هَاهُنَا أَيْضًا بِمَا وَجَّهْنَا بِهِ عِبَارَتَهُ هُنَاكَ مِنْ حَمْلِ الْأَبَدِ عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ .
وَيُمْكِنُ هَاهُنَا تَوْجِيهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ حَتَّى هَاهُنَا بِمَعْنَى كَيْ دُونَ إلَى ، فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ : وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا لِيَكُونَ سَبَبًا لِبَيْعِهِ ، فَلَا مُسَامَحَةَ فِي الْجَمْعِ أَصْلًا إذْ الْمُسَامَحَةُ إنَّمَا هِيَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ دُونَ السَّبَبِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى ، نَعَمْ لَا يُقْصَدُ بِالْأَبَدِ مَعْنَى الدَّوَامِ أَلْبَتَّةَ ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ الْمُسَامَحَةِ فِي الْجَمْعِ تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَقَالَا : إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا ، بَلْ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَى الْغَنِيِّ أَيْضًا عِنْدَهُمَا نَظَرًا لِغُرَمَائِهِ ، بَلْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ إنَّمَا يُفِيدُ فَائِدَتَهُ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ دُونَ الْمُفْلِسِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ ، فَذِكْرُ الْمُفْلِسِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ يُخِلُّ بِحَقٍّ .
لَا يُقَالُ : قَدْ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ : مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ حَتَّى لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِفْلَاسِ لَا يَصِحُّ حَجْرُهُ بِلَا خِلَافٍ ، وَالْإِفْلَاسُ عِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ فَيُمْكِنُ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ وَبِالْحَجْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِفْلَاسُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ
أَوَّلًا وَبِالْحَجْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَانِعُ مِنْ الْحَجْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَوْنُ الْحَجْرِ مُتَضَمِّنًا إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمَحْجُورِ وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ ا هـ .
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمُفْلِسِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ بِنَاءٌ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي تَضَاعِيفِ بَيَانِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا كَقَوْلِهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ ، وَقَوْلُهُ فِي مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّهُ عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ ، وَقَوْلُهُ فِيهِ أَيْضًا : وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنْ لَيْسَ مَدَارُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ ، إذْ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ مَالُهُ ، وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ صَرِيحَةٌ فِي ظُهُورِ مَالِهِ ، بَلْ مَدَارُ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُفْلِسِ فِي قَوْلِهِ إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ أَمَّا مَنْ يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ فَيَتَنَاوَلُ الْغَنِيَّ أَيْضًا ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَدْيُونَ الَّذِي لَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي نَفْسِهِ ، وَأَمَّا مَنْ حَالُهُ حَالُ الْمُفْلِسِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي دَيْنَهُ حَالُهُ فِي
عَدَمِ أَدَاءِ الدَّيْنِ حَالُ الْمُفْلِسِ فَلَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا هُوَ مُفْلِسٌ حَقِيقَةً ( قَوْلُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ ) أَقُولُ : وَجْهُ ذِكْرِ التَّصَرُّفِ الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ أَيْضًا غَيْرُ وَاضِحٍ ، وَالْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقُدُورِيِّ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ وَالْمُصَنِّفُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أَصْلَحَهَا بِتَصَرُّفٍ لَكَانَ أَصْلَحَ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا ) قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : إنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ كَانَ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ الْقَاضِي عَلَى الْمَدْيُونِ فِي الْعُرُوضِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْبَيْعِ وَهُوَ بَيْعُ الصَّرْفِ ا هـ .
أَقُولُ : مَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِدُونِ ذِكْرِ قَوْلِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَأَمَّا عِنْدَ ذِكْرِ قَيْدِ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّ كَوْنَ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَجُوزُ بَيْعُ النَّقْدَيْنِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى الِاعْتِذَارِ تَدَبَّرْ
( وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ ثُمَّ الْعُرُوض ثُمَّ الْعَقَارُ يُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الْمَدْيُونِ ( وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي ) لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً وَقِيلَ دَسْتَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ ، لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ .
قَالَ ( فَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِإِقْرَارٍ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ ) ، لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ لِغَيْرِهِمْ ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ لَا مَرَدَّ لَهُ ( وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ ) لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ لِعَدَمِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : قَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ : يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ فَكَانَ التَّلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي تَفْسِيرِهِمْ نَوْعُ خَلَلٍ ، إذْ فِي صُورَةِ اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِضَمَانِهِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى قَضَاءِ الدُّيُونِ كَمَا يُوهِمُهُ قَوْلُهُمْ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ ، بَلْ الْمُؤَاخَذَةُ بِذَلِكَ مَعَ قَضَاءِ الدُّيُونِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ .
نَعَمْ قَوْلُهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ صَرِيحٌ فِي كَوْنِ الْمَجْمُوعِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي اسْتِدْرَاكِ أَوَّلِ كَلَامِهِمْ بَلْ اخْتِلَالِهِ ، فَالْأَظْهَرُ الْأَخْصَرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ حَيْثُ يَصِيرُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بِلَا خِلَافٍ ا هـ .
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ ذَلِكَ : حَيْثُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ وَيَكُونُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ ا هـ
قَالَ ( وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِمَّنْ يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يُبْطِلُهُ الْحَجْرُ ، وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَتْ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ .
( قَوْلُهُ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ ) أَقُولُ : لَيْسَ الْمُفْلِسُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَمَا مَرَّ نَظِيرُهُ ، بَلْ عَدَمُ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ هَاهُنَا أَظْهَرُ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ مَالِهِ يَأْبَى إرَادَتَهَا قَطْعًا ، وَعَنْ هَذَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بَدَلُ الْمُفْلِسِ الْمَدْيُونُ ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ الْمُفْلِسِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ عَلَى أَحَدِ التَّوَجُّهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُهُمَا فِيمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَذَكَّرْ
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا نُعِيدُهَا .
لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي ( قَوْلُهُ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ) أَقُولُ : كَانَ لَفْظُ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ هَاهُنَا هَكَذَا : وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ وَفِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ ا هـ .
وَقَدْ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّقْلِ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ الْبَيْنِ كَمَا تَرَى ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهٌ لِذَلِكَ سِوَى الْحَمْلِ عَلَى النِّسْيَانِ مِنْ الْمُصَنِّفِ عِنْدَ كَتْبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْهِدَايَةِ لِأَمْرٍ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى مُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ
إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ : يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ ، وَلَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ يَبْقَى فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَقُومُ بِمُعَالَجَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا عَنْ هَلَاكِهِ ، وَالْمُحْتَرِفُ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ فَيَنْبَعِثَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ وَطْؤُهَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ إحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِقَضَاءِ الْأُخْرَى .
قَالَ ( وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ وَلِسَانٌ } أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ التَّقَاضِيَ .
قَالَ ( وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ ( وَقَالَا : إذَا فَلَّسَهُ الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَالًا ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ إلَى الْمَيْسَرَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ ، لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ ، وَلِأَنَّ وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا ظَاهِرًا فَيَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِإِبْطَالِ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ، إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ .
وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ ( وَلَوْ دَخَلَ دَارِهِ لِحَاجَتِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ
يَجْلِسُ عَلَى بَابِ دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ ، وَلَوْ اخْتَارَ الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ عَلَيْهِ ، إلَّا إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ
( قَوْلُهُ إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ) قَوْلُهُ إلَى أَنْ قَالَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَالَ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ : يَعْنِي قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ : فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ .
وَقَوْلُهُ يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ تَفْسِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِمُرَادِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ .
وَقَوْلُهُ لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ .
وَأَقُولُ : كَانَ الْأَوْلَى وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدِّمَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي لِئَلَّا يَعْتَرِضَ كَلَامُ نَفْسِهِ أَثْنَاءَ نَقْلِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فَيُوَرِّثُ التَّشْوِيشَ لِلنَّاظِرِ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ إلَى أَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ أَوْ أَنْ يَتْرُكَ قَوْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ وَيَقُولُ قَالَ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ كَمَا هُوَ عَادَتُهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَكُونَ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَنَظَائِرِهِ وَلَا يَكُونُ قَلِقًا كَمَا ذَكَرَهُ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ ( قَوْلُهُ وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى ، لِأَنَّ اسْتِوَاءَ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ إنَّمَا يُفِيدُ عَدَمَ جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ وَلَا يُفِيدُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ : أَيْ بِقَدْرِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الدَّيْنِ ، بَلْ يُوهِمُ لُزُومَ الِاسْتِوَاءِ فِيمَا أَخَذُوهُ ، وَتَمَامُ الْمُدَّعَى هَاهُنَا وُجُوبُ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لَا مُجَرَّدُ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ فَلْيُتَأَمَّلْ
( وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا يُلَازِمُهَا ) لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً تُلَازِمُهَا .
قَالَ ( وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَصَارَ كَالسَّلَمِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِهِ وَإِنَّمَا الْمُسْتَحَقُّ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ : أَعْنِي الدَّيْنَ ، وَبِقَبْضِ الْعَيْنِ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ ، هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا ، إلَّا فِي مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ مُمْتَنِعٌ فَأَعْطَى لِلْعَيْنِ حُكْمَ الدَّيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ : لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَالْعَجْزُ عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ قِيَاسًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إيفَاءِ الْمَبِيعِ ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ ا هـ .
وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ : وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، بَلْ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ هِيَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ ، وَقَوْلُهُ : وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .
.
.
إلَخْ لِبَيَانِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ ، فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً جَامِعَةً فِي صِحَّةِ جَامِعَةً فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ هَا هُنَا بِدُونِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِ الْعَقْدِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُوجِبَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ حَقَّ الْفَسْخِ فِي غَيْرِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَيْضَا ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، فَالْمَدَارُ فِي تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ الْجَامِعَةِ هَا هُنَا كَوْنُ الْبَيْعِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ ، وَهُوَ الْوَجْهُ لِبَيَانِ الْمُصَنِّفِ صِحَّةَ الْقِيَاسِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ : وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ .
وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاة لَيْسَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، بَلْ أَطْبَقَتْ عَلَى التَّصْرِيحِ بِهِ كَلِمَةُ الثِّقَاتِ هَا هُنَا كَصَاحِبِ الْكَافِي وَصَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالْإِمَامِ الزَّيْلَعِيُّ وَغَيْرِهِمْ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْمَأْذُونِ الْإِذْنُ : الْإِعْلَامُ لُغَةً وَفِي الشَّرْعِ : فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ ، وَذَلِكَ مَالُ الْمَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ ، حَتَّى لَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا كَانَ مَأْذُونًا أَبَدًا حَتَّى يَحْجُرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَاتِ لَا تَتَوَقَّتُ
( كِتَابُ الْمَأْذُونِ ) إيرَادُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ كِتَابِ الْحَجْرِ ظَاهِرُ الْمُنَاسَبَةِ ، إذْ الْإِذْنُ يَقْتَضِي سَبْقَ الْحَجْرِ ، فَلَمَّا تَرَتَّبَا وُجُودًا تَرَتَّبَا أَيْضًا ذِكْرًا وَمَا لِلتَّنَاسُبِ ( قَوْلُهُ الْإِذْنُ الْإِعْلَامُ لُغَةً ) أَقُولُ : لَمْ أَرَ قَطُّ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ الْمُتَدَاوَلَةِ بَيْنَ الثِّقَاتِ مَجِيءَ الْإِذْنِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهَا كَوْنُ الْأَذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ ، فَقَوْلُهُ الْإِذْنُ الْإِعْلَامُ لُغَةً مَحَلُّ نَظَرٍ يَظْهَرُ ذَلِكَ لِمَنْ يُرَاجِعُ كُتُبَ اللُّغَةِ .
نَعَمْ قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ تَفْسِيرُ مَعْنَى الْإِذْنِ لُغَةً بِالْإِعْلَامِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَلَعَلَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي التَّفْسِيرِ فَعَبَّرُوا عَنْ مَعْنَى الْإِذْنِ مِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّيْءِ إذْنًا : أَيْ أَبَاحَهُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقَامُوسُ بِمَا يُلَازِمُهُ عَادَةً مِنْ الْإِعْلَامِ ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ الْإِيمَاءِ إلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ هَاهُنَا : يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْإِذْنِ لُغَةً وَشَرْعًا ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا لُغَةً فَالْإِذْنُ فِي الشَّيْءِ رَفْعُ الْمَانِعِ لِمَنْ هُوَ مَحْجُورٌ عَنْهُ وَإِعْلَامٌ بِإِطْلَاقِهِ فِيمَا حُجِرَ عَنْهُ مِنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشَّيْءِ إذْنًا ا هـ .
ثُمَّ إنَّ مِنْ الْمُسْتَبْعَدِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ : وَالْإِذْنُ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ ، وَمِنْهُ الْأَذَانُ وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ ا هـ .
وَكَذَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِي فَصْلِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ مِنْ كِتَابِ الْمَأْذُونِ : لِأَنَّ الْإِذْنَ هُوَ الْإِعْلَامُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ إعْلَامٌ ا هـ .
فَإِنَّ مَدَارَ مَا ذَكَرَهُ اتِّحَادُ الْإِذْنِ وَالْأَذَانِ حَيْثُ اسْتَشْهَدَا بِمَعْنَى أَحَدِهِمَا عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا ، وَالْأَظْهَرُ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى الْإِذْنِ لُغَةً مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
خُوَاهَرْ زَادَهُ فِي مَبْسُوطِهِ حَيْثُ قَالَ : أَمَّا الْإِذْنُ فَهُوَ الْإِطْلَاقُ لُغَةً ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ فَكَانَ إطْلَاقًا عَنْ شَيْءٍ أَيَّ شَيْءٍ كَانَ ا هـ .
( قَوْلُهُ وَفِي الشَّرْعِ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدنَا ) قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : يَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ ا هـ .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إسْقَاطٌ لِحَقِّ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ لِأَجَلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قَبْلَ إذْنِهِ ، وَبِالْإِذْنِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ عِنْدَهُ ا هـ .
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَ الْعَبْدُ لِأَجَلِهِ مَحْجُورًا عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْمَوْلَى قَبْلَ إذْنِهِ ا هـ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : لِأَنَّهُ كَانَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَقَبْلَ الْإِذْنِ لَا تَتَعَلَّقُ الدُّيُونُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ ، وَبَعْدَ الْإِذْنِ يَسْقُطُ هَذَا الْحَقُّ وَتَتَعَلَّقُ الدُّيُونُ بِهَا ا هـ .
وَقَالَ فِي الْكِفَايَةِ : وَفِي الشَّرْعِ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ وَهُوَ حَقُّ الْمَوْلَى مَالِيَّةَ الْكَسْبِ وَالرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغَيْرِ بِهَا صَوْنًا لِحَقِّ الْمَوْلَى ، وَإِنَّهُ بِالْإِذْنِ أَسْقَطَ حَقَّهُ ا هـ .
فَتَلَخَّصَ مِنْ الْمَجْمُوعِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ هَاهُنَا حَقُّ الْمَوْلَى ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ حَيْثُ قَالَ : وَانْحِجَارُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَا عَهِدَ تَصَرُّفَهُ إلَّا مُوجِبًا تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ وَبِكَسْبِهِ وَذَلِكَ مَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إذْنِهِ كَيْ لَا يَبْطُلَ حَقُّهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ا هـ .
قَالَ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ : الْمُرَادُ بِالْحَقِّ هَاهُنَا حَقُّ الْمَنْعِ لَا حَقُّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَعَ اخْتِصَاصِهِ بِإِذْنِ الْعَبْدِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛
لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ وَلِذَلِكَ يَأْخُذُ مِنْ كَسْبِهِ جَبْرًا عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَالْمُسْقِطُ هُوَ الْمَوْلَى إنْ كَانَ الْمَأْذُونُ رَقِيقًا وَالْوَلِيُّ إنْ كَانَ صَبِيًّا ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُرَادِ بِالْحَقِّ هَاهُنَا حَقُّ الْمَنْعِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَقُّ الْمَوْلَى ، بَلْ يَقْتَضِيهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَنْعِ الْمُتَعَلِّقِ بِالْعَبْدِ هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى لَا حَقُّ غَيْرِهِ : فَإِنَّ مَعْنَى حَقِّ الْمَنْعِ حَقٌّ هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً ، وَمَعْنَى حَقُّ الْمَوْلَى حَقٌّ هُوَ لِلْمَوْلَى ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى اللَّامِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ مَنْعُ الْعَبْدِ عَنْ التَّصَرُّفِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى لَا لِغَيْرِهِ فَكَانَ حَقًّا لَهُ قَطْعًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِهِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ أَصْلًا فَمَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَسَيَأْتِي أَنَّهُ إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ تَعَلَّقَتْ بِكَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ جَمِيعًا فَيُبَاعُ كُلُّ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَرَقَبَتِهِ جَمِيعًا لَا مَحَالَةَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا إذَا لَمْ تُحِطْ بِهِمَا دُيُونٌ فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا إذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فِي مَعْنَى الْإِذْنِ شَرْعًا إسْقَاطُهُ بِالْكُلِّيَّةِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ إسْقَاطُهُ فِي الْجُمْلَةِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي صُورَةِ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بَلْ فِي صُورَةِ عَدَمِ إحَاطَتِهِ أَيْضًا بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ السَّاقِطِ بِمِقْدَارِ الدَّيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى ، أَمَّا اخْتِصَاصُ حَقِّ الْمَوْلَى بِإِذْنِ الْعَبْدِ فَلَا يَضُرُّ إذْ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ بَيَانُ إذْنِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا يَبِينُ فِيهِ إذْنُ الصَّبِيِّ أَيْضًا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ مَا
ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ الْإِذْنِ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ قَالَ : وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمَا هُوَ التَّفْسِيرُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ لَا الْإِنَابَةِ وَالتَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِهِ ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ التِّجَارَةِ .
وَقَالَ : هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ وَالذَّخِيرَةِ وَالْمُغْنِي وَغَيْرِهَا ا هـ .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ : وَحُكْمُهُ هُوَ التَّفْسِيرُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ فَكِّ الْحَجْرِ ا هـ .
أَقُولُ : كَوْنُ حُكْمِ الْإِذْنِ مَا هُوَ تَفْسِيرُهُ الشَّرْعِيُّ غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ أَثَرُهُ الثَّابِتُ بِهِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِهِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالشَّيْءِ وَيَصِيرُ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَيْسَ الْمَذْكُورُ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ حُكْمَهُ مَا هُوَ تَفْسِيرُهُ الشَّرْعِيُّ ، بَلْ الْمَذْكُورُ فِيهَا هَكَذَا ، وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِهِ فَنَقُولُ : حُكْمُهُ شَرْعًا عِنْدَنَا فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا عَمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْإِذْنُ لَا الْإِنَابَةُ وَلَا التَّوْكِيلُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءُ مَا يَثْبُتُ بِهِ ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ التِّجَارَةِ ا هـ .
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِفَكِّ الْحَجَرِ الْمَذْكُورِ فِيهَا مَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ فَيَئُولُ إلَى مَعْنَى انْفِكَاكِ الْحَجْرِ وَيَصِيرُ صِفَةً لِلْحَجْرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَكِّ الْحَجْرِ الْمَذْكُورِ فِي تَفْسِيرِ الْإِذْنِ
شَرْعًا مَا هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَصِفَةٌ لِلْإِذْنِ ، فَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ حُكْمًا لِلْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ ، إذْ لَا رَيْبَ أَنَّ الِانْفِكَاكَ أَثَرٌ ثَابِتٌ بِالْفَكِّ كَالِانْكِسَارِ مَعَ الْكَسْرِ .
ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْإِذْنِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ وَعَزَاهُ إلَى التُّحْفَةِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا حُكْمُهُ فَمِلْكُ الْمَأْذُونِ مَا كَانَ مِنْ قَبِيلِ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا وَضَرُورَاتِهَا ، وَعَدَمُ مِلْكِهِ مَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي التُّحْفَةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا يَثْبُتُ بِالشَّيْءِ ، وَالثَّابِتُ بِالْإِذْنِ مَا قُلْنَا فَكَانَ حُكْمًا لَهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
( قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّقِّ بَقِيَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ ) فَإِنْ قِيلَ : الْمَأْذُونُ عَدِيمُ الْأَهْلِيَّةِ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ أَهْلًا لِنَفْسِ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا تُرَادُ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَهْلًا لِسَبَبِهِ .
أُجِيبُ بِأَنْ حُكْمَ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ وَالرَّقِيقُ أَهْلٌ لِذَلِكَ ، أَلَا يَرَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْيَدِ يَثْبُتُ لَلْمُكَاتَبِ مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَأَدْنَى طَرِيقِ قَضَائِهَا مِلْكُ الْيَدِ فَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ ، وَمِلْكُ الْعَيْنِ شُرِعَ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِيهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثُمَّ مَاتَ ، فَمَتَى اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَثْبُتُ مِلْكُ الْعَيْنِ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْمُوَرِّثُ بِنَفْسِهِ ، كَذَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِي عَامَّةِ كُتُبِ الْأُصُولِ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الرَّقِيقَ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الذَّاتِيَّةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ يَشْكُلُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ رَقَبَةً لَا يَدًا ، وَالْمُدَبَّرُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدًا لَا رَقَبَةً ، وَالْقِنُّ مَمْلُوكٌ لَهُ يَدًا وَرَقَبَةً ، فَإِنَّ الرَّقِيقَ إذَا كَانَ مَالِكًا يَدَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَوْلَاهُ يَدًا فِي صُورَةٍ إنْ كَانَ قِنًّا أَوْ مُدَبَّرًا ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ لَهُ مِلْكُ الْيَدِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْمُكْتَسَبَةِ مِنْ مَوْلَاهُ بِالْإِذْنِ أَوْ الْكِتَابَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، إذْ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ أَصْلَ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهُ بِلِسَانِهِ النَّاطِقِ وَعَقْلِهِ الْمُمَيِّزِ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ حَتَّى يَبِيعَ ، وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي ذِمَّتِهِ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ فِيهَا ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ عَنْ الْأَدَاءِ حَالَ الطَّلَبِ حُبِسَ وَذِمَّتُهُ خَالِصُ حَقِّهِ لَا مَحَالَةَ ، وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ صَحَّ وَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَكَانَ الشِّرَاءُ حَقًّا لَهُ .
