كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فِي آخِرِهِ مِنْ الْقُرْبَةِ بِشَرْطِ التَّأْبِيدِ ، وَهُوَ بِذَلِكَ كَالْفُقَرَاءِ وَمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ لَكِنَّهُ يَكُونُ وَقْفًا قَبْلَ انْقِرَاضِ الْأَغْنِيَاءِ بِلَا تَصَدُّقٍ .
وَسَبَبُهُ إرَادَةُ مَحْبُوبِ النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا بَيْنَ الْأَحْيَاءِ .
وَفِي الْآخِرَةِ بِالتَّقَرُّبِ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ جَلَّ وَعَزَّ .
وَأَمَّا شَرْطُهُ فَهُوَ الشَّرْطُ فِي سَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ مِنْ كَوْنِهِ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا ، وَأَنْ يَكُونَ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ ، فَلَوْ قَالَ : إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَدَارِي صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَجَاءَ وَلَدُهُ لَا يَصِيرُ وَقْفًا ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَلَوْ وَقَفَ الذِّمِّيُّ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ، وَجَعَلَ آخِرَهُ لِلْمَسَاكِينِ جَازَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ لِمَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَإِنْ خَصَّ فِي وَقْفِهِ مَسَاكِينَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ ، وَيُفَرَّقُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس مِنْهُمْ إلَّا إنْ خَصَّ صِنْفًا مِنْهُمْ ، فَلَوْ دَفَعَ الْقَيِّمُ إلَى غَيْرِهِمْ كَانَ ضَامِنًا ، وَإِنْ قُلْنَا إنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ ثُمَّ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الصَّدَقَةِ لَزِمَ شَرْطُهُ ، وَكَذَا إنْ قَالَ مَنْ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِ النَّصْرَانِيَّةِ خَرَجَ اُعْتُبِرَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْخَصَّافُ .
وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ تَعَقَّبَهُ غَيْرَ مُتَأَخِّرٍ يُسَمَّى الطَّرَسُوسِيُّ شَنَّعَ بِأَنَّهُ جَعَلَ الْكُفْرَ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْإِسْلَامَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ ، وَهَذَا لِلْبُعْدِ مِنْ الْفِقْهِ
فَإِنَّ شَرَائِطَ الْوَاقِفِ مُعْتَبَرَةٌ إذَا لَمْ تُخَالِفْ الشَّرْعَ ، وَالْوَاقِفُ مَالِكٌ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ حَيْثُ شَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً ، وَلَهُ أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مِنْ الْفُقَرَاءِ دُونَ صِنْفٍ ، وَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ فِي كُلِّهِمْ قُرْبَةً ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ حَتَّى جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إلَيْهِمْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْكَفَّارَاتِ عِنْدَنَا فَكَيْفَ لَا يُعْتَبَرُ شَرْطُهُ فِي صِنْفٍ دُونَ صِنْفٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ ؟ أَرَأَيْت لَوْ وَقَفَ عَلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَهُمْ أَلَيْسَ يُحْرَمُ مِنْهُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَوْ دَفَعَ الْمُتَوَلِّي إلَى الْمُسْلِمِينَ كَانَ ضَامِنًا فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَالْإِسْلَامُ لَيْسَ سَبَبًا لِلْحِرْمَانِ بَلْ الْحِرْمَانُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ سَبَبِ تَمَلُّكِهِ هَذَا الْمَالَ ، وَالسَّبَبُ هُوَ إعْطَاءُ الْوَاقِفِ الْمَالِكِ ، وَشَرْطُ صِحَّةِ وَقْفِهِ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ ، فَلَوْ وَقَفَ عَلَى بَيْعَةٍ مَثَلًا فَإِذَا خَرِبَتْ يَكُونُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ ابْتِدَاءً ، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ مِيرَاثًا عَنْهُ نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ فِي وَقْفِهِ وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً عِنْدَ هُمْ ؛ فَقَالَ صَاحِبُ الْمُحِيطِ : الْوَقْفُ كَالْوَصِيَّةِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ فَشَهِدَ عَلَيْهِ ذِمِّيَّانِ عَدْلَانِ فِي مِلَّتِهِمْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْوَقْفِ ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ بِهِ أَوْ يَعْتَمِرَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ قُرْبَةً عِنْدَهُمْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ .
وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ إذَا وَقَفَ حَالَ رِدَّتِهِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مَوْقُوفٌ إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ بَطَلَ وَقْفُهُ .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إذَا انْتَحَلَ دِينًا جَازَ مِنْهُ مَا نُجِيزُهُ لِأَهْلِ ذَلِكَ الدِّينِ .
أَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَأَبُو حَنِيفَةَ يُجِيزُ وَقْفَهَا
لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا وَقَفَ وَقْفًا صَحِيحًا فِي أَيِّ وَجْهٍ كَانَ ثُمَّ ارْتَدَّ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَصِيرُ مِيرَاثًا سَوَاءٌ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ أَوْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ إلَّا إنْ أَعَادَ الْوَقْفَ بَعْدَ عَوْدِهِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَحَكَى الْخَصَّافُ فِي وَقْفِ الْمُرْتَدِّينَ خِلَافًا بَيْنَ أَصْحَابِنَا مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي الذِّمِّيِّ يَتَزَنْدَقُ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا ، قَالَ بَعْضُهُمْ : أُقِرُّهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ وَأُقِرُّ الْجِزْيَةَ عَلَيْهِ لِأَنِّي إنْ أَخَذْته بِالرُّجُوعِ فَإِنَّمَا أَرُدُّهُ مِنْ كُفْرٍ إلَى كُفْرٍ وَلَا أَرَى ذَلِكَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أُقِرُّهُ عَلَى الزَّنْدَقَةِ .
وَأَمَّا الصَّابِئَةُ فَإِنْ كَانُوا دَهْرِيَّةً يَقُولُونَ مَا يُهْلِكُنَا إلَّا الدَّهْرُ فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الزَّنَادِقَةِ ، وَإِنْ كَانُوا يَقُولُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ صَحَّ مِنْ وُقُوفِهِمْ مَا يَصِحُّ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ بَعْدَ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ ، حُكْمُ وَقْفِهِمْ وَوَصَايَاهُمْ حُكْمُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَبُولِ شَهَادَاتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهَذَا حُكْمٌ بِإِسْلَامِهِمْ .
وَأَمَّا الْخَطَابِيَّةُ فَإِنَّمَا لَمْ يُقْبَلُوا ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ إنَّهُمْ يَشْهَدُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِالزُّورِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ .
وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ صَدَقَ الْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ .
وَمِنْ الشُّرُوطِ الْمِلْكُ وَقْتَ الْوَقْفِ ، حَتَّى لَوْ غَصَبَ أَرْضًا فَوَقَفَهَا ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْ مَالِكِهَا وَدَفَعَ ثَمَنَهَا إلَيْهِ أَوْ صَالَحَ عَلَى مَالٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا تَكُونُ وَقْفًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهَا بَعْدَ أَنْ وَقَفَهَا ، هَذَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْوَاقِفُ .
