كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
اعْتِبَارِ الْأَمَانِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُؤْمِنِ ، فَأَمَّا تَعَدِّيهِ إلَى غَيْرِهِ فَلَيْسَ ضَرُورِيًّا فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ .
وَمَا ذَكَرَ مِنْ عَدَمِ التَّجَزِّي يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهُ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَجَزَّأْ كَانَ أَمَانُ الْوَاحِدِ أَمَانَ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ أَمَانِ الْكُلِّ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَى عَدَمِ تَجَزِّيهِ بِأَنَّ سَبَبَهُ ، وَهُوَ الْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَذَا الْأَمَانُ ، وَفَسَّرَ بِالتَّصْدِيقِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْكُفْرِ ، وَبَعْضُهُمْ بِإِعْطَاءِ الْأَمَانِ لِأَنَّهُ يُقَالُ آمَنْته فَأَمِنَ : أَيْ أَعْطَيْته الْأَمَانَ فَأَمِنَ .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ آمَنْت بِمَعْنَى صَدَقْت بِالدِّينِ فَأَمِنَ الْكَافِرُ : أَيْ حَصَلَ لَهُ الْأَمَانُ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ السَّبَبُ عِلَّةً وَهُوَ مَجَازٌ ، فَإِنَّ حَقِيقَةَ السَّبَبِ الْمُفْضِي فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى أَمَانِ الْحَرْبِيِّ بِإِعْطَاءِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ لَهُ ، فَالْحَقُّ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ : أَيْ إعْطَاءُ الْأَمَانِ سَبَبُ الْأَمَانِ بِمَعْنَى عِلَّتِهِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَتَجَزَّأُ الْأَمَانُ ، أَوْ الْإِيمَانُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لِلْأَمَانِ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَتَجَزَّأُ الْأَمَانُ وَصَارَ ( كَوِلَايَةِ الْإِنْكَاحِ ) إذَا زَوَّجَ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ الْمُسْتَوِينَ نَفَذَ عَلَى الْكُلِّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهَا لَا تَتَجَزَّأُ إنَّمَا عَلِمْنَاهُ مِنْ النَّصِّ الْمُوجِبِ لِلنَّفَاذِ عَلَى الْكُلِّ إذَا صَدَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَهُوَ الْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ ( وَقَوْلُهُ إلَّا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ ) أَيْ أَمَانِ الْوَاحِدِ ( مَفْسَدَةٌ فَيُنْبَذُ إلَيْهِمْ كَمَا إذَا أَمِنَ الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي النَّبْذِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ) فِي الْبَابِ السَّابِقِ وَهُوَ قَوْلُنَا يَفْعَلُ تَحَرُّزًا عَنْ الْغَدْرِ وَعَنْ تَرْكِ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَلَوْ حَاصَرَ الْإِمَامُ حِصْنًا وَأَمِنَ وَأَمِنَ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ إلَخْ ) فَلَيْسَ تَكْرَارًا
مَحْضًا بَلْ ذَكَرَهُ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ( وَيُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ بِخِلَافِ ، مَا إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ ) لَا يُؤَدِّبُهُ ( لِأَنَّهُ رُبَّمَا ) فَعَلَ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ ( تَفُوتَ الْمَصْلَحَةُ بِالتَّأْخِيرِ ) إلَى أَنْ يَعْلَمَ الْإِمَامُ بِهَا وَيُؤَمِّنُ هُوَ بِنَفْسِهِ .
وَالِافْتِيَاتُ افْتِعَالٌ مِنْ الْفَوْتِ وَهُوَ السَّبْقُ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ الِافْتِعَالُ لِلسَّبْقِ إلَى الشَّيْءِ دُونَ ائْتِمَارِ مَنْ يَنْبَغِي أَنْ يُؤَامِرَ فِيهِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ قَالَ فَاتَنِي ذَلِكَ الْفَارِسُ : أَيْ سَبَقَنِي فَأَصْلُهُ افْتِوَاتٌ قُلِبَتْ وَاوُهُ يَاءً لِكَسْرِ مَا قَبْلَهَا ، وَالتَّعْلِيلُ بِهِ مُطْلَقًا يَقْتَضِي أَنْ يُؤَدِّبَهُ مُطْلَقًا لِتَحَقُّقِ الِافْتِيَاتِ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ ، فَالْوَجْهُ تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِنَا افْتِيَاتٌ فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ بِهِمْ ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمُوَافَقَتِهِ لَهُمْ اعْتِقَادًا ، وَأَيْضًا لَا وِلَايَةَ لِكَافِرٍ عَلَى مُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَالْأَمَانُ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَفَاذُ كَلَامِهِ عَلَى غَيْرِهِ شَاءَ أَوْ أَبَى ( وَلَا أَسِيرٍ وَلَا تَاجِرٍ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ ) فِي دَارِ الْحَرْبِ ( لِأَنَّهُمَا مَقْهُورَانِ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ وَالْأَمَانُ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ ، وَلِأَنَّهُمَا يُجْبَرَانِ عَلَيْهِ فَيَعْرَى الْأَمَانُ عَنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَلِأَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ يَجِدُونَ أَسِيرًا أَوْ تَاجِرًا فَيَتَخَلَّصُونَ بِأَمَانِهِ فَلَا يَنْفَتِحُ بَابُ الْفَتْحِ ) .
وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا ( وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِي رِوَايَةٍ ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ } رَوَاهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَبِالْمُؤَيَّدِ مِنْ الْأَمَانِ ، فَالْإِيمَانُ لِكَوْنِهِ شَرْطًا لِلْعِبَادَةِ ، وَالْجِهَادُ عِبَادَةٌ ، وَالِامْتِنَاعُ لِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ بِهِ ، وَالتَّأْثِيرُ إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ فِي حَقِّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْطِيلِ مَنَافِعِ الْمُوَلَّى وَلَا تَعْطِيلَ فِي مُجَرَّدِ الْقَوْلِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْخَوْفَ مِنْهُ مُتَحَقِّقٌ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ لِمَا أَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَى وَجْهٍ لَا يُعْرِي عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ فِي حَقِّهِ ، وَالْأَمَانُ نَوْعُ قِتَالٍ وَفِيهِ مَا ذَكَرْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ بَلْ هُوَ الظَّاهِرُ ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِهِ وَالْخَطَأُ نَادِرٌ لِمُبَاشَرَتِهِ الْقِتَالَ ، وَبِخِلَافِ الْمُؤَبَّدِ لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مُقَابَلٌ بِالْجِزْيَةِ وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ذَلِكَ ، وَإِسْقَاطُ الْفَرْضِ نَفْعٌ فَافْتَرَقَا .
وَلَوْ أَمِنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ
فَعَلَى الْخِلَافِ ، وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّ الْأَمَانَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْخَوْفِ وَلَا خَوْفَ مِنْهُ حَالَ كَوْنِهِ مُقِيمًا فِي دَارِهِمْ لَا مَنَعَةَ لَهُ وَلَا قُوَّةَ دِفَاعٍ ( قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي الْقِتَالِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ يَصِحُّ .
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( وَأَبُو يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ) لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } ( وَ ) لِمَا ( رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ } وَلِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ مُمْتَنِعٌ ) أَيْ لَهُ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُ بِهَا وَيَضُرُّ غَيْرَهُ ( فَيَصِحُّ أَمَانُهُ اعْتِبَارًا بِالْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ وَالْمُؤَبَّدِ مِنْ الْأَمَانِ ) وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ إذَا عَقَدَ الذِّمَّةَ لِأَهْلِ مَدِينَةٍ صَحَّ وَلَزِمَ وَصَارُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، فَهَذَا وَهُوَ الْمُوَقَّتُ مِنْ الذِّمَّةِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ تَمَامُ الْمُؤْثَرِ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ .
أَمَّا الْإِيمَانُ فَلِأَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِبَادَاتِ وَالْجِهَادُ مِنْ أَعْظَمِهَا .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ الِامْتِنَاعِ فَلِتَحَقُّقِ إزَالَةِ الْخَوْفِ وَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ الْمُؤْثَرُ الْجَامِعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ ، وَهُوَ ( إعْزَازُ الدِّينِ وَإِقَامَةُ مَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ) لَا فِيمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ ( وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُ الْمُسَايَفَةَ ) أَيْ الْجِهَادَ بِالسَّيْفِ لِتَعْرِيضِ مَنَافِعِهِ الْمَمْلُوكَةِ لِلْمَوْلَى عَلَى الْفَوَاتِ بِأَنْ يُقْتَلَ ، وَهَذَا الْمَانِعُ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْجِهَادِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ لَا بِوَجْهِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ لِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْجِهَادِ فَرْقٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ
مِنْهُ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ) وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةِ سَحْنُونٍ عَنْهُ ( أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ ) لِانْتِفَاءِ الْخَوْفِ مِنْهُ ( فَلَمْ يُلَاقِ الْأَمَانُ مَحَلَّهُ ) وَهُوَ الْخَائِفُ مِنْ الْمُؤْمِنِ فَلَمْ يَحْصُلْ الْمُؤَثِّرُ فِيهِ وَهُوَ الْإِعْزَازُ لِأَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَخَافُ مِنْهُ وَلَا الْمَصْلَحَةُ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يُخْطِئُ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَصْلَحَةِ فِي الْأَمَانِ إنَّمَا تَقُومُ بِمَنْ يُبَاشِرُ الْقِتَالَ وَهُوَ الْمَأْذُونُ لِأَنَّهُ أَدْرَى بِالْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ الْمُمَارِسِ لَهُ .
وَفِي خَطَئِهِ سَدُّ بَابِ الِاسْتِغْنَامِ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَعْرَ عَنْ احْتِمَالِ الضَّرَرِ احْتِمَالًا رَاجِحًا ( بِخِلَافِ ) الْعَبْدِ ( الْمَأْذُونِ ، وَبِخِلَافِ ) الْأَمَانِ ( الْمُؤَبَّدِ ) بِإِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ ( لِأَنَّهُ خَلَفَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ ) وَلِكُلِّ مُسْلِمٍ عَبْدٍ أَوْ حُرٍّ ذَلِكَ ( وَلِأَنَّهُ مُقَابِلٌ بِالْجِزْيَةِ ) فَالْمَصْلَحَةُ لِلسَّيِّدِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُحَقَّقَةٌ فِيهِ ( وَلِأَنَّهُ مَفْرُوضٌ عِنْدَ مَسْأَلَتِهِمْ ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَيَّا قِتَالَهُمْ بِهِ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } فَفِي عَقْدِ الذِّمَّةِ لَهُمْ ( إسْقَاطُ الْفَرْضِ ) عَنْ الْإِمَامِ وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ( نَفْعٌ ) مُحَقَّقٌ ( فَافْتَرَقَا ) وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْعَامَّةِ تَضَمَّنَ قِيَاسَيْنِ : قِيَاسَ أَمَانِ الْمَحْجُورِ عَلَى أَمَانِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ ، وَقِيَاسَ أَمَانِ الْمَحْجُورِ عَلَى عَقْدِ الذِّمَّةِ مِنْ الْمَحْجُورِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ فَرْقَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الثَّانِي مُتَّجَهٌ .
وَأَمَّا دَفْعُهُ الْقِيَاسَ الْأَوَّلَ فَلَا لِأَنَّهُ إنْ فَرَّقَ بِأَنَّهُ لَا يَخَافُ مِنْهُ ، وَالْآخَرُ يَخَافُ مِنْهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْحَرْبِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَأْذُونَ لَهُ فَيَخَافُونَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَخَافُونَهُ بَلْ كُلُّ مَنْ رَأَوْهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِوَى الْبِنْيَةِ
فَهُوَ مَخُوفٌ لَهُمْ .
وَأَمَّا بِأَنَّ الظَّاهِرَ خَطَؤُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ لِأَنَّ الْأَمَانَ غَيْرُ لَازِمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ ، بَلْ إذَا كَانَ كَذَلِكَ نَبَذَ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ بِهِ .
نَعَمْ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى غَيْرُ تَامٍّ لِأَنَّهُ حَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ .
فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ قَالَ : شَهِدْت قَرْيَةً مِنْ قُرَى فَارِسٍ يُقَالُ لَهَا شَاهِرَتَا ، فَحَاصَرْنَاهَا شَهْرًا ، حَتَّى إذَا كُنَّا ذَاتَ يَوْمٍ وَطَمِعْنَا أَنْ نُصَبِّحَهُمْ انْصَرَفْنَا عَنْهُمْ عِنْدَ الْمُقِيلِ ، فَتَخَلَّفَ عَبْدٌ مِنَّا فَاسْتَأْمَنُوهُ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَمَانًا ثُمَّ رَمَى بِهِ إلَيْهِمْ ، فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَيْهِمْ خَرَجُوا إلَيْنَا فِي ثِيَابِهِمْ وَوَضَعُوا أَسْلِحَتَهُمْ ، فَقُلْنَا لَهُمْ : مَا شَأْنُكُمْ ، فَقَالُوا أَمِنْتُمُونَا وَأَخْرَجُوا إلَيْنَا السَّهْمَ فِيهِ كِتَابٌ بِأَمَانِهِمْ ، فَقُلْنَا : هَذَا عَبْدٌ وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ، قَالُوا : لَا نَدْرِي عَبْدَكُمْ مِنْ حُرِّكُمْ وَقَدْ خَرَجْنَا بِأَمَانٍ ، فَكَتَبْنَا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَكَتَبَ : إنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَانُهُ أَمَانُهُمْ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَهُ وَزَادَ : وَأَجَازَ عُمَرُ أَمَانَهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهَا وَاقِعَةُ حَالٍ فَجَازَ كَوْنُهُ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ ، وَأَيْضًا جَازَ كَوْنُهُ مَحْجُورًا وَالْأَمَانُ كَانَ عَقْدَ ذِمَّةٍ وَأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ عُمَرَ قَوْلَهُ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَانُهُ أَمَانُهُمْ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ يَقْتَضِي إنَاطَتَهُ مُطْلَقًا بِذَلِكَ وَالْحَدِيثُ جَيِّدٌ وَفُضَيْلُ بْنُ يَزِيدَ الرَّقَاشِيُّ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ ( قَوْلُهُ وَإِنْ أَمِنَ الصَّبِيُّ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ لَا يَصِحُّ ) بِإِجْمَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ( كَالْمَجْنُونِ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقِتَالِ فَعَلَى
الْخِلَافِ ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَصِحُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي وَجْهٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كَطَلَاقِهِ وَعَتَاقِهِ ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ ) بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ فَيَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ ، وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ يَعْقِلُ أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ وَيَصِفَهُ ، وَأَضَافَ أَبَا يُوسُفَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي عَدَمِ الصِّحَّةِ ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْأَصَحُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْمَنْعَ فِي الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا نَقَلَهُ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ نَاقِلًا عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ فَقَالَ : قَالَ مُحَمَّدٌ : الْغُلَامُ الَّذِي رَاهَقَ الْحُلُمَ وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَيَصِفُهُ جَازَ لَهُ أَمَانُهُ ، ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلَا يَجُوزُ ، وَكَذَا وَقَعَ الْإِطْلَاقُ فِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ : لَا يَجُوزُ أَمَانُ الصَّبِيِّ الْمُرَاهِقِ مَا لَمْ يَبْلُغْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجُوزُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ وَصِفَاتِهِ ، وَكَذَا الْمُخْتَلِطُ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ ، فَهَذَا كَمَا تَرَى إجْرَاءٌ لِلْخِلَافِ فِي الصَّبِيِّ مُطْلَقًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَالْأَصَحُّ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الْعَاقِلِ مَحْجُورًا عَنْ الْقِتَالِ أَوْ مَأْذُونًا لَهُ فِيهِ ، فَفِي الثَّانِي لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الْأَمَانِ .
هَذَا وَمِنْ أَلْفَاظِ الْأَمَانِ قَوْلُك لِلْحَرْبِيِّ لَا تَخَفْ وَلَا تَوْجَلْ أَوْ مترسيت أَوْ لَكُمْ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ تَعَالَ فَاسْمَعْ الْكَلَامَ ، ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَقَالَ النَّاطِفِيُّ فِي
السَّيْرِ إمْلَاءً : سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الرَّجُلِ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إلَى السَّمَاءِ لِرَجُلٍ مِنْ الْعَدُوِّ ، فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا بِأَمَانٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ اسْتَحْسَنَ أَنْ يَكُونَ أَمَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
( بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا ) ( وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً ) أَيْ قَهْرًا ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ ( وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهمْ الْخَرَاجَ ) كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ ، وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ .
وَقِيلَ الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِيَكُونَ عِدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي ، وَهَذَا فِي الْعَقَارِ .
أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ أَوْ مِلْكِهِمْ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادَلُ ، وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادَلٍ لِقَتْلِهِ ، بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا ؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنِ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا إنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ ، وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِيِ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ .
بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا ) لَمَّا ذَكَرَ قِتَالَ الْكُفَّارِ وَذَكَرَ مَا يَنْتَهِي بِهِ مِنْ الْمُوَادَعَةِ ذَكَرَ مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ غَالِبًا وَهُوَ الْقَهْرُ وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى النُّفُوسِ وَتَوَابِعِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ غَالِبًا لِاسْتِقْرَاءِ تَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى جُيُوشَ الْمُسْلِمِينَ وَنُصْرَتَهُمْ فِي الْأَكْثَرِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً ) يَجُوزُ فِي الْوَاوِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِهِ وَإِذَا حَاصَرَ الْإِمَامُ ، وَفَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْعَنْوَةَ بِالْقَهْرِ ، وَهُوَ ضِدُّهَا لِأَنَّهَا مِنْ عَنَا يَعْنُو عَنْوَةً إذَا ذَلَّ وَخَضَعَ ، وَمِنْهُ { وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فَتَحَ بَلْدَةً حَالَ كَوْنِ أَهْلِهَا ذَوِي عَنْوَةٍ : أَيْ ذُلٍّ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ قَهْرَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ ، وَفِيهِ وَضْعُ الْمَصْدَرِ مَوْضِعَ الْحَالِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُطَرَّدٍ إلَّا فِي أَلْفَاظٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ ، وَإِطْلَاقُ اللَّازِمِ وَإِرَادَةُ الْمَلْزُومِ فِي غَيْرِ التَّعَارِيفِ بَلْ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارَاتِ عَلَى أَنْ يُرَادَ مَعْنَى الْمَذْكُورِ لَا الْمَجَازِيِّ ، لَكِنْ لِيَنْتَقِلَ مِنْهُ إلَى آخَرَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِتِلْكَ الْإِرَادَةِ كَكَثِيرِ الرَّمَادِ ، وَلَوْ أَرَادَ بِهِ نَفْسَ الْجُودِ كَانَ مَجَازًا مِنْ الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ .
وَالْوَجْهُ أَنَّهُ مَجَازٌ اُشْتُهِرَ ، فَإِنَّ عَنْوَةً اُشْتُهِرَ فِي نَفْسِ الْقَهْرِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَجَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ نَفْسِهِ تَعْرِيفًا ، وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً ( فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ ) أَيْ الْبَلَدَ ( بَيْنَ الْغَانِمِينَ ) مَعَ رُءُوسِ أَهْلِهَا اسْتِرْقَاقًا وَأَمْوَالِهِمْ بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ لِجِهَاتِهِ ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ مُقَاتِلَهُمْ وَقَسَّمَ مَا سِوَاهُمْ مِنْ الْأَرَاضِيِ وَالْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِيِّ ، وَيَضَعُ عَلَى الْأَرَاضِي الْمَقْسُومَةِ الْعُشْرَ ؛ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَوَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى الرُّءُوسِ وَالْخَرَاجِ
عَلَى أَرْضِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمَاءِ الَّذِي يَسْقِي بِهِ أَهُوَ مَاءُ الْعُشْرِ كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالْعُيُونِ وَالْأَوْدِيَةِ وَالْآبَارِ أَوْ مَاءُ الْخَرَاجِ كَالْأَنْهَارِ الَّتِي شَقَّتْهَا الْأَعَاجِمُ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ التَّوْظِيفِ عَلَى الْكَافِرِ .
وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ فَقَطْ فَمَكْرُوهٌ ، إلَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَالِ مَا يَتَمَكَّنُونَ بِهِ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَالنَّفَقَةِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعَلَى الْأَرَاضِي إلَى أَنْ تُخْرِجَ الْغِلَالَ ، وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا لَا يُطَاقُ .
وَأَمَّا الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ مَعَ الْمَالِ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ بِرِقَابِهِمْ فَقَطْ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إضْرَارٌ بِالْمُسْلِمِينَ بِرَدِّهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ .
نَعَمْ لَهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً بِوَضْعِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ بِلَا مَالٍ يَدْفَعُهُ إلَيْهِمْ فَيَكُونُوا فُقَرَاءَ يَكْتَسِبُونَ بِالسَّعْيِ وَالْأَعْمَالِ ، وَلَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ كَمَا سَيَذْكُرُ .
هَذَا وَقَدْ قِيلَ الْأَوْلَى الْأَوَّلُ وَهُوَ قِسْمَةُ الْأَرَاضِي وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِهَا .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ قِسْمَةِ الْأَرْضِ بِقِسْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَيْبَرَ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ بَلْدَةٌ وَلَا قَرْيَةٌ إلَّا قَسَمْتهَا بَيْنَ أَهْلِهَا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ } .
وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ : أَخْبَرْنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعْت { عُمَرَ يَقُولُ : لَوْلَا أَنْ يُتْرَكَ آخِرُ النَّاسِ لَا شَيْءَ لَهُمْ مَا فَتَحَ الْمُسْلِمُونَ قَرْيَةً إلَّا قَسَمْتهَا سُهْمَانًا كَمَا قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ سُهْمَانًا } فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ قَسَّمَهَا كُلَّهَا .
وَاَلَّذِي فِي أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ {
قَسَّمَ خَيْبَرَ نِصْفَيْنِ نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ وَنِصْفًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا } .
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَسَّمَهَا سِتَّةً وَثَلَاثِينَ سَهْمًا جَمَعَ كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ : يَعْنِي أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ سَهْمًا } .
وَقَدْ جَاءَ مُبَيَّنًا كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَزَلَ النِّصْفَ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنْ الْوُفُودِ وَالْأُمُورِ وَنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ .
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ نِصْفُ النِّصْفِ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مَعْنَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ .
ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ النِّصْفَ كَانَ الْوَطِيحَ وَالْكَتِيبَةَ وَالسَّلَالِمَ وَتَوَابِعَهَا ، فَلَمَّا صَارَتْ الْأَمْوَالُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ فَعَامَلَهُمْ .
زَادَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ فَعَامَلَهُمْ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ عُمَرُ ، فَكَثُرَ الْعُمَّالُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَقَوُوا عَلَى الْعَمَلِ ، فَأَجْلَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْيَهُودَ إلَى أَرْضِ الشَّامِ وَقَسَمَ الْأَمْوَالَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَوْمِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي فِي أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ كُلُّهَا عَنْوَةً أَوْ بَعْضُهَا صُلْحًا ، وَصَحَّحَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الْأَوَّلَ .
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ الثَّانِيَ ، وَغَلَّطَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَالَ : وَإِنَّمَا دَخَلَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْحِصْنَيْنِ اللَّذَيْنِ أَسْلَمَهُمَا أَهْلُهُمَا فِي
حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَهُمَا الْوَطِيحُ وَالسَّلَالِمُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَاصَرَهُمْ فِيهِمَا حَتَّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ سَأَلُوهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ ، وَأَنْ يَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ ، فَحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَمْوَالَ وَجَمِيعَ الْحُصُونِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ أَهْلُ ذَيْنِك الْحِصْنَيْنِ مَغْنُومِينَ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ صُلْحٌ ، وَلَعَمْرِي إنَّهُ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ لَضَرْبٌ مِنْ الصُّلْحِ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتْرُكُوا أَرْضَهُمْ إلَّا بِالْحِصَارِ وَالْقِتَالِ فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِ سَائِرِ أَرْضِ خَيْبَرَ كُلِّهَا عَنْوَةً غَنِيمَةً مَقْسُومَةً بَيْنَ أَهْلِهَا ، إلَى أَنْ قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ صُلْحًا لَمَلَكَهَا أَهْلُهَا كَمَا مَلَكَ أَهْلُ الصُّلْحِ أَرْضَهُمْ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ } فَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَيْ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً دُونَ مَا قَالَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْهُ ا هـ ( قَوْلُهُ : وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ إلَى قَوْلِهِ : هَكَذَا فَعَلَ عُمَرُ بِسَوَادِ الْعِرَاقِ ) لَا شَكَّ فِي إقْرَارِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْلَ السَّوَادِ وَوَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ عَامِرٍ أَوْ غَامِرٍ عَمِلَهُ صَاحِبُهُ أَوْ لَمْ يَعْمَلْهُ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا ، وَفَرَضَ عَلَى كُلِّ جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشْرَةً وَعَلَى الرِّطَابِ خَمْسَةً ، وَفَرَضَ عَلَى رِقَابِ الْمُوسِرِينَ فِي الْعَامِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَعَلَى مَنْ دُونَهُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ ، وَعَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ، فَحُمِلَ فِي أَوَّلِ سَنَةٍ إلَى عُمَرَ ثَمَانُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، إلَّا أَنَّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقُسِمَتْ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ، فَجُعِلَتْ لِأَهْلِ الْخُمُسِ وَالْمَنْقُولَاتِ لِلْغَانِمَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ عِنْدَهُمْ
أَنَّهُ لَمْ يَخُصَّهَا بِأَهْلِ الْخُمُسِ لَكِنَّهُ اسْتَطَابَ قُلُوبَ الْغَانِمِينَ وَاسْتَرَدَّهَا وَرَدَّهَا عَلَى أَهْلِهَا بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ .
وَقَالَ ابْنُ شُرَيْحٍ : بَاعَهَا مِنْ أَهْلِهَا بِثَمَنٍ مُنَجَّمٍ .
وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي أَنَّ السَّوَادَ فُتِحَ عَنْوَةً ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَظَّفَ مَا ذَكَرْنَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ مُحْتَجًّا قَوْله تَعَالَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } أَيْ الْغَنِيمَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لَهُمْ بِالْمَنِّ بِوَضْعِ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ ، وَتَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ كَبِلَالٍ وَسَلْمَانَ ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فَدَعَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : فَلَمْ يُحْمَدُوا وَنَدِمُوا وَرَجَعُوا إلَى رَأْيِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِسْمَةَ الْأَرَاضِي لَيْسَ حَتْمًا أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً وَلَمْ يَقْسِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضَهَا ، وَلِهَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ تَصِيرُ الْأَرْضُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ أَدْرَى بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ ، وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ صُلْحًا لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا بَلْ عَلَى نَقِيضِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ } وَلَوْ كَانَ صُلْحًا لَأَمِنُوا كُلُّهُمْ بِهِ بِلَا حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ وَإِلَى مَا ثَبَتَ مِنْ إجَارَةِ أُمِّ هَانِئٍ مِنْ إجَارَتِهِ وَمُدَافَعَتِهَا عَلَيْهَا عَنْ قَتْلِهِ ، { وَأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ بَعْدَ دُخُولِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ } .