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي نَفَاذَ تَصَرُّفَاتِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ أَيْضًا ، لَكِنْ شَرَطْنَا إذْنُ الْمَوْلَى دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ا هـ .
وَهَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ نَاقِلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ
قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ حَتَّى يَبِيعَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ مَالٌ يَبِيعُهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفِهِ الشِّرَاءُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفِهِ أَخْذُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ إيجَارُ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِك التَّصَرُّفَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، وَلَا يَقْتَضِي شَيْءٌ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : يَجُوزُ بِنَاءُ قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا هُوَ الْغَالِبُ وُقُوعًا فِيهَا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي التِّجَارَةِ هُوَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِ ، وَأَنَّهُمَا هُمَا الْغَالِبُ وُقُوعًا فِي بَابِ التِّجَارَةِ ، فَعَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ الْبِنَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي أَوَّلِ تَصَرُّفِهِ مَالٌ يَبِيعُهُ يَتَعَيَّنُ لَهُ الشِّرَاءُ ثَمَّةَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الشِّرَاءُ بَلْ أَوَّلُ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عِنْدَ الْخَصْمِ فَإِنَّ مُؤَاجَرَةَ نَفْسِهِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ .
ا هـ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ إيرَادِهِ وَجَوَابِهِ سَقَامَةٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ قَالَ : بَلْ أَوَّلُ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْجَزْمِ ، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ : بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَاجَرَةُ نَفْسِهِ خَطَأٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَسَاسِ وَالْمُغْرِبِ ، وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ : بَدَلَ ذَلِكَ إيجَارُ نَفْسِهِ كَمَا قُلْت فِيمَا مَرَّ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّا بِصَدَدِ إثْبَاتِ مَا قُلْنَا إنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَهُ يَتَصَرَّفُ بَعْدَ الْإِذْنِ لِنَفْسِهِ بِأَهْلِيَّتِهِ لَا بِصَدَدِ الْجَوَابِ
عَمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ ، بَلْ لَمْ يَقَعْ التَّصْرِيحُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِمَا قَالَهُ الْخَصْمُ أَصْلًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تُحْمَلَ الْمُقَدِّمَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ دُونَ مَذْهَبِنَا ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ حُمِلَتْ عَلَى مَذْهَبِ الْخَصْمِ لَمْ نَسْلَمْ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ تَصَرُّفٍ يُبَاشِرُهُ أَخْذُ الْمُضَارَبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ، وَالْخَصْمُ لَا يُنْكِرُ جَوَازَ ذَلِكَ فَلَمْ يُفِدْ الْحَمْلُ عَلَى مَذْهَبِهِ ، فَاَلَّذِي يُمْكِنُ فِي الْجَوَابِ مَا قَدَّمْنَا لَا غَيْرَ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَصَحَّحَ الْمُصَنِّفُ كَوْنَهُ إسْقَاطًا عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ وَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ التَّأْقِيتُ .
ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ مَذْكُورٌ فِي حَيِّزِ التَّعْرِيفِ فَكَيْفَ جَازَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَصْحِيحُ النَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا مُعَرَّفٌ بِذَلِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ حُكْمَهُ الشَّرْعِيَّ هُوَ تَعْرِيفُهُ فَكَانَ الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ حُكْمًا لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ تَعْرِيفًا ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ تَصْحِيحَ النَّقْلِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَنَا مُعَرَّفٌ بِذَلِكَ عَيْنُ الِاسْتِدْلَالِ ، فَإِنَّ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ هُوَ الدَّلِيلُ ، وَتَصْحِيحُ النَّقْلِ بِهِ هُوَ الِاسْتِدْلَال ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِدْلَالٍ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ كَوْنَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ هُوَ تَعْرِيفُهُ مِمَّا لَا يَكَادُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ مُبَايِنٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَثَرًا مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ مَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِالْمُوَاطَأَةِ مُتَّحِدٍ بِهِ فِي الذَّاتِ فَأَنَّى يَكُونُ أَحَدُهُمَا هُوَ الْآخَرُ ، وَقَدْ مَرَّ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ
قَبْلُ .
وَالْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُورُ عَلَى نَفْسِ التَّعْرِيفِ حَتَّى يَرِدَ أَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَقْبَلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَوُّرٌ ، وَالتَّصَوُّرُ لَا يُكْتَسَبُ مِنْ التَّصْدِيقِ بَلْ عَلَى الْحُكْمِ الضِّمْنِيِّ ، كَأَنْ يُقَالَ : هَذَا التَّعْرِيفُ صَحِيحٌ ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ مُطَابِقٌ لِأُصُولِنَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْكَامَ تَصْدِيقَاتٌ تَقْبَلُ الِاسْتِدْلَالَ عَلَيْهَا قَطْعًا ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا حَقَّقُوا فِي قِنِّهِ مِنْ أَنَّ الْمَنْعَ وَالنَّقْضَ وَالْمُعَارَضَةَ فِي التَّعْرِيفِ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ إلَى الْأَحْكَامِ الضِّمْنِيَّةِ لَا إلَى نَفْسِ التَّعْرِيفَاتِ ، تَدَبَّرْ تَرْشُدْ
ثُمَّ الْإِذْنُ كَمَا يَثْبُتُ بِالصَّرِيحِ يَثْبُتُ بِالدَّلَالَةِ ، كَمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لَمَنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ .
.
قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا ) قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ أَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا : هَكَذَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ .
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ : إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ الْمَالِكِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا .
وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ فَسَكَتَ لَا يَبْطُلَ الرَّهْنُ ا هـ .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ فَهِمَ الْمُخَالَفَةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ وَغَيْرُهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا فَهِمَهُ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ أَنَّ سُكُوتَ الْمَالِكِ فِيمَا إذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَا يَصِيرُ إذْنًا فِي حَقِّ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ لَا فِي حَقِّ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ذَلِكَ الْعَبْدُ فِي بَابِ التِّجَارَةِ مُطْلَقًا .
وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ وَكَذَا الْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعَ الرَّهْنَ فَسَكَتَ لَا يَبْطُلُ الرَّهْنُ ، فَإِنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ عَدَمُ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ بِلَا رَيْبٍ ، وَلَا دَلَالَةَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَغَيْرِهِ عَلَى كَوْنِ السُّكُوتِ إذْنًا فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ فِيمَا إذَا بَاعَ عَيْنًا مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِغَيْرِ رِضَاهُ ، بَلْ خِلَافُهُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَأَمَّا الْإِذْنُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَنَحْوُ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَا يَنْهَاهُ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا إلَّا فِي الْبَيْعِ الَّذِي صَادَفَهُ السُّكُوتُ .
وَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا ا هـ .
وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : إذَا نَظَرَ
الرَّجُلُ إلَى عَبْدِهِ وَهُوَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَلَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَإِذَا رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَالَ الْمَوْلَى .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَأَى الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ يَشْتَرِي شَيْئًا بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَسَكَتَ يَصِيرُ الْعَبْدُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ هَذَا الشِّرَاءُ كَذَا هَاهُنَا ا هـ .
فَكَيْفَ يَجُوزُ حَمْلُ كَلَامِ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ عَلَى خِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا رَأَى عَبْدًا يَبِيعُ عَيْنًا مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ فَسَكَتَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَةِ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مَالَ الْمَوْلَى كَمَا بَيَّنَّاهُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ رَآهُ يَظُنُّهُ مَأْذُونًا لَهُ فِيهَا فَيُعَاقِدُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى رَاضِيًا بِهِ لَمَنَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْصِيلِ هَذَا التَّعْلِيلِ : وَقُلْنَا جَعَلَ سُكُوتَهُ حُجَّةً ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ بَيَانِ ، إذْ النَّاسُ يُعَامَلُونَ الْعَبْدَ حِينَ عِلْمِهِمْ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى وَمُعَامَلَتُهُمْ قَدْ تُفْضِي إلَى لُحُوقِ دُيُونٍ عَلَيْهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا تَتَأَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَقَدْ يُعْتَقُ وَقَدْ لَا يُعْتَقُ وَفِي ذَلِكَ إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِإِتْوَاءِ حَقِّهِمْ ، وَلَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فِيهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ ، فَكَانَ مَوْضِعَ بَيَانِ أَنَّهُ رَاضٍ بِهِ أَوَّلًا ، وَالسُّكُوتُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ إلَى الْبَيَانِ بَيَانٌ ا هـ .
وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ جَانِبِ الْخَصْمِ عَلَى قَوْلِهِ وَالنَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ حِينَ
عِلْمِهِمْ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى حَيْثُ قَالَ لَهُمَا أَنْ يَقُولَا ذَلِكَ لِحَمَاقَةِ الْمُعَامِلِ حَيْثُ اغْتَرَّ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ وَلَمْ يَسْأَلْ مِنْ الْمَوْلَى وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَامِلَ لَا يَغْتَرُّ بِمُجَرَّدِ السُّكُوتِ بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِ الْعُرْفُ مِنْ أَنْ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يَنْهَاهُ عَنْهُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ حَيْثُ قَالُوا : وَلَنَا أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يَنْهَاهُ عَنْهُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يَنْهَ عُلِمَ أَنَّهُ رَاضٍ فَجُعِلَ سُكُوتَهُ إذْنًا دَلَالَةً دَفْعًا لِلْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ إطْلَاقًا مِنْهُ فَيُبَايِعُونَهُ حَمْلًا لِفِعْلِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ وَالْعُرْفُ ، كَمَا فِي سُكُوتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ أَمْرٍ يُعَايِنُهُ عَنْ التَّغْيِيرِ .
وَسُكُوتِ الْبِكْرِ وَسُكُوتِ الشَّفِيعِ ا هـ .
فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَحْتَاجُ الْمُعَامِلُ إلَى السُّؤَالِ مِنْ الْمَوْلَى ، وَكَيْفَ يَحْمِلُ الْعَاقِلُ عَدَمَ سُؤَالِهِ عَلَى حَمَاقَتِهِ ، وَهَلَّا تَكُونُ النَّظَائِرُ لِمَا عَامَلَهُ دُونَ خِلَافِهِ ؟ ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ شَيْءٌ فِي تَقْرِيرِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُ جَعَلَ ضَرَرَ الْمَوْلَى غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَحَقِّقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ ، وَجَعَلَ ضَرَرَ الْمُسْلِمِينَ مُعْتَبَرًا مَعَ أَنَّهُ أَيْضًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدُّيُونَ قَدْ تَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا تَلْحَقُهُ .
فَمَا الْفَرْقُ وَالرُّجْحَانُ ؟ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيَانِ .
ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : عَيْنُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مِنْ الْبَيْعِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَكَيْفَ يَصِحُّ غَيْرُهُ ، وَكَذَا إذَا رَأَى أَجْنَبِيًّا يَبِيعُ مِنْ مَالِهِ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا رَأَى الرَّاهِنَ يَبِيعُ الرَّهْنَ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا ، وَإِذَا رَأَى
رَقِيقَهُ يُزَوِّجُ نَفْسَهُ وَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ إذْنًا ، فَمَا الْفَرْقُ ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ الضَّرَرَ فِي التَّصَرُّفِ الَّذِي رَآهُ مُتَحَقِّقٌ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَمَّا يَبِيعُهُ فِي الْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ ، وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ فِي غَيْرِهِ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا إنَّ الدَّيْنَ قَدْ يَلْحَقُهُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ السُّكُوتِ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى ضَرَرٍ مُتَوَهَّمٍ كَوْنُهُ إذْنًا بِالنَّظَرِ إلَى مُتَحَقِّقٍ ، وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ بَيْعِ الْأَجْنَبِيِّ مَالَهُ ، وَفِي الرَّهْنِ لَمْ يَصِرْ سُكُوتُهُ إذْنًا ؛ لِأَنَّ جَعْلَهُ إذْنًا يُبْطِلُ مِلْكَ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إلَى يَدِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ فَكَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ .
لَا يُقَالُ : الرَّاهِنُ أَيْضًا يَتَضَرَّرُ بِبُطْلَانِ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ ، فَتَرْجِيحُ ضَرَرِ الْمُرْتَهِنِ تَحَكُّمٌ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهِ عَنْ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ مَوْقُوفٌ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَبُطْلَانُ مِلْكِ الْمُرْتَهِنِ عَنْ الْيَدِ بَاتٌّ فَكَانَ أَقْوَى .
وَأَمَّا الرَّقِيقُ عَبْدًا كَانَ أَوْ أَمَةً إذَا زَوَّجَ نَفْسَهُ فَإِنَّمَا لَمْ يَصِرْ السُّكُوتُ فِيهِ إذْنًا .
قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ نَاقِلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا يَصِيرُ إذْنًا وَإِجَازَةً دَفْعًا لِلضَّرَرِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي نِكَاحِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ مَوْقُوفًا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَمْلُوكِ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ مِلْكِهِ ، وَمَنَافِعُ بُضْعِ الْمَمْلُوكَةِ كَذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ إبْطَالُ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا ، وَأَمْكَنَ فَسْخُهُ فَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَحَدٌ .
وَقِيلَ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ نِكَاحَ الرَّقِيقِ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى وَإِجَازَتِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ أَنَّ سُكُوتَهُ إجَازَةٌ أَوْ لَا ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا مُحَقَّقًا لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ السُّكُوتُ إذْنًا ، إلَى هُنَا لَفْظُ
الْعِنَايَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَعِنْدِي أَنَّ النَّظَرَ غَيْرُ وَارِدٍ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ السُّكُوتِ إذْنًا كَانَ لِأَجْلِ دَفْعِ الضَّرَرِ فَحَيْثُ لَا ضَرَرَ يَبْقَى عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا يُجْعَلُ إذْنًا ا هـ .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَ مَنْ أَوْرَدَ النَّظَرَ ، إذْ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ كَوْنَ السُّكُوتِ إذْنًا كَانَ لِأَجْلِ دَفْعِ الضَّرَرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ نِكَاحَ الرَّقِيقِ هَلْ فِيهِ ضَرَرٌ أَمْ لَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ سُكُوتُهُ إذْنًا تَحَقَّقَ الضَّرَرُ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا فَحَيْثُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ إذْنًا فِي صُورَةِ تَزْوِيجِ الرَّقِيقِ نَفْسَهُ لَمْ يُفِدْ كَوْنَ نِكَاحِهِ مَوْقُوفًا عَلَى إذْنِهِ عَدَمُ ثُبُوتِ الضَّرَرِ فِيهَا وَإِنْ بَنَى عَدَمَ ثُبُوتِ الضَّرَرِ فِيهَا عَلَى عَدَمِ كَوْنِ سُكُوتِهِ فِيهَا إذْنًا لَزِمَ الْمُصَادَرَةُ ، إذْ هُوَ أَوَّلُ الْكَلَامِ الَّذِي طُولِبَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي أَصْلِ السُّؤَالِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي النَّظَرِ وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَنَّ سُكُوتَهُ إجَازَةٌ أَوْ لَا ، تَأَمَّلْ تَقِفْ
قَالَ ( وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ إذْنًا عَامًّا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ ) وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ أَذِنْت لَك فِي التِّجَارَةِ وَلَا يُقَيِّدُهُ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ التِّجَارَةَ اسْمٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْجِنْسَ فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَعْيَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ التِّجَارَةِ .
( وَلَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِتَعَذُّرِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ ( وَكَذَا بِالْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ) هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْبَيْعَ بِالْفَاحِشِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ ، حَتَّى اُعْتُبِرَ مِنْ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَلَا يَنْتَظِمُهُ الْإِذْنُ كَالْهِبَةِ .
وَلَهُ أَنَّهُ تِجَارَةٌ وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ فَصَارَ كَالْحُرِّ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ .
( وَلَوْ حَابَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ فَمِنْ جَمِيعِ مَا بَقِيَ ) ؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ فِي الْحُرِّ عَلَى الثُّلُثِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَلَا وَارِثَ لِلْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَا فِي يَدِهِ يُقَالُ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ جَمِيعَ الْمُحَابَاةِ وَإِلَّا فَارْدُدْ الْبَيْعَ كَمَا فِي الْحُرِّ .
( وَلَهُ أَنْ يُسَلِّمَ وَيَقْبَلَ السَّلَمَ ) ؛ لِأَنَّهُ تِجَارَةٌ .
( وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَتَفَرَّغُ بِنَفْسِهِ
قَالَ ( وَيَرْهَنُ وَيُرْتَهَنُ ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ إيفَاءٌ وَاسْتِيفَاءٌ .
( وَيَمْلِكُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ وَالْبُيُوتَ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ
( وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ مُزَارَعَةً ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ
( وَيَشْتَرِي طَعَامًا فَيَزْرَعُهُ فِي أَرْضِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ الرِّبْحَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ } .
( وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ شَرِكَةَ عِنَان وَيَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيَأْخُذُهَا ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ
( وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ عِنْدَنَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهُوَ يَقُولُ : لَا يَمْلِكُ الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهِ فَكَذَا عَلَى مَنَافِعِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا .
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَهُ رَأْسُ مَالِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ ، إلَّا إذَا كَانَ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِذْنِ كَالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْحَجِرُ بِهِ ، وَالرَّهْنُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْبَسُ بِهِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْمَوْلَى .
أَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يَنْحَجِرُ بِهِ وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الرِّبْحُ فَيَمْلِكُهُ .
.
قَالَ ( فَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْهَا دُونَ غَيْرِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي جَمِيعِهَا ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ .
لَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ وَيَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ لَهُ دُونَ الْعَبْدِ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُ حَجْرَهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ كَالْمُضَارِبِ .
وَلَنَا أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيِّنَاهُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَاقِعٌ لِلْعَبْدِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالنَّفَقَةِ ، وَمَا اسْتَغْنَى عَنْهُ يَخْلُفُهُ الْمَالِكُ فِيهِ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ ) يَعْنِي إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْ التِّجَارَةِ بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا فَالْخِلَافُ فِيهِ كَالْخِلَافِ فِيمَا إذَا سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ سَوَاءٌ نَهَى عَنْ غَيْرِ ذَلِكَ النَّوْعِ أَوْ سَكَتَ عَنْهُ يَكُونُ مَأْذُونًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ ، خِلَافًا لَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا ذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ وَنُقِلَ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ : وَكَذَا لَوْ كَانَ أَذِنَ لَهُ إذْنًا عَامًا ثُمَّ نَهَاهُ عَنْ نَوْعٍ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الشَّرْحُ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ ، إذْ الْمُرَادُ بِهِ مَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظٌ آخَرُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إذَا نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي نَوْعٍ آخَرَ ، وَيَأْبَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَطْعًا ، كَيْفَ وَمَسْأَلَةُ الْإِذْنِ الْعَامِّ قَدْ مَرَّتْ مَعَ مُتَفَرِّعَاتِهَا فِي الصَّحِيفَةِ الْأُولَى ، وَنَحْنُ الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْإِذْنِ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ فَلَا مَعْنَى لِخَلْطِهِ حَدِيثَ الْإِذْنِ الْعَامِّ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ إسْقَاطٌ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَظْهَرُ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فَلَا يُتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إنْ أُرِيدَ أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ بِجُمْلَتِهِ وَفَكُّ الْحَجْرِ بِذِمَّتِهِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ .
كَيْفَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَحَّ هِبَتُهُ وَإِقْرَاضُهُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ التَّبَرُّعَاتِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمُدَّعَى إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ إسْقَاطُهُ وَفَكُّهُ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا لَهُ
فِي جَمِيعِهَا كَمَا هُوَ الْمُدَّعَى .
فَإِذَا قُلْت : الْمُرَادُ أَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ فِي بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَهُوَ جِنْسُ التِّجَارَةِ وَالْمُدَّعَى كَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ هَذَا الْجِنْسِ لَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ أَجْنَاسِ التَّصَرُّفَاتِ فَلَا يُرَدُّ النَّقْضُ بِالتَّبَرُّعَاتِ وَلَا عَدَمُ ثُبُوتِ الْمُدَّعَى .
قُلْت : فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَلَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِذَلِكَ إذَا أَطْلَقَهُ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِنَوْعٍ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي طَائِلًا ؛ لِأَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ صُورَةُ التَّقْيِيدِ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَإِنْ قَيَّدَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَهَلَّا يَتَوَقَّفُ تَمَامُهُ عَلَى أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ إذْنًا فِي جَمِيعِهَا فَيُؤَدِّي إلَى الْمُصَادَرَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
فَإِنْ قُلْت : عَلَّلَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَلَا يُتَخَصَّصُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِ التَّخْصِيصِ إذْ ذَاكَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ا هـ فَلَا مُصَادَرَةَ عَلَى الْمَطْلُوبِ .
