كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
( وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يُحَدُّ ) لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ( وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ ) لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فِي الْحُرِّيَّةِ لِمَكَانِ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ .
( وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا وَطِئَ أَمَتَهُ وَهِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ لَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُؤَبَّدَةٌ ) وَقَوْلُهُ ( وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِوَطْئِهَا لَا يَسْقُطُ الْإِحْصَانُ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ كَوَطْءِ أَمَتِهِ الْمَجُوسِيَّةِ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِهَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهَا فَكَانَتْ مُؤَقَّتَةً ، أَمَّا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ لَا يُمْكِنُ ارْتِفَاعُهَا فَلَمْ يَكُنْ الْمَحَلُّ قَابِلًا لِلْحِلِّ أَصْلًا فَكَيْفَ يُجْعَلُ لِغَيْرِهِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَذَفَ مُكَاتَبًا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ ) فِي شَرْطِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْإِحْصَانُ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّهُ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَأَوْرَثَ شُبْهَةً فِي إحْصَانِهِ ، وَبِهِ يَسْقُطُ الْحَدُّ وَلَا يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ مَنْ يَعْتَبِرُ الْحُرِّيَّةَ مِنْ الْإِحْصَانِ
( وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ ثُمَّ أَسْلَمَ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : لَا حَدَّ عَلَيْهِ ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَزَوُّجَ الْمَجُوسِيِّ بِالْمَحَارِمِ لَهُ حُكْمُ الصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا .
وَقَدْ مَرَّ فِي النِّكَاحِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَذَفَ مَجُوسِيًّا تَزَوَّجَ بِأُمِّهِ إلَخْ ) يَعْنِي وَلَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيٌّ بِأُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ بِنْتِهِ ( ثُمَّ أَسْلَمَ ) فَفُسِخَ نِكَاحُهُمَا فَقَذَفَهُ مُسْلِمٌ فِي حَالِ إسْلَامِهِ يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّ أَنْكِحَتَهُمْ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَا : لَا يُحَدُّ ) بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصِّحَّةِ ، وَقَوْلُهُمَا قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ
( وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ ) لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزَمًا أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَمُوجِبُ أَذَاهُ الْحَدُّ ( وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَهِيَ تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ ( وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ) لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ فَتُرَدُّ تَتِمَّةً لَحَدِّهِ ( فَإِنْ أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ ) لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ أُعْتِقَ حَيْثُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُ أَصْلًا فِي حَالِ الرِّقِّ فَكَانَ رَدُّ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ .
( وَإِنْ ضُرِبَ سَوْطًا فِي قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ ) لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَالْمُقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ فَلَا يَكُونُ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَقَذَفَ مُسْلِمًا حُدَّ لِأَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَقَدْ الْتَزَمَ إيفَاءَ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، وَلِأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَيَكُونَ مُلْتَزِمًا بِالضَّرُورَةِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ طَمِعَ أَنْ لَا يُؤْذِيَ فَكَانَ مُلْتَزِمًا مُوجِبَ أَذَاهُ وَهُوَ الْحَدُّ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا حُدَّ الْمُسْلِمُ فِي قَذْفٍ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ ) عِنْدَنَا لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ عِنْدَنَا مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعِنْدَهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ كَالتَّائِبِ مِنْ الشُّرْبِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَعَاصِي ( وَهِيَ ) خِلَافِيَّةٌ ( تُعْرَفُ فِي الشَّهَادَاتِ ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَوْلُهُ وَإِذَا حُدَّ الْكَافِرُ فِي قَذْفٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ) وَهَذَا لِأَنَّ لَهُ الشَّهَادَةَ عَلَى جِنْسِهِ عَلَى مَا عُرِفَ عِنْدَنَا ، وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّ الْقَذْفِ فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ ( فَإِذَا أَسْلَمَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ اسْتَفَادَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ ) لِأَنَّ النَّصَّ يُوجِبُ رَدَّ شَهَادَتِهِ الْقَائِمَةِ وَقْتَ الْقَذْفِ وَلَيْسَتْ فِيهِ تِلْكَ فَلَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ الرَّدِّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ارْتَدَّ الْمَحْدُودُ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ صَارَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ أَبَدًا ، وَالرِّدَّةُ مَا زَادَتْهُ إلَّا شَرًّا فَبِالْإِسْلَامِ لَمْ تَحْدُثْ لَهُ شَهَادَةٌ ، بِخِلَافِ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَلِهَذَا قُبِلَتْ مُطْلَقًا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ غَيْرِهِمْ ، وَبِهِ انْدَفَعَ مَا قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَهُ وَقَدْ رُدَّتْ بِالْقَذْفِ .
قُلْنَا : إنَّ هَذِهِ أُخْرَى نَافِذَةٌ عَلَى الْكُلِّ لَا عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَقَطْ أَوْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِتَبَعِيَّتِهِ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا حُدَّ فِي قَذْفٍ ثُمَّ
أُعْتِقَ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ فَقَطْ أَبَدًا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلرِّقِّ وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَهُوَ يُرَدُّ شَهَادَتُهُ مَعَ الْجَلْدِ فَيَنْصَرِفُ إلَى رَدِّ مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مُقْتَضَى النَّصِّ عَدَمُ قَبُولِ كُلِّ شَهَادَةٍ لَهُ حَادِثَةٍ أَوْ قَائِمَةٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } وَالْحَادِثَةُ شَهَادَةٌ وَاقِعَةٌ فِي الْآبَادِ فَمُقْتَضَى النَّصِّ رَدُّهَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِمَا فِي الْوُسْعِ فَحِينَئِذٍ كُلِّفَ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ ، وَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ إنْ كَانَتْ وَإِلَّا فِيمَا يُحْدِثُ ، وَإِذَا كَانَتْ لَهُ شَهَادَةٌ قَائِمَةٌ فَرُدَّتْ تَحَقَّقَ الِامْتِثَالُ وَتَمَّ ، فَلَوْ حَدَثَتْ أُخْرَى فَلَوْ رُدَّتْ كَانَ بِلَا مُقْتَضٍ إذْ الْمُوجَبُ أَخْذُ مُقْتَضَاهُ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ ضُرِبَ ) يَعْنِي الْكَافِرَ ( سَوْطًا فِي ) حَدِّ ( قَذْفٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ مَا بَقِيَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ ) أَيْ لِلْحَدِّ ( وَالْمَقَامُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ ) وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ فَلَمْ يَكُنْ رَدُّ الشَّهَادَةِ صِفَةً لَهُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ إذْ الْأَقَلُّ تَابِعٌ لِلْأَكْثَرِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) لِمَا ذَكَرْنَا وَعُرِفَ أَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَأُقِيمَ الْبَاقِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّ الْمُقَامَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بَعْضُ الْحَدِّ كَذَلِكَ الْمُقَامُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ صِفَةً ، وَأَيْضًا جَعْلُهُ صِفَةً لِمَا أُقِيمَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْلَى لَمَّا أَنَّ الْعِلَّةَ إذَا كَانَتْ ذَاتَ وَصْفَيْنِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْوَصْفِ الْآخَرِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ بِالْأَمْرِ بِالْجَلْدِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْقَبُولِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُرَتَّبًا عَلَى الْآخَرِ فَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يُمْكِنُ ، وَالْمُمْكِنُ رَدُّ شَهَادَةٍ قَائِمَةٍ لِلْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ النَّهْيُ بِهِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى قَوْلِهِ صِفَةً لَهُ بَلْ هُوَ تَقْرِيرٌ آخَرُ .
وَأَصْلُ هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ وَالْمَبْسُوطِ قَالَ : لَا تَسْقُطُ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُضْرَبْ تَمَامَ الْحَدِّ إذَا كَانَ عَدْلًا ، ثُمَّ قَالَ وَالْحَدُّ لَا يَتَجَزَّأُ فَمَا دُونَهُ يَكُونُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا ، وَالتَّعْزِيرُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلشَّهَادَةِ ، قَالَ : وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَالثَّانِيَةُ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْحَدِّ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مُقَامَ الْكُلِّ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَالثَّالِثَةُ إذَا ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا سَقَطَتْ ، قَالَ وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الثَّلَاثُ فِي النَّصْرَانِيِّ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْحَدِّ ثُمَّ أَسْلَمَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
قَالَ ( وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ ) أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ ، وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ بِالْأَوَّلِ قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَسَرَقَ وَشَرِبَ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَتَدَاخَلُ .
وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إنْ اخْتَلَفَ الْمَقْذُوفُ أَوْ الْمَقْذُوفُ بِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يَتَدَاخَلُ ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَهُ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ زَنَى أَوْ شَرِبَ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ ) سَوَاءٌ قَذَفَ وَاحِدًا مِرَارًا أَوْ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ كَقَوْلِهِ أَنْتُمْ زُنَاةٌ أَوْ بِكَلِمَاتٍ كَأَنْ يَقُولَ يَا فُلَانُ أَنْتَ زَانٍ وَفُلَانٌ زَانٍ حَتَّى إذَا حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَادَّعَى وَحُدَّ لِذَلِكَ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ فَادَّعَى أَنَّهُ قَذَفَهُ لَا يُقَامُ إذَا كَانَ بِقَذْفٍ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ ، لِأَنَّ حُضُورَ بَعْضِهِمْ لِلْخُصُومَةِ كَحُضُورِ كُلِّهِمْ فَلَا يُحَدُّ ثَانِيًا إلَّا إذَا كَانَ بِقَذْفٍ آخَرَ مُسْتَأْنَفٍ .
وَحُكِيَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى سَمِعَ مَنْ يَقُولُ لِشَخْصٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَحَدَّهُ حَدَّيْنِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَبَلَغَ أَبَا حَنِيفَةَ فَقَالَ : يَا لَلْعَجَبِ لِقَاضِي بَلَدِنَا أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ : الْأَوَّلُ : أَخَذَهُ بِدُونِ طَلَبِ الْمَقْذُوفِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ خَاصَمَ وَجَبَ حَدٌّ وَاحِدٌ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ عِنْدَهُ حَدَّيْنِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَرَبَّصَ بَيْنَهُمَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ حَتَّى يَخِفَّ أَثَرُ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ .
الرَّابِعُ : ضَرَبَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَالْخَامِسُ : يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَرَّفَ أَنَّ وَالِدَيْهِ فِي الْأَحْيَاءِ أَوْ لَا .
فَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ فَالْخُصُومَةُ لَهُمَا وَإِلَّا فَالْخُصُومَةُ لِلِابْنِ .
وَمِنْ فُرُوعِ التَّدَاخُلِ أَنَّهُ لَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ قَذْفًا آخَرَ لَا يُضْرَبُ إلَّا ذَلِكَ السَّوْطَ الْوَاحِدَ لِلتَّدَاخُلِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ ، لِأَنَّ كَمَالَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ بِالسَّوْطِ الَّذِي بَقِيَ ، وَسَنَذْكُرُ مِنْهُ أَيْضًا فِي فُرُوعٍ نَخْتِمُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( غَيْرَ مَرَّةٍ ) يَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ : أَيْ مَنْ زَنَى غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ شَرِبَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ قَذَفَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَحُدَّ مَرَّةً فَهُوَ لِذَلِكَ كُلِّهِ مِمَّا سَبَقَ مِنْهُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّ قَذْفَ جَمَاعَةٍ بِكَلِمَةٍ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلٍ وَإِنْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّاتٍ
بِزِنًا آخَرَ يَجِبُ لِكُلِّ قَذْفٍ حَدٌّ .
وَعِنْدَنَا لَا فَرْقَ وَلَا تَفْصِيلَ بَلْ لَا تَعَدُّدَ كَيْفَمَا كَانَ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادٌ وَطَاوُسٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا وَاحْتَجَّا بِأَنَّ مُقْتَضَى الْآيَةِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُشْعِرِ بِالْعِلِّيَّةِ فَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَفِي الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ لَا يَتَدَاخَلُ وَلَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيٍّ ، وَلَنَا مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ ( أَمَّا الْأَوَّلَانِ ) وَهُوَ كُلٌّ مِنْ الزِّنَا وَالشُّرْبِ ( فَلِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى الِانْزِجَارُ ) عَنْ فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ( وَاحْتِمَالُ حُصُولِهِ ) بِالْحَدِّ الْوَاحِدِ الْمُقَامِ بَعْدَ الزِّنَا الْمُتَعَدِّدِ مِنْهُ وَالشُّرْبِ الْمُتَعَدِّدِ ( قَائِمٌ فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي الثَّانِي ) وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِالْإِجْمَاعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى فَحُدَّ ثُمَّ زَنَى يَجِبُ حَدٌّ آخَرُ لِتَيَقُّنِنَا بِعَدَمِ انْزِجَارِهِ بِالْأَوَّلِ ، وَالْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمَّا كَانَ عَلَى دَفْعِ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ كَانَ مُقَيَّدًا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ مِنْ التَّكْرَارِ عِنْدَ التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَدِّ الْأَوَّلِ ، بَلْ هَذَا ضَرُورِيٌّ فَإِنَّك عَلِمْت أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْإِقَامَةِ فِي قَوْلِهِ { فَاجْلِدُوهُمْ } الْأَئِمَّةُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ هَذَا الْخِطَابُ إلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ عِنْدَهُمْ فَكَانَ حَاصِلُ النَّصِّ إيجَابَ الْحَدِّ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عِنْدَهُمْ أَعَمَّ مِنْ كَوْنِهِ بِوَصْفِ الْكَثْرَةِ أَوْ الْقِلَّةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ وُقُوعُهُ مِنْهُ كَثِيرًا كَانَ مُوجِبًا لِجَلْدِ مِائَةٍ أَوْ ثَمَانِينَ لَيْسَ غَيْرُ ، فَإِذَا جُلِدَ ذَلِكَ وَقَعَ الِامْتِثَالُ ، ثُمَّ هُوَ أَيْضًا تَرَكَ مُقْتَضَى التَّكَرُّرِ بِالتَّكَرُّرِ فِيمَا
إذَا قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّةً ثُمَّ قَذَفَهُ ثَانِيًا بِذَلِكَ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا يُحِدُّهُ مَرَّتَيْنِ ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ فَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ لَهُ بِالْآيَةِ لَا يُخَلِّصُهُ فَإِنَّهُ يُلْجِئُ إلَى تَرْكِ مِثْلِهَا مِنْ آيَةِ حَدِّ الزِّنَا فَيَعُودُ إلَى أَنَّ هَذَا حَقُّ آدَمِيٍّ ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَكَانَ الْمَبْنِيُّ إثْبَاتَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ حَقِّ آدَمِيٍّ ، فَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَخْصَرُ وَأَصْوَبُ .
وَقَوْلُهُ ( وَأَمَّا الْقَذْفُ فَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِمَا ) لَا حَاجَةَ إلَى إلْحَاقِهِ ، بَلْ عَيْنُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ يَجْرِي فِيهِ وَهُوَ أَنَّهُ حَدٌّ شُرِعَ حَقًّا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى لِمَقْصُودِ الِانْزِجَارِ عَنْ الْأَعْرَاضِ ، فَحَيْثُ أُقِيمَ ثَبَتَتْ شُبْهَةٌ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي الْخُصُومَةِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ لَيْسَ غَيْرُ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى وَقَذَفَ وَشَرِبَ وَسَرَقَ ) ثُمَّ أَخَذَ يَعْنِي الْأَسْبَابَ عِنْدَ الْحَاكِمِ حَيْثُ تَجِبُ الْحُدُودُ الْمُخْتَلِفَةُ كُلُّهَا لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مِنْ أَسْبَابِهَا ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ حَدِّ الْخَمْرِ صِيَانَةُ الْعُقُولِ ، وَمِنْ حَدِّ الزِّنَا صِيَانَةُ الْأَنْسَابِ ، وَمِنْ حَدِّ الْقَذْفِ صِيَانَةُ الْأَعْرَاضِ ، وَثَبَتَ كُلٌّ بِخِطَابٍ يَخُصُّهُ ، فَلَوْ حَدَدْنَا فِي الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ حَدًّا وَاحِدًا عَطَّلْنَا نَصًّا مِنْ النُّصُوصِ عَنْ مُوجِبِهِ .
[ فُرُوعٌ ] ثَبَتَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ وَالْقَذْفَ وَفَقْءَ عَيْنِ رَجُلٍ يُبْدَأُ بِالْقِصَاصِ فِي الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ ، ثُمَّ إذَا بَرِئَ أَخْرَجَهُ فَحَدَّهُ لِلْقَذْفِ لِأَنَّهُ مَشُوبٌ بِحَقِّهِ ، فَإِذَا بَرِئَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ ، لِأَنَّ كُلًّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ ثَابِتٌ بِنَصٍّ يُتْلَى ، وَيَجْعَلُ حَدَّ الشُّرْبِ آخِرَهَا فَإِنَّهُ أَضْعَفُ لِأَنَّهُ بِمَا لَا يُتْلَى ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُ عَلِيٍّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسُنَّهُ } وَكُلَّمَا أَقَامَ عَلَيْهِ حَدًّا حَبَسَهُ حَتَّى يَبْرَأَ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ رُبَّمَا يَهْرَبُ فَيَصِيرُ الْإِمَامُ مُضَيِّعًا لِلْحُدُودِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا اقْتَصَّ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَضَرَبَهُ حَدَّ الْقَذْفِ ثُمَّ رَجَمَهُ ، لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَتَى اجْتَمَعَتْ الْحُدُودُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهَا قَتْلُ نَفْسٍ قُتِلَ وَتُرِكَ مَا سِوَى ذَلِكَ .
هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ ، وَأَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْهُ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ وَالِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ لَا يُفِيدُ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لَوْ أَتْلَفَهَا لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ وَلَمْ يُوجَدْ فَلِهَذَا يَضْمَنُهُ فَيُؤْمَرُ بِإِيفَائِهَا مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَلَا يُقَامُ حَدٌّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا قَوَدٌ وَلَا تَعْزِيرٌ ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُقَامَ بِحَضْرَتِهِ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ { كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْغَامِدِيَّةِ } ، أَوْ يَبْعَثُ أَمِينًا { كَمَا فَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَاعِزٍ } ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ فِي الْقَذْفِ إذَا أَنْكَرَهُ .
وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ يَقْضِي بِالنُّكُولِ ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي الْحُدُودِ لِأَنَّ
النُّكُولَ إمَّا بَذْلٌ وَالْبَذْلُ لَا يَكُونُ فِي الْحُدُودِ أَوْ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، وَالْحَدُّ لَا يُقَامُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ غَيْرِهِ ، بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى سَبَبِهِمَا ، وَيَسْتَحْلِفُ فِي السَّرِقَةِ لِأَجْلِ الْمَالِ ، فَإِنْ نَكَلَ ضَمِنَ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ السَّرِقَةِ أَخْذُ الْمَالِ بِقَيْدٍ فَيَحْلِفُ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ لَا عَلَى فِعْلِ السَّرِقَةِ ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يَقْضِي بِمُوجَبِ الْأَخْذِ وَهُوَ الضَّمَانُ ، كَمَا لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالسَّرِقَةِ ثَبَتَ الْأَخْذُ فَيَضْمَنُ وَلَا يُقْطَعُ ، وَإِذَا أَقَامَ الْمَقْذُوفُ بَيِّنَةً بِالْقَذْفِ سَأَلَهُمَا الْقَاضِي عَنْ الْقَذْفِ مَا هُوَ وَعَنْ خُصُوصِ مَا قَالَ لِأَنَّ الرَّمْيَ بِغَيْرِ الزِّنَا قَدْ يَظُنُّونَهُ قَذْفًا فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِفْسَارِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى قَوْلِهِمْ قَذَفَهُ لَا يُحَدُّ ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ قَالَ يَا زَانِي وَهُمْ عُدُولٌ حُدَّ ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الْقَاضِي عَدَالَتَهُمْ حَبَسَ الْقَاذِفَ حَتَّى يُزَكُّوا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ أَعْرَاضٍ فِي النَّاسِ فَيُحْبَسُ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ وَلَا يَكْفُلُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الزِّنَا فَارْجِعْ إلَيْهِ وَلَا تَكَفُّلَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ، وَلِهَذَا يَحْبِسُهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ الْكَفِيلُ ، وَلِهَذَا لَا يُحْبَسُ عِنْدَهُمَا فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا تَكْفِيلَ بِنَفْسِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْزِئُ فِي إيفَائِهِمَا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَفَالَةِ إقَامَةُ الْكَفِيلِ مُقَامَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي الْإِيفَاءِ .
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ .
فَأَمَّا أَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَعَمَ الْمَقْذُوفُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ فَكَذَلِكَ لَا
يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ يُلَازِمُهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقَالَا : حَدُّ الْقَذْفِ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ مِثْلُ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ حَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الْخَصْمِ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : هَذَا احْتِيَاطٌ وَالْحُدُودُ يُحْتَاطُ فِي دَرْئِهَا لَا فِي إثْبَاتِهَا ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ : مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُهُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ ، فَأَمَّا إذَا سَمَحَتْ نَفْسُهُ بِهِ فَلَا بَأْسَ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ نَفْسَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، وَالْكَفِيلُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إنَّمَا يُطْلَبُ بِهَذَا الْقَدْرِ ، فَأَمَّا إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ فَهُوَ كَمَا لَوْ لَمْ يُقِمْ أَحَدًا وَلَا يُلَازِمُهُ إلَّا إلَى آخَرِ الْمَجْلِسِ ، فَإِنْ كَانَ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ حَبَسَهُ إذَا قَالَ إنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً هَذَا الْمِقْدَارُ اسْتِحْسَانٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ فِي الْحُدُودِ ، وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَحْبِسُهُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِذَلِكَ .
وَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْقَذْفِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَهُمَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ ، فَمَا لَمْ يَتَّفِقْ الشَّاهِدَانِ عَلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ لَا يُقْضَى بِهِ ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ وَإِنْشَائِهِ لَهُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْقَذْفُ قَوْلٌ قَدْ يُكَرَّرُ فَيَكُونُ حُكْمُ الثَّانِي حُكْمَ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ ، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَاكَ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ يُخَالِفُ حُكْمَ الْإِنْشَاءِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَوْ قَذَفَهَا فِي الْحَالِ كَانَ عَلَيْهِ اللِّعَانُ ، وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي اللُّغَةِ الَّتِي وَقَعَ الْقَذْفُ بِهَا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللُّغَةِ يَتَمَكَّنُ الِاخْتِلَافُ فِي الصَّرَاحَةِ وَنَحْوِهَا ، وَكَذَا لَوْ أَشْهَدَ أَحَدَهُمَا أَنَّهُ قَالَ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ وَالْآخَرَ لَسْت لِأَبِيك ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْخَمِيسِ لَا يُحَدُّ ، وَلَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ كِتَابُ الْقَاضِي وَلَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ .
وَلَوْ قَالَ الْقَاذِفُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَذْفِ عِنْدَ الْقَاضِي عِنْدِي بَيِّنَةٌ تُصَدِّقُ قَوْلِي أُجِّلَ مِقْدَارَ قِيَامِ الْقَاضِي مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلِقَ عَنْهُ وَيُقَالُ لَهُ ابْعَثْ إلَى شُهُودِك .
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْ يَأْتِي بِهِمْ أُطْلِقَ عَنْهُ وَبَعَثَ مَعَهُ بِوَاحِدٍ مِنْ شُرَطِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يُفْتَقَرْ إلَى هَذَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَدَّ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِتَأْخِيرِ دَفْعِ الْعَارِ عَنْهُ ، وَإِلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ قَلِيلٌ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ كَالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْجَلَّادُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُسْتَأْنَى بِهِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِأَنَّ الْقَذْفَ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ بِشَرْطِ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ وَالْعَجْزُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْإِمْهَالِ ، كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا ادَّعَى طَعْنًا فِي الشُّهُودِ يُمْهَلُ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي .
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا ، وَعُرِفَ أَنَّهُ لَا
يُقْبَلُ مِنْهُ إلَّا أَرْبَعَةٌ ، فَلَوْ جَاءَ بِثَلَاثَةٍ حُدَّ هُوَ وَالثَّلَاثَةُ ، قَالَ تَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ } فَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا يُدْرَأُ عَنْ الْقَاذِفِ الْحَدُّ وَعَنْ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَكَأَنَّا سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِالزِّنَا ، إلَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِقْرَارِ إسْقَاطُ الْحَدِّ لَا إقَامَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ وَلَوْ كَثُرَتْ الشُّهُودُ ، وَلَوْ زَنَى الْمَقْذُوفُ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَى الْقَاذِفِ أَوْ وَطِئَ وَطْئًا حَرَامًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْ ارْتَدَّ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الْقَاذِفِ وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ إحْصَانَ الْمَقْذُوفِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَكَذَا إذَا خَرِسَ أَوْ عَتِهَ وَلَكِنْ لَا لِزَوَالِ إحْصَانِهِ بَلْ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ أَنَّهُ لَوْ كَانَ نَاطِقًا صَدَّقَهُ ، وَلَا يُلَقِّنُ الْقَاضِي لِلشُّهُودِ مَا تَتِمُّ بِهِ شَهَادَتُهُمْ فِي الْحُدُودِ .
( جِنْسٌ آخَرُ ) تَقَدَّمَ أَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَزَنَى النَّاسِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ الْمَبْسُوطِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ قَالَ : أَنْتِ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ أَزَنَى مِنِّي لَا حَدَّ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ أَنْتَ أَزَنَى مِنِّي حُدَّ الرَّجُلُ وَحْدَهُ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ مَا رَأَيْت زَانِيَةً خَيْرًا مِنْك لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ وَطِئَكِ فُلَانٌ وَطْئًا حَرَامًا أَوْ فَجَرَ بِكَ أَوْ جَامَعَك حَرَامًا لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ أُخْبِرْتُ أَنَّك زَانٍ أَوْ أُشْهِدْتُ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ زَنَيْت وَفُلَانٌ مَعَك يَكُونُ قَاذِفًا لَهُمَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ لَا مَعِيَّةَ حَالَ الزِّنَا فَانْصَرَفَ إلَى مَعِيَّةِ الْفِعْلِ دُونَ الْحُضُورِ ، وَمَنْ قَالَ لَسْت لِأَبَوَيْك لَا يَكُونُ قَاذِفًا وَهُوَ ظَاهِرٌ لَسْت لِإِنْسَانٍ لَسْت لِرَجُلٍ لَيْسَ قَذْفًا .
رَجُلٌ قَذَفَ وَلَدَهُ أَوْ وَلَدَ وَلَدِهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَذَفَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ عَمَّهُ حُدَّ .
قَالَ لِرَجُلٍ قُلْ لِفُلَانٍ يَا زَانِي فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ فُلَانٌ يَقُولُ لَك يَا زَانِي لَا حَدَّ عَلَى الرَّسُولِ وَلَا عَلَى الْمُرْسِلِ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ يَا زَانِي حُدَّ الرَّسُولُ خَاصَّةً .
وَلَوْ قَذَفَ مَيِّتَةً فَصَدَّقَهُ ابْنُهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِقَذْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَالَ لَهُ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ أَوْ يَا ابْنَ الْحَائِكِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنِي لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَلَطُّفٌ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ يَا ابْنَ النَّصْرَانِيِّ أَوْ يَا ابْنَ الْيَهُودِيِّ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ : رَجُلٌ قَالَ فِي مَيِّتٍ لَمْ يَشْرَبْ الْخَمْرَ وَلَمْ يَزْنِ فَقَالَ أحرجه كُرْده سِتّ لَمْ يُحَدَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِشَارَةٍ إلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ .
وَلَوْ قَالَ أَيْنَ حمه كُرْده سِتّ فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّهِ وَلَمْ يُكَنِّهِ .
وَلَوْ قَالَ وَلَا أَيْنَ حمه كُرْده است يَكُونُ قَذْفًا ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ فِعْلُ الْكُلِّ .
وَمَعْنَى الثَّانِي فِعْلُ هَذِهِ كُلِّهَا .
وَمَعْنَى الثَّالِثِ هُوَ فِعْلُ هَذِهِ كُلِّهَا .
وَفِي الْفَتَاوَى : قَالَ لِرَجُلَيْنِ : أَحَدُكُمَا زَانٍ ، فَقَالَ لَهُ هَذَا هُوَ لِأَحَدِهِمَا فَقَالَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَذْفِ لَمْ يَقَعْ مُوجِبًا .
وَلَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّ الْقَذْفَ فِيهِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَدَّعِيَ مَا لَمْ يُعَيِّنْ الْمُسْتَثْنَى .
وَمِنْ فُرُوعِ تَدَاخُلِ حَدِّ الْقَذْفِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ : عَبْدٌ قَذَفَ حُرًّا فَأَعْتَقَ فَقَذَفَ آخَرَ فَاجْتَمَعَا ضُرِبَ ثَمَانِينَ ، وَلَوْ قَذَفَ الْأَوَّلَ فَضُرِبَ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ الْآخَرُ تَمَّمَ لَهُ الثَّمَانِينَ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ وَقَعَ لَهُمَا يَبْقَى الْبَاقِي أَرْبَعِينَ ، وَلَوْ قَذَفَ آخَرَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الثَّانِي تَكُونُ الثَّمَانُونَ لَهُمَا جَمِيعًا ، وَلَا يُضْرَبُ ثَمَانِينَ مُسْتَأْنَفًا لِأَنَّ مَا بَقِيَ تَمَامُهُ حَدُّ الْأَحْرَارِ فَجَازَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ الْأَحْرَارُ وَهَذَا مَا وَعَدْنَاهُ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا رُوسِيَّ يُحَدُّ .
وَلَوْ قَالَ يَا قَحْبَةَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ .
فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ
( فَصْلٌ فِي التَّعْزِيرِ ) لَمَّا قَدَّمَ الْحُدُودَ الْمُقَدَّرَةَ بِالنُّصُوصِ الْقَاطِعَةِ وَهِيَ أَوْكَدُ أَتْبَعَهَا التَّعْزِيرَ الَّذِي هُوَ دُونَهَا فِي الْمِقْدَارِ وَالدَّلِيلِ وَالتَّعْزِيرُ تَأْدِيبٌ دُونَ الْحَدِّ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْعَزْرِ بِمَعْنَى الرَّدِّ وَالرَّدْعِ .
وَهُوَ مَشْرُوعٌ بِالْكِتَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا } أَمَرَ بِضَرْبِ الزَّوْجَاتِ تَأْدِيبًا وَتَهْذِيبًا .
وَفِي الْكَافِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَرْفَعْ عَصَاك عَنْ أَهْلِك } وَرُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَزَّرَ رَجُلًا قَالَ لِغَيْرِهِ يَا مُخَنَّثُ } .
وَفِي الْمُحِيطِ : رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً عَلَّقَ سَوْطَهُ حَيْثُ يَرَاهُ أَهْلُهُ } وَأَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرٍ إلَّا فِي حَدٍّ } وَسَيَأْتِي .
وَقَوْلُهُ { وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى تَرْكِهَا لِعَشْرٍ } فِي الصِّبْيَانِ ، فَهَذَا دَلِيلُ شَرْعِيَّةِ التَّعْزِيرِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ .
وَبِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الزَّجْرَ عَنْ الْأَفْعَالِ السَّيِّئَةِ كَيْ لَا تَصِيرَ مَلَكَاتٌ فَيَفْحُشُ وَيَسْتَدْرِجُ إلَى مَا هُوَ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ فَهُوَ وَاجِبٌ .
وَذَكَرَ التُّمُرْتَاشِيُّ عَنْ السَّرَخْسِيِّ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الزَّجْرُ ، وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِيهِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْزَجِرُ بِالصَّيْحَةِ وَمِنْهُمْ يَحْتَاجُ إلَى اللَّطْمَةِ وَإِلَى الضَّرْبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَبْسِ .
وَفِي الشَّافِي : التَّعْزِيرُ عَلَى مَرَاتِبَ : تَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْعَلَوِيَّةُ بِالْإِعْلَامِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لَهُ الْقَاضِي بَلَغَنِي أَنَّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَنْزَجِرُ بِهِ ، وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ وَهُمْ الْأُمَرَاءُ وَالدَّهَاقِينُ بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ
الْقَاضِي وَالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ ، وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ وَهُمْ السُّوقَةُ بِالْجَرِّ وَالْحَبْسِ ، وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّةِ بِهَذَا كُلِّهِ وَبِالضَّرْبِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : يَجُوزُ التَّعْزِيرُ لِلسُّلْطَانِ بِأَخْذِ الْمَالِ ، وَعِنْدَهُمَا وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ .
وَمَا فِي الْخُلَاصَةِ سَمِعْت مِنْ ثِقَةٍ أَنَّ التَّعْزِيرَ بِأَخْذِ الْمَالِ إنْ رَأَى الْقَاضِي ذَلِكَ ، أَوْ الْوَالِي جَازَ ، وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ رَجُلٌ لَا يَحْضُرُ الْجَمَاعَةَ يَجُوزُ تَعْزِيرُهُ بِأَخْذِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِيَارِ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ الْمَشَايِخِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ التُّمُرْتَاشِيُّ : يَجُوزُ التَّعْزِيرُ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِكُلِّ أَحَدٍ بِعِلَّةِ النِّيَابَةِ عَنْ اللَّهِ .
وَسُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ عَمَّنْ وَجَدَ رَجُلًا مَعَ امْرَأَةٍ أَيَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ ؟ قَالَ : إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ عَنْ الزِّنَا بِالصِّيَاحِ وَالضَّرْبِ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ لَا يَقْتُلُهُ .
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالْقَتْلِ حَلَّ لَهُ قَتْلُهُ ، وَإِنْ طَاوَعَتْهُ الْمَرْأَةُ يَحِلُّ قَتْلُهَا أَيْضًا .
وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الضَّرْبَ تَعْزِيرٌ يَمْلِكُهُ الْإِنْسَانُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَسِبًا ، وَصَرَّحَ فِي الْمُنْتَقَى بِذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إزَالَةِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ .
وَالشَّارِعُ وَلَّى كُلَّ أَحَدٍ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ } الْحَدِيثَ .
بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ تَوْلِيَتُهَا إلَّا لِلْوُلَاةِ ، وَبِخِلَافِ التَّعْزِيرِ الَّذِي يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ بِالْقَذْفِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى لَا يُقِيمُهُ إلَّا الْحَاكِمُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَا فِيهِ ، ثُمَّ التَّعْزِيرُ فِيمَا شُرِعَ فِيهِ التَّعْزِيرُ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ وَاجِبًا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَالَ إنِّي لَقِيت امْرَأَةً فَأَصَبْت مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَطَأَهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَصَلَّيْت مَعَنَا ؟ قَالَ نَعَمْ ، فَتَلَا عَلَيْهِ { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } } وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِيِّ : { اقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ } { وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِلزُّبَيْرِ فِي سَقْيِ أَرْضِهِ فَلَمْ يُوَافِقْ غَرَضَهُ إنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِك ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُعَزِّرْهُ } .
وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ مِنْ التَّعْزِيرِ كَمَا فِي وَطْءِ جَارِيَةِ امْرَأَتِهِ أَوْ جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ يَجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ فِيهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ إذَا رَأَى الْإِمَامُ بَعْدَ مُجَانَبَةِ هَوَى نَفْسِهِ الْمَصْلَحَةَ أَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُزْجَرُ إلَّا بِهِ وَجَبَ لِأَنَّهُ زَاجِرٌ مَشْرُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَبَ كَالْحَدِّ ، وَمَا عُلِمَ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِدُونِهِ لَا يَجِبُ وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ الَّذِي ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصَابَ مِنْ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَهُوَ نَادِمٌ مُنْزَجِرٌ ، لِأَنَّ ذِكْرَهُ لَهُ لَيْسَ إلَّا لِلِاسْتِعْلَامِ بِمُوجِبِهِ لِيَفْعَلَ مَعَهُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الزُّبَيْرِ فَالتَّعْزِيرُ لِحَقٍّ آدَمِيٍّ هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجُوزُ تَرْكُهُ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : التَّعْزِيرُ حَقُّ الْعَبْدِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ يَجُوزُ فِيهِ الْإِبْرَاءُ وَالْعَفْوُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَيَجْرِي فِيهِ الْيَمِينُ : يَعْنِي إذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ سَبَبُهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالنُّكُولِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى مَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ وَحَقُّ اللَّهِ ، فَحَقُّ الْعَبْدِ لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ مَا ذُكِرَ .
وَأَمَّا مَا وَجَبَ مِنْهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْإِمَامِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ تَرْكُهُ إلَّا فِيمَا عَلِمَ أَنَّهُ انْزَجَرَ الْفَاعِلُ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِمُدَّعٍ شَهِدَ بِهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا شَاهِدًا إذَا كَانَ مَعَهُ آخَرُ .
فَإِنْ قُلْت : فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ : إنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ذَا مُرُوءَةٍ وَكَانَ أَوَّلُ مَا فَعَلَ يُوعَظُ اسْتِحْسَانًا فَلَا يُعَزَّرُ .
فَإِنْ عَادَ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُضْرَبُ وَهَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي فِيهَا مِنْ إسْقَاطِ التَّعْزِيرِ .
قُلْت : يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ مَا قُلْت مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا مُنَاقَضَةَ ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ ذَا مُرُوءَةٍ فَقَدْ حَصَلَ تَعْزِيرُهُ بِالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالدَّعْوَى فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي التَّعْزِيرِ .
وَقَوْلُهُ وَلَا يُعَزَّرُ : يَعْنِي بِالضَّرْبِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ ، فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ حِينَئِذٍ بِالضَّرْبِ ، وَيُمْكِنُ كَوْنُ مَحْمَلِهِ حَقِّ آدَمِيٍّ مِنْ الشَّتْمِ وَهُوَ مُمْكِنٌ يَكُونُ تَعْزِيرُهُ بِمَا ذَكَرْنَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجُلِ يَشْتُمُ النَّاسَ : إذَا كَانَ لَهُ مُرُوءَةٌ وُعِظَ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ حُبِسَ .
وَإِنْ كَانَ سَبَّابًا ضُرِبَ وَحُبِسَ : يَعْنِي الَّذِي دُونَ ذَلِكَ ، وَالْمُرُوءَةُ عِنْدِي فِي الدِّينِ وَالصَّلَاحِ .
( وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ ) لِأَنَّهُ جِنَايَةُ قَذْفٍ ، وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ ( وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ ) لِأَنَّهُ آذَاهُ وَأَلْحَقَ الشَّيْنَ بِهِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي الْحُدُودِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ ، إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ، وَفِي الثَّانِيَةِ : الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ ( وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ ) لِأَنَّهُ مَا أُلْحِقَ الشَّيْنُ بِهِ لِلتَّيَقُّنِ بِنَفْيِهِ .
وَقِيلَ فِي عُرْفِنَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا ، وَقِيلَ إنْ كَانَ الْمَسْبُوبُ مِنْ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ ، وَهَذَا أَحْسَنُ .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ قَذَفَ عَبْدًا أَوْ أَمَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ كَافِرًا بِالزِّنَا عُزِّرَ ) بِالْإِجْمَاعِ إلَّا عَلَى قَوْلِ دَاوُد فِي الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ بِهِ .
وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الذِّمِّيَّةِ الَّتِي لَهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ قَالَ : يُحَدُّ بِهِ ، وَإِنَّمَا عُزِّرَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْكَلَامَ ( جِنَايَةُ قَذْفٍ وَقَدْ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ لِفَقْدِ الْإِحْصَانِ فَوَجَبَ التَّعْزِيرُ وَكَذَا إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا بِغَيْرِ الزِّنَا فَقَالَ يَا فَاسِقُ أَوْ يَا كَافِرُ أَوْ يَا خَبِيثُ أَوْ يَا سَارِقُ ) وَمِثْلُهُ يَا لِصُّ أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا زِنْدِيقُ أَوْ يَا مَقْبُوحُ يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ يَا قَرْطَبَانُ يَا مَنْ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ أَوْ يَا لُوطِيُّ أَوْ قَالَ أَنْتَ تَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ يَا آكِلَ الرِّبَا يَا شَارِبَ الْخَمْرِ يَا دَيُّوثُ يَا مُخَنَّثُ يَا خَائِنُ يَا مَأْوَى الزَّوَانِي يَا مَأْوَى اللُّصُوصِ يَا مُنَافِقُ يَا يَهُودِيُّ عُزِّرَ هَكَذَا مُطْلَقًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَذَكَرَهُ النَّاطِفِيُّ وَقَيَّدَهُ بِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ صَالِحٍ ، أَمَّا لَوْ قَالَ لِفَاسِقٍ يَا فَاسِقُ أَوْ لِلِّصِّ يَا لِصُّ أَوْ لِلْفَاجِرِ يَا فَاجِرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالتَّعْلِيلُ يُفِيدُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا إنَّهُ آذَاهُ بِمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الشَّيْنِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَنْ لَمْ يُعْلَمْ اتِّصَافُهُ بِهَذِهِ ، أَمَّا مَنْ عُلِمَ فَإِنَّ الشَّيْنَ قَدْ أَلْحَقَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ .
وَقِيلَ فِي يَا لُوطِيُّ يُسْأَلُ عَنْ نِيَّتِهِ إنْ أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ عُزِّرَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعَزَّرُ إنْ كَانَ فِي غَضَبٍ ، قُلْت : أَوْ هَزْلٍ مِمَّنْ تَعَوَّدَ بِالْهَزْلِ بِالْقَبِيحِ ، وَلَوْ قَذَفَهُ بِإِتْيَانِ مَيْتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ عُزِّرَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( إلَّا أَنَّهُ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ غَايَتَهُ فِي الْجِنَايَةِ الْأُولَى )
وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَا ( لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ ) وَهُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا ( وَفِي الثَّانِيَةِ ) وَهُوَ مَا إذَا قَذَفَهُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ الْمَعَاصِي ( الرَّأْيُ إلَى الْإِمَامِ ) ( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ يَا حِمَارُ أَوْ يَا خِنْزِيرُ لَمْ يُعَزَّرْ ) لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسُبْهُ إلَى شَيْنِ مَعْصِيَةٍ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْنٌ أَصْلًا ، بَلْ إنَّمَا أَلْحَقَ الشَّيْنَ بِنَفْسِهِ حَيْثُ كَانَ كَذِبُهُ ظَاهِرًا ، وَمِثْلُهُ يَا بَقَرُ يَا ثَوْرُ يَا حَيَّةُ يَا تَيْسُ يَا قِرْدُ يَا ذِئْبُ يَا حَجَّامُ يَا بَغَّاءُ يَا وَلَدَ حَرَامٍ يَا عَيَّارُ يَا نَاكِسُ يَا مَنْكُوسُ يَا سُخْرَةُ يَا ضُحَكَةُ يَا كَشْحَانُ يَا أَبْلَهُ يَا ابْنَ الْحَجَّامِ وَأَبُوهُ لَيْسَ بِحَجَّامٍ يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ وَأَبُوهُ لَيْسَ كَذَلِكَ يَا كَلْبُ يَا رُسْتَاقِيُّ يَا مُؤَاجِرُ يَا مُوَسْوِسُ لَمْ يُعَزَّرْ .
وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يُعَزَّرُ فِي الْكَشْحَانِ إذْ قِيلَ إنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْقَرْطَبَانِ وَالدَّيُّوثِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ وَبِالْقَرْطَبَانِ فِي الْعُرْفِ الرَّجُلُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ ، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِ مِصْرَ وَالشَّامِ الْمُعَرِّصُ وَالْقُوَّادُ ، وَعَدَمُ التَّعْزِيرِ فِي الْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ بَيْنَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ، وَاخْتَارَ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ تُذْكَرُ لِلشَّتِيمَةِ فِي عُرْفِنَا .
فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فِي يَا كَلْبُ لَا يُعَزَّرُ .
قَالَ : وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَتِيمَةً ثُمَّ قَالَ : وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ كَاذِبٌ قَطْعًا انْتَهَى .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَعُدُّهُ شَتِيمَةً وَلِهَذَا يُسَمُّونَ بِكَلْبٍ وَذِئْبٍ .
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ عَنْ أَمَالِي أَبِي يُوسُفَ فِي يَا خِنْزِيرُ يَا حِمَارُ يُعَزَّرُ ، ثُمَّ قَالَ : وَفِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدِ لَا يُعَزَّرُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ،
وَالْمُصَنِّفُ اسْتَحْسَنَ التَّعْزِيرَ إذَا كَانَ الْمُخَاطَبُ مِنْ الْأَشْرَافِ فَتَحَصَّلَتْ ثَلَاثَةٌ : الْمَذْهَبُ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يُعَزَّرُ مُطْلَقًا ، وَمُخْتَارُ الْهِنْدُوَانِيُّ يُعَزَّرُ مُطْلَقًا .
وَالْمُفَصَّلُ بَيْنَ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ الْأَشْرَافِ فَيُعَزَّرُ قَائِلُهُ أَوْ لَا فَلَا ، وَيُعَزَّرُ فِي مُقَامِرٍ وَفِي قَذِرٍ ، قِيلَ وَفِي بَلِيدٍ وَأَنَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُشْبِهُ يَا أَبْلَهُ وَلَمْ يَعْزِرُوا بِهِ
وَالتَّعْزِيرُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا وَأَقَلُّهُ ثَلَاثُ جَلَدَاتٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } وَإِذَا تَعَذَّرَ تَبْلِيغُهُ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى أَدْنَى الْحَدِّ وَهُوَ حَدُّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ وَذَلِكَ أَرْبَعُونَ سَوْطًا فَنَقَصَا مِنْهُ سَوْطًا .
وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ الْحَدِّ فِي الْأَحْرَارِ إذْ الْأَصْلُ هُوَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ نَقَصَ خَمْسَةً وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ فَقَلَّدَهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ فَيُقَدَّرُ بِقَدْرِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ لِأَنَّهُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ ، وَعَنْهُ أَنْ يُقَرَّبَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ بَابِهِ ؛ فَيُقَرَّبُ الْمَسُّ وَالْقُبْلَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا ، وَالْقَذْفُ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ .
.
( قَوْلُهُ أَكْثَرُهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَبْلُغُ بِهِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا وَالْأَصْلُ ) فِي نَقْصِهِ عَنْ الْمَحْدُودِ ( قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } ) ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ الْمَحْفُوظَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ ، وَأَخْرَجَهُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ نَاجِيَةَ فِي فَوَائِدِهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُصَيْنٍ الْأَصْبَحِيُّ ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقَدَّمِيُّ ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ بَلَغَ " الْحَدِيثَ .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ مُرْسَلًا فَقَالَ : أَخْبَرَنَا مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَنْ بَلَغَ " الْحَدِيثَ ، وَالْمُرْسَلُ عِنْدَنَا حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعَمَلِ وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِذَا لَزِمَ أَنْ لَا يَبْلُغَ بِهِ حَدًّا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَا إلَى صِرَافَةِ عُمُومِ النَّكِرَةِ فِي النَّفْيِ فَصَرَفَاهُ إلَيْهِ فَنَحَّاهُ عَنْ حَدِّ الْأَرِقَّاءِ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ يَصْدُقُ عَلَيْهَا حَدٌّ فَلَا يَبْلُغُ إلَيْهِمَا بِالنَّصِّ الْمَذْكُورِ ، خُصُوصًا وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ احْتِيَاطٍ فِي الدَّرْءِ ( وَأَبُو يُوسُفَ اعْتَبَرَ أَقَلَّ حُدُودِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ ثُمَّ نَقَصَ سَوْطًا فِي رِوَايَةِ ) هِشَامٍ عَنْهُ ( وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَهُوَ الْقِيَاسُ ) لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْلُنَا لَيْسَ حَدًّا فَيَكُونُ مِنْ أَفْرَادِ الْمَسْكُوتِ عَنْ النَّهْيِ عَنْهُ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ .
قِيلَ وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنًى مَعْقُولٌ ، وَذُكِرَ أَنَّ سَبَبَ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ فِي تَعْزِيرِ رَجُلٍ
بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ ، وَكَانَ يَعْقِدُ لِكُلِّ خَمْسَةٍ عَقْدًا بِأَصَابِعِهِ فَعَقَدَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَمْ يَعْقِدْ لِلْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ لِنُقْصَانِهَا عَنْ الْخَمْسَةِ فَظَنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِخَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِتِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ ، قَالَ : وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عُمَرَ : يَعْنِي خَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ : وَنُقِلَ عَنْ أَبِي اللَّيْثِ قَالَ : قِيلَ إنَّ أَبَا يُوسُفَ أَخَذَ النِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَأَكْثَرُهُ مِائَةٌ ، وَالنِّصْفَ مِنْ حَدِّ الْعَبِيدِ وَأَكْثَرُهُ خَمْسُونَ فَتَحْصُلُ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ .
وَمَنَعَ صِحَّةَ اعْتِبَارِ هَذَا الْأَخْذِ وَهُوَ لَا يَضُرُّهُ بَعْدَ أَنْ أَثَرَهُ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ أَنَّهُ قَلَّدَ عَلِيًّا فِيهِ ، وَكَوْنُهُ لَا يَعْقِلُ يُؤَكِّدُهُ ، إذْ الْغَرَضُ أَنَّ مَا لَا يُدْرَكُ بِالرَّأْيِ يَجِبُ تَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ جَوَابُهُ بِمَنْعِ ثُبُوتِهِ عَنْ عَلِيٍّ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ إنَّهُ غَرِيبٌ ، وَنَقَلَهُ الْبَغَوِيّ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْحُرِّ ، وَقَالَ فِي الْعَبْدِ تِسْعَةَ عَشَرَ لِأَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الْخَمْرِ عِنْدَهُ عِشْرُونَ وَفِي الْأَحْرَارِ أَرْبَعُونَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَزِيدَ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ مُجَانِبًا لِهَوَى النَّفْسِ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ عَمِلَ خَاتَمًا عَلَى نَقْشِ خَاتَمِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ جَاءَ بِهِ لِصَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَالًا ، فَبَلَغَ عُمَرَ ذَلِكَ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَحَبَسَهُ ، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً أُخْرَى ، فَكُلِّمَ فِيهِ فَضَرَبَهُ مِائَةً وَنَفَاهُ .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ قَدْ شَرِبَ خَمْرًا فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ لِلشُّرْبِ وَعِشْرِينَ سَوْطًا لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ .
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ ، وَلِأَنَّ
الْعُقُوبَةَ عَلَى قَدْرِ الْجِنَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِمَا هُوَ أَهْوَنُ مِنْ الزِّنَا فَوْقَ مَا فُرِضَ بِالزِّنَا ، وَحَدِيثُ مَعْنٍ يَحْتَمِلُ أَنَّ لَهُ ذُنُوبًا كَثِيرَةً أَوْ كَانَ ذَنْبُهُ يَشْتَمِلُ كَثْرَةً مِنْهَا لِتَزْوِيرِهِ وَأَخْذِهِ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقِّهِ وَفَتْحِهِ بَابَ هَذِهِ الْحِيلَةِ مِمَّنْ كَانَتْ نَفْسُهُ عَارِيَّةً عَنْ اسْتِشْرَافِهَا ، وَحَدِيثُ النَّجَاشِيِّ ظَاهِرٌ أَنْ لَا احْتِجَاجَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ ضَرْبَهُ الْعِشْرِينَ فَوْقَ الثَّمَانِينَ لِفِطْرِهِ فِي رَمَضَانَ ، وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى الْقَائِلَةُ إنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ الشَّاعِرِ وَقَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ ، وَقَالَ : ضَرَبْنَاك الْعِشْرِينَ بِجُرْأَتِك عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ ، فَأَيْنَ الزِّيَادَةُ فِي التَّعْزِيرِ عَلَى الْحَدِّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ .
وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يُزَادُ عَلَى عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ ، وَعَلَيْهِ حَمَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ لَمَّا اُشْتُهِرَ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ : إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي ، وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي بُرْدَةَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ } وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْهُ وَبَعْضُ الثِّقَاتِ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِدَلِيلِ عَمَلِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ غَيْرِ إنْكَارِ أَحَدٍ .
وَكَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ لَا تَبْلُغَ بِنَكَالٍ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَوْطًا ، وَيُرْوَى ثَلَاثِينَ إلَى الْأَرْبَعِينَ .
وَبِمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يُعْرَفُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّعْزِيرِ شَيْءٌ مُقَدَّرٌ بَلْ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ : أَيْ مِنْ أَنْوَاعِهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرْبِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ،
أَمَّا إنْ اقْتَضَى رَأْيُهُ الضَّرْبَ فِي خُصُوصِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَزِيدُ عَلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ ( قَوْلُهُ ثُمَّ قَدَّرَ الْأَدْنَى فِي الْكِتَابِ ) يَعْنِي الْقُدُورِيَّ ( بِثَلَاثِ جَلَدَاتٍ ، لِأَنَّ مَا دُونَهَا لَا يَقَعُ بِهِ الزَّجْرُ ، وَذَكَرَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَدْنَاهُ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِهِ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ ) وَجْهُ مُخَالَفَةِ هَذَا الْكَلَامِ لِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ اكْتَفَى بِهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْخُلَاصَةِ فَقَالَ : وَاخْتِيَارُ التَّعْزِيرِ إلَى الْقَاضِي مِنْ وَاحِدٍ إلَى تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ وَمُقْتَضَى قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِنَوْعِ الضَّرْبِ فَرَأَى الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَنْزَجِرُ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ يُكْمِلُ لَهُ ثَلَاثَةً ، لِأَنَّهُ حَيْثُ وَجَبَ التَّعْزِيرُ بِالضَّرْبِ فَأَقَلُّ مَا يَلْزَمُ أَقَلُّهُ إذْ لَيْسَ وَرَاءَ الْأَقَلِّ شَيْءٌ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ ، ثُمَّ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَأَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْزَجِرُ بِعِشْرِينَ كَانَتْ الْعِشْرُونَ أَقَلَّ مَا يَجِبُ تَعْزِيرُهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ نَقْصُهُ عَنْهُ .
فَلَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ بِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ كَانَ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ التَّعْزِيرِ فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا يَجِبُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الرَّجُلِ وَتَبْقَى فَائِدَةُ تَقْدِيرِ أَكْثَرِهِ بِتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ أَنْ لَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ لَا يَبْلُغُ قَدْرَ ذَلِكَ وَيَضْرِبُهُ الْأَكْثَرَ فَقَطْ .
نَعَمْ يُبَدِّلُ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِنَوْعٍ آخَرَ وَهُوَ الْحَبْسُ مَثَلًا ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ عَلَى قَدْرِ عِظَمِ الْجُرْمِ وَصِغَرِهِ ) وَاحْتِمَالِ الْمَضْرُوبِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ ( وَعَنْهُ أَنَّهُ يُقَرِّبُ كُلَّ نَوْعٍ ) مِنْ أَسْبَابِ التَّعْزِيرِ ( مِنْ بَابِهِ ) فَيُقَرِّبُ بِالْمَسِّ وَالْقُبْلَةِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ وَالْوَطْءِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالرَّمْيِ بِغَيْرِ الزِّنَا مِنْ الْمَعَاصِي
مِنْ حَدِّ الْقَذْفِ .
وَكَذَا السُّكْرُ مِنْ غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ قِيلَ : مَعْنَاهُ يُعَزَّرُ فِي اللَّمْسِ الْحَرَامِ وَالْقُبْلَةِ أَكْثَرَ جَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ ، وَيُعَزَّرُ فِي قَوْلِهِ نَحْوَ يَا كَافِرُ وَيَا خَبِيثُ أَقَلَّ جَلَدَاتِ التَّعْزِيرِ ، وَلَكِنْ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَنَّ أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يَجِبُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ يَبْلُغُ أَقْصَى التَّعْزِيرِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا لَا يَجِبُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ لَا يَجِبُ أَقْصَاهُ فَيَكُونُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ .
قَالَ ( وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ ) لِأَنَّهُ صَلُحَ تَعْزِيرًا وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ فِي الْجُمْلَةِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ فَجَازَ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُشْرَعْ فِي التَّعْزِيرِ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ كَمَا شُرِعَ فِي الْحَدِّ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعْزِيرِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يَضُمَّ إلَى الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ الْحَبْسَ فَعَلَ ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَرَى أَنَّ أَكْثَرَ الضَّرْبِ فِي التَّعْزِيرِ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ لَا يَنْزَجِرُ بِهَا أَوْ هُوَ فِي شَكٍّ مِنْ انْزِجَارِهِ بِهَا يُضَمُّ إلَيْهِ الْحَبْسُ ( لِأَنَّ الْحَبْسَ صَلُحَ تَعْزِيرًا ) بِانْفِرَادِهِ حَتَّى لَوْ رَأَى الْإِمَامُ أَنْ لَا يَضْرِبَهُ وَيَحْبِسَهُ أَيَّامًا عُقُوبَةً لَهُ فَعَلَ ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ حَتَّى جَازَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ ( وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْجُمْلَةِ ) وَهُوَ مَا سَلَفَ مِنْ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَبَسَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ } ( فَجَازَ أَنْ يَضُمَّهُ ) إذَا شَكَّ فِي انْزِجَارِهِ بِدُونِهِ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَنَّ الْحَبْسَ بِمُفْرَدِهِ يَقَعُ تَعْزِيرًا تَامًّا ( لَمْ يُشْرَعْ بِالتُّهْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهِ ) أَيْ لَمْ يُشْرَعْ الْحَبْسُ بِتُهْمَةِ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ حَتَّى لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى آخَرَ شَتِيمَةً فَاحِشَةً أَوْ أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَأَقَامَ شُهُودًا لَا يُحْبَسُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَيُحْبَسَ فِي الْحُدُودِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا عَدَلَتْ الشُّهُودُ كَانَ الْحَبْسُ تَمَامَ مُوجِبِ مَا شَهِدُوا بِهِ ، فَلَوْ حُبِسَ قَبْلَهُ لَزِمَ إعْطَاءُ حُكْمِ السَّبَبِ لَهُ قَبْلَ ثُبُوتِهِ ، بِخِلَافِ الْحَدِّ ، لِأَنَّهُ إذَا شَهِدُوا بِمُوجِبِهِ وَلَمْ يَعْدِلُوا حُبِسَ ، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبَبُهُ بِالتَّعْدِيلِ كَانَ الْوَاجِبُ بِهِ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْحَبْسِ فَيُحْبَسُ تَعْزِيرًا لِلتُّهْمَةِ .
قَالَ ( وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ ) لِأَنَّهُ جَرَى التَّخْفِيفُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ قَالَ ( ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا ) لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ ، وَحَدُّ الشُّرْبِ ثَبَتَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَعْظَمُ جِنَايَةً حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ ( ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ( ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ ) لِأَنَّ سَبَبَهُ مُحْتَمِلٌ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَادِقًا وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ مِنْ حَيْثُ رَدُّ الشَّهَادَةِ فَلَا يُغَلَّظُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ .
( قَوْلُهُ وَأَشَدُّ الضَّرْبِ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّخْفِيفُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ فَلَا يُخَفَّفُ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى فَوَاتِ الْمَقْصُودِ ) مِنْ الِانْزِجَارِ ( وَلِهَذَا لَمْ يُخَفَّفْ مِنْ حَيْثُ التَّفْرِيقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ ) لِجَرَيَانِ التَّخْفِيفِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ .
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي حُدُودِ الْأَصْلِ أَنَّ التَّعْزِيرَ يُفَرَّقُ عَلَى الْأَعْضَاءِ .
وَذَكَرَ فِي أَشْرِبَةِ الْأَصْلِ يُضْرَبُ التَّعْزِيرَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ بَلْ مَوْضُوعُ مَا ذُكِرَ فِي الْحُدُودِ إذَا وَجَبَ تَبْلِيغُ التَّعْزِيرِ إلَى أَقْصَى غَايَاتِهِ بِأَنْ أَصَابَ مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ كُلَّ مُحَرَّمٍ غَيْرَ الْجِمَاعِ أَوْ أَخَذَ السَّارِقُ بَعْدَمَا جَمَعَ الْمَتَاعَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ ، وَإِذَا بَلَغَ غَايَةَ التَّعْزِيرِ فُرِّقَ عَلَى الْأَعْضَاءِ وَإِلَّا أَفْسَدَ الْعُضْوَ لِمُوَالَاةِ الضَّرْبِ الشَّدِيدِ الْكَثِيرِ عَلَيْهِ .
وَمَوْضُوعُ مَا فِي الْأَشْرِبَةِ مَا إذَا عُزِّرَ أَدْنَى التَّعْزِيرِ كَثَلَاثَةٍ وَنَحْوِهَا ، وَإِذَا حُدَّ عَدَدًا يَسِيرًا فَالْإِقَامَةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ لَا تُفْسِدُهُ ، وَتَفْرِيقُهَا أَيْضًا لَا يَحْصُلُ مِنْهُ مَقْصُودُ الِانْزِجَارِ فَيُجْمَعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَعَلَى هَذَا فَمَعْنَى شِدَّةِ الضَّرْبِ قُوَّتُهُ لَا جَمْعُهُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ كَمَا قِيلَ إذَا صَحَّ أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ فِي عُضْوٍ وَاحِدٍ مُطْلَقًا ( ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا ) يَلِي التَّعْزِيرَ فِي الشِّدَّةِ ( لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَأَعْظَمُ جِنَايَةٍ حَتَّى شُرِعَ فِيهِ الرَّجْمُ ) وَهُوَ إتْلَافُ النَّفْسِ بِالْكُلِّيَّةِ ( ثُمَّ حَدُّ الشُّرْبِ ) لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَكِنْ لَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ غَيْرَ مُقَدَّرٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ( وَلِأَنَّ سَبَبَهُ مُتَيَقَّنٌ ) فَيَكُونُ سَبَبِيَّتُهُ لَا شُبْهَةَ فِيهَا ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الشُّرْبَ مُتَيَقَّنُ السَّبَبِيَّةِ لِلْحَدِّ لَا مُتَيَقَّنُ الثُّبُوتِ لِأَنَّهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ
الْإِقْرَارِ وَهُمَا لَا يُوجِبَانِ الْيَقِينَ .
فَإِنْ قِيلَ : يُفِيدُ أَنَّهُ شَرْعًا بِمَعْنَى أَنَّ عِنْدَهُمَا يَسْتَيْقِنُ لُزُومَ الْحَدِّ أَوْ أَنَّ الثَّابِتَ بِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ الْقَذْفُ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَقَعُ فَرْقٌ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ الْقَذْفِ لِأَنَّ سَبَبَهُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ فِرْيَةً وَبِالْبَيِّنَةِ لَا يُتَيَقَّنُ بِذَلِكَ لِجَوَازِ صِدْقِهِ فِيمَا نَسَبَهُ إلَيْهِ ( وَلِأَنَّهُ جَرَى فِيهِ التَّغْلِيظُ بِرَدِّ الشَّهَادَةِ فَلَا يَغْلُظُ ) مَرَّةً أُخْرَى ( مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ ) وَهُوَ شِدَّةُ الضَّرْبِ ، وَلِأَنَّ الشُّرْبَ يَنْتَظِمُ الْقَذْفَ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إذَا شَرِبَ هَذَى وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَيَجْتَمِعُ عَلَى الشَّارِبِ حَدُّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ فَيَزْدَادُ الْعَدَدُ نَظَرًا إلَى الْمَظِنَّةِ فَلَا يُغَلَّظُ بِالشِّدَّةِ .
فَأَشَدُّهَا التَّعْزِيرُ وَأَخَفُّهَا حَدُّ الْقَذْفِ .
وَعِنْدَ أَحْمَدَ أَشَدُّ الضَّرْبِ حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ ثُمَّ التَّعْزِيرُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْكُلُّ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَيُعَزَّرُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : يُضْرَبُ فِي التَّعْزِيرِ قَائِمًا عَلَيْهِ ثِيَابُهُ ، وَيُنْزَعُ الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ وَلَا يُمَدُّ فِي التَّعْزِيرِ .
( وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ ) لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الشَّرْعِ ، وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْفِصَادِ وَالْبَزَّاغِ ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ إذَا عَزَّرَ زَوْجَتَهُ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِيهِ ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ خَطَأٌ فِيهِ ، إذْ التَّعْزِيرُ لِلتَّأْدِيبِ غَيْرَ أَنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ عَلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ فِي مَالِهِمْ .
قُلْنَا لَمَّا اسْتَوْفَى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِأَمْرِهِ صَارَ كَأَنَّ اللَّهَ أَمَاتَهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ .
.