أَمَّا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى جِهَاتٍ فَبَلَغَ فَأَجَازَهُ جَازَ بِشَرْطِ الْحُكْمِ وَالتَّسْلِيمِ أَوْ عَدَمِهِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِجَوَازِ وَقْفِ الْفُضُولِيِّ ، وَسَتَأْتِيك فُرُوعٌ أُخَرُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ .
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ دَيْنٍ فَوَقَفَ أَرْضًا لَهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ حَجْرَهُ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَخْرُجَ مَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ لِيَضُرَّ بِأَرْبَابِ الدُّيُونِ أَوْ بِنَفْسِهِ كَذَا أَطْلَقَهَا الْخَصَّافُ .
وَيَنْبَغِي أَنَّهُ إذَا وَقَفَهَا فِي الْحَجْرِ لِلسَّفَهِ عَلَى نَفْسِهِ ، ثُمَّ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَنْ يَصِحَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ وَعِنْدَ الْكُلِّ إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ ، هَذَا وَأَمَّا عَدَمُ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ كَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَلَوْ أَجَّرَ أَرْضًا عَامَيْنِ فَوَقَفَهَا قَبْلَ مُضِيِّهَا لَزِمَ الْوَقْفُ بِشَرْطِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ رَجَعَتْ الْأَرْضُ إلَى مَا جَعَلَهَا لَهُ مِنْ الْجِهَاتِ ، وَكَذَا لَوْ رَهَنَ أَرْضَهُ ثُمَّ وَقَفَهَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَكَّهَا لَزِمَ الْوَقْفُ وَلَا تَخْرُجُ عَنْ الرَّهْنِ بِذَلِكَ ، وَلَوْ أَقَامَتْ سِنِينَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَافْتَكَّهَا تَعُودُ إلَى الْجِهَةِ ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الِافْتِكَاكِ وَتَرَكَ قَدْرَ مَا يَفْتَكُّ بِهِ افْتَكَّ وَلَزِمَ الْوَقْفُ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً بِيعَتْ وَبَطَلَ الْوَقْفُ ، وَفِي الْإِجَارَةِ إذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَآجِرَيْنِ تَبْطُلُ وَتَصِيرُ وَقْفًا .
وَأَمَّا شَرْطُهُ الْخَاصُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ الْمِلْكِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ ، أَوْ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمٌ بِهِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ سِوَى كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لَهُ مِنْ كَوْنِهِ عَقَارًا أَوْ دَارًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُؤَبَّدًا مَقْسُومًا غَيْرَ مُشَاعٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمُسَلَّمًا إلَى مُتَوَلٍّ .
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْأَلْفَاظُ الْخَاصَّةُ كَأَنْ يَقُولَ أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ مُؤَبَّدَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَلَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ بَعْدَ شُرُوطِهِ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ نَسُوقَ شَيْئًا مِنْ الْأَلْفَاظِ : أَرْضِي هَذِهِ صَدَقَةٌ ، أَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِأَرْضِي هَذِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَا تَكُونُ وَقْفًا بَلْ نَذْرًا يُوجِبُ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِهَا أَوْ بِقِيمَتِهَا ، فَإِنْ فَعَلَ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ النَّذْرِ وَإِلَّا وُرِثَتْ عَنْهُ ، كَمَنْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ أَوْ كَفَّارَةٌ فَمَاتَ بِلَا إيصَاءٍ تُورَثُ عَنْهُ ، وَمَوْقُوفَةٌ فَقَطْ لَا تَصِحُّ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ وَقْفًا عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، وَإِذَا كَانَ مُفِيدًا لِخُصُوصِ الْمَصْرِفِ : أَعْنِي الْفُقَرَاءَ لَزِمَ كَوْنُهُ مُؤَبَّدًا ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْفُقَرَاءِ لَا تَنْقَطِعُ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَمَشَايِخُ بَلْخَ يُفْتُونَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَنَحْنُ نُفْتِي بِقَوْلِهِ أَيْضًا لِمَكَانِ الْعُرْفِ ، وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ رَدُّ هِلَالٍ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ الْوَقْفَ يَكُونُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَبَطَلَ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ إذَا كَانَ يَصْرِفُهُ لِلْفُقَرَاءِ كَانَ كَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ قَالَ مَوْقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ صَحَّ عِنْدَ هِلَالٍ أَيْضًا لِزَوَالِ الِاحْتِمَالِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَحْبُوسَةٌ أَوْ حَبْسٌ ، وَلَوْ كَانَ فِي حَبْسِ مِثْلِ هَذَا الْعُرْفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَقَوْلِهِ مَوْقُوفَةً ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِلسَّبِيلِ إذَا تَعَارَفُوهُ وَقْفًا مُؤَبَّدًا عَلَى الْفُقَرَاءِ كَانَ كَذَلِكَ وَإِلَّا سُئِلَ .
فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت الْوَقْفَ صَارَ وَقْفًا ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لَفْظَهُ ، أَوْ قَالَ أَرَدْت مَعْنَى صَدَقَةٍ فَهُوَ نَذْرٌ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَوْ بِثَمَنِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ كَانَتْ مِيرَاثًا ذَكَرَهُ فِي النَّوَازِلِ .
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ جَعَلْتهَا لِلْفُقَرَاءِ إنْ تَعَارَفُوهُ وَقْفًا عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا سُئِلَ ، فَإِنْ
أَرَادَ الْوَقْفَ فَهِيَ وَقْفٌ أَوْ الصَّدَقَةَ فَهُوَ نَذْرٌ ، وَكَذَا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى ، فَإِثْبَاتُهُ بِهِ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ أَوْلَى .
وَاعْتَرَضَهُ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ، وَذَكَرَ فِي إحْدَاهُمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ مِيرَاثًا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَهُ مِيرَاثًا لَا يُنَافِي كَوْنَهُ نَذْرًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ إذَا مَاتَ النَّاذِرُ وَلَمْ يُوَفِّ بِنَذْرِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا إلَّا أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى تَمَامِ التَّفْصِيلِ فِي إحْدَاهُمَا ، وَإِلَّا فَلَا شَكَّ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ يَكُونُ نَذْرًا ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ وَلَا بِقِيمَتِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا ؛ وَلَوْ قَالَ صَدَقَةً مُوَقْوِقَةً فَهِلَالٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمَا عَلَى صِحَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ صَدَقَةً عُرِفَ مَصْرِفُهُ ، وَانْتَفَى بِقَوْلِهِ مَوْقُوفَةً احْتِمَالُ كَوْنِهِ نَذْرًا ، وَكَذَلِكَ حَبْسُ صَدَقَةٍ .
وَكَذَلِكَ صَدَقَةٌ مُحَرَّمَةٌ .