قُلْت : ذَاكَ التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِتَامٍّ ، إذْ لِقَائِلٍ أَيْضًا أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا يَكُونُ التَّخْصِيصُ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَنْ لَوْ أَطْلَقَ الْإِذْنَ أَوَّلًا فَيَتَحَقَّقُ إسْقَاطُ الْحَقِّ وَفَكُّ الْحَجْرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَظَهَرَ مَالِكِيَّةُ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَاتِ مُطْلَقًا ثُمَّ خَصَّصَهُ بِنَوْعٍ مِنْهَا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
إذْ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا قَيَّدَهُ أَوَّلًا فَقَالَ أَذِنْت لَك فِي هَذَا النَّوْعِ فَقَطْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ كَلَامُ وَاحِدٍ لَيْسَ لِأَوَّلِهِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ وَلِآخِرِهِ الَّذِي هُوَ قَيْدُهُ حُكْمٌ آخَرُ ، بَلْ لِلْمَجْمُوعِ حُكْمٌ وَاحِدٌ يَتِمُّ أَوَّلُهُ بِآخِرِهِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ؟ تَأَمَّلْ جِدًّا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ : وَنُوقِضَ بِالْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ ، وَإِذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ فُلَانَةَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِيهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَالرِّقُّ أَخْرَجَ الْعَبْدَ مِنْ أَهْلِيَّةِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَتْ الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى ، وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْعَبْدُ كَالْوَكِيلِ وَالنَّائِبِ عَنْ مَوْلَاهُ فَيَتَخَصَّصُ بِمَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الضَّرَرَ اللَّاحِقَ بِالْمَوْلَى يَمْنَعُ الْإِذْنَ وَقَدْ يَتَضَرَّرُ الْمَوْلَى بِغَيْرِ مَا خَصَّهُ بِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِالتِّجَارَةِ فِي الْبَزِّ دُونَ الْخَزِّ .
أُجِيبُ بِأَنَّهُ ضَرَرٌ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَهُ مَدْفَعٌ وَهُوَ التَّوْكِيلُ بِهِ عَلَى أَنَّ جَوَازَ التَّصَرُّفِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَدْفَعُ ذَلِكَ وَبِالْجُمْلَةِ إذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ فَلَيْسَ السُّؤَالُ وَارِدًا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ وَبِالْجُمْلَةِ إلَخْ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ حَاصِلَ السُّؤَالِ أَنَّهُ قَدْ يَلْحَقُ الضَّرَرُ بِالْمَوْلَى عِنْدَ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ بِغَيْرِ مَا خَصَّهُ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ثُبُوتَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُتَصَرِّفًا بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ لَا يَدْفَعُ وُرُودَ ذَلِكَ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ بِأَهْلِيَّتِهِ وَمَالِكِيَّتِهِ لَا يَمْلِكُ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ ، إذْ لَا إضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ يَرُدُّ السُّؤَالَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ لَا مَحَالَةَ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَنْسَدَّ بَابُ الْمُعَارَضَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا إقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى خِلَافِ مَا أَقَامَ
عَلَيْهِ الْخَصْمُ الدَّلِيلَ مَعَ أَنَّهَا طَرِيقٌ مَقْبُولٌ لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ مُعَارَضَةٌ ، فَالْوَجْهُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ جَوَابِهِ دُونَ قَوْلِهِ هَذَا
قَالَ ( وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ بِمَأْذُونٍ ) ؛ لِأَنَّهُ اسْتِخْدَامٌ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِشِرَاءِ ثَوْبٍ مُعَيَّنٍ لِلْكِسْوَةِ أَوْ طَعَامٍ رِزْقًا لِأَهْلِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَارَ مَأْذُونًا يَنْسَدُّ عَلَيْهِ بَابُ الِاسْتِخْدَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ كَذَا ، أَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْمَالَ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْكَسْبِ ، أَوْ قَالَ لَهُ اُقْعُدْ صَبَّاغًا أَوْ قَصَّارًا ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ بِشِرَاءِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَهُوَ نَوْعٌ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي الْأَنْوَاعِ .
.
قَالَ ( وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِالدُّيُونِ وَالْغُصُوبِ جَائِزٌ وَكَذَا بِالْوَدَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَصِحَّ لَاجْتَنَبَ النَّاسُ مُبَايَعَتَهُ وَمُعَامَلَتَهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي صِحَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَرَضِهِ يُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْمَالِ لَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْمَحْجُورِ فِي حَقِّهِ .
قَالَ ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ .
قَالَ ( وَلَا يُزَوِّجُ مَمَالِيكَهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُزَوِّجُ الْأَمَةَ ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِمَنَافِعِهَا فَأَشْبَهَ إجَارَتَهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِذْنَ يَتَضَمَّنُ التِّجَارَةَ وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عِنَانٍ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ .
.
قَالَ ( وَلَا يُكَاتِبُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، إذْ هِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَالْبَدَلُ فِيهِ مُقَابَلٌ بِفَكِّ الْحَجْرِ فَلَمْ يَكُنْ تِجَارَةً ( إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْمَوْلَى وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ مَلَكَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ نَائِبًا عَنْهُ وَتَرْجِعُ الْحُقُوقُ إلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْكِتَابَةِ سَفِيرٌ .
.
قَالَ ( وَلَا يُعْتِقُ عَلَى مَالٍ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فَالْإِعْتَاقُ أَوْلَى
( وَلَا يُقْرِضُ ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ كَالْهِبَةِ
( وَلَا يَهَبُ بِعِوَضٍ وَلَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَذَا لَا يَتَصَدَّقُ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ بِصَرِيحِهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِذْنِ بِالتِّجَارَةِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يُهْدِيَ الْيَسِيرَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ يُضَيِّفَ مَنْ يُطْعِمُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ اسْتِجْلَابًا لِقُلُوبِ الْمُجَاهِزِينَ ، بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهُ أَصْلًا فَكَيْفَ يَثْبُتُ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَاتِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا أَعْطَاهُ الْمَوْلَى قُوتَ يَوْمِهِ فَدَعَا بَعْضَ رُفَقَائِهِ عَلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْطَاهُ قُوتَ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَكَلُوهُ قَبْلَ الشَّهْرِ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى .
قَالُوا : وَلَا بَأْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ مِنْ مَنْزِلِ زَوْجِهَا بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ كَالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْهُ فِي الْعَادَةِ .
.
قَالَ ( وَلَهُ أَنْ يَحُطَّ مِنْ الثَّمَنِ بِالْعَيْبِ مِثْلَ مَا يَحُطُّ التُّجَّارُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صَنِيعِهِمْ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَطُّ أَنْظَرُ لَهُ مِنْ قَبُولِ الْمَعِيبِ ابْتِدَاءً ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَطَّ مِنْ غَيْرِ عَيْبٍ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُحَابَاةُ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ
( وَلَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي دَيْنٍ وَجَبَ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ .
.
قَالَ ( وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى ) وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُبَاعُ وَيُبَاعُ كَسْبُهُ فِي دَيْنِهِ بِالْإِجْمَاعِ .
لَهُمَا أَنَّ غَرَضَ الْمَوْلَى مِنْ الْإِذْنِ تَحْصِيلُ مَالٍ لَمْ يَكُنْ لَا تَفْوِيتُ مَالٍ قَدْ كَانَ لَهُ ، وَذَلِكَ فِي تَعْلِيقِ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ ، حَتَّى إذَا فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ عَنْ الدَّيْنِ يَحْصُلُ لَهُ لَا بِالرَّقَبَةِ ، بِخِلَافِ دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ جِنَايَةٍ ، وَاسْتِهْلَاكُ الرَّقَبَةِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِذْنِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَدِينِ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءٌ حَامِلٌ عَلَى الْمُعَامَلَةِ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ صَلُحَ غَرَضًا لِلْمَوْلَى ، وَيَنْعَدِمُ الضَّرَرُ فِي حَقِّهِ بِدُخُولِ الْمَبِيعِ فِي مِلْكِهِ ، وَتَعَلُّقُهُ بِالْكَسْبِ لَا يُنَافِي تَعَلُّقَهُ بِالرَّقَبَةِ فَيَتَعَلَّقُ بِهِمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالْكَسْبِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَإِبْقَاءً لِمَقْصُودِ الْمَوْلَى ، وَعِنْدَ انْعِدَامِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ الرَّقَبَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ دُيُونُهُ الْمُرَادُ مِنْهُ دَيْنٌ وَجَبَ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ وَضَمَانِ الْغُصُوبِ وَالْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ إذَا جَحَدَهَا ، وَمَا يَجِبُ مِنْ الْعُقْرِ بِوَطْءِ الْمُشْتَرَاةِ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى الشِّرَاءِ فَيَلْحَقُ بِهِ قَالَ ( وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ ( فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ) لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ ( وَلَا يُبَاعُ ثَانِيًا ) كَيْ لَا يَمْتَنِعَ الْبَيْعُ
أَوْ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي ( وَيَتَعَلَّقُ دَيْنُهُ بِكَسْبِهِ سَوَاءً حَصَلَ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّيْنِ أَوْ بَعْدَهُ وَيَتَعَلَّقُ بِمَا يَقْبَلُ مِنْ الْهِبَةِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ ( وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ ) لِوُجُودِ شَرْطِ الْخُلُوصِ لَهُ ( وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ غَلَّةَ مِثْلِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ يَحْجُرُ عَلَيْهِ فَلَا يَحْصُلُ الْكَسْبُ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى غَلَّةِ الْمِثْلِ يَرُدُّهَا عَلَى الْغُرَمَاءِ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ فِيهَا وَتَقَدُّمِ حَقِّهِمْ .
.
.
( قَوْلُهُ وَدُيُونُهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ يُبَاعُ لِلْغُرَمَاءِ ) أَيْ يَبِيعُهُ الْقَاضِي لِدَيْنِ الْغُرَمَاءِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : مَا وَجْهُ الْبَيْعِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَبَيْعُ الْقَاضِي الْعَبْدَ بِغَيْرِ رِضَا مَوْلَاهُ حَجْرٌ عَلَيْهِ .
أُجِيبُ بِأَنْ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَجْرٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِهِ ، إذْ لَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى بَيْعُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ وَحَجْرُ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ فَكَانَ كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدَّيْنِ فِي جَوَازِ أَنْ يَبِيعَهَا الْقَاضِي عَلَى الْوَرَثَةِ إنْ امْتَنَعُوا عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ حَجْرًا لِكَوْنِهِمْ مَحْجُورِينَ عَنْ بَيْعِهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الْغُرَمَاءِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ ، وَعَزَاهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ إلَى الذَّخِيرَةِ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْسِمُ مَادَّةَ الْإِشْكَالِ ، إذْ لِسَائِلٍ أَنْ يُعِيدَ الْكَلَامَ إلَى كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَيَشْكُلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
ثُمَّ إنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ ظَاهِرٌ ، إذْ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ ، وَلِهَذَا إذَا أَعْتَقَ الْوَرَثَةُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدَّيْنِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُمْ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهِ بَاقٍ وَلِهَذَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ إيَّاهُ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْكِتَابِ ، فَسَبَبُ كَوْنِ الْوَرَثَةِ مَحْجُورِينَ عَنْ بَيْعِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرِقَةِ بِالدِّينِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً لَهُمْ فَلَا يُنْتَقَضُ بِهِ أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَى
الْحَجْرَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْمَوْلَى مَحْجُورًا عَنْ بَيْعِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فَلَا سَبَبَ لَهُ سِوَى الدَّيْنِ فَيَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ بِهِ أَصْلُهُ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ ( قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى إنَّمَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ عِنْدَ الْفِدَاءِ كَمَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ مِنْ الْغَائِبِ غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ ، وَأَمَّا أَنَّ الْبَيْعَ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا فَلَا إشَارَةَ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ مِنْ الْمَوْلَى إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْلَى أَوْ نَائِبِهِ .
وَأَمَّا عَدَمُ الْفِدَاءِ مِنْهُ فَكَمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْلَى أَوْ نَائِبِهِ كَذَلِكَ يُتَصَوَّرُ عِنْدَ غَيْبَتِهِمَا أَيْضًا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالْبَيْعُ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا إذَا لَمْ يَقَعْ الْفِدَاءُ مِنْ الْمَوْلَى كَمَا هُوَ الْحَاصِلُ مِنْ الْبَاقِي بَعْدَ الثِّنْيَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَلَمَّا تَصَوَّرَ عَدَمَ الْفِدَاءِ فِي كُلٍّ مِنْ صُورَتَيْ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ احْتَمَلَ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي كُلٍّ مِنْ تَيْنِكَ الصُّورَتَيْنِ أَيْضًا فَمِنْ أَيْنَ حَصَلَتْ الْإِشَارَةُ إلَى انْحِصَارِ جَوَازِهِ فِي صُورَةِ حُضُورِ الْمَوْلَى ؟ نَعَمْ الْبَيْعُ إنَّمَا يَجُوزُ إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الشُّرُوحِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَيْثُ قَالُوا : هَذَا إذَا كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ غَائِبًا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ الْعَبْدَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى ، فَإِنَّ الْخَصْمَ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ هُوَ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ
أَوْ بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيهِ هُوَ الْعَبْدُ ا هـ .
لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي حُصُولِ الْإِشَارَةِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كَمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ تَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ وَبَيَانُهُ أَنَّ سَبَبَ هَذَا الدَّيْنِ التِّجَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ الْمَفْرُوضُ وَالتِّجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ بِلَا خِلَافٍ فَسَبَبُهَا دَاخِلٌ تَحْتَهُ ، وَإِذَا كَانَ دَاخِلًا تَحْتَهُ كَانَ مُلْتَزَمًا ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَانَ إضْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ قَدْ لَا يُوجَدُ وَالْعِتْقُ كَذَلِكَ فَتُتْوَى حُقُوقُ النَّاسِ .
وَقَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِقَوْلِهِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ا هـ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ الْأَوْجَهَ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا إلَخْ وَإِنْ كَانَ أُسْلُوبُ تَحْرِيرِهِ يُشْعِرُ بِخِلَافِهِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ سَبَبِ الدَّيْنِ التِّجَارَةُ وَكَوْنَ التِّجَارَةِ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ لَا مَدْخَلَ لِخُصُوصِيَّةِ شَيْءٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ تَضَرُّرِ النَّاسِ .
فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِتَوَى حَقِّهِمْ سَوَاءٌ كَانَ سَبَبَ الدَّيْنِ التِّجَارَةُ أَوْ غَيْرُهَا كَصَدَاقِ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ، وَسَوَاءً كَانَتْ التِّجَارَةُ تِجَارَةً دَاخِلَةً تَحْتَ الْإِذْنِ أَوْ تِجَارَةً غَيْرَ دَاخِلَةٍ تَحْتَهُ ، كَمَا إذَا لَحِقَ بِالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ دَيْنٌ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ .
وَأَمَّا فِي حَقِّ ظُهُورِ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلِخُصُوصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَدْخَلٌ لَا مَحَالَةَ ، فَبِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لَا يُتِمَّ الْفَائِدَةَ وَالتَّقْرِيبَ .
وَأَمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فَيُتِمُّ كُلَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الْمَانِعَ عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ كَانَ لُزُومُ إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِذَا ظَهَرَ وُجُوبُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِدُخُولِ سَبَبِهِ تَحْتَ إذْنِ الْمَوْلَى زَالَ ذَلِكَ الْمَانِعُ قَطْعًا فَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ .
وَمِمَّا يُقَرِّرُ الْمَعْنَى الثَّانِي تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي دَلِيلَنَا هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا أَنَّ هَذَا دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَإِذْنُهُ قَدْ ظَهَرَ فِي حَقِّ التِّجَارَةِ فَتُبَاعُ رَقَبَةُ الْعَبْدِ فِيهِ كَدِينِ الِاسْتِهْلَاكِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ ، وَكَذَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْغَايَةِ إيَّاهُ حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا أَنَّهُ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَى الْعَبْدِ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ قِيَاسًا عَلَى دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ .
أَمَّا وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا ظُهُورُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَلِأَنَّ سَبَبَ الدَّيْنِ هُوَ التِّجَارَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا مَحَالَةَ ، وَإِذَا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ اسْتِيفَاءً كَمَا فِي دَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ الْمَحْجُورُ حَيْثُ يَثْبُتُ الدَّيْنُ عَلَيْهِ وَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِعَدَمِ إذْنِهِ ا هـ كَلَامَهُ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ قَالَ : هَاهُنَا : وَلَعَلَّ الْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ ا هـ .
وَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلِّ حَيْثُ قَالَ قَوْلُهُ وَهَذَا : أَيْ كَوْنُ دَيْنِ تِجَارَتِهِ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ ، وَهِيَ أَيْ التِّجَارَةُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الِاحْتِمَالُ هَاهُنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَصْلُ الْمُدَّعَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْخِلَافُ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ ،
وَلَوْ كَفَى فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ التِّجَارَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ الْإِذْنِ لَكَانَ بَاقِي الْمُقَدِّمَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي دَلِيلِنَا الْمَزْبُورِ مُسْتَدْرِكَةً .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي إثْبَاتِ مَطْلُوبِنَا هَذَا إنَّمَا هِيَ قَوْلُهُ ظَهَرَ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ ، وَتَعَلُّقُ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ نَتِيجَةٌ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ ، فَالْوَجْهُ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى ظُهُورِ وُجُوبِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا غَيْرَ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَظْهَرُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ ( قَوْلُهُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِهَا بِالتَّرِكَةِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : إذَا بَاعَ الْقَاضِي الْعَبْدَ يُقَسِّمُ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِالرَّقَبَةِ فَصَارَ كَتَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالتَّرِكَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ يَضْرِبُ كُلُّ غَرِيمٍ فِي الثَّمَنِ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، كَالتَّرِكَةِ إذَا ضَاقَتْ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِ الْغُرَمَاءِ ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ : أَيْ دُيُونِ الْعَبْدِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ لِتَقَرُّرِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَعَدَمِ وَفَاءِ الرَّقَبَةِ بِهِ ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلٌ ، فَإِنَّ ذِكْرَ قَوْلِهِ فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ بِطَرِيقِ الشَّرْطِيَّةِ سِيَّمَا مَعَ أَدَاةِ التَّفْرِيعِ بَعْدَ أَنْ قَالَ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ يَتَعَيَّنُ بَقَاءُ شَيْءٍ مِنْ دُيُونِهِ عَلَيْهِ فَمَا مَعْنَى الشَّرْطِيَّةِ ، وَكَانَ حَقُّ التَّحْرِيرِ أَنْ يَقُولَ : فَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ ، بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْ دُيُونِهِ طُولِبَ بِهِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّهُ فِي مَوْقِعِهِ إذْ لَمْ يُعَيِّنْ فِيمَا قَبْلَهُ عَدَمَ وَفَاءِ الثَّمَنِ بِالدُّيُونِ ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَ مُجَرَّدَ تَقْسِيمِ ثَمَنِهِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ وَفَاءٌ وَأَنْ لَا يَكُونَ فَحَسُنَتْ الشَّرْطِيَّةُ وَأَدَاةُ التَّفْرِيعِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَخْلُفُهُ فِي الْمِلْكِ بَعْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَفْرُغْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلَمْ يَفْرُغْ : فَكَانَ كَكَسْبٍ غَيْرِ مُنْتَزَعٍ ا هـ .
أَقُولُ : قَدْ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَقَامِ بِمَا زَادَهُ ، فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِكَسْبٍ غَيْرِ مُنْتَزَعٍ يُشْعِرُ بِكَوْنِ التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ مُخْتَصًّا بِمَا يَقْبَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ الْهِبَةِ ، مَعَ أَنَّهُ يَعُمُّ تَعَلُّقَ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ وَتَعَلُّقَهُ بِمَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْهِبَةِ لِجَرَيَانِهِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا بِلَا تَفَاوُتٍ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مَخْصُوصًا بِصُورَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ لَبَقِيَتْ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَهِيَ تَعَلُّقُ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ بِلَا ذِكْرِ دَلِيلٍ عَلَيْهَا مَعَ كَوْنِهَا الْعُمْدَةُ فِي الْمَقَامِ ، وَلَمْ يُعْهَدْ مِثْلُهُ مِنْ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَطُّ
قَالَ ( فَإِنْ حُجِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَنْحَجِرْ حَتَّى يَظْهَرَ حَجْرُهُ بَيْنَ أَهْلِ سُوقِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْحَجَرَ لَتَضَرَّرَ النَّاسُ بِهِ لِتَأَخُّرِ حَقِّهِمْ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ وَقَدْ بَايَعُوهُ عَلَى رَجَاءِ ذَلِكَ ، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ ، حَتَّى لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي السُّوقِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ لَمْ يَنْحَجِرْ ، وَلَوْ بَايَعُوهُ جَازَ ، وَإِنْ بَايَعَهُ الَّذِي عَلِمَ بِحَجْرِهِ وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ سُوقِهِ يَنْحَجِرُ ، وَالْمُعْتَبَرُ شُيُوعُ الْحَجْرِ وَاشْتِهَارُهُ فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ الظُّهُورِ عِنْدَ الْكُلِّ كَمَا فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ مِنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَيَبْقَى الْعَبْدُ مَأْذُونًا إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْحَجْرِ كَالْوَكِيلِ إلَى أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ وَمَا رَضِيَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الشُّيُوعُ فِي الْحَجْرِ إذَا كَانَ الْإِذْنُ شَائِعًا .
أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا الْعَبْدُ ثُمَّ حُجِرَ عَلَيْهِ بِعِلْمٍ مِنْهُ يَنْحَجِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ .
.
قَالَ ( وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ جُنَّ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا صَارَ الْمَأْذُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَمَا لَا يَكُونُ لَازِمًا مِنْ التَّصَرُّفِ يُعْطَى لِدَوَامِهِ حُكْمُ الِابْتِدَاءِ ، هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْإِذْنِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ وَهِيَ تَنْعَدِمُ بِالْمَوْتِ وَالْجُنُونِ ، وَكَذَا بِاللُّحُوقِ لِأَنَّهُ مَوْتٌ حُكْمًا حَتَّى يُقَسَّمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ .
.