( قَوْلُهُ وَمَنْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَوْ عَزَّرَهُ فَمَاتَ فَدَمُهُ هَدَرٌ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَضْمَنُ ثُمَّ فِي قَوْلٍ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَفْعَ عَمَلِهِ يَرْجِعُ إلَى عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ الْغُرْمُ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِسَبَبٍ عَمِلَهُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَفِي قَوْلٍ عَلَى عَاقِلَةِ الْإِمَامِ لِأَنَّ أَصْلَ التَّعْزِيرِ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، وَلَوْ وَجَبَ فَالضَّرْبُ غَيْرُ مُتَعَيِّنِ فِي التَّعْزِيرِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ مُبَاحًا فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَمْ يُسَلِّمْ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَهَذَا يَخُصُّ التَّعْزِيرَ وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْإِمَامَ مَأْمُورٌ بِالْحَدِّ وَالتَّعْزِيرُ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ الِانْزِجَارِ لَهُ فِي التَّعْزِيرِ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ( وَفِعْلُ الْمَأْمُورِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَمَا فِي الْفِصَادِ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِعْلِ وَإِلَّا عُوقِبَ ، وَالسَّلَامَةُ خَارِجَةٌ عَنْ وُسْعِهِ ، إذْ الَّذِي فِي وُسْعِهِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِسَبَبِهَا الْقَرِيبِ ، وَهُوَ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي التَّخْفِيفِ فَلَا يَسْقُطُ الْوُجُوبُ بِهِ عَنْهُ ، أَوْ يَفْعَلَ مَا يَقَعُ زَاجِرًا وَهُوَ مَا هُوَ مُؤْلِمٌ زَاجِرٌ ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَمُوتَ الْإِنْسَانُ بِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْأَمْرُ بِالضَّرْبِ الْمُؤْلِمِ الزَّاجِرِ مَعَ اشْتِرَاطِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْمُبَاحَاتِ فَإِنَّهَا رَفْعُ الْجُنَاحِ فِي الْفِعْلِ وَإِطْلَاقِهِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ غَيْرُ مُلْزَمٍ بِهِ فَصَحَّ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ وَالِاصْطِيَادِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ إذَا عَزَّرَ امْرَأَتَهُ فَمَاتَتْ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَمَنْفَعَتُهُ تَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا تَرْجِعُ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ اسْتِقَامَتُهَا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ .
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا يَضْرِبُ امْرَأَتَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَيَضْرِبُ ابْنَهُ ، وَكَذَا الْمُعَلِّمُ إذَا أَدَّبَ الصَّبِيَّ فَمَاتَ مِنْهُ يَضْمَنُ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيِّ ،
أَمَّا لَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ فَمَاتَتْ أَوْ أَفْضَاهَا لَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ مَعَ أَنَّهُ مُبَاحٌ فَيَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ لِأَنَّهُ ضَمِنَ الْمَهْرَ بِذَلِكَ الْجِمَاعِ ؛ فَلَوْ وَجَبَتْ الدِّيَةُ وَجَبَ ضَمَانَانِ بِمَضْمُونٍ وَاحِدٍ .
.
[ تَتِمَّةٌ ] الْأَوْلَى لِلْإِنْسَانِ فِيمَا إذَا قِيلَ لَهُ مَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ أَنْ لَا يُجِيبَهُ ، قَالُوا : لَوْ قَالَ لَهُ يَا خَبِيثُ ، الْأَحْسَنُ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ ، وَلَوْ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي لِيُؤَدِّبَهُ يَجُوزُ ، وَلَوْ أَجَابَ مَعَ هَذَا فَقَالَ بَلْ أَنْتَ لَا بَأْسَ ، وَإِذَا أَسَاءَ الْعَبْدُ الْأَدَبَ حَلَّ لِمَوْلَاهُ تَأْدِيبُهُ وَكَذَا الزَّوْجَةُ .
وَفِي فَتَاوَى الشَّافِعِيِّ : مَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُجْلَدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ ، وَفِيهَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَيَشْتَرِي وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ ثُمَّ يَخْرُجُ ، وَالسَّاحِرُ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يَفْعَلُ إنْ تَابَ وَتَبَرَّأَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُقْتَلُ وَكَذَا السَّاحِرَةُ تُقْتَلُ بِرِدَّتِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْتَدَّةُ لَا تُقْتَلُ عِنْدَنَا ، لَكِنَّ السَّاحِرَةَ تُقْتَلُ بِالْأَثَرِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ اُقْتُلُوا السَّاحِرَ وَالسَّاحِرَةَ ، زَادَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَإِنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ السَّحَرَ وَيَجْحَدُ وَلَا يَدْرِي كَيْفَ يَقُولُ فَإِنَّ هَذَا السَّاحِرَ يُقْتَلُ إذَا أُخِذَ وَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ .
وَفِي الْفَتَاوَى : رَجُلٌ يَتَّخِذُ لُعْبَةً لِلنَّاسِ وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ بِتِلْكَ اللُّعْبَةِ فَهَذَا سِحْرٌ وَيُحْكَمُ بِارْتِدَادِهِ وَيُقْتَلُ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ أَثَرًا انْتَهَى .
وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ هَذَا الرَّجُلِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : أَعْنِي عَدَمَ الْحُكْمِ بِارْتِدَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ أَنْ يُضْرَبَ وَيُحْبَسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً .
وَهَلْ تَحِلُّ الْكِتَابَةُ بِمَا عَلِمَ أَنَّ فُلَانًا يَتَعَاطَى مِنْ الْمَنَاكِيرِ لِأَبِيهِ ؟ قَالُوا : إنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ أَبَاهُ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَى
ابْنِهِ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فِي قَلْبِهِ لَا يَكْتُبُ ، وَكَذَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ وَالرَّعِيَّةِ ، وَيُعَزَّرُ مَنْ شَهِدَ شُرْبَ الشَّارِبِينَ وَالْمُجْتَمِعُونَ عَلَى شِبْهِ الشُّرْبِ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبُوا وَمَنْ مَعَهُ رَكْوَةُ خَمْرٍ ، وَالْمُفْطِرُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَبِيعُ الْخَمْرَ أَوْ يَأْكُلُ الرِّبَا يُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ ، وَكَذَا الْمُغَنِّي وَالْمُخَنَّثِ وَالنَّائِحَةُ يُعَزَّرُونَ وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً ، وَكَذَا الْمُسْلِمُ إذَا شَتَمَ الذِّمِّيَّ يُعَزَّرُ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً ، وَمَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ تَظْهَرَ التَّوْبَةُ ، وَكَذَا يُسْجَنُ مَنْ قَبَّلَ أَجْنَبِيَّةً أَوْ عَانَقَهَا أَوْ مَسَّهَا بِشَهْوَةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
كِتَابُ السَّرِقَةِ السَّرِقَةُ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ الْخُفْيَةِ وَالِاسْتِسْرَارِ ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ اسْتَرَقَ السَّمْعَ } وَقَدْ زِيدَتْ عَلَيْهِ أَوْصَافٌ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ مُرَاعًى فِيهَا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ ، كَمَا إذَا نَقَبَ الْجِدَارَ عَلَى الِاسْتِسْرَارِ وَأَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَالِكِ مُكَابَرَةً عَلَى الْجِهَارِ .
وَفِي الْكُبْرَى : أَعْنِي قَطْعَ الطَّرِيقِ مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَصَدِّي لِحِفْظِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ .
وَفِي الصُّغْرَى : مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ .
( كِتَابُ السَّرِقَةِ ) .
لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحُدُودِ الِانْزِجَارَ عَنْ أَسْبَابِهَا بِسَبَبِ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ رُوعِيَ فِي تَرْتِيبِهَا فِي التَّعْلِيمِ تَرَتُّبُ أَسْبَابِهَا فِي الْمَفَاسِدِ ، فَمَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَعْظَمَ يُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ أَخَفُّ لِأَنَّ تَعْلِيمَهُ وَتَعَلُّمَهُ أَهَمُّ .
وَأَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ النَّفْسِ وَهُوَ الزِّنَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وَجْهِ كَوْنِهِ قَتْلًا مَعْنًى .
وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى فَوَاتِ الْعَقْلِ وَهُوَ الشُّرْبُ لِأَنَّهُ كَفَوَاتِ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ عَدِيمَ الْعَقْلِ لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ كَعَدِيمِ النَّفْسِ .
وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إفْسَادِ الْعَرْضِ وَهُوَ الْقَذْفُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الذَّاتِ يُؤَثِّرُ فِيهَا وَيَلْزَقُ أَمْرًا قَبِيحًا .
وَيَلِيهِ مَا يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَخْلُوقُ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ وَالْعِرْضِ فَكَانَ آخِرًا فَأَخَّرَهُ .
وَلِلسَّرِقَةِ تَفْسِيرٌ لُغَةً وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْخُفْيَةِ ، وَمِنْهُ اسْتِرَاقُ السَّمْعِ وَهُوَ أَنْ يَسْتَمِعَ مُسْتَخْفِيًا .
وَفِي الشَّرِيعَةِ هِيَ هَذَا أَيْضًا ، وَإِنَّمَا زِيدَ عَلَى مَفْهُومِهَا قُيُودٌ فِي إنَاطَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِهَا ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ أَقَلِّ مِنْ النِّصَابِ خُفْيَةً سَرِقَةٌ شَرْعًا لَكِنْ لَمْ يُعَلِّقْ الشَّرْعُ بِهِ حُكْمَ الْقَاطِعِ فَهِيَ شُرُوطٌ لِثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، فَإِذْ قِيلَ السَّرِقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْأَخْذُ خُفْيَةً مَعَ كَذَا وَكَذَا لَا يَحْسُنُ ، بَلْ السَّرِقَةُ الَّتِي عَلَّقَ بِهَا الشَّرْعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ هِيَ أَخْذُ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مِقْدَارَهَا خُفْيَةً عَمَّنْ هُوَ مُتَصَدٍّ لِلْحِفْظِ مِمَّا لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْمَالِ الْمُتَمَوَّلِ لِلْغَيْرِ مِنْ حِرْزٍ بِلَا شُبْهَةٍ ، وَتُعَمَّمُ الشُّبْهَةُ فِي التَّأْوِيلِ قِيلَ : فَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ السَّارِقِ وَلَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ ذِي الرَّحِمِ
الْكَامِلَةِ ، وَالنَّقْلُ خِلَافُ الْأَصْلِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِمَا لَا مَرَدَّ لَهُ كَالصَّلَاةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ ، وَمَا قِيلَ هِيَ فِي مَفْهُومِهَا اللُّغَوِيِّ وَالزِّيَادَاتُ شُرُوطٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ .
وَالْقَطْعُ بِأَنَّهَا لِلْأَفْعَالِ وَالْقِرَاءَةِ عِنْدَنَا وَلَوْ بِغَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهَا فِي الشَّرْعِ لِلدُّعَاءِ وَالْأَفْعَالُ شَرْطُ قَبُولِهِ ؛ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا يَتَبَادَرُ الدُّعَاءُ قَطُّ ، هَذَا وَسَيَأْتِي فِي السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ خِلَافٌ ( قَوْلُهُ وَالْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ ) يَعْنِي الْخُفْيَةَ ( مُرَاعًى فِيهَا إمَّا ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ) وَذَلِكَ فِي سَرِقَةِ النَّهَارِ فِي الْمِصْرِ ( أَوْ ابْتِدَاءً لَا غَيْرَ ) وَهِيَ فِي سَرِقَةِ اللَّيْلِ ، فَلِذَا إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْلًا خُفْيَةً ثُمَّ أَخَذَ الْمَالَ مُجَاهَرَةً وَلَوْ بَعْدَ مُقَاتَلَةٍ مِمَّنْ فِي يَدِهِ قُطِعَ بِهِ لِلِاكْتِفَاءِ بِالْخُفْيَةِ الْأُولَى ، وَإِذَا كَابَرَهُ فِي الْمِصْرِ نَهَارًا وَأَخَذَ مَالَهُ لَا يُقْطَعُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ خُفْيَةً ، وَالْقِيَاسُ كَذَلِكَ فِي اللَّيْلِ ، لَكِنْ يُقْطَعُ إذْ غَالِبُ السَّرِقَاتِ فِي اللَّيْلِ تَصِيرُ مُغَالَبَةً إذْ قَلِيلًا مَا يَخْتَفِي فِي الدُّخُولِ وَالْأَخْذِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَعَلَيْهِ فَرْعٌ إذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ يَعْلَمُ دُخُولَهُ وَاللِّصُّ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ فِيهَا أَوْ يَعْلَمُهُ اللِّصُّ وَصَاحِبُ الدَّارِ لَا يَعْلَمُ دُخُولَهُ أَوْ كَانَا لَا يَعْلَمَانِ قُطِعَ ، وَلَوْ عَلِمَا لَا يَقْطَعُ .
وَلَمَّا كَانَتْ السَّرِقَةُ تَشْمَلُ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْخُفْيَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الصُّغْرَى هِيَ الْخُفْيَةُ عَنْ عَيْنِ الْمَالِكِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ كَالْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ وَالضَّارِبِ وَالْغَاصِبِ وَالْمُرْتَهِنِ كَانَتْ الْخُفْيَةُ مُعْتَبَرَةً فِي الْكُبْرَى مُسَارَقَةُ عَيْنِ الْإِمَامِ وَمَنَعَةُ الْمُسْلِمِينَ الْمُلْتَزَمِ حِفْظُ طُرُقِ الْمُسْلِمِينَ وَبِلَادِهِمْ وَرُكْنُهَا نَفْسُ الْأَخْذِ الْمَذْكُورِ .
وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَمِنْهَا
تَفْصِيلُ النِّصَابِ فَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ .
قَالَ ( وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا وَالْقَطْعُ جَزَاءُ الْجِنَايَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ لِأَنَّ الرَّغَبَاتِ تَفْتُرُ فِي الْحَقِيرِ ، وَكَذَا أَخْذُهُ لَا يَخْفَى فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُهُ وَلَا حِكْمَةُ الزَّجْرِ لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ ، وَالتَّقْدِيرُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَذْهَبُنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ التَّقْدِيرُ بِرُبْعِ دِينَارٍ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ .
لَهُمَا أَنَّ الْقَطْعَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ، وَأَقَلُّ مَا نُقِلَ فِي تَقْدِيرِهِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَالْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ أَوْلَى ، غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : { كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا } وَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ .
وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَقَلِّ شُبْهَةَ عَدَمِ الْجِنَايَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْحَدِّ ، وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا فَهَذَا يُبَيِّنُ لَك اشْتِرَاطَ الْمَضْرُوبِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا قِيمَتُهَا أَنْقَصُ مِنْ عَشَرَةٍ مَضْرُوبَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ ، وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي عَامَّةِ الْبِلَادِ .
وَقَوْلُهُ أَوْ
مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا ، وَلَا بُدَّ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ دَارِئَةٌ ، وَسَنُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا سَرَقَ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ وَجَبَ الْقَطْعُ ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } الْآيَةَ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْعَقْلِ وَالْبُلُوغِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تَتَحَقَّقُ دُونَهُمَا ) لِأَنَّهَا بِالْمُخَالَفَةِ وَالْمُخَالَفَةُ فَرْعُ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ ( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالْمَالِ الْخَطِيرِ ) اُخْتُلِفَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُقْطَعُ بِكُلِّ مِقْدَارٍ مِنْ الْمَالِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ لَا يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنْهُ ، فَقَالَ بِالْأَوَّلِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَدَاوُد وَالْخَوَارِجُ وَابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَعُلَمَاءِ الْأَقْطَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ إلَّا بِمَالٍ مُقَدَّرٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَلَزِمَ فِي الْأَوَّلِ التَّأْوِيلُ بِالْحَبْلِ الَّذِي يَبْلُغُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَبِالْبَيْضَةِ الْبَيْضَةَ مِنْ الْحَدِيدِ أَوْ النَّسْخِ ، وَلَوْ قِيلَ وَنَسْخُهُ أَيْضًا لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نَسْخِ مَا رَوَيْتُمْ .
قُلْنَا : لَا تَارِيخَ ؛ بَقِيَ وَجْهُ أَوْلَوِيَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ مَعَ الْجُمْهُورِ ، فَإِنَّ مِثْلَهُ فِي بَابِ الْحُدُودِ مُتَعَيَّنٌ عِنْدَ التَّعَارُضِ ، ثُمَّ قَدْ نُقِلَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَبِهِ يَتَقَيَّدُ إطْلَاقُ الْآيَةِ وَبِالْعَقْلِ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقِيرَ مُطْلَقًا تَفْتُرُ الرَّغَبَاتُ فِيهِ فَلَا يُمْنَعُ أَصْلًا كَحَبَّةِ قَمْحٍ وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ إطْلَاقُ الْآيَةِ ( وَكَذَا لَا يَخْفَى أَخْذُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ ) بِأَخْذِهِ ( رُكْنُ السَّرِقَةِ ) وَهُوَ الْأَخْذُ خُفْيَةً ( وَلَا حِكْمَةَ الزَّجْرِ ) أَيْضًا
( لِأَنَّهَا فِيمَا يَغْلِبُ ) فَإِنَّ مَا لَا يَغْلِبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَاطَى فَلَا حَاجَةَ إلَى الزَّجْرِ عَنْهُ ، فَهَذَا مُخَصِّصٌ عَقْلِيٌّ بَعْدَ كَوْنِهَا مَخْصُوصَةً بِمَا لَيْسَ مِنْ حِرْزٍ بِالْإِجْمَاعِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ الشَّارِطُونَ لِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ فِي تَعْيِينِهِ ، فَذَهَبَ أَصْحَابُنَا فِي جَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ إلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ إلَى أَنَّهُ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، لِمَا رُوِيَ مِنْ مَالِكٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ سَارِقًا سَرَقَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أُتْرُجَّةً فَأَمَرَ بِهَا عُثْمَانُ فَقُوِّمَتْ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ مِنْ صَرْفِ اثْنَيْ عَشَرَ بِدِينَارٍ فَقَطَعَ عُثْمَانُ يَدَهُ .
قَالَ مَالِكٌ : أَحَبُّ مَا يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ إلَى ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ سَوَاءٌ ارْتَفَعَ الصَّرْفُ أَوْ اتَّضَعَ ، وَذَلِكَ { لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } ، وَعُثْمَانُ قَطَعَ فِي أُتْرُجَّةٍ قِيمَتُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْت إلَيَّ انْتَهَى .
وَكَوْنُ الْمِجَنِّ بِثَلَاثَةٍ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ } .
أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ .
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } ( غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : { كَانَتْ قِيمَةُ الدِّينَارِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا } فَالثَّلَاثَةُ رُبْعُهَا ) وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ } وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ مِمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَنَّهُ مَا كَانَ إلَّا فِي مِقْدَارِ ثَمَنِهِ لَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ وَهِيَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ كَانَ نَفْسَ ثَمَنِهِ فَقُطِعَ بِهِ إذْ لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْمَسْرُوقُ كَانَ نَفْسَ الْمِجَنِّ فَقُطِعَ بِهِ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ( وَلَنَا أَنَّ الْأَخْذَ بِالْأَكْثَرِ فِي هَذَا الْبَابِ أَوْلَى احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ) فَعُرِفَ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ ، وَيُرِيدُ بِذَلِكَ حَدِيثَ أَيْمَنَ ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُجَاهِدٍ { عَنْ أَيْمَنَ قَالَ : لَمْ تُقْطَعْ الْيَدُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ، وَثَمَنُهُ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ } وَسَكَتَ عَنْهُ .
وَنُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ { سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْطَعَ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا } ، فَكَيْفَ قُلْت : لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا ؟ فَقَالَ : قَدْ رَوَى شَرِيكٌ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَخِي أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ : لِأُمِّهِ ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ أَجَابَ بِأَنَّ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قَاتَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ مُجَاهِدٌ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الْمَرَاسِيلِ : وَسَأَلْت أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ أَيْمَنَ وَكَانَ فَقِيهًا قَالَ : { تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي ثَمَنِ الْمِجَنِّ ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِينَارًا } ، قَالَ أَبِي : هُوَ مُرْسَلٌ ، وَأَرَى أَنَّهُ وَالِدُ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ وَلَيْسَ لَهُ صُحْبَةٌ ، وَظَهَرَ بِهَذَا الْقَدْرِ أَنَّ
أَيْمَنَ اسْمٌ لِلصَّحَابِيِّ فَهُوَ ابْنُ أُمِّ أَيْمَنَ ، وَأَنَّهُ اُسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ وَاسْمٌ لِتَابِعِيٍّ آخَرَ .
وَقَالَ أَبُو الْحَجَّاجِ الْمِزِّيُّ فِي كِتَابِهِ : أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ ، رَوَى عَنْ سَعْدٍ وَعَائِشَةَ وَجَابِرٍ .
وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ ، ثُمَّ قَالَ أَيْمَنُ مَوْلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَقِيلَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ .
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّرِقَةِ إلَى أَنْ قَالَ : وَعَنْهُ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ ، قَالَ النَّسَائِيّ : مَا أَحْسَبُ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً ، فَقَدْ جَعَلَهُ اسْمًا لِتَابِعِيَّيْنِ ، وَأَمَّا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ فَجَعَلَاهُمَا وَاحِدًا ، قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : أَيْمَنُ الْحَبَشِيُّ مَوْلَى ابْنِ أَبِي عُمَرَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَجَابِرٍ ، رَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ : سَمِعْت أَبِي يَقُولُ ذَلِكَ وَسُئِلَ أَبُو زُرْعَةَ عَنْ أَيْمَنَ وَالِدِ عَبْدِ الْوَاحِدِ فَقَالَ : مَكِّيٌّ ثِقَةٌ .
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ : أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ الْحَبَشِيُّ مَوْلًى لِابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَخْزُومِيِّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ وَرَوَى عَنْهُ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ ، وَابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ ، وَكَانَ أَخَا أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ لِأُمِّهِ ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ صُحْبَةً فَقَدْ وَهَمَ ، حَدِيثُهُ فِي الْقَطْعِ مُرْسَلٌ ، فَهَذَا يُخَالِفُ الشَّافِعِيَّ وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّ أَيْمَنَ بْنَ أُمِّ أَيْمَنَ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَأَنَّهُ صَحَابِيٌّ حَيْثُ جَعَلَهُ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَهَكَذَا فَعَلَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ ، أَيْمَنُ لَا صُحْبَةَ لَهُ وَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَلَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَرْوِي { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ثَمَنَ الْمِجَنِّ دِينَارٌ ، } رَوَى عَنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَيْمَنَ رَاوِي قِيمَةِ الْمِجَنِّ هَلْ هُوَ صَحَابِيٌّ أَوْ تَابِعِيٌّ ثِقَةٌ ، فَإِنْ كَانَ صَحَابِيًّا فَلَا إشْكَالَ .
وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا ثِقَةً كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو زُرْعَةَ الْإِمَامُ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ وَابْنُ حِبَّانَ فَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ .
وَالْإِرْسَالُ لَيْسَ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ قَادِحًا بَلْ هُوَ حُجَّةٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَقْوِيمِ ثَمَنِ الْمِجَنِّ أَهُوَ ثَلَاثَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِالْأَكْثَرِ هُنَا لِإِيجَابِ الشَّرْعِ الدَّرْءَ مَا أَمْكَنَ فِي الْحُدُودِ ، ثُمَّ يَقْوَى بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : { كَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ } ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا ، وَأَخْرَجَهُ هُوَ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَكَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ .
، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ قَطَعْت : يَدَ صَاحِبِهِ } وَكَانَ ثَمَنُ الْمِجَنِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَتَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، { لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ عَنْهُ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ .
وَمِنْ طَرِيقِهِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ .
وَأَشَارَ إلَيْهِ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ الْجَامِعِ فَقَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ .
وَهُوَ مُرْسَلٌ رَوَاهُ الْقَاسِمُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَالْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْمَعُ مِنْ ابْنِ مَسْعُودٍ انْتَهَى .
وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْكُلَّ مَا رَوَوْهُ إلَّا عَنْ الْقَاسِمِ ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كَانَ قَطْعُ الْيَدِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } ، وَهَذَا مَوْصُولٌ وَفِي رِوَايَةِ خَلَفِ بْنِ يَاسِينَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : { إنَّمَا كَانَ الْقَطْعُ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } .
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حَرْبٍ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَرْفَعُهُ { لَا تُقْطَعُ الْيَدُ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } فَهَذَا مَوْصُولٌ مَرْفُوعٌ ، وَلَوْ كَانَ مَوْقُوفًا لَكَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ لِأَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ الشَّرْعِيَّةَ لَا دَخْلَ لِلْعَقْلِ فِيهَا فَالْمَوْقُوفُ فِيهَا مَحْمُولٌ عَلَى الرَّفْعِ ( قَوْلُهُ وَاسْمُ الدَّرَاهِمِ ) يَعْنِي فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ( يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَضْرُوبَةِ عُرْفًا ) فَإِذَا أُطْلِقَ بِلَا قَيْدٍ ، فَهُوَ وَجْهُ اشْتِرَاطِ كَوْنِهَا مَضْرُوبَةً فِي الْقَطْعِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْقُدُورِيِّ ( وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ) لِلظَّاهِرِ مِنْ الْحَدِيثِ وَ ( رِعَايَةً لِكَمَالِ الْجِنَايَةِ ) لِأَنَّهَا شَرْطُ الْعُقُوبَةِ ، وَشُرُوطُ الْعُقُوبَاتِ يُرَاعَى وُجُودُهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ .
وَلِهَذَا شَرَطْنَا الْجَوْدَةَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ زُيُوفًا لَا يُقْطَعُ بِهَا ، وَلَوْ تَجَوَّزَ بِهَا لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوَصْفِ بِنُقْصَانِ الذَّاتِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهَا إذَا كَانَتْ رَائِجَةً ( حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً تِبْرًا ) أَيْ فِضَّةً غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ صَكًّا ( قِيمَتُهَا أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ مَصْكُوكَةٍ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ ) عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِلْإِطْلَاقِ الْمَذْكُورِ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُطْلَقَ يُقَيَّدُ بِالْعُرْفِ
وَالْعَادَةِ ( قَوْلُهُ وَالْمُعْتَبَرُ وَزْنُ سَبْعَةٍ ) يَعْنِي الْمُعْتَبَرُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ الَّتِي يُقْطَعُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا مَا يَكُونُ وَزْنُ عَشَرَةٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ ( كَمَا قِيلَ ) كَمَا فِي الزَّكَاةِ .
وَتَقَدَّمَ بَحْثُنَا فِيهَا فِي الزَّكَاةِ وَهُوَ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاعَى أَقَلُّ مَا كَانَ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى مَا قَالُوا ، وَأَمَّا هُنَا فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَنَّ { الدَّرَاهِمَ كَانَتْ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ .
صِنْفٌ وَزْنُ خَمْسَةٍ ، وَصِنْفٌ وَزْنُ سِتَّةٍ .
وَصِنْفٌ وَزْنُ عَشَرَةٍ } أَنْ يُعْتَبَرَ فِي الْقَطْعِ وَزْنُ عَشَرَةٍ ، فَهَذَا مُقْتَضَى أَصْلِهِمْ فِي تَرْجِيحِ تَقْدِيرِ الْمِجَنِّ بِعَشَرَةٍ بِأَنَّهُ أَدْرَأُ لِلْحَدِّ ، وَمَا كَانَ دَارِئًا كَانَ أَوْلَى .
لَا يُقَالُ : هَذَا إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ لِأَنَّا نَقُولُ : لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ قَدَّرَ نِصَابَ الْقَطْعِ بِعَشْرَةٍ قَدَّرَ الْعَشَرَةَ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ وَهُوَ مَمْنُوعٌ فَإِنَّ مِمَّنْ نَقَلَ تَقْدِيرَهُ بِعَشَرَةٍ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَلَمْ يُنْقَلْ تَقْدِيرُهُمَا بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ لُزُومُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ، ثُمَّ هَذَا الْبَحْثُ إلْزَامٌ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّ وَزْنَ سَبْعَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا إنْ قِيلَ كَالشَّافِعِيَّةِ إنَّهَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي زَمَنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ ( أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةً إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ كَانَ ذَهَبًا ) حَتَّى لَوْ سَرَقَ دِينَارًا قِيمَتُهُ أَقَلُّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا يُقْطَعُ .
ذَكَرَهُ فِي الْمُحِيطِ .
قَالَ : وَالْمُرَادُ مِنْ الدِّينَارِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ مَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا بِهِ لَا قِيمَةَ الْوَقْتِ ، أَيْ يَكُونُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ جِيَادٍ بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ أَوْ أَكْثَرَ
سَوَاءٌ كَانَا فِي الْوَقْتِ كَذَلِكَ أَوْ لَا فَلَا اعْتِبَارَ لِلْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ فِيهِ السِّعْرُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ قِيمَةِ غَيْرِ الْفِضَّةِ بِعَشَرَةٍ يَوْمَ السَّرِقَةِ وَوَقْتَ الْقَطْعِ حَتَّى لَوْ نَقَصَ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَطْعِ عَنْ عَشَرَةٍ لَمْ يُقْطَعْ ، إلَّا إنْ كَانَ النَّقْصُ بِسَبَبِ عَيْبٍ دَخَلَهُ أَوْ فَوَاتِ بَعْضِ الْعَيْنِ ، فَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ فِي بَلَدٍ مَا قِيمَتُهُ فِيهَا عَشَرَةٌ فَأُخِذَ فِي أُخْرَى وَقِيمَتُهَا فِيهَا أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ ، وَفِي قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ يُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْحِرْزِ فَقَطْ .
وَلَوْ سَرَقَ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ عَشَرَةِ فِضَّةٍ تُسَاوِي عَشَرَةً مَصْكُوكَةً لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ النَّصَّ .
وَهُوَ قَوْلُهُ { لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } فِي مَحَلِّ النَّصِّ ، وَهُوَ أَنْ يَسْرِقَ وَزْنَ عَشَرَةٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ ثُبُوتِ دَلَالَةِ الْقَصْدِ إلَى النِّصَابِ الْمَأْخُوذِ ، وَعَلَيْهِ ذُكِرَ فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ : سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ دُونَ الْعَشَرَةِ وَعَلَى طَرَفِهِ دِينَارٌ مَشْدُودٌ لَا يُقْطَعُ ، وَذَكَرَ مِنْ عَلَامَةِ فَتَاوَى أَئِمَّةِ سَمَرْقَنْدَ : إذَا سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَفِيهِ دَرَاهِمُ مَضْرُوبَةٌ لَا يُقْطَعُ ، وَقَالَ : وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ عَادَةً ، فَإِنْ كَانَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَصْدَ فِيهِ يَقَعُ عَلَى سَرِقَةِ الدَّرَاهِمِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ كِيسًا فِيهِ دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ الْكِيسُ يُسَاوِي دِرْهَمًا ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ حَتَّى لَوْ سَرَقَ عَشَرَةً وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ وَلَوْ لِعَشَرَةِ رِجَالٍ يُقْطَعُ ، بِخِلَافِ السَّارِقِ مِنْ السَّارِقِ عَلَى الْخِلَافِ وَأَنْ يُخْرِجَهُ ظَاهِرًا حَتَّى لَوْ ابْتَلَعَ دِينَارًا فِي الْحِرْزِ وَخَرَجَ لَا يُقْطَعُ ، وَلَا يُنْتَظَرُ أَنْ يَتَغَوَّطَهُ بَلْ يَضْمَنُ مِثْلَهُ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ لِلْحَالِ وَأَنْ يُخْرِجَ النِّصَابَ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَوْ
أَخْرَجَ بَعْضَهُ ثُمَّ دَخَلَ وَأَخْرَجَ بَاقِيَهُ لَا يُقْطَعُ .
قَالَ ( وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ ) لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ ، وَلِأَنَّ التَّنْصِيفَ مُتَعَذِّرٌ فَيَتَكَامَلُ صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ .
( قَوْلُهُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِي الْقَطْعِ سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَصِّلْ ) بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ وَلَا يُمْكِنُ التَّنْصِيفُ ( فَيَتَكَامَلُ ) وَهَذَا لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مُوجِبَةٌ لِلْعُقُوبَةِ ( صِيَانَةً لِأَمْوَالِ النَّاسِ ) وَالرِّقُّ مُنَصِّفٌ فَمَا أَمْكَنَ فِيهِ التَّنْصِيفُ نُصِّفَ عَلَيْهِ وَبِهِ يَحْصُلُ مُوجِبُ الْعُقُوبَةِ ، وَمَا لَا كَمُلَ ضَرُورَةً وَإِلَّا أُهْدِرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّ لَهُ حَدَّيْنِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ ، فَانْتَظَمَ النَّصُّ الْحُرَّ وَالْمَرْقُوقَ فِي الْجَلْدِ فَحَدُّهُ عَلَى نِصْفِ حَدِّ الْأَحْرَارِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } ثُمَّ شُرِعَ الْحَدُّ الْآخَرُ وَهُوَ الرَّجْمُ عَلَى الْأَحْرَارِ ابْتِدَاءً بِحَيْثُ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْأَرِقَّاءَ .
( وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ ) وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُمَا فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّهُ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأُخْرَى وَهِيَ الْبَيِّنَةُ كَذَلِكَ اعْتَبَرْنَا فِي الزِّنَا .
وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ قَدْ ظَهَرَتْ بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً فَيُكْتَفَى بِهِ كَمَا فِي الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تُفِيدُ فِيهَا تَقْلِيلَ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَلَا تُفِيدُ فِي الْإِقْرَارِ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ .
وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْسَدُّ بِالتَّكْرَارِ وَالرُّجُوعُ فِي حَقِّ الْمَالِ لَا يَصِحُّ أَصْلًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ ، وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ فِي الزِّنَا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ .
قَالَ ( وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ) لِتَحَقُّقِ الظُّهُورِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ وَمَاهِيَّتِهَا وَزَمَانِهَا وَمَكَانِهَا لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُدُودِ ، وَيَحْبِسُهُ إلَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لِلتُّهْمَةِ .
.
( قَوْلُهُ وَيَجِبُ الْقَطْعُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ) وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ عُلَمَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ مَرَّتَيْنِ ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَزُفَرَ وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْإِقْرَارَيْنِ فِي مَجْلِسَيْنِ اسْتَدَلُّوا بِالْمَنْقُولِ وَالْمَعْنَى ، أَمَّا الْمَنْقُولُ فَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا إخَالُكَ سَرَقْتَ ؟ فَقَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ } فَلَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بَعْدَ تَكَرُّرِ إقْرَارِهِ : وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ عِنْدَهُ بِسَرِقَةٍ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ : قَدْ شَهِدْتَ عَلَى نَفْسِكَ شَهَادَتَيْنِ .
فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ فَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِلْحَاقُ الْإِقْرَارِ بِهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا فِي الْعَدَدِ فَيُقَالُ حَدٌّ فَيُعْتَبَرُ عَدَدُ الْإِقْرَارِ بِهِ بِعَدَدِ الشُّهُودِ نَظِيرُهُ إلْحَاقُ الْإِقْرَارِ فِي حَدِّ الزِّنَا فِي الْعَدَدِ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ { قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ ، فَقَالَ : مَا إخَالُهُ سَرَقَ ، فَقَالَ السَّارِقُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ ؛ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ ، قَالَ : فَذَهَبَ بِهِ فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ .
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : تُبْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ : تُبْتُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ : تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ } فَقَدْ قَطَعَهُ بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَمُعَارَضٌ بِحَدِّ الْقَذْفِ
وَالْقِصَاصِ وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَدًّا فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ عُقُوبَةٌ هَكَذَا ظَهَرَ الْمُوجِبُ مَرَّةً ( فَيُكْتَفَى بِهِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ) وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الشَّهَادَةِ فَمَعَ الْفَارِقِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ إنَّمَا هُوَ لِتَقْلِيلِ التُّهْمَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِي الْإِقْرَارِ ، إذْ لَا يُتَّهَمُ الْإِنْسَانُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِمَا يَضُرُّهُ ضَرَرًا بَالِغًا ، عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ إمَّا صَادِقٌ فَالثَّانِي لَا يُفِيدُ شَيْئًا إذْ لَا يَزْدَادُ صِدْقًا .
وَإِمَّا كَاذِبٌ فَبِالثَّانِي لَا يَصِيرُ صِدْقًا فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي تَكْرَارِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَائِدَتُهُ رَفْعُ احْتِمَالِ كَوْنِهِ يَرْجِعُ عَنْهُ أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَبَابُ الرُّجُوعِ فِي حَقِّ الْحَدِّ لَا يَنْتَفِي بِالتَّكْرَارِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ التَّكْرَارِ فَيُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَالِ رُجُوعُهُ بِوَجْهٍ ( لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يُكَذِّبُهُ ) فَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ ، وَأَمَّا النَّظَرُ الْمَذْكُورُ : أَعْنِي اشْتِرَاطَ كَوْنِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مُتَعَدِّدًا كَمَا فِي الشَّهَادَةِ بِهِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَكَيْفَ وَحُكْمُ أَصْلِهِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ مَعْدُولٌ عَنْ الْقِيَاسِ ، فَالْوَاقِعُ أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَدُّدِ الشَّهَادَةِ وَتَعَدُّدِ الْإِقْرَارِ فِي الزِّنَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ ابْتِدَاءً لَا بِالْقِيَاسِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
[ فُرُوعٌ مِنْ عَلَامَةِ الْعُيُونِ ] قَالَ أَنَا سَارِقُ هَذَا الثَّوْبِ : يَعْنِي بِالْإِضَافَةِ قُطِعَ ، وَلَوْ نَوَّنَ الْقَافَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى الْحَالِ .
وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ قَالَ : سَرَقْتُ مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ بَلْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يُقْطَعُ فِي الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَيَضْمَنُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، هَذَا إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْمَالَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِسَرِقَةِ مِائَةٍ وَأَقَرَّ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَصَحَّ
رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ الْأُولَى فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ الضَّمَانِ .
وَصَحَّ الْإِقْرَارُ بِالسَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَبِهِ يَنْتَفِي الضَّمَانُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ سَرَقْتُ مِائَةً بَلْ مِائَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ وَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا لَوْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَتَيْنِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ وَانْتَفَى الضَّمَانُ وَالْمِائَةُ الْأُولَى لَا يَدَّعِيهَا الْمُقَرُّ لَهُ ، بِخِلَافِ الْأُولَى ، وَلَوْ قَالَ سَرَقْتُ مِائَتَيْنِ بَلْ مِائَةً لَمْ يُقْطَعْ ، وَيَضْمَنُ الْمِائَتَيْنِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةِ مِائَتَيْنِ وَرَجَعَ عَنْهُمَا فَوَجَبَ الضَّمَانُ وَلَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ وَلَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ بِالْمِائَةِ إذْ لَا يَدَّعِيهَا الْمَسْرُوقُ مِنْهُ ، وَلَوْ أَنَّهُ صَدَّقَهُ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمِائَةِ لَا ضَمَانَ ( قَوْلُهُ وَيَجِبُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ) وَهَذَا بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ( قَوْلُهُ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُمَا الْإِمَامُ عَنْ كَيْفِيَّةِ السَّرِقَةِ ) أَيْ كَيْفَ سَرَقَ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ سَرَقَ عَلَى كَيْفِيَّةٍ لَا يُقْطَعُ مَعَهَا كَأَنْ نَقَبَ الْجِدَارَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ ، وَأَخْرَجَ بَعْضَ النِّصَابِ ثُمَّ عَادَ وَأَخْرَجَ الْبَعْضَ الْآخَرَ أَوْ نَاوَلَ رَفِيقًا لَهُ عَلَى الْبَابِ فَأَخْرَجَهُ وَيَسْأَلُهُمَا ( عَنْ مَاهِيَّتِهَا ) فَإِنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَالنَّقْصِ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ( وَعَنْ زَمَانِهَا ) لِاحْتِمَالِ التَّقَادُمِ ، وَعِنْدَ التَّقَادُمِ إذَا شَهِدُوا يُضَمَّنُ الْمَالَ وَلَا يُقْطَعُ عَلَى مَا مَرَّ ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّ التَّقَادُمَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ قَبُولَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْقَطْعِ لِأَنَّ الشَّاهِدَ لَا يُتَّهَمُ فِي تَأْخِيرِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الدَّعْوَى وَتَقَدَّمَ جَوَابُهُ لِلْمُصَنِّفِ وَلِقَاضِي خَانْ ، وَيَسْأَلُهُمَا عَنْ الْمَكَانِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ سَرَقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ
مُسْلِمٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ثُبُوتُ السَّرِقَةِ بِالْإِقْرَارِ حَيْثُ لَا يَسْأَلُ الْقَاضِي الْمُقِرَّ عَنْ الزَّمَانِ لِأَنَّ التَّقَادُمَ لَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ وَلَا يَسْأَلُ الْمُقِرَّ عَنْ الْمَكَانِ لَكِنْ يَسْأَلُهُ عَنْ بَاقِي الشُّرُوطِ مِنْ الْحِرْزِ وَغَيْرِهِ اتِّفَاقًا .
وَفِي الْكَافِي : وَعَنْ الْمَسْرُوقِ إذْ سَرِقَةُ كُلِّ مَالٍ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ كَمَا فِي الثَّمَرِ وَالْكُمَّثْرَى ، وَقَدْرِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ دُونَ نِصَابٍ ، وَعَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لَا تُوجِبُ الْقَطْعَ كَذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَمِنْ الزَّوْجِ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ السُّؤَالَ عَنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ لِأَنَّهُ حَاضِرٌ يُخَاصِمُ وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ عَلَى السَّرِقَةِ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُمْ بِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَخُصُومَةُ الْحَاضِرِ لَا يَسْتَلْزِمُ بَيَانَهُمَا النِّسْبَةَ مِنْ السَّارِقِ وَلَا الدَّعْوَى تَسْتَلْزِمُ أَنْ يَقُولَ سَرَقَ مَالِي وَأَنَا مَوْلَاهُ أَوْ جَدُّهُ ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ ، وَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي عَرَفَ الشُّهُودَ بِالْعَدَالَةِ قَطَعَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ حَالَهُمْ حُبِسَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ حَتَّى يُعَدَّلُوا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالسَّرِقَةِ ، وَالتَّوَثُّقُ بِالتَّكْفِيلِ مُمْتَنِعٌ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ وَهُنَا نَظَرٌ ، وَهُوَ أَنَّ إعْطَاءَ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ جَائِزٌ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُجْبَرُ ، وَلَمْ يَقَعْ تَفْصِيلٌ فِي هَذَا الْحُكْمِ : أَعْنِي حَبْسَهُ عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يُزَكَّوْا ، وَمُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُحْبَسُ بِتُهْمَةِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ لَا التَّعْزِيرَ بِسَبَبِ أَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالْفَسَادِ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ التَّكْفِيلُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ حَبْسِهِ بِسَبَبِ مَا لَزِمَهُ مِنْ التُّهْمَةِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، وَلِذَا ذُكِرَ فِي
الْفَتَاوَى : مَنْ يُتَّهَمُ بِالْقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ يُحْبَسُ وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يُظْهِرَ التَّوْبَةَ ، بِخِلَافِ مَنْ يَبِيعُ الْخَمْرَ وَيَشْتَرِي وَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ وَيُؤَدَّبُ ثُمَّ يُخْرَجُ .
وَفِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ : لِصٌّ مَعْرُوفٌ بِالسَّرِقَةِ وَجَدَهُ رَجُلٌ يَذْهَبُ فِي حَاجَةٍ لَهُ غَيْرَ مَشْغُولٍ بِالسَّرِقَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَتُوبَ لِأَنَّ الْحَبْسَ زَجْرًا لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ ، وَإِذَا عَدَلَ الشَّاهِدَانِ وَالْمَسْرُوقُ مِنْهُ غَائِبٌ لَمْ يَقْطَعْهُ إلَّا بِحَضْرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَالشَّاهِدَانِ غَائِبَانِ لَمْ يُقْطَعْ أَيْضًا حَتَّى يَحْضُرَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَوْتِ ، وَهَذَا فِي كُلِّ الْحُدُودِ سِوَى الرَّجْمِ وَيَمْضِي الْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَحْضُرُوا اسْتِحْسَانًا هَكَذَا فِي كَافِي الْحَاكِمِ .
( قَالَ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ قُطِعَ ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَقَلُّ لَا يُقْطَعُ ) لِأَنَّ الْمُوجِبَ سَرِقَةُ النِّصَابِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِجِنَايَتِهِ فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ فِي حَقِّهِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي سَرِقَةٍ فَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ ، وَإِنْ أَصَابَ أَقَلَّ لَا يُقْطَعُ ) وَمَعْلُومٌ تَقْيِيدُ قَطْعِهِمْ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا صَبِيٌّ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يُقْطَعُونَ وَإِنْ لَمْ يُصِبْ أَحَدُهُمْ نِصَابًا بَعْدَ كَوْنِ تَمَامِ الْمَسْرُوقِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لِدُخُولِهِمْ تَحْتَ النَّصِّ .
قُلْنَا : الْقَطْعُ لِكُلِّ سَارِقٍ بِسَرِقَتِهِ نِصَابًا وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ : يَعْنِي أَنَّهُ وُجِدَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ جِنَايَةُ السَّرِقَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِمُجَرَّدِهِ بَلْ حَتَّى يَكُونَ مَا سَرَقَهُ نِصَابًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
.
بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ ( وَلَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ وَالنُّورَةِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كَانَتْ الْيَدُ لَا تُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ } ، أَيْ الْحَقِيرِ ، وَمَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا ، فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ وَالطِّبَاعُ لَا تَضَنُّ بِهِ ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ فَلَا حَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجِبْ الْقَطْعُ فِي سَرِقَةِ مَا دُونَ النِّصَابِ وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهَا نَاقِصٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْخَشَبَ يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ وَالصَّيْدُ يَفِرُّ وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ تُورِثُ الشُّبْهَةَ ، وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا .
وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ ، وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ } وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا .
( بَابُ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ ) مَا يُقْطَعُ فِيهِ هُوَ الْمَسْرُوقُ ، وَهُوَ مُتَعَلَّقُ السَّرِقَةِ إذْ هُوَ مَحَلُّهَا : فَهُوَ ثَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْفِعْلِ فَلِذَا أَخَّرَهُ عَنْ بَيَانِ السَّرِقَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا ( قَوْلُهُ لَا قَطْعَ فِيمَا يُوجَدُ تَافِهًا مُبَاحًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ) أَيْ إذَا سُرِقَ مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ بَعْدَ أَنْ أُخِذَ وَأُحْرِزَ وَصَارَ مَمْلُوكًا .
التَّافِهُ وَالتَّفَهُ : الْحَقِيرُ الْخَسِيسُ مِنْ بَابِ لَبِسَ ( كَالْخَشَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالسَّمَكِ وَالطَّيْرِ وَالصَّيْدِ ) بَرِّيًّا أَوْ بَحْرِيًّا ( وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَغَرَةِ ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ : الطِّينُ الْأَحْمَرُ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا ( وَالنُّورَةِ ) ( قَوْلُهُ الْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ) هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ .
وَمُسْنَدِهِ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { : لَمْ يَكُنْ السَّارِقُ يُقْطَعُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ } .
زَادَ فِي مُسْنَدِهِ : { وَلَمْ يُقْطَعْ فِي أَدْنَى مِنْ ثَمَنِ حَجَفَةٍ أَوْ تُرْسٍ } .
وَرَوَاهُ مُرْسَلًا أَيْضًا : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ ، وَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ هِشَامٍ بِهِ ، وَكَذَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ .
أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ هِشَامٍ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ مُسْنَدًا أَخْرَجَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَبِيصَةَ الْفَزَارِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ ، وَلَمْ يَقُلْ فِي عَبْدِ اللَّهِ هَذَا شَيْئًا إلَّا أَنَّهُ قَالَ لَمْ يُتَابَعْ عَلَيْهِ ، وَلَمْ أَرَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِ كَلَامًا فَذَكَرْتُهُ لِأُبَيِّنَ أَنَّ فِي رِوَايَاتِهِ نَظَرًا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الْمُرْسَلَاتِ كُلَّهَا حُجَّةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَصْلُهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَمُتَابَعَةِ عَبْدِ
الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَا يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ بِصُورَتِهِ ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ بِأَنْ لَمْ تَحْدُثْ فِيهِ صَنْعَةٌ مُتَقَوِّمَةٌ ( غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ حَقِيرٌ ) فَيَكُونُ مُتَنَاوَلَ النَّصِّ فَلَا يُقْطَعُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَالْكِتَابُ مَخْصُوصٌ بِقَاطِعٍ فَجَازَ مُطْلَقًا وَقَوْلُهُ ( بِصُورَتِهِ ) لِيَخْرُجَ الْأَبْوَابُ وَالْأَوَانِي وَالْخَشَبُ .
وَ ( غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ ) لِيَخْرُجَ نَحْوُ الْمَعَادِنِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْيَوَاقِيتِ وَاللُّؤْلُؤِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَحْجَارِ لِكَوْنِهَا مَرْغُوبًا فِيهَا فَيُقْطَعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ .
وَعَلَى هَذَا نَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي الزِّرْنِيخِ فَقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بِهِ لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ وَيُصَانُ فِي دَكَاكِينِ الْعَطَّارِينَ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ الْخَشَبِ ، لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدْخُلُ الدُّورَ لِلْعِمَارَةِ فَكَانَ إحْرَازُهُ نَاقِصًا ، بِخِلَافِ السَّاجِ وَالْأَبَنُوسِ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْوَسْمَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالْوَجْهُ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِحْرَازِهِ فِي الدَّكَاكِينِ .
وَقَوْلُهُ ( تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ ) يَعْنِي فَلَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى اسْتِحْصَالِهِ وَعَلَى الْمُعَالَجَةِ فِي التَّوَصُّلِ إلَيْهِ ( وَلَا تَضَنُّ بِهِ الطِّبَاعُ ) إذَا أُحْرِزَ ، حَتَّى إنَّهُ ( قَلَّمَا يُوجَدُ أَخْذُهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْ الْمَالِكِ ) وَلَا يُنْسَبُ إلَى الْجِنَايَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضِّنَّةَ بِهَا تُعَدُّ مِنْ الْخَسَاسَةِ .
وَمَا هُوَ كَذَلِكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيهِ كَمَا دُونَ النِّصَابِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلِأَنَّ الْحِرْزَ فِيهِ نَاقِصٌ ) فَإِنَّ الْخَشَبَ بِصُورَتِهِ الْأُولَى يُلْقَى عَلَى الْأَبْوَابِ ، وَإِنَّمَا يُدْخَلُ فِي الدَّارِ لِلْعِمَارَةِ لَا لِلْإِحْرَازِ ، وَذَلِكَ فِي زَمَانِهِمْ .
وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَيُحْرَزُ فِي دَكَاكِينِ التُّجَّارِ .
قَالَ ( وَالطَّيْرُ يَطِيرُ ) يَعْنِي مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ وَبِذَلِكَ تَقِلُّ الرَّغَبَاتُ فِيهِ .
وَالْوَجْهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ مِنْ بَيَانِ
نُقْصَانِ الْحِرْزِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ قَاصِرٌ عَنْ جَمِيعِ صُوَرِ الدَّعْوَى ( وَكَذَا الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي كَانَتْ فِيهِ ) أَيْ فِي الصَّيْدِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } ( وَهُوَ ) حَالَ كَوْنِهِ ( عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ ) أَيْ الْأَصْلِيَّةِ ( تُورِثُ ) الشَّرِكَةُ الْعَامَّةُ فِيهِ ( شُبْهَةً ) بَعْدَ الْإِحْرَازِ فَيَمْتَنِعُ الْقَطْعُ .
وَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الشُّبْهَةَ الْعَامَّةَ الثَّابِتَةَ فِي الْكُلِّ بِالْإِبَاحَةِ لِأَصْلِهَا ثَابِتَةً بِالْإِجْمَاعِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثَةٍ } فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَشِيشَ وَالْقَصَبَ بِلَفْظِ الْكَلَإِ فَفِيهِ قُصُورٌ أَيْضًا .
قَالَ ( وَيَدْخُلُ فِي السَّمَكِ الْمَالِحُ وَالطَّرِيُّ ) وَصَوَابُهُ السَّمَكُ الْمَلِيحُ أَوْ الْمَمْلُوحُ ( وَفِي الطَّيْرِ الدَّجَاجُ وَالْبَطُّ وَالْحَمَامُ لِمَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَالطَّيْرُ يَطِيرُ فَيَقِلُّ إحْرَازُهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ( وَلِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ } ) فَحَدِيثٌ لَا يُعْرَفُ رَفْعُهُ ، بَلْ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدٍ فِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ سَرَقَ دَجَاجَةً فَأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَهُ .
فَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ عُثْمَانُ : لَا قَطْعَ فِي الطَّيْرِ ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ عَنْ زُهَيْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِرَجُلٍ قَدْ سَرَقَ طَيْرًا فَاسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ ، فَقَالَ : مَا رَأَيْت أَحَدًا قَطَعَ فِي الطَّيْرِ ، وَمَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قَطْعٌ ، فَتَرَكَهُ عُمَرُ .
فَإِنْ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ السَّمَاعِ ، وَإِلَّا فَتَقْلِيدُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَنَا وَاجِبٌ لِمَا عُرِفَ .
( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجِبُ
الْقَطْعُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا الطِّينَ وَالتُّرَابَ وَالسِّرْقِينَ ) وَرُوِيَ عَنْهُ إلَّا فِي الْمَاءِ وَالتُّرَابِ وَالطِّينِ وَالْجِصِّ وَالْمَعَازِفِ وَالنَّبِيذِ ، لِأَنَّ مَا سِوَى هَذِهِ أَمْوَالٌ مُتَقَوِّمَةٌ مُحَرَّزَةٌ فَصَارَتْ كَغَيْرِهَا ، وَالْإِبَاحَةُ الْأَصْلِيَّةُ زَالَتْ وَزَالَ أَثَرُهَا بِالْإِحْرَازِ بَعْدَ التَّمَلُّكِ ( وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمَا مَا ذَكَرْنَا ) مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَثُبُوتِ الشُّبْهَةِ .
قَالَ : ( وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا فِي كَثَرٍ } وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ ، وَقِيلَ الْوَدِيُّ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ } وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَالْمُهَيَّأِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثَّمَرِ لِأَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ إجْمَاعًا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ فَإِذَا آوَاهُ الْجَرِينُ أَوْ الْجِرَانُ قُطِعَ } قُلْنَا : أَخْرَجَهُ عَنْ وِفَاقِ الْعَادَةِ ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ .
قَالَ ( وَلَا قَطْعَ فِي الْفَاكِهَةِ عَلَى الشَّجَرِ وَالزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُحْصَدْ ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِيمَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ كَاللَّبَنِ وَاللَّحْمِ ) وَالْخُبْزِ أَيْضًا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ، وَلَا فَرْقَ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِاللَّحْمِ بَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوحًا قَدِيمًا أَوْ غَيْرَهُ ( وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ بِهَا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ فَقَالَ : مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلِهِ ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ ، وَعَنْ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ .
وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَهِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْحَرِيسَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا فَقَالَ : فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ ، وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ ، وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ الْمِجَنَّ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا فِي أَكْمَامِهَا ؟ فَقَالَ : مَنْ أَخَذَ بِفَمِهِ وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ وَضَرْبٌ وَنَكَالٌ ، وَمَا أُخِذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ ، وَفِي لَفْظٍ { مَا تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ؟ فَقَالَ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ إلَّا
مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ ، فَمَا أُخِذَ مِنْ الْجَرِينِ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتٌ وَنَكَالٌ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ بِهَذَا الْمَتْنِ ، وَقَالَ : قَالَ إمَامُنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ ، إذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ثِقَةً فَهُوَ كَأَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَوَقَفَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : { لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ قَطْعٌ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ } .
وَأَخْرَجَهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلَهُ سَوَاءٌ أَجَابَ ( بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ عَنْ وَفْقِ الْعَادَةِ ، وَاَلَّذِي يُؤْوِيهِ الْجَرِينُ فِي عَادَتِهِمْ هُوَ الْيَابِسُ مِنْ الثَّمَرِ وَفِيهِ الْقَطْعُ ) لَكِنْ مَا فِي الْمُغْرِبِ مِنْ قَوْلِهِ : الْجَرِينُ الْمِرْبَدُ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ الرُّطَبُ لِيَجِفَّ وَجَمْعُهُ جُرُنٌ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ فِيهِ الرُّطَبُ فِي زَمَانٍ وَهُوَ أَوَّلُ وَضْعِهِ ، وَالْيَابِسُ وَهُوَ الْكَائِنُ فِي آخِرِ حَالِهِ فِيهِ ، ثُمَّ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَفْظُ الْجِرَانِ ، وَكَأَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ الْجِرَانُ فَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الشَّكِّ ، وَجِرَانُ الْبَعِيرِ مُقَدَّمُ عُنُقِهِ مِنْ مَذْبَحِهِ إلَى مَنْخِرِهِ ، وَالْجَمْعُ جُرُنٌ ، فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى بِهِ هَاهُنَا الْجِرَابُ الْمُتَّخَذُ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْمِرْبَدُ أَوْ الْجِرَابُ ، ثُمَّ الْمَعْنَى مِنْ قَوْلِهِ حَتَّى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ : أَيْ الْمِرْبَدُ حَتَّى يَجِفَّ : أَيْ حَتَّى يَتِمَّ إيوَاءُ الْجَرِينِ إيَّاهُ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُنْقَلُ عَنْهُ وَيُدْخَلُ الْحِرْزَ ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْجَرِينِ لَيْسَ حِرْزًا لِيَجِبَ الْقَطْعُ بِالْأَخْذِ مِنْهُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ حَارِسٌ يَتَرَصَّدُهُ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } وَقَوْلُهُ { لَا قَطْعَ فِي الطَّعَامِ } أَمَّا الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ
سَعْدٍ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَاهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حِبَّانَ : { أَنَّ غُلَامًا سَرَقَ وَدِيًّا مِنْ حَائِطٍ ، فَرُفِعَ إلَى مَرْوَانَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ ، فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الْقِسْمِ الثَّانِي .
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : هَكَذَا رَوَاهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ .
وَرَوَاهُ غَيْرُهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ وَاسِعًا انْتَهَى .
وَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَارَضَ الِانْقِطَاعُ وَالْوَصْلُ ، وَالْوَصْلُ أَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّهُ زِيَادَةٌ مِنْ الرَّاوِي الثِّقَةِ ، وَقَدْ تَلَقَّتْ الْأُمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْقَبُولِ فَقَدْ تَعَارَضَا فِي الرُّطَبِ الْمَوْضُوعِ فِي الْجَرِينِ ، وَفِي مِثْلِهِ مِنْ الْحُدُودِ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا يَمْنَعُ الْحَدَّ دَرْءًا لِلْحَدِّ ، وَلِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مَتْرُوكُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ بِمِثْلَيْ قِيمَتِهِ ، وَإِنْ نُقِلَ عَنْ أَحَدٍ فَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ قُوَّةَ ثُبُوتِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } فَلَا يَصِحُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ ، فَفِيهِ دَلَالَةُ الضَّعْفِ أَوْ النَّسْخِ فَيَنْفَرِدُ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ الْمُعَارِضِ ، فَبَطَلَ قَوْلُ مَنْ قَالَ يَتَقَيَّدُ حَدِيثُ الثَّمَرِ وَالْكَثَرِ بِهَذَا التَّفْصِيلِ : يَعْنِي يُفَصَّلُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهُ مِنْ أَعْلَى النَّخْلِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، أَوْ يُخْرِجَهُ فَفِيهِ ضِعْفُ قِيمَتِهِ .
وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ ، أَوْ يَأْخُذَهُ مِنْ بَيْدَرِهِ فَيُقْطَعُ وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ .
وَقِيلَ هُوَ الْوَدِيُّ وَهُوَ صِغَارُ النَّخْلِ ، وَجَزَمَ فِي الْمُغْرِبِ أَنَّهُ خَطَأٌ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي
الْمَرَاسِيلِ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنِّي لَا أَقْطَعُ فِي الطَّعَامِ } وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَلَمْ يُعِلَّهُ بِغَيْرِ الْإِرْسَالِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ عِنْدَنَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُوجِبِهِ ، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ فِي الْحِنْطَةِ وَالسُّكَّرِ لَزِمَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفُسَاءُ كَالْمُهَيَّإِ لِلْأَكْلِ مِنْهُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَاللَّحْمِ وَالثِّمَارِ الرَّطْبَةِ مُطْلَقًا فِي الْجَرِينِ وَغَيْرِهِ .
هَذَا وَالْقَطْعُ فِي الْحِنْطَةِ وَغَيْرِهَا إجْمَاعًا إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْقَحْطِ ، وَأَمَّا فِيهَا فَلَا ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَوْ لَا لِأَنَّهُ عَنْ ضَرُورَةِ ظَاهِرٍ ، أَوْ هِيَ تُبِيحُ التَّنَاوُلَ ، وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي مَجَاعَةِ مُضْطَرٍّ } وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَا قَطْعَ فِي عَامِ سَنَةٍ } .
( وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ ) لِأَنَّ السَّارِقَ يَتَأَوَّلُ فِي تَنَاوُلِهَا الْإِرَاقَةَ ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَفِي مَالِيَّةِ بَعْضِهَا اخْتِلَافٌ فَتَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْمَالِيَّةِ .
قَالَ ( وَلَا فِي الطُّنْبُورِ ) لِأَنَّهُ مِنْ الْمَعَازِفِ ( وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُهُ .
وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا بَلَغَتْ الْحِلْيَةُ نِصَابًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمُصْحَفِ فَتُعْتَبَرُ بِانْفِرَادِهَا .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا مَالِيَّةَ لَهُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلْجِلْدِ وَالْأَوْرَاقِ وَالْحِلْيَةِ وَإِنَّمَا هِيَ تَوَابِعُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ ، كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَرْبُو عَلَى النِّصَابِ .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي الْأَشْرِبَةِ الْمُطْرِبَةِ ) أَيْ الْمُسْكِرَةِ .
وَالطَّرَبُ اسْتِخْفَافُ الْعَقْلِ ، وَمَا يُوجِبُ الطَّرَبَ شِدَّةُ حُزْنٍ وَجَزَعٍ فَيَسْتَخِفُّ الْعَقْلُ فَيَصْدُرُ مِنْهُ مَا لَا يَلِيقُ كَمَا تَرَاهُ مِنْ صِيَاحِ الثَّكْلَيَاتِ وَضَرْبِ خُدُودِهِنَّ وَشَقِّ جُيُوبِهِنَّ فِيمَا لَا يُجْدِي نَفْعًا وَيَسْلُبُ أَجْرَ مُصِيبَتِهِنَّ ثُمَّ يُوجِبُ لَعْنَهُنَّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ، أَوْ شِدَّةُ سُرُورٍ فَيُوجِبُ مَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْ الثُّمَالَى وَالْمَسْأَلَةُ بِلَا خِلَافٍ ، أَمَّا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ فَلِأَنَّهَا كَالْخَمْرِ عِنْدَهُمْ ، وَعِنْدَنَا إنْ كَانَ الشَّرَابُ حُلْوًا فَهُوَ مِمَّا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ ، وَإِنْ كَانَ مُرًّا فَإِنْ كَانَ خَمْرًا .
فَلَا قِيمَةَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا فَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَقَوُّمِهِ اخْتِلَافٌ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ الْمَالِ الْمُتَقَوِّمِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ فِي مَوْضِعِ وُجُوبِ الدَّرْءِ بِالشُّبْهَةِ ، وَلِأَنَّ السَّارِقَ يُحْمَلُ حَالُهُ عَلَى أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِيهَا الْإِرَاقَةَ فَتَثْبُتُ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِإِزَالَةِ الْمُنْكَرِ ، وَفِي سَرِقَةِ الْأَصْلِ يُقْطَعُ بِالْخَلِّ وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ مِنْ كِتَابِ الْمُجَرَّدِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِي الْخَلِّ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ خَمْرًا مَرَّةً .
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ : لَا قَطْعَ فِي الرُّبِّ وَالْجُلَّابِ .
( قَوْلُهُ وَلَا فِي الطُّنْبُورِ ) وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتٍ الْمَلَاهِي بِلَا خِلَافٍ أَيْضًا لِعَدَمِ تَقَوُّمِهَا حَتَّى لَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ ضَمِنَهَا لِغَيْرِ اللَّهْوِ ، إلَّا أَنَّهُ يَتَأَوَّلُ آخِذُهُ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ .
وَالْمَعَازِفُ جَمْعُ الْمِعْزَفِ وَهِيَ آلَةُ اللَّهْوِ .