قِيلَ وَمُحَرَّمَةٌ بِمَنْزِلَةِ وَقْفٍ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ حَبْسٌ أَوْ مَحْبُوسَةٌ مَوْقُوفَةٌ ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَوْقُوفَةٍ فَكَانَ كَإِفْرَادِ لَفْظِ مَوْقُوفَةٍ .
وَفِي النَّوَازِلِ : لَوْ قَالَ جَعَلْت نُزُلَ كَرْمِي وَقْفًا وَفِيهِ ثَمَرٌ أَوْ لَا يَصِيرُ الْكَرْمُ وَقْفًا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ جَعَلْت غَلَّتَهُ وَقْفًا تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ مَا أَمْكَنَ كَأَنَّهُ قَالَ جَعَلْت كَرْمِي بِمَا فِيهِ وَقْفًا ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الثِّمَارُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ ؛ وَلَوْ زَادَ فَقَالَ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا ، وَهُوَ مَوْضِعُ اتِّفَاقِ مُجِيزِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَّهَا الْعِبَارَةُ الْوَافِيَةُ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْأَسْرَارِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ مُؤَبَّدًا كَانَ وَقْفًا عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ مَنْ يُجِيزُ الْوَقْفَ يُفِيدُ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا ، وَلَا يَنْبَغِي فَإِنَّ التَّأْبِيدَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَوْ
آخِرِهِ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ وَجَعْلُهُ لِلْفُقَرَاءِ يُفِيدُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ مَوْقُوفَةً لِلَّهِ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةٍ مَوْقُوفَةٍ
كِتَابُ الْوَقْفِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ( يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ وَلِيًّا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْوَقْفُ لُغَةً .
هُوَ الْحَبْسُ تَقُولُ وَقَفْت الدَّابَّةَ وَأَوْقَفْتهَا بِمَعْنًى .
وَهُوَ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ .
ثُمَّ قِيلَ الْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فَالتَّصَدُّقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَصِحُّ ، فَلَا يَجُوزُ الْوَقْفُ أَصْلًا عِنْدَهُ ، وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مُلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ فَيَلْزَمُ وَلَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ .
وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا وَالتَّرْجِيحُ بِالدَّلِيلِ .
لَهُمَا { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَرْضٍ لَهُ تُدْعَى ثَمْغَ : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ } وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ مِنْهُ لِيَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَقَدْ أَمْكَنَ دَفْعُ حَاجَتِهِ بِإِسْقَاطِ الْمِلْكِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى .
إذْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْمَسْجِدُ فَيُجْعَلُ كَذَلِكَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى } وَعَنْ شُرَيْحٍ : جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ فِيهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَ ذَلِكَ وَالْمِلْكُ فِيهِ
لِلْوَاقِفِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِصَرْفِ غَلَّاتِهِ إلَى مَصَارِفِهَا وَنَصْبِ الْقَوَّامِرِ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَنَافِعِهِ فَصَارَ شَبِيهَ الْعَارِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ دَائِمًا وَلَا تَصَدُّقَ عَنْهُ إلَّا بِالْبَقَاءِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَالَ مِلْكُهُ ، لَا إلَى مَالِكٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مَعَ بَقَائِهِ كَالسَّائِبَةِ .
بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ ، وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُ جُعِلَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَهُنَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْعَبْدِ عَنْهُ فَلَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَالَ فِي الْكِتَابِ : لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ أَوْ يُعَلِّقَهُ بِمَوْتِهِ ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْحَاكِمِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، أَمَّا فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدُّقٌ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ الْمَوْلَى ، فَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
( قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهِ حَاكِمٌ ) أَيْ بِخُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ ، ( أَوْ يُعَلِّقَهُ ) أَيْ يُعَلِّقَ الْوَقْفَ ( بِمَوْتِهِ فَيَقُولَ : إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ( يَزُولُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ ) الَّذِي قَدَّمْنَا صِحَّةَ الْوَقْفِ بِهِ ، قَالَ مُحَمَّدٌ ( لَا يَزُولُ حَتَّى يَجْعَلَ لِلْوَقْفِ مُتَوَلِّيًا وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ) بَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَبِهِ أَخَذَ مَشَايِخُ بُخَارَى ، وَإِذَا لَمْ يَزُلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَبْلَ الْحُكْمِ يَكُونُ مُوجَبُ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ حَبْسَ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَالتَّصَدُّقَ بِالْمَنْفَعَةِ ، وَحَقِيقَتُهُ لَيْسَ إلَّا التَّصَدُّقُ بِالْمَنْفَعَةِ ، وَلَفْظُ حَبَسَ إلَى آخِرِهِ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ لَهُ بَيْعَهُ مَتَى شَاءَ وَمِلْكُهُ مُسْتَمِرٌّ فِيهِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِمَنْفَعَتِهِ فَلَمْ يُحْدِثْ الْوَاقِفُ إلَّا مَشِيئَةَ التَّصَدُّقِ بِمَنْفَعَتِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَانَ ثَابِتًا لَهُ قَبْلَ الْوَقْفِ بِلَا ذِكْرِ لَفْظِ الْوَقْفِ فَلَمْ يُفِدْ لَفْظُ الْوَقْفِ شَيْئًا ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قَوْلِهِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ ، وَهُوَ مَا أَرَادَ الْمُصَنِّفُ .
بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ الْمَلْفُوظُ فِي الْأَصْلِ ) يَعْنِي الْمَبْسُوطَ ، وَحِينَئِذٍ فَقَوْلُ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ حُكْمٌ لَمْ يَكُنْ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَثَرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ كَانَ كَالْمَعْدُومِ ، وَالْجَوَازُ وَالنَّفَاذُ وَالصِّحَّةُ فَرْعُ اعْتِبَارِ الْوُجُودِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجِيزُ لَيْسَ الْمُرَادُ التَّلَفُّظَ بِلَفْظِ الْوَقْفِ بَلْ لَا يُجِيزُ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرَ غَيْرُهُ أَنَّهَا أَحْكَامُ ذِكْرِ الْوَقْفِ فَلَا خِلَافَ إذَنْ ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يُجِيزُ الْوَقْفَ : أَيْ
لَا تَثْبُتُ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ لَهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِهَا حَاكِمٌ .
وَقَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَى غَيْرِهِ فَظَاهِرٌ وَإِنْ أَخْرَجَهُ إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ الْغَيْرُ لَيْسَ هُوَ ، الْمُسْتَوْفِي لِمَنَافِعِهِ .
[ فَرْعٌ ] يَثْبُتُ الْوَقْفُ بِالضَّرُورَةِ .
وَصُورَتُهُ أَنْ يُوصِيَ بِغَلَّةِ هَذِهِ الدَّارِ لِلْمَسَاكِينِ أَبَدًا أَوْ لِفُلَانٍ وَبَعْدَهُ لِلْمَسَاكِينِ أَبَدًا ، فَإِنَّ هَذِهِ الدَّارَ تَصِيرُ وَقْفًا بِالضَّرُورَةِ .