قَالَ ( وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَبْقَى مَأْذُونًا ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ ، فَكَذَا لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ وَصَارَ كَالْغَصْبِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِبَاقَ حَجْرُ دَلَالَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْضَى بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَقْضِيَةِ دَيْنِهِ بِكَسْبِهِ ، بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا ، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِزَاعَ مِنْ يَدِ الْغَاصِبِ مُتَيَسِّرٌ .
.
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا لَمْ يَكُنْ لِلدَّلَالَةِ اعْتِبَارٌ عِنْدَ وُجُودِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِيرَ الْآبِقُ مَحْجُورًا فِي الْبَقَاءِ أَيْضًا ، إذْ قَدْ وُجِدَ التَّصْرِيحُ بِالْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْإِبَاقِ عَلَى الْحَجْرِ فِي الْبَقَاءِ مُخَالِفَةً لِذَاكَ التَّصْرِيحِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ وُجُودَ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَهُ إلَى حَالِ الْإِبَاءِ ، فَالْمَعْلُومُ قَطْعًا إنَّمَا هُوَ وُجُودُهُ فِي الِابْتِدَاءِ .
وَأَمَّا وُجُودُهُ فِي الْبَقَاءِ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَهُوَ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ دَافِعَةً لَا مُثْبِتَةً ، فَيَجُوزُ أَنْ تُرَجَّحُ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا ، وَعَنْ هَذَا اُعْتُبِرَتْ فِي الْبَقَاءِ دُونَ الِابْتِدَاءِ تَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِذَا ) ( وَلَدَتْ الْمَأْذُونُ لَهَا مِنْ مَوْلَاهَا ) فَذَلِكَ حَجْرٌ عَلَيْهَا خِلَافًا لَزُفَرَ ، وَهُوَ يَعْتَبِرُ حَالَةَ الْبَقَاءِ بِالِابْتِدَاءِ .
وَلَنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُحْصِنُهَا بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَيَكُونُ دَلَالَةَ الْحَجْرِ عَادَةً ، بِخِلَافِ الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّرِيحَ قَاضٍ عَلَى الدَّلَالَةِ .
( وَيَضْمَنُ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا إنْ ) ( رَكِبَتْهَا دُيُونٌ ) لِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ ، إذْ بِهِ يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَبِهِ يُقْضَى حَقُّهُمْ .
.
قَالَ ( وَإِذَا اسْتَدَانَتْ الْأَمَةُ الْمَأْذُونُ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا فَدَبَّرَهَا الْمَوْلَى فَهِيَ مَأْذُونٌ لَهَا عَلَى حَالِهَا ) لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الْحَجْرِ ، إذْ الْعَادَةُ مَا جَرَتْ بِتَحْصِينِ الْمُدَبَّرَةِ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُكْمَيْهَا أَيْضًا ، وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا لِمَا قَرَّرْنَاهُ فِي أُمِّ الْوَلَدِ .
.
قَالَ ( وَإِذَا حُجِرَ عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَمَعْنَاهُ أَنْ يُقَرَّ بِمَا فِي يَدِهِ أَنَّهُ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ أَوْ غَصْبٌ مِنْهُ أَوْ يُقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ فَيُقْضَى مِمَّا فِي يَدِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ .
لَهُمَا أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ الْإِذْنَ فَقَدْ زَالَ بِالْحَجْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْيَدَ فَالْحَجْرُ أَبْطَلَهَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا أَخَذَ الْمَوْلَى كَسْبَهُ مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ أَوْ ثَبَتَ حَجْرُهُ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الرَّقَبَةِ بَعْدَ الْحَجْرِ ، وَلَهُ أَنَّ الْمُصَحِّحَ هُوَ الْيَدُ ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً ، وَشَرْطُ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ ، وَإِقْرَارُهُ دَلِيلُ تَحَقُّقِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَزَعَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ قَبْلَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا تَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ ، وَكَذَا مِلْكُهُ ثَابِتٌ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ تَبَدَّلَ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيمَا بَاشَرَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ .
.
( قَوْلَهُ لَهُمَا أَنَّ الْمُصَحِّحَ لِإِقْرَارِهِ إنْ كَانَ الْإِذْنُ فَقَدْ زَالَ بِالْحَجْرِ ، وَإِنْ كَانَ الْيَدُ فَالْحَجْرُ أَبْطَلَهَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : يَشْكُلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي وَدِيعَةِ الْمَبْسُوطِ بِقَوْلِهِ عَبْدٌ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ثُمَّ غَابَ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَدِيعَةَ تَاجِرًا كَانَ الْعَبْدُ أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِيَدِ الْمَحْجُورِ اعْتِبَارٌ لَمَا اشْتَرَطَ حَضْرَتَهُ بَلْ جَعَلَ مَا أَوْدَعَهُ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِ رَجُلٍ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةُ عَدَمِ اعْتِبَارِ الْيَدِ هِيَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَلَمْ تُجْعَلْ كَذَلِكَ ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ لِيَدِهِ اعْتِبَارًا وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَام الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي وَدِيعَةِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : لِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ لَهُ يَدٌ حُكْمِيَّةٌ فَلَا يَكُونُ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُودَعِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْعَبْدُ .
قُلْت : تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مُؤَوَّلَةٌ ذُكِرَ تَأْوِيلُهَا فِي الْفَصْلِ السَّادِسِ عَشَرَ مِنْ وَدِيعَةِ الذَّخِيرَةِ فَقَالَ : وَهَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الْمُودَعُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَسْبُهُ فَلِلْمَوْلَى حَقُّ الْأَخْذِ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا كَسْبُ الْعَبْدِ وَلَكِنْ عَلِمَ أَنَّهَا مَالُ الْمَوْلَى كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ .
وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي ذِكْرِ هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ لَكِنْ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَخْصَرَ مِنْ الْأُولَى .
أَقُولُ : ذَلِكَ الْجَوَابُ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، فَإِنَّ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذُكِرَ مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَأْبَاهُ قَطْعًا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْأُسْرُوشَنِيُّ فِي وَدِيعَةِ أَحْكَامِ الصِّغَارِ فِي تَعْلِيلِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِمَا مَرَّ فِي
آخَرِ السُّؤَالِ لَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ الْإِشْكَالِ النَّاشِئِ مِنْ الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ أَنَّ فِي صُورَةِ أَنْ لَا يَعْلَمَ الْمُودَعُ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أَوْدَعَهَا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ كَسْبُ ذَلِكَ الْعَبْدِ أَوْ مَالُ مَوْلَاهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهَا ، بَلْ إنَّمَا يَأْخُذُهَا ذَلِكَ الْعَبْدُ ، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَحْجُورِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ كُلِّيَّةً ، وَمَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا كُلِّيَّةً لَا يَثْبُتُ مُدَّعَى الْإِمَامَيْنِ فِي مَسْأَلَتِنَا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمَا فِي التَّعْلِيلِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَحْجُورِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ أَنَّ يَدَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْكُلِّيَّةِ يَكْفِي فِي إثْبَاتِ مُدَّعَاهُمَا هَاهُنَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْكُلِّيَّةِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ الصُّوَرِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ إقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ لِغَيْرِهِ ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ كَسْبُهُ أَوْ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ إذْ ذَاكَ مُعْتَبَرَةٌ عَلَى مُقْتَضَى مَا مَرَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَبْسُوطِ وَتَقَرَّرَ بَعْدَ تَأْوِيلِهَا ، وَمِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ أَيْضًا إقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ بِأَنَّ مَا فِي يَدِهِ غَصْبٌ مِنْ غَيْرِهِ ، فَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كَسْبُهُ أَوْ مَالُ مَوْلَاهُ تَكُونُ يَدُهُ مُعْتَبَرَةً عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ مُتَغَيِّرًا بِفِعْلِهِ بِأَنْ لَمْ يَزُلْ اسْمُهُ وَعِظَمُ مَنَافِعِهِ ، إذْ لَا يَزُولُ عَنْهُ حِينَئِذٍ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِ ذِي الْيَدِ ، تَدَبَّرْ تَفْهَمْ .
(
قَوْلَهُ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : يَعْنِي بِهِ الْإِذْنَ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى اسْتِخْرَاجُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا هَذَا الْمَحَلَّ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : أَيْ لَا يَبْقَى لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بَعْدَ بَيْعِهِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْإِذْنِ قَبْلَ الْبَيْعِ بِحُكْمِ أَنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا جَرَمَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ لِعَدَمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ ا هـ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ بَقَاءِ الْإِذْنِ مُقَرَّرٌ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَيْضًا ، وَهُوَ مَا إذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ بِدُونِ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَالْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِصَدَدِ الْفَرْقِ مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِمَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ هُوَ الْإِذْنُ لِمَا كَانَ لِذِكْرِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ فَلَا يَبْقَى مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَائِدَةٌ أَصْلًا هَاهُنَا لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ عَدَمِ بَقَاءِ الْإِذْنِ بِمَا إذَا بَاعَهُ دُونَ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ الْمَذْكُورُ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ ، وَلَا يَنْبَغِي ذَلِكَ لِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ ، وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِمَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ يَدُهُ الْحُكْمِيَّةُ كَمَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ فِيمَا قَبْلُ وَالْيَدُ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَشَرْطُ بُطْلَانِهَا بِالْحَجْرِ حُكْمًا فَرَاغُهَا عَنْ حَاجَتِهِ .
وَلَمَّا كَانَ تَبَدُّلُ الْمِلْكِ فِيمَا إذَا بَاعَهُ بِمَنْزِلَةِ تَبَدُّلِ الذَّاتِ لَمْ يَبْقَ مَا ثَبَتَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ مِنْ يَدِهِ الْحُكْمِيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْبَدَنِيَّةَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مَا لَمْ يُفَرِّعْ عَنْ حَاجَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَظْهَرُ
فَائِدَةُ هَاتِيك الْمُقَدِّمَةِ جِدًّا ، فَتَأَمَّلْ وَكُنْ الْحَاكِمَ الْفَيْصَلَ
قَالَ ( وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيَعْتِقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ وَهُوَ مِلْكُ رَقَبَتِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا ، وَوَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمَأْذُونِ لَهَا ، وَهَذَا آيَةُ كَمَالِهِ ، بِخِلَافِ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُ نَظَرًا لِلْمُوَرِّثِ وَالنَّظَرُ فِي ضِدِّهِ عِنْدَ إحَاطَةِ الدَّيْنِ بِتَرِكَتِهِ .
أَمَّا مِلْكُ الْمَوْلَى فَمَا ثَبَتَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ .
وَلَهُ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا يَثْبُتُ خِلَافُهُ عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ كَمِلْكِ الْوَارِثِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ وَالْمُحِيطُ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِهَا فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ ، وَإِذَا عُرِفَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ فَالْعِتْقُ فُرَيْعَتُهُ ، وَإِذَا نَفَذَ عِنْدَهُمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ قَلِيلِهِ ، فَلَوْ جُعِلَ مَانِعًا لَانْسَدَّ بَابُ الِانْتِفَاعِ بِكَسْبِهِ فَيَخْتَلُّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِذْنِ وَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَالْمُسْتَغْرَقُ يَمْنَعُهُ .
.
.
( قَوْلَهُ وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ إلَخْ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تُحِيطَ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ ، أَوْ لَا تُحِيطَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ أَحَاطَتْ بِمَالِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ .
فَالْأَوَّلُ كَمَا إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَالْمَأْذُونُ أَيْضًا يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَيْهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ .
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ا هـ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذِهِ الْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِحَاصِرَةٍ ، إذْ هُنَا احْتِمَالُ قِسْمٍ رَابِعٍ وَهُوَ أَنْ تُحِيطَ بِرَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ عَلَى عَكْسِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَسْبِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ كَسْبِهِ يُسْتَوْفَى مِنْ رَقَبَتِهِ ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنْ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِكَسْبِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى تَعَلُّقِهِ بِرَقَبَتِهِ فَلَمْ يُتَصَوَّرْ فِي الشَّرْعِ أَنْ تُحِيطَ دُيُونُهُ بِرَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ ، فَكَانَتْ الْأَقْسَامُ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَقُّقُهَا فِي الشَّرْعِ مُنْحَصِرَةً فِي الثَّلَاثَةِ فِيمَا إذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قِسْمٍ آخَرَ هُوَ احْتِمَالٌ عَقْلِيٌّ مَحْضٌ لَا تَحَقُّقَ لَهُ فِي الشَّرْعِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ جَازَ عِتْقُهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ ، إلَّا أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ قَوْلِهِ بِمَالِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَرَقَبَتَهُ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ تَعَلُّقَ الدُّيُونِ بِكَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَعَلُّقِهَا بِرَقَبَتِهِ ، وَإِذَا لَمْ تُحِطْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ يَتَعَيَّنُ عَدَمُ إحَاطَتِهَا بِرَقَبَتِهِ فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى ذِكْرِ الثَّانِي بَعْدَ ذِكْرِ
الْأَوَّلِ ، وَمَا وَقَعَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ فَمِنْ قَبِيلِ التَّصْرِيحِ بِمَا عُلِمَ الْتِزَامًا لِمُجَرَّدِ الِاحْتِيَاطِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا هُوَ حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ الْمَارِّ ذِكْرُهَا فِي التَّقْسِيمِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنْ الْعِنَايَةِ فِيمَا قَبْلُ ، وَحُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَبْلُ بِقَوْلِهِ وَإِذَا لَزِمَتْهُ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَمْلِكُ مَا فِي يَدِهِ وَيَعْتِقُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْهَا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ قَطُّ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْكِتَابِ ، وَنَقَلَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ عَنْ بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْعِتْقَ فِيهِ جَائِزٌ ا هـ .
وَأَرَادَ بِبَعْضِ الشَّارِحِينَ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ فَإِنَّهُ قَالَ : قَالَ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُحَمَّدٌ عَنْ يَعْقُوبَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رَجُلٍ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفًا وَعَلَى الْأَوَّلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَأَعْتَقَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى فَعِتْقُهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِثْلُ قِيمَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : عِتْقُهُ جَائِزٌ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ا هـ .
أَقُولُ : فِي جَوَازِ عِتْقِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ الْأَقْسَامِ الْمَارِّ ذِكْرُهَا إشْكَالٌ عَلَى مُقْتَضَى دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ لِإِثْبَاتِ مَذْهَبِهِ فِي الْقِسْمِ الْخِلَافِيِّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ثَانِيًا ، فَإِنَّ حَاصِلَ ذَاكَ الدَّلِيلِ أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى إنَّمَا
يَثْبُتُ خِلَافُهُ عَنْ الْعَبْدِ عِنْدَ فَرَاغِهِ عَنْ حَاجَتِهِ ، وَالْمَالُ الَّذِي أَحَاطَ بِهِ الدَّيْنُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ فَلَا يَخْلُفُهُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْمِلْكُ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْمِلْكُ لَمْ يَجُزْ إعْتَاقُهُ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ جَارِيَةٌ بِعَيْنِهَا فِيمَا إذَا أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِكَسْبِهِ دُونَ رَقَبَتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إعْتَاقُهُ فِيهِ أَيْضًا
قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ ( وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُطْلَقًا ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ .
أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ ، وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ أَزَالَ الْمُحَابَاةَ ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ ، وَعَلَى الْمَذْهَبَيْنِ الْيَسِيرُ مِنْ الْمُحَابَاةِ وَالْفَاحِشُ سَوَاءٌ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغُرَمَاءِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ الْيَسِيرَةِ حَيْثُ يَجُوزُ وَلَا يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ ، وَالْمَوْلَى يُؤْمَرُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِالْيَسِيرِ مِنْهُمَا مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّبَرُّعِ وَالْبَيْعِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَاعْتَبَرْنَاهُ تَبَرُّعًا فِي الْبَيْعِ مَعَ الْمَوْلَى لِلتُّهْمَةِ غَيْرَ تَبَرُّعٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لِانْعِدَامِهَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمُحَابَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا عِنْدَهُمَا ، وَمِنْ الْمَوْلَى يَجُوزُ وَيُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ لَا تَجُوزُ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ عَلَى أَصْلِهِمَا إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى ، وَلَا إذْنَ فِي الْبَيْعِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ إذْنٌ بِمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ، غَيْرَ أَنَّ إزَالَةَ الْمُحَابَاةِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَهَذَانِ الْفَرْقَانِ عَلَى أَصْلِهِمَا .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ) أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَدَمُ ذِكْرِ الْخِلَافِ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : اعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ إذَا بَاعَ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا ا هـ .
وَكَوْنُهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّهُمَا قَالَا : الْمَوْلَى يَمْلِكُ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَوْ أَحَاطَتْ دُيُونُهُ بِمَالِهِ وَرَقَبَتِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ مِنْ كَسْبِهِ عَبْدًا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى أَصْلِهِمَا حَتَّى يَتَمَشَّى التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي التَّوْجِيهِ .
( قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَهَذَا الْخِلَافُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ ، بَلْ الْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ عَدَمُ الْوَاوِ ا هـ .
أَقُولُ : بَلْ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ لَيْسَ بِصَحِيحِ ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ حِينَئِذٍ عَلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْكَلَامِ وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ : أَعْنِي قَوْلَ الْقُدُورِيِّ
وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مُلَابَسَتَانِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ، لَكِنْ عَلَى التَّوْزِيعِ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْغَيْرِ الْمُتَرَتِّبِ : أَيْ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُلَابِسَةٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى مُلَابِسَةٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ، لَا أَنَّ كِلْتَا الْمَسْأَلَتَانِ مُلَابَسَتَانِ بِكِلَا الْخِلَافَيْنِ ، فَإِذَنْ يَتَحَقَّقُ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ وَيَصِحُّ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ فِي تَصْحِيحِ الْعَطْفِ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ تَوْجِيهًا آخَرَ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ : قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ وَمَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى .
تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : وَإِنْ بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ بِالنُّقْصَانِ حَيْثُ لَمْ يَجُزْ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ ، هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَبِخِلَافِ ا هـ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا مِنْ التَّوْجِيهِ الْوَجِيهِ ، إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ رَأَى تَوْجِيهَ صَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ جَزَمَ بِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ بِلَا مَعْطُوفٍ عَلَيْهِ بِدُونِ أَنْ يُبَيِّنَ الْفَسَادَ فِي تَوْجِيهِ صَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
نَعَمْ فِي تَوْجِيهِهِ تَمَحُّلٌ لَا يَخْفَى ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَبْعَدَ وَأَقْبَحَ مِمَّا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ : وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوَاوِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ كَمَا سَيَأْتِي نَقْلُهُ وَبَيَانُ حَالِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ
كَلَامِهِ السَّابِقِ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِدُونِ الْوَاوِ فَيَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ قَوْلِهِ الْمُتَّصِل بِهِ .
وَهُوَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ : أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ : أَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، وَبَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، وَهَذَا أَوْجَهُ ، وَلَكِنَّ النُّسْخَةَ بِالْوَاوِ تَأْبَاهُ ، ا هـ كَلَامَهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَلَامَهُ هَذَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِهِ أَيْضًا عَنْهُ : قُلْت ذَلِكَ أَوْجَهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ بِالْقُرْبِ دُونَ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ جَوَازُ الْمُحَابَاةِ مَعَهُ مُطْلَقًا ، وَلَا يُرَدُّ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إشْكَالًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِوَارِدٍ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ جَوَازُ الْمُحَابَاةِ مَعَهُ مُطْلَقًا ، كَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَازُ بَيْعِهِ مِنْهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوَّلَ مَفْهُومٌ بِالْعِبَارَةِ وَالثَّانِي مَفْهُومٌ بِالدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَتْ الْمُحَابَاةُ مَعَهُ فَلَأَنْ جَازَ الْبَيْعُ مِنْهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى .
وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ : أَيْ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ حَالٍ : أَعْنِي إذَا كَانَتْ الْمُحَابَاةُ يَسِيرَةً أَوْ فَاحِشَةً أَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَإِذْن اتَّجَهْت الْمُطَالَبَةُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ بَيْعِ الْعَبْدِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَبَيْنَ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ حَيْثُ جَازَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي ، مَعَ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِالْمَبِيعِ فَاحْتَاجَ إلَى الْجَوَابِ عَنْهَا بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ
لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِعَيْنِهِ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ بِالْمُحَابَاةِ ، وَقَدْ سَلَكَ هَاهُنَا أَيْضًا مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ فَلَا مَحْذُورَ فِي تَرْكِ الْوَاوِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَجْعَلَ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ قَوْلِهِ الْمُتَّصِلِ بِهِ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : قُلْت يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْأَلَةِ بِلَا وَاوٍ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مُورِدَةٍ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ دُونَ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ ؛ لِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ وَمَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَازَ ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ نَقْضٌ عَلَى بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمُحَابَاةِ فَأَدْخَلَ الْوَاوَ لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مُورِدَةٍ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ دُونَ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ ؛ لِأَنَّهُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الْمَوْلَى بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ وَمَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَازَ كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ هَاهُنَا اثْنَتَانِ : أُولَاهُمَا قَوْلُهُ وَإِذَا بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ جَازَ ، وَأُخْرَاهُمَا قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ ، فَكَمَا أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ انْتِقَاضِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِمَسْأَلَةِ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ انْتِقَاضِ الْمَسْأَلَةِ الْأُخْرَى بِمَسْأَلَةِ الْمُحَابَاةِ الْمَأْذُونِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ ، وَكَمَا أَنَّ
قَوْلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا بِنُقْصَانٍ وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِنُقْصَانٍ كَذَلِكَ قَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا بَاعَ الْمَأْذُونُ مِنْ مَوْلَاهُ شَيْئًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا بَاعَهُ الْمَرِيضُ مِنْ وَارِثِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ .
فَإِنْ أَرَادَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأُولَى مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَزْبُورَتَيْنِ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ : أَيْ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ دُونَ الْأُخْرَى مِنْهُمَا فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ كِلْتَاهُمَا مَسْأَلَتَانِ مَذْكُورَتَانِ مَعًا فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَتَا مَعًا مَسْأَلَتَيْ الْكِتَابِ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ إلَخْ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ الِانْتِقَاضِ دُونَ قَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ فَإِنَّهُ لِبَيَانِ الْفَرْقِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ دَفْعَ تَوَهُّمِ الِانْتِقَاضِ إنَّمَا يَكُونُ بِبَيَانِ الْفَرْقِ ، فَقَصْدُ أَحَدِهِمَا يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْآخَرِ عَلَى أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي إثْبَاتِ الْمَسْأَلَةِ بِلَا وَاوٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ فَلَا يَثْبُتُ مُدَّعَاهُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّ قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مُتَعَلِّقٌ بِأُولَى مَسْأَلَتَيْ الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا حَابَى الْأَجْنَبِيَّ مُتَعَلِّقٌ بِأُخْرَاهُمَا فَلَا مَعْنَى لِلْوَاوِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُولَى ؟ قُلْنَا : قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ أَنَّ الْوَاوَ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ لَا تَرْتِيبَ فِيهَا ، فَمَدْخُولُهَا لَا يَقْتَضِي التَّأَخُّرَ لَا فِي الْوُقُوعِ وَلَا فِي التَّعَلُّقِ ، فَلَا مَحْذُورَ فِي إتْيَانِ الْوَاوِ هَاهُنَا أَصْلًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا ؛ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَإِنَّمَا أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ نَقْضٌ عَلَى بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ
بِالْمُحَابَاةِ فَأَدْخَلَ الْوَاوَ لِدَفْعِ هَذَا الْوَهْمِ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْوَاوُ فِيهِ لِلْعَطْفِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادَرُ .
فَإِنْ كَانَ الْمَحَلُّ صَالِحًا لِلْعَطْفِ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِالْمَسْأَلَةِ بِلَا وَاوٍ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ مُورِدَةٍ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَالِحًا لَهُ فَكَيْفَ يَصِحُّ إدْخَالُ وَاوِ الْعَطْفِ فِيمَا لَا يَصْلُحُ لِلْعَطْفِ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ تَوَهُّمِ شَيْءٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَمِنْ أَيْنَ يَنْدَفِعُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْوَاوِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَفِي كَلَامِهِ تَعْقِيدٌ ، وَتَقْدِيرُ كَلَامِهِ هَكَذَا : وَإِنْ بَاعَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ مِنْ الْوَارِثِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ : أَيْ عَيْنِ مَالِ الْمَيِّتِ حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمْ الِاسْتِخْلَاصُ بِأَدَاءِ قِيمَتِهِ .
أَمَّا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمَالِيَّةِ لَا غَيْرَ فَافْتَرَقَا : أَيْ الْمَوْلَى وَالْمَرِيضُ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ دُونَ الْوَارِثِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَذْكُرُ قَوْلَهُ وَإِنْ بَاعَ بِنُقْصَانٍ لَمْ يَجُزْ .
.
.
إلَخْ .
ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ جَعْلَ الظَّاهِرِ هَاهُنَا عَدَمَ الْوَاوِ وَبِنَاءَهُ عَلَى حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى مِثْلِ هَذَا التَّعْقِيدِ الْقَبِيحِ عُدُولٌ عَنْ سُنَنِ الصَّوَابِ وَخُرُوجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْإِنْصَافِ ، وَلَعَلَّ هَذَا أَقْبَحُ الِاحْتِمَالَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ .
ثُمَّ إنَّ فِي تَقْرِيرِهِ خَلَلًا آخَرَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَافْتَرَقَا : أَيْ الْمَوْلَى وَالْمَرِيضُ ، وَكَانَ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ : أَيْ الْعَبْدُ
وَالْمَرِيضُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ مِنْ الْمَوْلَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ دُونَ الْوَارِثِ فَيَئُولُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا ، إلَى أَنْ يُقَالَ فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمَوْلَى مِنْ الْمَوْلَى دُونَ جَوَازِ بَيْعِ الْمَرِيضِ مِنْ الْوَارِثِ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ
قَالَ ( وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى شَيْئًا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَقَلَّ جَازَ الْبَيْعُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْ كَسْبِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَلَا تُهْمَةَ فِي هَذَا الْبَيْعِ ؛ وَلِأَنَّهُ مُفِيدٌ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ وَيَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ أَخْذِ الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَذَا التَّمَكُّنُ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ تَتْبَعُ الْفَائِدَةَ ( فَإِنْ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ بَطَلَ الثَّمَنُ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي الْعَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْحَبْسُ ، فَلَوْ بَقِيَ بَعْدَ سُقُوطِهِ يَبْقَى فِي الدَّيْنِ وَلَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ عَرَضًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ وَجَازَ أَنْ يَبْقَى حَقُّهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ .
قَالَ ( وَإِنْ أَمْسَكَهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِي الْمَبِيعِ وَلِهَذَا كَانَ أَخَصَّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ ، وَجَازَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي الدَّيْنِ إذَا كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ ( وَلَوْ بَاعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ يُؤْمَرُ بِإِزَالَةِ الْمُحَابَاةِ أَوْ بِنَقْضِ الْبَيْعِ ) كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَعَلَّقَ بِهَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ .
.
قَالَ ( وَإِذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمَأْذُونَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ بَاقٍ وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ بَيْعًا وَاسْتِيفَاءً مِنْ ثَمَنِهِ ( وَمَا بَقِيَ مِنْ الدُّيُونِ يُطَالَبُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ) ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا لَزِمَ الْمَوْلَى إلَّا بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ ضَمَانًا فَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَيْهِ كَمَا كَانَ ( فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ضَمِنَ الدَّيْنَ لَا غَيْرَ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونِ لَهُمَا وَقَدْ رَكِبَتْهُمَا دُيُونٌ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِرَقَبَتِهِمَا اسْتِيفَاءً بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مُتْلِفًا حَقَّهُمْ فَلَمْ يَتَضَمَّنْ شَيْئًا .
قَالَ ( وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ ، فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ ) ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُمْ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ ، إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ وَالْبَائِعُ مُتْلِفٌ حَقَّهُمْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ وَالتَّغْيِيبِ فَيُخَيَّرُونَ فِي التَّضْمِينِ ( وَإِنْ شَاءُوا أَجَازُوا الْبَيْعَ وَأَخَذُوا الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ كَالْإِذْنِ السَّابِقِ كَمَا فِي الْمَرْهُونِ ( فَإِنْ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ثُمَّ رُدَّ عَلَى الْمَوْلَى بِعَيْبٍ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِالْقِيمَةِ وَيَكُونَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي الْعَبْدِ ) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ قَدْ زَالَ وَهُوَ الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ ، وَصَارَ كَالْغَاصِبِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ وَضَمِنَ الْقِيمَةَ ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمَالِكِ وَيَسْتَرِدَّ الْقِيمَةَ كَذَا هَذَا .
( قَوْلُهُ وَإِنْ بَاعَهُ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَغَيَّبَهُ ، فَإِنْ شَاءَ الْغُرَمَاءُ ضَمَّنُوا الْبَائِعَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُشْتَرِيَ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : إنَّمَا قَيَّدَ سَبَبَ ضَمَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِمَا ذَكَرَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّغْيِيبِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ بِمُجَرَّدِهِمَا بَلْ بِتَغْيِيبِ مَا فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَهُوَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَسْعَوْنَهُ أَوْ يَبِيعُونَهُ كَمَا يُرِيدُونَ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَفُوتُ بِالتَّسْلِيمِ وَالتَّغْيِيبِ لَا بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ا هـ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فَإِذَنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَقَطْ فَإِنَّ تَغْيِيبَ الْعَبْدِ الَّذِي فِيهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا وَقَعَ مِنْهُ دُونَ الْبَائِعِ وَلَوْلَا التَّغْيِيبُ لَأَمْكَنَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ فَيَسْتَسْعَوْنَ الْعَبْدِ أَوْ يَبِيعُونَهُ فَلَا ضَمَانَ حِينَئِذٍ عَلَى أَحَدٍ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ .
فَإِنْ قُلْت : تَغْيِيبُ ذَاكَ الْعَبْدِ وَإِنْ وَقَعَ مِنْ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ إلَّا أَنَّ فِي الْبَائِعِ أَيْضًا سَبَبِيَّةٌ لَهُ إذْ لَوْلَا بَيْعُهُ وَتَسْلِيمُهُ لَمَا غَيَّبَهُ الْمُشْتَرِي .
قُلْت : نَعَمْ ، إلَّا أَنَّ سَبَبِيَّةَ ذَلِكَ بَعِيدَةٌ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ وَمَرَّ مِرَارًا أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى أَقْرَبِ الْأَسْبَابِ فَتَأَمَّلْ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَالَ : وَلَكِنْ بَقِيَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى قَدْ رَفَعَ عَنْهُمْ الْمُؤْنَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ، كَالْوَصِيِّ إذَا بَاعَ التَّرِكَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الْغُرَمَاءِ .
وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ حَقَّهُمْ لَمْ يَنْحَصِرْ فِي الْبَيْعِ بَلْ لَهُمْ الِاسْتِسْعَاءُ وَقَدْ فَاتَ بِالْبَيْعِ ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ مُنْحَصِرٌ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فَافْتَرَقَا ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يَتَّجِهُ السُّؤَالُ
الْمَذْكُورُ عَلَى مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ وَضْعَهَا فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهَا فَلَا يَثْبُتُ لِلْغُرَمَاءِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
بَلْ يَتَعَيَّنُ لَهُمْ إذْ ذَاكَ إجَازَةُ الْبَيْعِ وَأَخْذُ الثَّمَنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي التَّضْمِينِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ مِنْهُمْ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : وَهَذَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ .
أَمَّا إذَا كَانَ أَكْثَرَ أَوْ مُسَاوِيًا فَلَا خِيَارَ لَهُمْ ا هـ .
وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ تَمَامِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانِ أَنَّهُ لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : هَذَا إذَا بَاعَهُ بِأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَأَمَّا إذَا بَاعَهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ وَقَبَضَ وَهُوَ فِي يَدِهِ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّضْمِينِ وَلَكِنْ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِمْ ا هـ .
فَإِذَا كَانَتْ مَسْأَلَتُنَا هَذِهِ فِيمَا إذَا كَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ الْمَوْلَى بِهِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَتَّجِهْ أَنْ يُقَالَ إنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى قَدْ رَفَعَ عَنْهُمْ الْمُؤْنَةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ كَانَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَالْمَوْلَى قَدْ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْهَا فَقَدْ قَصَّرَ وَتَعَدَّى فَوَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ قَطْعًا .
ثُمَّ أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمَوْلَى تَفْوِيتُهُ حَقَّ الِاسْتِسْعَاءِ الْغُرَمَاءَ بِبَيْعِهِ الْعَبْدَ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَوْلَى ضَمَانُ الدُّيُونِ بِالتَّمَامِ دُونَ ضَمَانِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَسْتَسْعُوا الْعَبْدَ فِي جَمِيعِ دُيُونِهِ لَهُمْ لَا فِي مِقْدَارِ قِيمَتِهِ فَقَطْ ، وَقَدْ فَاتَ بِالْبَيْعِ وَالتَّغْيِيبِ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ
الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعَ مَا فَوَّتَاهُ وَهُوَ جَمِيعُ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِالِاسْتِسْعَاءِ مِنْ الدُّيُونِ ، وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا الَّذِي قَالُوا بِهِ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مِقْدَارِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لَا غَيْرَ فَتَدَبَّرْ .
قَالَ ( وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ وَأَعْلَمَهُ بِالدَّيْنِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ ) لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمْ وَهُوَ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَائِدَةٌ ، فَالْأَوَّلُ تَامٌّ مُؤَخَّرٌ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ ، وَبِالْبَيْعِ تَفُوتُ هَذِهِ الْخِيرَةُ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ .
قَالُوا : تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ .
قَالَ ( فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ غَائِبًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي ) مَعْنَاهُ إذَا أَنْكَرَ الدَّيْنَ وَهَذَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْمُشْتَرِي خَصْمُهُمْ وَيَقْضِي لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى دَارًا وَوَهَبَهَا وَسَلَّمَهَا وَغَابَ ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ .
وَعَنْهُمَا مِثْلُ قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ خَصْمًا لِكُلِّ مَنْ يُنَازِعُهُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى تَتَضَمَّنُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَقَدْ قَامَ بِهِمَا فَيَكُونُ الْفَسْخُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ .
.
( قَوْلَهُ قَالُوا تَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ ، فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَوْعُ نَظَرٍ ، إذْ كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُقَالَ : وَتَأْوِيلُهُ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي بَابِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ وَمَأْذُونَيْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ وَالذَّخِيرَةِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ وَلَكِنَّ الثَّمَنَ كَانَ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ لِفَوَاتِ حَقِّهِمْ فِي الِاسْتِسْعَاءِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ دُيُونِهِمْ عَلَى الْعَبْدِ ، وَبِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ انْسِدَادُ بَابِ الرَّدِّ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ فَتَبْقَى لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ لِاسْتِسْعَاءِ بَاقِي الدُّيُونِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ رِضَا الْغُرَمَاءِ بِأَخْذِهِمْ الثَّمَنَ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الثَّمَنَ كَانُوا رَاضِينَ بِالْبَيْعِ فَيَنْسَدُّ حِينَئِذٍ بَابُ الرَّدِّ ، وَلَكِنَّ احْتِمَالَ إرَادَةِ إحْضَارِ الثَّمَنِ وَالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الثَّمَنِ بِلَفْظِ الْوُصُولِ بَاقٍ فَلَا يَنْتَهِضُ ذَلِكَ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ بَيَانًا لِانْسِدَادِ بَابِ الرَّدِّ لَهُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَكَانَ الْمَعْقُولُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي جَامِعِهِ بِقَوْلِهِ : وَتَأْوِيلُهُ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ لَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانَ لَهُمْ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ دُيُونُهُمْ ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ لَا يُمْكِنُهُمْ الِاسْتِسْعَاءُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَنْقُضُوا الْبَيْعَ ، وَإِنْ كَانَ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ لَا يَكُونُ لَهُمْ وِلَايَةُ نَقْضِ الْبَيْعِ .
إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ .
وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِعَيْنِ عِبَارَتِهِ .
وَأَمَّا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَنَقَلَهُ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ وَأَوْرَدَ النَّظَرَ عَلَى الْجَوَابِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ فِي عِبَارَتِهِ تَسَامُحٌ ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الثَّمَنِ إلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الرَّدِّ لِجَوَازِ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ لَكِنَّ لَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ فَيَبْقَى لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ وَالِاسْتِسْعَاءِ فِي الدُّيُونِ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ حَيْثُ قَبَضُوا الثَّمَنَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ وِلَايَةُ الرَّدِّ .
وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَذْهَبُ بِفَائِدَةِ قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَبَضُوا الثَّمَنَ وَرَضُوا بِهِ سَقَطَ حَقُّهُمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مُحَابَاةٌ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : أَوَّلًا فِي الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ نَظَرٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ مَا ذَكَرَ فِي ذَلِكَ الْجَوَابِ لِمَا تَمَّ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ لِوُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الثَّمَنِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِمْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ حَقُّهُمْ بِالتَّمَامِ ، وَوُصُولُ بَعْضِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا فِي نَفْيِ رَدِّهِمْ الْبَيْعَ كَمَا بَيَّنَ فِي السُّؤَالِ ، بَلْ كَانَ حَقُّ التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ لِرِضَاهُمْ بِسُقُوطِ حَقِّهِمْ .
وَأَقُولُ ثَانِيًا : يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ النَّظَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِأَنَّ فَائِدَةَ قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ حِينَئِذٍ هِيَ أَنَّ لَهُمْ أَنْ يَقُولُوا فِي صُورَةِ الْمُحَابَاةِ إنَّمَا قَبَضْنَا الثَّمَنَ عَلَى اعْتِقَادِ أَنْ لَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ ، فَإِذَا عَلِمْنَا الْمُحَابَاةَ فِيهِ لَا نَرْضَى بِهَا ، بَلْ نَرُدُّ الْبَيْعَ فَنَتْبَعُ الْعَبْدَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا يَكُنْ فِي الْبَيْعِ مُحَابَاةٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ ذَلِكَ الْعُذْرُ فَافْتَرَقَا .
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ : وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ : قَوْلُهُ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ مَعْنَاهُ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَالثَّانِي نَاقِصٌ مُعَجَّلٌ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ نَاقِصًا إذَا لَمْ يَفِ بِالدُّيُونِ ا هـ .
أَقُولُ : وَفِيهِ نَظَرٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ لَذَهَبَتْ فَائِدَةُ قَوْلِهِ فَإِنْ وَصَلَ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ وَصَلَ وَلَا مُحَابَاةَ ، وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ فِي قَوْلِهِ وَتَأْوِيلُهُ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرُدُّوا الْبَيْعَ سَوَاءٌ وَصَلَ إلَيْهِمْ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ يَصِلَ ، إذْ لَا يَبْقَى لَهُمْ حِينَئِذٍ حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ بَلْ يَتَعَيَّنُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ رَقَبَتِهِ فَلَا تُتَصَوَّرُ فَائِدَةٌ فِي الرَّدِّ فَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ الْخِيَرَةُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَعْنَى انْتِفَاءِ الْمُحَابَاةِ فِي الْبَيْعِ لَيْسَ عَيْنَ مَعْنَى وَفَاءِ الثَّمَنِ بِدُيُونِهِمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْآخَرَ أَصْلًا لِجَوَازِ أَنْ تَنْتَفِي الْمُحَابَاةُ فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ ، وَجَوَازُ أَنَّهُ يَفِي الثَّمَنُ بِدُيُونِهِمْ وَلَا تَنْتَفِي الْمُحَابَاةُ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَلَا مُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ أَنَّ الثَّمَنَ يَفِي بِدُيُونِهِمْ لَا بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا بِحَسَبِ التَّجَوُّزِ أَوْ الْكِنَايَةِ لِعَدَمِ الْعَلَاقَةِ الْمُصَحِّحَةِ بَيْنَهُمَا
قَالَ ( وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَخْبَرَ بِالْإِذْنِ فَالْإِخْبَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَحْجُورَ يَجْرِي عَلَى مُوجِبِ حَجْرِهِ وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ كَيْ لَا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ ، ( إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( فَإِنْ حَضَرَ فَقَالَ هُوَ مَأْذُونٌ بِيعَ فِي الدَّيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ الدَّيْنُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ( وَإِنْ قَالَ هُوَ مَحْجُورٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَدِمَ مِصْرًا وَقَالَ أَنَا عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَى وَبَاعَ لَزِمَهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ ، إنْ أَخْبَرَ بِالْإِذْنِ فَالْإِخْبَارُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : أَيْ فَتَصَرُّفُهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَقَالَ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ .
وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَأَنْ لَا يُقْبَلَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ .
وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى ، وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً .
وَأَمَّا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ فَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ إثْرَ ذَلِكَ .
أَقُولُ : تَحْرِيرُ هَذَا الْمَحِلِّ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ لَا يَخْلُو عَنْ الِاخْتِلَالِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُمَا فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ وَهَذَا إقْرَارٌ عَلَى الْمَوْلَى غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي أَحَدِ شِقَّيْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يُخْبِرْ بِالْإِذْنِ ، إذْ لَا إخْبَارَ مِنْ الْعَبْدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا إقْرَارَ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا .
وَأَمَّا جَعْلُ الْإِخْبَارِ فِي قَوْلِهِمَا وَالثَّانِي أَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَةِ أَعَمُّ مِنْ الْإِخْبَارِ الْحَقِيقِيِّ وَالْحُكْمِيِّ ، وَادِّعَاءُ أَنَّ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ إخْبَارًا حُكْمِيًّا عَنْ كَوْنِهِ مَأْذُونًا وَهُوَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمَأْذُونِ فَتَمَحُّلٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى .
فَالْأَوْلَى هَاهُنَا تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي ، فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ ، وَذَكَرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَجْهَ قِيَاسٍ .
وَوَجْهَ اسْتِحْسَانٍ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ حَيْثُ قَالَ : وَالْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْبِرَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ فَيُصَدَّقُ اسْتِحْسَانًا عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ دَعْوَى مِنْهُ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّاسَ تَعَامَلُوا ذَلِكَ ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ يُخَصُّ بِهَا الْأَثَرُ وَيُتْرَكُ بِهَا الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرُورَةٌ وَبَلْوَى فَإِنَّ الْإِذْنَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِصِحَّةِ تَصَرُّفِهِ ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عِنْدَ كُلِّ عَقْدٍ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا ضَاقَ عَلَى النَّاسِ أَمْرُهُ اتَّسَعَ حُكْمُهُ ، وَمَا عَمَّتْ بَلِيَّتُهُ سَقَطَتْ قَضِيَّتُهُ .