( قَوْلُهُ وَلَا فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ) وَمَالِكٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ( يُقْطَعُ ) وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا بَلَغَتْ حِلْيَتُهُ نِصَابًا ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
عَنْهُ : يُقْطَعُ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى ، وَلِأَنَّ وَرَقَهُ مَالٌ وَبِمَا كُتِبَ فِيهِ ازْدَادَ بِهِ وَلَمْ يُنْتَقَصْ .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَحْمَدَ : إنْ أَخَذَهُ يَتَأَوَّلُ الْقِرَاءَةَ لِإِزَالَةِ الْإِشْكَالِ لَا يُقْطَعُ ( وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الْآخِذَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ ) وَلِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لِلتَّبَعِ وَهِيَ الْحِلْيَةُ وَالْأَوْرَاقُ لَا لِلْمَتْبُوعِ وَهُوَ الْمَكْتُوبُ ( وَإِحْرَازُهُ لِأَجْلِهِ ) وَالْآخِذُ أَيْضًا يَتَأَوَّلُ أَخْذَهُ لِأَجْلِهِ لَا لِلتَّبَعِ ( وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّبَعِ كَمَنْ سَرَقَ آنِيَةً فِيهَا خَمْرٌ وَقِيمَةُ الْآنِيَةِ تَزِيدُ عَلَى النِّصَابِ ) لَا يُقْطَعُ ، وَكَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ كَثِيرٌ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ الْمَالَ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَوَجَدَ فِي جَيْبِهِ عَشَرَةً مَضْرُوبَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا لَمْ أَقْطَعْهُ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهَا فَعَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لِأَنَّ سَرِقَتَهُ تَمَّتْ فِي نِصَابٍ كَامِلٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّ السَّارِقَ إنَّمَا قَصَدَ إخْرَاجَ مَا يَعْلَمُ بِهِ دُونَ مَا لَا يَعْلَمُ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِالدَّرَاهِمِ فَقَصْدُهُ أَخْذُ الدَّرَاهِمِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْهَا فَإِنَّ قَصْدَهُ الثَّوْبُ وَهُوَ لَا يُسَاوِي نِصَابًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الثَّوْبُ مِمَّا يُجْعَلُ وِعَاءً عَادَةً لِلدَّرَاهِمِ قُطِعَ وَإِلَّا لَا .
وَهُنَا رُدِّدَ بَيْنَ الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ ظُهُورُ قَصْدِ الْمَسْرُوقِ ، فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ قَصْدَ النِّصَابِ مِنْ الْمَالِ قُطِعَ وَإِلَّا لَا .
وَعَلَى هَذَا فَمَسْأَلَةُ الْعِلْمِ بِالْمَصْرُورِ وَعَدَمِهِ صَحِيحٌ ، إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ وَهُوَ الْمَدَارُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ وَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْإِقْرَارِ ، وَمَا تَقَدَّمَ هُوَ مَا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِعِلْمِهِ
بِمَا فِي الثَّوْبِ فَإِنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ دَلَالَةُ الْقَصْدِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ كِيسًا فِيهِ الدَّرَاهِمُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ لَمْ أَقْصِدْ لَمْ أَعْلَمْ .
( وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ ) لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ فَصَارَ كَبَابِ الدَّارِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّهُ يُحَرَّزُ بِبَابِ الدَّارِ مَا فِيهَا وَلَا يُحَرَّزُ بِبَابِ الْمَسْجِدِ مَا فِيهِ حَتَّى لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَتَاعِهِ .
قَالَ ( وَلَا الصَّلِيبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ وَلَا النَّرْدِ ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، بِخِلَافِ الدِّرْهَمِ الَّذِي عَلَيْهِ التِّمْثَالُ لِأَنَّهُ مَا أُعِدَّ لِلْعِبَادَةِ فَلَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ إبَاحَةِ الْكَسْرِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي الْمُصَلَّى لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ لِكَمَالِ الْمَالِيَّةِ وَالْحِرْزِ .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ صَاحِبُ مَالِكٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِإِحْرَازِ مِثْلِهِ ، وَكَذَا يُقْطَعُ عِنْدَهُمْ فِي بَابِ الدَّارِ ، فَقِيَاسُهُ عَلَيْهِ مِنْ رَدِّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ ، وَالْوَجْهُ مَا قُلْنَا ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ إمَّا لَيْسَ مُحَرَّزًا أَوْ فِي حِرْزِهِ شُبْهَةٌ إذْ هُوَ بَادٍ لِلْغَادِي وَالرَّائِحِ وَمَعَهَا يَنْتَفِي الْحَدُّ ، عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَقَامِ نَصْبِ الْخِلَافِ لِيُلْزِمَهُ ذَلِكَ بَلْ أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى أُصُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْصِبْ خِلَافًا وَإِنَّمَا يُعْتَرَضُ بِذَلِكَ لَوْ نَصَبَ الْخِلَافَ .
وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَا قَطْعَ بِسَرِقَةِ مَتَاعِ الْمَسْجِدِ كَحُصْرِهِ وَقَنَادِيلِهِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ ، وَكَذَا لَا يُقْطَعُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَالْأَصَحُّ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَا مَالِكَ لَهُ ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ يَنْتَفِي الْقَطْعُ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ .
( قَوْلُهُ وَلَا فِي صَلِيبٍ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَلَا الشِّطْرَنْجِ ) وَلَوْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ بِوَزْنِ قِرْطَعْبٍ ( وَلَا النَّرْدِ ) لِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ مَنْ أَخَذَهَا الْكَسْرَ : أَيْ إبَاحَةَ الْأَخْذِ لِلْكَسْرِ ( نَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ) فَلَا يَجِبُ إلَّا ضَمَانُ مَا فِيهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ ، وَالصَّلِيبُ مَا هُوَ بِهَيْئَةِ خَطَّيْنِ مُتَقَاطِعَيْنِ ، وَيُقَالُ لِكُلِّ جِسْمٍ صُلْبٍ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنْ كَانَ الصَّلِيبُ فِي مُصَلَّاهُمْ ) أَيْ مَعَابِدِهِمْ ( لَا يُقْطَعُ لِعَدَمِ الْحِرْزِ ) لِأَنَّهُ بَيْتٌ مَأْذُونٌ فِي دُخُولِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ فِي حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ عَلَى الْكَمَالِ ، وَجَوَابُهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَأْوِيلِ الْإِبَاحَةِ ، وَهُوَ عَامٌّ لَا يَخُصُّ غَيْرَ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمُسْقِطُ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ ) لِأَنَّ الْحُرَّ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُلِيِّ تَبَعٌ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهِ الصَّبِيَّ إسْكَاتَهُ أَوْ حَمْلَهُ إلَى مُرْضِعَتِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ هُوَ نِصَابٌ لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ .
وَالْخِلَافُ فِي الصَّبِيِّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ كَيْ لَا يَكُونَ فِي يَدِ نَفْسِهِ .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى سَارِقِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ حُلِيٌّ ) يَبْلُغُ نِصَابًا ، وَقَيَّدَ بِالْحُرِّ لِيَخْرُجَ الْعَبْدُ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
وَالْحُلِيُّ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ حَلْيٍ بِفَتْحِهَا مَا يُلْبَسُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ جَوْهَرٍ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يُقْطَعُ إذَا بَلَغَ مَا عَلَيْهِ نِصَابًا لِأَنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَحْدَهُ فَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ ، وَالْخِلَافُ فِي صَبِيٍّ لَا يَمْشِي وَلَا يَتَكَلَّمُ ) فَلَوْ كَانَ يَمْشِي وَيَتَكَلَّمُ وَيُمَيِّزُ لَا يُقْطَعُ إجْمَاعًا لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَكَانَ أَخْذُهُ خِدَاعًا وَلَا قَطْعَ فِي الْخِدَاعِ ، وَحَيْثُ لَمْ يَذْكُرْ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي الْخِلَافَ عَنْ أَصْحَابِنَا وَمَنْ ذَكَرَهُ كَصَاحِبِ الْمُخْتَلَفِ ذَكَرَ أَنَّهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقْطَعُ .
قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَإِلَّا أَوْهَمَ أَنَّهُ مَذْهَبُهُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ : يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ الْحُرِّ لِأَنَّهُ كَالْمَالِ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ كَمَا ذَكَرْنَا يَكُونُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ دُونَ مَا عَلَيْهِ وَإِلَّا لَأَخَذَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَهُ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَا قَطْعَ إلَّا بِأَخْذِ الْمَالِ فَلَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ إثْمُهُ وَعِقَابُهُ أَشَدَّ مِنْ سَارِقِ الْمَالِ .
فَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ جَلَّ جَلَالُهُ { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أُعْطِيَ بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ عَمَلَهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ } لَكِنَّ الْقَطْعَ الَّذِي هُوَ الْعُقُوبَةُ الدُّنْيَوِيَّةُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَرْعًا .
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَصْدِ تَسْكِيتِهِ أَوْ إبْلَاغِهِ إلَى مُرْضِعَتِهِ فَبَعِيدٌ بَعْدَ فَرْضِ تَحَقُّقِ سَرِقَتِهِ الظَّاهِرِ مِنْهَا خِلَافُهُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ
إذَا سَرَقَ إنَاءَ فِضَّةٍ فِيهِ نَبِيذٌ أَوْ ثَرِيدٌ ) أَوْ كَلْبًا عَلَيْهِ قِلَادَةُ فِضَّةٍ يُقْطَعُ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِنَاءَ تَابِعٌ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الْمَتْبُوعِ الْقَطْعُ لَمْ يَجِبْ فِي التَّابِعِ ، وَاعْتِقَادِي وُجُوبُ الْقَطْعِ فِي الْإِنَاءِ الْمُعَايَنِ ذَهَبِيَّتُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا كَانَ ، فَإِنَّ تَبَعِيَّتَهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْقَصْدِ بِالْأَخْذِ إلَيْهِ ، بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا أَصْلٌ مَقْصُودٌ بِالْأَخْذِ ، بَلْ الْقَصْدُ إلَيْهِ أَظْهَرُ مِنْهُ إلَى مَا فِيهِ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِمَالِيَّتِهِ إلَى أَضْعَافِ مَا فِيهِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ الْقَطْعِ إنَّمَا هُوَ التَّبَعِيَّةُ فِي قَصْدِ الْأَخْذِ لَا اعْتِبَارُ غَيْرِهِ وَلَا ظَاهِرَ يُفِيدُهُ ، وَمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَا فِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ الْعُيُونِ : سَرَقَ كُوزًا فِيهِ عَسَلٌ وَقِيمَةُ الْكُوزِ تِسْعَةٌ وَقِيمَةُ الْعَسَلِ دِرْهَمٌ يُقْطَعُ ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي دِرْهَمًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَ قُمْقُمَةً فِيهَا مَاءٌ يُسَاوِي عَشَرَةً لِأَنَّهُ سَرَقَ مَاءً مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَبْسُوطِ فِيمَنْ سَرَقَ ثَوْبًا لَا يُسَاوِي عَشَرَةً مَصْرُورٌ عَلَيْهِ عَشَرَةٌ ، قَالَ : يُقْطَعُ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ .
( وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ ) لِأَنَّهُ غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ ( وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ ) لِتَحَقُّقِهَا بِحَدِّهَا إلَّا إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ هُوَ وَالْبَالِغُ سَوَاءٌ فِي اعْتِبَارِ يَدِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَوْ بِعَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ إلَّا أَنَّهُ انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الْكَبِيرِ ) يَعْنِي الْعَبْدَ الْمُمَيِّزَ الْمُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَّا إذَا كَانَ نَائِمًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ سَيِّدِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي الطَّاعَةِ فَحِينَئِذٍ يُقْطَعُ ، ذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ ابْنُ قُدَامَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ مَشَايِخُنَا ، بَلْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا قَطْعَ فِي الْآدَمِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ سَوَاءٌ كَانَ نَائِمًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْجَمِيًّا ، وَقَالُوا : هُوَ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ ، بَلْ إمَّا غَصْبٌ أَوْ خِدَاعٌ ( وَيُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ الْعَبْدِ الصَّغِيرِ ) الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَعَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا أَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ آدَمِيٌّ مِنْ وَجْهٍ ، فَصَارَ كَوْنُهُ آدَمِيًّا شُبْهَةً فِي مَالِيَّتِهِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ ، فَالدَّفْعُ مِنْهُمَا لَا بُدَّ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ فُسُوقُ اسْتِدْلَالِهِمَا كَمَا قِيلَ .
وَلَهُمَا أَنَّ حَقِيقَةَ السَّرِقَةِ وَهُوَ أَخْذُ مَالٍ مُعْتَبَرٍ خُفْيَةً مِنْ حِرْزٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ مَعَ بَاقِي الشُّرُوطِ قَدْ وُجِدَتْ فَيَجِبُ الْقَطْعُ غَيْرُ وَافٍ بِالْمَقْصُودِ ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( وَلَهُمَا أَنَّهُ مَالٌ مُطْلَقٌ لِأَنَّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ ) إنْ كَانَ يَمْشِي وَيَعْقِلُ ( أَوْ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ مُنْتَفَعًا بِهِ ) إنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ أَحْسَنَ مِنْهُ لِتَضَمُّنِ لَفْظِ مُطْلَقٍ مَنْعَ أَنَّ فِي مَالِيَّتِهِ شُبْهَةً وَانْضِمَامُ مَعْنَى الْآدَمِيَّةِ إلَيْهِ لَا يُوجِبُهَا بَعْدَ صِدْقِ مَعْنَى الْمَالِ الْكَامِلِ عَلَيْهِ كَيْفَ وَهُوَ مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ عِنْدَ النَّاسِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْمَالِيَّةِ يُصَيِّرُهُ كَمَالٍ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ فَسَارِقُهُ كَسَارِقِ دُرَّةٍ نَفِيسَةٍ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ ؛ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ بَلْ الْمَعْنَى عَلَى الْقَلْبِ وَهُوَ سَرِقَةُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِيمَا هُوَ مَالٌ لَمْ يَبْعُدْ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَنْعِ ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي مَالِيَّتِهِ بِمَا قُلْنَا .
( وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ ( إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ ) لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَوَاغِدَ .
قَالَ ( وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ ) لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهَا يُوجَدُ مُبَاحُ الْأَصْلِ غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهَا ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ إلَّا فِي دَفَاتِرِ الْحِسَابِ لِأَنَّ مَا فِيهَا لَا يُقْصَدُ بِالْأَخْذِ ) لِأَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ الْآخِذُ بِهِ نَفْعًا ( فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْكَوَاغِدَ ) وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ : وَلَا يُقْطَعُ فِي الدَّفَاتِرِ كُلِّهَا الْكُتُبُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى عِلْمِ الشَّرِيعَةِ كَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي غَيْرِهَا فَقِيلَ مُلْحَقَةٌ بِدَفَاتِرِ الْحِسَابِ فَيُقْطَعُ فِيهَا ، وَقِيلَ بِكُتُبِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا قَدْ تَتَوَقَّفُ عَلَى اللُّغَةِ وَالشِّعْرِ .
وَالْحَاجَةُ وَإِنْ قَلَّتْ كَفَتْ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ ، وَمُقْتَضِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْقَطْعِ بِكُتُبِ السِّحْرِ وَالْفَلْسَفَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ مَا فِيهَا لِأَهْلِ الدِّيَانَةِ فَكَانَتْ سَرِقَةً صَرْفًا ، وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ بِإِلْحَاقِهَا بِالْكُتُبِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَتْ إيَّاهَا إذْ لَا تَتَوَقَّفُ مَعْرِفَةُ الشَّرِيعَةِ عَلَى مَا فِيهَا ، بِخِلَافِ كُتُبِ الْأَدَبِ وَالشِّعْرِ .
وَيُمْكِنُ فِي كُتُبِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ عَدَمُ الْقَطْعِ .
وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْطَعُ بِالْكُلِّ مِنْ كُتُبِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهَا ، لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَأَنْتَ سَمِعْت مَا بِهِ الدَّفْعُ .
( قَوْلُهُ وَلَا فِي سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ ) بِالْإِجْمَاعِ ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ قَرِينِ ابْنِ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ قَالَ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ .
أَمَّا فِي الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ كَكَلْبِ الصَّيْدِ وَالْمَاشِيَةِ فَيُقْطَعُ ، وَقُلْنَا هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ وَبِحَسَبِ الْأَصْلِ هُوَ ( غَيْرُ مَرْغُوبٍ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ظَاهِرٌ فِي مَالِيَّةِ الْكَلْبِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةً ) فِيهَا .
( وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ ) لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ آخِذُهَا يَتَأَوَّلُ الْكَسْرَ فِيهَا .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ فِي دُفٍّ وَلَا طَبْلٍ وَلَا بَرْبَطٍ وَلَا مِزْمَارٍ ) وَكَذَا جَمِيعُ آلَاتٍ اللَّهْوِ ( لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا قِيمَةَ لَهَا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَأَوَّلُ فِي أَخْذِهَا الْكَسْرَ ) وَفِي دَالِ الدُّفِّ الضَّمُّ وَالْفَتْحُ .
وَاخْتُلِفَ فِي طَبْلِ الْغُزَاةِ فَقِيلَ لَا يُقْطَعُ بِهِ ، وَاخْتَارَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ لِلَّهْوِ وَإِنْ كَانَ وَضْعُهُ لِغَيْرِهِ ، وَقِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لَيْسَ مَوْضُوعًا لِلَّهْوِ فَلَيْسَ آلَةَ لَهْوٍ .
( وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ وَالصَّنْدَلِ ) لِأَنَّهَا أَمْوَالٌ مُحَرَّزَةٌ لِكَوْنِهَا عَزِيزَةً عِنْدَ النَّاسِ وَلَا تُوجَدُ بِصُورَتِهَا مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
قَالَ ( وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ الْخُضْرِ وَالْيَاقُوتِ وَالزَّبَرْجَدِ ) لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَأَنْفَسِهَا وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ بِصُورَتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ غَيْرَ مَرْغُوبٍ فِيهَا فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
( قَوْلُهُ وَيُقْطَعُ فِي السَّاجِ وَالْقِنَا وَالْآبَنُوسِ ) وَهُوَ بِفَتْحِ الْبَاءِ فِيمَا سُمِعَ ( وَالصَّنْدَلِ ) وَالْعُودِ الرَّطْبِ لِأَنَّ كُلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ ، فَأَمَّا كَوْنُهَا تُوجَدُ مُبَاحَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَةٌ فِي سُقُوطِ الْقَطْعِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَمْوَالِ حَتَّى الدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ مُبَاحَةٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَعَ هَذَا يُقْطَعُ فِيهَا فِي دَارِنَا .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ : لَا قَطْعَ فِي الْعَاجِ مَا لَمْ يُعْمَلْ ، وَكَذَا نَقَلَ الْبَقَّالِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْآبَنُوسِ ، وَالظَّاهِرُ الْقَطْعُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي الْعَاجِ لِمَا قِيلَ مِنْ نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفِيلِ فَإِنَّهُ يَنْفِي مَالِيَّةَ الْعَاجِ فَحَلَّتْ الشُّبْهَةُ فِي الْمَالِيَّةِ ( وَيُقْطَعُ فِي الْفُصُوصِ ) النَّفِيسَةِ ( وَالزَّبَرْجَدِ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ الْأَمْوَالِ ، وَلَا تُوجَدُ مُبَاحَةَ الْأَصْلِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَصَارَتْ كَالذَّهَبِ ) .
( وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا ) لِأَنَّهُ بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُحَرَّزُ بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ فِيهِ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ حَتَّى يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ ، وَفِي الْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ قَالُوا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي سَرِقَتِهَا لِغَلَبَةِ الصَّنْعَةِ عَلَى الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَطْعُ فِي غَيْرِ الْمُرَكَّبِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ خَفِيفًا لَا يَثْقُلُ عَلَى الْوَاحِدِ حَمْلُهُ لِأَنَّ الثَّقِيلَ مِنْهُ لَا يُرْغَبُ فِي سَرِقَتِهِ
( قَوْلُهُ وَإِذَا اتَّخَذَ مِنْ الْخَشَبِ أَوَانِيَ وَأَبْوَابًا قُطِعَ فِيهَا لِأَنَّهُ ) أَيْ الْخَشَبَ ( بِالصَّنْعَةِ الْتَحَقَتْ بِالْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ ) وَلِهَذَا تُحَرَّزُ ( بِخِلَافِ الْحَصِيرِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَمْ تَغْلِبْ عَلَى الْجِنْسِ ) لِتَنْقَطِعَ مُلَاحَظَتُهُ بِهَا فَلَمْ تَخْرُجْ بِهَا مِنْ كَوْنِهَا تَافِهًا بَيْنَ النَّاسِ ( حَتَّى إنَّ الْحَصِيرَ يُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ ) وَكَذَا الْقَصَبُ الْمَصْنُوعُ بَوَارِي ، بِخِلَافِ الْخَشَبِ فَإِنَّهُ غَلَبَتْ الصَّنْعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَصْلِ فَقُطِعَ فِيمَا اتَّصَلَتْ بِهِ مِنْهُ ، حَتَّى لَوْ غَلَبَتْ فِي الْحُصْرِ أَيْضًا قُطِعَ فِيهَا كَالْحُصْرِ الْبَغْدَادِيَّةِ وَالْعَبْدَانِيَّةُ فِي دِيَارِ مِصْرَ والْإسْكَنْدَرانيَّة وَهِيَ الْعَبْدَانِيَّةُ .
وَيُقْطَعُ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِالْحُصْرِ مُطْلَقًا .
هَذَا وَفِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ : سَرَقَ جُلُودَ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ لَا يُقْطَعُ ، فَإِذَا جُعِلَتْ مُصَلًّى أَوْ بِسَاطًا يُقْطَعُ .
هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ ؛ لِأَنَّهَا إذَا جُعِلَتْ ذَلِكَ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ جُلُودَ السِّبَاعِ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ اسْمًا آخَرَ ا هـ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ غَلَبَةَ الصَّنْعَةِ الَّتِي يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْجِنْسِ بِهَا أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهَا اسْمٌ .
وَعَلِمْتَ عَدَمَ الْقَطْعِ فِي الْحُصْرِ الَّتِي لَيْسَتْ بِنَفِيسَةٍ مَعَ تَجَدُّدِ اسْمٍ آخَرَ لَهَا فَلْيَكُنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ إحْرَازِهَا حَيْثُ كَانَتْ تُبْسَطُ فِي غَيْرِ الْحِرْزِ أَوْ لِأَنَّ شُبْهَةَ التَّفَاهَةِ فِيهَا كَمَا قَالُوا إنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي الْمِلْحِ لِذَلِكَ ؛ وَلَا يُقْطَعُ فِي الْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ لَمْ تَغْلِبْ فِيهَا عَلَى قِيمَتِهَا .
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ فِي الزُّجَاجِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَسْرُعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ فَكَانَ نَاقِصَ الْمَالِيَّةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ كَالْخَشَبِ إذَا صُنِعَ مِنْهُ الْأَوَانِي ، ثُمَّ إنَّمَا يُقْطَعُ فِي الْبَابِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْخَشَبِ إذَا كَانَ غَيْرَ مُرَكَّبٍ عَلَى الْجِدَارِ بَلْ مَوْضُوعٌ دَاخِلَ الْحِرْزِ .
أَمَّا الْمُرَكَّبُ فَلَا يُقْطَعُ
بِهِ عِنْدَنَا فَصَارَ كَسَرِقَةِ ثَوْبٍ بُسِطَ عَلَى الْجِدَارِ إلَى السِّكَّةِ ، وَغَيْرُ الْمُرَكَّبِ لَا يُقْطَعُ بِهِ إذَا كَانَ ثَقِيلًا لَا يَحْمِلُهُ الْوَاحِدُ لِأَنَّهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ .
وَنُظِرَ فِيهِ بِأَنَّ ثِقَلَهُ لَا يُنَافِي مَالِيَّتَهُ وَلَا يُنْقِصُهَا .
فَإِنَّمَا تَقِلُّ فِيهِ رَغْبَةُ الْوَاحِدِ لَا الْجَمَاعَةِ .
وَلَوْ صَحَّ هَذَا امْتَنَعَ الْقَطْعُ فِي فَرْدَةِ حِمْلٍ مِنْ قُمَاشٍ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، وَلِذَا أَطْلَقَ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي الْقَطْعَ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ .
وَفِي الشَّامِلِ فِي كِتَابِ الْمَبْسُوطِ : وَقَدْ مَرَّ أَنَّ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ يُقْطَعُ فِي بَابِ الدَّارِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَمُحَرَّزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فِيهِ وَحِرْزُ حَائِطِ الدَّارِ بِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا فِيهَا إذَا كَانَتْ فِي الْعُمْرَانِ ، وَمَا كَانَ حِرْزًا لِنَفْسِهِ يَكُونُ حِرْزًا لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا مَمْنُوعٌ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ مِثْلُهُ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْحِرْزِ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ ) لِقُصُورٍ فِي الْحِرْزِ ( وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ ) لِأَنَّهُ يُجَاهِرُ بِفِعْلِهِ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ فِي مُخْتَلِسٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ }
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ إلَخْ ) وَهُمَا اسْمَا فَاعِلٍ مِنْ الْخِيَانَةِ وَهُوَ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى شَيْءٍ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ أَوْ الْوَدِيعَةِ فَيَأْخُذَهُ وَيَدَّعِيَ ضَيَاعَهُ ، أَوْ يُنْكِرَ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً أَوْ عَارِيَّةً ، وَعَلَّلَهُ بِقُصُورِ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي يَدِ الْخَائِنِ وَحِرْزِهِ لَا حِرْزِ الْمَالِكِ عَلَى الْخُلُوصِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حِرْزَهُ وَإِنْ كَانَ حِرْزًا لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ أَحْرَزَهُ بِإِيدَاعِهِ عِنْدَهُ لَكِنَّهُ حِرْزٌ مَأْذُونٌ لِلسَّارِقِ فِي دُخُولِهِ .
( قَوْلُهُ وَلَا مُنْتَهِبٍ ) لِأَنَّهُ مُجَاهِرٌ بِفِعْلِهِ لَا مُخْتَفٍ فَلَا سَرِقَةَ فَلَا قَطْعَ ( وَكَذَا الْمُخْتَلِسُ ) فَإِنَّهُ الْمُخْتَطِفُ لِلشَّيْءِ مِنْ الْبَيْتِ وَيَذْهَبُ أَوْ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ .
وَفِي سُنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَسَكَتَ عَنْهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ مِنْهُمَا .
وَتَعْلِيلُ أَبِي دَاوُد مَرْجُوحٌ بِذَلِكَ .
وَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَكِنَّ مَذْهَبَ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ فِي جَاحِدِ الْعَارِيَّةِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَطْعِهَا } وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَخَذُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ .
وَأَجَابُوا عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ بِأَنَّ الْقَطْعَ كَانَ عَنْ سَرِقَةٍ صَدَرَتْ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَيْضًا مُتَّصِفَةً مَشْهُورَةً بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ فَعَرَّفَتْهَا عَائِشَةُ بِوَصْفِهَا الْمَشْهُورِ ، فَالْمَعْنَى امْرَأَةٌ كَانَ وَصْفُهَا جَحْدَ الْعَارِيَّةِ فَسَرَقَتْ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا بِدَلِيلِ أَنَّ فِي قِصَّتِهَا { أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ شَفَعَ فِيهَا الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ : فَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ خَطِيبًا فَقَالَ إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ } وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّعَدُّدِ وَلِلْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ خُصُوصًا وَقَدْ تَلَقَّتْ الْأُمَّةُ الْحَدِيثَ الْآخَرَ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، فَلَوْ فُرِضَ أَنَّهَا لَمْ تَسْرِقْ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ اللَّيْثِ : حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : كَانَ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ : { اسْتَعَارَتْ امْرَأَةٌ مِنِّي حُلِيًّا عَلَى أَلْسِنَةِ أُنَاسٍ يَعْرِفُونَ وَلَا تَعْرِفُ هِيَ فَبَاعَتْهُ ، فَأُخِذَتْ فَأُتِيَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهَا } ، وَهِيَ الَّتِي شَفَعَ فِيهَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَقَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ كَانَ حَدِيثُ جَابِرٍ مُقَدَّمًا .
وَيُحْمَلُ الْقَطْعُ بِجَحْدِ الْعَارِيَّةِ عَلَى النَّسْخِ ، وَكَذَا لَوْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ { وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ امْرَأَةً بِجَحْدِ الْمَتَاعِ ، وَأُخْرَى بِالسَّرِقَةِ } يُحْمَلُ عَلَى نَسْخِ الْقَطْعِ بِالْعَارِيَّةِ بِمَا قُلْنَا .
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ رُكَانَةَ عَنْ أُمِّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ مَسْعُودِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا قَالَ { لَمَّا سَرَقَتْ الْمَرْأَةُ تِلْكَ الْقَطِيفَةَ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمْنَا ذَلِكَ ، وَكَانَتْ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ ، فَجِئْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُكَلِّمُهُ فِيهَا وَقُلْنَا : وَنَحْنُ نَفْدِيهَا بِأَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَطْهُرُ خَيْرًا لَهَا ، فَأَتَيْنَا أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَقُلْنَا لَهُ : كَلِّمْ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ : مَا إكْثَارُكُمْ عَلَيَّ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت يَدَهَا } قَالَ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ .
وَقِيلَ هِيَ أُمُّ عَمْرٍو بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُفْيَانَ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ } وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْرَزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي } وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ فِي الْمِلْكِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَيِّتِ حَقِيقَةً وَلَا لِلْوَارِثِ لِتَقَدُّمِ حَاجَةِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِانْزِجَارُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِي نَفْسِهَا نَادِرَةُ الْوُجُودِ وَمَا رَوَاهُ غَيْرُ مَرْفُوعٍ أَوْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الصَّحِيحِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّاهُ .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى النَّبَّاشِ ) وَهُوَ الَّذِي يَسْرِقُ أَكْفَانَ الْمَوْتَى بَعْدَ الدَّفْنِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ) وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ( عَلَيْهِ الْقَطْعُ ) وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ أَبُو ثَوْرٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَقَتَادَةَ وَحَمَّادٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ .
ثُمَّ الْكَفَنُ الَّذِي يُقْطَعُ بِهِ مَا كَانَ مَشْرُوعًا فَلَا يُقْطَعُ فِي الزَّائِدِ عَلَى كَفَنِ السُّنَّةِ وَكَذَا مَا تُرِكَ مَعَهُ مِنْ طِيبٍ أَوْ مَالٍ ذَهَبٍ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ تَضْيِيعٌ وَسَفَهٌ فَلَيْسَ مُحَرَّزًا .
وَفِي الْوَجِيزِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْعَدَدِ الشَّرْعِيِّ وَجْهَانِ ، ثُمَّ الْكَفَنُ لِلْوَارِثِ عِنْدَهُمْ فَهُوَ الْخَصْمُ فِي الْقَطْعِ ، وَإِنْ كَفَّنَهُ أَجْنَبِيٌّ فَهُوَ الْخَصْمُ لِأَنَّهُ لَهُ ( لَهُمْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَبَشَ قَطَعْنَاهُ } ) وَهُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَصَرَّحَ بِضَعْفِهِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ يُجْهَلُ حَالُهُ كَبِشْرِ بْنِ حَازِمٍ وَغَيْرِهِ ، وَمِثْلُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ( { لَا قَطْعَ عَلَى الْمُخْتَفِي } قَالَ : وَهُوَ النَّبَّاشُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ) أَيْ بِعُرْفِهِمْ .
وَأَمَّا الْآثَارُ فَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَطَعَ نَبَّاشًا .
وَهُوَ ضَعِيفٌ ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ ، ثُمَّ أَعَلَّهُ بِسُهَيْلِ بْنِ ذَكْوَانَ الْمَكِّيِّ .
قَالَ عَطَاءٌ : كُنَّا نَتَّهِمُهُ بِالْكَذِبِ .
وَيُمَاثِلُهُ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَفِيهِ مَجْهُولٌ قَالَ : حَدَّثَنَا شَيْخٌ لَقِيته بِمِنًى عَنْ رَوْحِ بْنِ قَاسِمٍ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَيْسَ عَلَى النَّبَّاشِ قَطْعٌ .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى الْأَسْلَمِيُّ قَالَ : أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّهُ وَجَدَ قَوْمًا يَخْتَفُونَ الْقُبُورَ بِالْيَمَنِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَكَتَبَ فِيهِمْ إلَى عُمَرَ ، فَكَتَبَ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ اقْطَعْ أَيْدِيَهُمْ .
فَأَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أُتِيَ مَرْوَانُ بِقَوْمٍ يَخْتَفُونَ : أَيْ يَنْبُشُونَ الْقُبُورَ فَضَرَبَهُمْ وَنَفَاهُمْ وَالصَّحَابَةُ مُتَوَافِرُونَ ا هـ .
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ بِهِ ، وَزَادَ : وَطَوَّفَ بِهِمْ .
وَكَذَا أَحْسَنُ مِنْهُ بِلَا شَكٍّ مَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أُخِذَ نَبَّاشٌ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ مَرْوَانُ عَلَى الْمَدِينَةِ فَسَأَلَ مَنْ بِحَضْرَتِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ فَأَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ وَيُطَافَ بِهِ ا هـ .
وَحِينَئِذٍ لَا شَكَّ فِي تَرْجِيحِ مَذْهَبِنَا مِنْ جِهَةِ الْآثَارِ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَلَهُمْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مُحَرَّزٌ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ فِيهِ .
أَمَّا الْمَالِيَّةُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْحِرْزُ فَلِأَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْمَيِّتِ وَثِيَابُهُ تَبَعٌ لَهُ فَيَكُونُ حِرْزًا لَهَا أَيْضًا ، وَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقَبْرَ بَيْتًا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ أَنْتَ إذَا أَصَابَ النَّاسَ مَوْتٌ يَكُونُ الْبَيْتُ فِيهِ بِالْوَصِيفِ ؟ يَعْنِي الْقَبْرَ ، وَقُلْت : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، أَوْ مَا خَارَ اللَّهُ لِي وَرَسُولُهُ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عَلَيْك بِالصَّبْرِ } وَقَدْ بَوَّبَ أَبُو دَاوُد عَلَيْهِ فَقَالَ : بَابُ قَطْعِ النَّبَّاشِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَاسْتَدَلَّ بِهِ أَبُو دَاوُد لِأَنَّهُ سَمَّى
الْقَبْرَ بَيْتًا وَالْبَيْتُ حِرْزٌ وَالسَّارِقُ مِنْ الْحِرْزِ يُقْطَعُ وَلِأَنَّهُ حِرْزُ مِثْلِهِ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ مَا يَلِيقُ بِهِ .
فَحِرْزُ الدَّوَابِّ بِالْإِصْطَبْلِ وَالدُّرَّةُ بِالْحُقِّ وَالصُّنْدُوقِ وَالشَّاةِ بِالْحَظِيرَةِ ، فَلَوْ سُرِقَ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا قُطِعَ ، وَلَوْ سَرَقَ الدُّرَّةَ مِنْ إصْطَبْلٍ أَوْ مِنْ حَظِيرَةٍ لَا يُقْطَعُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا كَفَّنَ صَبِيًّا مِنْ مَالِهِ لَا يَضْمَنُ لِوَرَثَتِهِ شَيْئًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا كَانَ تَضْيِيعًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَكَانَ أَخْذُ الْكَفَنِ مِنْ الْقَبْرِ عَيْنَ السَّرِقَةِ .
وَالْجَوَابُ أَوَّلًا مَنْعُ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ حُفْرَةٌ فِي الصَّحْرَاءِ مَأْذُونٌ لِلْعُمُومِ فِي الْمُرُورِ بِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا غَلَقَ عَلَيْهِ وَلَا حَارِسَ مُتَصَدٍّ لِحِفْظِهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مُجَرَّدُ دَعْوَى أَنَّهُ حِرْزٌ تَسْمِيَةً ادِّعَائِيَّةً بِلَا مَعْنًى وَهُوَ مَمْنُوعٌ .
وَلُزُومُ التَّضْيِيعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ حِرْزًا مَمْنُوعٌ بَلْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَصْرُوفًا إلَى حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَالصَّرْفُ إلَى الْحَاجَةِ لَيْسَ تَضْيِيعًا فَلِذَا لَا يُضْمَنُ ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَا يَنْزِلُ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِي حِرْزِيَّتِهِ شُبْهَةٌ وَبِهِ يَنْتَفِي الْقَطْعُ وَيَبْقَى ثُبُوتُ الشُّبْهَةِ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا .
وَفِي ثُبُوتِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْحَدِّ وَهُوَ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ زِيَادَةً فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُوجِبُ الدَّرْءَ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْكَفَنَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ ، لَا لِلْمَيِّتِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ وَلَا لِلْوَارِثِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مِنْ التَّرِكَةِ إلَّا مَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ الْمَيِّتِ وَلِذَا يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَرِيمِ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِحَقِّهِ .
فَإِنْ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ لَمْ يُقْطَعْ .
وَإِلَّا فَتَحَقَّقَتْ شُبْهَةٌ فِي مَمْلُوكِيَّتِهِ بِقَوْلِنَا فَلَا يُقْطَعُ بِهِ أَيْضًا .
بَلْ نَقُولُ : تَحَقَّقَ قُصُورٌ فِي نَفْسِ
مَالِيَّةِ الْكَفَنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالَ مَا يَجْرِي فِيهِ الرَّغْبَةُ وَالضِّنَّةُ وَالْكَفَنُ يَنْفِرُ عَنْهُ كُلُّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ كُفِّنَ بِهِ مَيِّتٌ إلَّا نَادِرًا مِنْ النَّاسِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ شَرْعَ الْحَدِّ لِلِانْزِجَارِ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ لَمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ .
فَأَمَّا مَا يَنْدُرُ فَلَا يُشْرَعُ فِيهِ لِوُقُوعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ لِأَنَّ الِانْزِجَارَ حَاصِلٌ طَبْعًا كَمَا قُلْنَا فِي عَدَمِ الْحَدِّ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِتَسْمِيَتِهِ بَيْتًا فَأَبْعَدُ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ إمَّا مَجَازٌ فَإِنَّ الْبَيْتَ مَا يَحُوطُهُ أَرْبَعُ حَوَائِطَ تُوضَعُ لِلْبَيْتِ وَلَيْسَ فِي الْقَبْرِ كَذَلِكَ ، عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْتِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْحِرْزَ فَقَدْ يَصْدُقُ مَعَ عَدَمِ الْحِرْزِ أَصْلًا كَالْمَسْجِدِ .
وَمَعَ الْحِرْزِ مَعَ نُقْصَانٍ وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَمَعَ الْحِرْزِ التَّامِّ ، فَمُجَرَّدُ تَسْمِيَتِهِ بَيْتًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَطْعَ خُصُوصًا فِي مَقَامِ وُجُوبِ دَرْئِهِ مَا أَمْكَنَ ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى بَعْضِ الْمَاصَدَقَاتِ الَّتِي لَا حَدَّ مَعَهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَهَذَا فِي الْقَبْرِ الْكَائِنِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْقَبْرُ فِي بَيْتٍ مُقْفَلٍ فَقِيلَ يُقْطَعُ بِهِ لِوُجُودِ الْحِرْزِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ فَلَا يُقْطَعُ عِنْدَنَا وَإِنْ وُجِدَ الْحِرْزُ لِلْمَوَانِعِ الْأُخَرِ مِنْ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ وَعَدَمِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَالْمَقْصُودِ مِنْ شَرْعِهِ ( وَكَذَا إذَا سَرَقَ مِنْ تَابُوتٍ فِي الْقَافِلَةِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ تَحَقُّقِ الْخَلَلِ فِي الْمَالِيَّةِ وَمَا بَعْدَهَا .
هَذَا وَلَوْ اعْتَادَ لِصٌّ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهُ سِيَاسَةً لَا حَدًّا ، وَهُوَ مَحْمَلُ مَا رَوَاهُ لَوْ صَحَّ .
( وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) لِأَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ .
قَالَ ( وَلَا مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ ) لِمَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْطَعُ وَهُوَ قَوْلُ حَمَّادٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ لِظَاهِرِ الْكِتَابِ .
وَلِأَنَّهُ مَالٌ مُحَرَّزٌ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ قَبْلَ الْحَاجَةِ ( وَلَنَا أَنَّهُ مَالُ الْعَامَّةِ وَهُوَ مِنْهُمْ ) وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ مِثْلُهُ ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالَ : أَرْسِلْهُ فَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ ( وَلَا يُقْطَعُ مِنْ مَالٍ لِلسَّارِقِ فِيهِ شَرِكَةٌ ) بِأَنْ يَسْرِقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ حِرْزِ الْآخَرِ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ( لِمَا قُلْنَا ) مِنْ أَنَّ لِلسَّارِقِ فِيهِ حَقًّا .
( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِنْهُ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ ) ، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِيهِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ ، وَكَذَا إذَا سَرَقَ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِيهِ ( وَإِنْ سَرَقَ مِنْهُ عُرُوضًا قُطِعَ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ إلَّا بَيْعًا بِالتَّرَاضِي .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ قَضَاءً مِنْ حَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِحَقِّهِ .
قُلْنَا : هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَلَا يُعْتَبَرُ بِدُونِ اتِّصَالِ الدَّعْوَى بِهِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنٌّ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَلَوْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ فَسَرَقَ مِنْهُ دَنَانِيرَ قِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ ، وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ النُّقُودَ جِنْسٌ وَاحِدٌ
( قَوْلُهُ وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَسَرَقَ مِثْلَهَا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ ، وَالْحَالُّ وَالْمُؤَجَّلُ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَخْذُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ ثُبُوتَ الْحَقِّ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ يَصِيرُ شُبْهَةً دَارِئَةً وَإِنْ كَانَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِعْطَاءُ الْآنَ ( وَكَذَا لَوْ سَرَقَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ) لَا يُقْطَعُ ( لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ الْمَالِ ) بِمِقْدَارِ حَقِّهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَدْيُونِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ مُمَاطِلًا أَوْ غَيْرَ مُمَاطِلٍ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي تَفْصِيلِهِ بَيْنَ الْمُمَاطِلِ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ وَغَيْرِ الْمُمَاطِلِ فَيُقْطَعُ .
وَلَوْ أُخِذَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ ، فَإِنْ كَانَ حَقُّهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَأَخَذَ عُرُوضًا قُطِعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقُولَ : أَخَذْتهَا رَهْنًا بِدَيْنِي فَلَا يُقْطَعُ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ) قَضَاءً لِحَقِّهِ أَوْ رَهْنًا بِهِ ( قُلْنَا : هَذَا قَوْلٌ لَا يَسْتَنِدُ إلَى دَلِيلٍ ظَاهِرٍ ) فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً دَارِئَةً إلَّا إنْ ادَّعَى ذَلِكَ ( وَإِنْ كَانَ دَرَاهِمَ فَأَخَذَ دَنَانِيرَ ) أَوْ عَلَى الْقَلْبِ اُخْتُلِفَ فِيهِ ( قِيلَ يُقْطَعُ ) لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ قِصَاصًا بِحَقِّهِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ بَيْعًا فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّرَاضِي فَلَيْسَ لَهُ أَخْذُهَا ( وَقِيلَ لَا يُقْطَعُ ) لِلْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ، وَيُقْطَعُ لَوْ سَرَقَ حُلِيًّا مِنْ فِضَّةٍ وَدَيْنُهُ دَرَاهِمُ ، وَلَوْ سَرَقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ غَرِيمِ الْمَوْلَى قُطِعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى وَكَّلَهُمَا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ حِينَئِذٍ لَهُمَا .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ أَبِيهِ أَوْ غَرِيمِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ أَوْ غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ أَوْ غَرِيمِ
عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ قُطِعَ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ لِغَيْرِهِ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ غَرِيمِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يُقْطَعُ .
( وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا لَمْ يُقْطَعْ ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ ، وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ مُتَكَامِلَةٌ كَالْأُولَى بَلْ أَقْبَحُ لِتَقَدُّمِ الزَّاجِرِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ .
وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ السُّقُوطِ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ ، وَقِيَامُ الْمُوجِبِ وَهُوَ الْقَطْعُ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ سَبَبِهِ ، وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الْجِنَايَةِ مِنْهُ نَادِرٌ لِتَحَمُّلِهِ مَشَقَّةَ الزَّاجِرِ فَتُعَرَّى الْإِقَامَةُ عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَذَفَ الْمَحْدُودُ فِي قَذْفٍ الْمَقْذُوفَ الْأَوَّلَ .
قَالَ ( فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ غَزْلًا فَسَرَقَهُ وَقُطِعَ فَرَدَّهُ ثُمَّ نُسِجَ فَعَادَ فَسَرَقَهُ قُطِعَ ) لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ عَلَامَةُ التَّبَدُّلِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ ، وَإِذَا تَبَدَّلَتْ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ ، وَالْقَطْعُ فِيهِ فَوَجَبَ الْقَطْعُ ثَانِيًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ عَيْنًا فَقُطِعَ فِيهَا فَرَدَّهَا ) بِأَنْ كَانَتْ قَائِمَةً ( ثُمَّ عَادَ فَسَرَقَهَا وَهِيَ بِحَالِهَا يُقْطَعُ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ) وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ ( لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ ) فِيمَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ بِطَرِيقٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ الْيُسْرَى } الْحَدِيثَ ( وَلِأَنَّ السَّرِقَةَ الثَّانِيَةَ مِثْلُ الْأُولَى ) فِي سَبَبِيَّةِ الْقَطْعِ ( بَلْ أَفْحَشُ ) لِأَنَّ الْعَوْدَ بَعْدَ الزَّجْرِ أَقْبَحُ .
وَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ، وَيَخُصُّ أَبَا يُوسُفَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ عَادَ تَقَوُّمُهُ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لَوْ أَتْلَفَهُ بَعْدَ الرَّدِّ فَتَمَّتْ سَبَبِيَّةُ الْقَطْعِ كَمَا لَوْ سَرَقَ غَيْرَهُ أَوْ سَرَقَهُ هُوَ مِنْ غَيْرِهِ ( وَصَارَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَالِكُ مِنْ السَّارِقِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ثُمَّ كَانَتْ السَّرِقَةُ ) فَإِنَّهُ يُقْطَعُ اتِّفَاقًا .
( وَلَنَا أَنَّ الْقَطْعَ أَوْجَبَ سُقُوطَ عِصْمَةِ الْمَحَلِّ ) فِي حَقِّ السَّارِقِ ( وَبِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ إنْ عَادَتْ حَقِيقَةُ الْعِصْمَةِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ أَنَّهَا سَاقِطَةٌ نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ الْمِلْكِ وَالْمَحَلِّ وَقِيَامِ الْمُوجِبِ ) لِلسُّقُوطِ ( وَهُوَ الْقَطْعُ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ يُوجِبُ بَقَاءَ السُّقُوطِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالْقَطْعِ فَحَيْثُ عَادَتْ الْعِصْمَةُ وَانْتَفَى السُّقُوطُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ كَانَ مَعَ شُبْهَةِ عَدَمِهِ فَيَسْقُطُ بِهَا الْحَدُّ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَقَهُ غَيْرُهُ لِأَنَّ السُّقُوطَ لَيْسَ إلَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَقْطُوعِ يَدَهُ لَا سِوَاهُ فَيُقْطَعُ ، وَبِخِلَافِ صُورَةِ الْبَيْعِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّارِقِ وَسَرِقَةُ السَّارِقِ إيَّاهُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِيهِمَا تَبَدُّلَ الْمَلِكِ ، وَتَبَدُّلُ الْمِلْكِ يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْعَيْنِ حُكْمًا
كَمَا عُرِفَ مِنْ حَدِيثِ بَرِيرَةَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا مِنْهَا هَدِيَّةٌ } مَعَ أَنَّهُ عَيْنُ اللَّحْمِ ، مَعَ أَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِي صُورَةِ تَبَدُّلِ الْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَهُ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ مَشَايِخِ بُخَارَى يُقْطَعُ لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ حُكْمًا وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .
وَأَيْضًا فَتَكْرَارُ الْجِنَايَةِ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ نَادِرٌ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَنْدُرُ وُجُودُهُ لَا يُشْرَعُ فِيهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ زَاجِرَةٌ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تُعَرَّى عَنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ تَقْلِيلُ الْجِنَايَةِ ، إذْ هِيَ قَلِيلَةٌ بِالْفَرْضِ فَلَمْ تَقَعْ فِي مَحَلِّ الْحَاجَةِ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَذَفَ شَخْصًا فَحُدَّ بِهِ ثُمَّ قَذَفَهُ بِعَيْنِ ذَلِكَ الزِّنَا بِأَنْ قَالَ أَنَا بَاقٍ عَلَى نِسْبَتِي إلَيْهِ الزِّنَا الَّذِي نَسَبْته إلَيْهِ لَا يُحَدُّ ثَانِيًا ، فَكَذَا هَذَا ، أَمَّا لَوْ قَذَفَهُ بِزِنًا آخَرَ حُدَّ بِهِ .
وَأُورِدَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ النَّقْضُ بِالزِّنَا ثَانِيًا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي زَنَى بِهَا أَوَّلًا بَعْدَ أَنْ جُلِدَ حَدًّا بِزِنَاهُ الْأَوَّلِ بِهَا فَإِنَّهُ يُحَدُّ ثَانِيًا إجْمَاعًا ، فَلَمْ يَكُنْ تَقَدُّمُ الزَّاجِرِ مُوجِبًا لِعَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ .
ثَانِيًا وُقُوعُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَوْ شَرَعَ .
وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ فِي الزِّنَا لَا تَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ ، بِخِلَافِ السَّرِقَةِ ، وَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ يَتِمُّ بِهِ وَجْهُ اخْتِلَافِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ لَكِنَّهُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلنَّقْضِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِخُصُوصِهِ : أَعْنِي كَوْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوَّلًا تُوجِبُ نُدْرَةَ الْعَوْدِ فَتُوجِبُ عَدَمَ شَرْعِ الزَّاجِرِ فِي الْعَوْدِ ، وَكَذَا الْفَرْقُ بِأَنَّ الْقَطْعَ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَالْخُصُومَةُ لَا تَتَكَرَّرُ فِي مَحَلٍّ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ مُوجِبِ مَا هِيَ فِيهِ كَحَدِّ الْقَذْفِ غَيْرِ دَافِعِ الْوَارِدِ عَلَى خُصُوصِ
هَذَا الْوَجْهِ الْمُدَّعَى اسْتِقْلَالُهُ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ ) الْمَسْرُوقُ الَّذِي قُطِعَ بِهِ ( غَزْلًا ثُمَّ نُسِجَ ) بَعْدَ رَدِّهِ ( فَسَرَقَهُ ) ثَانِيًا ( قُطِعَ ) وَكَذَا لَوْ كَانَ قُطْنًا فَصَارَ غَزْلًا ( لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ تَبَدَّلَتْ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ مَعَ قِيَامِهِ بِصُورَةِ الثَّوْبِ .
وَإِذَا تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ انْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ وَالْقَطْعِ ) وَهُوَ بِالْجَرِّ عَطْفٌ عَلَى لَفْظِ اتِّحَادِ لَا عَلَى لَفْظِ الْمَحَلِّ : أَيْ وَانْتَفَتْ الشُّبْهَةُ النَّاشِئَةُ مِنْ الْقَطْعِ لَا مِنْ اتِّحَادِ الْقَطْعِ وَهِيَ شُبْهَةُ قِيَامِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْعَيْنِ وَالتَّغَيُّرُ يُوجِبُهَا شَيْئًا آخَرَ .
فَإِنْ قِيلَ : الْعَيْنُ قَائِمَةٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا تَبَدَّلَ الِاسْمُ وَالصُّورَةُ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الْمُتَمَكِّنَ قَبْلَ تَبَدُّلِ الصُّورَةِ شُبْهَةُ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ فَكَانَ الْمُتَمَكِّنُ بَعْدَهُ شُبْهَةَ الشُّبْهَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : وَإِذَا سَرَقَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً وَقُطِعَ بِهِ وَرَدَّهُ فَجَعَلَهُ الْمَسْرُوقُ مِنْهُ آنِيَةً أَوْ كَانَتْ آنِيَةً فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ ثُمَّ عَادَ السَّارِقُ فَسَرَقَهُ لَا يُقْطَعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعَيْنَ لَمْ تَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ ، وَقَالَا : يُقْطَعُ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ .
وَفِي كِفَايَةِ الْبَيْهَقِيّ : سَرَقَ ثَوْبًا فَخَاطَهُ ثُمَّ رَدَّهُ فَنُقِضَ فَسَرَقَ الْمَنْقُوضَ لَا يُقْطَعُ ، لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ فَلَمْ يَصِرْ فِي حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى .
.
فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ
( فَصْلٌ فِي الْحِرْزِ وَالْأَخْذِ مِنْهُ ) .
قَدَّمَ بَيَانَ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْمَسْرُوقِ وَهُوَ مَا يُقْطَعُ فِيهِ وَمَا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ كَلَامٌ فِي ذَاتِهِ ، ثُمَّ ثَنَّى بِحِرْزِهِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهُ ، ثُمَّ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْحِرْزِ شَرْطٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ فِي الْحِرْزِ قُطِعَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِهِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ مِثْلُ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ .
وَعَنْ دَاوُد لَا يُعْتَبَرُ الْحِرْزُ أَصْلًا .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ عَمَّنْ نُقِلَتْ عَنْهُ ، وَلَا مَقَالَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ كَالْإِجْمَاعِ ، قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنْ لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِجَنِّ ، وَلَا قَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ فَتَخَصَّصَتْ الْآيَةُ بِهِ فَجَازَ تَخْصِيصُهَا بَعْدَهُ بِمَا هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِجْمَاعِيَّةِ وَمَا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ ، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ .
ثُمَّ الْحِرْزُ مَا عُدَّ عُرْفًا حِرْزًا لِلْأَشْيَاءِ لِأَنَّ اعْتِبَارَهُ ثَبَتَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى بَيَانِهِ ، فَيُعْلَمُ بِهِ أَنَّهُ رُدَّ إلَى عُرْفِ النَّاسِ فِيهِ وَالْعُرْفُ يَتَفَاوَتُ وَقَدْ يَتَحَقَّقُ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِذَلِكَ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُحَرَّزُ فِيهِ الشَّيْءُ ، وَكَذَا هُوَ فِي الشَّرْعِ إلَّا أَنَّهُ بِقَيْدِ الْمَالِيَّةِ : أَيْ الْمَكَانُ الَّذِي يُحَرَّزُ فِيهِ الْمَالُ كَالدَّارِ وَالْحَانُوتِ وَالْخَيْمَةِ وَالشَّخْصِ نَفْسِهِ ، وَالْمُحَرَّزُ مَا لَا يُعَدُّ صَاحِبُهُ مُضَيِّعًا
( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لَمْ يُقْطَعْ ) فَالْأَوَّلُ وَهُوَ الْوِلَادُ لِلْبُسُوطَةِ فِي الْمَالِ وَفِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ .
وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي ، وَلِهَذَا أَبَاحَ الشَّرْعُ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهَا ، بِخِلَافِ الصَّدِيقَيْنِ لِأَنَّهُ عَادَاهُ بِالسَّرِقَةِ .
وَفِي الثَّانِي خِلَافُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ أَلْحَقَهَا بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ ( وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مَتَاعَ غَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَهُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ ) اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ ( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ ، بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِهَا لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ بِالزِّنَا وَالتَّقْبِيلِ عَنْ شَهْوَةٍ ، وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطَةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ مِنْ أَبَوَيْهِ ) وَإِنْ عَلَيَا ( أَوْ وَلَدِهِ ) وَإِنْ سَفَلَ ( أَوْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ) كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ ( لَا يُقْطَعُ ) وَقَالَ مَالِكٌ وَشُذُوذٌ : يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ الْأَبَوَيْنِ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِهِمَا ، وَلِذَا يُحَدُّ بِالزِّنَا بِجَارِيَتِهِمَا وَيُقْتَلُ بِقَتْلِهِمَا وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُ فِي الْكَافِي ، أَمَّا فِي الْوِلَادِ فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُقْطَعُ الْأَبُ أَيْضًا فِي سَرِقَةِ مَالِ ابْنِهِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ الْوِلَادِ .
أَمَّا وَجْهُ الْأَوَّلِ : أَيْ عَدَمُ الْقَطْعِ فِي قَرَابَةِ الْوِلَادِ فَلِأَنَّهَا عَادَةً تَكُونُ مَعَهَا الْبُسُوطَةُ فِي الْمَالِ وَالْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ حَتَّى يُعَدُّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْآخَرِ وَلِذَا مُنِعَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ شَرْعًا ، وَيَخُصُّ سَرِقَةَ الْأَبِ مِنْ مَالِ الِابْنِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَأَمَّا غَيْرُ الْوِلَادِ وَهُوَ الَّذِي أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( وَالثَّانِي لِلْمَعْنَى الثَّانِي ) أَيْ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ فِي الْحِرْزِ فَأَلْحَقَهُمْ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ " مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ " وَنَحْنُ أَلْحَقْنَاهُ بِقَرَابَةِ الْوِلَادِ ، وَقَدْ رَأَيْنَا الشَّرْعَ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ وَافْتِرَاضِ الْوَصْلِ ، فَلِذَا أَلْحَقْنَاهُمْ بِهِمْ فِي عَدَمِ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ ، وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ ثَابِتٌ عَادَةً لِلزِّيَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَلِذَا حَلَّ النَّظَرُ مِنْهَا إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَالْعَضُدِ لِلدُّمْلُوجِ وَالصَّدْرِ لِلْقِلَادَةِ وَالسَّاقِ لِلْخَلْخَالِ .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ وَجَبَ سَتْرُهَا عَنْهُ مَعَ
كَثْرَةِ الدُّخُولِ عَلَيْهَا وَهِيَ مُزَاوِلَةُ الْأَعْمَالِ وَعَدَمِ احْتِشَامِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْآخَرِ .
وَأَيْضًا فَهَذِهِ الرَّحِمُ الْمُحَرَّمَةُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا ، وَبِالْقَطْعِ يَحْصُلُ الْقَطْعُ فَوَجَبَ صَوْنُهَا بِدَرْئِهِ ذَكَرَهُ فِي الْكَافِي وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُقْصَانِ الْحِرْزِ فِيهَا قَوْله تَعَالَى { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ } وَرَفْعُ الْجُنَاحِ عَنْ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ الْأَعْمَامِ أَوْ الْعَمَّاتِ مُطْلَقًا يُؤْنِسُ إطْلَاقَ الدُّخُولِ .
وَلَوْ سُلِّمَ فَإِطْلَاقُ الْأَكْلِ مُطْلَقًا يَمْنَعُ قَطْعَ الْقَرِيبِ ، ثُمَّ هُوَ إنْ تُرِكَ لِقِيَامِ دَلِيلِ الْمَنْعِ بَقِيَتْ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى وِزَانِ مَا قُلْنَا فِي { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ قَالَ { أَوْ صَدِيقِكُمْ } كَمَا قَالَ { أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ } وَالْحَالُ أَنَّهُ يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْ صَدِيقِهِ .
أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ سَرِقَةَ مَالِهِ فَقَدْ عَادَاهُ فَلَمْ يُقْطَعْ الْآخِذُ إلَّا فِي حَالِ الْعَدَاوَةِ ( وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مَتَاعَ غَيْرِهِ لَا يُقْطَعُ ، وَلَوْ سَرَقَ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ يُقْطَعُ اعْتِبَارًا لِلْحِرْزِ وَعَدَمِهِ ) فَسَرِقَةُ مَالِ الْغَيْرِ مِنْ بَيْتِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ سَرِقَةٌ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ، وَسَرِقَةُ مَالِ ذِي الرَّحِمِ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ سَرِقَةٌ مِنْ حِرْزٍ فَيُقْطَعُ ، وَهَذَا يُعَكِّرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ فِي الْقَطْعِ الْقَطِيعَةَ فَيَنْدَرِئُ وَهُوَ الْمَوْعُودُ ، وَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَمْ يُعَرِّجْ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ مِنْ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ قُطِعَ ) وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ( وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ بِخِلَافِ الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعِ لِانْعِدَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا عَادَةً ) وَلِذَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهَا اتِّفَاقًا ، وَكَذَا الْأَبُ مِنْ الرَّضَاعَةِ .
( وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِ الْقَرَابَةِ لَا تُحْتَرَمُ كَمَا إذَا ثَبَتَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ بِالزِّنَا ) بِأَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أُمُّهَا وَبِنْتُهَا وَيُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ مِنْهُمَا ( وَأَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْأُخْتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ) فَإِنَّ فِيهَا مَحْرَمِيَّةً بِلَا قَرَابَةٍ مَعَ اتِّحَادِ سَبَبِ الْمَحْرَمِيَّةِ فِيهِمَا ، فَالْإِلْحَاقُ بِهَا فِي إثْبَاتِ الْقَطْعِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِلْحَاقِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ الثَّابِتَةِ بِالْوَطْءِ ، ثُمَّ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِإِبْطَالِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لِأَبِي يُوسُفَ صَرِيحًا وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَخْ بِقَوْلِهِ ( وَهَذَا لِأَنَّ الرَّضَاعَ قَلَّمَا يَشْتَهِرُ فَلَا بُسُوطُةَ تَحَرُّزًا عَنْ مَوْقِفِ التُّهْمَةِ بِخِلَافِ النَّسَبِ ) فَإِنَّهُ يَشْتَهِرُ بِلَا تَحَشُّمٍ وَلَا تُهْمَةٍ ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ مَنْعَ قَوْلِهِ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إلَخْ ، فَقَالَ : لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَلْزِمًا تُهْمَةً لَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُهَا لِعَدَمِ الشُّهْرَةِ فَيُتَّهَمُ فَلَا يَدْخُلُ بِلَا اسْتِئْذَانٍ ، بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَشْتَهِرُ فَلَا يُنْكَرُ دُخُولُهُ ، فَلِذَا قُطِعَ فِي سَرِقَةِ مَالِ أُمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يُقْطَعْ فِي سَرِقَةِ مَالِ أُمِّهِ مِنْ النَّسَبِ .
( وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ عَادَةً ، وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزٍ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِبُسُوطَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً وَهُوَ نَظِيرُ الْخِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ مَالِ الْآخَرِ أَوْ الْعَبْدُ مِنْ سَيِّدِهِ أَوْ مِنْ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ أَوْ زَوْجِ سَيِّدَتِهِ لَمْ يُقْطَعْ لِوُجُودِ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ عَادَةً ) فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ ( وَإِنْ سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ حِرْزِ الْآخَرِ خَاصَّةً لَا يَسْكُنَانِ فِيهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ) فِي أَحَدِ أَقْوَالِهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ كَقَوْلِنَا ، وَفِي قَوْلٍ ثَالِثٍ يُقْطَعُ الرَّجُلُ خَاصَّةً لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ حَقًّا فِي مَالِهِ : أَيْ النَّفَقَةَ .
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ بَيْنَهُمَا بُسُوطَةً فِي الْأَمْوَالِ عَادَةً وَدَلَالَةً فَإِنَّهَا لَمَّا بَذَلَتْ نَفْسَهَا وَهِيَ أَنْفَسُ مِنْ الْمَالِ كَانَتْ بِالْمَالِ أَسْمَحُ ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يُوجِبُ التَّوَارُثَ مِنْ غَيْرِ حَجْبِ حِرْمَانٍ كَالْوَالِدَيْنِ .
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أُتِيَ بِغُلَامٍ سَرَقَ مِرْآةً لِامْرَأَةِ سَيِّدِهِ فَقَالَ : لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ ، فَإِذَا لَمْ يُقْطَعْ خَادِمُ الزَّوْجِ فَالزَّوْجُ أَوْلَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( هُوَ نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ) يَعْنِي عِنْدَنَا لَا يُقْطَعُ أَحَدُهُمَا بِمَالِ الْآخَرِ ، كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لِاتِّصَالِ الْمَنَافِعِ ، وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ كَمَا تُقْبَلُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ .
فَإِنْ قُلْت : أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ رُبَّمَا لَا يَبْسُطُ لِلْآخَرِ فِي مَالِهِ بَلْ يَحْبِسُهُ عَنْهُ وَيُحَرِّزُهُ .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ الْأَبُ وَالِابْنُ قَدْ يَتَّفِقُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَلَا قَطْعَ بَيْنَهُمَا اتِّفَاقًا .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ الْأَصْهَارِ وَالْأَخْتَانِ ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ ، وَقَالَا : يُقْطَعُ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ بَيْتِ زَوْجَةِ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ أَوْ زَوْجِ ابْنَتِهِ أَوْ بِنْتِ زَوْجِ أُمِّهِ إنْ كَانَ يَجْمَعُهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ لَمْ يُقْطَعْ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ فِي مَنْزِلٍ عَلَى حِدَةٍ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ .
وَلَوْ سَرَقَ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَبَانَتْ مِنْ غَيْرِ عِدَّةٍ فَلَا قَطْعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ بِالْقَطْعِ أَوْ لَمْ يُقْضَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ يُقْطَعُ .
وَلَوْ سَرَقَ مِنْ امْرَأَتِهِ الْمَبْتُوتَةِ أَوْ الْمُخْتَلِعَةِ فِي الْعِدَّةِ لَا قَطْعَ ، وَكَذَا إذَا سَرَقَتْ هِيَ مِنْ الزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ يَجِبُ الْقَطْعُ .
( وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ لَهُ فِي أَكْسَابِهِ حَقًّا ( وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ ) لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا ، وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ سَرَقَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ لَا يُقْطَعُ ) بِلَا خِلَافٍ ( لِأَنَّ لِلْمَوْلَى حَقًّا فِي أَكْسَابِهِ ) وَلِأَنَّ مَالَهُ مَوْقُوفٌ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ إنْ عَجَزَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَوْ عَتَقَ كَانَ لَهُ ، فَلَا يُقْطَعُ فِي سَرِقَةِ مَالٍ مَوْقُوفٍ دَائِرٍ بَيْنَ السَّارِقِ وَغَيْرِهِ ، كَمَا إذَا سَرَقَ أَحَدُ الْمُتَبَايِعَيْنِ مَا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ ، وَكَمَا لَا قَطْعَ عَلَى السَّيِّدِ كَذَلِكَ لَا قَطْعَ عَلَى الْمُكَاتَبِ إذَا سَرَقَ مَالَ سَيِّدِهِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ أَوْ مِنْ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ مَالِ مَنْ عَدَا سَيِّدَهُ كَزَوْجَةِ سَيِّدِهِ لِعُمُومِ الْآيَةِ ، وَتَقَدَّمَ أَثَرُ عُمَرَ وَهُوَ فِي السَّرِقَةِ مِنْ مَالِ زَوْجَةِ سَيِّدِهِ ، وَكَانَ ثَمَنُ الْمِرْآةِ سِتِّينَ دِرْهَمًا ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ شَيْءٌ خِلَافَهُ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ فَتُخَصُّ بِهِ الْآيَةُ ، وَالْحُكْمُ فِي الْمُدَبَّرِ كَذَلِكَ .
( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ مِنْ الْمَغْنَمِ ) لَا يُقْطَعُ ( لِأَنَّ لَهُ فِيهِ نَصِيبًا وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ عَلِيٍّ دَرْءًا وَتَعْلِيلًا ) رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ : أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْأَبْرَصِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ دِثَارٍ قَالَ : أُتِيَ عَلِيٌّ بِرَجُلٍ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ فَقَالَ : لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ وَهُوَ خَائِنٌ فَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَكَانَ قَدْ سَرَقَ مِغْفَرًا .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
قِيلَ وَفِي الْبَابِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ : حَدَّثَنَا جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنْ الْخُمُسِ ، فَرُفِعَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَقَالَ : مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا } وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ؛ أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَالُ اللَّهِ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا } وَكَلَامُنَا فِيمَا سَرَقَهُ بَعْضُ مُسْتَحَقِّي الْغَنِيمَةِ ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ .
وَقَالَ ( وَالْحِرْزُ عَلَى نَوْعَيْنِ حِرْزٌ لِمَعْنًى فِيهِ كَالْبُيُوتِ وَالدُّورِ .
وَحِرْزٌ بِالْحَافِظِ ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ ، ثُمَّ هُوَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِإِحْرَازِ الْأَمْتِعَةِ كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ وَالصُّنْدُوقِ وَالْحَانُوتِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعُهُ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ ، وَقَدْ { قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ } ( وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِهِ وَهُوَ الْبَيْتُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ كَانَ وَهُوَ مَفْتُوحٌ حَتَّى يُقْطَعَ السَّارِقُ مِنْهُ ، لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِقَصْدِ الْإِحْرَازِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْهُ لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ قَبْلَهُ .
بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ حَيْثُ يَجِبُ الْقَطْعُ فِيهِ ، كَمَا أُخِذَ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ أَوْ عِنْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ .
وَعَلَى هَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَضْيِيعٍ ، بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى .
.
( قَوْلُهُ قَالَ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ ( الْحِرْزُ لَا بُدَّ مِنْهُ ) لِوُجُوبِ الْقَطْعِ ( لِأَنَّ الِاسْتِسْرَارَ لَا يَتَحَقَّقُ دُونَهُ ) لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَافِظٌ مِنْ بِنَاءٍ وَنَحْوِهِ أَوْ إنْسَانٍ مُتَصَدٍّ لِلْحِفْظِ يَكُونُ الْمَالُ سَائِبًا فَلَا يَتَحَقَّقُ إخْفَاءُ الْأَخْذِ وَالدُّخُولُ فَلَا تَتَحَقَّقُ السَّرِقَةُ .
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } بِنَفْسِهِ يُوجِبُ الْحِرْزَ إذْ لَا تُتَصَوَّرُ السَّرِقَةُ دُونَ الْإِخْفَاءِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِخْفَاءُ دُونَ الْحَافِظِ ، فَيُخْفِي الْأَخْذَ مِنْهُ أَوْ الْبِنَاءُ فَيُخْفِي دُخُولَهُ بَيْتَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ .
وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي اشْتِرَاطِهِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ ، وَلَا فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ ، فَإِذَا آوَاهُ الْمُرَاحُ أَوْ الْجَرِينُ فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ } وَنَحْوُهُ وَارِدٌ عَلَى وَفْقِ الْكِتَابِ لَا مُبَيِّنٌ مُخَصِّصٌ ( ثُمَّ هُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ : حِرْزٌ ) بِالْمَكَانِ ( كَالدُّورِ وَالْبُيُوتِ ) وَالْجُدَرَانِ وَالْحَوَانِيتِ لِلتُّجَّارِ وَلَيْسَتْ هِيَ الَّتِي تُسَمَّى فِي عُرْفِ بِلَادِ مِصْرَ الدَّكَاكِينَ وَالصَّنَادِيقَ وَالْخِيَامَ وَالْخَرْكَاهَ وَجَمِيعَ مَا أُعِدَّ لِحِفْظِ الْأَمْتِعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْحَافِظِ وَهُوَ بَدَلٌ عَنْ الْأَمَاكِنِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ .
وَذَلِكَ ( كَمَنْ جَلَسَ فِي الطَّرِيقِ ) أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ ( أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِهِ .
وَقَدْ { قَطَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَرَقَ رِدَاءَ صَفْوَانَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ } ) عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَمَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ وَالْحَاكِمُ ، وَحَكَمَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ ابْنُ عَبْدِ الْهَادِي أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَلَهُ طُرُقٌ كَثِيرَةٌ وَأَلْفَاظٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا انْقِطَاعٌ وَفِي
بَعْضِهَا مَنْ هُوَ مُضَعَّفٌ ، وَلَكِنْ تَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ وَاتَّسَعَ مَجِيئُهُ اتِّسَاعًا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِصِحَّتِهِ بِلَا شُبْهَةٍ .
وَفِي طَرِيقِ السُّنَنِ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَصَلَّى ثُمَّ لَفَّ رِدَاءً لَهُ مِنْ بُرْدٍ فَوَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَنَامَ .
فَأَتَاهُ لِصٌّ فَاسْتَلَّهُ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ .
فَأَخَذَهُ فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ هَذَا سَرَقَ رِدَائِي .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسَرَقْت رِدَاءَ هَذَا ؟ قَالَ نَعَمْ ، قَالَ : اذْهَبَا بِهِ فَاقْطَعَا يَدَهُ ، فَقَالَ صَفْوَانُ : مَا كُنْت أُرِيدُ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ فِي رِدَائِي ، قَالَ : فَلَوْلَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ } زَادَ النَّسَائِيّ " فَقَطَعَهُ " وَفِي الْمُسْتَدْرَكِ : سَمَّاهُ خَمِيصَةً ثَمَنَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا ( قَوْلُهُ وَفِي الْمُحَرَّزِ بِالْمَكَانِ لَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَمَّا فِي الْعُيُونِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْحَمَّامِ فِي وَقْتِ الْإِذْنِ : أَيْ فِي وَقْتِ دُخُولِهَا إذَا كَانَ ثَمَّةَ حَافِظٌ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يُقْطَعُ .
وَبِهِ أَخَذَ أَبُو اللَّيْثِ وَالصَّدْرُ الشَّهِيدُ وَفِي الْكَافِي : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ ( أَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِدُونِ الْحَافِظِ ) لِأَنَّ الْمَكَانَ فِي نَفْسِهِ صَالِحٌ لِلْإِحْرَازِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنْ وُصُولِ يَدِ غَيْرِ صَاحِبِهِ إلَى مَا فِيهِ ، وَيَكُونُ الْمَالُ مَعَ ذَلِكَ مُخْتَفِيًا ، وَلَيْسَ هَذَا مَعَ الْحَافِظِ فَهُوَ فَرْعٌ ، وَلَا اعْتِبَارَ لِلْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ مَعَهُ ، فَلِذَا كَانَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ فِي وَقْتِ الْإِذْنِ فِي دُخُولِهَا وَسَرَقَ مِنْهَا مَا عِنْدَهُ حَافِظٌ لَا يُقْطَعُ ، لِأَنَّ الْحَمَّامَ فِي نَفْسِهِ صَالِحٌ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ ، إلَّا أَنَّهُ اخْتَلَّ الْحِرْزُ لِلْإِذْنِ فِي دُخُولِهَا وَلِذَا يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ مِنْهَا
لَيْلًا ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ مَا وُضِعَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَيُقْطَعُ السَّارِقُ بِمَالٍ عِنْدَهُ مَنْ يَحْفَظُهُ فِيهِ ، وَقَدْ قُطِعَ سَارِقُ رِدَاءِ صَفْوَانَ وَكَانَ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ .
وَلِكَوْنِ الْمَكَانِ هُوَ الْحِرْزَ الَّذِي يُقْتَصَرُ النَّظَرُ عَلَيْهِ قُلْنَا يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَابٌ أَوْ لَهُ بَابٌ وَلَكِنَّهُ مَفْتُوحٌ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لِلْإِحْرَازِ ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ لِقِيَامِ يَدِ الْمَالِكِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ ) مِنْ دَارِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ إلَّا بِإِزَالَةِ يَدِهِ وَذَلِكَ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزِهِ ( بِخِلَافِ الْمُحَرَّزِ بِالْحَافِظِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ كَمَا أَخَذَهُ لِزَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ فَتَتِمُّ السَّرِقَةُ ) فَيَجِبُ مُوجِبُهَا ( وَلَا فَرْقَ ) فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ ( بَيْنَ كَوْنِ الْحَافِظِ ) فِي الطَّرِيقِ وَالصَّحْرَاءِ وَالْمَسْجِدِ ( مُسْتَيْقِظًا أَوْ نَائِمًا وَالْمَتَاعُ تَحْتَهُ ) أَوْ تَحْتَ رَأْسِهِ ( أَوْ عِنْدَهُ ) وَهُوَ بِحَيْثُ يَرَاهُ ( لِأَنَّهُ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ ) وَبِحَضْرَتِهِ كَيْفَمَا نَامَ مُضْطَجِعًا أَوْ لَا ( حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ ) وَقَوْلُهُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ عَنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ بِاشْتِرَاطِ كَوْنِ الْمَتَاعِ تَحْتَ رَأْسِهِ أَوْ تَحْتَ جَنْبِهِ .
وَجْهُ الصَّحِيحِ مَا ذَكَرْنَا ( وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ ) إذَا حَفِظَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ كَذَلِكَ فَسُرِقَتْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِفْظًا لَضَمِنَا ( بِخِلَافِ مَا اخْتَارَهُ فِي الْفَتَاوَى ) فَإِنَّهُ أَوْجَبَ فِيهَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُودَعِ وَالْمُسْتَعِيرِ إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا ، ثُمَّ مَا كَانَ حِرْزًا لِنَوْعٍ يَكُونُ حِرْزًا لِجَمِيعِ الْأَنْوَاعِ هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ، حَتَّى لَوْ سَرَقَ لُؤْلُؤَةً مِنْ إصْطَبْلٍ أَوْ حَظِيرَةِ غَنَمٍ يُقْطَعُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقَ الْغَنَمَ مِنْ الْمَرْعَى فَقَدْ أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ عَدَمَ الْقَطْعِ فِيهِ وَفِي الْفَرَسِ وَالْبَقَرِ ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ
يَكُنْ مَعَهَا مَنْ يَحْفَظُهَا ، فَإِنْ كَانَ قُطِعَ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاعِيًا ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفَظُهَا الرَّاعِي فَفِي الْبَقَّالِيِّ لَا يُقْطَعُ ، وَهَكَذَا فِي الْمُنْتَقَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَأَطْلَقَ خُوَاهَرْ زَادَهْ ثُبُوتَ الْقَطْعِ إذَا كَانَ مَعَهَا حَافِظٌ .
وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بِأَنَّ الرَّاعِيَ لَمْ يَقْصِدْ لِحِفْظِهَا مِنْ السُّرَّاقِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
وَنَقَلَ الْإِسْبِيجَابِيُّ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُعْتَبَرُ بِحِرْزِ مِثْلِهِ فَلَا يُقْطَعُ بِاللُّؤْلُؤَةِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمَذْكُورَةِ وَالثِّيَابِ النَّفِيسَةِ مِنْهَا ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ ( وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ ) لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ ( وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مَالًا مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ ) لِوُجُودِ الْإِذْنِ عَادَةً أَوْ حَقِيقَةً فِي الدُّخُولِ فَاخْتَلَّ الْحِرْزُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ حَوَانِيتُ التُّجَّارِ وَالْخَانَاتُ ، إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ يَخْتَصُّ بِالنَّهَارِ ( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ ) لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ ، بِخِلَافِ الْحَمَّامِ وَالْبَيْتِ الَّذِي أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ حَيْثُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ بُنِيَ لِلْإِحْرَازِ فَكَانَ الْمَكَانُ حِرْزًا فَلَا يُعْتَبَرُ الْإِحْرَازُ بِالْحَافِظِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ شَيْئًا مِنْ حِرْزٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ ) كَالصَّحْرَاءِ ( وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مُحَرَّزًا بِأَحَدِ الْحِرْزَيْنِ ) وَهَذَا بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ مَا إذَا سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ بِهِ إذَا كَانَ وَقْتَ الْإِذْنِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَخْتَصُّ بِمَا يَلِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ فَلَا يَرِدُ الْحَمَّامُ فَإِنَّهُ حِرْزٌ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لِلنَّاسِ فِي دُخُولِهِ تَقْيِيدٌ لَهُ ، فَإِنَّهُ بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُقْطَعَ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ ، وَهَذَا تَفْرِيعٌ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ .
( قَوْلُهُ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ ) أَيْ يَدْخُلُ فِي بَيْتٍ أُذِنَ فِي دُخُولِهِ ( الْخَانَاتُ وَالْحَوَانِيتُ ) فَيَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ عَدَمِ الْقَطْعِ نَهَارًا فَإِنَّ التَّاجِرَ يَفْتَحُ حَانُوتَهُ نَهَارًا فِي السُّوقِ وَيَأْذَنُ لِلنَّاسِ فِي الدُّخُولِ لِيَشْتَرُوا مِنْهُ فَإِذَا سَرَقَ وَاحِدٌ مِنْهُ شَيْئًا لَا يُقْطَعُ وَكَذَا الْخَانَاتُ ( إلَّا إذَا سَرَقَ مِنْهَا لَيْلًا لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ ) وَإِنَّمَا اخْتَلَّ الْحِرْزُ بِالنَّهَارِ لِلْإِذْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ بِاللَّيْلِ ( وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَتَاعًا وَصَاحِبُهُ عِنْدَهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ بِالْحَافِظِ ، لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا بُنِيَ لِإِحْرَازِ الْأَمْوَالِ فَلَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا بِالْمَكَانِ ) لِيَنْقَطِعَ اعْتِبَارُ الْحَافِظِ ثُمَّ تَخْتَلُّ حِرْزِيَّتُهُ بِالْإِذْنِ كَالْحَمَّامِ ، فَكَانَ الْحَافِظُ مُعْتَبَرًا حِرْزًا فَيُقْطَعُ بِالْأَخْذِ ، وَعَلَى هَذَا مَا فِي الْخُلَاصَةِ : جَمَاعَةٌ نَزَلُوا بَيْتًا أَوْ خَانًا فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ مَتَاعًا وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ يَحْفَظُهُ أَوْ تَحْتَ رَأْسِهِ لَا يُقْطَعُ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةٌ قُطِعَ .
( وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ ) لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً .
( قَوْلُهُ وَلَا قَطْعَ عَلَى الضَّيْفِ إذَا سَرَقَ مِمَّنْ أَضَافَهُ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يَبْقَ حِرْزًا فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مَأْذُونًا فِي دُخُولِهِ ، وَلِأَنَّهُ ) بِالْإِذْنِ صَارَ ( بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً لَا سَرِقَةً ) وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ الَّتِي أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهَا وَهُوَ مُقْفَلٌ أَوْ مِنْ صُنْدُوقٍ مُقْفَلٍ ، ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ ، لِأَنَّ الدَّارَ مَعَ جَمِيعِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ ، وَلِهَذَا إذَا أَخْرَجَ اللِّصُّ مِنْ بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ إلَى الدَّارِ لَا يُقْطَعُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الدَّارِ ، وَإِذَا كَانَ وَاحِدًا فَبِالْإِذْنِ فِي الدَّارِ اخْتَلَّ الْحِرْزُ فِي الْبُيُوتِ ، وَسَيَأْتِي مَا يُفِيدُ هَذَا .
( وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ ) ( فَإِنْ كَانَتْ دَارٌ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ الْمَقْصُورَةِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ ) لِأَنَّ كُلَّ مَقْصُورَةٍ بِاعْتِبَارِ سَاكِنِهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ ( وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ ) لِمَا بَيَّنَّا .
( قَوْلُهُ وَمَنْ سَرَقَ سَرِقَةً فَلَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الدَّارِ لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّ الدَّارَ كُلَّهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِخْرَاجِ ، وَلِأَنَّ الدَّارَ وَمَا فِيهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا مَعْنًى فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ عَدَمِ الْأَخْذِ ) وَهَتْكِ الْحِرْزِ ( فَإِذَا كَانَتْ فِيهَا مَقَاصِيرُ فَأَخْرَجَهَا مِنْ مَقْصُورَةٍ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ ) هَذَا كَلَامُ مُحَمَّدٍ ، وَأُوِّلَ بِمَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا بُيُوتُ كُلِّ بَيْتٍ يَسْكُنُهُ أَهْلُ بَيْتٍ عَلَى حِدَتِهِمْ وَيَسْتَغْنُونَ بِهِ اسْتِغْنَاءَ أَهْلِ الْمَنَازِلِ بِمَنَازِلِهِمْ عَنْ صَحْنِ الدَّارِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ انْتِفَاعَهُمْ بِالسِّكَّةِ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَيْهَا كَالْإِخْرَاجِ إلَى السِّكَّةِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ بُيُوتَ الدَّارِ كُلَّهَا فِي يَدِ وَاحِدٍ .
وَهُنَا كُلُّ بَيْتٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَتِهِ لِاخْتِلَافِ السُّكَّانِ .
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : الْقَوْمُ إذَا كَانُوا فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ عَلَيْهِ بَابٌ يُغْلَقُ فَنَقَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ عَلَى صَاحِبِهِ وَسَرَقَ مِنْهُ إنْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً يُقْطَعُ وَإِلَّا فَلَا .
ثُمَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا تَلِفَ الْمَسْرُوقُ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّارِ وَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُودِ التَّلَفِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي بِخِلَافِ الْقَطْعِ لِأَنَّ شَرْطَهُ هَتْكُ الْحِرْزِ وَلَمْ يُوجَدْ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ أَغَارَ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْمَقَاصِيرِ عَلَى مَقْصُورَةٍ فَسَرَقَ مِنْهَا قُطِعَ ) يُرِيدُ دَخَلَ مَقْصُورَةً عَلَى غِرَّةٍ فَأَخَذَ بِسُرْعَةٍ ، يُقَالُ أَغَارَ الْفَرَسُ وَالثَّعْلَبُ فِي الْعَدُوِّ : إذَا أَسْرَعَ .
وَقَوْلُهُ فَسَرَقَ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ أَغَارَ .
( وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَنَاوَلَهُ آخَرَ خَارِجَ الْبَيْتِ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِخْرَاجُ لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ قَبْلَ خُرُوجِهِ .
وَالثَّانِي لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ هَتْكُ الْحِرْزِ فَلَمْ تَتِمَّ السَّرِقَةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ وَنَاوَلَهَا الْخَارِجَ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا مِنْ يَدِ الدَّاخِلِ فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ .
وَهِيَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَإِنْ أَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ وَخَرَجَ فَأَخَذَهُ قُطِعَ ) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْ ، وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ .
وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ ، أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ وَلَمْ تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا ، فَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ لَا سَارِقٌ .
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ وَأَخْرَجَهُ ) لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ لِسَوْقِهِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا نَقَبَ اللِّصُّ الْبَيْتَ فَدَخَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ فَتَنَاوَلَهُ آخَرُ خَارِجَ الْبَيْتِ ) عِنْدَ النَّقْبِ أَوْ عَلَى الْبَابِ ( فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِمَا ) بِلَا تَفْصِيلٍ بَيْنَ إخْرَاجِ الدَّاخِلِ يَدَهُ إلَى الْخَارِجِ أَوْ إدْخَالِ الْخَارِجِ يَدَهُ ( ثُمَّ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنْ أَخْرَجَ الدَّاخِلُ يَدَهُ مِنْهَا إلَى الْخَارِجِ فَالْقَطْعُ عَلَى الدَّاخِلِ ، وَإِنْ أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَتَنَاوَلَهَا فَعَلَيْهِمَا الْقَطْعُ ) وَعُلِّلَ الْإِطْلَاقُ الَّذِي هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ ( لِاعْتِرَاضِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ عَلَى الْمَالِ ) الْمَسْرُوقِ ( قَبْلَ خُرُوجِهِ ) أَيْ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّاخِلِ ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقْطَعَ الدَّاخِلُ كَمَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ دَخَلَ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ الْمَالَ مِنْهُ بِنَفْسِهِ .
وَكَوْنُهُ لَمْ يَخْرُجْ كُلُّهُ مَعَهُ لَا أَثَرَ لَهُ فِي ثُبُوتِ الشُّبْهَةِ فِي السَّرِقَةِ وَإِخْرَاجِ الْمَالِ ، وَمَا قِيلَ إنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ بِفِعْلِ الدَّاخِلِ وَالْخَارِجِ ثُمَّ الْخَارِجُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا الدَّاخِلُ مَمْنُوعٌ بَلْ تَمَّتْ بِالدَّاخِلِ وَحْدَهُ ، وَإِنَّمَا تَتِمُّ بِهِمَا إذَا أَدْخَلَ الْخَارِجُ يَدَهُ فَأَخَذَهَا .
وَفِيهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُقْطَعَانِ .
وَقَوْلُ مَالِكٍ إنْ كَانَا مُتَعَاوِنَيْنِ قُطِعَا وَهُوَ مَحْمَلُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ : فَإِنْ انْفَرَدَ كُلٌّ بِفِعْلِهِ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إلَّا إذَا اتَّفَقَ أَنَّ خَارِجًا رَأَى نَقْبًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَوَقَعَتْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا جَمَعَهُ الدَّاخِلُ فَأَخَذَهُ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
قَالَ : وَالْمَسْأَلَةُ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى تَأْتِي يَعْنِي مَسْأَلَةَ نَقْبِ الْبَيْتِ وَأَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ مَا إذَا وَضَعَ الدَّاخِلُ الْمَالَ عِنْدَ النَّقْبِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ ، قِيلَ يُقْطَعُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ .
قِيلَ وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ نَهْرٌ جَارٍ فَرَمَى الْمَالَ فِي النَّهْرِ ثُمَّ خَرَجَ فَأَخَذَهُ ، إنْ
خَرَجَ بِقُوَّةِ الْمَاءِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ ، وَقِيلَ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ إخْرَاجٌ ذَكَرَهُ التُّمُرْتَاشِيُّ .
وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا أَخْرَجَهُ الْمَاءُ بِقُوَّةِ جَرْيِهِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَطْعُ .
وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ جَرْيَ الْمَاءِ بِهِ كَانَ بِسَبَبِ إلْقَائِهِ فِيهِ فَيَصِيرُ الْإِخْرَاجُ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَهُوَ زِيَادَةُ حِيلَةٍ مِنْهُ لِيَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْقَطْعِ عَنْهُ ، وَلَوْ كَانَ رَاكِدًا أَوْ جَرْيُهُ ضَعِيفًا فَأَخْرَجَهُ بِتَحْرِيكِ الْمَاءِ قُطِعَ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْمَالِ وَلَكِنْ لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اعْتِرَاضُ الْيَدِ الْمُعْتَبَرَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ ( وَلَوْ أَلْقَاهُ ) الدَّاخِلُ ( فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَخَذَهُ قُطِعَ ) وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِزُفَرَ ( لَهُ أَنَّ الْإِلْقَاءَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ كَمَا لَوْ خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ ) بِأَنْ تَرَكَهُ أَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ ( وَكَذَا الْأَخْذُ مِنْ السِّكَّةِ ) غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَطْعِ فَلَا يُقْطَعُ بِحَالٍ ( وَلَنَا أَنَّ الرَّمْيَ حِيلَةٌ يَعْتَادُهَا السُّرَّاقُ لِتَعَذُّرِ الْخُرُوجِ مَعَ الْمَتَاعِ لِضِيقِ النَّقْبِ أَوْ لِيَتَفَرَّغَ لِقِتَالِ صَاحِبِ الدَّارِ أَوْ لِلْفِرَارِ ) إنْ أُدْرِكَ ( وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى الْمَالِ الَّذِي أَخْرَجَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاعْتُبِرَ الْكُلُّ فِعْلًا وَاحِدًا .
وَإِذَا خَرَجَ وَلَمْ يَأْخُذْهُ فَهُوَ مُضَيِّعٌ ) لِمَالِ صَاحِبِ الدَّارِ عَدَاوَةً وَمُضَارَّةً ( لَا سَارِقٌ ) وَإِذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ فَقَدْ اعْتَرَضَتْ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَقُطِعَتْ نِسْبَةُ الْأَخْذِ إلَيْهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ يَدَ السَّارِقِ تَثْبُتُ عَلَيْهِ ، وَبِالْإِلْقَاءِ لَمْ تَزُلْ يَدُهُ حُكْمًا لِعَدَمِ اعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سَقَطَ مِنْهُ مَالٌ فِي الطَّرِيقِ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ لِيَرُدَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَدَّهُ إلَى مَكَانِهِ لَمْ يَضْمَنْ
لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حُكْمًا فَرَدُّهُ إلَيْهِ كَرَدِّهِ إلَى صَاحِبِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ لِسُقُوطِ الْيَدِ الْحُكْمِيَّةِ بِالْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ ( وَكَذَا إذَا حَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ فَسَاقَهُ فَأَخْرَجَهُ لِأَنَّ سَيْرَهُ مُضَافٌ إلَيْهِ بِسَوْقِهِ ) فَيُقْطَعُ .
وَفِي مَبْسُوطِ أَبِي الْيُسْرِ : وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ فِي عُنُقِ كَلْبٍ وَزَجَرَهُ يُقْطَعُ ، وَلَوْ خَرَجَ بِلَا زَجْرِهِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ لِلدَّابَّةِ اخْتِيَارًا .
فَمَا لَمْ يَفْسُدْ اخْتِيَارُهَا بِالْحَمْلِ وَالسَّوْقِ لَا تَنْقَطِعُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهَا .
وَكَذَا إذَا عَلَّقَهُ عَلَى طَائِرٍ فَطَارَ بِهِ إلَى مَنْزِلِ السَّارِقِ أَوْ لَمْ يَسُقْ الْحِمَارَ فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ إلَى مَنْزِلِ السَّارِقِ لَا يُقْطَعُ .
( وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وُجِدَ مِنْهُ فَتَمَّتْ السَّرِقَةُ بِهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْكُلِّ مَعْنًى لِلْمُعَاوَنَةِ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَادَ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ الْبَعْضُ الْمَتَاعَ وَيَتَشَمَّرَ الْبَاقُونَ لِلدَّفْعِ ، فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ .
.
( قَوْلُهُ وَإِذَا دَخَلَ الْحِرْزَ جَمَاعَةٌ فَتَوَلَّى بَعْضُهُمْ الْأَخْذَ قُطِعُوا جَمِيعًا .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ الْحَامِلُ وَحْدَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ) وَالْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْأَخْذِ ، وَالْأَخْذُ إنْ نُسِبَ إلَى الْكُلِّ فَالْإِخْرَاجُ إنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ فَإِنَّمَا تَمَّتْ السَّرِقَةُ مِنْهُ .
قُلْنَا : نَعَمْ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا قَطْعَهُمْ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ وَإِنْ قَامَ بِهِ وَحْدَهُ لَكِنَّهُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْكُلِّ لِتَعَاوُنِهِمْ كَمَا فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى ) وَإِذَا بَاشَرَ بَعْضُهُمْ الْقَتْلَ وَالْأَخْذَ وَالْبَاقُونَ وُقُوفٌ يَجِبُ حَدُّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْكُلِّ لِنِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْكُلِّ شَرْعًا بِسَبَبِ مُعَاوَنَتِهِمْ ، وَأَنَّ قُدْرَةَ الْقَاتِلِ وَالْآخِذِ إنَّمَا هِيَ بِهِمْ فَكَذَا هَذَا ( فَإِنَّ السُّرَّاقَ يَعْتَادُونَ ذَلِكَ فَيَتَفَرَّغُ غَيْرُ الْحَامِلِ لِلدَّفْعِ ) فَكَانَ مِثْلَهُ وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَتِمُّ الْوَجْهُ .
وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ( فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَطْعُ أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ ) إنْ مُنِعَ لَمْ يَضُرَّ ، وَإِنَّمَا وَضَعَهَا فِي دُخُولِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بَعْضُهُمْ لَكِنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ لَا يُقْطَعُ إلَّا الدَّاخِلُ إنْ عُرِفَ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عُزِّرُوا كُلُّهُمْ وَأَبَّدَ حَبْسَهُمْ إلَى أَنْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ .
قَالَ ( وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْمَالَ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ فِيهِ ، كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ .
وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ وَالْكَمَالِ فِي الدُّخُولِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ وَالدُّخُولُ هُوَ الْمُعْتَادُ .
بِخِلَافِ الصُّنْدُوقِ لِأَنَّ الْمُمْكِنَ فِيهِ إدْخَالُ الْيَدِ دُونَ الدُّخُولِ ، وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَادُ .
قَالَ ( وَإِنْ طَرَّ صُرَّةً خَارِجَةً مِنْ الْكُمِّ لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ يُقْطَعُ ) لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الظَّاهِرِ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ .
وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّزٌ إمَّا بِالْكُمِّ أَوْ بِصَاحِبِهِ .
قُلْنَا : الْحِرْزُ هُوَ الْكُمُّ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُهُ ، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ أَوْ الِاسْتِرَاحَةِ فَأَشْبَهَ الْجُوَالِقَ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ نَقَبَ الْبَيْتَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخَذَ شَيْئًا لَمْ يُقْطَعْ ) وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْ الْكُلِّ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ الْحَاكِمُ خِلَافًا ( وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ يُقْطَعُ ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ إخْرَاجَ الْمَالِ مِنْ الْحِرْزِ هُوَ الْمَقْصُودُ وَقَدْ تَحَقَّقَ ، وَالدُّخُولُ فِيهِ لَمْ يُفْعَلْ قَطُّ إلَّا لَهُ فَكَانَ هُوَ الْمَقْصُودَ مِنْ الدُّخُولِ وَقَدْ وُجِدَ ، فَاعْتِبَارُهُ شَرْطًا فِي الْقَطْعِ بَعْدَ الْمَقْصُودِ اعْتِبَارُ صُورَةٍ لَا أَثَرَ لَهَا غَيْرُ مَا حَصَلَ ( وَصَارَ كَمَا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي صُنْدُوقِ الصَّيْرَفِيِّ فَأَخْرَجَ الْغِطْرِيفِيَّ ) أَوْ فِي الْجُوَالِقِ .