وَالْوَجْهُ أَنَّهَا كَقَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَقَدْ وَقَفْت دَارِي عَلَى كَذَا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَعِنْدَهُمَا حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى حُكْمِ مِلْكِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ عَنْهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْعِبَادِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى سِوَى قَوْلِنَا يَزُولُ مِلْكُهُ عَلَى وَجْهٍ يُحْبَسُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعِبَادِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ اللَّهِ فِي الْأَشْيَاءِ لَمْ يَزُلْ قَطُّ وَلَا يُزَالُ ، فَالْعِبَارَةُ الْجَيِّدَةُ قَوْلُ قَاضِي خَانْ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا صَحَّ الْوَقْفُ يَزُولُ مِلْكُ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ فَيَلْزَمُ وَلَا يَمْلِكُ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ يَنْتَقِلُ إلَى مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ لِامْتِنَاعِ السَّائِبَةِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ : هُوَ حَبْسُ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ فَلَا يَزُولُ عَنْهُ مِلْكُهُ لَكِنْ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { حَبِّسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَةَ } ا هـ ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ فَإِنَّ خِلَافَ الْأَصْلِ وَالْقِيَاسِ ثَابِتٌ فِي كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ خُرُوجُهُ لَا إلَى مَالِكٍ وَثُبُوتُ مِلْكِهِ أَوْ مِلْكِ غَيْرِهِ فِيهِ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ بَيْعِهِ
وَهِبَتِهِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ ؛ فَمِنْ الْأَوَّلِ الْمَسْجِدُ وَغَيْرُهُ ، وَمِنْ الثَّانِي أُمُّ الْوَلَدِ يَكُونُ الْمِلْكُ فِيهَا بَاقِيًا وَلَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَلَا تُوَرَّثُ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرُ الْمُطْلَقُ عِنْدَنَا فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ بِالدَّلِيلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مِلْكَ الْوَاقِفِ كَانَ مُتَيَقَّنَ الثُّبُوتِ ، وَالْمَعْلُومُ بِالْوَقْفِ مِنْ شَرْطِهِ عَدَمُ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، فَلْيَثْبُتْ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَقَطْ وَيَبْقَى الْبَاقِي عَلَى مَا كَانَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمُزِيلُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ، فَإِنَّ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ } مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِلَّا لَخَرَجَ إلَى مَالِكٍ آخَرَ .
ثُمَّ رَأَيْنَا غَيْرَهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ { إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا } أَيْ بِالثَّمَرَةِ أَوْ الْغَلَّةِ ، وَظَاهِرُهُ حَبْسُهَا عَلَى مَا كَانَ فَلَمْ يَخْلُصْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ ، وَكَذَا الْمَعْنَى الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفُ يُفِيدُ لُزُومَهُ لَا غَيْرُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ ثَبَتَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ " تَصَدَّقْ " وَقَوْلُهُ " حَبِّسْ " وَالْمَفْهُومَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا مَلِّكْهُ الْفَقِيرُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ .
وَمَعْنَى حَبِّسْ احْبِسْهُ : أَيْ عَلَى مَا كَانَ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِهِمَا إلَّا مَعْنَى أَحَدِهِمَا ، وَإِلَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجِيبًا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ .
فَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ حَبِّسْ عَلَى مَعْنَى تَصَدَّقْ ، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى نَفْيِهِ إذْ لَا يَقُولُ وَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ بِمِلْكِ الْفَقِيرِ لِلْعَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ تَصَدَّقْ عَلَى مَعْنَى حَبَسَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَيُحْبَسُ عَلَى الْمِلْكِ شَرْعًا ، وَإِذَا حَبَسَ عَلَيْهِ شَرْعًا امْتَنَعَ بَيْعُهُ .
وَصُورَةُ حُكْمِ الْحَاكِمِ
الَّذِي بِهِ يَزُولُ الْمِلْكُ عِنْدَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ ، ثُمَّ يُظْهِرَ الرُّجُوعَ فَيُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي فَيَقْضِي الْقَاضِي بِلُزُومِهِ ، قَالُوا : فَإِنْ خَافَ الْوَاقِفُ أَنْ يَبِيعَهُ قَاضٍ قَبْلَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ يَكْتُبُ فِي صَكِّ الْوَقْفِ : فَإِنْ أَبْطَلَهُ أَوْ غَيَّرَهُ قَاضٍ فَهَذِهِ الْأَرْضُ بِأَصْلِهَا وَجَمِيعُ مَا فِيهَا وَصِيَّةٌ مِنْ فُلَانٍ الْوَاقِفِ تُبَاعُ وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا لَا يُخَاصِمُ أَحَدٌ فِي إبْطَالِهِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَالْوَصِيَّةُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، وَإِذَا أَبْطَلَهُ قَاضٍ يَصِيرُ وَصِيَّةً يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا إذَا وَقَفَ فِي صِحَّتِهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ وَقَفَ فِي مَرَضِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَقَدْ يَكُونُ فِي نَقْضِهِ وَبَيْعِهِ فَائِدَةٌ لِلْوَرَثَةِ ، فَمَحْمَلُ مَا ذَكَرَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَقَفَ فِي الْمَرَضِ ، أَوْ كَانَ فِيهِ لَكِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ ( قَوْلُهُ وَاللَّفْظُ يَنْتَظِمُهُمَا ) أَيْ لَفْظُ الْوَقْفِ يَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ وَعَدَمِهِ ، إذْ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ لَفْظِ وَقَفْت دَارِي أَوْ حَبَسْتهَا خُرُوجُهَا عَنْ الْمِلْكِ فَيَصْدُقُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا ، فَالتَّرْجِيحُ : أَيْ تَرْجِيحُ الْخُرُوجِ وَعَدَمِهِ بِالدَّلِيلِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَذْكُورَةَ مِنْ قِبَلِهِمَا إنَّمَا تُفِيدُ اللُّزُومَ لَا الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ ، وَمِنْ قِبَلِهِ تُفِيدُ نَفْيَ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا دَلِيلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُفِيدُ تَمَامَ الْمَطْلُوبِ ، ثُمَّ ابْتَدَأَ بِدَلِيلِهِمَا فَذَكَرَ حَدِيثَ ثَمْغَ وَهُوَ بِالثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا مِيمٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ غَيْنٌ مُعْجَمَةٌ .
وَذَكَرَ الشَّيْخُ حَافِظُ الدِّينِ أَنَّهُ بِلَا تَنْوِينٍ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ .
وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ أَنَّهَا فِي كُتُبِ غَرَائِبِ الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحَةِ عِنْدَ الثِّقَاتِ مُنَوَّنًا وَغَيْرَ مُنَوَّنٍ كَمَا فِي دَعْدٍ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْأَصْلِ : أَخْبَرَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغَ ، وَقَالَ : كَانَ نَخْلًا نَفِيسًا ، قَالَ : فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا هُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ ؟ قَالَ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ ، قَالَ : فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَفِي الرِّقَابِ وَلِلضَّعِيفِ وَالْمَسَاكِينِ وَلِابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ فِيهِ } ، وَحَدِيثُ عُمَرَ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَبَاقِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ { أَصَابَ عُمَرُ أَرْضًا بِخَيْبَرَ ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَصَبْت أَرْضًا لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ مِنْهُ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي بِهِ ؟ قَالَ : إنْ شِئْت حَبَسْت أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْت بِهَا ، فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْقُرْبَى وَالرِّقَابِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالضَّيْفِ } الْحَدِيثَ .
وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ وَلَكِنْ تُنْفَقُ ثَمَرَتُهُ } ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَعْنَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى أَنْ يَلْزَمَ الْوَقْفَ لِحَاجَتِهِ إلَى أَنْ يَصِلَ ثَوَابُهُ إلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّرْعُ إلَى إعْمَالِ مَا يَدْفَعُ هَذِهِ الْحَاجَةَ فِيمَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } وَلَا طَرِيقَ إلَى تَحَقُّقِ دَفْعِ هَذِهِ الْحَاجَةِ وَإِثْبَاتِ
هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْجَارِيَةِ إلَّا لُزُومُهُ ، وَتَقْرِيرُ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ تَحَقَّقَتْ حَاجَةُ اسْتِمْرَارِ وُصُولِ ثَوَابِهِ ، وَيُمْكِنُ بِإِسْقَاطِ مِلْكِهِ فَيَسْقُطُ ظَاهِرُ الْمَنْعِ إذْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِذَلِكَ سُقُوطُ الْمِلْكِ طَرِيقًا بَلْ يَتَحَقَّقُ بِالْحُكْمِ بِلُزُومِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ زَوَالُ الْمِلْكِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَقْدَحُ فِيمَا رَجَّحْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ فِيمَا مَضَى ، ثُمَّ عَلَى تَقْرِيرِنَا يَحْصُلُ مَطْلُوبُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَمَّتْ الدَّلَالَةُ عَلَى لُزُومِهِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِمُوَافَقَتِنَا لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ لِاعْتِقَادِ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ التَّلَازُمَ بَيْنَ اللُّزُومِ وَالْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ .
وَقَوْلُهُ كَالْمَسْجِدِ نَظِيرُ مَا خَرَجَ عَنْ الْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ لَا إلَى مَالِكٍ ، وَكَذَا الْإِعْتَاقُ ، وَسَيُجِيبُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْعِتْقِ وَمُطْلَقِ الْوَقْفِ ( قَوْلُهُ وَلَهُ ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ } أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي شَرْحِ مَعَانِي الْآثَارِ إلَى عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا أُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَأَنْزَلَ فِيهَا الْفَرَائِضَ نَهَى عَنْ الْحَبْسِ } .
وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِيُّ ، وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَخِيهِ وَضَعَّفُوهُمَا .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عَلِيٍّ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ سِلَاحٍ أَوْ كُرَاعٍ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْمَوْقُوفِ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ ثُبُوتَ الْوَقْفِ وَلِهَذَا اسْتَثْنَى الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ لَا يُقَالُ إلَّا سَمَاعًا وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ ، وَالشَّعْبِيُّ أَدْرَكَ عَلِيًّا وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ فِي الْبُخَارِيِّ ثَابِتَةٌ .
وَأَمَّا حَدِيثُ شُرَيْحٍ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ فِي الْبُيُوعِ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَابْنُ زَائِدَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ : { جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ } .
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَشُرَيْحٌ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ ، وَقَدْ رَفَعَ الْحَدِيثَ فَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ ( قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْمِلْكَ إلَخْ ) ظَاهِرُ مُصَادَرَةٍ لِجَعْلِهِ الدَّعْوَى جُزْءَ الدَّلِيلِ ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ لِيَصِلَ الدَّلِيلَ بِالدَّعْوَى ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ حَتَّى جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى لِغَيْرِ الْوَاقِفِ ، وَتَعَلُّقُ حُقُوقِ الْعِبَادِ بِالْعَيْنِ أَثَرُ ثُبُوتِ مِلْكِهِمْ فِيهَا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمِلْكُ لِغَيْرِ الْوَاقِفِ أَوْ لَهُ ، وَاتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِلْوَاقِفِ ، وَكَذَا الِاسْتِيضَاحُ بِنَصْبِ الْقَوَّامِ وَصَرْفِ غَلَّاتِهِ بِحَسَبِ الْأَصْلِ يَكُونُ عَنْ مِلْكِهِ لِلْعَيْنِ إلَّا أَنْ يُوجِبَ مُوجِبٌ لَا مَرَدَّ لَهُ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ بِوِلَايَةِ غَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْفَرْقِ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ جُعِلَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ مُحَرَّرًا عَنْ أَنْ يَمْلِكَ الْعِبَادُ فِيهِ شَيْئًا غَيْرَ الْعِبَادَةِ فِيهِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَصْلُهُ الْكَعْبَةُ ، وَالْوَقْفُ غَيْرُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعُ الْعِبَادُ بِعَيْنِهِ زِرَاعَةً وَسُكْنَى وَغَيْرَهُمَا كَمَا يَنْتَفِعُ بِالْمَمْلُوكَاتِ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَيْسَ كَالْمَسْجِدِ فَيُلْحَقُ بِالْكَعْبَةِ كَمَا أُلْحِقَ الْمَسْجِدُ بِهَا .
وَأَيْضًا قَضِيَّةُ كَوْنِ الْحَاصِلِ مِنْهُ صَدَقَةً دَائِمَةً عَنْ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ بَاقِيًا إذْ لَا تَصَدُّقَ بِلَا مِلْكٍ فَاقْتَضَى قِيَامَ الْمِلْكَ فَأَمَّا الْإِعْتَاقُ فَإِتْلَافٌ لِلْمَمْلُوكِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَيْسَ الْوَقْفُ
كَذَلِكَ .
وَجَوَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ خُلِقَ مَالِكًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ ، وَإِنَّمَا عَرَضَ فِيهِ الْمَمْلُوكِيَّةُ وَبِالْإِعْتَاقِ يَعُودُ إلَى مَا كَانَ ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهَا خُلِقَتْ لِتُتَمَلَّكَ فَبِالْوَقْفِ لَا تَعُودُ إلَى أَصْلٍ هُوَ عَدَمُ الْمَمْلُوكِيَّةِ بَلْ إلَى الْحَضِّ عَلَى مِلْكِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِالْمَنْفَعَةِ وَهَذَا حَقٌّ ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ الْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ ، لَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَجْعَلُ عَدَمَ الْخُرُوجِ مَلْزُومًا لِعَدَمِ لُزُومِهِ صَدَقَةً أَوْ بِرًّا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مُنْفَكَّانِ كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ .
وَالْحَقُّ تَرَجُّحُ قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ بِلُزُومِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ وَالْآثَارَ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى ذَلِكَ قَوْلًا كَمَا صَحَّ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ } إلَى آخِرِهِ ، وَتَكَرَّرَ هَذَا فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَدَقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ أُخْتِهَا وَأُمِّ سَلَمَةَ وَأُمِّ حَبِيبَةَ وَصْفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، كُلُّ هَؤُلَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، ثُمَّ التَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ كُلُّهَا بِرِوَايَاتٍ ، وَتَوَارَثَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا تَعَارُضَ بِمِثْلِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ شُرَيْحٍ بَيَانُ نَسْخِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْحَامِي وَنَحْوِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ الْعَمَلِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُتَوَارَثًا عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ فَلِذَا تَرَجَّحَ خِلَافُهُ ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى
قَوْلِهِمَا .
( قَوْلُهُ وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِالْمَوْتِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَنَافِعِهِ مُؤَبَّدًا فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنَافِعِ مُؤَبَّدًا فَيَلْزَمُ ) وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِبَيْعٍ وَنَحْوِهِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ إبْطَالِ الْوَصِيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوَقْفِ ، وَالْوَقْفُ لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ .
وَلِذَا لَوْ قَالَ إذَا مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَقَدْ وَقَفْت أَرْضِي إلَى آخِرِهِ فَمَاتَ لَمْ تَصِرْ وَقْفًا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إذَا مِتُّ فَاجْعَلُوهَا وَقْفًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ التَّوْكِيلِ لَا تَعْلِيقُ الْوَقْفِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَقْفَ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْهِبَةِ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَالتَّمْلِيكَاتُ غَيْرُ الْوَصِيَّةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ .
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ بَاطِلًا أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعَلَى مَا عَرَفْت بِأَنَّ صِحَّتَهُ إذَا أُضِيفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهِ وَصِيَّةً .
قَالُوا : لَوْ قَالَ دَارِي هَذِهِ مَوْقُوفَةٌ عَلَى مَصَالِحِ مَسْجِدِ كَذَا بَعْدَ مَوْتِي صَحَّ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهَا ، أَمَّا لَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ وَلَدِي فَعَلَيَّ أَنْ أَقِفَ هَذِهِ الدَّارَ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ فَقَدِمَ فَهُوَ نَذْرٌ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ ، فَإِنْ وَقَفَهُ عَلَى وَلَدِهِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ جَازَ فِي الْحُكْمِ وَنَذْرُهُ بَاقٍ .
إنْ وَقَفَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ سَقَطَ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ ، وَتَعْيِينُ الْمُعْطَى لَهُ
النَّذْرَ لَغْوٌ فَصَارَ الثَّابِتُ النَّذْرَ بِالْوَقْفِ فَجَازَ عَلَى كُلِّ مَنْ لَيْسَ كَنَفْسِهِ .
فَإِنْ قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ النَّذْرُ بِالْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ .
قُلْت : بَلْ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِمَامُ لِلْمُسْلِمِينَ مَسْجِدًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ مَالِهِمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيْتُ مَالٍ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ شِئْت ثُمَّ قَالَ شِئْت كَانَ بَاطِلًا لِلتَّعْلِيقِ ، أَمَّا لَوْ قَالَ شِئْت وَجَعَلْتهَا صَدَقَةً صَحَّ بِهَذَا الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ فِي مِلْكِي فَهِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ ، فَظَهَرَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ ، وَالتَّعْلِيقُ عَلَى أَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ ، الْمُرَادُ بِالْحَاكِمِ : يَعْنِي فِي قَوْلِهِ أَوْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ الْقَاضِي .
وَأَمَّا الْمُحَكِّمُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْخِلَافَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ الْوَقْفَ بَعْدَ حُكْمِهِ
وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْوَقْفُ فِي الصِّحَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَالِكُ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا ، وَقَدْ يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ .
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَإِذَا اُسْتُحِقَّ مَكَانَ قَوْلِهِ إذَا صَحَّ ( خَرَجَ مِنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَهُ لَمَا انْتَقَلَ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ كَسَائِرِ أَمْلَاكِهِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي سَبَقَ تَقْرِيرُهُ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ وَقَفَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ قَالَ الطَّحَاوِيُّ : هُوَ كَالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ) حَتَّى يَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُحْكَمَ بِهِ فَلَهُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ تُجِيزَ الْوَرَثَةُ .
وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ إلَّا أَنَّهُ مِنْ الثُّلُثِ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِخِلَافِهِ فِي الصِّحَّةِ ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : مَرِيضٌ وَقَفَ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ يُبَاعُ وَيُنْقَضُ الْوَقْفُ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ دَارًا ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَنْقُضَ الْوَقْفَ انْتَهَى مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ الْمَدْيُونُ الصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ دُيُونٌ تُحِيطُ بِمَالِهِ ، فَإِنَّ وَقْفَهُ لَازِمٌ لَا يَنْقُضُهُ أَرْبَابُ الدُّيُونِ إذَا كَانَ قَبْلَ الْحَجْرِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ حَقُّهُمْ بِالْعَيْنِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ ، ( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ الْمِلْكُ يَزُولُ عِنْدَهُمَا يَزُولُ بِالْقَوْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ ) قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ وَقَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ لِزَوَالِهِ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي ؛ لِأَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِلَّهِ فَيَصِيرَ حَقًّا لَهُ ، وَحَقُّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ مُسَلَّمًا فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ لِلْعَبْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَقْفَ تَمْلِيكٌ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ وَهُوَ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا وَقَدْ يَتَحَقَّقُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُ حُكْمَهُ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ ) الْمُنَجَّزَةِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ التَّمْلِيكَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَتَحَقَّقُ لَا مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا ؛ لِأَنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ الْمُسْتَمِرِّ ، ثُمَّ لَا
مُوجِبَ لِاعْتِبَارِهِ حَتَّى يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ تَوْجِيهِهِ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُوجِبُهُ الدَّلِيلُ إمَّا خُرُوجُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْوَقْفِ لَا إلَى أَحَدٍ ، وَتَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِصَرْفِ غَلَّتِهِ إلَى مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِ أَوْ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ بِذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا فَعَلَ خَرَجَ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمَالِيَّةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ تَكَلُّفِ اعْتِبَارٍ آخَرَ .
نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُلَاحَظَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ تَسْلِيمًا إلَيْهِ تَعَالَى كَأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ نَائِبَهُ فِي قَبْضِ حَقِّهِ ، وَذَلِكَ بِقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ لَا الْمُتَوَلِّي كَالزَّكَاةِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يُلَاحَظَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا فِعْلُ مَا وَجَبَ بِالْوَقْفِ ، فَلِذَا كَانَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوْجَهَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ .
وَفِي الْمُنْيَةِ : الْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهَذَا قَوْلُ مَشَايِخِ بَلْخَ .