وَأَظْهَرُ مِنْ الْكُلِّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
{ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا لَهُ إنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ } فَقَوْلُهُ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرِيحٌ فِي ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) فَعِنْدَهُ يَقْسِمُ الْكُلَّ ( لِأَنَّ فِي الْمَنِّ ) بِالْأَرْضِ ( إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ ) عَلَى قَوْلِكُمْ ( أَوْ مِلْكِهِمْ ) عَلَى قَوْلِي ( فَلَا يَجُوزُ ) لِلْإِمَامِ ذَلِكَ ( بِلَا بَدَلٍ يُعَادِلُهُ وَالْخَرَاجُ لَا يُعَادِلُ لِقِلَّتِهِ ) بِالنِّسْبَةِ إلَى رَقَبَةِ الْأَرْضِ ( بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْأَمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ ) مِنْ فِعْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ وُجُودِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُعَارِضُوهُ فَكَانَ إجْمَاعًا .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِمُخَالَفَةِ بِلَالٍ وَمَنْ مَعَهُ .
أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَوَّغْ اجْتِهَادُهُمْ بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ دَعَا عَلَيْهِمْ ، وَلَوْ سَوَّغُوا لَهُمْ ذَلِكَ لَمَّا دَعَا عَلَى الْمُخَالِفِ ( وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا ) لِلْمُسْلِمِينَ ( لِأَنَّهُمْ ) يَصِيرُونَ ( كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمُؤَنِ ) عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَفِي هَذَا مِنْ النَّظَرِ مَا لَا يَخْفَى ( مَعَ أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ ) فَيَحْصُلُ عُمُومُ النَّفْعِ لِلْمُسْلِمِينَ ( وَالْخَرَاجُ ، وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا ) فَرُبَّمَا يَتَحَصَّلُ مِنْهُ عَلَى طُولِ الزَّمَانِ أَضْعَافُ قِيمَةِ الْأَرْضِ
قَالَ ( وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قَتَلَ } ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ ( وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ ) لِأَنَّ فِيهَا دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ) لِمَا بَيَّنَّاهُ ( إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ) عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ) لِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا لَا يَقْتُلُهُمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِهِ ( وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ ) تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ إسْلَامِهِمْ قَبْلَ الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ بَعْدُ ( وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يُفَادَى بِهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ .
وَلَهُ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَدَفْعُ شَرِّ حَرْبِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْنَا ، وَالْإِعَانَةُ بِدَفْعِ أَسِيرَهُمْ إلَيْهِمْ مُضَافٌ إلَيْنَا .
أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتَدَلَّا بِأُسَارَى بَدْرٍ ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِمُسْلِمٍ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ ) أَيْ عَلَى الْأُسَارَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ { مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ .
وَلَنَا
قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } } وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ ، وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا
( قَوْلُهُ وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ ) يَعْنِي إذَا لَمْ يُسْلِمُوا ( لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قَتَلَ ) مِنْ الْأُسَارَى إذَا لَا شَكَّ فِي قَتْلِهِ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ الَّذِي قَالَتْ فِيهِ أُخْتُهُ قَتِيلَةُ الْأَبْيَاتِ الَّتِي مِنْهَا : يَا رَاكِبًا إنَّ الْأَثِيلَ مَظِنَّةٌ مِنْ صُبْحِ خَامِسَةٍ وَأَنْتَ مُوَفَّقُ أَبْلِغْ بِهَا مَيْتًا فَإِنَّ تَحِيَّةً مَا إنْ تُزَلْ بِهَا الرَّكَائِبُ تَخْفِقُ مِنِّي إلَيْك وَعَبْرَةٌ مَسْفُوحَةٌ جَادَتْ بِوَاكِفِهَا وَأُخْرَى تَخْنُقُ مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْت وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ الْأَبْيَاتِ وَطَعِيمَةُ بْنُ عَدِيٍّ وَهُوَ أَخُو الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ .
وَأَمَّا مَا قَالَ هُشَيْمٌ إنَّهُ قَتَلَ الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيٍّ فَغَلَطَ بِلَا شَكٍّ وَكَيْفَ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ : { لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا لَشَفَّعْته فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى } ( وَلِأَنَّ فِي قَتْلِهِمْ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ ) الْكَائِنِ مِنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ ( وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَصْلَحَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ) وَلِهَذَا قُلْنَا : لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغُزَاةِ أَنْ يَقْتُلَ أَسِيرًا بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الرَّأْيَ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَقَدْ يَرَى مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِرْقَاقِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَوْ قَتَلَ بِلَا مُلْجِئٍ بِأَنْ خَافَ الْقَاتِلُ شَرَّ الْأَسِيرِ كَانَ لَهُ أَنْ يُعَزِّرَهُ إذَا وَقَعَ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِهِ وَلَكِنْ لَا يَضْمَنُ بِقَتْلِهِ شَيْئًا ( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارَ ذِمَّةٍ لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّ عُمَرَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ السَّوَادِ .
وَقَوْلُهُ ( إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ ) يَعْنِي إذَا أُسِرُوا فَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الْأُسَارَى ، وَيَتَحَقَّقُ الْأَسْرُ فِي الْمُرْتَدِّينَ إذَا غُلِبُوا وَصَارُوا حَرْبًا ( عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) فِي
بَابِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ بَلْ إمَّا الْإِسْلَامُ أَوْ السَّيْفُ ( فَإِنْ أَسْلَمَ الْأُسَارَى ) بَعْدَ الْأَسْرِ ( لَا يَقْتُلُهُمْ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ قَتْلِهِمْ دَفْعُ شَرِّهِمْ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي الرِّقَّ جَزَاءً عَلَى الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ وَقَدْ وُجِدَ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمُلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى الْحَرْبِيِّ غَيْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْعَرَبِ ( بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ الْأَخْذِ ) لَا يَسْتَرِقُّونَ وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ إسْلَامٌ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمُلْكِ فِيهِمْ ( قَوْلُهُ وَلَا يُفَادِي بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) هَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَعَلَيْهَا مَشَى الْقُدُورِيُّ وَصَاحِبُ الْهِدَايَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُفَادِي بِهِمْ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ إلَّا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِنَّ عِنْدَهُمْ ، وَمَنَعَ أَحْمَدُ الْمُفَادَاةَ بِصِبْيَانِهِمْ ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
قِيلَ : وَهُوَ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأُسَارَى قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَا بَعْدَهَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَجُوزُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَجْهُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ( أَنَّ فِيهِ مَعُونَةَ الْكَفَرَةِ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا ، وَدَفْعُ شَرِّ حِرَابَتِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ ، لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ فَقَطْ ) وَالضَّرَرُ بِدَفْعِ أَسِرْهُمْ إلَيْهِمْ يَعُودُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمُوَافَقَةِ لِقَوْلِ الْعَامَّةِ إنَّ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ حُرْمَتَهُ عَظِيمَةٌ ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَعُودُ إلَيْنَا بِدَفْعِهِ إلَيْهِمْ يَدْفَعُهُ
ظَاهِرًا الْمُسْلِمُ الَّذِي يَتَلَخَّصُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ ضَرَرُ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَقُومُ بِدَفْعِهِ وَاحِدٌ مِثْلُهُ ظَاهِرًا فَيَتَكَافَآنِ ، ثُمَّ يَبْقَى فَضِيلَةُ تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ وَتَمْكِينِهِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي زِيَادَةُ تَرْجِيحٍ ، ثُمَّ إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَى رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِرَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ إيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ عَنْ أَبِيهِ { خَرَجْنَا مَعَ أَبِي بَكْرٍ أَمَّرَهُ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنْ قَالَ : فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ لِي : يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ لِلَّهِ أَبُوكَ : أَعْنِي الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ نَفَّلَهُ إيَّاهَا ، فَقُلْت : هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَاَللَّهِ مَا كَشَفْت لَهَا ثَوْبًا ، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَدَى بِهَا نَاسًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا أُسِرُوا بِمَكَّةَ } إلَّا أَنَّ هَذَا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُفَادُونَ بِالنِّسَاءِ وَيَبْقَى الْأَوَّلُ ( قَوْلُهُ أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا ) فِي الْمُفَادَاةِ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ رَدِّهِ حَرْبًا عَلَيْنَا ( وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ ) إذْ لَا شَكَّ فِي احْتِيَاجِ الْمُسْلِمِينَ بَلْ فِي شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إذَا ذَاكَ ، فَلْيَكُنْ مَحْمَلُ الْمُفَادَاةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدْرٍ بِالْمَالِ .
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ تِلْكَ الْمُفَادَاةِ مِنْ الْعَتَبِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } أَيْ يَقْتُلَ أَعْدَاءَ اللَّهِ مِنْ الْأَرْضِ فَيَنْفِيَهُمْ
عَنْهَا { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ } قَوْله تَعَالَى { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } وَهُوَ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَحَدًا قَبْلَ النَّهْيِ ، وَلَمْ يَكُنْ نَهَاهُمْ { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } مِنْ الْغَنَائِمِ وَالْأُسَارَى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } ثُمَّ أَحَلَّهَا لَهُ وَلَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ تَعَالَى فَقَالَ { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } هِيَ لِلْمَجْمُوعِ مِنْ الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ لِلْغَنِيمَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ .
قُلْنَا : لَوْ سَلَّمَ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَضُرَّ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ ، وَفِي رَدِّهِ تَكْثِيرُ الْمُحَارَبِينَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ .
وَفِي الْكَشَّافِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ .
وَأَبُو بَكْرٍ بِأَخْذِ الْفِدَاءِ تَقَوِّيًا وَرَجَاءَ أَنْ يُسْلِمُوا .
وَرُوِيَ { أَنَّهُمْ لَمَّا أَخَذُوا الْفِدَاءَ نَزَلَتْ الْآيَةُ ، فَدَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِذَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ : أَبْكِي عَلَى أَصْحَابِك فِي أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ } قَالَ : وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ } لِقَوْلِهِ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَلَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ وَهُوَ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ ) فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَخْلِيصَ مُسْلِمٍ مِنْ غَيْرِ إضْرَارٍ لِمُسْلِمٍ آخَرَ ( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الْأُسَارَى ) وَهُوَ أَنْ يُطْلِقَهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) إذَا رَأَى الْإِمَامُ ذَلِكَ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنَّ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ مِنْهُمْ أَبُو الْعَاصِ بْنُ أَبِي الرَّبِيعِ } عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد مِنْ طَرِيقِهِ إلَى عَائِشَةَ { لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ ، بَعَثْت زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بِمَالٍ وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ كَانَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ حِينَ بَنَى بِهَا ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : إنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا ، فَفَعَلُوا } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَزَادَ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَ زَيْنَبَ إلَيْهِ فَفَعَلَ } وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مِمَّنْ مَنَّ عَلَيْهِ الْمُطَّلِبُ بْنُ حَنْطَبٍ أَسَرَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ فَخَلَّى سَبِيلَهُ .
وَأَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ كَانَ مُحْتَاجًا ذَا بَنَاتٍ فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَّ عَلَيْهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا ، وَامْتَدَحَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبْيَاتٍ ثُمَّ قَدِمَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ فَأُسِرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكَّةَ بَعْدَهَا ، تَقُولُ خَدَعْت مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ } وَيَكْفِي مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أُسَارَى بَدْرٍ { لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ } وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ شَارِحٍ بِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْمَنُّ ؛ لِأَنَّ لَوْ لِامْتِنَاعِ الشَّيْءِ لِامْتِنَاعِ غَيْرِهِ : يَعْنِي فَيُفِيدُ
امْتِنَاعَ الْمَنِّ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى بَصَرٍ بِالْكَلَامِ أَنَّ التَّرْكِيبَ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَلَّمَهُ لَتَرَكَهُمْ وَصِدْقُهُ وَاجِبٌ وَهُوَ بِأَنْ يَكُونَ الْمَنُّ جَائِزًا فَقَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُطْلِقُهُمْ لَوْ سَأَلَهُ إيَّاهُمْ ، وَالْإِطْلَاقُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ إلَّا وَهُوَ جَائِزٌ شَرْعًا ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَقَعْ لِعَدَمِ وُقُوعِ مَا عُلِّقَ عَلَيْهِ ، لَا يَنْفِي جَوَازَهُ شَرْعًا وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } مِنْ سُورَةِ بَرَاءَةَ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ الْمَنِّ وَهِيَ آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، وَقِصَّةُ بَدْرٍ كَانَتْ سَابِقَةً عَلَيْهَا .
وَقَدْ يُقَالُ إنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأُسَارَى بِدَلِيلِ جَوَازِ الِاسْتِرْقَاقِ ، فِيهِ يُعْلَمُ أَنَّ الْقَتْلَ الْمَأْمُورَ حَتْمًا فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ
( وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا وَلَا يَتْرُكْهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَتْرُكُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ } .
وَلَنَا أَنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَبِخِلَافِ الْعَقْرِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ ، وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا ، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ ) أَيْ مِنْ مَوَاشِي أَهْلِ الْحَرْبِ ( فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا ثُمَّ أَحْرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا ) كَمَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُثْلَةِ بِالْحَيَوَانِ ، وَعَقَرَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَسَهُ رُبَّمَا كَانَ لِظَنِّهِ عَدَمَ الْفَتْحِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ فَخَشَى أَنْ يَنَالَ الْمُشْرِكُونَ فَرَسَهُ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الذَّبْحِ لِضِيقِ الْحَالِ عَنْهُ بِالشُّغْلِ بِالْقِتَالِ أَوْ كَانَ قَبْلَ نَسْخِ الْمُثْلَةِ أَوْ عِلْمِهِ بِهَا ( وَلَا يَتْرُكُهَا ) لَهُمْ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَأَحْمَدُ ( يَتْرُكُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ } ) قُلْنَا : هَذَا غَرِيبٌ لَمْ يُعْرَفْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَعَمْ رُوِيَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ نَفْسِهِ ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ : أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعَثَ جُيُوشًا إلَى الشَّامِ ، فَخَرَجَ يَتْبَعُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ : إنِّي أُوصِيَك بِعَشْرٍ : لَا تَقْتُلُنَّ صَبِيًّا وَلَا امْرَأَةً وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا ، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا ، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً وَلَا بَقَرَةً إلَّا لِمَأْكَلَةٍ ، وَلَا تُخْرِبَنَّ عَامِرًا ، وَلَا تُحَرِّقَنَّ ، وَلَا تُغْرِقَنَّ ، وَلَا تَجْبُنْ ، وَلَا تَغْلُلْ .
ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا آنَسَ الْفَتْحُ وَصَيْرُورَةُ الْبِلَادِ دَارَ إسْلَامٍ وَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمُسْتَمِرَّ فِي بُعُوثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَبِاعْتِبَارِهِ كَانَ ذَلِكَ وَقَدْ قُلْنَا بِذَلِكَ .
وَذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ فَلَا تُحْرِقْ وَلَا تُخْرِبْ لِأَنَّهُ إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ لَا تُحَرِّقَنَّ وَهُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ عَلِمَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَغِرْ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ثُمَّ حَرِّقْ } بَقِيَ مُجَرَّدُ ذَبْحِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّهُ لِغَرَضِ
الْأَكْلِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ ( وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَتِهِمْ ) وَتَعْرِيضِهِمْ عَلَى الْهَلَكَةِ وَالْمَوْتِ وَإِنَّمَا يَحْرِقُ ( لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ ) وَالتَّحْرِيقُ لِهَذَا الْغَرَضِ الْكَرِيمِ ( بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ) وَفِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ { بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْثٍ فَقَالَ لَنَا : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَحْرَقُوهُمَا بِالنَّارِ ، فَلَمَّا خَرَجْنَا دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا فَاقْتُلُوهُمَا وَلَا تُحَرِّقُوهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ } وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ وَسَمَّاهُمَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ وَنَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْقَيْسِ ، وَطَوَّلَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَذَكَرَ السَّبَبَ أَنَّهُمَا كَانَا رَوَّعَا زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَتْ لَاحِقَةً بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا .
وَالْقَضِيَّةُ مُفَصَّلَةٌ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ مَعْرُوفَةٌ لِأَهْلِ السِّيَرِ .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا { تَحْرِيقَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الزَّنَادِقَةَ الَّذِينَ أَتَى بِهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حَيَّانِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخَذْتُ بُرْغُوثًا فَأَلْقَيْته فِي النَّارِ ، فَقَالَتْ : سَمِعْت أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ } هَذَا ( وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا ، وَمَا لَا
يَحْتَرِقُ مِنْهَا كَالْحَدِيدِ يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ ) وَمَا فِي فَتَاوَى الْوَلْوَالِجِيِّ : تُتْرَكُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي أَرْضٍ غَامِرَةٍ : أَيْ خَرِبَةٍ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا كَيْ لَا يَعُودُوا حَرْبًا عَلَيْنَا ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ بِهِنَّ النَّسْلُ وَالصِّبْيَانُ يَبْلُغُونَ فَيَصِيرُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا فَبَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْذِيبِ ، ثُمَّ هُمْ قَدْ صَارُوا أُسَارَى بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ .
وَقَدْ { أَوْصَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسْرَى خَيْرًا } .
حَدَّثَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ نَبِيهِ بْنِ وَهْبٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الدَّارِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَقْبَلَ بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ : اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا ، فَقَالَ أَبُو عَزِيزٍ : مَرَّ بِي أَخِي مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَأْسِرُنِي فَقَالَ لَهُ شُدَّ يَدَيْكَ بِهِ فَإِنَّ أُمَّهُ ذَاتُ مَتَاعٍ ، قَالَ : وَكُنْت فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بِي مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعِشَاءَهُمْ خَصُّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التَّمْرَ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ بِنَا ، مَا يَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةٌ مِنْ الْخُبْزِ إلَّا نَفَحَنِي بِهَا ، قَالَ : فَأَسْتَحْيِي فَأَرُدُّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدُّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسُّهَا } فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْتُلُوا جُوعًا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَضْطَرُّوا إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ عَدَمِ الْحَمْلِ وَالْمِيرَةِ فَيَتْرُكُوا ضَرُورَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( وَلَا يُقَسِّمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ .
لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فِي الصَّيُودِ ، وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِيلَاءِ سِوَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَ .
وَلَنَا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ } ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيهِ ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ مَعْنًى فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ وَالثَّانِي مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ وَوُجُودِهِ ظَاهِرًا .
ثُمَّ قِيلَ : مَوْضِعُ الْخِلَافِ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ .
وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَسِّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ ، إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ سَلَبِ الْجَوَازِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ .
( قَوْلُهُ وَلَا تُقَسَّمُ غَنِيمَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى تَخْرُجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ) إذَا انْهَزَمَ الْكُفَّارُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يُقَسِّمَهَا حَتَّى يُحْرِزَهَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ .
وَعَنْهُ إنْ لَمْ تَكُنْ مَعَ الْإِمَامِ حَمُولَةٌ يَحْمِلُهَا عَلَيْهَا يُقَسِّمُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ ) بِالْهَزِيمَةِ وَيَلْزَمُهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْإِمَامِ هُنَاكَ لَا تُفِيدُ مِلْكًا إلَّا إذَا كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَإِنَّهُ أَمْضَى الْقَضَاءَ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ أَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ فَإِنَّ الْحَاجَةَ مَوْضِعُهَا مُسْتَثْنًى .
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا بِالْقِسْمَةِ حَيْثُمَا كَانَتْ ، أَوْ بِاخْتِيَارِ الْغَانِمِ التَّمَلُّكَ ، وَلَيْسَ هُوَ قَائِلًا إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ بِالْهَزِيمَةِ كَمَا نَقَلُوا عَنْهُ .
وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْقَسْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ لِأَحَدٍ بَلْ يَتَأَكَّدُ الْحَقَّ ، لِهَذَا لَوْ أَعْتَقَ وَاحِدٌ مِنْ الْغَانِمِينَ عَبْدًا بَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَعْتِقُ ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ عَتَقَ بِعِتْقِ الشَّرِيكِ وَيَجْرِي فِيهِ مَا عُرِفَ فِي عِتْقِ الشَّرِيكِ ، وَتَخْرُجُ الْفُرُوعُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا : مِنْهَا لَوْ وَطِئَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاحِدَةً مِنْ السَّبْيِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ عِنْدَهُ لَا لِوَطْئِهِ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الْهَزِيمَةِ بَلْ لِاخْتِيَارِهِ التَّمَلُّكَ فَبِالْهَزِيمَةِ ثَبَتَ لِكُلٍّ حَقُّ الْمِلْكِ ، فَإِنْ سَلَّمْت بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَخَذَهَا ، وَإِلَّا أَخَذَهَا وَكَمَّلَ مِنْ مَالِهِ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْحَمْلِ .
وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَحْدُثُ لِثُبُوتِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَتُقْسَمُ الْجَارِيَةُ وَالْوَلَدُ وَالْعُقْرُ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عِنْدَنَا ، وَإِنْ تَأَكَّدَ الْحَقَّ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ ، بِخِلَافِ اسْتِيلَادِ جَارِيَةِ الِابْنِ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ فَيَتَمَلَّكُهَا بِنَاءً عَلَى الِاسْتِيلَادِ ، وَلَيْسَ لَهُ هُنَا تَمَلُّكُ الْجَارِيَةِ بِدُونِ رَأْيِ الْإِمَامِ .
نَعَمْ لَوْ قُسِمَتْ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ أَوْ الْعَرَّافَةِ فَوَقَعَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ صَحَّ اسْتِيلَادُ أَحَدِهِمْ لَهَا لِأَنَّهُ يَصِحُّ عِتْقُهُ لَهَا لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الرَّايَةِ ، وَالْعَرَّافَةُ شَرِكَةُ مِلْكٍ ، وَعِتْقُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ نَافِذٌ ، لَكِنَّ هَذَا إذَا قَلُّوا حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ خَاصَّةً ، أَمَّا إذَا كَثُرُوا فَلَا ؛ لِأَنَّ بِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْإِعْتَاقِ .
قَالَ : وَالْقَلِيلُ إذَا كَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلَّ ، وَقِيلَ أَرْبَعُونَ ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخْرَى ، قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُوَقِّت وَيُجْعَلَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ .
وَمِنْهَا جَوَازُ الْبَيْعِ مِنْ الْإِمَامِ لِبَعْضِ الْغَنِيمَةِ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ لَا عِنْدَنَا مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا .
وَمِنْهَا لَوْ مَاتَ بَعْضُ الْغُزَاةِ أَوْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يُوَرَّثُ سَهْمُهُ عِنْدَنَا وَيُوَرَّثُ عِنْدَهُ بِنَاءً عَلَى التَّأَكُّدِ بِالْهَزِيمَةِ حَتَّى صَحَّ مِنْهُ التَّمَلُّكُ وَالتَّأَكُّدُ يَكْفِي لِلْإِرْثِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ إنَّهُ يُوَرَّثُ إذَا مَاتَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْقِسْمِ لِلتَّأَكُّدِ لَا لِلْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَقَّ الْمُؤَكَّدَ يُوَرَّثُ كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، بِخِلَافِ الضَّعِيفِ كَالشُّفْعَةِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ
بِإِبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِلَا ضَرُورَةٍ وَبِعَدَمِ ضَمَانِ مَا أُتْلِفَ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ فَكَانَ حَقًّا ضَعِيفًا كَحَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ إنْ مَنَعُوا الثَّانِيَ لَمْ يَمْنَعُوا الْأَوَّلَ .
وَمِنْهَا لَوْ لَحِقَ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْقَسْمِ شَارَكَ عِنْدَنَا لَا عِنْدَهُ لِلتَّأَكُّدِ وَعَدَمِهِ فَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْغُزَاةِ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقُّ التَّمَلُّكِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْتِقُ ، وَكَذَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ إذَا أَسْلَمُوا بَعْدَ أَخْذِهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْغُزَاةِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِي الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ .
ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ ، وَمَعْنَاهُ : إذَا لَمْ يُؤْخَذُوا فَإِنَّ إسْلَامَهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ لَا يُزِيلُ عَنْهُمْ الرِّقَّ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ فِي الْغَنِيمَةِ كَالْمَدَدِ .
وَفِي التُّحْفَةِ : لَوْ أَتْلَفَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا ، قَالَ : وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ حَقُّ الْمِلْكِ وَيَسْتَقِرُّ ، وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْ الْغُزَاةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ ، وَلَوْ بَاعَ الْإِمَامُ جَازَ ، وَلَوْ لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ لَا يُشَارِكُونَ وَيَضْمَنُ الْمُتْلَفَ ، وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي التُّحْفَةِ مَاشٍ مَعَ مَا فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ : فَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْحَقُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَتَأَكَّدُ بِالْإِحْرَازِ وَيَمْلِكُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ ، وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَوَجَّهَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ يَتِمُّ بِالْهَزِيمَةِ ؛ لِأَنَّ بِهَا يَتَحَقَّقُ
الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَمْلِكُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنَى الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ إلَّا سَبْقَ الْيَدِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ كَمَا فِي الصَّيْدِ وَالْحَطَبِ ، وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ وَأَوْطَاسَ فِي دِيَارِهِمْ } .
وَلَنَا مَنْعُ أَنَّ السَّبَبَ تَمَّ فَإِنَّ تَمَامَهُ بِثُبُوتِ الْيَدِ النَّاقِلَةِ ، أَيْ قُدْرَةِ النَّقْلِ وَالتَّصَرُّفِ كَيْفَ شَاءَ نَقْلًا وَادِّخَارًا وَهَذَا مُنْتَفٍ عَنْهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ عَلَيْهِمْ وَالِاسْتِنْقَاذَ مِنْهُمْ لَيْسَ بِبَعِيدٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّارَ مُضَافَةٌ إلَيْهِمْ فَدَلَّ أَنَّهُ مَقْهُورٌ مَا دَامَ فِيهَا نَوْعًا مِنْ الْقَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا دَارَ حَرْبٍ وَيَنْصَرِفَ عَنْهَا فَكَانَ قَاهِرًا مِنْ وَجْهٍ مَقْهُورًا مِنْ وَجْهٍ ، فَكَانَ اسْتِيلَاءً مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَمْ يَتِمَّ سَبَبُ مِلْكِ الْمُبَاحِ فَلَمْ يَمْلِكْ فَلَمْ تَصِحَّ الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْنًى ، فَإِنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ وَفِي الْقِسْمَةِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ كُلَّ شَرِيكٍ لَمَّا اجْتَمَعَ نَصِيبُهُ فِي الْعَيْنِ كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ نَصِيبِهِ فِي الْبَاقِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ مُرَاغَمًا حَيْثُ يَعْتِقُ بِوُصُولِهِ إلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَكَذَا الْمَرْأَةُ الْمُرَاغَمَةُ تَبِينُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي عَبِيدِ الطَّائِفِ هُمْ عُتَقَاءُ اللَّهِ } وَلِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَكْفِي فِيهِ امْتِنَاعُهُ ظَاهِرًا فِي الْحَالِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } الْآيَةَ ، وَقِسْمَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ إلَى الْجِعْرَانَةِ ، وَكَانَتْ أَوَّلَ حُدُودِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ وَأَرْضُ حُنَيْنٍ وَبَنِي
الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ وَبِثُبُوتِ الْأَمْنِ لِلْمُقِيمِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا ، وَكَوْنُهَا مُتَاخِمَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا بِالْأَوَّلِ فَقَطْ .
وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت أَنَّ الْخِلَافَ لَيْسَ كَمَا قِيلَ بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِمُجَرَّدِ الْهَزِيمَةِ بَلْ فِي أَنَّ الْقِسْمَةَ هَلْ تُوجِبُ الْمِلْكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَمْكَنَكَ أَنْ تَجْعَلَ الدَّلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى ذَلِكَ .
وَتَقْرِيرُهُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ صِحَّتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَمَامِ الِاسْتِيلَادِ عَلَى الْمُبَاحِ ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقِسْمُ مَلَكَ .
وَلَنَا مَنْعُ تَمَامِ السَّبَبِ فَلَا تُفِيدُ الْقِسْمَةُ الْمِلْكَ إلَّا عِنْدَ تَمَامِهِ وَهُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِسْمَةَ إنَّمَا لَا تَصِحُّ إذَا قَسَمَ بِلَا اجْتِهَادٍ أَوْ اجْتَهَدَ فَوَقَعَ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، أَمَّا إذَا قَسَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجْتَهِدًا فَلَا شَكَّ فِي الْجَوَازِ وَثُبُوتِ الْأَحْكَامِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ } فَغَرِيبٌ جِدًّا .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْخِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ أَوْ فِي كَرَاهَتِهَا ، فَقِيلَ : الْمُرَادُ عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْأَحْكَامُ مِنْ حِلِّ الْوَطْءِ وَنَفَاذِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ .
وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ لَا بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُمْ إذَا اشْتَغَلُوا بِهَا يَتَكَاسَلُونَ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَرُبَّمَا يَتَفَرَّقُونَ ، فَرُبَّمَا يَكُرُّ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ فَكَانَ الْمَنْعُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَلَا يُعْدَمُ الْجَوَازُ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( هِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَقْسِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ
لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا قَسَمَ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ } ، وَالْأَفْعَالُ الْمُتَّفِقَةُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَكُونُ إلَّا لِدَاعٍ هِيَ كَرَاهَةُ خِلَافِهِ أَوْ بُطْلَانِهِ ، وَالْكَرَاهَةُ أَدْنَى فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ .
قِيلَ : وَنُقِلَ الْخِلَافُ هَكَذَا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَبْسُوطِ غَيْرَ جَيِّدٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ خِلَافٌ عَنْهُمْ إلَّا مَا يُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسَائِلَ الْإِفْرَادِيَّةَ الْمَوْضُوعَةَ مُصَرِّحَةٌ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، مِثْلَ مَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ لَا يُوَرَّثُ حَقُّهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَأَنَّهُ لَا يُبَاعُ مِنْ ذَلِكَ الْعَلَفِ وَنَحْوِهِ شَيْءٌ ، وَمِنْهَا عَدَمُ جَوَازِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ ، وَجَوَازُهُ قَبْلَهُ وَمُشَارَكَةُ الْمَدَدِ اللَّاحِقِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، ثُمَّ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ : أَيْ بُطْلَانِ الْقِسْمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ رَاجِحٌ عَلَى دَلِيلِ جَوَازِهَا ، إلَّا أَنَّهُ تَقَاعُدٌ عَنْ سَلْبِ الْجَوَازِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ سَلْبُ الْجَوَازِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَبْطُلْ الْمَرْجُوحُ ، وَإِذَا لَمْ يَبْطُلْ حَصَلَ مِنْ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِينَ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ الْكَرَاهَةُ كَمَا فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ لَمَّا انْتَفَتْ النَّجَاسَةُ لَمْ تَنْتَفِ الْكَرَاهَةُ ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَنْبُو عَنْ الْقَوَاعِدِ ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالرَّاجِحِ مِنْ الدَّلِيلِينَ وَتَرْكِ الْمَرْجُوحِ .
وَإِذَا كَانَ الرَّاجِحُ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ تَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْبُطْلَانِ عِنْدَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي تَرَجَّحَ عِنْدَهُ وَكُوِّنَ لَهُ مُخَالِفٌ وَلَا إجْمَاعَ لَا يُوجِبُ ، بَلْ لَا يَجُوزُ لِذَلِكَ الْمُجْتَهِدِ النُّزُولُ عَنْ مُقْتَضَاهُ وَإِلَّا فَكُلُّ خِلَافِيَّةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ كَذَلِكَ ، وَإِذَا لَزِمَ حُكْمُ الْبُطْلَانِ فَمَا مُوجِبُ إثْبَاتِ الْكَرَاهَةِ ؟ وَالتَّحْقِيقُ فِي سُؤْرِ الْهِرَّةِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ لِعَدَمِ تَحَامِيهَا مِنْ
النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ حُرْمَةِ اللَّحْمِ الْمُوجِبَ لِنَجَاسَةِ السُّؤْرِ عَارِضَةُ شِدَّةِ الْمُخَالَطَةِ وَتَرَجَّحَ عَلَيْهِ فَانْتَفَتْ النَّجَاسَةُ .
وَالْكَرَاهَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَاجُ خُصُوصُهُ إلَى دَلِيلٍ ، وَشِدَّةُ الْمُخَالَطَةِ دَلِيلُ الطَّهَارَةِ فَقَطْ فَتَبْقَى الْكَرَاهَةُ بِلَا دَلِيلٍ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ ، أَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ لَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَنَحْوِهِ قَسَمَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ
( وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ أَوْ شُهُودُ الْوَقْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ( وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ عِنْدَنَا بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا ، لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ شَرِكَةِ الْمَدَدِ .
قَالَ ( وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يُسْهِمُ لَهُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ } وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْجِهَادَ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ .
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَانْعَدَمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْقِتَالُ فَيُفِيدُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا عِنْدَ الْقِتَالِ ، وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ .
( قَوْلُهُ وَالرِّدْءُ ) أَيْ الْعَوْنُ ( وَالْمُقَاتِلُ ) أَيْ الْمُبَاشِرُ لِلْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ وَكَذَا أَمِيرُ الْعَسْكَرِ ( سَوَاءٌ ) فِي الْغَنِيمَةِ لَا يَتَمَيَّزُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى آخَرَ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا بِلَا خِلَافٍ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَسَنُبَيِّنُ سَبَبَهُ فِيمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ ) أَيْ الْمَدَدَ ( فِيهَا ) وَعَنْ الشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتِمُّ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَجَازَ أَنْ يُشَارِكَهُمْ الْمَدَدَ إذَا قَامَ بِهِ الدَّلِيلُ ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَدَدِ إلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ : الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْقِسْمَةُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَبَيْعُ الْإِمَامِ الْغَنِيمَةَ قَبْلَ لِحَاقِ الْمَدَدِ .
هَذَا وَعَلَى مَا حَقَقْنَاهُ الْمَبْنِيُّ تَأَكَّدَ وَعَدَمُهُ ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَانًا عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ ، فَقَدِمَ أَبَانٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَمَا فَتَحَهَا ، إلَى أَنْ قَالَ : فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ } لَا دَلِيلَ فِيهِ ، لِأَنَّ وُصُولَ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُوجِبُ شَرِكَةً ، وَخَيْبَرُ صَارَتْ دَارَ إسْلَامٍ بِمُجَرَّدِ فَتْحِهَا فَكَانَ قُدُومُهُمْ وَالْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا إسْهَامُهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَلَى مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ : { بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ فِي بِضْعٍ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي .
فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا إلَى
النَّجَاشِيِّ ، فَوَفَيْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ ، فَقَالَ جَعْفَرٌ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَنَا هَاهُنَا وَأَمَرَنَا بِالْإِقَامَةِ فَأَقِيمُوا مَعَنَا فَأَقَمْنَا حَتَّى قَدِمْنَا فَوَافَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ فَأَسْهَمَ لَنَا .
وَلَمْ يُسْهِمْ لِأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ إلَّا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا } فَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : إنَّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ لِيَسْتَمِيلَ قُلُوبَهُمْ لَا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ حَسَنٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدْهَا .
وَحَمَلَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُمْ شَهِدُوا قَبْلَ حَوْزِ الْغَنَائِمِ خِلَافَ مَذْهَبِهِمْ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَيْنَ كَوْنِ الْوُصُولِ قَبْلَ الْحَوْزِ أَوْ بَعْدَهُ بَعْدَ كَوْنِهِ بَعْدَ الْفَتْحِ ( قَوْلُهُ : وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ ) أَيْ ( فِي الْغَنِيمَةِ ) لَا سَهْمَ وَلَا رَضْخَ ( إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا ) فَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقُّونَ السَّهْمَ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا كَقَوْلِنَا .
وَالْآخَرُ يُسْهِمُ لَهُمْ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ } وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ ، فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَظَهَرُوا ، فَأَرَادَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ أَنْ لَا يَقْسِمُوا لِأَهْلِ الْكُوفَةِ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ : أَيُّهَا الْعَبْدُ الْأَجْدَعُ تُرِيدُ أَنْ تُشَارِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا ؟ وَكَانَتْ أُذُنُهُ جُدِعَتْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : خَيْرُ
أُذُنِي سَبَبْت ، ثُمَّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَكَتَبَ عُمَرُ إنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ : وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ .
وَهَذَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ لَا يَرَى جَوَازَ تَقْلِيدِ الْمُجْتَهِدِ إيَّاهُ ، وَكَذَا عِنْدَ الْكَرْخِيِّ مِنْ مَشَايِخِنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ ( تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ) وَالْوَقْعَةُ هِيَ الْقِتَالُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْمُجْمَلِ الْوَقْعَةُ صَدْمَةُ الْحَرْبِ ، وَشُهُودُهُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ إنَّمَا يُعْرَفُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ : بِإِظْهَارِ خُرُوجِهِ لِلْجِهَادِ وَالتَّجْهِيزِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ ، ثُمَّ الْمُحَافَظَةُ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ الظَّاهِرِ ، وَهَذَا هُوَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَإِمَّا بِحَقِيقَةِ قِتَالِهِ بِأَنْ كَانَ خُرُوجُهُ ظَاهِرًا لِغَيْرِهِ كَالسُّوقِيِّ وَسَائِسِ الدَّوَابِّ فَإِنَّ خُرُوجَهُ ظَاهِرًا لِغَيْرِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ شُهُودِهِ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ، فَإِذَا قَاتَلَ ظَهَرَ أَنَّهُ قَصَدَهُ غَيْرَ أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ كَالتِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لَا يَنْتَقِصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ .
وَعَلَى كَوْنِ السَّبَبِ مَا قُلْنَا فَرْعَ مَا لَوْ أُسِرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا بَعْدَهُ غَنِيمَةً ثُمَّ انْفَلَتَ فَلَحِقَ بِالْجَيْشِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا شَارَكَهُمْ فِيهَا وَفِي كُلِّ مَا يُصِيبُونَهُ وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَهُ ، وَلَوْ لَحِقَ بِعَسْكَرٍ غَيْرِ الَّذِي خَرَجَ مَعَهُمْ وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلَ مَعَهُمْ ، لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ اللُّحُوقِ بِهِمْ الْفِرَارَ وَنَجَاةَ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَيُقَاتِلَ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَصَدَ بِاللَّحَاقِ بِهِمْ
الْقِتَالَ ، وَكَذَا مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ .
وَالْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ وَلَحِقَ بِالْعَسْكَرِ ، وَالتَّاجِرُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ إذَا لَحِقَ بِالْعَسْكَرِ إنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ
( وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْغَنَائِمُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ لِيَحْمُوَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا مِنْهُمْ فَيُقَسِّمَهَا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رِضَاهُمْ وَهُوَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ فِي الْمَغْنَمِ حَمُولَةً يَحْمِلُ الْغَنَائِمَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَمُولَةَ وَالْمَحْمُولَ مَالُهُمْ .
وَكَذَا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَضْلُ حَمُولَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ كَانَ لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِبَعْضِهِمْ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ رَفِيقِهِ فَضْلُ حَمُولَةٍ ، وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحْمِيلِ ضَرَرٍ خَاصٍّ ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَهَا ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ ( وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ ) لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْمِلْكِ ، وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ بَعْدَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيرٍ وَفَرَسٍ وَغَيْرِهِ ( يَقْسِمُهَا بَيْنَهُمْ ) فَقِيلَ : قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْحَاجَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بِالِاجْتِهَادِ فَتَصِحُّ ، وَقِيلَ قِسْمَةُ إيدَاعٍ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَسْتَرِدُّهَا فَيَقْسِمُهَا ، ثُمَّ عَلَى هَذَا يَكُونُ بِالْأُجْرَةِ وَهَلْ يُكْرِهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ لَا يُكْرِهُهُمْ لِأَنَّهُ انْتِفَاعٌ بِمَالِ الْغَيْرِ لَا يَطِيبُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَهُوَ كَمَنْ تَلِفَتْ دَابَّتُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَمَعَ رَفِيقِهِ دَابَّةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا كُرْهًا بِأَجْرِ الْمِثْلِ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ احْتِرَازٌ عَنْ مِثْلِ مَا إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ إجَارَةِ السَّفِينَةِ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ أَوْ الْبَعِيرِ فِي الْبَرِّيَّةِ فَإِنَّهُ تَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا إجَارَةٌ بِأَجْرِ الْمِثْلِ جَبْرًا .
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يُكْرِهُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الضَّرَرَ الْعَامَّ بِالضَّرَرِ الْخَاصِّ ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمْ ، وَالْأُجْرَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ .
وَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ إنْ خَافَ تَفَرُّقَهُمْ لَوْ قَسَمَهَا قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ يَفْعَلُ هَذَا وَإِنْ لَمْ يَخَفْ قَسَمَهَا قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ لِلْحَاجَةِ ، وَفِيهِ إسْقَاطُ الْإِكْرَاهِ وَإِسْقَاطُ الْأُجْرَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي الْمُخْتَصَرِ أَيْ الْقُدُورِيِّ قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ) لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ فِيهِ ) وَهَذَا فِي بَيْعِ الْغُزَاةِ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا بَيْعُ الْإِمَامِ لَهَا فَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ ، وَأَقَلُّهُ تَخْفِيفُ إكْرَاهِ الْحَمْلِ عَنْ النَّاسِ أَوْ عَنْ الْبَهَائِمِ وَنَحْوِهِ وَتَخْفِيفُ مُؤْنَتِهِ عَنْهُمْ فَيَقَعُ عَنْ اجْتِهَادٍ فِي
الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَقَعُ جُزَافًا فَيَنْعَقِدُ بِلَا كَرَاهَةٍ مُطْلَقًا ( قَوْلُهُ وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ ) تَقَدَّمَ تَفْرِيعُهَا عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ قَبْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَرْسَلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ ، وَقَدْ شَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى .
وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ .
وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تَحْمِلُوهَا } وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَصْحِبُ قُوتَ نَفْسِهِ وَعَلَفَ ظَهْرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهَا وَالْمِيرَةُ مُنْقَطِعَةٌ ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ ، وَقَدْ تُمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ فِي الْمَغْنَمِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ ، وَالطَّعَامُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ .
قَالَ ( وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ : الطِّيبَ ، ( وَيُدْهِنُوا بِالدُّهْنِ وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ ) لِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ ( وَيُقَاتِلُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ السِّلَاحِ ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا قِسْمَةٍ ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِلَاحٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَاحَةٌ وَصَارَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ بَاعَهُ أَحَدُهُمْ رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ عَيْنٍ كَانَتْ لِلْجَمَاعَةِ .
وَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْمَتَاعُ فَيُكْرَهُ
الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ ، إلَّا أَنَّهُ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا احْتَاجُوا إلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَدَدِ مُحْتَمَلٌ ، وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَةَ فِي السِّلَاحِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ وَاحِدٌ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَإِنْ احْتَاجَ الْكُلُّ يُقَسِّمُ فِي الْفَصْلَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجُوا إلَى السَّبْيِ حَيْثُ لَا يُقَسِّمُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ .
( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ ) عَلَفَ الدَّابَّةَ عَلَفًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ ضَرْبًا فَهِيَ مَعْلُوفَةٌ وَعَلِيفٌ وَالْعَلَفُ مَا اعْتَلَفَهُ .
وَحَاصِلُ مَا هُنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ إمَّا مَا يُؤْكَلُ أَوْ لَا ، وَمَا يُؤْكَلُ إمَّا يُتَدَاوَى بِهِ كَالْهِلِيلَجِ أَوْ لَا ، فَالثَّانِي لَيْسَ لَهُمْ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ كَالْفَرَسِ فَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْحَاجَةِ بِأَنْ مَاتَ فَرَسُهُ أَوْ انْكَسَرَ سَيْفُهُ .
أَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَفِّرَ سَيْفَهُ وَفَرَسَهُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ ، وَلَوْ فَعَلَ أَثِمَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لَوْ تَلِفَ نَحْوَ الْحَطَبِ ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا يَخْتَصُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَثَرًا لِلْمِلْكِ فَضْلًا عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ ، بِخِلَافِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهَا سَبَبُ الرُّخْصَةِ فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ إذَا انْقَضَى الْحَرْبُ ، وَكَذَا الثَّوْبُ إذَا ضَرَّهُ الْبَرْدُ فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَلَوْ تَلِفَ قَبْلَ الرَّدِّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ احْتَاجَ الْكُلُّ إلَى الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ قَسَمَهَا حِينَئِذٍ بَيْنَهُمْ ( وَلَمْ يَذْكُرْ ) مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قِسْمَةَ السِّلَاحِ وَلَا فَرْقَ ) كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ فِي السِّلَاحِ وَالثِّيَابِ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ السَّبْيِ لَا يَقْسِمُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ لَا مِنْ أُصُولِهَا فَيَسْتَصْحِبُهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُشَاةً ، فَإِنْ لَمْ يُطِيقُوا ، وَلَيْسَ مَعَهُ فَضْلُ حَمُولَةٍ قَتَلَ الرِّجَالَ وَتَرَكَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ ، وَهَلْ يُكْرَهُ مَنْ عِنْدَهُ فَضْلُ حَمُولَةٍ عَلَى الْحَمْلِ : يَعْنِي بِالْأَجْرِ فِيهِ رِوَايَتَانِ تَقَدَّمَتَا .
وَأَمَّا مَا يُتَدَاوَى بِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ تَنَاوُلُهُ ، وَكَذَا الطِّيبُ وَالْأَدْهَانُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ كَدُهْنِ الْبَنَفْسَجِ ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ بَلْ الْفُضُولُ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ } وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ بِأَحَدِهِمْ مَرَضٌ يَحُوجُهُ إلَى اسْتِعْمَالِهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ كَلُبْسِ الثَّوْبِ ، فَالْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ .
وَأَمَّا مَا يُؤْكَلُ لَا لِلتَّدَاوِي سَوَاءٌ كَانَ مُهَيَّأً لِلْأَكْلِ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْخُبْزِ وَالزَّبِيبِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَالْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ وَالرَّطْبَةِ وَالْبَصَلِ وَالشَّعِيرِ وَالتِّبْنِ وَالْأَدْهَانِ الْمَأْكُولَةِ كَالزَّيْتِ وَالسَّمْنِ فَلَهُمْ الْأَكْلُ ، وَالْأَدْهَانُ تِلْكَ الْأَدْهَانُ ؛ لِأَنَّ الْأَدْهَانَ انْتِفَاعٌ فِي الْبَدَنِ كَالْأَكْلِ وَيُوقِحُوا الدَّوَابَّ بِهَا ، وَتَوْقِيحُ الدَّابَّةِ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالدُّهْنِ إذَا حَفِيَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ .
وَالرَّاءُ أَيْ التَّرْقِيحُ خَطَأٌ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ لَكِنَّ الْأَصَحَّ جَوَازُهُ .
وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِالرَّاءِ مِنْ التَّرْقِيحِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ قَالَ : هَكَذَا قَرَأْنَا عَلَى الْمَشَايِخِ .
وَفِي الْجَمْهَرَةِ : رَقَّحَ عَيْشَهُ تَرْقِيحًا إذَا أَصْلَحَهُ وَأَنْشَدَ : يَتْرُكُ مَا رَقَّحَ مِنْ عَيْشِهِ يَعِيثُ فِيهِ هَمَجُ هَامِجٍ وَالْهَمَجُ مِنْ النَّاسِ هُمْ الَّذِينَ لَا نِظَامَ لَهُمْ ، فَالتَّرْقِيحُ أَعَمُّ مِنْ التَّوْقِيحِ ، وَكَذَا كُلُّ مَا يَكُونُ غَيْرَ مُهَيَّأٍ كَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ فَلَهُمْ ذَبْحُهَا وَأَكْلُهَا وَيَرُدُّونَ الْجِلْدَ إلَى الْغَنِيمَةِ .
ثُمَّ شَرَطَ فِي السِّيَرِ الصَّغِيرِ الْحَاجَةَ إلَى التَّنَاوُلِ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ، فَيَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ تَنَاوُلُهُ إلَّا التَّاجِرَ وَالدَّاخِلَ لِخِدْمَةِ الْجُنْدِيِّ بِأَجْرٍ لَا يَحِلُّ لَهُمْ ، وَلَوْ فَعَلُوا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَيَأْخُذُ مَا يَكْفِيهِ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَنِسَائِهِ وَصِبْيَانِهِمْ الَّذِينَ دَخَلُوا مَعَهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ مَا يَكْفِي الدَّاخِلَ لِخِدْمَتِهِ
كَعَبْدِهِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ عَادَةً فَصَارَ الْحَاصِلُ مَنْعَ الدَّاخِلِ بِنَفْسِهِ دُونَ الْغَازِي أَنْ يَأْخُذَ لِأَجَلِهِ ، وَلِأَنَّ دَلِيلَ الْحَاجَةِ قَائِمٌ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُنْقَطِعًا عَنْ الْأَسْبَابِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ نَحْوِ الثِّيَابِ وَالسِّلَاحِ يُنَاطُ بِحَقِيقَةِ الْحَاجَةِ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تُحَمِّلُوهَا } رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
أَنْبَأْنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بَشْرَانَ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنَا الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَوْمَ خَيْبَرَ كُلُوا وَاعْلِفُوا وَلَا تَحْمِلُوا } وَأَخْرَجَهُ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِغَيْرِ هَذَا السَّنَدِ ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يُوَافِقُ رِوَايَةَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى : " أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ " .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَانِئِ بْنِ كُلْثُومٍ أَنَّ صَاحِبَ جَيْشِ الشَّامِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّا فَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فَكَرِهْت أَنْ أَتَقَدَّمَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِأَمْرِك ، فَكَتَبَ إلَيْهِ : دَعْ النَّاسَ يَأْكُلُونَ وَيَعْلِفُونَ ، فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَفِيهِ خُمُسٌ لِلَّهِ وَسِهَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَهَذَا دَلِيلُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ ، فَإِنْ بَاعُوا رَدُّوا الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ عَيْنٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ الْغَانِمِينَ اسْتِحْقَاقًا
قَالَ ( وَمَنْ ) ( أَسْلَمَ مِنْهُمْ ) مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ( أَحْرَزَ بِإِسْلَامِهِ نَفْسَهُ ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ ( وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا ( وَكُلُّ مَالٍ هُوَ فِي يَدِهِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ إلَيْهِ يَدُ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ ( أَوْ وَدِيعَةً فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ) لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ ( فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِ الْحِرَابِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ .
وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانُهَا إذَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً ، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ .
وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ ( وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ ( وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا كَالْمُنْفَصِلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِأَنَّهُ حُرٌّ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ ذَلِكَ ( وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ ) لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ وَلَا تَبَعِيَّةَ ( وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ ) لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ ( وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ ) غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ ( وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ فَيْئًا ) قَالَ الْعَبْدُ
الضَّعِيفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ .
لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ ، وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ فِيهَا .
وَلَوْ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ التَّعَرُّضُ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ بِعَارِضِ شَرِّهِ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ ) هُنَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : إحْدَاهَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ .
وَالْحُكْمُ فِيهَا مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَوَلَدَهُ الصِّغَارَ وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ إلَى آخِرِ مَا سَنَذْكُرُ .
ثَانِيهَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ مَا لَهُ هُنَاكَ فَيْءٌ إلَّا أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ كَانَ مُسْتَتْبِعًا لَهُمْ فَصَارُوا مُسْلِمِينَ فَلَا يَرُدُّ الرِّقَّ عَلَيْهِمْ ابْتِدَاءً ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ لِانْقِطَاعِ يَدِهِ عَنْهُ بِالتَّبَايُنِ فَيَغْنَمُ ، وَمَا أَوْدَعَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا لَيْسَ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَهُمَا يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ فَتَدْفَعُ إحْرَازَ الْمُسْلِمِ فَتُرَدُّ عَلَيْهِ ، وَمَا أَوْدَعَ حَرْبِيًّا فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَيْءٌ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَهُ لِأَنَّ يَدَهُ تَخْلُفُ يَدَهُ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا لَيْسَتْ يَدًا صَحِيحَةً حَتَّى لَا تَدْفَعَ اغْتِنَامَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ أَمْوَالِهِ .
وَثَالِثُهَا مُسْتَأْمَنٌ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِهِ فَجَمِيعُ مَا خَلَفَهُ فِيهَا مِنْ الْأَوْلَادِ الصِّغَارِ وَالْمَالِ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ ، فَبِالظُّهُورِ ثَبَتَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مَعْصُومٍ ، أَمَّا فِي غَيْرِ الْأَوْلَادِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِيهِمْ فَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِيرُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَكَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ .
رَابِعُهَا : دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى مِنْهُمْ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا ثُمَّ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ فَالْكُلُّ لَهُ إلَّا الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ فَإِنَّهَا فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فَتَكُونُ يَدُهُ مُحْرِزَةً دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهَا ، فَأَمَّا الْأَرْضُونَ فَالْوَجْهُ فِيهَا مَا سَنَذْكُرُ ،
وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ وَامْرَأَتُهُ الْحُبْلَى الْحَرْبِيَّةُ وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ وَوَدِيعَتُهُ وَلَوْ عِنْدَ حَرْبِيٍّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَدُهُ عَلَيْهَا .
وَلْنَأْتِ إلَى مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ قَالَ : وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَخْ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ : مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَيَّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ أَسْلَمَ مُسْتَأْمَنٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا خَلَفَهُ فِيهَا حَتَّى صِغَارَهُ فَيْءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ خَرَجَ إلَيْنَا أَوْ لَمْ يَخْرُجْ إلَيْنَا ، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ يَخُصُّ مَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ لِمَا سَمِعْته آنِفًا مِنْ أَنَّ الَّذِي خَرَجَ فَظَهَرَ عَلَى الدَّارِ وَهُوَ عِنْدَنَا لَا يُحْرِزُ غَيْرَ بَنِيهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِكُلِّ مَنْ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَكَوْنُهُ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ وَحِينَئِذٍ ( يُحْرِزُ نَفْسَهُ وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ تَبَعًا وَكُلَّ مَالٍ ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَقْدٍ وَعَبِيدٍ وَإِمَاءٍ لَمْ يُقَاتِلُوا ( لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } ) .