وَثَانِيهِمَا أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَلَا يُخْبِرَ بِشَيْءٍ ، وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَنْ لَا يَثْبُتُ الْإِذْنُ ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ مُحْتَمَلٌ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مَأْذُونٌ ؛ لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصَّلَاحِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يَثْبُتُ الْجَوَازُ إلَّا بِالْإِذْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ ، وَالْعَمَلُ بِالظَّاهِرِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ دَفْعًا لِلشَّرَرِ عَنْ النَّاسِ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ خَبَرُ الْعَدْلِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ لِلضَّرُورَةِ أَوْ الْبَلْوَى ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ وَالْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهَا خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ حَتَّى كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ لِاسْتِيفَاءِ دُيُونِهِمْ إلَّا أَنْ يَفْدِيَ الْمَوْلَى
دُيُونَهُمْ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ بِهِ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ عَلَى أَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِيهَا لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهَا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ لَهُ وَلُزُومِ كُلِّ شَيْءٍ فِي التِّجَارَةِ لِئَلَّا يَضِيقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّقَبَةِ : أَيْ فِي حَقِّ بَيْعِ الرَّقَبَةِ أَنْ يُقَالَ : لِأَنَّ بَيْعَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ مِنْ لَوَازِمِ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَذِنَ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَلَحِقَهُمَا الدَّيْنُ لَا يُبَاعَانِ وَهُمَا مَأْذُونٌ لَهُمَا كَمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا .
ا هـ .
فَصْلٌ ( وَإِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصِبَاهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ حَتَّى يَمْلِكَ الْوَلِيُّ التَّصَرُّفَ عَلَيْهِ وَيَمْلِكَ حَجْرَهُ فَلَا يَكُونُ وَالِيًا لِلْمُنَافَاةِ وَصَارَ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ بِالْوَلِيِّ ، وَكَذَا الْوَصِيَّةُ عَلَى أَصْلِهِ فَتَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ إلَى تَنْفِيذِهِ مِنْهُ .
أَمَّا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَيَتَوَلَّاهُ الْوَلِيُّ فَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا .
وَلَنَا أَنَّ التَّصَرُّفَ الْمَشْرُوعَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَنْ وِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَوَجَبَ تَنْفِيذُهُ عَلَى مَا عُرِفَ تَقْرِيرُهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ .
وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ الْهِدَايَةِ لَا لِذَاتِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ نَظَرًا إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ ، وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ وَاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ ضَارٌّ مَحْضٌ فَلَمْ يُؤَهَّلْ لَهُ .
وَالنَّافِعُ الْمَحْضُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يُؤَهَّلُ لَهُ قَبْلَ الْإِذْنِ ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَيُجْعَلُ أَهْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَا قَبْلَهُ ، لَكِنْ قَبْلَ الْإِذْنِ يَكُونُ مَوْقُوفًا مِنْهُ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ لِاحْتِمَالِ وُقُوعِهِ نَظَرًا ، وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ ، وَذِكْرُ الْوَلِيِّ فِي الْكِتَابِ يَنْتَظِمُ الْأَبَ وَالْجَدَّ عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْوَصِيَّ وَالْقَاضِي وَالْوَالِي ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الشُّرَطِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ تَقْلِيدُ الْقُضَاةِ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَعْقِلَ كَوْنَ الْبَيْعِ سَالِبًا لِلْمِلْكِ جَالِبًا لِلرِّبْحِ ، وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فَكُّ
الْحَجْرِ وَالْمَأْذُونُ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ عَبْدًا كَانَ أَوْ صَبِيًّا ، فَلَا يَتَقَيَّدُ تَصَرُّفُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ .
( فَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ إذْنِ الْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ إذْنِ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا أَذِنَ وَلِيُّ الصَّبِيِّ لِلصَّبِيِّ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ ) أَقُولُ : كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ : فَهُوَ فِي التِّجَارَةِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لِيُطَابِقَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي التِّجَارَةِ ، وَلِيَعُمَّ غَيْرَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ سَائِرِ أَسْبَابِ التِّجَارَاتِ لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي سَائِرِهَا أَيْضًا عِنْدَنَا ، وَكَأَنَّهُ قَصَدَ الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِكَوْنِهِمَا مِنْ أُصُولِ أَسْبَابِ التِّجَارَاتِ ، إلَّا أَنَّهُ آثَرَ اللَّفْظَ الْكَثِيرَ عَلَى اللَّفْظِ الْقَلِيلِ مَعَ كَوْنِ الثَّانِي أَعَمَّ وَأَظْهَرَ فِي إفَادَةِ تَمَامِ الْمُرَادِ .
وَهَذَا مَا فِي عِبَارَةِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ قَصَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى حَيْثُ قَصَرَ فِي الْبِدَايَةِ عَلَى قَوْلِهِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَكَانَ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ ، وَأَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الْهِدَايَةِ أَيْضًا مَعَ ظُهُورِ مَزِيَّةِ مَا فِي عِبَارَةِ الْمُخْتَصَرِ ؛ لِأَنَّ تَعَقُّلَهُ الْبَيْعَ فَقَطْ غَيْرُ كَافٍ فِي كَوْنِهِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي بَابِ التِّجَارَةِ مُطْلَقًا ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ الشِّرَاءَ أَيْضًا بِأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ لِلْمِلْكِ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ لَهُ ، وَيَعْرِفُ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنْ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ( قَوْلُهُ وَالصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ الْهِدَايَةِ لَا لِذَاتِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ نَظَرًا إلَى إذْنِ الْوَلِيِّ ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ لِصَبَاهُ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ .
تَقْرِيرُهُ أَنَّ الصِّبَا سَبَبُ الْحَجْرِ لِعَدَمِ هِدَايَةِ الصَّبِيِّ فِي أُمُورِ
التِّجَارَةِ لَا لِذَاتِهِ فَصَارَ هُوَ كَالْعَبْدِ فِي كَوْنِ حَجْرِهِ لِغَيْرِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ زَالَ ذَلِكَ الْغَيْرُ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى ثُبُوتِ هِدَايَتِهِ فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَادِيًا فِيهَا لَمَا أَذِنَ لَهُ الْوَلِيُّ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ كَمَا لَوْ أَذِنَ الْمَوْلَى لِلْعَبْدِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : يَرُدُّ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَنَفَذَ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ إذَا عَلِمَ هِدَايَتَهُ فِي أُمُورِ التِّجَارَةِ بِدَلِيلٍ مِنْ الدَّلَائِلِ ، غَيْرَ إذْنِ الْوَلِيِّ لِحُصُولِ الْعِلْمِ إذْ ذَاكَ أَيْضًا بِزَوَالِ ذَلِكَ الْغَيْرِ الَّذِي حُجِرَ الصَّبِيُّ بِسَبَبِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْهِدَايَةِ ، مَعَ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ الْكُتُبِ عَدَمُ نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ أَصْلًا فِيمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا فَتَأَمَّلْ .
( قَوْلَهُ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقِينَ وَاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَوْلُهُ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ الْهِدَايَةُ بِالْإِذْنِ لَمْ يَبْقَ الْوَلِيُّ وَلِيًّا .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ بَقَاءَ وِلَايَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ لِلنَّظَرِ لَهُ ، فَإِنَّ الصِّبَا مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ بِالْحَدِيثِ ، وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ : أَيْ بِمُبَاشَرَةِ وَلِيِّهِ لَهُ ، وَبِمُبَاشَرَةِ نَفْسِهِ ، فَكَانَ مَرْحَمَةً فِي حَقِّهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، وَلِاحْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ فَإِنَّ حَالَ الصَّبِيِّ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَبَدَّلَ مِنْ الْهِدَايَةِ إلَى غَيْرِهَا فَأَبْقَيْنَا وِلَايَةَ الْوَلِيِّ لِيَتَدَارَكَ ذَلِكَ ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ شَيْءٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي التَّصَرُّفِ الدَّائِرِ
بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ الَّذِي هُوَ نَافِعٌ مَحْضٌ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ يَنْفُذُ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ أَيْضًا .
وَتَصَرُّفُهُ الَّذِي هُوَ ضَارٌّ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَنْفُذُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَتَوَقَّفُ نَفَاذُهُ عَلَى إذْنِ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا تَصَرُّفُهُ الدَّائِرُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَكَيْفَ يَكُونُ فِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ نَفْعٌ مَحْضٌ ؟ فَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ وَفِي اعْتِبَارِ كَلَامِهِ فِي التَّصَرُّفِ نَظَرٌ لَهُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا ؛ فَلِأَنَّ مُقْتَضَى تَقْرِيرِهِ الْمَزْبُورِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَاحْتِمَالُ تَبَدُّلِ الْحَالِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ فِي مُقَدِّمَاتِ تَقْرِيرِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَصْلَحَةِ بِطَرِيقَيْنِ ، وَدَاخِلٌ مَعَهُ فِي حَيِّزِ قَوْلِهِ لِنَظَرِ الصَّبِيِّ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ تَدَارُكَ احْتِمَالِ تَبَدُّلِ الْحَالِ أَيْضًا نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ فَلَا وَجْهَ لِجَعْلِهِ مُقَابِلًا لَهُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَبَقَاءُ وِلَايَتِهِ إلَخْ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَلِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ إلَخْ .
وَثَانِيهِمَا : أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَوْ صَارَ الصَّبِيُّ وَلِيًّا لِلتَّصَرُّفِ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ لَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْقَى وَلِيُّهُ وَلِيًّا فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، فَصَاحِبُ النِّهَايَةِ ذَكَرَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ اخْتَارَ الثَّانِي كَمَا تَرَى ، وَكَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ اخْتَارُوا الْأَوَّلَ فَعَلَيْك بِالِاخْتِيَارِ ثُمَّ الِاخْتِيَارِ .
( قَوْلُهُ وَالتَّشْبِيهُ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ يُفِيدُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : تَشْبِيهُ الصَّبِيِّ بِالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إنَّمَا يُفِيدُ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الْعَبْدِ عَامَّةً فِي حَقِّهِ إنْ كَانَ التَّشْبِيهُ عَلَى الْعُمُومِ ، أَوْ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَأَمَّا إذَا عَيَّنَ مَا فِيهِ الْمُشَابَهَةُ كَمَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ فَهُوَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ، فَإِفَادَةُ الْمَأْذُونِ التَّعْمِيمَ مَمْنُوعَةٌ جِدًّا فَلْيُتَأَمَّلْ .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَعْمِيمُ قَوْلِهِ إنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ مَعَ التَّخَلُّفِ فِي بَعْضِهَا وَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى مَحْجُورٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَالْوَلِيُّ لَيْسَ بِمَحْجُورٍ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَالرِّوَايَةُ عَنْ الْمَبْسُوطِ .
قُلْت : الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَا ذَكَرْته مِنْ الْحَجَرِ وَعَدَمِهِ فَهُوَ فِي انْحِجَارِ الْمَوْلَى وَعَدَمِ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ فِي الْمَالِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ التَّعْمِيمِ فِي تَصَرُّفِ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ وَتَصَرُّفِ الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ فَلَا يَرُدُّ نَقْضًا لِاخْتِلَافِ التَّصَرُّفَيْنِ .
وَالثَّانِي هُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الصَّبِيِّ سَوَاءً كَانَ عَلَى الصَّبِيِّ دَيْنٌ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ وَيَصِيرُ الْمَوْلَى مِنْ التَّصَرُّفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إذَا كَانَ الدَّيْنُ مُسْتَغْرِقًا ا هـ كَلَامَهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي ذِكْرِ ذَاكَ السُّؤَالِ وَوَجْهَيْ الْجَوَابِ وَلَكِنْ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِجْمَالِ .
أَقُولُ : الْوَجْهُ الثَّانِي لَا يُصْلَحُ جَوَابًا عَنْ السُّؤَالِ
الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْوَجْهِ بَيَانُ عِلَّةِ انْحِجَارِ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ وَعَدَمُ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُفِيدُ اسْتِقَامَةَ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ إنَّ مَا ثَبَتَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ بَلْ يُؤَيِّدُ عَدَمَ اسْتِقَامَتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَمَدَارُ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ عَلَى التَّعْمِيمِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا غَيْرَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : لَعَلَّ خُلَاصَةَ الْجَوَابِ الثَّانِي مَنْعُ دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى الْعُمُومِ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِسَدِيدٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ دَلَالَةَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ قَوْلُهُ إنَّ مَا يَثْبُتُ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْأَحْكَامِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ عَلَى الْعُمُومِ ظَاهِرَةٌ لَا تَقْبَلُ الْمَنْعَ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " مَا " مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَقَدْ تَأَكَّدَ بَيَانُهَا بِقَوْلِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِاللَّامِ أَيْضًا مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَالِاسْتِغْرَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ كَمَا تَقَرَّرَ هَذَا أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي الْجَوَابِ الثَّانِي أَصْلًا عَلَى مَنْعِ دَلَالَةِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا تَعَرُّضَ لَهُ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ، وَإِنَّمَا مَضْمُونُهُ مُجَرَّدُ بَيَانِ الْعِلَّةِ فِي انْحِجَارِ الْمَوْلَى عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْعَبْدِ وَعَدَمِ انْحِجَارِ الْوَلِيِّ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ فَحَمْلُ ذَلِكَ الْجَوَابِ عَلَى مَنْعِ دَلَالَةِ الْكَلَامِ مِمَّا لَا سَبِيلَ إلَيْهِ أَصْلًا
وَيَصِيرُ مَأْذُونًا بِالسُّكُوتِ كَمَا فِي الْعَبْدِ ، .
وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ ، وَكَذَا بِمَوْرُوثِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ .
( قَوْلُهُ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبِهِ ) أُورِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ ، وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ ؟ أُجِيبُ عَنْهُ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِأَنَّ الْوَلِيَّ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ مِنْ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَا يَثْبُتُ عَلَى الْغَيْرِ بِقَوْلِهِ فَهُوَ شَهَادَةٌ ، وَإِقْرَارُ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ قَوْلٌ عَلَى الْغَيْرِ فَيَكُونُ شَهَادَةً وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ لَا تَكُونُ حُجَّةً .
وَأَمَّا قَوْلُ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْإِذْنِ فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا لَا تَتِمُّ التِّجَارَةُ إلَّا بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَلِمُوا أَنَّ إقْرَارَهُ لَا يَصِحُّ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ مُعَامَلَتِهِ ، فَإِنَّ مَنْ يُعَامِلُهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدِينَ فَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعَ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ بَيَانُ عِلِّيَّةِ عَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ وَصِحَّةِ إقْرَارِ الصَّبِيِّ بِنَفْسِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ كَمَا تَرَى فِي انْدِفَاعِ الْإِيرَادِ بِأَنَّ الْوِلَايَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ ، وَهَاهُنَا لَمْ تَتَحَقَّقْ الْوِلَايَةُ الْقَائِمَةُ فَكَيْفَ تَتَحَقَّقُ الْوِلَايَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ ؟ وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ تَنَبَّهَ لِمَا فِي الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ حَيْثُ لَمْ يَذْكُرْهُ بَلْ قَالَ بَدَلَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَفَادَهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالْوَلِيُّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا فَيَمْلِكُ أَيْضًا نَفْسَ التِّجَارَةِ وَتَوَابِعَهَا الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا
إقْرَارُهُ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ إقْرَارَ الْوَلِيِّ عَلَى مَالِ الصَّبِيِّ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ بَلْ لَيْسَ مِمَّا يَصِحُّ أَصْلًا فَأَنَّى يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا إقْرَارُ الصَّبِيِّ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ فَمُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا يُجْدِي هَذَا شَيْئًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْهُ أَنْ يُمَلِّكَ الْوَلِيُّ الْإِذْنَ لِلصَّبِيِّ بِالْإِقْرَارِ وَلَا كَلَامَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ تَمَلُّكَ الصَّبِيِّ الْإِقْرَارَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ وِلَايَةٌ مُتَعَدِّيَةٌ مِنْ الْوَلِيِّ إلَى الصَّبِيِّ ، وَالْوِلَايَةُ الْمُتَعَدِّيَةُ فَرْعُ الْوِلَايَةِ الْقَائِمَةِ وَالْوَلِيُّ لَا يَمْلِكُ نَفْسَ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّبِيِّ بِالْإِجْمَاعِ فَلَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ قَائِمَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِ الْإِقْرَارِ عَلَى الصَّبِيِّ فَكَيْفَ تَتَعَدَّى مِنْهُ الْوِلَايَةُ إلَى الصَّبِيِّ فِي حَقِّ ذَلِكَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ أَنْ يَمْلِكَ الْوَلِيُّ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا فِي أَثْنَاءِ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ يَصِيرُ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ .
ثُمَّ أَقُولُ : لَعَلَّ الصَّوَابَ فِي الْجَوَابِ مَنْعُ كَوْنِ وِلَايَةِ الصَّبِيِّ وِلَايَةً مُتَعَدِّيَةً ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الصَّبِيَّ يَتَصَرَّفُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَالصِّبَا لَيْسَ سَبَبَ الْحَجْرِ لِذَاتِهِ بَلْ لِعَدَمِ هِدَايَتِهِ ، وَإِذْنُ الْوَلِيِّ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى زَوَالِ ذَلِكَ الْمَانِعِ كَمَا كَانَ الْبُلُوغُ دَلِيلًا عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ يَكْتَسِبُ الْوِلَايَةَ مِنْ إذْنِهِ ، إلَّا أَنَّ الصِّبَا لَمَّا كَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَرْحَمَةِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يُؤَهَّلْ الصَّبِيُّ أَصْلًا لِمَا هُوَ ضَارٌّ مَحْضٌ وَأُهِّلَ لِمَا هُوَ نَفْعٌ مَحْضٌ قَبْلَ الْإِذْنِ وَبَعْدَهُ ، وَأُهِّلَ لِمَا هُوَ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ بَعْدَ الْإِذْنِ فَقَطْ ، وَالْإِقْرَارُ لَمَّا كَانَ مِنْ
تَوَابِعِ التِّجَارَةِ دَارَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ ، إذْ مَنْ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ يَحْتَرِزُ النَّاسُ عَنْ مُعَامَلَتِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَأُهِّلَ الصَّبِيُّ لَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ وَكَانَتْ وِلَايَتُهُ عَلَيْهِ ذَاتِيَّةً لَا مُتَعَدِّيَةً مِنْ الْوَلِيِّ ، فَتَبَصَّرْ فَإِنَّ هَذَا تَوْجِيهٌ حَسَنٌ وَجَوَابٌ شَافٍ تَنْحَسِمُ بِهِ مَادَّةُ الْإِشْكَالِ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَلَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَ عَبْدِهِ وَلَا كِتَابَتِهِ كَمَا فِي الْعَبْدِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ يَصِيرُ مَأْذُونًا بِإِذْنِ الْأَبِ وَالْجَدِّ وَالْوَصِيِّ دُونَ غَيْرِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّبِيِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْغَصْبِ الْغَصْبُ فِي اللُّغَةِ : أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِيهِ وَفِي الشَّرِيعَةِ : أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ .
حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَصْدِهِ وَلَا إثْمَ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ .
( كِتَابُ الْغَصْبِ ) إيرَادُ الْغَصْبِ بَعْدَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ مَآلًا حَتَّى أَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ لَمَّا صَحَّ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا صَحَّ بِدَيْنِ الْغَصْبِ ، وَلَمْ يَصِحَّ بِدِينِ الْمَهْرِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ مِنْ التِّجَارَةِ دُونَ الثَّانِي فَكَانَ ذِكْرُ النَّوْعِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ مُنَاسِبًا .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمَغْصُوبَ مَا دَامَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ مَالِكًا لِرَقَبَتِهِ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِرَقَبَةِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَإِنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ ، فَذَكَر أَحَدَ الْمُتَجَانِسَيْنِ مُتَّصِلًا بِالْآخَرِ مِنْ الْمُنَاسَبَةِ إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ كَوْنَ الْغَصْبِ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ مَآلًا إنَّمَا يُفِيدُ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْغَصْبِ وَبَيْنَ جِنْسِ التِّجَارَةِ لَا بَيْنَ الْغَصْبِ وَبَيْنَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ قَطُّ بَلْ هُوَ فَكُّ الْحَجْرِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عِنْدَنَا عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْمَأْذُونِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ مَسَائِلُ نَفْسِ الْإِذْنِ لَا مَسَائِلُ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ .
وَالثَّانِي أَنَّ مُنَاسَبَةَ ذِكْرِ النَّوْعِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ مُتَحَقِّقَةً فِي سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ أَيْضًا فَيَنْتَقِضُ ذَاكَ الْوَجْهُ بِهَا طَرْدًا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا بِنَوْعِ عِنَايَةٍ : أَمَّا عَنْ الْأَوَّلِ فَبِأَنْ يُقَالُ : إنَّ الْإِذْنَ نَفْسَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِجِنْسِ التِّجَارَةِ وَمَخْصُوصٌ بِهِ فَكَانَ لِلْغَصْبِ مُنَاسَبَةٌ لِلْإِذْنِ نَفْسِهِ أَيْضًا
بِوَاسِطَةِ تَعَلُّقِهِ بِجِنْسِ التِّجَارَةِ .
وَأَمَّا عَنْ الثَّانِي فَبِأَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ لُزُومِ الِاطِّرَادِ فِي وُجُوهِ الْمُنَاسِبَاتِ بَيْنَ كُتُبِ هَذَا الْفَنِّ .
وَيُقَالُ : إنَّ هَاتِيك الْوُجُوهِ مُصَحِّحَاتٌ لَا مُرَجِّحَاتٌ أَلْبَتَّةَ فَلَا ضَيْرَ فِي تَحَقُّقِهَا فِي غَيْرِ مَا سَبَقَتْ لَهُ أَيْضًا .