وَالْغِطْرِيفِيُّ : دِرْهَمٌ مَنْسُوبٌ إلَى الْغِطْرِيفِ بْنِ عَطَاءٍ الْكِنْدِيِّ أَمِيرِ خُرَاسَانَ أَيَّامِ الرَّشِيدِ ، وَكَانَتْ دَرَاهِمُهُ مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ بِبُخَارَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَنَا أَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَمَالُ ) وَعَرَفْت أَنَّ هَذَا فِي حَيِّزِ الْمَنْعِ مِنْهُمْ فَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ ( تَحَرُّزًا عَنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ ) أَيْ شُبْهَةِ عَدَمِ السَّرِقَةِ وَهِيَ مُسْقِطَةٌ ، فَإِنَّ النَّاقِصَ يُشْبِهُ الْعَدَمَ ، وَقَدْ يُمْنَعُ نُقْصَانُ هَذِهِ السَّرِقَةِ لِأَنَّهَا أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً مِنْ حِرْزٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَالدُّخُولُ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِهَا ، وَلَا شَرْطًا لِوُجُودِهَا إذْ قَدْ يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَفْهُومُ بِلَا دُخُولٍ وَقَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ ، وَفِي كِلَا الصُّورَتَيْنِ مَعْنَى السَّرِقَةِ تَامٌّ لَا نَقْصَ فِيهِ ، وَكَوْنُ الدُّخُولِ هُوَ الْمُعْتَادُ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِ شَيْءٍ مَا لَمْ يُبْصِرْهُ بِعَيْنِهِ مِنْ جَوَانِبِ الْبَيْتِ فَيَقْصِدُ إلَيْهِ .
وَقَلَّمَا يُدْخِلُ الْإِنْسَانُ يَدَهُ مِنْ كُوَّةِ بَيْتٍ فَتَقَعُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصُّنْدُوقِ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الصُّنْدُوقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، بِخِلَافِ الْبَيْتِ ( وَبِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَمْلِ الْبَعْضِ الْمَتَاعَ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ ) .
( قَوْلُهُ وَمَنْ طَرَّ ) أَيْ شَقَّ ( صُرَّةً ) وَالصُّرَّةُ الْهِمْيَانُ وَالْمُرَادُ مِنْ الصُّرَّةِ هُنَا الْمَوْضِعُ الْمَشْدُودُ فِيهِ دَرَاهِمُ مِنْ الْكُمِّ ( لَمْ يُقْطَعْ ، وَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْكُمِّ قُطِعَ ، لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الرِّبَاطَ مِنْ خَارِجٍ ، فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ خَارِجٍ فَلَا يُوجَدُ هَتْكُ الْحِرْزِ .
وَفِي الثَّانِي الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلٍ فَبِالطَّرِّ يَتَحَقَّقُ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ وَهُوَ الْكُمُّ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الطَّرِّ حَلُّ الرِّبَاطِ ، ثُمَّ الْأَخْذُ فِي الْوَجْهَيْنِ يَنْعَكِسُ الْجَوَابُ ) فَإِذَا كَانَ الرِّبَاطُ مِنْ خَارِجٍ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ حِينَئِذٍ مِنْ بَاطِنِ الْكُمِّ ، وَإِنْ كَانَ الرِّبَاطُ مِنْ دَاخِلِ الْكُمِّ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَأْخُذُهَا مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ ، فَظَهَرَ أَنَّ انْعِكَاسَ الْجَوَابِ ( لِانْعِكَاسِ الْعِلَّةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ) أَيْ الطَّرَّارَ ( يُقْطَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ) وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، لِأَنَّ فِي صُورَةِ أَخْذِهِ مِنْ خَارِجِ الْكُمِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُحَرَّزًا بِالْكُمِّ فَهُوَ مُحَرَّزٌ بِصَاحِبِهِ ، وَإِذَا كَانَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ وَهُوَ نَائِمٌ إلَى جَنْبِهِ فَلَأَنْ يَكُونَ مُحَرَّزًا بِهِ وَهُوَ يَقْظَانُ وَالْمَالُ يُلَاصِقُ بَدَنَهُ أَوْلَى ( قُلْنَا : بَلْ الْحِرْزُ هُنَا لَيْسَ إلَّا الْكُمَّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَعْتَمِدُ الْكُمَّ ) أَوْ الْجَيْبَ لَا قِيَامَ نَفْسِهِ فَصَارَ الْكُمُّ كَالصُّنْدُوقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَطْرُورَ كُمُّهُ إمَّا فِي حَالِ الْمَشْيِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، فَمَقْصُودُهُ فِي الْأَوَّلِ لَيْسَ إلَّا قَطْعَ الْمَسَافَةِ لَا حِفْظَ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَمَقْصُودُهُ الِاسْتِرَاحَةُ عَنْ حِفْظِ الْمَالِ وَهُوَ شُغْلُ قَلْبِهِ بِمُرَاقَبَتِهِ فَإِنَّهُ مُتْعِبٌ لِلنَّفْسِ فَيَرْبِطُهُ لِيُرِيحَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا اعْتَمَدَ الرَّبْطُ وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذَا الْبَابِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَقَّ جُوَالِقًا عَلَى جَمَلٍ يَسِيرُ فَأَخَذَ مَا فِيهِ قُطِعَ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ
اعْتَمَدَ الْجُوَالِقَ فَكَانَ السَّارِقُ مِنْهُ هَاتِكًا لِلْحِرْزِ فَيُقْطَعُ ، وَلَوْ أَخَذَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ لَا يُقْطَعُ .
وَكَذَا لَوْ سَرَقَ مِنْ الْفُسْطَاطِ قُطِعَ ، وَلَوْ سَرَقَ نَفْسَ الْفُسْطَاطِ لَا يُقْطَعُ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحَرَّزًا بَلْ مَا فِيهِ مُحَرَّزٌ بِهِ فَلِذَا قُطِعَ فِيمَا فِيهِ دُونَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْفُسْطَاطُ مَلْفُوفًا عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ أَوْ فِي فُسْطَاطٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ بِهِ .
وَلَوْ سَرَقَ الْغَنَمَ مِنْ الْمَرْعَى لَا يُقْطَعُ وَإِنْ كَانَ الرَّاعِي مَعَهَا ، لِأَنَّ الرَّاعِيَ لَا يَقْصِدُ الْحِفْظَ بَلْ مُجَرَّدَ الرَّعْيِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ فِي حَظِيرَةٍ بَنَاهَا لَهَا وَعَلَيْهَا بَابٌ مُغْلَقٌ فَأَخْرَجَهَا مِنْهُ قُطِعَ لِأَنَّهَا بُنِيَتْ لِحِفْظِهَا .
وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ إذَا كَانَ الرَّاعِي بِحَيْثُ يَرَاهَا يُقْطَعُ لِأَنَّهَا مُحَرَّزَةٌ بِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً عَنْ نَظَرِهِ أَوْ هُوَ نَائِمٌ أَوْ مَشْغُولٌ فَلَيْسَتْ مُحَرَّزَةً ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ الْجُوَالِقَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْجِمَالِ الْمُقَطَّرَةِ يُقْطَعُ .
وَبِمَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْصِيلِ فِي الطَّرِّ ظَهَرَ أَنَّ مَا يُطْلَقُ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الطَّرَّارَ يُقْطَعُ إنَّمَا يَأْتِي عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
( وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحَرَّزٍ مَقْصُودًا فَتَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ وَالرَّاكِبَ يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ .
حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ ( وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ ) لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتَهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ ( وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ ) وَمَعْنَاهُ إنْ كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ هُوَ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ، وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ ، وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ مِنْ الْقِطَارِ بَعِيرًا أَوْ حِمْلًا لَمْ يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِرْزٍ مَقْصُودٍ فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّائِقَ وَالرَّاكِبَ وَالْقَائِدَ إنَّمَا يَقْصِدُونَ قَطْعَ الْمَسَافَةِ وَنَقْلَ الْأَمْتِعَةِ دُونَ الْحِفْظِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَعَ الْأَحْمَالِ مَنْ يَتْبَعُهَا لِلْحِفْظِ قَالُوا يُقْطَعُ وَإِنْ شَقَّ الْحِمْلَ وَأَخَذَ مِنْهُ قُطِعَ لِأَنَّ الْجُوَالِقَ فِي مِثْلِ هَذَا حِرْزٌ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ بِوَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِيهِ صِيَانَتُهَا كَالْكُمِّ فَوُجِدَ الْأَخْذُ مِنْ الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ ) وَعِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كُلٌّ مِنْ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ حَافِظٌ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ فِي أَخْذِ الْجَمَلِ وَالْحِمْلِ وَالْجُوَالِقِ وَالشَّقِّ ثُمَّ الْأَخْذِ .
وَأَمَّا الْقَائِدُ فَحَافِظٌ لِلْحِمْلِ الَّذِي زِمَامُهُ بِيَدِهِ فَقَطْ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَهُمْ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَرَاهَا إذَا الْتَفَتَ إلَيْهَا حَافِظٌ لِلْكُلِّ فَالْكُلُّ مُحَرَّزَةٌ عِنْدَهُمْ بِقَوْدِهِ .
وَفَرْضُ أَنَّ قَصْدَهُ الْقَطْعُ لِلْمَسَافَةِ وَنَقْلُ الْأَمْتِعَةِ لَا يُنَافِي أَنْ يَقْصِدَ الْحِفْظَ مَعَ ذَلِكَ بَلْ الظَّاهِرُ ذَلِكَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُوجِبْ الْقَطْعَ فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ يُحْمَلُ عَلَى تَرْكِ الرَّاعِي إيَّاهَا فِي الْمَرْعَى وَغَيْبَتِهَا عَنْ عَيْنِهِ أَوْ مَعَ نَوْمِهِ ، وَالْقِطَارُ بِكَسْرِ الْقَافِ : الْإِبِلُ يُشَدُّ زِمَامُ بَعْضِهَا خَلْفَ بَعْضٍ عَلَى نَسَقٍ ، وَمِنْهُ جَاءَ الْقَوْمُ مُتَقَاطِرِينَ : إذَا جَاءَ بَعْضُهُمْ إثْرَ بَعْضٍ ( قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ جُوَالِقًا فِيهِ مَتَاعٌ وَصَاحِبُهُ يَحْفَظُهُ أَوْ نَائِمٌ عَلَيْهِ قُطِعَ .
وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الْجُوَالِقُ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِحِرْزٍ كَالطَّرِيقِ ) وَالْمَفَازَةِ وَالْمَسْجِدِ ( وَنَحْوِهِ حَتَّى يَكُونَ مُحَرَّزًا بِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهِ مُتَرَصِّدًا لِحِفْظِهِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْحِفْظُ الْمُعْتَادُ ، وَالْجُلُوسُ عِنْدَهُ وَالنَّوْمُ عَلَيْهِ يُعَدُّ حِفْظًا عَادَةً ، وَكَذَا النَّوْمُ بِقُرْبٍ مِنْهُ عَلَى
مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ) يَعْنِي عِنْدَ التَّصْحِيحِ .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّهُ يُعَدُّ النَّائِمُ عِنْدَ مَتَاعِهِ حَافِظًا لَهُ فِي الْعَادَةِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْجَامِعِ : وَصَاحِبُهُ نَائِمٌ عَلَيْهِ أَوْ حَيْثُ يَكُونُ حَافِظًا لَهُ وَهَذَا يُؤَكِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ ) وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَطْعِ السَّارِقِ مِنْ الْحَافِظِ كَوْنُهُ عِنْدَهُ أَوْ تَحْتَهُ .
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ قَالَ ( وَيُقْطَعُ يَمِينَ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ وَيُحْسَمُ ) فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ، وَالْيَمِينُ بِقِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمِنْ الزَّنْدِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ الْيَدَ إلَى الْإِبِطِ ، وَهَذَا الْمَفْصِلُ : أَعْنِي الرُّسْغَ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، كَيْفَ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ مِنْ الزَّنْدِ ، وَالْحَسْمُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَاقْطَعُوهُ وَاحْسِمُوهُ ، } وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُفْضِي إلَى التَّلَفِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ لَا مُتْلِفٌ ( فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَمْ يُقْطَعْ وَخُلِّدَ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَيُعَزَّرُ أَيْضًا ، ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ } وَيُرْوَى مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، وَلِأَنَّ الثَّالِثَةَ مِثْلُ الْأُولَى فِي كَوْنِهَا جِنَايَةً بَلْ فَوْقَهَا فَتَكُونُ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْحَدِّ .
وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ : إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلًا يَمْشِي عَلَيْهَا ، بِهَذَا حَاجَّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا ، وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالْحَدُّ زَاجِرٌ ، وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ وَالزَّجْرُ فِيمَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُسْتَوْفَى مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ .
وَالْحَدِيثُ طَعَنَ فِيهِ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى السِّيَاسَةِ
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقَطْعِ وَإِثْبَاتِهِ ) ظَاهِرُ تَرْتِيبِهِ عَلَى بَيَانِ نَفْسِ السَّرِقَةِ وَتَفَاصِيلِ الْمَالِ وَالْحِرْزِ لِأَنَّهُ حُكْمُ سَرِقَةِ الْمَالِ الْخَالِصِ مِنْ الْحِرْزِ فَيَتَعَقَّبُهُ ( فَالْقَطْعُ لِمَا تَلَوْنَا مِنْ قَبْلُ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَالْمَعْنَى يَدَيْهُمَا ، وَحُكْمُ اللُّغَةِ أَنَّ مَا أُضِيفَ مِنْ الْخَلْقِ إلَى اثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٌ أَنْ يُجْمَعَ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وَقَدْ يُثَنَّى وَقَالَ : ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ وَالْأَفْصَحُ الْجَمْعُ ، وَأَمَّا كَوْنُهَا الْيَمِينَ .
فَبِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا وَهِيَ قِرَاءَةٌ مَشْهُورَةٌ فَكَانَ خَبَرًا مَشْهُورًا فَيُقَيِّدُ إطْلَاقَ النَّصِّ ، فَهَذَا مِنْ تَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ لَا مِنْ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا إجْمَالَ فِي قَوْلِهِ { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَقَدْ قَطَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْيَمِينَ ، وَكَذَا الصَّحَابَةُ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّقْيِيدُ مُرَادًا لَمْ يَفْعَلْهُ وَكَانَ يَقْطَعُ الْيَسَارَ .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْيَمِينَ أَنْفَعُ مِنْ الْيَسَارِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ وَحْدَهَا مَا لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْيَسَارِ ، فَلَوْ كَانَ الْإِطْلَاقُ مُرَادًا وَالِامْتِثَالُ يَحْصُلُ بِكُلٍّ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا الْيَسَارَ عَلَى عَادَتِهِ مِنْ طَلَبِ الْأَيْسَرِ لَهُمْ مَا أَمْكَنَ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مِنْ الزَّنْدِ وَهُوَ مَفْصِلُ الرُّسْغِ وَيُقَالُ الْكُوعُ فَلِأَنَّهُ الْمُتَوَارَثُ ، وَمِثْلُهُ لَا يُطْلَبُ فِيهِ سَنَدٌ بِخُصُوصِهِ كَالْمُتَوَاتِرِ لَا يُبَالِي فِيهِ بِكُفْرِ النَّاقِلِينَ فَضْلًا عَنْ فِسْقِهِمْ أَوْ ضَعْفِهِمْ .
وَرُوِيَ فِيهِ خُصُوصُ مُتُونٍ : مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي حَدِيثِ رِدَاءِ صَفْوَانَ قَالَ فِيهِ " ثُمَّ أُمِرَ بِقَطْعِهِ مِنْ الْمَفْصِلِ " وَضُعِّفَ بِالْعَزْرَمِيِّ .
وَابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ { قَطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارِقًا مِنْ الْمَفْصِلِ
} وَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَلَمَةَ ، قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ : لَا أَعْرِفُ لَهُ حَالًا .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ رَجُلًا مِنْ الْمَفْصِلِ } وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِرْسَالُ .
وَأَخْرَجَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ أَنَّهُمَا قَطَعَا مِنْ الْمَفْصِلِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ ، فَمَا نُقِلَ عَنْ شُذُوذٍ مِنْ الِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ لِأَنَّ بِهَا الْبَطْشَ ، وَعَنْ الْخَوَارِجِ مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ مِنْ الْمَنْكِبِ لِأَنَّ الْيَدَ اسْمٌ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ .
وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ هُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ ، وَهُمْ لَمْ يَقْدَحُوا فِي الْإِجْمَاعِ قَبْلَ الْفِتْنَةِ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى مَا ذَكَرُوا وَعَلَى مَا إلَى الرُّسْغِ إطْلَاقًا أَشْهَرَ مِنْهُ إلَى الْمَنْكِبِ ، بَلْ صَارَ يَتَبَادَرُ مِنْ إطْلَاقِ الْيَدِ فَكَانَ أَوْلَى بِاعْتِبَارِهِ ؛ لَئِنْ سَلِمَ اشْتِرَاكُ الِاسْمِ جَازَ كَوْنُ مَا إلَى الْمَنْكِبِ هُوَ الْمُرَادُ وَمَا إلَى الرُّسْغِ ، فَيَتَعَيَّنُ مَا إلَى الرُّسْغِ دَرْءًا لِلزَّائِدِ عِنْدَ احْتِمَالِ عَدَمِهِ .
وَأَمَّا الْحَسْمُ فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُتِيَ بِسَارِقٍ سَرَقَ شَمْلَةً فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَا إخَالُهُ سَرَقَ فَقَالَ السَّارِقُ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ ثُمَّ ائْتُونِي بِهِ ، فَقُطِعَ ثُمَّ حُسِمَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ ، فَقَالَ : تُبْ إلَى اللَّهِ ، قَالَ : تُبْت إلَى اللَّهِ ، قَالَ : تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ } وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ ، وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ سَلَّامٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ حُجَيَّةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ مِنْ الْمَفْصِلِ ثُمَّ حَسَمَهُمْ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَإِلَى أَيْدِيهِمْ كَأَنَّهَا أُيُورُ الْحُمُرِ .
وَالْحَسْمُ الْكَيُّ لِيَنْقَطِعَ الدَّمُ .
وَفِي الْمُغْرِبِ وَالْمُغْنِي
لِابْنِ قُدَامَةَ : هُوَ أَنْ يُغْمَسَ فِي الدُّهْنِ الَّذِي أُغْلِيَ ، وَثَمَنُ الزَّيْتِ وَكُلْفَةُ الْحَسْمِ فِي بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَهُمْ ، لِأَنَّهُ أَمَرَ الْقَاطِعَ بِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي وَجْهٍ ، وَعِنْدَنَا هُوَ عَلَى السَّارِقِ .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ ( لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْسَمْ يُؤَدِّي إلَى التَّلَفِ ) يَقْتَضِي وُجُوبَهُ ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَا يَأْثَمُ .
وَيُسَنُّ تَعْلِيقُ يَدِهِ فِي عُنُقِهِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِهِ .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ .
وَعِنْدَنَا ذَلِكَ مُطْلَقٌ لِلْإِمَامِ إنْ رَآهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ مَنْ قَطَعَهُ لِيَكُونَ سُنَّةً قَوْلُهُ وَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ) بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ قَدَّمْنَاهُ ، ثُمَّ يُقْطَعُ مِنْ الْكَعْبِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفَعَلَ عُمَرُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَالرَّوَافِضُ : يُقْطَعُ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ مِنْ مَقْعَدِ الشِّرَاكِ لِأَنَّ عَلِيًّا كَانَ يَقْطَعُ كَذَلِكَ وَيَدَعُ لَهُ عَقِبًا يَمْشِي عَلَيْهِ .
قَالَ ( فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا لَا يُقْطَعُ ) بَلْ يُعَزَّرُ ( وَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَتُوبَ ) أَوْ يَمُوتَ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِي الثَّالِثَةِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَفِي الرَّابِعَةِ تُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُمْنَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوهُ ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوهُ } ) وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يُعْرَفُ ، وَلَكِنْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ قَالَ { جِيءَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ اُقْتُلُوهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ قَالَ : اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الثَّانِيَةِ فَقَالَ اُقْتُلُوهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ ، قَالَ : اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ ، قَالُوا : يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ ، قَالَ اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الرَّابِعَةِ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ ، فَقَالَ اقْطَعُوهُ فَقُطِعَ ، ثُمَّ جِيءَ بِهِ فِي الْخَامِسَةِ قَالَ : اُقْتُلُوهُ ، قَالَ جَابِرٌ : فَانْطَلَقْنَا بِهِ فَقَتَلْنَاهُ ، ثُمَّ اجْتَرَرْنَاهُ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بِئْرٍ وَرَمَيْنَا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ } قَالَ النَّسَائِيّ : حَدِيثٌ مُنْكَرٌ .
وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ .
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبِ اللَّخْمِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَالَ اُقْتُلُوهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّمَا سَرَقَ ، قَالَ : اقْطَعُوهُ ، فَقُطِعَ ، ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ الْأَرْبَعُ كُلُّهَا .
ثُمَّ سَرَقَ الْخَامِسَةَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَ بِهَذَا حِينَ قَالَ : اُقْتُلُوهُ } وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَرُوِيَ مُفَسَّرًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ) أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { إذَا سَرَقَ السَّارِقُ فَاقْطَعُوا يَدَهُ .
فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ .
فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ } وَفِي سَنَدِهِ الْوَاقِدِيُّ .
وَهُنَا طُرُقٌ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ الطَّعْنِ ، وَلِذَا طَعَنَ الطَّحَاوِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَقَالَ : تَتَبَّعْنَا هَذِهِ الْآثَارَ فَلَمْ نَجِدْ لِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِلَّا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ فِي مُشَاوَرَةِ عَلِيٍّ ؛ وَلَئِنْ سَلِمَ يُحْمَلُ عَلَى الِانْتِسَاخِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ تَغْلِيظٌ فِي الْحُدُودِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ أَيْدِي الْعُرَنِيِّينَ
وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ ثُمَّ اُنْتُسِخَ ذَلِكَ .
وَأَمَّا فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَشَكَا إلَيْهِ أَنَّ عَامِلَ الْيَمَنِ ظَلَمَهُ ، فَكَانَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَأَبِيك مَا لَيْلُك بِلَيْلِ سَارِقٍ ، ثُمَّ إنَّهُمْ فَقَدُوا عِقْدًا لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ امْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَطُوفُ مَعَهُمْ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ عَلَيْك بِمَنْ بَيَّتَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ ، فَوَجَدُوا الْحُلِيَّ عِنْدَ صَائِغٍ زَعَمَ أَنَّ الْأَقْطَعَ جَاءَهُ بِهِ ، فَاعْتَرَفَ الْأَقْطَعُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَدُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ سَرِقَتِهِ .
وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَدِمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ أَقْطَعُ .
فَشَكَا إلَيْهِ أَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ فِي سَرِقَةٍ وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا زِدْت عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُوَلِّينِي شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ فَخُنْته فِي فَرِيضَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَطَعَ يَدِي وَرِجْلِي ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ : إنْ كُنْت صَادِقًا فَلَأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ ، فَلَمْ يَلْبَسُوا إلَّا قَلِيلًا حَتَّى فَقَدَ آلُ أَبِي بَكْرٍ حُلِيًّا لَهُمْ ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ أَظْهِرْ مَنْ سَرَقَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِ ، قَالَ : فَمَا انْتَصَفَ النَّهَارُ حَتَّى عَثَرُوا عَلَى الْمَتَاعِ عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيْلَك إنَّك لَقَلِيلُ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ الثَّانِيَةَ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : وَيُرْوَى عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ : إنَّمَا كَانَ الَّذِي سَرَقَ حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رِجْلَهُ الْيُسْرَى .
قَالَ : وَكَانَ ابْنُ شِهَابٍ أَعْلَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ هَذَا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَعُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ يُقْتَلُ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ مَا رُوِيَ مِنْ ذَلِكَ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُعَزَّزُ وَيُحْبَسُ كَقَوْلِنَا فِي الثَّالِثَةِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَخْ ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ : وَأَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا سَرَقَ السَّارِقُ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ ضَمَّنْته السِّجْنَ حَتَّى يُحْدِثَ خَيْرًا ، إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ أَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا وَرِجْلٌ يَمْشِي عَلَيْهَا .
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ جَابِرٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ لَا يَقْطَعُ إلَّا الْيَدَ وَالرِّجْلَ .
وَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ سَجَنَهُ وَيَقُولُ : إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ أَنْ لَا أَدَعَ لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُقْطَعَ السَّارِقُ يَدًا وَرِجْلًا ، فَإِذَا أُتِيَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : إنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ أَدَعَهُ لَا يَتَطَهَّرُ لِصَلَاتِهِ .
وَلَكِنْ احْبِسُوهُ .
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ فَقَالَ أَقْطَعُ يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ
وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ ، أَقْطَعُ رِجْلَهُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي ، إنِّي لَأَسْتَحِي مِنْ اللَّهِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ وَخَلَّدَهُ فِي السِّجْنِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّ نَجْدَةَ كَتَبَ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَسْأَلُ عَنْ السَّارِقِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ بِمِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ .
وَأَخْرَجَ عَنْ سِمَاكٍ أَنَّ عُمَرَ اسْتَشَارَهُمْ فِي سَارِقٍ فَأَجْمَعُوا عَلَى مِثْلِ قَوْلِ عَلِيٍّ .
وَأَخْرَجَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، ثُمَّ إنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، وَلَا تَقْطَعُوا يَدَهُ الْأُخْرَى وَذَرُوهُ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا ، وَلَكِنْ احْبِسُوهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَأَخْرَجَ عَنْ النَّخَعِيِّ كَانُوا يَقُولُونَ : لَا يُتْرَكُ ابْنُ آدَمَ مِثْلَ الْبَهِيمَةِ لَيْسَ لَهُ يَدٌ يَأْكُلُ بِهَا وَيَسْتَنْجِي بِهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ قَدْ ثَبَتَ ثُبُوتًا لَا مَرَدَّ لَهُ ، فَبَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الَّتِي غَالِبًا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا مِثْلُ سَارِقٍ يَقْطَعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَتَهُ ثُمَّ يَقْتُلُهُ وَالصَّحَابَةُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِهِ ، وَلَا خَبَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعُمَرَ مِنْ الْأَصْحَابِ الْمُلَازِمِينَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، بَلْ أَقَلُّ مَا فِي الْبَابِ إنْ كَانَ يَنْقُلُ لَهُمْ إنْ غَابُوا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ تَقْضِي الْعَادَةُ ، فَامْتِنَاعُ عَلِيٍّ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا لِضَعْفِ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْإِتْيَانِ عَلَى أَرْبَعَتِهِ وَإِمَّا لِعِلْمِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ حَدًّا مُسْتَمِرًّا بَلْ مَنْ رَأَى الْإِمَامُ قَتْلَهُ لَمَّا شَاهَدَ فِيهِ مِنْ السَّعْيِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ وَبَعْدَ الطِّبَاعِ عَنْ الرُّجُوعِ فَلَهُ قَتْلُهُ سِيَاسَةً فَيَفْعَلُ ذَلِكَ الْقَتْلَ الْمَعْنَوِيَّ ( قَوْلُهُ وَبِهَذَا حَاجَّ عَلِيٌّ بَقِيَّةَ الصَّحَابَةِ فَحَجَّهُمْ فَانْعَقَدَ إجْمَاعًا ) يُشِيرُ إلَى مَا فِي تَنْقِيحِ ابْنِ عَبْدِ الْهَادِي .
قَالَ سَعِيدُ
بْنُ مَنْصُورٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : حَضَرْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ أُتِيَ بِرَجُلٍ مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَا تَرَوْنَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا اقْطَعْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : قَتَلْته إذًا وَمَا عَلَيْهِ الْقَتْلُ ، بِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَوَضَّأُ لِلصَّلَاةِ ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَتِهِ ؟ بِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ عَلَى حَاجَتِهِ ، فَرَدَّهُ إلَى السِّجْنِ أَيَّامًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ ، فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِمْ الْأَوَّلِ وَقَالَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ، فَجَلَدَهُ جَلْدًا شَدِيدًا ثُمَّ أَرْسَلَهُ .
وَقَالَ سَعِيدٌ أَيْضًا : حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَائِذٍ قَالَ : أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِأَقْطَعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَ أَنْ يُقْطَعَ رِجْلُهُ .
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ اللَّهُ { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ ، فَقَدْ قَطَعْت يَدَ هَذَا وَرِجْلَهُ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَقْطَعَ رِجْلَهُ فَتَدَعَهُ لَيْسَ لَهُ قَائِمَةٌ يَمْشِي عَلَيْهَا ، إمَّا أَنْ تُعَزِّرَهُ ، وَإِمَّا أَنْ تُودِعَهُ السِّجْنَ فَاسْتَوْدَعَهُ السِّجْنَ .
وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ ، وَهُوَ مِمَّا يُؤَيِّدُ ضَعِيفَ الْحَدِيثِ مِنْ اسْتِدْلَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُوَافَقَةِ عُمَرَ لَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلِأَنَّهُ إهْلَاكٌ مَعْنًى ) هُوَ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَتَلْته إذًا ( وَالْحَدُّ زَاجِرٌ ) لَا مُهْلِكٌ ( وَلِأَنَّهُ نَادِرُ الْوُجُودِ ) أَيْ يَنْدُرُ أَنْ يَسْرِقَ الْإِنْسَانُ بَعْدَ قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ ( وَالْحَدُّ ) لَا يُشْرَعُ إلَّا ( فِيمَا يَغْلِبُ ) عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ ( بِخِلَافِ الْقِصَاصِ ) يَعْنِي لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيَّ رَجُلٍ قُطِعَتْ يَدَاهُ أَوْ أَرْبَعَتَهُ قُطِعَتْ أَرْبَعَتُهُ ( لِأَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ
فَيَسْتَوْفِيهِ مَا أَمْكَنَ جَبْرًا لِحَقِّهِ ) لَا يُقَالُ : الْيَدُ الْيُسْرَى مَحَلُّ لِلْقَطْعِ بِظَاهِرِ الْكِتَابِ وَلَا إجْمَاعَ عَلَى خِلَافِ الْكِتَابِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَمَّا وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ مِنْهُ عَلَى الْمُقَيَّدِ عَمَلًا بِالْقِرَاءَةِ الْمَشْهُورَةِ خَرَجَتْ مِنْ كَوْنِهَا مُرَادَةً وَتَعَيَّنَتْ الْيُمْنَى مُرَادَةً .
وَالْأَمْرُ الْمَقْرُونُ بِالْوَصْفِ وَإِنْ تَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لَكِنْ إنَّمَا يَكُونُ حَيْثُ أَمْكَنَ ، وَإِذَا انْتَفَى إرَادَةُ الْيُسْرَى بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّقْيِيدِ انْتَفَى مَحَلِّيَّتُهَا لِلْقَطْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُهُ فَيَلْزَمُ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، وَثَبَتَ قَطْعُ الرِّجْلِ فِي الثَّانِيَةِ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، وَانْتَفَى مَا وَرَاءَ ذَلِكَ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى الْعَدَمِ .
( وَإِذَا كَانَ السَّارِقُ أَشَلَّ الْيَدِ الْيُسْرَى أَوْ أَقْطَعَ أَوْ مَقْطُوعَ الرِّجْلِ الْيُمْنَى لَمْ يُقْطَعْ ) لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بَطْشًا أَوْ مَشْيًا ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى شَلَّاءَ لِمَا قُلْنَا ( وَكَذَا إذَا كَانَتْ إبْهَامُهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ أَوْ الْأُصْبُعَانِ مِنْهَا سِوَى الْإِبْهَامِ ) لِأَنَّ قِوَامَ الْبَطْشِ بِالْإِبْهَامِ ( فَإِنْ كَانَتْ أُصْبُعٌ وَاحِدَةٌ سِوَى الْإِبْهَامِ مَقْطُوعَةً أَوْ شَلَّاءَ قُطِعَ ) لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَاحِدَةِ لَا يُوجِبُ خَلَلًا ظَاهِرًا فِي الْبَطْشِ ، بِخِلَافِ فَوَاتِ الْأُصْبُعَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَتَنَزَّلَانِ مَنْزِلَةَ الْإِبْهَامِ فِي نُقْصَانِ الْبَطْشِ .