قَالَ مُحَمَّدٌ : حَدَّثَنَا الثِّقَةُ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَهِيعَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ } وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا السَّنَدِ سَنَدُ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ ، وَهَذَا مُرْسَلٌ صَحِيحٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صَخْرِ بْنِ الْعَيْلَةِ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ غَزَا ثَقِيفًا ، فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ فَدَعَاهُ : أَيْ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَخْرًا فَقَالَ لَهُ : إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، ثُمَّ سَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ : وَسَأَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً لِبَنِي سُلَيْمٍ فَأَنْزَلَهُ إيَّاهُ وَأَسْلَمَ ، يَعْنِي السُّلَيْمِيِّينَ ، وَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ : فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْنَا وَأَتَيْنَا صَخْرًا لِيَدْفَعَ إلَيْنَا مَاءَنَا فَأَبَى ، فَدَعَاهُ فَقَالَ : يَا صَخْرُ إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَادْفَعْ إلَى الْقَوْمِ مَاءَهُمْ } وَأَبَانُ هَذَا مُخْتَلَفٌ فِي تَوْثِيقِهِ وَتَضْعِيفِهِ ، وَصَخْرُ بْنُ الْعَيْلَةِ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ يَلِيهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ تَحْتُ ، وَيُقَالُ ابْنُ أَبِي الْعَيْلَةِ ( وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدُهُ الْحَقِيقِيَّةُ إلَيْهِ يَدَ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ ) وَقَوْلُهُ ( أَوْ وَدِيعَةً ) أَوْدَعَهَا ( فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ ) بِنَصْبِ وَدِيعَةٍ ( وَيَدُهُ ) أَيْ يَدُ الْمُودِعِ ( كَيَدِهِ ، فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى الدَّارِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ ) وَمَالُهُ مِنْ زَرْعٍ قَبْلَ أَنْ يَحْصُدَ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَهُوَ كَالْمَنْقُولِ ) وَلَمْ يَذْكُرُوا خِلَافًا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَنَقَلَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَعْضِهِمْ نَقَلَ الْخِلَافَ فَقَالَ ( وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَةً عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ ) وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَلَى خِلَافِ هَذَا فَقَالَ : فَأَمَّا عَقَارُهُ لَا يَصِيرُ غَنِيمَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَقَارَهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ ا هـ .
وَحَكَى غَيْرُهُ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ فَيْئًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ فَيْءٌ ، وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانِهَا ؛ إذْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً ) بَلْ حُكْمًا ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ دَارَ أَحْكَامٍ فَكَانَتْ يَدُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الدَّارِ وَبَعْدَ ظُهُورِهِمْ يَدُهُمْ أَقْوَى مِنْ يَدِ السُّلْطَانِ وَأَهْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ شَرْعًا سَالِبَةً لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَظَاهِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ أَبَانَ يَشْهَدُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ فَيْءٍ فَإِنَّهُ قَالَ لِصَخْرٍ حِينَ مَنَعَهُمْ مَاءَهُمْ : { إنَّ الْقَوْمَ إذَا أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ } فَسَمَّاهُ مَالًا .
وَالْمُرَادُ مِنْ الْمَاءِ الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا الْمَاءُ لَا نَفْسُ الْمَاءِ بِخُصُوصِهِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ أَنْزَلَنِي فَأَنْزَلَهُ إيَّاهُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } بِنَاءً عَلَى تَسْمِيَتِهَا مَالًا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ ، لَكِنْ قَدْ ضَعَّفَ أَبَانًا جَمَاعَةٌ مَعَ احْتِمَالِ أَنْ يُرَادَ حَقِيقَةُ الْمَاءِ وَنُزُولُ الْأَرْضِ لِأَجْلِهِ .
قَالَ ( وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ ) وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِخَيْرِ الْأَبَوَيْنِ دِينًا ( خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ .
هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ كَالْمُنْفَصِلِ .
وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا .
وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ ) كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ أُمَّهُ الْغَيْرُ تَكُونُ أَوْلَادُهُ مُسْلِمِينَ أَرِقَّاءَ ( بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ ) لَا يَتْبَعُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا ( وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ ) فَهُوَ ( فَيْءٌ ) خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ،
وَالظَّاهِرُ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ مَالَهُ .
وَلِأَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَمَّا قَاتَلَ ، وَالْفَرْضُ أَنَّ سَيِّدَهُ مُسْلِمٌ فَقَدْ تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ فَخَرَجَ عَنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ فَنَقَصَتْ نِسْبَتُهُ بِالْمَالِيَّةِ إلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ كَمَالَ مَعْنَى مَالِيَّتِهِ بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ وَعَنْ هَذَا قُلْنَا ( مَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ غَصْبًا فَهُوَ فَيْءٌ ) لِارْتِفَاعِ يَدِهِ بِالْغَصْبِ ، وَالْيَدُ الَّتِي خَلَفَتْ لَيْسَتْ صَحِيحَةً وَلَا مُحْتَرَمَةً ، وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّ الْغَاصِبَ مَلَكَهُ بِالْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ ، قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ .
وَكَذَا إذَا كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَ حَرْبِيٍّ عِنْدَهُ خِلَافًا لِلْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ لِإِطْلَاقِ الْحَدِيثِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي فَصْلِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً لَا تَكُونُ فَيْئًا فَكَذَا إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ يَدَ الْحَرْبِيِّ لَيْسَتْ مُحْتَرَمَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ يَدُ الْغَانِمِينَ عَنْ مَالِهِمْ فَلَا تُدْفَعُ يَدُهُمْ عَنْ مَالِ غَيْرِهِمْ .
وَأَوْرَدَ أَنَّ يَدَ الْمُودِعِ الْحَرْبِيِّ لَمَّا قَامَتْ مَقَامَ يَدِهِ وَجَبَ أَنْ تَعْمَلَ عَمَلَ الْأَصْلِ وَهُوَ يَدُ الْمُسْلِمِ لَا بِوَصْفِ نَفْسِهَا ، كَمَا أَنَّ التُّرَابَ لَمَّا كَانَ خَلْفًا عَنْ الْمَاءِ عَمِلَ بِصِفَةِ الْمَاءِ فَرَفَعَ الْحَدَثَ فَيَكُونُ الْمَالُ مَعْصُومًا لِعِصْمَةِ صَاحِبِهِ .
أُجِيبُ بِجَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مَعْصُومٍ بَلْ عَلَى الْإِبَاحَةِ .
وَإِنَّمَا يَنْعَصِمُ تَبَعًا لِعِصْمَةِ مَالِكِهِ ، وَتَبَعِيَّتُهُ لَهُ فِي الْعِصْمَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ إذَا ثَبَتَتْ يَدُ الْمَالِكِ الْمَعْصُومِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ وَكِلَاهُمَا مُنْتَفٍ هُنَا ، وَهَذَا مِمَّا قَدْ يُمْنَعُ فِيهِ عَدَمُ الِاحْتِرَامِ بَلْ يَدُهُ
الْحُكْمِيَّةُ مُحْتَرَمَةٌ ، وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمَةِ إنَّمَا هِيَ يَدُ الْحَرْبِيِّ الْحَقِيقِيَّةُ .
الثَّانِي أَنَّ قِيَامَ يَدِ الْمُودِعِ حَقِيقِيٌّ ، وَهُوَ الْحَرْبِيُّ وَقِيَامُ يَدِ الْمُودِعِ الْمُسْلِمِ حُكْمِيٌّ ، فَاعْتِبَارُ الْحُكْمِيِّ إنْ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ فَالْحَقِيقِيُّ يَمْنَعُهَا وَالْعِصْمَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ .
وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا مَنْعُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً بَلْ كَانَتْ مَعْلُومَةَ الثُّبُوتِ مِنْ حِينِ أَسْلَمَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْحَرْبِيِّ .
وَالنَّصُّ يُوجِبُ فِي مِلْكِهِ الْعِصْمَةَ بِالْإِسْلَامِ .
وَأَمَّا مَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَقَالَ الْمُصَنِّفُ : هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
أَوْ قَالَ ( هَكَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَقَالَا : لَا يَكُونُ فَيْئًا إلَى أَنْ قَالَ : وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَكْرَارٌ لَا مَعْنَى لَهُ .
ثُمَّ قَالَ فِي النِّهَايَةِ : إنَّهُ تَتَّبِعَ النُّسَخَ ، وَالصَّحِيحُ مِنْهَا أَنْ يُقَالَ : وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ رِوَايَةَ السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا ذَكَرَ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَكَذَا ، وَكَذَا فِي الْمُحِيطِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ ، وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ فَخْرَ الْإِسْلَامِ قَالَ فِي الْجَامِعِ : وَلَوْ كَانَ وَدِيعَةً عِنْدَ الْحَرْبِيِّ أَوْ غَصْبًا عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ ضَائِعًا فَهُوَ فَيْءٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ : أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يَكُونُ فَيْئًا ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِقَاضِي خَانْ والتمرتاشي وَغَيْرِهِمَا ( لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ
وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ ، وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ ) بَلْ مَعَهُ بِسَبَبِ انْدِفَاعِ شَرِّهِ بِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا حَمَلَ الْأَمَانَةَ ( وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ ) كَانَ ( بِعَارِضِ شَرِّهِ ) فَلَمَّا انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ عَادَ الْأَصْلُ ( بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ ) فِي الْأَصْلِ ( وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ ) حَالَ الْغَصْبِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ ( فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ ) فَكَانَ مُبَاحًا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ وَدِيعَةٌ فَإِنَّهُ فِي يَدِ مَالِكِهِ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ فَلَمْ يَكُنْ فَيْئًا ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمِلْكَ يَتِمُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو اللَّيْثِ يَقْتَضِي أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ إلَى الْمُسْلِمِ الْغَاصِبِ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مُبَاحًا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى نُقْصَانِ الْمِلْكِ بِسَبَبِ زَوَالِ الْيَدِ ( قَوْلُهُ وَلَيْسَتْ فِي يَدٍ حُكْمًا ) أُنِّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَمْوَالِ
( وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا ) لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ ، وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِهَا ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُوَرِّثَ نَصِيبَهُ وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ( وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ عَلَفٌ أَوْ طَعَامٌ رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقَسَّمْ .
وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِنَا .
وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ .
وَلَنَا أَنَّ الِاخْتِصَاصَ ضَرُورَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَكَذَا بَعْدَهُ ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَانْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا انْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ تُرَدُّ قِيمَتُهُ إلَى الْمَغْنَمِ إنْ كَانَ لَمْ يُقَسَّمْ ، وَإِنْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ فَالْغَنِيُّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ وَالْفَقِيرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مَقَامِ الْأَصْلِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ .
.
[ فُرُوعٌ ] أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا ثُمَّ أَسْلَمُوا فَهُوَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْعَبْدُ جَنَى جِنَايَةً أَوْ أَتْلَفَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ قِيمَتُهُ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ، وَلَزِمَ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، فَأَمَّا الدَّيْنُ فَفِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِتَبَدُّلِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ شَاغِلٌ لِمَالِيَّتِهِ فَإِنَّمَا مَلَكَهُ مَشْغُولًا بِهِ .
فَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنِيمَةٍ : أَيْ وَلَمْ يُسْلِمْ مَوْلَاهُ فَأَخَذَهُ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَبْطُلُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ تَبْطُلْ عَنْهُ بِحَالٍ ( قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ انْدَفَعَتْ ، وَالْإِبَاحَةُ ) الَّتِي كَانَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنَّمَا كَانَتْ ( بِاعْتِبَارِهَا ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُورَثَ نَصِيبُهُ ، وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ ، وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَسَمَ ) الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِشَرْطِهِ ، وَلَوْ انْتَفَعَ بِهِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ يَرُدُّ قِيمَتَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلٍ ( وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّهُ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ ) وَهُوَ الْوَاحِدُ الدَّاخِلُ أَوْ الِاثْنَانِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ شَيْئًا فَأَخْرَجَهُ يَخْتَصُّ بِهِ .
قُلْنَا : مَالٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَانِمِينَ ، وَالِاخْتِصَاصُ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ لِأَنَّهُ دَائِمًا أَحَقُّ بِهِ
قَبْلَ الْإِخْرَاجِ وَبَعْدَهُ ، وَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَيَتَصَدَّقُونَ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِقِيمَتِهِ إنْ كَانُوا بَاعُوهُ .
هَذَا إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ ، وَإِنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ فُقَرَاءَ انْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ( لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ ) لِتَفَرُّقِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا تَصَرَّفُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى هَذَا قِيمَةُ مَا اُنْتُفِعَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ يَتَصَدَّقُ بِهَا الْغَنِيُّ لَا الْفَقِيرُ ( لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامَ الْأَصْلِ ) وَأَخْذِهَا حُكْمَهُ .
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ ) قَالَ ( وَيُقَسِّمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } اسْتَثْنَى الْخُمُسَ ( وَيُقَسِّمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ) { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ } ( ثُمَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( وَقَالَا : لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغِنَاءِ وَغِنَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ الرَّاجِلِ ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالثَّبَاتِ ، وَالرَّاجِلُ لِلثَّبَاتِ لَا غَيْرُ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا } فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ } كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ } وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَيْ غِنَاءِ الرَّاجِلِ فَيَفْضُلُ عَلَيْهِ بِسَهْمٍ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ النَّفْسُ وَالْفَرَسُ ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى ضَعْفِهِ .
.
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ ) قِيلَ لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْغَنِيمَةِ شَرَعَ يُبَيِّنُ قِسْمَتَهَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِنْ أَحْكَامِ الْغَنِيمَةِ وُجُوبَ قِسْمَتِهَا ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ لِكَثْرَةِ مَبَاحِثِهِ وَشُعَبِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَالْقِسْمَةُ جَعْلُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ مَحَلًّا مُعَيَّنًا ( قَوْلُهُ وَيَقْسِمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا ) أَيْ عَنْ الْقِسْمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ( وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ) هَذَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } اسْتَثْنَى الْخُمُسَ أَيْ اللَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ فَكَانَ اسْتِثْنَاءَ مَعْنًى لِلْإِخْرَاجِ ، وَهُوَ مِنْ اسْتَثْنَيْت الشَّيْءَ : أَيْ زَوَيْته لِنَفْسِي ، فَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا قِسْمَةِ الْإِمَامِ بَلْ الْخُمُسُ دَاخِلٌ فِي قِسْمَتِهِ ؛ إذْ حَاصِلُ بَيَانِ قِسْمَتِهَا هُوَ أَنْ يُعْطِيَ خُمُسَهَا لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى مَا سَيَأْتِي ، وَيُعْطِيَ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ ( فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَزَفَرٍ ( لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَعِنْدَهُمَا ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ( لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ) لَهُمْ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمًا } .
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ وَأَخْرَجَهُ السِّتَّةُ إلَّا النَّسَائِيّ .
وَفِي مُسْلِمٍ عَنْهُ { قَسَمَ فِي النَّقْلِ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } وَفِي رِوَايَةٍ بِإِسْقَاطِ لَفْظِ النَّقْلِ .
وَفِي رِوَايَةٍ { أَسْهَمَ لِلرَّجُلِ وَلِفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ } وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا تُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ أَوَّلَ مِنْ الشُّرَّاحِ كَوْنَ الْمُرَادُ مِنْ الرِّجَالِ الرَّجَّالَةَ وَمِنْ الْخَيْلِ الْفُرْسَانَ
، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْقَائِلَةِ { قَسَمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَكَانَتْ الرَّجَّالَةُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْنِ } وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ ( وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغَنَاءِ ) وَهُوَ بِالْمَدَدِ وَالْفَتْحِ الْإِجْزَاءُ وَالْكِفَايَةُ ( وَغَنَاءُ الْفَارِسِ الْكَرُّ ) أَيْ الْحَمَلَةُ عَلَى الْأَعْدَاءِ ( وَالْفَرُّ ) الْكَائِنُ لِلْكَرَّةِ أَوْ لِلنَّجَاةِ فِي مَوْضِعٍ يَجُوزُ الْفِرَارُ ، وَهُوَ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ إنْ لَمْ يَفِرَّ كَيْ لَا يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } ( وَالثَّبَاتُ وَلَيْسَ لِلرَّاجِلِ إلَّا الثَّبَاتُ ) فَأَغْنَى فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ ، وَالرَّاجِلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا } وَهُوَ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، بَلْ الَّذِي رَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ غَزْوَانَ ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } .
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ فِي حَدِيثِ الْخُمُسِ بِرِوَايَةِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، لَكِنْ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثُ : مِنْهَا مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : قَالَ سَمِعْت أَبِي يَذْكُرُ عَنْ عَمِّهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ عَمِّهِ مُجَمِّعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ ، وَكَانَ أَحَدَ الْقُرَّاءِ الَّذِينَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ ، قَالَ : { شَهِدْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ ، فَقَالَ
بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ : مَا لِلنَّاسِ ؟ قَالُوا : أُوحِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَخَرَجْنَا مَعَ النَّاسِ نُوجِفُ ، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ عَلَيْهِمْ { إنَّا فَتَحْنَا لَك فَتْحًا مُبِينًا } فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَتْحٌ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّهُ لَفَتْحٌ ، فَقُسِّمَتْ خَيْبَرُ عَلَى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَكَانَ الْجَيْشُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فِيهِمْ ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا } قَالَ أَبُو دَاوُد : وَهَذَا وَهَمٌ { وَإِنَّمَا كَانُوا مِائَتَيْ فَارِسٍ فَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى صَاحِبَهُ سَهْمًا } وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا قَالَ : { فَأَعْطَى الْفَرَسَ سَهْمَيْنِ وَأَعْطَى الرَّجُلَ } : يَعْنِي صَاحِبَهُ ، فَغَلَطَ الرَّاوِي عَنْهُ .
وَأَعَلَّهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِالْجَهْلِ بِحَالِ يَعْقُوبَ .
وَأَمَّا ابْنُهُ مُجَمِّعٌ الرَّاوِي عَنْهُ فَثِقَةٌ .
وَمِنْهَا مَا فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو { أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ سُبْحَةٌ ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَلَهُ سَهْمٌ } .
وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ .
وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي عَنْ جَعْفَرِ بْنِ خَارِجَةَ قَالَ : قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ : { شَهِدْت بَنِي قُرَيْظَةَ فَارِسًا فَضَرَبَ لِي بِسَهْمٍ وَلِفَرَسِي بِسَهْمٍ } وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ السِّرِّيِّ ، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَانِئٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ {
أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، فَأَخْرَجَ الْخُمُسَ مِنْهَا ثُمَّ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا } .
وَمِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي عَارَضَ بِهِ الْمُصَنِّفَ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنِّفِهِ : حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ قَالَا : حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } ا هـ .
وَمِنْ طَرِيقَهِ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ : هَذَا عِنْدِي وَهَمٌ مِنْ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، لِأَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ بِشْرٍ وَغَيْرَهُمَا رَوَوْهُ عَنْ ابْنِ نُمَيْرٍ خِلَافَ هَذَا ، وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ كَرَامَةَ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ خِلَافَ هَذَا : يَعْنِي أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، تَمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ : حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } وَلَا شَكَّ أَنَّ نُعَيْمًا ثِقَةٌ ، وَابْنُ الْمُبَارَكِ مِنْ أَثْبَتِ النَّاسِ .
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } قَالَ : وَتَابَعَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَخَالِدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ .
وَرَوَاهُ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ الْعُمَرِيِّ بِالشَّكِّ فِي الْفَارِسِ أَوْ الْفَرَسِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُنْهَالٍ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } وَخَالَفَهُ النَّضْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ حَمَّادٍ .
وَمِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ عُبَيْدِ اللَّهِ مُتَعَارِضًا الْكَرْخِيُّ ، لَكِنَّ رِوَايَةَ السَّهْمَيْنِ عَنْهُ أَثْبَتُ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِهِ [ الْمُؤْتَلَفُ وَالْمُخْتَلَفُ ] حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي رَوِيَّةَ قَالَا : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَمِينٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَسِّمُ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا } .
وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَارُضُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بَلْ فِي فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُطْلَقًا نَظَرًا إلَى تَعَارُضِ رِوَايَةِ غَيْرِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا تَرَجَّحَ النَّفْيُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ ( أَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ جِنْسٌ وَاحِدٌ ) وَالثَّبَاتُ جِنْسٌ فَهُمَا اثْنَانِ لِلْفَارِسِ وَلِلرَّاجِلِ أَحَدُهُمَا فَلَهُ ضِعْفُ مَالِهِ ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِالزِّيَادَةِ فِي الْغَنَاءِ ضَرُورَةً وَإِنْ تَعَذَّرَ مَعْرِفَةُ الزِّيَادَةِ فِي الْقِتَالِ حَقِيقَةً ، لِأَنَّ كَمْ مِنْ رَاجِلٍ أَنْفَعَ فِيهِ مِنْ رَاجِلٍ وَفَارِسٍ مِنْ فَارِسٍ ، لَا يُسْتَنْكَرُ زِيَادَةُ إغْنَاءِ رَاجِلٍ عَنْ فَارِسٍ ، فَإِنَّمَا ( يُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ ) فِي الْغَنَاءِ بِنَفْسِهِ وَفَرَسِهِ ( وَلِلرَّاجِلِ نَفْسُهُ فَقَطْ ) فَكَانَ عَلَى النِّصْفِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : ( وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ ) .
يُرِيدُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَعَلِمْت مَا فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُعَارَضَةُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّرْكِ فَرْعُ الْمُسَاوَاةِ ، وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْبُخَارِيِّ فَهُوَ أَصَحُّ .
قُلْنَا : قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ كَوْنَ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ أَصَحَّ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فِي غَيْرِهِ مَعَ فَرْضِ أَنَّ رِجَالَهُ رِجَالُ
الصَّحِيحِ ، أَوْ رِجَالٌ رَوَى عَنْهُمْ الْبُخَارِيُّ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ بِهِ ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ الْآخَرِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ أَحَدِهِمَا ، وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا يَحْمِلُ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَلَى التَّنْفِيلِ فَكَانَ إعْمَالُهُمَا أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ كَوْنِهِ سَنَدًا صَحِيحًا عَلَى مَا ذَكَرْت مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَيُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى وَذَكَرْنَا مَنْ تَابَعَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَارَضَ فِعْلَاهُ فَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ : يَعْنِي قَوْلَهُ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ، وَخَطِئَ مَنْ عَزَاهُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ ، ثُمَّ هُوَ وِزَانُ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي سُجُودِ السَّهْوِ مِنْ قَوْلِهِ فَتَعَارَضَتْ رِوَايَتَا فِعْلِهِ وَبَقِيَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ وَعُلِمَ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ الْمَصِيرَ أَوَّلًا إلَى الْفِعْلِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ التَّمَسُّكُ بِهِ حِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْقَوْلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
هَذَا ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَخَارِجَ حَدِيثِ الثَّلَاثَةِ أَكْثَرُ ، فَإِنَّهُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِيهِ وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي رُهْمٍ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ ، وَأَخْرَجَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ عَنْ الزُّبَيْرِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ .
وَهِيَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَسْلَمْ مِنْ الْمَقَالِ مِنْهَا مَا لَا يُنَافِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّك قَدْ عَلِمْت أَنَّ رِوَايَةَ الثَّلَاثَةِ مَحْمُولَةٌ
عَلَى التَّنْفِيلِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ .
وَنَصُّ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ : { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَمَعَنَا فَرَسٌ } لَا يُنَافِيهِ ، وَكَذَا حَدِيثُ أَحْمَدَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَى الزُّبَيْرَ سَهْمًا وَفَرَسَهُ سَهْمَيْنِ } وَكَذَا حَدِيثُ جَابِرٍ فَإِنَّهُ قَالَ : { شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُزَاةً فَأَعْطَى الْفَارِسَ مِنَّا ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَأَعْطَى الرَّاجِلَ سَهْمًا } بَلْ هَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرُهُ الْمُسْتَمِرُّ وَإِلَّا لَقَالَ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ قَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَنَحْوَهُ ، فَلَمَّا قَالَ غُزَاةً وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَوَاتٍ ثُمَّ خَصَّ هَذَا الْفِعْلِ بِغُزَاةٍ مِنْهَا كَانَ ظَاهِرًا فِي أَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ .
نَعَمْ فِي رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ لِحَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَعْطَانِي يَوْمَ بَدْرٍ وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أُخْرَى عَنْهُ يَوْمَ خَيْبَرَ وَلَا تَنَافِيَ ، إذَا جَازَ كَوْنُهُ قَسَّمَ لَهُ ذَلِكَ فِيهِمَا .
وَمَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ { أَنَّهُ شَهِدَ حُنَيْنًا فَأَسْهَمَ لِفَرَسِهِ سَهْمَيْنِ وَلَهُ سَهْمًا } .
وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ لِلْفَارِسِ وَفَرَسِهِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ ، لَهُ سَهْمٌ وَلِفَرَسِهِ سَهْمَانِ } لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ بَقِيَ حَدِيثُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عَنْ عَائِشَةَ ، وَتَقَدَّمَ مَا يُعَارِضُ حَدِيثَ بَنِي قُرَيْظَةَ هَذَا .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي كَبْشٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنِّي جَعَلَتْ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا } فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقَصَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ عِمْرَانَ الْقَيْسِيِّ أَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى
تَضْعِيفِهِ وَتَوْهِينِهِ
( وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ ، لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ } وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعْيَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ ، وَلَهُمَا { أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ } وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُفْضِيًا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهِمُ لِوَاحِدٍ ، وَلِهَذَا لَا يُسْهِمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ ، وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ كَمَا أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ ( وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمَقْرِفِ إطْلَاقًا وَاحِدًا ، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصَبْرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا ، فَفِي كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا .
( قَوْلُهُ وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ) أَيْ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِفَرَسَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ ( يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ ) فَيُعْطِي خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ، سَهْمٌ لَهُ وَأَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْهِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي رِوَايَةِ الْإِمْلَاءِ عَنْهُ .
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِذَلِكَ بِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ } وَهَذَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ بَشِيرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُحْصَنٍ قَالَ : { أَسْهَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَرَسِي أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِي سَهْمًا فَأَخَذْت خَمْسَةَ أَسْهُمٍ } رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَمِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرْنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ .
أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مَكْحُولٍ { أَنَّ الزُّبَيْرَ حَضَرَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ } ، وَهَذَا مُنْقَطِعٌ ، وَقَدْ قَبِلَهُ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ مُنْقَطِعًا وَقَالَ بِهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي دَفْعِهِ : وَهِشَامٌ أَثْبَتُ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَأَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَرْوُوا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ } ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ يَعْنِي النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَضَرَ خَيْبَرَ بِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ السَّكْبِ وَالضَّرْبِ وَالْمُرْتَجَزِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ انْتَهَى .
يُرِيدُ بِحَدِيثِ هِشَامٍ مَا تَقَدَّمَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ سَهْمَيْنِ لِفَرَسِي وَسَهْمًا لِي وَسَهْمًا لِأُمِّي مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى } .
وَمِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى
بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : { ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ بِأَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لَهُ وَسَهْمٌ لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ } وَهَذَا أَحْسَنُ إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ أَهْلُ الْمَغَازِي لَمْ يَرْوُوا أَنَّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ يَحْيَى عَنْ عِيسَى بْنِ مَعْمَرٍ قَالَ : { كَانَ مَعَ الزُّبَيْرِ يَوْمَ خَيْبَرَ فَرَسَانِ ، فَأَسْهَمَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ } وَقَالَ أَيْضًا : حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادَ فِي خَيْبَرَ ثَلَاثَةَ أَفْرَاسٍ لِزَازٍ وَالضَّرْبِ وَالسَّكْبِ وَقَادَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ أَفْرَاسًا ، وَقَادَ خِرَاشُ بْنُ الصِّمَّةِ فَرَسَيْنِ ، وَقَادَ الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسٍ فَرَسَيْنِ .
وَقَادَ أَبُو عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَرَسَيْنِ ، فَأَسْهَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِكُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَرَسَانِ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ أَرْبَعَةً لِفَرَسَيْهِ وَسَهْمًا لَهُ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَسَيْنِ لَمْ يُسْهِمْ لَهُ } ، وَيُقَالُ إنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ .
وَأَثْبَتَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَسْهَمَ لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يُسْمَعْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْهَمَ لِنَفْسِهِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ .
إلَى هُنَا كَلَامُ الْوَاقِدِيِّ مَعَ اخْتِصَارِهِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : حَدَّثَنَا فَرْجُ بْنُ فُضَالَةَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ أَنْ أَسْهِمْ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلْفَرَسَيْنِ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ وَلِصَاحِبِهِمَا سَهْمًا فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ ، وَمَا كَانَ فَوْقَ الْفَرَسَيْنِ
فَهُوَ جَنَائِبُ .
وَقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا : حَدَّثَنَا ابْنُ عَيَّاشٍ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْهِمُ لِلْخَيْلِ وَكَانَ لَا يُسْهِمُ لِلرَّجُلِ فَوْقَ فَرَسَيْنِ } .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْ { الْبَرَاءِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ } فَغَرِيبٌ ، بَلْ جَاءَ عَنْهُ عَكْسُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْوَاقِدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَكَرَهُ ابْنُ مَنْدَهْ فِي كِتَابِ الصَّحَابَةِ قَالَ : رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ قَرِينٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْمَدَنِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ أَوْسٍ { أَنَّهُ قَادَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسَيْنِ فَضَرَبَ لَهُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ } إلَّا أَنَّ هَذِهِ غَرَائِبُ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ : أَلَمْ أَسْمَعْ بِالْقَسَمِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ وَاسْتَمَرَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى طَرِيقَةِ حَمْلِ الزَّائِدِ عَلَى التَّنْفِيلِ .
قَالَ ( كَمَا أَعْطَى سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ ) حَدِيثُهُ فِي مُسْلِمٍ قَالَ : قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ ، ثُمَّ أَعْطَانِي سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ وَسَهْمَ الرَّاجِلِ .
فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ قَالَ : وَكَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ فِي تِلْكَ الْغُزَاةِ رَاجِلًا فَأَعْطَاهُ مِنْ خُمُسِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا مِنْ سِهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ .
وَرَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ وَقَالَ : كَانَ سَلَمَةُ قَدْ اسْتَنْقَذَ لِقَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ : فَحَدَّثْت بِهِ سُفْيَانَ فَقَالَ : خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الْقَاسِمُ : وَهَذَا عِنْدِي
أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ سَهْمِهِ وَإِلَّا لَمْ يُسَمَّ نَفْلًا بَلْ هِبَةً .
وَخَبَرُ سَلَمَةَ وَاللِّقَاحِ مُفَصَّلٌ فِي السِّيرَةِ ( قَوْلُهُ وَالْبَرَاذِينُ ) وَهِيَ خَيْلُ الْعَجَمِ وَاحِدُهَا بِرْذَوْنٌ ( وَالْعَتَاقُ ) جَمْعُ عَتِيقٍ : أَيْ كَرِيمٌ رَاتِعٌ وَهِيَ كِرَامُ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَالْبَرَاذِينُ وَالْخَيْلُ الْعَرَبِيَّةُ هُمَا ( سَوَاءٌ ) فِي الْقِسْمِ فَلَا يَفْضُلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَكَذَا لَا يَفْضُلُ الْعَتِيقُ عَلَى الْهَجِينِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْبَرَاذِينِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةٌ ، وَلَا عَلَى الْمَقْرِفِ وَهُوَ مَا يَكُونُ أَبُوهُ عَرِيبًا وَأُمُّهُ بِرْذَوْنَةً .
قِيلَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مَنْ يَقُولُ لَا يُسْهِمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا شَاذًّا .
وَحُجَّتُنَا فِيهِ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ إطْلَاقَ الْخَيْلِ يَشْمَلُهُمَا ، وَكَذَا الْإِرْهَابُ ، وَلِأَنَّ فِي كُلٍّ خُصُوصِيَّةً لَيْسَتْ فِي الْآخَرِ .
فَالْعَتِيقُ إنْ فُضِّلَ بِجَوْدَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ فَالْبِرْذَوْنُ يُفَضَّلُ بِزِيَادَةِ قُوَّتِهِ عَلَى الْحَمْلِ وَالصَّبْرِ وَلِينِ الْعِطْفِ ، وَكَوْنُهُ أَلْيَنَ عِطْفًا مِنْ الْعَرَبِيِّ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ هَذَا دَائِرٌ مَعَ التَّعْلِيمِ ، وَالْعَرَبِيُّ أَقْبَلُ لِلْآدَابِ مِنْ الْعَجَمِيِّ مِنْ الْخَيْلِ ، وَكَوْنُ أَحَدٍ يَقُولُ لَا يُسْهِمُ بِالْكُلِّيَّةِ لِلْفَرَسِ الْعَجَمِيِّ بَعِيدٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَكَرَهُ لِمَا نَقَلَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ فَضَّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الْمُقَارِفِ .
وَفِي سِيرَةِ ابْنِ هِشَامٍ : حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ : كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ وَهُوَ بِأَرْمِينِيَّةَ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضِّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمُقَارِفِ فِي الْعَطَاءِ ، فَعَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرَّ بِهِ عَمْرُو بْنُ مُعْدِي كَرِبَ فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ : فَرَسُكَ هَذَا مُقْرِفٌ ، فَغَضِبَ عَمْرٌو وَقَالَ : هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ ،
فَوَثَبَ إلَيْهِ قَيْسٌ : يَعْنِي ابْنَ مَكْشُوحٍ فَتَوَعَّدَهُ ، فَقَالَ عَمْرٌو : أَتُوعِدُنِي كَأَنَّك ذُو رُعَيْنٍ بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسِ وَكَائِنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ نُعَيْمٍ وَمُلْكٍ ثَابِتُ فِي النَّاسِ رَاسِي قَدِيمٌ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ عَظِيمٌ قَاهِرُ الْجَبَرُوتِ قَاسِي فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا وَأَمْسَى يُحَوَّلُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسِ
( وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ ) وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ ، وَعِنْدَهُ حَالَةُ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْقِتَالُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ ، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ تَعَلَّقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالَةُ الدَّوَامِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ ؛ وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ فَتُقَامُ الْمُجَاوَزَةُ مَقَامَهُ ؛ إذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ ظَاهِرًا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ بِحَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا .
وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ رَهَنَ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ بِالْمُجَاوَزَةِ الْقِتَالُ فَارِسًا .
وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ ، وَكَذَا إذَا بَاعَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْبَعْضِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ
التِّجَارَةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِزَّتَهُ
( قَوْلُهُ وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ ) أَيْ هَلَكَ فَقَاتَلَ رَاجِلًا ( اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ .
وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى ) فِي دَارِ الْحَرْبِ ( فَرَسًا ) فَقَاتَلَ فَارِسًا عَلَيْهِ ( اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ ، وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ ) فِي الْفَصْلَيْنِ ( وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ) أَيْ فِيمَا إذَا دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا فَقَاتَلَ عَلَيْهِ أَنَّ لَهُ سَهْمَ فَارِسٍ ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلُ ( وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ ) أَيْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَهُوَ الْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ ( وَعِنْدَهُ حَالَ الْحَرْبِ .
لَهُ أَنَّ السَّبَبَ ) فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ إذَا وُجِدَتْ ( هُوَ قَتْلَاهُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ ) الْمُسْتَحَقِّ ( عِنْدَهُ ) دُونَ الْمُجَاوَزَةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا هِيَ ( وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ ) أَيْ الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ ( كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ ) لِقَصْدِ الْقِتَالِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ ، وَحَالَةُ الْغَازِي عِنْدَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لَا تُعْتَبَرُ ، فَكَذَا عِنْدَ الْمُجَاوَزَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَ الْقِتَالِ تَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ بِهِ الرَّاجِعَةِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ اتِّفَاقًا فِيمَا إذَا قَاتَلَ الصَّبِيُّ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ غَيْرُهُمَا فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الرَّضْخَ ، فَظَهَرَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِهِ الْغَنِيمَةَ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ ( وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ فَبِشُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ ) مِنْ الْمُجَاوَزَةِ ( وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا مِنْ الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا ) وَالْإِغَاظَةُ ، ( وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالُ بَقَاءِ الْقِتَالِ ) إلَّا أَنَّهُ تَنَوُّعُ الْقِتَالِ إلَى الْمُجَاوَزَةِ إلَى دَرَاهِمِ ، وَسُلُوكُهُمْ قَهْرًا بِالْمَنَعَةِ لِإِهْلَاكِهِمْ وَإِلَى حَقِيقَةِ الْمُسَايَفَةِ ( وَلَا مُعْتَبَرَ
بِحَالِ الدَّوَامِ ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ ، وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ ) شُغْلِ شَاغِلٍ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْإِمَامِ اسْتِعْلَامُهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ الْعَدْلِ بِهِ لِكُلِّ فَرْدٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، بِخِلَافِهِ فِي حَقِّ أَفْرَادٍ قَلِيلَةٍ مِنْ النَّاسِ كَقِتَالِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ فَأُدِيرَ فِي حَقِّهِمْ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ النَّاسِ فَيُقَامُ فِي حَقِّ الْكُلِّ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الْقِتَالِ ظَاهِرَ مَقَامِهِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي التَّعَذُّرِ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ أَهْلِ الْعَسْكَرِ لَا تُقْبَلُ لِلتُّهْمَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى أَنَّ هَذَا قَاتَلَ فَارِسًا لَا يَجُرُّ بِذَلِكَ نَفْعًا لِنَفْسِهِ بَلْ ضَرَرًا فَإِنَّهُ يُنْقِصُ سَهْمَ نَفْسِهِ فَهُوَ يُلْزِمُ نَفْسَهُ أَوَّلًا الضَّرَرَ ، وَشَرِكَتَهُ فِي أَصْلِ الْمَغْنَمِ لَيْسَتْ مُتَوَقِّفَةً عَلَى شَهَادَتِهِ هَذِهِ ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ أَبِي قَتَادَةَ : مَنْ يَشْهَدُ لِي حَيْثُ جَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فِي حُنَيْنٍ ؟ فَشَهِدَ لَهُ وَاحِدٌ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ } وَلَا بَيِّنَةَ إلَّا أَهْلُ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ خُصُوصًا فِي غَزَوَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ ) أَوْ لِمُشَجَّرَةٍ أَوْ لِأَنَّهُ فِي سَفِينَةٍ دَخَلَ فِيهَا بِفَرَسِهِ لِيُقَاتِلَ عَلَيْهَا إذَا خَلَصَ إلَى بَرِّهِمْ فَلَاقُوهُمْ قَبْلَهُ وَاقْتَتَلُوا فِي السَّفِينَةِ كَانَ لَهُمْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ ( وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَهُ ) وَسَلَّمَهُ ( أَوْ أَجَّرَهُ أَوْ رَهَنَهُ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لَا يَسْتَحِقُّهُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْمُجَاوَزَةِ ) بِالْفَرَسِ ( الْقِتَالَ ) عَلَيْهِ بَلْ التِّجَارَةَ بِهِ ، وَسَبَبُ اسْتِحْقَاقِ سَهْمِ الْفَارِسِ هُوَ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ لَا مُطْلَقُ الْمُجَاوَزَةِ ( وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَا يَسْقُطُ سَهْمُ الْفَارِسِ ) بِالِاتِّفَاقِ ( وَكَذَا إذَا بَاعَهُ حَالَةَ الْقِتَالِ ) لَا يَسْقُطُ ( عِنْدَ الْبَعْضِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ ) لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَهُ التِّجَارَةُ وَإِنَّمَا انْتَظَرَ حَالَةَ الْعِزَّةِ .
وَعُورِضَ بِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةِ حَالَةُ الْمُخَاطَرَةِ بِالنَّفْسِ فَلَمْ يَكُنْ الْبَيْعُ دَلِيلًا عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ طَلَبُ النَّفْسِ التَّحَصُّنَ ، فَبَيْعُهُ فِيهَا دَلِيلٌ أَنَّهُ عَنَّ لَهُ غَرَضٌ الْآنَ فِيهِ ، إمَّا لِأَنَّهُ وَجَدَهُ غَيْرَ مُوَافِقٍ لَهُ فَرُبَّمَا يَقْتُلُهُ لِعَدَمِ أَدَبِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ لَيْسَ هُوَ الْبَيْعَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْعُقُودِ حَالَةَ الْقِتَالِ لِيَكُونَ بَيْعُهُ إذْ ذَاكَ انْتِظَارًا لِحَالَةِ الرَّغَبَاتِ فِي الشِّرَاءِ .
وَفِي الْمُحِيطِ : لَوْ جَاوَزَ بِفَرَسٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِتَالُ عَلَيْهِ لِكِبَرِهِ أَوْ ضَعْفِهِ أَوْ هُزَالِهِ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَرَسُ مَرِيضًا فَعَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ ، وَلَوْ جَاوَزَ عَلَى فَرَسٍ مَغْصُوبٍ أَوْ مُسْتَعَارٍ أَوْ مُسْتَأْجَرٍ ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الْمَالِكُ فَشَهِدَ الْوَقْعَةَ رَاجِلًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ : فِي رِوَايَةٍ لَهُ سَهْمُ فَارِسٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ سَهْمُ رَاجِلٍ .
وَمُقْتَضَى كَوْنِهِ جَاوَزَ بِفَرَسٍ لِقَصْدِ الْقِتَالِ عَلَيْهِ تُرَجَّحُ الْأُولَى ، إلَّا أَنْ يُزَادَ فِي أَجْزَاءِ السَّبَبِ بِفَرَسٍ مَمْلُوكٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَرِدَّهُ الْمُعِيرُ وَغَيْرُهُ حَتَّى قَاتَلَ عَلَيْهِ كَانَ فَارِسًا
( وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ } وَلَمَّا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ : يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَانِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْهُمَا فَرْضُهُ ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَلَّى وَلَهُ مَنْعُهُ ، إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ فَيَمْنَعُهُ الْمُوَلَّى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقِتَالِ ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُوَلَّى فَصَارَ كَالتَّاجِرِ ، وَالْمَرْأَةُ يَرْضَخُ لَهَا إذَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى ، وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَيُقَامُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِعَانَةِ مَقَامَ الْقِتَالِ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ ، وَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ أَوْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ ، وَلَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ فِي الدَّلَالَةِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ ؛ لِأَنَّهُ جِهَادٌ ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ .
( قَوْلُهُ وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ ) أَيْ يُعْطَوْنَ مِنْ كَثِيرٍ ، فَإِنَّ الرَّضْخَةَ هِيَ الْإِعْطَاءُ كَذَلِكَ ، وَالْكَثِيرُ السَّهْمُ ، فَالرَّضْخُ لَا يَبْلُغُ السَّهْمَ وَلَكِنْ دُونَهُ ( عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ ) وَسَوَاءٌ قَاتَلَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ( وَالْمُكَاتَبُ كَالْعَبْدِ ) لِمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُسْهِمُ إلَخْ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ : كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ : أَنْ لَيْسَ لَهُمَا شَيْءٌ إلَّا أَنْ يُحْذَيَا .
وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ : كَتَبَ نَجْدَةُ الْحَرُورِيُّ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ النِّسَاءِ هَلْ كُنَّ يَشْهَدْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : أَنَا كَتَبْت كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى نَجْدَةَ ، قَدْ كُنَّ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِمَّا أَنْ يُضْرَبَ لَهُنَّ بِسَهْمٍ فَلَا ، وَقَدْ كَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ : شَهِدْت خَيْبَرَ مَعَ سَادَاتِي ، إلَى أَنْ قَالَ : فَأَخْبَرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ .
وَأَمَّا مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَدَّةِ حَشْرَجَ بْنِ زِيَادَةَ أُمِّ أَبِيهِ { أَنَّهَا خَرَجَتْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ سَادِسَةَ سِتِّ نِسْوَةٍ ، فَبَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَبَعَثَ إلَيْنَا فَجِئْنَا فَرَأَيْنَا فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ فَقَالَ : مَعَ مَنْ خَرَجْتُنَّ ؟ وَبِإِذْنِ مَنْ خَرَجْتُنَّ ؟ فَقُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْنَا نَغْزِلُ الشَّعْرَ وَنُعِينُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَعَنَا دَوَاءٌ لِلْجَرْحَى وَنُنَاوِلُ السِّهَامَ وَنَسْقِي السَّوِيقَ ، فَقَالَ : قُمْنَ
حَتَّى إذَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ خَيْبَرَ أَسْهَمَ لَنَا كَمَا أَسْهَمَ لِلرِّجَالِ } وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ .
وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهُ لِجَهَالَةِ رَافِعٍ وَحَشْرَجَ مِنْ رُوَاتِهِ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَطَابَ أَنْفُسَ أَهْلِ الْغَنِيمَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُشْبِهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُنَّ مِنْ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ .
هَذَا ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كَوْنُ التَّشْبِيهِ فِي أَصْلِ الْعَطَاءِ ، وَأَرَادَتْ بِالسَّهْمِ مَا خُصِّصَ بِهِ .
وَالْمَعْنَى خَصَّنَا بِشَيْءٍ كَمَا فَعَلَ بِالرِّجَالِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَبْلُغْ بِهَؤُلَاءِ الرَّجَّالَةِ مِنْهُمْ سَهْمُ الرَّجَّالَةِ وَلَا بِالْفَارِسِ سَهْمُ الْفُرْسَانِ ، لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ أُصُولٌ فِي التَّبَعِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَفْرِضْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ النَّفِيرِ الْعَامِّ فِي غَيْرِ الصَّبِيِّ ، وَيَزِيدُ الذِّمِّيَّ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لَهُ لِكَوْنِ الْجِهَادِ عِبَادَةً وَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا .
وَمِنْ الْأُمُورِ الِاسْتِحْسَانَيْ ةِ إظْهَارُ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَالتَّبَعِ وَالْأَصْلِ بِخِلَافِ السُّوقِيِّ فِي الْعَسْكَرِ وَالْمُسْتَأْجَرِ لِخِدْمَةِ الْغَازِي إذَا قَاتَلَا حَيْثُ يَسْتَحِقَّانِ سَهْمًا كَامِلًا ، وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ زَمَنَ الْقِتَالِ مِنْ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ فَرْضِهِ فَلَمْ يَكُونَا تَبَعًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ بَلْ فِي السَّفَرِ وَنَحْوِهِ .
ثُمَّ الرَّضْخُ عِنْدَنَا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَحْمَدَ ، وَفِي قَوْلٍ لَهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ .
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : مِنْ الْخُمُسِ ( ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ ) وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْقِتَالِ إذَا فُرِضَ الصَّبِيُّ قَادِرًا عَلَيْهِ فَلَا يُقَامُ غَيْرُ
الْقِتَالِ فِي حَقِّهِمْ مَقَامَهُ ، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تُعْطَى بِالْقِتَالِ وَبِالْخِدْمَةِ لِأَهْلِ الْعَسْكَرِ ، وَإِنْ لَمْ تُقَاتِلْ لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْهُ فَأُقِيمَ هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْهَا مَقَامَهُ وَصِحَّةُ أَمَانِهَا لِثُبُوتِ شُبْهَةِ الْقِتَالِ مِنْهَا ، وَالْأَمَانُ يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ احْتِيَاطًا فِيهِ ، وَلَا يَرِدُ إعْطَاءُ الذِّمِّيِّ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ ، بَلْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ رَضْخًا بَلْ بِمَقَامِ الْأُجْرَةُ وَلِهَذَا يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ إذَا كَانَ عَمَلُهُ ذَلِكَ تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ عَمَلُ الْجِهَادِ ، وَلَا يُسَوَّى فِي عَمَلِ الْجِهَادِ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ وَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا يَقْبَلُهُ اللَّهُ مِنْهُ وَلَا يُصَحِّحُهُ لَهُ فَلِذَلِكَ ( لَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمُ ) كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ .
قَالُوا : وَالسَّهْمُ مَرْفُوعٌ أَلْبَتَّةَ لِأَنَّهُ الْمَفْعُولُ بِلَا وَاسِطَةِ حَرْفٍ فَيَكُونُ هُوَ النَّائِبَ عَنْ الْفَاعِلِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ ، وَأَمَّا مَنْ يُجِيزُ إقَامَةَ الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ مَعَ وُجُودِ الْمَفْعُولِ فَيُجِيزُ نَصْبَهُ وَيَكُونُ النَّائِبُ لَفَظَ بِهِ .
وَهَلْ يُسْتَعَانُ بِالْكَافِرِ عِنْدَنَا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ جَازَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَابْنِ الْمُنْذِرِ ، وَجَمَاعَةٌ لَا يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ إلَى بَدْرٍ فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَ لَا ، قَالَ : ارْجِعْ فَلَنْ نَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ لَهُ فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ نَعَمْ ، قَالَ انْطَلِقْ } وَعَنْ حَبِيبِ بْنِ إسَافٍ قَالَ { أَتَيْت أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ غَزْوًا ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَسْتَحِي أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا
نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ ، فَقَالَ : أَتُسْلِمَانِ ؟ فَقُلْنَا : لَا ، فَقَالَ : إنَّا لَا نَسْتَعِينُ بِالْمُشْرِكِينَ ، قَالَ : فَأَسْلَمْنَا وَشَهِدْنَا مَعَهُ .
قَالَ : فَقَتَلْت رَجُلًا وَضَرَبَنِي ضَرْبَةً وَتَزَوَّجْت بِنْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَكَانَتْ تَقُولُ : لَا عَدِمْت رَجُلًا وَشَّحَكَ هَذَا الْوِشَاحَ ، فَأَقُولُ : لَا عَدِمْت رَجُلًا عَجَّلَ أَبَاكِ إلَى النَّارِ } رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ : { وَلَمَّا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ } : يَعْنِي لَمْ يُسْهِمُ لَهُمْ يُفِيدُ مُعَارَضَةَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ ، وَالْمَذْكُورُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَخْبَرْنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { اسْتَعَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَهُودِ قَيْنُقَاعَ فَرَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ } وَلَكِنْ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ عُمَارَةَ وَهُوَ مُضَعَّفٌ .
وَأَسْنَدَ الْوَاقِدِيُّ إلَى مُحَيِّصَةُ قَالَ : { وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَشَرَةٍ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ غَزَا بِهِمْ أَهْلَ خَيْبَرَ وَأَسْهَمَ لَهُمْ كَسُهْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُقَالُ أَحَذَاهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ } .
وَأَسْنَدَ التِّرْمِذِيُّ إلَى الزُّهْرِيِّ قَالَ : { أَسْهَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِقَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ قَاتَلُوا مَعَهُ } وَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ ، مَعَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ الْقَطَّانِ كَانَ لَا يَرَى مَرَاسِيلَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيْئًا وَيَقُولُ : هِيَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ لَا تُقَاوِمُ أَحَادِيثَ الْمَنْعِ فِي الْقُوَّةِ فَكَيْفَ تُعَارِضُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : { رَدُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكَ وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِيَهُودِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَاسْتَعَانَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ سَنَةَ ثَمَانٍ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ
وَهُوَ مُشْرِكٌ } ، فَالرَّدُّ إنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِ وَأَنْ يَرُدَّهُ كَمَا لَهُ رَدُّ الْمُسْلِمِ الْمَعْنَى يَخَافُهُ فَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مُخَالِفًا لِلْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّهُ مُشْرِكٌ فَقَدْ نَسَخَهُ مَا بَعْدَهُ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِالْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إذَا خَرَجُوا طَوْعًا وَيَرْضَخُ لَهُمْ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ رَايَةٌ تَخُصُّهُمْ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَسْهَمَ لَهُمْ ، وَلَعَلَّ رَدَّهُ مَنْ رَدَّهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ
( وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } مِنْ غَيْرِ فَصْلِ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ .
وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ } وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ .
وَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّلَ فَقَالَ : { إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّصْرِ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ .
قَالَ ( فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ ) لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ إلَى الْخَلِيفَةِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ ( وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ
) لِمَا رَوَيْنَا .
قَالَ ( وَبَعْدُ بِالْفَقْرِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ نَظَرًا إلَى الْمَصْرِفِ فَيُحَرِّمُهُ كَمَا حَرَّمَ الْعِمَالَةَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ ، أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا الْخُمُسُ ) أَيْ الَّذِينَ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يُخْرِجُهُ أَوَّلًا ( فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ ) عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ الصَّدَقَاتِ ، وَذَوُو الْقُرْبَى لَا تَحِلُّ لَهُمْ ، هَذَا رَأْيُ الْكَرْخِيِّ ، وَسَيَأْتِي رَأْيُ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْيَتَامَى مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سَهْمِ الْيَتَامَى الْمَذْكُورِينَ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ .
وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ لَا أَبَ لَهُ ، وَالْمَسَاكِينُ مِنْهُمْ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ ، وَفُقَرَاءُ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَا فَائِدَةَ حِينَئِذٍ فِي ذِكْرِ اسْمِ الْيَتِيمِ حَيْثُ كَانَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ لَا بِالْيُتْمِ .
أُجِيبُ بِأَنَّ فَائِدَتَهُ دَفْعُ تَوَهُّمِ أَنَّ الْيَتِيمَ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِالْجِهَادِ وَالْيَتِيمُ صَغِيرٌ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَمِثْلُهُ مَا ذُكِرَ فِي التَّأْوِيلَاتِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ : لَمَّا كَانَ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى يَسْتَحِقُّونَ بِالْفَقْرِ فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِمْ فِي الْقُرْآنِ .
أَجَابَ بِأَنَّ أَفْهَامَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْ تُفْضِي إلَى الْفَقِيرِ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ وَلَا تَحِلُّ لَهُمْ .