ثُمَّ إنَّ الْأَظْهَرَ فِي وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ : وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ عِنْدِي أَنَّ الْمَأْذُونَ يَتَصَرَّفُ فِي الشَّيْءِ بِالْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ وَالْغَاصِبَ يَتَصَرَّفُ لَا بِإِذْنٍ شَرْعِيٍّ فَكَانَ بَيْنُهُمَا مُنَاسَبَةُ الْمُقَابَلَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدَّمَ كِتَابَ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ وَالْغَصْبُ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ ا هـ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَاسِنَ الْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامِ لَا مِنْ حَيْثُ الْإِقْدَامِ كَمَا فِي الْجِنَايَاتِ وَالدِّيَاتِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ بَيَانِ كِتَابِ الْغَصْبِ هُوَ بَيَانُ حُكْمِهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْغَصْبِ شَيْءٌ مِنْ الْإِبَاحَةِ فَضْلًا عَنْ الْحُسْنِ وَالطَّاعَةِ بَلْ هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ وَظُلْمٌ صِرْفٌ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ( قَوْلُهُ وَفِي الشَّرِيعَةِ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ ) أَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ قَيْدَانِ : أَحَدُهُمَا قَيْدُ أَوْ يُقْصِرَ يَدَهُ بِأَنْ يُقَالَ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ أَوْ يُقْصِرَ يَدَهُ لِئَلَّا يَخْرُجُ عَلَى تَعْرِيفِ الْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ مَا أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِ غَيْرِ الْمَالِكِ ، كَمَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ مِنْ يَدِ الْمُرْتَهِنِ أَوْ مِنْ يَدِ الْمُودَعِ فَإِنَّ الْغَاصِبَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَإِنْ لَمْ يُزِلْ يَدَ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْغَصْبِ وَإِزَالَةِ فَرْعِ تَحَقُّقِهَا إلَّا أَنَّهُ قَصَّرَ يَدَهُ عَنْ مَالِهِ فِي هَاتِيك الصُّوَرِ أَيْضًا .
وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : الْغَصْبُ شَرْعًا
أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَ الْمَالِكِ إنْ كَانَ فِي يَدِهِ ، أَوْ يُقْصِرُ يَدَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ا هـ .
وَهَكَذَا قَالَ فِي الْكَافِي أَيْضًا ، وَثَانِيهِمَا قَيْدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْبَدَائِعِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي تَعْرِيفِ الْغَصْبِ شَرِيعَةُ السَّرِقَةِ ، فَإِنَّ الِامْتِيَازَ بَيْنَ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ كَانَ الْغَصْبُ عَلَى سَبِيلِ الْجِهَارِ وَالسَّرِقَةُ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ مَعَ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَهُمَا فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَ لِتَعْرِيفِ الْغَصْبِ شَرِيعَةً فِي الْكِتَابِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَدْرَ الشَّرِيعَةِ قَدْ تَنَبَّهَ لِلُّزُومِ زِيَادَةِ الْقَيْدِ الثَّانِي عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ : ثُمَّ لَا بُدَّ أَنْ يُزَادَ عَلَى هَذَا التَّعْرِيفِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لَتَخْرُجَ السَّرِقَةُ ا هـ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قُلْت : أَلَيْسَ يَصْدُقُ الْحَدُّ الْمَذْكُورُ عَلَى السَّرِقَةِ ؟ قُلْت : نَعَمْ ، إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ خُصُوصِيَّةً بِهَا كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ فَدَخَلَ مَسَائِلَهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِي الْحُدُودِ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي دُخُولَهَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا فِي الْغَصْبِ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ غَصْبٌ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْفُضُولِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ خُصُوصِيَّةٍ بِهَا صَارَتْ مِنْ مَسَائِلِهَا ، وَمَنْ ذَهَبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الدَّقِيقَةُ تَصَدَّى لِإِخْرَاجِهَا عَلَى الْحَدِّ الْمَذْكُورِ بِزِيَادَةِ قَوْلِهِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ ، وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَنْهُ بَعْضُ أَفْرَادِ الْغَصْبِ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ أَنَّ السَّرِقَةَ بِخُصُوصِيَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ دَاخِلَةٌ فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ ،
إذْ لَا مَنْعَ لِشَيْءٍ مِنْ خُصُوصِيَّتِهَا عَنْ صِدْقِ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ خُصُوصِيَّتُهَا مَانِعَةً عِنْدَ صِدْقِ تَعْرِيفِ الْغَصْبِ عَلَيْهَا لَوْ زِيدَ عَلَى التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ قَيْدٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَوْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ ، فَإِنَّ مِنْ خُصُوصِيَّتِهَا أَنْ تَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَيْدَ عَلَى سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ أَوْ لَا عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ يُنَافِي الصِّدْقَ عَلَى مَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ السَّرِقَةُ بِخُصُوصِيَّتِهَا الَّتِي كَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الْحَدِّ دَاخِلَةً فِي التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ التَّعْرِيفُ صَالِحًا لَأَنْ يَكُونَ حَدًّا لِلْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تَكُونَ السَّرِقَةُ بِخُصُوصِيَّتِهَا غَصْبًا شَرْعِيًّا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَا مَحَالَةَ لِلْقَطْعِ بِتَخَالُفِ حُكْمَيْ السَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ فِي الشَّرْعِ فَلَغَا قَوْلُهُ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي دُخُولَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِمَا بِالْغَصْبِ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ كَالشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ غَصْبٌ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي بَابِ الْفُضُولِيِّ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ لَيْسَ بِغَصْبٍ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَصِيرُ غَصْبًا أَخْذُ الْمُشْتَرِي مِنْ يَدِ الْفُضُولِيِّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِبَيْعٍ جَزْمًا وَلَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا الْمَذْكُورُ فِيهِ نَفْسُ الشِّرَاءِ مِنْ الْفُضُولِيِّ فَلَا صِحَّةَ فِي التَّمْثِيلِ وَلَا فِي التَّعْلِيلِ .
وَالثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ فِي قَوْلِهِ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهُ حِينَئِذٍ يُخْرِجُ عَنْهُ بَعْضَ أَفْرَادِ الْغَصْبِ كَأَخْذِ مَالٍ غَيْرِ مُحَرَّزٍ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ غَيْرَ مُحَرَّزً كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ
الْخُفْيَةِ ، فَإِنَّ عَدَمَ الْإِحْرَازِ يُنَافِي الِاخْتِفَاءَ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ فِي فَصْلِ الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ مِنْ كِتَابِ السَّرِقَةِ : الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ ا هـ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ غَيَّرَ التَّعْرِيفَ الْمَذْكُورَ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَدَلَ قَوْلِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ : بِلَا إذْنِ مَنْ لَهُ الْإِذْنُ .
وَقَالَ فِي شَرْحِهِ : وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِلَا إذْنِ مَالِكِهِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَأْخُوذِ مِلْكًا لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَدَائِعِ ا هـ .
أَقُولُ : وَفِيهِ أَيْضًا خَلَلٌ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا تَقَرَّرَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَقْفِ فَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ الْمَوْقُوفُ مَمْلُوكًا فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ إنَّ الْمَوْقُوفَ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ أَصْلًا ، وَلَئِنْ سَلِمَ تَمَامُ ذَلِكَ فَكَوْنُ الْمَوْقُوفِ مَضْمُونًا لَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَغْصُوبًا شَرْعِيًّا ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لَيْسَ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ بِالْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ ، بَلْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ أَيْضًا بِنَوْعٍ مِنْ التَّعَدِّي وَالْجِنَايَةِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ كَوَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَثَمَرَةِ الْبُسْتَانِ الْمَغْصُوبِ لَيْسَ بِمَغْصُوبَةٍ عِنْدَنَا شَرْعًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ يَدَ الْمَالِكِ كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَيْهَا حَتَّى يُزِيلَهَا الْغَاصِبُ ، بَلْ هِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ إنْ هَلَكَتْ لَا يَضْمَنُهَا عِنْدَنَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ ، مَعَ أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى
فِيهَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً أَيْضًا وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ ، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَ رَجُلٍ خَطَأً فِي يَدِ مَالِكِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ بِلَا خِلَافٍ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِغَصْبٍ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَحَدٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَرْقٌ بَيْنَ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَضَمَانِ الْإِتْلَافِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ ، فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ تَحَقُّقُ حَقِيقَةِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ فِي إتْلَافِ الْمَوْقُوفِ حَتَّى يُرَدَّ بِهِ النَّقْضُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ثِقَاتُ الْمَشَايِخِ فِي تَعْرِيفِ الْغَصْبِ فَيُحْتَاجُ إلَى تَغْيِيرِهِ ؟ ( قَوْلُهُ حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ الْعَبْدِ وَحَمْلُ الدَّابَّةِ غَصْبًا دُونَ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِخْدَامِ وَالْحَمْلِ أَثْبَتَ يَدَ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ ، وَمِنْ ضَرُورَاتِهِ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهُ فَتَحَقَّقَ الْغَصْبُ .
بِخِلَافِ الْجُلُوسِ عَلَى الْبِسَاطِ ؛ لِأَنَّ الْبَسْطَ فِعْلُ الْمَالِكِ وَقَدْ بَقِيَ أَثَرُ فِعْلِهِ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَمَا بَقِيَ أَثَرُ فِعْلِهِ تَبْقَى يَدُهُ ، فَلَمْ يُوجَدَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَصْبُ ، كَذَا قَالُوا .
قَالَ ابْنُ الْعِزِّ : وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مُؤَاخَذَةٌ لَفْظِيَّةٌ ، وَهِيَ فِي قَوْلِهِ وَحَمْلِ الدَّابَّةِ : يَعْنِي وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا وَحَقُّهُ أَنْ يَقُولَ وَتَحْمِيلُ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ حَمَلَ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى اثْنَيْنِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إلَى وَاحِدٍ وَإِلَى آخَرَ بِحَرْفِ الْجَرِّ ، تَقُولُ حَمَلَتْ الْمَتَاعَ عَلَى الدَّابَّةِ فَيَصِحُّ إضَافَةُ الْمَصْدَرِ مِنْهُ إلَى الْمَتَاعِ لَا إلَى الدَّابَّةِ فَتَقُولُ : حَمْلُ الْمَتَاعِ وَلَا تَقُولُ حَمْلُ الدَّابَّةِ ، إلَّا أَنْ يُضَعَّفَ الْفِعْلُ فَيَتَعَدَّى إلَى اثْنَيْنِ بِنَفْسِهِ فَتَقُولُ : حَمَّلْت الدَّابَّةَ الْمَتَاعَ ، فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ إضَافَةُ مَصْدَرِهِ إلَى الدَّابَّةِ فَتَقُولُ تَحْمِيلُ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّحْمِيلَ مَصْدَرُ حَمَّلَ الْمُضَعَّفُ لِلتَّعْدِيَةِ ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
ظَاهِرٌ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي عَنْ هَذَا غَيَّرَ عِبَارَةَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا فَقَالَ : حَتَّى كَانَ اسْتِخْدَامُ عَبْدِ الْغَيْرِ وَالْحَمْلُ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ غَصْبًا ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ تَوْجِيهُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا بِمَا وَجَّهَ بِهِ الْفَاضِلُ الشَّرِيفُ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ قَوْلَ الْعَلَّامَةِ الْكَاكِيِّ افْتِخَارًا بِمُوَاظَبَتِهَا حَيْثُ قَالَ : وَالْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا : أَيْ عَلَى الْعِبَادَةِ ، إلَّا أَنَّهُ نَزَعَ الْخَافِضَ وَعَدَّى الْمَصْدَرَ بِالْإِيصَالِ ا هـ .
وَقَصَدَ بِهِ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ الْمُحَقِّقِ التَّفْتَازَانِيِّ هُنَاكَ ، وَفِي تَعْدِيَةِ الْمُوَاظَبَةِ بِنَفْسِهَا نَظَرٌ ، وَالصَّوَابُ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا ا هـ تَأَمَّلْ ( قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ مَعَ الْعِلْمِ فَحُكْمُهُ الْمَأْثَمُ وَالْمَغْرَمُ ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَالضَّمَانُ ) أَقُولُ : هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا هَلَكَ الْمَغْصُوبُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ فَحُكْمُهُ رَدُّ الْعَيْنِ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ بِهَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ حُكْمِهِ الْكُلِّيِّ دُونَ حُكْمِهِ الْخَاصِّ بِصُورَةِ الْهَلَاكِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَبْنِيَ كَلَامَهُ هُنَا عَلَى مَا قِيلَ إنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ لِلْغَصْبِ مُطْلَقًا هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ كَمَا سَيَجِيءُ ذِكْرُهُ ، وَلَكِنَّهُ قَوْلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ وَصَرَّحُوا بِهِ فِي الشُّرُوحِ ثُمَّ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمِثْلِ الْمُصَنِّفِ بِنَاءُ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ
.
قَالَ ( وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ فَكَانَ أَدْفَعَ لِلضَّرَرِ .
قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ ) وَهَذَا ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَوْمَ الْغَصْبِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَوْمَ الِانْقِطَاعِ ) لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاجِبَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ .
وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الِانْقِطَاعِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّقْلَ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ ، وَلِهَذَا لَوْ صَبَرَ إلَى أَنْ يُوجَدَ جِنْسُهُ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ كَمَا وُجِدَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ .
.
( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمِثْلَ أَعْدَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ : لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مِثْلًا مِثْلُ الْحِنْطَةِ جِنْسًا ، وَمَالِيَّةُ الْحِنْطَةِ الْمُؤَدَّاةِ مِثْلُ مَالِيَّةِ الْحِنْطَةِ الْمَغْصُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الْجُودَةَ سَاقِطَةُ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ا هـ .
أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعَرُّضِ هَاهُنَا لِبَيَانِ كَوْنِ الْجُودَةِ سَاقِطَةَ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ دَفْعُ وُرُودِ سُؤَالٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي إيجَابِ الْمِثْلِ مُرَاعَاةُ الْمَالِيَّةِ بِظُهُورِ تَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ ، وَلَكِنَّ انْدِفَاعَهُ بِذَلِكَ غَيْرُ وَاضِحٍ عِنْدِي ؛ لِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِ الْجُودَةِ سَاقِطَةَ الْعِبْرَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ أَنَّهُ لَا تَفَاوَتَ بَيْنَ جَيِّدِهَا وَرَدِيئِهَا فِي الْمَالِيَّةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ التَّفَاضُلُ فِي الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمُتَعَارَفِ ظَاهِرٌ جِدًّا .
وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالتَّفَاوُتِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِي وَصْفِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، لَكِنْ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الْمُتَّجِهُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا لِمَا فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَالِيَّةِ فِي إيجَابِ الْمِثْلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِتَحَقُّقِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ ، بَلْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ عَدَمَ الِاعْتِبَارِ لِتَفَاوُتِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فِي وَصْفِ الْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ يُؤَيِّدُ وَرَوَّدَ ذَلِكَ السُّؤَالَ هَاهُنَا ، إذْ لَوْ كَانَ عِنْدَهُمْ اعْتِبَارٌ لِتَفَاوُتِهَا فِي ذَلِكَ لَمَا تَصَوَّرَ التَّفَاوُتَ فِي الْمَالِيَّةِ عِنْدَ
مُرَاعَاةِ التَّسَاوِي فِي الْوَصْفِ أَيْضًا تَأَمَّلْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَطَعَ الْتَحَقَ بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ يَوْمِ انْعِقَادِ السَّبَبُ إذْ هُوَ الْمُوجِبُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : فَإِنْ قُلْت : لِمَ قَدَّمَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ فِي التَّعْلِيلِ وَلَمْ يُوَسِّطْهُ كَمَا هُوَ حَقُّهُ ؟ قُلْت : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَارُ قَوْلُهُ لِقُوَّةِ دَلِيلِهِ إذْ فِيهِ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ ثُبُوتِ الْمُوجِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ .
وَالثَّانِي لِإِثْبَاتِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الزَّمَانِ عَلَى تِلْكَ الْأَقْوَالِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ الْأَوْقَاتِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَوْمُ الْغَصْبِ ، ثُمَّ يَوْمُ الِانْقِطَاعِ ، ثُمَّ يَوْمُ الْخُصُومَةِ .
فَإِيرَادُ الْأَقْوَالِ عَلَى تَرْتِيبِ هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ لَمْ يَتَأَتَّ إلَّا بِتَقْدِيمِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ ثُمَّ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ا هـ كَلَامَهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَجْهَ الثَّانِي فَقَطْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا ، وَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَجْهَ فَقَطْ فِي الْعِنَايَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ بِطَرِيقِ النَّقْلِ بِقِيلَ .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ مَنْظُورٌ فِيهِ .
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ لَا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ دَلِيلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ الْمِثْلِيَّ إنَّمَا دَخَلَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ وَقْتَ الْغَصْبِ بِضَمَانِ الْمِثْلِ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ فِي ذِكْرِ دَلِيلِ مُحَمَّدٍ ، فَمِنْ أَيْنَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ دُونَ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ حَتَّى يَلْزَمَ قُوَّةُ دَلِيلِهِ ، وَلَوْ سَلَّمَ قُوَّةَ دَلِيلِهِ فَهِيَ تَقْتَضِي تَأْخِيرَ دَلِيلِهِ إذْ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ
الْمُسْتَمِرَّةِ أَنْ يُؤَخِّرَ الْقَوِيَّ عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِيَقَعَ الْمُؤَخَّرُ بِمَنْزِلَةِ الْجَوَابِ عَنْ الْمُقَدَّمِ ، وَإِنْ كَانَ يُقَدِّمُ الْقَوِيَّ فِي الْأَكْثَرِ عِنْدَ نَقْلِ أَصْلِ الْأَقْوَالِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ عِنْدَ مَنْ لَهُ قَدَمٌ رَاسِخٌ فِي مَعْرِفَةِ أَسَالِيبِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَلِأَنَّ إثْبَاتَ تِلْكَ الْأَقْوَالِ بِحَسَبِ التَّرْتِيبِ الزَّمَانِيِّ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ نَظَرٌ فِقْهِيٌّ أَصْلًا ، فَتَغْيِيرُ الْمُصَنِّفِ أُسْلُوبَهُ الْمُقَرَّرَ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَهْمِيِّ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ بِشَأْنِهِ الرَّفِيعِ ، فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى عَادَتِهِ الْمُقَرَّرَةِ مِنْ تَأْخِيرِ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى عِنْدَ ذِكْرِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ لِيَحْصُلَ الْجَوَابُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ لِلْمُتَقَدِّمِ كَمَا حَصَلَ هَاهُنَا أَيْضًا ذَلِكَ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ التَّأَمُّلُ الصَّادِقُ .
قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ : أَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَعْدَلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ نَوْعِهِ فِي يَوْمِ الْخُصُومَةِ ، وَالْقِيمَةُ تُعْتَبَرُ بِكَثْرَةِ الرَّغَبَاتِ وَقِلَّتِهَا ، وَفِي الْمَعْدُومِ هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ ، وَيَوْمَ الِانْقِطَاعِ لَا ضَبْطَ لَهُ .
وَأَيْضًا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الْقِيمَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَالِكِ طَلَبٌ ، وَأَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ الْمِثْلِ لَمْ يَنْتَقِلْ وَعِنْدَ عَدَمِهِ لَا قِيمَةَ لَهُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَحَدُّ الِانْقِطَاعِ مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الثَّلْجِيُّ ، وَهُوَ أَنْ لَا يُوجَدَ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ فِي الْبُيُوتِ ، وَعَلَى هَذَا انْقِطَاعُ الدَّرَاهِمِ ا هـ .
وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا الْجَوَابِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ .
أَقُولُ : وَيُمْكِنُ رَدُّ
هَذَا الْجَوَابِ بِأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ بِالْمَعْدُومِ مَا هُوَ مَعْدُومٌ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ لَا الْمَعْدُومَ فِي الْخَارِجِ مُطْلَقًا ، وَكَأَنَّهُ لِهَذَا قَالَ : وَفِي الْمَعْدُومِ هَذَا مُتَعَذِّرٌ أَوْ مُتَعَسِّرٌ : يَعْنِي أَنَّهُ بَعْدَمَا عَدِمَ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فِي الْبُيُوتِ أَيْضًا يَتَعَذَّرُ التَّقْوِيمُ ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهَا يَتَعَسَّرُ التَّقْوِيمُ ؛ لِأَنَّ مِعْيَارَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ هُوَ السُّوقُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ لَا يَتَيَسَّرُ التَّقْوِيمُ الْعَادِلُ ، وَكَذَا مُرَادُهُ بِعَدَمِ بَقَاءِ شَيْءٍ فِي قَوْلِهِ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ نَوْعِهِ فِي يَوْمِ الْخُصُومَةِ عَدَمُ بَقَائِهِ فِي السُّوقِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِمَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الثَّلْجِيُّ فِي حَدِّ الِانْقِطَاعِ كَمَا لَا يَخْفَى .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ كَمَا وُجِدَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ) أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَتِمُّ عَلَى مَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ مِنْ أَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا قَالُوا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا رَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلْفًا ، إذْ الْمُطَالِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ حِينَئِذٍ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ أَيْضًا إنَّمَا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْقِيمَةِ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ قِيمَتُهُ وَقْتَ هَلَاكِ عَيْنِهِ لَا وَقْتَ وُجُودِ أَصْلِ السَّبَبِ وَهُوَ الْغَصْبُ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ هُوَ الْمِثْلُ فِي الذِّمَّةِ ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالِانْقِطَاعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ عِنْدَهُ ، وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ عِنْدَهُ وَلَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ وُجُودِ أَصْلِ
السَّبَبِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْهُمَا .
وَبِالْجُمْلَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا لَا مِثْلَ لَهُ وَبَيْنَ مَا لَهُ مِثْلٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بِأَنَّ الْقِيمَةَ تُعْتَبَرُ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ وُجُودِ أَصْلِ السَّبَبِ ، وَفِي الثَّانِي عِنْدَ الِانْتِقَالِ إلَى الْقِيمَةِ غَيْرُ وَاضِحٍ عَلَى مَا قَالُوا : إنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ مُطْلَقًا هُوَ رَدُّ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا رَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلْفًا كَمَا سَيَجِيءُ : وَأَمَّا عَلَى مَا قِيلَ : إنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ كَمَا سَيَجِيءُ أَيْضًا فَلَا يَتِمُّ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا دَلِيلُ مُحَمَّدٍ رَأْسًا ، إذْ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فِي الْغَصْبِ غَيْرُ الْقِيمَةِ ، وَإِنَّمَا يُنْتَقَلُ إلَيْهَا بِأَمْرٍ عَارِضٍ ، فَالْمَقَامُ لَا يَخْلُو عَنْ الْإِشْكَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍ
قَالَ ( وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ ) مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ مُرَاعَاةُ الْحَقِّ فِي الْجِنْسِ فَيُرَاعَى فِي الْمَالِيَّةِ وَحْدَهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ .
وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ .
.
( قَوْله وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ ، مَعْنَاهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ ) يَعْنِي مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ : وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَعْنَاهُ الشَّيْءُ الَّذِي لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَلِكَ كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ مِثْلُ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ ا هـ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي عَدَّهُ تَحْقِيقًا مِمَّا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ، بَلْ لَا حَاصِلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالشَّيْءِ الَّذِي لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ مَا لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ وَلَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ فَيُنَافِيهِ تَعْلِيلُهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ أَيْضًا بِالْأَوْلَوِيَّةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ أَصْلًا .
وَقَدْ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ : إنَّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ غَصَبَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ بَلْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَعْلِيلِهِ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ وَمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَلْزَم الِاخْتِلَالُ فِي وَضَعَ الْمَسْأَلَةِ ، إذْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَمَا لَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ بَلْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ .
أَيْ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ فَيُشْبِهُ جَوَابَ الْمَسْأَلَةِ بِلَغْوٍ مِنْ الْكَلَامِ لِكَوْنِهِ مَعْلُومًا بِصَدْرِ الْمَسْأَلَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ تَفْسِيرُ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ بِمَا لَا يَضْمَنُ بِمِثْلِهِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ ، وَكَذَا تَفْسِيرُ مَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِمَا يُضْمَنُ بِمِثْلِهِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِمَّا لَا تَقْبَلُهُ فِطْرَةٌ سَلِيمَةٌ لِاسْتِلْزَامِهِ اعْتِبَارَ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاكِ وَاللَّاغِيَةِ .
فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مَا لَهُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ الْمِثْلُ الْكَامِلُ الَّذِي يَنْصَرِفُ إلَيْهِ الْمِثْلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَبِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي صُورَةٍ وَمَعْنًى ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ مَعْنًى فَقَطْ وَهُوَ الْقِيمَةُ الَّتِي هِيَ الْمِثْلُ الْقَاصِرُ .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْ نَوْعَيْ الْمِثْلِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ مِنْ قَبْلُ : إنَّ الْمِثْلَ نَوْعَانِ : كَامِلٌ وَهُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى وَهُوَ الْأَصْلُ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ ، وَقَاصِرٌ وَهُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى وَهُوَ الْقِيمَةُ ، وَالْقَاصِرُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا مَعَ احْتِمَالِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ الْمِثْلِ الْكَامِلِ ا هـ .
فَيَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَمَا لَا يَكُونُ لَهُ مِثْلٌ كَامِلٌ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ الْقَاصِرُ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَيَنْتَظِمُ الْمَقَامَ بِلَا كُلْفَةٍ ، قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ ذِكْرِ مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ : وَقَالَ مَالِكٌ : يَضْمَنُ مِثْلَهُ صُورَةً مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ لِمَا تَلَوْنَا .
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ : " مَنْ كَسَرَ عَصَا فَهِيَ لَهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا " وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ ا هـ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْقِيمَةُ هِيَ الْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } لَمَا تَمَّ الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ النَّصّ الشَّرِيفِ عَلَى وُجُوبِ ضَمَانِ الْمِثْلِ صُورَةً وَمَعْنًى عَلَى مَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، وَقَدْ مَرَّ الِاسْتِدْلَال بِهِ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ لِمَا تَلَوْنَا فَتَدَبَّرْ .
( قَوْلَهُ أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَكِيلِ وَلَمْ يَقُلْ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ مَا لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ وَهُوَ الْمَوْزُونُ الَّذِي فِي تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْمَصُوغِ مِنْ الْقُمْقُمِ وَالطَّشْتِ ا هـ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَوْ كَانَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْمَكِيلِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي ذَكَرَهُ لَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِيمَا مَرَّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا لَهُ مِثْلٌ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقَلَ مَا فِي النِّهَايَةِ بِقِيلَ : وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَكِيلِ مَا هُوَ كَذَلِكَ كَالْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَفِيهِ الْقِيمَةُ ا هـ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْمَكِيلِ فِي قَوْلِهِ أَمَّا الْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ فَهُوَ كَالْمَكِيلِ حَتَّى يَجِبَ مِثْلُهُ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ هُوَ الْمَكِيلُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَفِي الْبُرِّ الْمَخْلُوطِ بِالشَّعِيرِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ، وَبِقَرِينَةِ شُهْرَةِ اعْتِبَارِ الْجِنْسِ مَعَ الْمَكِيلِ فِي تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْكَيْلِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي بَابِ الرِّبَا مِنْ الْبُيُوعِ
قَالَ ( وَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ) مَعْنَاهُ مَا دَامَ قَائِمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا وَلَا جَادًّا ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الْيَدَ حَقٌّ مَقْصُودٌ وَقَدْ فَوَّتَهَا عَلَيْهِ فَيَجِبُ إعَادَتُهَا بِالرَّدِّ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ عَلَى مَا قَالُوا ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ مُخَلِّصٌ خَلَفًا ؛ لِأَنَّهُ قَاصِرٌ ، إذْ الْكَمَالُ فِي رَدِّ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ .
وَقِيلَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ الْقِيمَةُ وَرَدُّ الْعَيْنِ مُخَلِّصٌ ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، ( وَالْوَاجِبُ الرَّدُّ فِي الْمَكَانِ الَّذِي غَصَبَهُ ) لِتَفَاوُتِ الْقِيَمِ بِتَفَاوُتِ الْأَمَاكِنِ ( فَإِنْ ادَّعَى هَلَاكَهَا حَبَسَهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً لَأَظْهَرَهَا ثُمَّ قَضَى عَلَيْهِ بِبَدَلِهَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ رَدُّ الْعَيْنِ وَالْهَلَاكُ بِعَارِضٍ ، فَهُوَ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، كَمَا إذَا ادَّعَى الْإِفْلَاسَ وَعَلَيْهِ ثَمَنُ مَتَاعٍ فَيُحْبَسُ إلَى أَنْ يُعْلَمَ مَا يَدَّعِيهِ ، فَإِذَا عَلِمَ الْهَلَاكَ سَقَطَ عَنْهُ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِهِ وَهُوَ الْقِيمَةُ .
.
قَالَ ( وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ .
( قَوْله وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) أَيْ الْغَصْبُ يَتَقَرَّرُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ وَيَتَحَقَّق فِيهِ ، كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
ثُمَّ إنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ دُونَ غَيْرِهِ لَا بَيَانُ مُجَرَّدِ تَحَقُّقِهِ فِي الْمَنْقُولِ ، إذْ لَا خِلَافَ فِيهِ وَلَا اشْتِبَاهَ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ وَالِاشْتِبَاهُ فِي عَدَمِ تَحَقُّقِهِ فِي غَيْرِ الْمَنْقُولِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَصْلِيُّ بِالْبَيَانِ هَاهُنَا فَالْقَصْرُ مُعْتَبَرٌ فِي التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ : أَيْ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ : أَيْ تَحَقُّقُ الْغَصْبِ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : الْغَصْبُ كَائِنٌ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ لَا فِي الْعَقَارِ ، بَلْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ نَفْسُهُ حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ : لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ .
قُلْت : بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ أَدَاةَ الْقَصْرِ فِي التَّرْكِيبِ الْمَزْبُورِ مَاذَا ؟ فَلَعَلَّهَا هِيَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ فَاللَّامُ الْجِنْسِ ، فَإِنَّهُ يُفِيدُ قَصْرَ الْمُسْنَدِ إلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي عِلْمِ الْأَدَبِ ، وَمَثَّلُوهُ بِنَحْوِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ وَالْكَرَمِ فِي الْعَرَبِ وَالْإِمَامِ مِنْ قُرَيْشٍ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِحَقِيقَتِهِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ الْيَدِ بِالنَّقْلِ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الدَّلِيلِ بِدُونِ التَّفْصِيلِ الْآتِي فِي دَلِيلِ عَدَمِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعِي هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَحَاطَ بِحَقِيقَةِ الْمَقَامِ خُبْرًا ، وَبِذِكْرِ التَّفْصِيلِ الْآتِي هُنَاكَ
يُسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الدَّلِيلِ هَاهُنَا .
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكْتَفَى بِمَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ غَصْبِ الْعَقَارِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا كَمَا اُكْتُفِيَ بِبَيَانِ الْخِلَافِ هُنَاكَ عَنْ بَيَانِهِ هَاهُنَا ، فَإِنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ هُنَاكَ مُتَحَقِّقٌ هَاهُنَا أَيْضًا لَا مَحَالَة
( وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَضْمَنُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِتَحَقُّقِ إثْبَاتِ الْيَدِ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الْوَصْفَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ وَجُحُودِ الْوَدِيعَةِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا ، وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ فَصَارَ كَمَا إذَا بَعُدَ الْمَالِكُ عَنْ الْمَوَاشِي .
وَفِي الْمَنْقُولِ : النَّقْلُ فِعْلٌ فِيهِ وَهُوَ الْغَصْبُ .
وَمَسْأَلَةُ الْجُحُودِ مَمْنُوعَةٌ ، وَلَوْ سُلِّمَ فَالضَّمَانُ هُنَاكَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الْمُلْتَزَمِ وَبِالْجُحُودِ تَارِكٌ لِذَلِكَ .
قَالَ ( وَمَا نَقَصَهُ مِنْهُ بِفِعْلِهِ أَوْ سُكْنَاهُ ضَمِنَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِهِ كَمَا إذَا نَقَلَ تُرَابَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ فِي الْعَيْنِ وَيَدْخُلُ فِيمَا قَالَهُ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ بِسُكْنَاهُ وَعَمَلِهِ ، فَلَوْ غَصَبَ دَارًا وَبَاعَهَا وَسَلَّمَهَا وَأَقَرَّ بِذَلِكَ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ غَصْبَ الْبَائِعِ وَلَا بَيِّنَةَ لِصَاحِبِ الدَّارِ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْغَصْبِ هُوَ الصَّحِيحُ قَالَ ( وَإِذَا انْتَقَصَ بِالزِّرَاعَةِ يَغْرَمُ النُّقْصَانَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ الْبَعْضَ فَيَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ .
قَالَ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ) وَسَنَذْكُرُ الْوَجْهَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
.
( قَوْله وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ) أَقُولُ : كَانَ اللَّائِقُ بِالْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ الْفَاءَ بَدَلَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا إلَخْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَفَرِّعَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الْأَصْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ عَلَامَةَ التَّفْرِيعِ فِي اللَّفْظِ كَمَا وَقَعَ فِي سَائِرِ الْكُتُبِ ، فَذُكِرَتْ كَلِمَةُ الْفَاءِ فِي عَامَّتِهَا وَكَلِمَةُ حَتَّى فِي الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : وَشَرْطُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَوْنُ الْمَأْخُوذِ مَنْقُولًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ، حَتَّى أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرَ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ا هـ .
وَالْعَجَبُ أَنَّ كَلِمَةَ الْفَاءِ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فَبَدَّلَهَا الْمُصَنِّفُ بِالْوَاوِ فِي الْبِدَايَةِ وَالْهِدَايَةِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا هُوَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ ، فَلَا يَتَّجِهُ أَنْ يُقَالَ : قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ مُطْلَقًا عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ هُوَ الضَّمَانُ فَكَيْفَ يَصِحُّ الْحُكْمُ هَاهُنَا بِعَدَمِ الضَّمَانِ فِي غَصْبِ الْعَقَارِ وَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا هُوَ حُكْمُ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ دُونَ اللُّغَوِيِّ ، وَالْمُتَحَقِّقُ هَاهُنَا هُوَ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَلَا مُنَافَاةَ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : إطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ هُنَا مَجَازٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُشَاكَلَةِ ا هـ .
أَقُولُ فِيهِ : إنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْمَجَازِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحَقِيقَةِ ، وَهُنَا الْحَقِيقَةُ اللُّغَوِيَّةُ مُتَيَسِّرَةٌ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِالْمَجَازِ الْمَجَازَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ دُونَ الْمَجَازِ الْمُطْلَقِ فَلَا يُنَافِي كَوْنَهُ حَقِيقَةً بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ ، وَلَكِنْ حَقُّ الْأَدَاءِ مَا قَدَّمْنَاهُ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ
صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِي غَصْبِ الدُّورِ وَالْعَقَارِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ وَلَكِنْ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَإِلَيْهِ مَال الْقُدُورِيُّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْغَصْبِ وَنَفَى الضَّمَانَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا ، وَإِلَيْهِ مَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ا هـ كَلَامَهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ يَتَحَقَّقُ الْغَصْبُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ، إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا فِيهَا ، كَيْفَ وَلَوْ قَالَهُ لَمَا صَحَّ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَا عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ ، فَإِنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عِنْدَ هَلَاكِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ لِمُطْلَقِ الْغَصْبِ الشَّرْعِيِّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ عِنْدَ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي عِبَارَةِ مَنْ أَثْبَتَ الْغَصْبَ وَنَفَى الضَّمَانَ هُوَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ كَمَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، وَبَعْضُهُمْ قَالَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ أَيْضًا فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ أَحَدًا قَالَ إنَّ الْغَصْبَ اللُّغَوِيَّ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ اللُّغَوِيَّ عَلَى مَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ ، وَلَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْعَقَارِ إذَا لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ إزَالَةِ يَدِهِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَانِعُ عَنْ تَحَقُّقِ الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَهُمَا فِي الْعَقَارِ عَلَى مَا سَتَعْرِفُهُ فَلَا يَصْدُرُ مِمَّنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ إنْكَارُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ اللُّغَوِيِّ فِي
الْعَقَارِ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ مَشَايِخِنَا هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّاءِ ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْهَا وَهُوَ فِعْلٌ فِيهِ لَا فِي الْعَقَارِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلَّ هَذَا الْمَحَلِّ : وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ : أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَهَذَا أَيْ هَذَا الْمَجْمُوعُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ ، أَيْ بِإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهَا : أَيْ عَنْ الْعَقَارِ بِمَعْنَى الضَّيْعَةِ أَوْ الدَّارِ ، وَهُوَ أَيْ الْإِخْرَاجُ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْعَقَارِ فَانْتَفَى إزَالَةُ الْيَدِ وَالْكُلُّ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ جُزْئِهِ ا هـ .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِهِ قُصُورٌ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْبَاءَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ لِلسَّبَبِيَّةِ ، وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ السَّبَبِيَّةِ بَيْنَ إثْبَاتِ يَدِ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ كَانَ السَّبَبُ هُوَ إثْبَاتُ يَدِ الْغَاصِبِ دُونَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ وُجُودِيًّا وَأَصْلًا صَادِرًا مِنْ الْغَاصِبِ .
وَالثَّانِي أَمْرًا عَدَمِيًّا مُتَفَرِّعًا عَلَى الْأَوَّلِ .
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْبَاءُ الْمَزْبُورَةُ لِلسَّبَبِيَّةِ كَانَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ : وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُسَبَّبِ عَنْ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ كَوْنُ الْغَصْبِ عِنْدَهُمَا مَجْمُوعُ إثْبَاتِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ وَإِزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْبَاءُ ثَمَّةَ لِلْمُصَاحِبَةِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى : وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ
الْمُتَبَادَرَ مِنْ قَوْلِهِ فَانْتَفَى إزَالَةُ الْيَدِ بِدُونِ التَّقْيِيدِ أَنْ لَا تَتَحَقَّقُ إزَالَةُ الْيَدِ أَصْلًا فِي غَصْبِ الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ مَرَّ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْيَدِ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِمَا هَاهُنَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِنَفْيِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ ، وَلَيْسَتْ بِقَابِلَةٍ لِلنَّفْيِ وَالْمَنْعِ لِتَقَرُّرِهَا وَبَدَاهَتِهَا فَلَا جَرَمَ كَانَتْ مُسَلَّمَةً عِنْدَهُمَا أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ تَقْرِيرُ دَلِيلِهِمَا بِوَجْهِ يُشْعِرُ بِانْتِفَاءِ إزَالَةِ الْيَدِ أَصْلًا فِي غَصْبِ الْعَقَارِ ؟ فَالْأَوْلَى فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِهِمَا وَحَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ : وَلَهُمَا أَنَّ الْغَصْبَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ لَا مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءً كَانَتْ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ أَوْ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِكِ ، وَمَا كَانَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ الْيَدِ إنَّمَا هُوَ زَوَالُ يَدِ الْمَالِكِ مُطْلَقًا لَا زَوَالُهَا بِوَجْهٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ ، وَهَذَا يَعْنِي مَجْمُوعَ مَا اُعْتُبِرَ فِي حَقِيقَةِ الْغَصْبِ مِنْ إزَالَةِ الْيَدِ الْعَادِيَةِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ فِي الْعَقَارِ لَا تَزُولُ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهَا : أَيْ عَنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَهُوَ أَيْ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْعَقَارِ فَلَمْ يُوجَدْ فِيهَا إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ حَقِيقَةُ الْغَصْبِ فَلَمْ يَلْزَمْ الضَّمَانُ عِنْدَ هَلَاكِهِ فِي يَدِ الْآخِذِ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يُثْبِتُ مُدَّعَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ وَالْإِمَامِ الثَّانِي ، وَيَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا ذُكِرَ فِي دَلِيلِ إمَامِنَا الثَّالِثِ وَالشَّافِعِيِّ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ .
وَاسْتَشْكَلَ
بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذَا التَّعْلِيلَ حَيْثُ قَالَ : لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ دَلِيلٍ ثَبَتَ كَوْنُ إزَالَةِ يَدِ الْمَالِكِ بِفِعْلٍ فِي الْعَيْنِ وَمَتَى ثَبَتَ ، بَلْ مَفْهُومُ إزَالَةِ الْيَدِ تَحَقُّقُهُ فِي إخْرَاجِ الْمَالِكِ أَظْهَرُ ا هـ .
أَقُولُ : قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ فَمَرَّا عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْغَصْبَ إزَالَةُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مَالِهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقَارِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ هَذَا شَرْطُ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الْغَصْبِ ، فَإِنَّ أَخْذَ الضَّمَانِ مِنْ الْغَاصِبِ تَفْوِيتُ يَدِهِ عَنْهُ بِفِعْلٍ فِي الضَّمَانِ فَيُسْتَدْعَى وُجُودَ مِثْلِهِ مِنْهُ فِي الْمَغْصُوبِ لِيَكُونَ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ .
ثُمَّ أَوْرَدَ ذَلِكَ الْبَعْضَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِمَا وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْعَقَارِ بِأَنْ قَالَ : لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ فِيهِ لِانْتِفَاءِ إثْبَاتِ الْيَدِ فَتَأَمَّلْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، إذْ لَيْسَ فِي الْخُصُومِ مَنْ يُنْكِرُ تَحَقُّقَ إثْبَاتِ الْيَدِ فِيهِ ، وَلَا مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ فِيهِ كَمَا عَرَفْته آنِفًا فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقُولَ الْخَصْمُ إنَّمَا لَمْ يَضْمَنْ فِيهِ لِانْتِفَاءِ إثْبَاتِ الْيَدِ
قَالَ ( وَإِذَا هَلَكَ النَّقْلِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ضَمِنَهُ ) وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ : وَإِذَا هَلَكَ الْغَصْبُ وَالْمَنْقُولُ هُوَ الْمُرَادُ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْغَصْبَ فِيمَا يُنْقَلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ إذْ هُوَ السَّبَبُ .
وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّهِ يَجِبُ رَدُّ الْقِيمَةِ أَوْ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ السَّبَبُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ .
( قَوْلُهُ وَفِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ : وَإِذَا هَلَكَ الْغَصْبُ وَالْمَنْقُولُ هُوَ الْمُرَادُ لِمَا سَبَقَ أَنَّ الْغَصْبَ فِيمَا يُنْقَلُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَرَادَ أَنَّ الْغَصْبَ الشَّرْعِيَّ فِيمَا يُنْقَلُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ بِهِ كَوْنُ الْمَنْقُولِ هُوَ الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ يَعُمُّ الْمَنْقُولَ وَغَيْرَهُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْغَصْبَ فِيمَا مَرَّ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا فَهَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ وَأَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ لَا مَحَالَةَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْغَصْبَ مُطْلَقًا فِيمَا يُنْقَلُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَلَا يُرَدُّ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ الْغَصْبُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى اللُّغَوِيَّ فِي الْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَعْنَى مَجَازِيٌّ بِالنَّظَرِ إلَى وَضْعِ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ ، بَلْ فِي عِلْمِ الْبَيَانِ أَيْضًا ، فَلَا بُدَّ فِي إرَادَةِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ بِالْمَنْقُولَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فِي تَخَاطُبِ أَهْلِ الشَّرْعِ مِنْ قَرِينَةٍ وَهَاهُنَا الْقَرِينَةُ مُنْتَفِيَةٌ فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَإِذَا غَصَبَ عَقَارًا ، فَإِنَّ قَوْلَهُ قُبَيْلَ ذَلِكَ وَالْغَصْبُ فِيمَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ قَرِينَةٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي قَوْلِهِ غَصَبَ عَقَارًا مَعْنَاهُ اللُّغَوِيُّ دُونَ الشَّرْعِيِّ تَدَبَّرْ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَسْأَلَتَنَا هَذِهِ تَعُمُّ الْمِثْلِيَّ وَغَيْرَ الْمِثْلِيِّ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ لِعُمُومِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي جَوَابِهَا كُلًّا مِنْهُمَا ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