وَأَمَّا الْبُخَارِيُّونَ : فَأَخَذُوا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ يَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَقْوَى ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ : يَعْنِي مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ حَفْصَةَ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَرَدَّهُ فِي الْمَبْسُوطِ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ فَعَلَهُ لِيُتِمَّ الْوَقْفَ بَلْ لِشَغْلِهِ وَخَوْفِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ ، وَكَذَا جَمِيعُ مَنْ يَنْصِبُ الْمُتَوَلِّينَ لَا يَخْطِرُ لَهُ غَيْرُ تَفْرِيغِ نَفْسِهِ مِنْ أَمْرِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ تَمَّ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي صَارَتْ يَدُ الْوَاقِفِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ ، فَجَوَابُهُ مَنْعُ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِ مَا فِي يَدِهِ يُوجِبُ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ يَدِهِ كَعِتْقِ الْعَبْدِ الْكَائِنِ فِي يَدِ سَيِّدِهِ الْمُعْتِقِ لَهُ ، وَالنَّاذِرِ بِالْعَيْنِ
الْكَائِنَةِ فِي يَدِهِ هِيَ وَقِيمَتُهَا يُوجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجَ أَحَدِهِمَا مِنْ يَدِهِ ، وَهَذِهِ أُمُورٌ شَرْعِيَّةٌ لَا عَقْلِيَّةٌ .
وَمِمَّا بُنِيَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ فِي عَزْلِ الْقَوَّامِ وَالِاسْتِبْدَالَ بِهِمْ لِنَفْسِهِ وَلِأَوْلَادِهِ ، وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ وَسَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ فَهَذَا جَائِزٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُخِلُّ بِشَرَائِطِ الْوَقْفِ ، وَلَوْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى قَيِّمٍ قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا وِلَايَةَ لَهُ وَالْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ وَلَهُ وَصِيٌّ فَلَا وِلَايَةَ لِوَصِيِّهِ وَالْوِلَايَةُ لِلْقَيِّمِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْوَاقِفُ أَنْ يَعْزِلَ الْقَيِّمَ وَيَرُدَّهُ لِنَفْسِهِ أَوْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْوِلَايَةُ لِلْوَاقِفِ ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْقَيِّمَ فِي حَيَاتِهِ وَيُوَلِّيَ غَيْرَهُ أَوْ يَرُدَّ النَّظَرَ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا مَاتَ الْوَاقِفُ بَطَلَ وِلَايَةُ الْقَيِّمِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ عِنْدَهُ ، وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْقَيِّمِ فَلَا يَكُونُ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةٌ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِدُونِ التَّسْلِيمِ إلَى الْقَيِّمِ يَتِمُّ الْوَقْفُ ، فَإِذَا سَلَّمَ إلَى قَيِّمٍ كَانَ وَكِيلَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَنْعَزِلَ بِمَوْتِهِ إلَّا إذَا جَعَلَهُ قَيِّمًا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ ، وَكَذَا يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ هَذِهِ الشَّجَرَةُ لِلْمَسْجِدِ لَا تَصِيرُ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى قَيِّمِ الْمَسْجِدِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) وَهَذَا مَذْهَبُ عَامَّةِ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ إلَّا فِي قَوْلٍ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُتَمَلَّكُ ، وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ ؛
لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُ بِشَرْطِ الْمَالِكِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِفُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ لَكِنَّهُ يَنْتَقِلُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ ثُمَّ مِنْ بَعْدِ فُلَانٍ عَلَى كَذَا .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَقَوْلُهُ أَيْ الْقُدُورِيِّ ( خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الصِّحَّةَ غَيْرُ اللُّزُومِ وَهُوَ لَمْ يَقُلْ إذَا لَزِمَ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ لِيَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ بَلْ قَالَ : إذَا صَحَّ وَصِحَّةُ الْعَقْدِ لَا تَسْتَلْزِمُ اللُّزُومَ بَلْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ الْعُقُودِ فَقَدْ يَكُونُ عَقْدٌ حُكْمُهُ اللُّزُومَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ حُكْمُهُ غَيْرَ اللُّزُومِ كَالْعَارِيَّةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ تَجَوَّزَ بِالصِّحَّةِ عَنْ اللُّزُومِ
قَالَ ( وَوَقْفُ الْمُشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ وَالْقَبْضُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَذَا تَتِمَّتُهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَجُوزُ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ شَرْطٌ فَكَذَا مَا يَتِمُّ بِهِ ، وَهَذَا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَيَجُوزُ مَعَ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ الْخُلُوصَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِيهِمَا فِي غَايَةِ الْقُبْحِ بِأَنْ يُقْبَرَ فِيهِ الْمَوْتَى سَنَةً ، وَيُزْرَعَ سَنَةً وَيُصَلَّى فِيهِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذَ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ لِإِمْكَانِ الِاسْتِغْلَالِ وَقِسْمَةِ الْغَلَّةِ .
وَلَوْ وَقَفَهُ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ بَطَلَ فِي الْبَاقِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الشُّيُوعَ مُقَارَنٌ كَمَا فِي الْهِبَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ وَقَدْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْقَفَهُ فِي مَرَضِهِ وَفِي الْمَالِ ضِيقٌ ، لِأَنَّ الشُّيُوعَ فِي ذَلِكَ طَارِئٌ .
وَلَوْ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مُمَيَّزٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ وَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ .
قَالَ : وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا سَمَّى فِيهِ جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ .
لَهُمَا أَنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ وَأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ ، فَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ كَالتَّوْقِيتِ فِي
الْبَيْعِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُوَفَّرٌ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ التَّقَرُّبَ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَنْقَطِعُ وَمَرَّةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ تَتَأَبَّدُ فَيَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئَةٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ كَالْعِتْقِ ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ فِي بَيَانِ قَوْلِهِ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ بِالْغَلَّةِ ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مُؤَقَّتًا وَقَدْ يَكُونُ مُؤَبَّدًا فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ .
( قَوْلُهُ وَقْفُ الْمَشَاعِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ تَسْلِيمِ الْوَقْفِ ، فَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ قَالَ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْمَشَاعِ ( لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ ) وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ فَوَجَبَ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمُتَوَلِّي فَلَا يُشْتَرَطُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ ، فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي خُرُوجِهِ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، وَهُمْ مَشَايِخُ بَلْخَ أَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ ، وَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي تِلْكَ وَهُمْ مَشَايِخُ بُخَارَى أَخَذَ بِقَوْلِهِ فِي وَقْفِ الْمَشَاعِ .