وَفِي التُّحْفَةِ : هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مَصَارِفَ ، الْخُمُسُ عِنْدَنَا لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى لَوْ صُرِفَ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لِذَوِي الْقُرْبَى خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ ) وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ أَحْمَدُ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ : الْأَمْرُ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ إنْ شَاءَ قَسَّمَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَى غَيْرَهُمْ إنْ كَانَ أَمْرُ غَيْرِهِمْ أَهَمَّ مِنْ أَمْرِهِمْ ( وَيُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ ) مِنْ الْقَرَابَاتِ وَنَحْنُ نُوَافِقُهُ عَلَى أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُرَادَةَ هُنَا تَخُصُّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ، فَالْخِلَافُ فِي دُخُولِ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى وَعَدَمِهِ .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ وَالثَّوْرِيُّ : يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ، وَيَدْفَعُ لِلْقَاضِي وَالدَّانِي وَهُوَ ظَاهِرُ إطْلَاقِ النَّصِّ ( لَهُ إطْلَاقٌ قَوْله تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } بِلَا فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ ) وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُعَلَّقَ بِوَصْفٍ يُوجِبُ أَنَّ مَبْدَأَ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةٌ لَهُ وَلَا تَفْصِيلَ فِيهَا بِخِلَافِ الْيَتَامَى فَإِنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ فِيهِمْ الْفَقْرَ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِطْلَاقِ كَقَوْلِنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اسْمَ الْيَتِيمِ يُشْعِرُ بِالْحَاجَةِ فَكَانَ مُقَيَّدًا مَعْنًى بِهَا ، بِخِلَافِ ذَوِي الْقُرْبَى ، ثُمَّ لَا تَنْتَفِي مُنَاسَبَتُهَا بِالْغِنَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ كَوْنُ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ هَذِهِ الْكَرَامَةِ ( وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً ) ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَحَدٌ مَعَ عِلْمِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ بِذَلِكَ وَتَوَافُرِهِمْ فَكَانَ إجْمَاعًا ، إذْ لَا يُظَنُّ بِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْكَلَامُ فِي إثْبَاتِهِ ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ { الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ : لِلَّهِ وَالرَّسُولِ سَهْمٌ ، وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ ، وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ ، وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ } .
ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ .
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خُزَيْمَةَ عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ : سَأَلْت أَبَا جَعْفَرَ : يَعْنِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ فَقُلْت : أَرَأَيْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ وُلِّيَ الْعِرَاقَ وَمَا وَلِيَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ كَيْفَ صَنَعَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى ؟ قَالَ : سَلَكَ بِهِ وَاَللَّهِ سَبِيلَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، فَقُلْت : وَكَيْفَ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ مَا تَقُولُونَ ؟ قَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ أَهْلُهُ يَصْدُرُونَ إلَّا عَنْ رَأْيِهِ ، قُلْت : فَمَا مَنَعَهُ ؟ قَالَ : كَرِهَ وَاَللَّهِ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ انْتَهَى .
وَكَوْنُ الْخُلَفَاءِ فَعَلُوا ذَلِكَ لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ ، وَبِهِ تَصِحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ الْكَلْبِيِّ ، فَإِنَّ الْكَلْبِيَّ مُضَعَّفٌ عَنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ إلَّا أَنَّهُ وَافَقَ النَّاسَ .
وَإِنَّمَا الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : لَا إجْمَاعَ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ الْبَيْتِ ، وَحِينَ ثَبَتَ هَذَا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ لِظُهُورِ أَنَّهُ الصَّوَابُ لَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُخَالِفَ اجْتِهَادُهُ اجْتِهَادَهُمَا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي أَشْيَاءَ لَمْ تُوَافِقْ رَأْيَهُ كَبَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَحِينَ وَافَقَهُمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ رَجَعَ إلَى رَأْيِهِمَا إنْ كَانَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى خِلَافَهُ .
وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ : كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ .
قَالَ : وَلَا إجْمَاعَ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنْ فِعْلَهُ كَانَ تَقِيَّةً مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ خِلَافُهُمَا ، وَكَيْفَ وَفِيهِ مَنْعُ الْمُسْتَحَقِّينَ مِنْ حَقِّهِمْ فِي اعْتِقَادِهِ فَلَمْ يَكُنْ مَنْعُهُ إلَّا لِرُجُوعِهِ وَظُهُورِ الدَّلِيلِ لَهُ ، وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى
أَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ ، وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ رَجَعَ فَالْأَخْذُ بِقَوْلِ الرَّاشِدِينَ مَعَ اقْتِرَانِهِ بِعَدَمِ النَّكِيرِ مِنْ أَحَدٍ أَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَحَّ مَا ذَكَرْتُمْ لَمْ يَكُنْ سَهْمٌ مُسْتَحَقٌّ لِذَوِي الْقُرْبَى أَصْلًا لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ وَهُوَ الْحَقُّ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْكِتَابِ وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُمْ بِلَا شُبْهَةٍ .
أَجَابَ عَلَى قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الدَّلِيلَ دَالٌّ عَلَى أَنَّ السَّهْمَ لِلْفَقِيرِ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ } الْحَدِيثَ ، وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ غَرِيبٌ ، وَتَقَدَّمَ فِي الزَّكَاةِ .
وَأَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ : حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ ، وَسَاقَ السَّنَدَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : بَعَثَ نَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ ابْنَيْهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُمَا : انْطَلِقَا إلَى عَمِّكُمَا لَعَلَّهُ يَسْتَعِينُ بِكُمَا عَلَى صَدَقَاتٍ ، فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ بِحَاجَتِهِمَا ، فَقَالَ لَهُمَا : { لَا يَحِلُّ لِأَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الصَّدَقَاتِ شَيْءٌ وَلَا غُسَالَةُ الْأَيْدِي ، إنَّ لَكُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ وَيَكْفِيكُمْ } وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ : حَدَّثَنَا أَبِي ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْمِصِّيصِيُّ ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ بِهِ بِلَفْظِ { رَغِبْت لَكُمْ عَنْ غُسَالَةِ أَيْدِي النَّاسِ إنَّ لَكُمْ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ مَا يُغْنِيكُمْ } وَهُوَ إسْنَادٌ حَسَنٌ ، وَلَفْظُ الْعِوَضِ إنَّمَا وَقَعَ فِي عِبَارَةِ بَعْضِ التَّابِعِينَ ، ثُمَّ فِي كَوْنِ الْعِوَضِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ مَمْنُوعٌ ، ثُمَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى ، فَيَقْتَضِي اعْتِقَادَ اسْتِحْقَاقِ فُقَرَائِهِمْ أَوْ كَوْنَهُمْ
مَصَارِفَ مُسْتَمِرًّا ، وَيُنَافِيهِ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ مَنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ إيَّاهُمْ مُطْلَقًا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رَوَيْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ فُقَرَائِهِمْ ، وَكَذَا يُنَافِيهِ إعْطَاؤُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَغْنِيَاءَ مِنْهُمْ ، كَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ وَكَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا يَتَّجِرُونَ } .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ إلَخْ ) يَدْفَعُ هَذَا السُّؤَالَ الثَّانِيَ ، لَكِنْ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْمُنَاقَضَةَ مَعَ مَا قَبْلَهُ لِأَنَّ الْحَاصِلَ حِينَئِذٍ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُسْتَحَقَّةَ هِيَ الَّتِي كَانَتْ نُصْرَتَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَخُصُّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ ، وَمِنْ الْأَغْنِيَاءِ مَنْ تَأَخَّرَ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَالْعَبَّاسِ فَكَانَ يَجِبُ عَلَى الْخُلَفَاءِ أَنْ يُعْطُوهُمْ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا نَقَلْتُمْ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُعْطُوهُمْ بَلْ حَصَرُوا الْقِسْمَةَ فِي الثَّلَاثَةِ .
وَيُعَكِّرُ مَا سَيَرْوِيهِ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ سَهْمًا مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ إعْطَاءُ عُمَرَ بِقَيْدِ الْفَقْرِ مَرْوِيًّا ، بَلْ الْمَرْوِيُّ فِي ذَلِكَ مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : حَدَّثَنَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَسِّمْ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ مِنْ الْخُمُسِ شَيْئًا كَمَا قَسَّمَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ } قَالَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُقَسِّمُ الْخُمُسَ نَحْوَ قَسْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُعْطِي قُرْبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُعْطِيهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ عُمَرُ يُعْطِيهِمْ وَمَنْ كَانَ بَعْدَهُ مِنْهُ .
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى سَمِعْت { عَلِيًّا قَالَ : اجْتَمَعْت أَنَا
وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ رَأَيْت أَنْ تُوَلِّينِي حَقَّنَا مِنْ هَذَا الْخُمُسِ فِي كِتَابِ اللَّهِ أَقْسِمُهُ حَيَاتَك كَيْ لَا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَك فَافْعَلْ ، قَالَ : فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقَسَمْته حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وِلَايَةَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى كَانَ آخِرُ سَنَةٍ مِنْ سِنِي عُمَرَ أَتَاهُ مَالٌ كَثِيرٌ ، فَعَزَلَ حَقَّنَا ثُمَّ أَرْسَلَهُ إلَيَّ فَقُلْت : بِنَا الْعَامَ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ حَاجَةٌ فَارْدُدْهُ عَلَيْهِمْ ، فَرَدَّهُ ثُمَّ لَمْ يَدَعْنِي إلَيْهِ أَحَدٌ بَعْدَ عُمَرَ ، فَلَقِيت الْعَبَّاسَ بَعْدَمَا خَرَجْت مِنْ عِنْدِ عُمَرَ فَقَالَ : يَا عَلِيُّ حَرَمْتَنَا الْغَدَاةَ شَيْئًا لَا يَرِدُ عَلَيْنَا وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا } فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَقْيِيدُ الْإِعْطَاءِ بِفَقْرِ الْمُعْطَى مِنْهُمْ وَكَيْفَ وَالْعَبَّاسُ كَانَ مِمَّنْ يُعْطِي وَلَمْ يَتَّصِفْ بِالْفَقْرِ مَعَ أَنَّ الْحَافِظَ الْمُنْذِرِيَّ ضَعَّفَ هَذَا فَقَالَ : وَفِي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يُقَسِّمْ لِذَوِي الْقُرْبَى ، وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَسَّمَ لَهُمْ ، وَحَدِيثُ جُبَيْرٍ صَحِيحٌ ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ انْتَهَى .
وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ عَلَى اعْتِقَادِهِ أَنَّ الرَّاشِدِينَ لَمْ يُعْطُوا ذَوِي الْقُرْبَى بَيَانَ مَصْرِفٍ لَا اسْتِحْقَاقَ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُمْ مَنْعُهُمْ بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى وَإِنْ قُيِّدْت بِالنُّصْرَةِ الْمُوَازِرَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُمْ بَقَوْا بَعْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُعْطُوهُمْ ، فَلَمَّا لَمْ يُعْطُوهُمْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ : أَيْ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمَذْكُورِينَ مَصْرِفٌ حَتَّى جَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ ، كَأَنْ يُعْطِيَ تَمَامَ الْخُمُسِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ ، وَأَنْ يُعْطِيَ تَمَامَهُ لِلْيَتَامَى كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ التُّحْفَةِ
فَجَازَ لِلرَّاشِدِينَ أَنْ يَصْرِفُوهُ إلَى غَيْرِهِمْ ، خُصُوصًا وَقَدْ رَأَوْهُمْ أَغْنِيَاءَ مُتَمَوِّلِينَ إذْ ذَاكَ وَرَأَوْا صَرْفَهُ إلَى غَيْرِهِمْ أَنْفَعَ .
وَنَقُولُ مَعَ ذَلِكَ : إنَّ الْفَقِيرَ مِنْهُمْ مَصْرِفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ عَلَى الْفُقَرَاءِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَيُدْفَعُ قَوْلُ الطَّحَاوِيِّ : إنَّهُمْ يُحْرَمُونَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ بِمَنْعِ كَوْنِ الْخُمُسِ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مَالُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْجِهَادَ حَقُّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِمْ لَا حَقٌّ لَنَا لَزِمَنَا أَدَاؤُهُ طَاعَةً لَهُ لِيَصِيرَ وَسَخًا ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَرَفَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ ، فَلَوْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ لَمْ يَفْعَلْ ، لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى هَذَا أَنَّ مُقْتَضَاهُ كَوْنُ الْغَنِيِّ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى مَصْرِفًا غَيْرَ أَنَّ الْخُلَفَاءَ لَمْ يُعْطُوهُمْ اخْتِيَارًا مِنْهُمْ لِغَيْرِهِمْ فِي الصَّرْفِ ، وَالْمَذْهَبُ خِلَافُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْغَنِيُّ مَصْرِفًا صَحَّ الصَّرْفُ إلَيْهِ ، وَأَجْزَأَ ؛ لِأَنَّ الْمَصْرِفَ مِنْ حَيْثُ إذَا صُرِفَ إلَيْهِ سَقَطَ الْوَاجِبُ بِهِ وَلَيْسَ غِنَى ذَوِي الْقُرْبَى عِنْدَهُمْ كَذَلِكَ .
هَذَا وَأَمَّا أَنَّهُ يَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّ كَوْنَهُمْ مَصَارِفَ كَانَ لِلنُّصْرَةِ فَلِمَا فِي أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ بِسَنَدِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : أَخْبَرَنِي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ : { فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، فَانْطَلَقْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْوَضْعِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ فِيهِمْ ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكَتْنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } أَشَارَ بِهَذَا إلَى نُصْرَتِهِمْ إيَّاهُ نُصْرَةَ الْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ إذَا ذَاكَ نَصْرَ قِتَالٍ فَهُوَ يُشِيرُ إلَى دُخُولِهِمْ مَعَهُ فِي الشِّعْبِ حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ عَلَى هِجْرَانِ بَنِي هَاشِمٍ وَأَنْ لَا يُبَايِعُوهُمْ وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ ، وَالْقِصَّةُ فِي السِّيرَةِ شَهِيرَةٌ .
وَعَنْ هَذَا اسْتَحَقَّتْ ذَرَارِيِّهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُمْ قِتَالٌ .
وَشَرْحُ قَوْلِهِ قَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ : أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَهَذَا الْجَدُّ ، أَعْنِي عَبْدَ مَنَافٍ لَهُ أَوْلَادُ هَاشِمٍ الَّذِي مِنْ ذُرِّيَّتِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُطَّلِبُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ ، فَكَانَ قَرَابَةُ كُلٍّ مِنْ نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطَّلِبِ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاحِدَةً ، فَمُقْتَضَى اسْتِحْقَاقِ ذَوِي الْقُرْبَى أَنْ يَسْتَحِقَّ الْكُلُّ عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَوْ يَكُونَ فُقَرَاءُ الْكُلِّ مَصَارِفَ عَلَى قَوْلِنَا ، فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَرَابَةُ الَّتِي تَحَقَّقَ مِنْهَا تِلْكَ النُّصْرَةُ السَّابِقَةُ ، وَمَنْعُ الرَّاشِدِينَ لَهُمْ لَيْسَ بِنَاءً عَلَى عِلْمِهِمْ بِعَدَمِ الِاسْتِحْقَاقِ بَلْ إنَّهُمْ مَصَارِفُ وَرَأَوْا غَيْرَهُمْ أَوْلَى مِنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَخْ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ ذَوِي الْقُرْبَى شَرَعَ يُبَيِّنُ حَالَ سَهْمِ اللَّهِ وَسَهْمِ الرَّسُولِ ، فَذَكَرَ أَنَّ سَهْمَهُ وَسَهْمَ رَسُولِهِ وَاحِدٌ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } وَلِكَذَا وَكَذَا أَنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ سَهْمًا كَمَا لِكُلٍّ مِنْ الْأَصْنَافِ سَهْمٌ ، بَلْ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي افْتِتَاحِ الْكَلَامِ لِيَتَبَرَّكَ
بِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ تَعَالَى { فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } فَسَهْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَاحِدٌ .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : سَهْمُ اللَّهِ ثَابِتٌ يُصْرَفُ إلَى بِنَاءِ بَيْتِهِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً ، وَإِلَّا فَإِلَى مَسْجِدِ كُلِّ بَلْدَةٍ ثَبَتَ فِيهَا الْخُمُسُ .
وَدَفَعَهُ بِأَنَّ السَّلَفَ فَسَّرُوهُ بِمَا ذَكَرَ .
فَإِنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٌ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ نَهْشَلٍ عَنْ الضَّحَّاكِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَرَأَ { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } ثُمَّ قَالَ : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مِفْتَاحُ الْكَلَامِ { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } وَكَذَا رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَنِيفَةِ فِيهِ قَالَ : هَذَا مِفْتَاحُ كَلَامِ اللَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً فَغَنِمُوا خُمُسَ الْغَنِيمَةِ فَصَرَفَ ذَلِكَ الْخُمُسَ فِي خَمْسَةٍ } ، فَعَلَى قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ تَكُونُ فِي سِتَّةٍ ( قَوْلُهُ وَسَهْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ ، وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ ) قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَإِخْرَاجِ الْخُمُسِ كَمَا اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ وَهُوَ سَيْفُ مُنَبَّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ حِينَ أَتَى بِهِ عَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قَتَلَ مُنَبَّهًا ثُمَّ دَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَكَمَا اصْطَفَى صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخَطَبَ مِنْ غَنِيمَةِ خَيْبَرَ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ (
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْخَلِيفَةِ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِإِمَامَتِهِ لَا بِرِسَالَتِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ ) أَيْ مِنْ أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ إنَّمَا قَسَّمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ ، فَلَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرَ لَقَسَّمُوهُ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَرَفَعُوا سَهْمَهُ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَلَمْ يُنْقَلُ ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ ، وَأَيْضًا فَهُوَ حُكْمٌ عُلِّقَ بِمُشْتَقٍّ وَهُوَ الرَّسُولُ فَيَكُونُ مَبْدَأُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً وَهُوَ الرِّسَالَةُ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى إلَخْ فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُغْنِي فِيهِ .
وَقَوْلُهُ ( كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْرَةِ لِمَا رَوَيْنَا ) يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ( وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ ) لَا يَخْفَى ضَعْفُهُ فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } إمَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْبَى الْمُخْتَصَّةُ بِتِلْكَ الْمُرَافَقَةِ فِي الضِّيقِ وَالْمُؤَانَسَةِ فِيهِ فَتَكُونُ الْمَصَارِفُ مُطْلَقًا فِي الْحَيَاةِ وَبَعْدَ الْمَمَاتِ ، وَإِمَّا الْفُقَرَاءُ مِنْهُمْ فَهُمْ الْمَصَارِفُ كَذَلِكَ : أَيْ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ ، فَلَيْسَ الْوَجْهُ فِيهِ إلَّا مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ أُرِيدَ أَنَّ الْقَرَابَةَ النَّاصِرَةَ مَصَارِفُ كَغَيْرِهِمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْطَاهُمْ اخْتِيَارًا لِأَحَدِ الْحَائِزِينَ لَهُ ، لَا أَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى مَصْرِفٍ دُونَ مَصْرِفٍ ، ثُمَّ رَأَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الصَّرْفَ إلَى غَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْطَوْا لِمَا قَدَّمْنَاهُ وَمَا هُوَ الْحَقُّ فِي التَّقْرِيرِ ، وَإِنَّمَا قَالَ ( وَقِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ ) أَيْ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ مِنْ الْمَشَايِخِ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ مَنْ يُرَجِّحُ قَوْلَ الطَّحَاوِيِّ عَلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ تَوْجِيهَهُ بِأَنَّ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ ( وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ ) يُرِيدُ إجْمَاعَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَإِلَّا فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ إلَى الْيَوْمِ مِنْ الْعُلَمَاءِ
( وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ ) لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً ، وَالْخُمُسُ وَظِيفَتُهَا ، وَلَوْ دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِالْإِمْدَادِ فَصَارَ كَالْمَنَعَةِ ( فَإِنْ دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الْإِمَامُ ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذْ لَوْ خَذَلَهُمْ كَانَ فِيهِ وَهْنُ الْمُسْلِمِينَ ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُمْ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ إلَخْ ) جَمَعَهُ نَظَرًا إلَى قَوْلِهِ فَأَخَذُوا .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْكَلَامَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ فَأَخَذُوا وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَةَ أَيْضًا مُرَادٌ إذَا دَخَلَ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ( فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ ) وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الثَّلَاثَةَ كَالْوَاحِدِ ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَيُخَمِّسُ .
وَفِي الْمُحِيطِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ قَدَّرَ الْجَمَاعَةَ الَّتِي لَا مَنَعَةَ لَهَا بِسَبْعَةٍ ، وَاَلَّتِي لَهَا مَنَعَةٌ بِعَشَرَةٍ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ الْوَاحِدُ تَلَصُّصًا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ حَرْبِيٌّ أُخِذَ قَهْرًا فَكَانَ غَنِيمَةً فَيُخَمَّسُ بِالنَّصِّ ، وَنَحْنُ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ نَمْنَعُ أَنَّهُ يُسَمَّى غَنِيمَةً ، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَا أُخِذَ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً ، إذْ الْمُتَلَصِّصُ إنَّمَا يَأْخُذُ بِحِيلَةٍ فَكَانَ هَذَا اكْتِسَابًا مُبَاحًا مِنْ الْمُبَاحَاتِ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاصْطِيَادِ ، وَمَحَلُّ الْخُمُسِ مَا هُوَ الْغَنِيمَةُ بِالنَّصِّ ، بِخِلَافِ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ مِنْ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ إذَا دَخَلَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ حَيْثُ أَذِنَ لَهُمْ ، كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَ الْجَمَاعَةَ الَّذِينَ لَهُمْ مَنَعَةٌ كَالْأَرْبَعَةِ أَوْ الْعَشَرَةِ إذَا دَخَلُوا بِغَيْرِ إذْنِهِ تَحَامِيًا عَنْ تَوْهِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالدِّينِ فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ نُصْرَةِ الْإِمَامِ مُتَلَصِّصِينَ ، وَكَانَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا غَنِيمَةً ، وَخَذَلَهُ خِذْلَانًا إذَا تَرَكَ نَصْرَهُ وَأَسْلَمَهُ .
( فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ ) قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَيُحَرِّضَ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَيَقُولَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا رَفَعَ الْخُمُسَ لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } وَهَذَا نَوْعُ تَحْرِيضٍ ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذَكَرَ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ( وَلَا يُنَفِّلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ) لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ .
قَالَ ( إلَّا مِنْ الْخُمُسِ ) لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ ( وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصْبُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لَهُ ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرَ غِنَاءً فَيَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ .
وَلَنَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَيُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ { لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك } وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا رَوَيْنَاهُ .
وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ لَا تُعْتَبَرُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ .
( فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ ) نَوْعٌ مِنْ الْقِسْمَةِ فَأَلْحَقَهُ بِهَا ، وَقَدَّمَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّهَا بِضَابِطٍ وَهَذَا بِلَا ضَابِطٍ لِأَنَّهُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ بِأَنْ يُنَفِّلَ قَلِيلًا وَكَثِيرًا وَنَحْوَهُمَا .
وَالتَّنْفِيلُ إعْطَاءُ الْإِمَامِ الْفَارِسَ فَوْقَ سَهْمِهِ ، وَهُوَ مِنْ النَّفْلِ وَهُوَ الزَّائِدُ ، وَمِنْهُ النَّافِلَةُ لِلزَّائِدِ عَلَى الْفَرْضِ ، وَيُقَالُ لِوَلَدِ الْوَلَدِ كَذَلِكَ أَيْضًا ، وَيُقَالُ نَفَّلَهُ تَنْفِيلًا وَنَفَلَهُ بِالتَّخْفِيفِ نَفْلًا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ ( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ ) أَيْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَفِّلَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ تَحْرِيضٌ ، وَالتَّحْرِيضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَبِهِ يَتَأَكَّدُ مَا سَلَف بِأَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ لَفْظٌ لَا بَأْسَ إنَّمَا يُقَالُ لِمَا تَرَكَهُ أَوْلَى لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْرِيضَ وَاجِبٌ لِلنَّصِّ الْمَذْكُورِ ، لَكِنَّهُ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّنْفِيلِ لِيَكُونَ التَّنْفِيلُ وَاجِبًا بَلْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ أَيْضًا مِنْ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا كَانَ التَّنْفِيلُ أَحَدَ خِصَالِ التَّحْرِيضِ كَانَ التَّنْفِيلُ وَاجِبًا مُخَيَّرًا ، ثُمَّ إذَا كَانَ هُوَ أَدْعَى الْخِصَالِ إلَى الْمَقْصُودِ يَكُونُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْقُطُ بِهِ أَوْلَى وَهُوَ الْمَنْدُوبُ فَصَارَ الْمَنْدُوبُ اخْتِيَارَ الْإِسْقَاطِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ لَا هُوَ فِي نَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ مُخَيَّرٌ .
وَأَمَّا مَا قِيلَ فِي التَّنْفِيلِ تَرْجِيحُ الْبَعْضِ وَتَوْهِينُ الْآخَرِينَ وَتَوْهِينُ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَإِلَّا حَرَّمَ التَّنْفِيلَ لِاسْتِلْزَامِهِ مُحَرَّمًا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ حَالَ الْقِتَالِ لِأَنَّ التَّنْفِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ عِنْدَنَا قَبْلَ الْإِصَابَةِ سَوَاءٌ كَانَ بِسَلْبِ الْمَقْتُولِ أَوْ غَيْرِهِ .
وَيَشْكُلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا } فَإِنَّمَا كَانَ بَعْدَ فَرَاغِ الْحَرْبِ فِي حُنَيْنٍ ( قَوْلُهُ
فَيَقُولُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ) أَوْ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ( أَوْ يَقُولُ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ ) النِّصْفَ أَوْ ( الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ ) أَيْ بَعْدَ رَفْعِ الْخُمُسِ أَمَّا لَوْ قَالَ لِلْعَسْكَرِ كُلُّ مَا أَخَذْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ أَوْ لِلسَّرِيَّةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ السُّهْمَانِ الَّتِي أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ إذًا فِيهِ تَسْوِيَةُ الْفَارِسِ بِالرَّاجِلِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ .
ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، وَهَذَا بِعَيْنِهِ يُبْطِلُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ لِاتِّحَادِ اللَّازِمِ فِيهِمَا ، وَهُوَ بُطْلَانُ السُّهْمَانِ الْمَنْصُوصَةِ بِالسَّوِيَّةِ ، بَلْ وَزِيَادَةُ حِرْمَانِ مَنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا أَصْلًا بِانْتِهَائِهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ ، وَالْفَرْعُ الْمَذْكُورُ مِنْ الْحَوَاشِي ، وَبِهِ أَيْضًا يَنْتَفِي مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ إنَّهُ لَوْ نَفَلَ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ جَازَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ ، وَفِيهِ زِيَادَةُ إيحَاشِ الْبَاقِينَ وَزِيَادَةُ الْفِتْنَةِ ، وَلَا يُنَفِّلُ بِجَمِيعِ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ حَقِّ الْبَاقِينَ ، وَمَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ جَازَ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ .
ثُمَّ مَحَلُّ التَّنْفِيلِ الْأَرْبَعَةُ الْأَخْمَاسِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَمَا بَقِيَ لِلْغَانِمِينَ .
قُلْنَا : إنَّمَا هِيَ حَقُّهُمْ بَعْدَ الْإِصَابَةِ ، أَمَّا قَبْلَهَا فَهُوَ مَالُ الْكُفَّارِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ التَّنْفِيلِ إنَّمَا هُوَ مِمَّا يُصَابُ لَا حَالَ كَوْنِهِ مَا لَهُمْ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْإِصَابَةِ ، وَعِنْدَ الْإِصَابَةِ لَمْ يَبْقَ مَالُ الْكَفَرَةِ .
نَعَمْ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهِ
ضَعِيفٌ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، بِخِلَافِهِ بَعْدَهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقِتَالُ وَقَعَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ هَجَمَهَا الْعَدُوُّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْإِصَابَةِ صَارَ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ ( قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ ) .
أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُمْ فَهُوَ لِلْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ كَذَا لَا يَجُوز إبْطَالُ حَقِّ غَيْرِهِمْ .
أُجِيبُ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ جَعْلِ الْمُنَفِّلِ لَهُ مِنْ أَحَدِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ يَكْفِي لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ مَصَارِفُ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَهُ فِي الْغِنَى وَيَجْعَلَ نَفْلًا لَهُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْمُحْتَاجِينَ لَا الْأَغْنِيَاءِ ، فَجَعْلُهُ لِلْأَغْنِيَاءِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ قَوْلُهُ وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّهْمِ أَوْ الرَّضْخِ وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ الْأَوَّلَ قَوْلًا وَاحِدًا .
وَلَهُ فِيمَنْ يَرْضَخُ لَهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا كَقَوْلِ أَحْمَدَ ، وَالثَّانِي لَا سَلَبَ لَهُ .
وَشَرَطَا أَنْ يَقْتُلَهُ مُقْبِلًا لَا مُدْبِرًا ، وَأَنْ لَا يَرْمِيَ سَهْمًا إلَى صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَيُصِيبَ وَاحِدًا فَيَقْتُلَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ غِنَاءً كَثِيرًا ، إذْ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ .
وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا رَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حُنَيْنٍ فَسَاقَهُ إلَى أَنْ قَالَ : فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ، قَالَ :
فَقُمْت فَقُلْت مَنْ يَشْهَدُ لِي ثُمَّ جَلَسْت ، ثُمَّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ، فَقُمْت فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَالَكَ يَا أَبَا قَتَادَةَ فَاقْتَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصَّةَ : يَعْنِي قِصَّةَ قَتْلِهِ لِلْقَتِيلِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ مِنْ حَقِّهِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَاهَا اللَّهِ إذَنْ لَا يَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ تَعَالَى يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيَك سَلَبَهُ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صَدَقَ فَأَعْطِهِ إيَّاهُ ، قَالَ فَأَعْطَانِيهِ } وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ } فَقَتَلَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلًا وَأَخَذَ أَسْلَابَهُمْ .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ أَنَّ هَذَا مِنْهُ نَصْبَ الشَّرْعِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ ، أَوْ كَانَ تَحْرِيضًا بِالتَّنْفِيلِ قَالَهُ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ وَغَيْرِهَا يَخُصُّهُمَا ؛ فَعِنْدَهُ ( هُوَ نَصْبُ الشَّرْعِ ) لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي قَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ إنَّمَا بُعِثَ لِذَلِكَ ) وَقُلْنَا : كَوْنُهُ تَنْفِيلًا هُوَ أَيْضًا مِنْ نَصْبِ الشَّرْعِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ ( بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ : { لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك } ) فَكَانَ دَلِيلًا عَلَى أَحَدِ مُحْتَمِلَيْ قَوْلِهِ " وَمَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَهُوَ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْغُزَاةِ لَا نِصَابٌ عَامٌّ لِلشَّرْعِ ، وَهُوَ حَسَنٌ لَوْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَوْ حَسَنٌ ، لَكِنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ
الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ : بَلَغَ حَبِيبَ بْنَ مُسْلِمَةَ أَنَّ صَاحِبَ قُبْرُصَ خَرَجَ يُرِيدُ طَرِيقَ أَذْرَبِيجَانَ وَمَعَهُ زُمُرُّدٌ وَيَاقُوتٌ وَلُؤْلُؤٌ وَغَيْرُهَا فَخَرَجَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ فَجَاءَ بِمَا مَعَهُ ، فَأَرَادَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَهُ فَقَالَ لَهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ : لَا تَحْرِمْنِي رِزْقًا رَزَقَنِيهِ اللَّهُ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ ، فَقَالَ مُعَاذٌ : يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّمَا لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } وَهَذَا مَعْلُولٌ بِعَمْرِو بْنِ وَاقِدٍ .
وَرَوَاهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ : حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : كُنَّا مُعَسْكِرِينَ بِدَابِقٍ فَذَكَرَ لِحَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيِّ إلَى أَنْ قَالَ : فَجَاءَ بِسَلَبِهِ يَحْتَمِلُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَبْغَالٍ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ ، فَأَرَادَ حَبِيبٌ أَنْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُ بَعْضَهُ ، فَقَالَ حَبِيبٌ لِأَبِي عُبَيْدَةَ : قَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : إنَّهُ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِلْأَبَدِ ، وَسَمِعَ مُعَاذٌ ذَلِكَ فَأَتَى أَبَا عُبَيْدَةَ وَحَبِيبٌ يُخَاصِمُهُ ، فَقَالَ مُعَاذٌ : أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ وَتَأْخُذُ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك ، فَإِنَّمَا لَك مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك ، وَحَدَّثَهُمْ بِذَلِكَ مُعَاذٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَأَعْطَوْهُ بَعْضَ الْخُمُسِ ، فَبَاعَهُ حَبِيبٌ بِأَلْفِ دِينَارٍ .
وَفِيهِ كَمَا تَرَى مَجْهُولٌ .
وَيَخُصُّ الْمُصَنِّفَ أَنَّهُ جَعَلَهُ خِطَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَبِيبٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَسَمَّاهُ حَبِيبَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ وَصَوَابُهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَلَكِنْ قَدْ لَا يَضُرُّ ضَعْفُهُ ، فَإِنَّا إنَّمَا نَسْتَأْنِسُ بِهِ لِأَحَدِ
مُحْتَمَلَيْ لَفْظٍ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ يَتَأَيَّدُ بِمَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي مَقْتَلِ أَبِي جَهْلٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ بَعْدَمَا رَأَى سَيْفَيْهِمَا " : كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ، ثُمَّ قَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَحْدَهُ " وَلَوْ كَانَ مُسْتَحَقًّا لِلْقَاتِلِ لَقَضَى بِهِ لَهُمَا ، إلَّا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ دَفَعَهُ بِأَنَّ غَنِيمَةَ بَدْرٍ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَصِّ الْكِتَابِ يُعْطِي مِنْهَا مَنْ شَاءَ ، وَقَدْ قَسَّمَ لِجَمَاعَةٍ لَمْ يَحْضُرُوا ، ثُمَّ نَزَلَتْ آيَةُ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ بَدْرٍ فَقَضَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى .
يَعْنِي مَا كَانَ إذْ ذَاكَ قَالَ السَّلَبُ لِلْقَاتِلِ حَتَّى يَصِحَّ الِاسْتِدْلَال ، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَالَ فِي بَدْرٍ أَيْضًا عَلَى مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَوْمَ بَدْرٍ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ فَجَاءَ أَبُو الْيُسْرِ بِأَسِيرَيْنِ ، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا كَانَ بِنَا جُبْنٌ عَنْ الْعَدُوِّ وَلَا ضَنٌّ بِالْحَيَاةِ أَنْ نَصْنَعَ مَا صَنَعَ إخْوَانُنَا وَلَكِنَّا رَأَيْنَاكَ قَدْ أَفْرَدْت فَكَرِهْنَا أَنْ نَدْعَكَ بِمَضْيَعَةٍ ، قَالَ : فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوَزِّعُوا تِلْكَ الْغَنَائِمَ بَيْنَهُمْ } ، فَظَهَرَ أَنَّهُ حَيْثُ قَالَهُ لَيْسَ نَصْبُ الشَّرْعِ لِلْأَبَدِ .
وَهُوَ وَإِنْ ضَعُفَ سَنَدُهُ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا .
فِي أَبِي دَاوُد وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِلَفْظِ كَذَا وَكَذَا
، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ مِنْ الرَّاوِي عَنْ خُصُوصِ مَا قَالَهُ .
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنِّي دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ ، فَإِنَّ الْحَالَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَادٍ ، وَلَا الْحَالُ يَقْتَضِي ذَاكَ لِقِلَّتِهَا أَوْ عَدَمِهَا ، فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ ذَلِكَ الْمُكَنِّيَ عَنْهُ الرَّاوِي هُوَ السَّلَبُ ، وَمَا أُخِذَ لِأَنَّهُ الْمُعْتَادُ أَنْ يَحْصُلُ فِي الْحَرْبِ لِلْقَاتِلِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا رُوِيَ بِطَرِيقٍ ضَعِيفَةٍ بَاطِلًا فَيَقَعُ الظَّنُّ بِصِحَّةِ جَعْلِهِ فِي بَدْرٍ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِ ، وَالْمَأْخُوذُ لِلْآخِذِ فَيَجِبُ قَبُولُهُ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَظَافَرَتْ بِهِ أَحَادِيثُ ضَعِيفَةٌ عَلَى مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } أَنَّهُ لَيْسَ نَصْبًا عَامًّا مُسْتَمِرًّا ، وَالضَّعِيفُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ يَرْتَقِي إلَى الْحَسَنِ فَيَغْلِبُ الظَّنَّ أَنَّهُ تَنْفِيلٌ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ بَقِيَّةُ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد فَإِنَّهُ قَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ كَذَا وَكَذَا فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَ الْمَشْيَخَةُ : كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ فِئْتُمْ إلَيْنَا فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى ، فَأَبَى الْفِتْيَانُ ذَلِكَ وَقَالُوا : جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا الْحَدِيثَ .
فَقَوْلُهُ جَعَلَهُ يُبَيِّنُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا هُوَ جَعْلُهُ السَّلَبَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْمَأْخُوذُ لِلْآخِذِينَ .
وَحَدِيثُ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ أَنَّهُ كَمَا قُلْنَا .
قَالَ : خَرَجْت مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ ، وَرَافَقَنِي مَدَدِي مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَشْقَرَ عَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ ، وَسِلَاحٌ مُذَهَّبٌ فَجَعَلَ يُغْرِي بِالْمُسْلِمِينَ ، وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ فَخَرَّ فَعَلَاهُ وَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ
، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعَثَ إلَيْهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَخَذَ مِنْهُ سَلَبَ الرُّومِيِّ ، قَالَ عَوْفٌ : فَأَتَيْت خَالِدًا فَقُلْت لَهُ : يَا خَالِدُ أَمَّا عَلِمْت { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ } ، قَالَ بَلَى ، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ ، قُلْت : لَتَرُدَّنَّهُ أَوْ لِأُعَرِّفَنكهَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ .
قَالَ عَوْفٌ : فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْت عَلَيْهِ قِصَّةَ الْمَدَدِيِّ وَمَا فَعَلَ الْمَدَدِيُّ وَمَا فَعَلَ خَالِدٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { يَا خَالِدُ رُدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذْت مِنْهُ ، قَالَ عَوْفٌ : فَقُلْت دُونَكَ يَا خَالِدُ أَلَمْ أَفِ لَكَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ فَأَخْبَرْتُهُ ، قَالَ : فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : يَا خَالِدُ لَا تَرُدَّ عَلَيْهِ ، هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي أُمَرَائِي لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ } فَفِيهِ أَمْرَانِ : الْأَوَّلُ رَدُّ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَقُلْ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } إلَّا فِي حُنَيْنٍ ، فَإِنَّ مُؤْتَةَ كَانَتْ قَبْلَ حُنَيْنٍ ، وَقَدْ اتَّفَقَ عَوْفٌ وَخَالِدٌ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ } قَبْلَ ذَلِكَ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مَنَعَ خَالِدًا مِنْ رَدِّهِ بَعْدَمَا أَمَرَهُ بِهِ ، فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ تَنْفِيلًا وَأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِذَلِكَ كَانَ تَنْفِيلًا طَابَتْ نَفْسُ الْإِمَامِ لَهُ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ شَرْعًا لَازِمًا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ مُسْتَحَقِّهِ .
وَقَوْلُ الْخَطَابِيِّ : إنَّمَا مَنَعَهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى عَوْفٍ سَلَبَهُ زَجْرًا لِعَوْفٍ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ النَّاسُ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَخَالِدٌ كَانَ مُجْتَهِدًا ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالْيَسِيرُ مِنْ الضَّرَرِ يَتَحَمَّلُ لِلْكَثِيرِ
مِنْ النَّفْعِ غَلَطٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَبَ لَمْ يَكُنْ لِلَّذِي تَجَرَّأَ وَهُوَ عَوْفٌ وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمَدَدِيِّ { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَغَضَبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ كَانَ أَشَدَّ عَلَى عَوْفٍ مِنْ مَنْعِ السَّلَبِ وَأَزْجَرَ لَهُ مِنْهُ .
فَالْوَجْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَحَبَّ أَوَّلًا أَنْ يُمْضِيَ شَفَاعَتَهُ لِلْمَدَدِيِّ فِي التَّنْفِيلِ ، فَلَمَّا غَضِبَ مِنْهُ رَدَّ شَفَاعَتَهُ وَذَلِكَ بِمَنْعِ السَّلَبِ لَا أَنَّهُ لِغَضَبِهِ وَسِيَاسَتِهِ يَزْجُرُهُ بِمَنْعِ حَقٍّ آخَرَ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ جِنَايَةٌ فَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْعًا عَامًّا لَازِمًا .
قَوْلُهُ ( وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ ) جَوَابٌ عَنْ تَخْصِيصِهِ بِكَوْنِهِ يَقْتُلُهُ مُقْبِلًا فَقَالَ زِيَادَةُ الْغِنَاءِ ( فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا تُعْتَبَرُ ) مُوجِبَةً زِيَادَةً مِنْ الْمَغْنَمِ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ .
وَقَوْلُهُ ( كَمَا ذَكَرْنَاهُ ) يَعْنِي مَا قَدَّمَهُ فِي أَوَّلِ فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ مِنْ أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ بَلْ نَفْسُ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى شَاهِدٍ بِأَنَّ إغْنَاءَ هَذَا فِي هَذَا الْحَرْبِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ، وَلَا يَكْفِي زِيَادَةُ شُهْرَةٍ هَذَا دُونَ ذَلِكَ ؛ إذْ لَا بُعْدَ أَنْ يَتَّفِقَ إغْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْمَشْهُورِ فِي وَقْتٍ أَكْثَرَ مِنْ الْمَشْهُورِ ، أَوْ يُشِيرَ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ
( وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ ، وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ ، وَكَذَا مَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالِهِ فِي حَقِيبَتِهِ أَوْ عَلَى وَسَطِهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَلَبٍ ) وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ بِسَلَبِهِ ، ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا ، وَكَذَا لَا يَبِيعُهَا .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَبِيعَهَا ، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَقَوْلُهُ وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ وَمَا عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ وَمَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالٍ فِي حَقِيبَتِهِ وَمَا عَلَى وَسَطِهِ ) مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ( وَمَا ) سِوَى ذَلِكَ مِمَّا ( هُوَ مَعَ غُلَامِهِ أَوْ عَلَى دَابَّةٍ فَلَيْسَ مِنْهُ ) بَلْ حَقُّ الْكُلِّ .
وَالْحَقِيبَةُ الرِّفَادَةُ فِي مُؤَخَّرِ الْقَتَبِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ شَدَدْته فِي مُؤْخِرَةِ رَحْلِك أَوْ قَتَبِك فَقَدْ اسْتَحْقَبْتَهُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْمِنْطَقَةِ وَالطَّوْقِ وَالسِّوَارِ وَالْخَاتَمِ وَمَا فِي وَسَطِهِ مِنْ النَّفَقَةِ وَحَقِيبَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا لَيْسَ مِنْ السَّلَبِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ السَّلَبِ وَهُوَ قَوْلُنَا وَعَنْ أَحْمَدَ فِي بُرْدَتِهِ رِوَايَتَانِ ( قَوْلُهُ ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطْعُ حَقِّ الْبَاقِينَ ) فَقَطْ ( وَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ ) أَيْ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ مِنْ قَوْلِهِ : وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ إلَخْ ( حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ ) وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ ( فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ فَاسْتَبْرَأَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا ) فِي دَارِ الْحَرْبِ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ فَصَارَ كَالْمُخْتَصِّ بِشِرَائِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بَعْدَ قَسْمِ الْإِمَامِ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مُجْتَهِدًا حَيْثُ يَحِلُّ وَطْؤُهَا بِالْإِجْمَاعِ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ إذَا أَخَذَ جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ وَاسْتَبْرَأَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مَا اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ شَارَكُوهُ فِيهَا .
وَلَهُمَا أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الْقَهْرُ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ
لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَقْهُورَ دَارًا وَقَاهِرَ يَدًا فَيَكُونُ السَّبَبُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، لَا أَثَرَ لِلتَّنْفِيلِ فِي إثْبَاتِ الْقَهْرِ بَلْ فِي قَطْعِ حَقِّ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا سَبَبُهُ مَا هُوَ السَّبَبُ فِي كُلِّ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ بِالتَّرَاضِي لَا الْقَهْرُ وَقَدْ تَمَّ ، وَعَدَمُ الْحِلِّ لِلْمُتَلَصِّصِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ أَيْضًا قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا لِمَا ذُكِرَ لِأَنَّ لُحُوقَ الْجَيْشِ مَوْهُومٌ فَلَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْمِلْكِ يَتِمُّ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ خِلَافٌ .
قِيلَ نَعَمْ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَتِمُّ مِلْكُ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ فَيَطَؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ بِالِاتِّفَاقِ كَالْمُشْتَرَاةِ ، وَجَعَلَ الْأَظْهَرَ فِي الْمَبْسُوطِ عَدَمَ الْحِلِّ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ لِمُحَمَّدٍ إلَّا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَوْلُهُ ( وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ ) ذَكَرَهُ لِدَفْعِ شُبْهَةٍ تَرُدُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُتْلِفَ لِسَلَبٍ نَفَّلَهُ الْإِمَامُ رَجُلًا يَضْمَنُ وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا فَوَرَدَ عَلَيْهِمَا أَنَّ الضَّمَانَ دَلِيلُ تَمَامِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحِلَّ الْوَطْءَ عِنْدَكُمَا أَيْضًا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَقَالَ فِي جَوَابِهِ بَلْ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُمَا .
وَفِي نُسْخَةٍ وَقَدْ قِيلَ بِالْوَاوِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ ) .
( إذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا ) ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ فِي مَالٍ مُبَاحٍ وَهُوَ السَّبَبُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ ذَلِكَ ) اعْتِبَارًا بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ .
بَابُ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ ) .
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَائِنَا عَلَيْهِمْ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَحُكْمِ اسْتِيلَائِهِمْ عَلَيْنَا وَتَقْدِيمُهُ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي ظَاهِرٌ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا غَلَبَ التُّرْكُ عَلَى الرُّومِ ) أَيْ كُفَّارُ التُّرْكِ عَلَى كُفَّارِ الرُّومِ ( فَسَبَوْهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ مَلَكُوهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ) عَنْ قَرِيبٍ ( فَإِنْ غَلَبْنَا عَلَى التُّرْكِ حَلَّ لَنَا مَا نَجِدُهُ مِنْ مَالٍ ) أَيْ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرُّومِ مُوَادَعَةٌ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَغْدِرْهُمْ إنَّمَا أَخَذْنَا مَالًا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِمْ .
وَلَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُوَادَعَةٌ فَاقْتَتَلُوا فَغَلَبَتْ إحْدَاهُمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَشْتَرِيَ الْمَغْنُومَ مِنْ مَالِ الطَّائِفَةِ الْأُخْرَى مِنْ الْغَانِمَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَالْإِحْرَازُ بِدَارِ الْحَرْبِ شَرْطٌ ، أَمَّا بِدَارِهِمْ فَلَا .
وَلَوْ كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ مُوَادَعَةٌ وَاقْتَتَلُوا فِي دَارِنَا لَا نَشْتَرِي مِنْ الْغَالِبِينَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَيَكُونُ شِرَاؤُنَا غَدْرًا بِالْآخَرِينَ فَإِنَّهُ عَلَى مِلْكِهِمْ .
وَأَمَّا لَوْ اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَهَلْ يَجُوزُ شِرَاءُ الْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ مِنْ الْغَالِبِينَ نَفْسًا أَوْ مَالًا ؟ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ بَيْنَ الْمَأْخُوذِ وَبَيْنَ الْآخِذِ قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ كَالْأُمِّيَّةِ أَوْ كَانَ الْمَأْخُوذُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لِلْآخِذِ لَمْ يَجُزْ إلَّا إنْ دَانُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ دَانُوا بِأَنَّ مَنْ قَهَرَ آخَرَ مَلَكَهُ جَازَ الشِّرَاءُ ، وَإِلَّا لَا .
( وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَمْلِكُونَهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَةِ الْخَصْمِ .
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمُكَلَّفِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ عَادَ مُبَاحًا كَمَا كَانَ ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاقْتِدَارِ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا وَمَآلًا ، وَالْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ إذَا صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ الْآجِلُ فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الْعَاجِلِ ؟ .
( فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { إنْ وَجَدْته قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدْته بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك بِالْقِيمَةِ } وَلِأَنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ زَالَ مِلْكُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ نَظَرًا لَهُ ، إلَّا أَنَّ فِي الْأَخْذِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ضَرَرًا بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ الْخَاصِّ فَيَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَالشَّرِكَةُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ عَامَّةٌ فَيَقِلُّ الضَّرَرُ فَيَأْخُذُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا غَلَبُوا عَلَى أَمْوَالِنَا وَأَحْرَزُوهَا بِدَارِهِمْ مَلَكُوهَا ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ يَمْلِكُونَهَا .
وَلِأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ كَقَوْلِنَا وَكَقَوْلِ مَالِكٍ : فَيَتَفَرَّعُ عَلَى مِلْكِهِمْ أَمْوَالَنَا بِالْإِحْرَازِ أَنَّ لِكُلِّ مَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا أَخَذُوهُ فَيَأْكُلَهُ وَيَطَأَ الْجَارِيَةَ لِمِلْكِهِمْ كُلَّ ذَلِكَ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَمْلِكُونَهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ ) أَيْ اسْتِيلَاءَهُمْ عَلَى أَمْوَالِنَا ( مَحْظُورٌ ابْتِدَاءً ) عِنْدَ الْأَخْذِ ( وَانْتِهَاءً ) عِنْدَ صَيْرُورَتِهَا فِي دَارِهِمْ ؛ لِبَقَاءِ عِصْمَةِ الْمَالِ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا وَهُوَ عِصْمَةُ الْمَالِكِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَالْكُفَّارُ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ إجْمَاعًا .
( وَالْمَحْظُورُ لَا يَنْتَهِضُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ قَاعِدَتِهِ ) فَصَارَ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَكَاسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا ؛ وَلِأَنَّ النَّصَّ دَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا رَوَى الطَّحَاوِيُّ مُسْنَدًا إلَى عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ : { كَانَتْ الْعَضْبَاءُ مِنْ سَوَابِقِ الْحَاجِّ ، فَأَغَارَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ الْعَضْبَاءُ وَأَسَرُوا امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا يُرِيحُونَ إبِلَهُمْ فِي أَفْنِيَتِهِمْ ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ قَامَتْ الْمَرْأَةُ وَقَدْ نَامُوا فَجَعَلَتْ لَا تَضَعُ يَدَهَا عَلَى بَعِيرٍ إلَّا رَغَا حَتَّى أَتَتْ عَلَى الْعَضْبَاءِ ، فَأَتَتْ عَلَى نَاقَةٍ ذَلُولٍ فَرَكِبَتْهَا ثُمَّ وَجَّهَتْ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَنَذَرَتْ لَئِنْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَجَّاهَا عَلَيْهَا لَتَنْحَرَنَّهَا ، فَلَمَّا قَدِمَتْ عَرَفَتْ النَّاقَةَ ، فَأَتَوْا بِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ الْمَرْأَةُ بِنَذْرِهَا ، فَقَالَ : بِئْسَ مَا جَزَيْتِيهَا أَوْ وَفَّيْتِيهَا لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ
فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } .
وَفِي لَفْظٍ : فَأَخَذَ نَاقَتَهُ .
وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ يَمْلِكُونَ بِالْإِحْرَازِ لَمَلَكَتْهَا الْمَرْأَةُ لِإِحْرَازِهِمْ إيَّاهَا .
وَلِلْجُمْهُورِ أَوْجُهٌ مِنْ النَّقْلِ وَالْمَعْنَى ، فَالْأَوَّلُ قَوْله تَعَالَى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ ، وَالْفَقِيرُ مَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مَلَكُوا أَمْوَالَهُمْ الَّتِي خَلَّفُوهَا وَهَاجَرُوا عَنْهَا ، وَلَيْسَ مَنْ مَلَكَ مَالًا وَهُوَ فِي مَكَان لَا يَصِلُ إلَيْهِ فَقِيرًا بَلْ هُوَ مَخْصُوصٌ بِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذَا عُطِفُوا عَلَيْهِمْ فِي نَصِّ الصَّدَقَةِ .
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّارِحُونَ مِمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ { قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَتْحِ أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ مَنْزِلٍ .
وَرُوِيَ أَتَنْزِلُ غَدًا بِدَارِك ؟ فَقَالَ : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ } ، وَإِنَّمَا قَالَهُ ؛ لِأَنَّ عَقِيلًا كَانَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ ، فَإِنَّ عَقِيلًا إنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى الرِّبَاعِ بِإِرْثِهِ إيَّاهَا مِنْ أَبِي طَالِبٍ ، فَإِنَّهُ تُوُفِّيَ وَتَرَكَ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا مُسْلِمَيْنِ وَعَقِيلًا وَطَالِبًا كَافِرَيْنِ فَوَرِثَاهُ ، لَا أَنَّ الدِّيَارَ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا هَاجَرَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا فَمَلَكُوهَا بِالِاسْتِيلَاءِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ قَالَ : { وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ رَجُلٍ نَاقَةً لَهُ ، فَارْتَفَعَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْعَدُوِّ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ شِئْت أَنْ تَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَأَنْتَ أَحَقُّ ، وَإِلَّا فَخَلِّ عَنْ نَاقَتِهِ } وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مُسْنِدًا عَنْ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ .
وَفِي سَنَدِهِ يَاسِينُ الزَّيَّاتُ مُضَعَّفٌ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيمَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوُّ فَاسْتَنْقَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ : إنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ قُسِّمَ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ } وَضُعِّفَ بِالْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ وَجَدَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ ، وَمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَمَا قُسِّمَ فَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ } وَضُعِّفَ بِإِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ثُمَّ أَخْرَجَهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ فِيهِ رِشْدِينُ وَضَعَّفَهُ بِهِ .
وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا { مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ فِي الْفَيْءِ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ بَعْدَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ } وَفِيهِ يَاسِينُ ضُعِّفَ بِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ مَا أَخَذَ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ ، وَمَا قُسِّمَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ إلَّا بِالْقِيمَةِ .
قَالَ : وَهَذَا إنَّمَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُمَرَ وَعَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ عُمَرَ مُرْسَلًا وَكِلَاهُمَا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ .
وَرَوَى الطَّحَاوِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ : فِيمَا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَأَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فَعَرَفَهُ صَاحِبُهُ : أَيْ أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَسَّمَ فَهُوَ لَهُ ، وَإِنْ جَرَتْ فِيهِ السِّهَامُ فَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مِثْلُ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ إلَى سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى
قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : مَنْ اشْتَرَى مَا أَحْرَزَ الْعَدُوُّ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَشُكُّ بَعْدَ هَذِهِ الْكَثْرَةِ فِي نَفْيِ أَصْلِ هَذَا الْحُكْمِ ، وَيَدُورُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَضْعِيفٍ بِالْإِرْسَالِ أَوْ التَّكَلُّمِ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ ، فَإِنَّ الظَّنَّ بِلَا شَكٍّ يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ ، وَأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْكَذِبَ .
وَيَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ لِلْكُلِّ فِي ذَلِكَ ، وَتَوَافَقُوا فِي هَذَا الْغَلَطِ ، بَلْ لَا شَكَّ أَنَّ الرَّاوِيَ الضَّعِيفَ إذَا كَثُرَ مَجِيءُ مَعْنَى مَا رَوَاهُ يَكُونُ مِمَّا أَجَادَ فِيهِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ الضَّعِيفَ الْغَلَطُ دَائِمًا ، وَلَا أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ حَالِهِ السَّهْوَ وَالْغَلَطَ .
هَذَا مَعَ اعْتِضَادِهِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الصَّحِيحِ .
وَحَدِيثُ الْعَضْبَاءِ كَانَ قَبْلَ إحْرَازِهِمْ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ أَلَا يُرَى إلَى قَوْلِهِ وَكَانُوا إذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا إلَخْ فَإِنَّهُ يُفْهِمُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ وَهُمْ فِي الطَّرِيقِ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : ( الِاسْتِيلَاءُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ) يَعْنِي الِاسْتِيلَاءَ الْكَائِنَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ فِي حَالِ الْبَقَاءِ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ( فَيَنْعَقِدُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَائِنَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ ) فَإِنَّهُ مَا تَمَّ لَنَا الْمَلِكُ فِيهِ إلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُهُ مُبَاحًا إذْ ذَاكَ ( لِأَنَّ الْعِصْمَةَ تَثْبُتُ عَلَى مُنَافَاةِ الدَّلِيلِ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ الْأَمْوَالِ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ ( لِضَرُورَةِ تَمَكُّنِ الْمُحْتَاجِ مِنْ الِانْتِفَاعِ ، فَإِذَا زَالَتْ الْمُكْنَةُ ) مِنْ الِانْتِفَاعِ ( عَادَ مُبَاحًا ) وَزَوَالُهَا عَلَى التَّحْقِيقِ وَالْيَقِينِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ، فَإِنَّ الْإِحْرَازَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَامًّا وَهُوَ ( الِاقْتِدَارُ عَلَى الْمَحَلِّ حَالًا
وَمَآلًا ) بِالِادِّخَارِ إلَى وَقْتِ حَاجَتِهِ ، بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا أَحْرَزْنَا أَمْوَالَهُمْ لَا تَزُولُ أَمْلَاكُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَمُكْنَةَ الِانْتِفَاعِ ثَابِتَةٌ مَعَ اتِّحَادِ الدَّارِ وَالْمِلَّةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ بِالشَّكِّ .
ثُمَّ أَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ : الْمَحْظُورُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ .
فَقَالَ : ذَاكَ فِي الْمَحْظُورِ لِنَفْسِهِ ( أَمَّا الْمَحْظُورُ لِغَيْرِهِ فَلَا فَإِنَّا وَجَدْنَاهُ صَلُحَ سَبَبًا لِكَرَامَةٍ تَفُوقُ الْمِلْكَ وَهُوَ الثَّوَابُ ) كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ( فَمَا ظَنُّك بِالْمِلْكِ الدُّنْيَوِيِّ ) وَالْقِيَاسُ عَلَى اسْتِيلَائِهِمْ عَلَى رِقَابِنَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَالًا ، وَكَذَا عَلَى غَصْبِ الْمُسْلِمِ مَالَ الْمُسْلِمِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إحْرَازٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْبَاغِي .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِصْمَةَ إنْ أُزِيلَتْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ لَا يَكُونُ الِاسْتِيلَاءُ مَحْظُورًا لِيَحْتَاجَ إلَى هَذَا الْكَلَامِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَالَتْ لَمْ تَصِرْ مِلْكًا لَهُمْ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُؤْثِمَةَ بَاقِيَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِسْلَامِ ، وَالْمُقَوَّمَةَ زَالَتْ ؛ لِأَنَّهَا بِالدَّارِ .
وَقَدْ يُقَالُ إنْ كَانَ الْمِلْكُ زَالَ تَبَعًا لِزَوَالِ الْقِيمَةِ صَارَ مُبَاحًا وَعَادَ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ لَزِمَ الثَّانِي فَالْمَدَارُ الْإِبَاحَةُ وَعَدَمُهَا .
ثُمَّ الْوَجْهُ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ أَنَّهُ مَحْظُورٌ لِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إنْ أُرِيدَ بِهِ ابْتِدَاءُ الْأَخْذِ أَوْ إدْخَالُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَجِبُ كَوْنُهُ قَبِيحًا لِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَهُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَحْرِيمُ الْغَصْبِ ؛ لِقِيَامِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَهُوَ قَبِيحٌ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ ، كَذَا أُورِدَ فِي الْأُصُولِ عَلَى كَوْنِ الْغَصْبِ يُفِيدُ الْمِلْكَ ذَلِكَ .
أُجِيبُ بِأَنَّ الْمُفِيدَ لَهُ هُوَ الضَّمَانُ عَلَى مَا فِي تَوْجِيهِهِ مِنْ الْكَلَامِ ، بَلْ نَقُولُ : لَيْسَ الِاسْتِيلَاءُ
الْأَوَّلُ سَبَبًا لِمِلْكِهِ وَلَا الْإِدْخَالُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، بَلْ الْإِدْخَالُ سَبَبُ زَوَالِ مُكْنَةِ الِانْتِفَاعِ وَزَوَالُ مُكْنَةُ الِانْتِفَاعِ سَبَبُ الْإِبَاحَةِ ، وَهُوَ لَا يَتَّصِفُ بِحِلٍّ وَلَا حُرْمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَفْعَالِ .
ثُمَّ الِاسْتِيلَاءُ الْكَائِنُ فِي الْبَقَاءِ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ الْمُبَاحِ سَبَبُ مِلْكِ الْكَافِرِ ، وَهَذَا الِاسْتِيلَاءُ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ، وَإِبَاحَتُهُ مُسَبَّبَةٌ عَمَّا لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ، وَهُوَ زَوَالُ الْمُكْنَةِ ، فَأَمَّا الْأَخْذُ وَمَا يَلِيهِ فَأَسْبَابٌ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرْنَا ، فَكَانَ الْوَجْهُ مَنْعَ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُنَا مَحْظُورٌ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُبَاحٌ .
وَالسَّبَبُ الْبَعِيدُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُسَبَّبِ الْأَخِيرِ ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ غَيْرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ الْبَعِيدَةَ لَا أَثَرَ لَهَا فِي الْمَعْلُولِ ، بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَعْقِبُ إبَاحَةً أَصْلًا .
وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي التَّقْرِيرِ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مَحْظُورٍ مَعْصُومٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِيلَاءَهُمْ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَبَعْدَهُ ارْتَفَعَتْ الْعِصْمَةُ فَوَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ ، كَمَالِ الْمُسْلِمِ ثَمَّةَ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا يَقْتَضِي أَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَالُهُ مَعْصُومٌ عَلَيْهِ غَيْرُ الْعَقَارِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ بَلْ يَكْفِي الْمَنْعُ بِأَنْ يُقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مَحْظُورٌ ؛ لِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ إلَخْ .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَوَجَدَهَا الْمَالِكُونَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهِيَ لَهُمْ بِغَيْرِ شَيْءٍ .
وَإِنْ وَجَدُوهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذُوهَا بِالْقِيمَةِ إنْ أَحَبُّوا ؛ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ إنْ وَجَدْته إلَخْ ) وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ وَنَظَائِرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَخَذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ إذَا كَانَ حُكْمًا لَازِمًا يَقْتَضِي قِيَامَ
مِلْكِهِ .
أُجِيبُ بِالْمَنْعِ فَإِنَّ الْوَاهِبَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَهَبَهُ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهُ شَرْعًا ، وَكَذَا الشَّفِيعُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَالِكِ الْمُشْتَرِي فِي الْأَخْذِ وَلَا مِلْكَ لَهُ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ فِي الشَّرْعِ صُوَرًا يُقَدَّمُ فِيهَا غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى الْمَالِكِ كَمَا أَرَيْنَاك فَلَأَنْ يُقَدَّمَ غَيْرُ الْمَالِكِ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ أَوْلَى وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا ، فَإِنَّهُ لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِي الْمَغْنُومِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَجَبْرُ ضَرُورَةِ الْقَوِيِّ بِضَرَرٍ يَسِيرٍ ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ أَوَّلًا فِي الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ ، وَثَانِيًا هِيَ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ فَيَخِفُّ ضَرَرُ كُلِّ وَاحِدٍ خِفَّةً كَثِيرَةً .
وَصُورَةُ الشَّفِيعِ شَبِيهَةٌ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِتَقَدُّمِهِ فِي إثْبَاتِ مِلْكٍ مُنْتَفٍ بِإِزَالَةِ مِلْكٍ مَوْجُودٍ بِالثَّمَنِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْجِوَارِ أَوْ الْخُلْطَةِ مَعَ دَفْعِ ضَرَرِ إتْلَافِ مَالِ الْآخَرِ ، وَأَشْبَهَ بِالتَّاجِرِ إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَى مَا اسْتَوْلَوْا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ ثَابِتٍ بِعِوَضٍ بِإِحْدَاثِ مِلْكٍ زَائِلٍ بِعِوَضٍ بِقَدْرِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا لَمْ يُزِلْ الْمِلْكَ الْخَاصَّ الْحَادِثَ لِلْغَازِي فِي مُقَابَلَةِ غَنَاءٍ حَصَلَ لَهُ لَا بِمُقَابَلَةِ مَالٍ بَذَلَهُ إلَّا بِبَدَلِهِ ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ وَيَخِفَّ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَلَأَنْ لَا يُزِيلَهُ بِرَفْعِ مِلْكٍ حَصَلَ بِعِوَضٍ بِإِحْدَاثِ مِلْكٍ إلَّا بِعِوَضٍ ؛ لِيَعْتَدِلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ أَوْلَى .
( وَإِنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَاشْتَرَى ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَالِكُهُ الْأَوَّلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِالْأَخْذِ مَجَّانًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ فَكَانَ اعْتِدَالُ النَّظَرِ فِيمَا قُلْنَاهُ ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ ، وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَلَوْ كَانَ مَغْنُومًا وَهُوَ مِثْلِيٌّ يَأْخُذُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَكَذَا إذَا كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَأْخُذُهُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَكَذَا إذَا كَانَ مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا .
( وَلَوْ ) أَنَّ التَّاجِرَ ( اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ ) هَذَا وَلَوْ تَرَكَ أَخْذَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِشِرَائِهِ ، وَإِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ زَمَانًا طَوِيلًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ : لَيْسَ لَهُ كَالشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ الْأَوَّلُ ( وَلَوْ وَهَبُوهُ لِمُسْلِمٍ أَخَذَهُ مَالِكُهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ مِلْكٌ خَاصٌّ ) فِي مُقَابَلَةِ مَا كَالْمَالِ أَوْ أَثْقَلَ مِنْ الْمَالِ إذْ الْمَالُ ثَابِتٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْمُكَافَأَةَ مَطْلُوبَةٌ وَالظَّاهِرُ إيقَاعُهَا ( فَلَا يُزَالُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ) وَقَدْ يُمْنَعُ هَذَا بِالرُّجُوعِ .
وَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ الْكُفَّارُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ مِثْلِيًّا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحِنْطَةِ وَالْعَسَلِ وَالزَّيْتِ ثُمَّ غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ( لِأَنَّ أَخْذَهُ بِالْمِثْلِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَكَذَا إذَا كَانَ ) الْمِثْلِيُّ ( مَوْهُوبًا ) مِنْ الْكَافِرِ لِلْمُخْرِجِ لَهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْمِثْلُ وَهُوَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِمَا قُلْنَا .
( وَكَذَا إذَا كَانَ ) الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْكُفَّارِ ( مُشْتَرًى بِمِثْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ) لَيْسَ لِصَاحِبِهِ الْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَقُيِّدَ بِقَوْلِهِ قَدْرًا وَوَصْفًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ قَدْرًا مِنْهُ أَوْ بِجِنْسِهِ لَكِنْ أَدْوَنُ مِنْهُ أَوْ أَحْسَنُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِمِثْلِ مَا أَعْطَى الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ .
[ فَرْعٌ ] اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُشْتَرِي مِنْهُمْ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مَالُهُ بِمَا يُقِرُّ هُوَ بِهِ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ .
قَالَ : ( فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ وَأَخَذَ أَرْشَهَا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أُخِذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ ) أَمَّا الْأَخْذُ بِالثَّمَنِ فَلِمَا قُلْنَا ( وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ صَحِيحٌ ، فَلَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَهُوَ لَا يُفِيدُ وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَمَّا تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفِيعِ صَارَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ فِيهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، أَمَّا هَاهُنَا الْمِلْكُ صَحِيحٌ فَافْتَرَقَا .
( قَوْلُهُ : فَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ فَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ ، وَأَخَذَ أَرْشَهَا ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَلَا يَأْخُذُ الْأَرْشَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهِ صَحِيحٌ ) ؛ لِأَنَّهُ آخِذٌ بَدَلِ مِلْكٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا عَلَى مَا سَنَذْكُرُ ( فَلَوْ أَخَذَهُ ) أَيْ الْأَرْشَ ( أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ ) دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَعَلِمْت أَنَّهُ لَا يُفِيدُ وَلَوْ أَخَذَهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً فَبَاعَهَا الْغَانِمُ بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ فَأَرَادَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ ذَلِكَ بِأَلْفٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِحِصَّتِهِ مِنْهَا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْأَخْذِ ، فَمَا أَصَابَ كُلًّا فَهُوَ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَلْفِ .
( وَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ) بِمَا نَقَصَ مِنْ عَيْنِهِ ( لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ) بِمَا نَقَصَ مِنْ عَيْنِ الْعَبْدِ وَالْعَيْنُ كَالْوَصْفِ ؛ لِأَنَّهَا يَحْصُلُ بِهَا وَصْفُ الْإِبْصَارِ ، وَقَدْ فَاتَتْ فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ فَلَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِهَا شَيْءٌ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُقَابَلْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِالْوَصْفِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ وَبِفَوَاتِهِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ فِي الْمَبِيعِ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ وَقَدْ نَفَيَاهُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَطْلُبَ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَذَهَبَتْ يَدُهُ أَوْ عَيْنُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْعُقْرُ كَالْأَرْشِ .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ ، أَمَّا إذَا صَارَ فَلَهُ حَظٌّ مِنْ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ
بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنَّهُ يُحَطُّ مِنْ الثَّمَنِ مَا يَخُصُّ الْعَيْنَ ، وَلَوْ اعْوَرَّتْ فِي يَدِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يُحَطُّ بَلْ يُرَابَحُ عَلَى كُلِّ الثَّمَنِ ، وَكَذَا فِي الشُّفْعَةِ إذَا كَانَ فَوَاتُ وَصْفِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ بِفِعْلٍ قَصْدِيٍّ قُوبِلَ بِبَعْضِ الثَّمَنِ ، كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ شَخْصٌ بَعْضَ بِنَاءِ الدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتَهُ ، وَلَوْ فَاتَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ كَأَنْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَبِهَذَا أُورِدَ عَلَى إطْلَاقِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَصْدِيِّ ، أَمَّا فِي غَيْرِهِ فَالشُّفْعَةُ وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا سَوَاءٌ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْوَصْفَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ بَعْضُ الثَّمَنِ عِنْدَ صَيْرُورَتِهِ مَقْصُودًا بِالتَّنَاوُلِ فِي الْمِلْكِ الْفَاسِدِ ، وَمَوْضِعُ وُجُوبِ اجْتِنَابِ الشُّبْهَةِ كَمَا ذَكَرْت مِنْ مَسْأَلَةِ الْمُرَابَحَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَمَانَةِ دُونَ الْخِيَانَةِ ، وَلِلشُّبْهَةِ حُكْمُ الْحَقِيقَةِ فِيهَا وَالْمِلْكُ فِي الشُّفْعَةِ لِلْمُشْتَرِي كَالْفَاسِدِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ تَحْوِيلِهِ إلَيْهِ .
أَمَّا فِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُشْبِهُ الْفَاسِدَ فَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْعَيْنَ لَا غَيْرُ .
وَقَوْلُهُ : لِأَنَّ الْأَوْصَافَ تُضْمَنُ فِيهِ : أَيْ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْغَصْبِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ فَسْخِ السَّبَبِ ، فَالْأَصْلُ فِي تَقَوُّمِ الصِّفَاتِ هُوَ الْغَصْبُ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمَالِكِ وَمُبَالَغَةً فِي دَفْعِ الظُّلْمِ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ دُونَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِتَحَقُّقِ التَّرَاضِي فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، غَيْرَ أَنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ تَرَاضِيَهُمَا فِي حَقِّ الْحِلِّ ، وَطَلَبَ رَدَّ كُلٍّ مِنْهُمَا بَدَلَهُ إلَى الْآخَرِ .
وَفِي الْكَافِي : وَلِأَنَّ الْأَخْذَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ مَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الصَّحِيحِ لِلْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ثَبَتَ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ نَصًّا وَهُوَ قَوْلُهُ : إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِالثَّمَنِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْكُلِّ
فَلَا يُحَطُّ عَنْهُ .
هَذَا وَلَوْ أَنَّهُ فَقِئَ عَيْنَاهُ عِنْدَ الْغَازِي الْمَقْسُومِ لَهُ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ وَسَلَّمَهُ لِلْفَاقِئِ فَلِلْمَالِكِ الْأَوَّلِ أَخْذُهُ مِنْ الْفَاقِئِ بِقِيمَتِهِ أَعْمَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : بِقِيمَتِهِ سَلِيمًا وَهِيَ الَّتِي أَعْطَاهَا الْفَاقِئُ لِلْمَوْلَى .
لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّتَ وَصْفًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ .
وَلَهُ أَنَّهُ طَرَفٌ وَهُوَ مَقْصُودٌ فَهُوَ كَفَوَاتِ بَعْضِ الْأَصْلِ فَيُسْقِطُ حِصَّتَهُ مِنْ الْقِيمَةِ كَالْوَلَدِ مَعَ الْأُمِّ ، وَهَذَا يُنْتَقَضُ بِمَسْأَلَةِ الْهِدَايَةِ ، بَلْ الْوَجْهُ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ فَوَاتَ الطَّرَفِ هُنَا بِفِعْلِ الَّذِي مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُ سَلِيمًا ثُمَّ قَطَعَ طَرَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ رَاضِيًا بِتَنْقِيصِهِ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الْفَاقِئَ غَيَّرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ .
[ فَرْعٌ ] .
أَسَرُوا جَارِيَةً ، وَأَحْرَزُوهَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَوَقَعَتْ فِي سَهْمِ غَانِمٍ فَبَاعَهَا بِأَلْفٍ فَوَلَدَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي وَمَاتَتْ ، فَأَرَادَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخْذَ الْوَلَدِ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهُ ذَلِكَ بِأَلْفٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَلْفِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَسَّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْأُمِّ يَوْمَ الْقَبْضِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْأَخْذِ ، فَمَا أَصَابَ كُلًّا فَهُوَ حِصَّتُهُ .
( وَإِنْ أَسَرُوا عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ ( وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ ) ؛ لِأَنَّ الْأَسْرَ وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ ( ثُمَّ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِأَلْفَيْنِ إنْ شَاءَ ) ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنَيْنِ فَيَأْخُذُهُ بِهِمَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ الثَّانِي غَائِبًا لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ اعْتِبَارًا بِحَالِ حَضْرَتِهِ ( وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ مُدَبَّرِينَا وَأُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَمُكَاتَبِينَا وَأَحْرَارَنَا وَنَمْلِكُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُفِيدُ الْمِلْكَ فِي مَحَلِّهِ ، وَالْمَحَلُّ الْمَالُ الْمُبَاحُ ، وَالْحُرُّ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ مِنْ وَجْهٍ ، بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً عَلَى جِنَايَتِهِمْ وَجَعَلَهُمْ أَرِقَّاءَ وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ .
( قَوْلُهُ : وَإِنْ أَسَرُوا ) أَيْ الْكُفَّارُ ( عَبْدًا ) لِمُسْلِمٍ ( فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ ) مِنْهُمْ ( بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَسَرُوهُ ثَانِيًا ، وَأَدْخَلُوهُ دَارَ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرُ بِأَلْفٍ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ ) وَهُوَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ أَوَّلًا ( أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الثَّانِي ) وَكَذَا لَوْ كَانَ الثَّانِي غَائِبًا كَمَا سَيَذْكُرُ ( لِأَنَّ الْأَسْرَ مَا وَرَدَ عَلَى مِلْكِهِ ) بَلْ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ أَخْذِهِ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ حَتَّى لَوْ أَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ إعْطَاؤُهُ لِلْمَوْلَى الْأَوَّلِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَهَبَهُ لَهُ أَخَذَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقِيمَتِهِ ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ الْكَافِرُ لِمُسْلِمٍ ، ثُمَّ إذَا أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِأَلْفٍ فَأَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَخَذَهُ بِأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ وَإِنْ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ فَفِي مُقَابَلَةِ الْعَبْدِ الَّذِي غَرْضُهُ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَهُ بِأَلْفٍ يَفُوتُ الْأَلْفُ الْأُخْرَى عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِلَا عِوَضٍ أَصْلًا .
[ فَرْعٌ ] .
لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ مِنْ الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ ؛ إنْ مِثْلِيًّا فَبِمِثْلِهِ ، أَوْ قِيَمِيًّا بِأَنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مُقَايَضَةً فَبِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَلَيْسَ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَنْقُضَ الْعَقْدَ الثَّانِيَ ؛ لِيَأْخُذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ الْأَوَّلُ وَالْوَجْهُ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَفِيهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَدِيمِ أَنْ يَأْخُذَهُ ( قَوْلُهُ : وَلَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا أَهْلُ الْحَرْبِ بِالْغَلَبَةِ ) الْكَائِنَةِ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ ( مُدَبَّرِينَا وَلَا
أُمَّهَاتِ أَوْلَادِنَا وَلَا مُكَاتَبِينَا وَلَا أَحْرَارَنَا ، وَنَمْلِكُ نَحْنُ عَلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ ) وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ ( إنَّمَا يُفِيدُ الْحُكْمَ ) وَهُوَ الْمِلْكُ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ ( فِي مَحَلِّهِ ، وَمَحَلُّهُ الْمَالُ الْمُبَاحُ وَالْحُرُّ الْمُسْلِمُ مَعْصُومٌ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَا مَنْ سِوَاهُ ) مِمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ مُدَبِّرِينَا وَمَنْ بَعْدَهُمْ ( لِأَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِمْ مِنْ وَجْهٍ ) مَعَ الْإِسْلَامِ ( بِخِلَافِ رِقَابِهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ عِصْمَتَهُمْ جَزَاءً إلَى جِنَايَتِهِمْ ) بِالْكُفْرِ ( وَلَا جِنَايَةَ مِنْ هَؤُلَاءِ ) .
وَيَتَفَرَّعُ عَلَى عَدَمِ مِلْكِهِمْ هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ لَوْ أَسَرُوا أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى دَارِهِمْ أَخَذَهُ مَالِكُهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيُعَوِّضُ الْإِمَامُ مَنْ وَقَعَ فِي قَسْمِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قِيمَتَهُ ، وَلَوْ اشْتَرَى تَاجِرٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ وَلَا عِوَضٍ .
( وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ لِحَقِّ الْمَالِكِ لِقِيَامِ يَدِهِ وَقَدْ زَالَتْ ، وَلِهَذَا لَوْ أَخَذُوهُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَلَكُوهُ .
وَلَهُ أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ دَارِنَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِهِ لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى فَظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَصَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلْمِلْكِ ، بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ .
وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَوْهُوبًا كَانَ أَوْ مُشْتَرًى أَوْ مَغْنُومًا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ يُؤَدَّى عِوَضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إعَادَةُ الْقِسْمَةِ لِتَفَرُّقِ الْغَانِمِينَ وَتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ جُعْلُ الْآبِقِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ إذْ فِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ .
( قَوْلُهُ : وَإِذَا أَبَقَ عَبْدٌ لِمُسْلِمٍ ) أَوْ ذِمِّيٍّ وَهُوَ مُسْلِمٌ ( وَدَخَلَ إلَيْهِمْ ) دَارَ الْحَرْبِ ( فَأَخَذُوهُ لَمْ يَمْلِكُوهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا يَمْلِكُونَهُ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ؛ لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَالٍ قَابِلٍ لِلتَّمَلُّكِ مُحْرَزٍ بِدَارِ الْحَرْبِ وَبِهِ يَتِمُّ الْمِلْكُ لَهُمْ ، وَهَذَا ( لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا لِحَقِّ الْمَالِكِ وَقَدْ زَالَتْ ) وَصَارَ كَمَا لَوْ نَدَّتْ إلَيْهِمْ دَابَّةٌ : أَيْ شَرَدَتْ مِنْ بَابِ ضَرَبَ إلَّا أَنَّ مَصْدَرَهُ جَاءَ نُدُودًا كَمَا جَاءَ عَلَى نَدًّا الْقِيَاسِيِّ ، وَكَمَا لَوْ أَخَذُوا الْعَبْدَ الْآبِقَ أَوْ غَيْرَ الْآبِقِ مِنْ دَارِنَا إذَا أَحْرَزُوهُ حَيْثُ يَمْلِكُونَهُ فَكَذَا هَذَا .
( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَبْدَ ظَهَرَتْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ فَلَهُ يَدٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ مِنْ مَوْلَاهُ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ حَبْسُهُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْبُوضًا بِمُجَرَّدِ عَقْدِهِ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ ( لِتَحَقُّقِ يَدِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ تَمْكِينًا لِلْمَوْلَى مِنْ الِانْتِفَاعِ ، وَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى ) بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ ( فَظَهَرَتْ يَدُ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ ) سَابِقَةً عَلَى يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُمْ إيَّاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَرَاخَى لَحْظَةً عَنْ دُخُولِهِ ، وَإِذَا سَبَقَتْ يَدُهُ يَدَهُمْ ( صَارَ مَعْصُومًا بِنَفْسِهِ فَلَمْ يَبْقَ مَحِلًّا لِلتَّمَلُّكِ ، بِخِلَافِ الْآبِقِ الْمُتَرَدِّدِ ) فِي دَارِنَا إذَا أَخَذُوهُ ( لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى قَائِمَةٌ عَلَيْهِ ) مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا ( لِقِيَامِ يَدِ أَهْلِ الدَّارِ ) فَيُمْكِنُهُ الِاسْتِعَانَةُ عَلَى وُجُودِهِ فَالِاقْتِدَارُ بَاقٍ ( فَمَنَعَ ظُهُورَ يَدِهِ ) عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَا كَذَلِكَ الْمَأْذُونُ فِي الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ بِإِذْنِهِ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ إلَيْهِ ، وَبِخِلَافِ الدَّابَّةِ الَّتِي نَدَّتْ فَإِنَّهُ لَا يَدَ لَهَا عَلَى نَفْسِهَا ،