وَأَمَّا إلْحَاقُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ( الْمُنَفَّذَةِ ) أَيْ الْمُنَجَّزَةِ فِي الْحَالِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مَشَاعًا ، فَكَذَا الصَّدَقَةُ الْمُسْتَمِرَّةُ ؛ فَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي تَيْنِكَ لِمَا فِيهِمَا مِنْ التَّمْلِيكِ لِلْغَيْرِ ، وَأَمَّا الْوَقْفُ فَلَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ مِنْ الْغَيْرِ حَتَّى يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ الْمِلْكِ بِلَا تَمْلِيكٍ فَلَا يَرِدُ الْعِتْقُ وَالطَّلَاقُ فَلَا مُوْجِبَ لِاشْتِرَاطِ الْقِسْمَةِ فِيهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَشَاعَ إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلَهَا ، فَفِيمَا يَحْتَمِلُهَا أَجَازَ أَبُو يُوسُفَ وَقْفَهُ إلَّا الْمَسْجِدَ وَالْمَقْبَرَةَ وَالْخَانَ وَالسِّقَايَةَ ، وَمَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مُطْلَقًا ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا اتَّفَقُوا عَلَى إجَازَةِ وَقْفِهِ إلَّا الْمَسْجِدَ وَالْمَقْبَرَةَ ، فَصَارَ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ جَعْلِ الْمَشَاعِ مَسْجِدًا أَوْ مَقْبَرَةً مُطْلَقًا : أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا .
وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَعَدَمِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْهُ أَبُو يُوسُفَ أَجَازَ وَقْفَهُ ، وَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ مَنَعَهُ ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّائِعَ كَانَ
مَقْبُوضًا لِمَالِكِهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَهُ لَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ فَلِذَا مَنَعَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ إمْكَانِ تَمَامِ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَقْسِمَ أَوَّلًا ثُمَّ يَقِفَهُ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ اعْتِبَارَ تَمَامِ الْقَبْضِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُهَا ، لِأَنَّهُ لَوْ قُسِمَ قَبْلَ الْوَقْفِ فَاتَ الِانْتِفَاعُ كَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَالْحَمَّامِ فَاكْتَفَى بِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا اتَّفَقُوا عَلَى مَنْعِ وَقْفِ الْمَشَاعِ مُطْلَقًا مَسْجِدًا وَمَقْبَرَةً ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ يَمْنَعُ خُلُوصَ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ جَوَازَ وَقْفِ الْمَشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّهَايُؤِ ، وَالتَّهَايُؤُ فِيهِ يُؤَدِّي إلَى أَمْرٍ مُسْتَقْبَحٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَكَانُ مَسْجِدًا سَنَةً وَإِصْطَبْلًا لِلدَّوَابِّ سَنَةً وَمَقْبَرَةً عَامًا وَمَزْرَعَةً عَامًا أَوْ مِيضَأَةً عَامًا وَأَمَّا النَّبْشُ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ الْمُهَايَأَةِ بَلْ لَيْسَ لِلشَّرِيكِ ذَلِكَ ، ثُمَّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِصِحَّتِهِ وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ الْقِسْمَةَ لَا يَقْسِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيَتَهَايَئُونَ ، وَعِنْدَهُمَا يَقْسِمُ ، وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْكُلَّ لَوْ كَانَ وَقْفًا عَلَى الْأَرْبَابِ وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ ، وَكَذَا التَّهَايُؤُ ، وَعَلَيْهِ فُرِّعَ مَا لَوْ وَقَفَ دَارِهِ عَلَى سُكْنَى قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ مَا تَنَاسَلُوا ، فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ ، فَإِنَّ هَذَا الْوَقْفَ جَائِزٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، وَإِذَا انْقَرَضُوا تُكْرَى وَتُوضَعُ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ السُّكْنَى أَنْ يُكْرِيَهَا ، وَلَوْ زَادَتْ عَلَى قَدْرِ حَاجَةِ سُكْنَاهُ ، نَعَمْ لَهُ الْإِعَارَةُ لَا غَيْرُ ، وَلَوْ كَثُرَ أَوْلَادُ هَذَا الْوَاقِفِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الدَّارُ لَيْسَ لَهُمْ إلَّا سُكْنَاهَا
تُقَسَّطُ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ وَلَوْ كَانُوا ذُكُورًا وَإِنَاثًا إنْ كَانَ فِيهَا حُجَرٌ وَمَقَاصِيرُ كَانَ لِلذُّكْرَانِ أَنْ يُسَكِّنُوا نِسَاءَهُمْ مَعَهُمْ وَلِلْإِنَاثِ أَنْ تُسَكِّنَ أَزْوَاجَهُنَّ مَعَهُنَّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا حُجَرٌ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تُقْسَمَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَقَعُ فِيهَا مُهَايَأَةٌ إنَّمَا سُكْنَاهُ لِمَنْ جَعَلَ لَهُ الْوَاقِفُ ذَلِكَ لَا لِغَيْرِهِمْ ، وَمِنْ هَذَا يُعْرَفُ أَنَّ لَوْ سَكَنَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَجِدْ الْآخَرُ مَوْضِعًا يَكْفِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ أُجْرَةَ حِصَّتِهِ عَلَى السَّاكِنِ ، بَلْ إنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْكُنَ مَعَهُ فِي بُقْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الدَّارِ بِلَا زَوْجَةٍ أَوْ زَوْجٍ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ ذَلِكَ ، وَإِلَّا تَرَكَ الْمُتَضَيِّقُ وَخَرَجَ أَوْ جَلَسُوا مَعًا كُلٌّ فِي بُقْعَةٍ إلَى جَنْبِ الْآخَرِ .
وَالْأَصْلُ الْمَذْكُورُ فِي الشُّرُوحِ وَالْفَرْعِ فِي أَوْقَافِ الْخَصَّافِ وَلَمْ يُخَالِفْهُ أَحَدٌ فِيمَا عَلِمْت ، وَكَيْفَ يُخَالِفُ ، وَقَدْ نَقَلُوا إجْمَاعَهُمْ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ؛ وَلَوْ اقْتَسَمَا : أَعْنِي الْوَاقِفَ لِلْمَشَاعِ وَشَرِيكَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَوْ قَبْلَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَوَقَعَ نَصِيبُ الْوَاقِفِ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ كَانَ هُوَ الْوَقْفُ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَهُ ثَانِيًا ( قَوْلُهُ وَلَوْ وَقَفَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ جُزْءٌ مِنْهُ ) يَعْنِي شَائِعًا ( بَطَلَ الْوَقْفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ الشُّيُوعَ كَانَ مُقَارِنًا لِلْوَقْفِ ( كَمَا فِي الْهِبَةِ ) إذَا وَهَبَ الْكُلَّ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهُ بَطَلَتْ لِهَذَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ ( ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْبَعْضِ أَوْ رَجَعَ الْوَارِثُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ ) الَّذِي وَقَفَ فِي مَرَضِهِ الْكُلَّ ، وَلَا يُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّهُ لَا يُبْطِلُ الْبَاقِيَ ؛ لِأَنَّ الشُّيُوعَ طَارَ ، وَإِذَا بَطَلَ الْوَقْفُ فِي الْبَاقِي رَجَعَ إلَى الْوَاقِفِ لَوْ كَانَ حَيًّا وَإِلَى وَرَثَتِهِ إنْ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَيْسَ
عَلَى الْوَاقِفِ أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ مَا يَجْعَلُهُ وَقْفًا ( وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ جُزْءًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَبْطُلْ فِي الْبَاقِي لِعَدَمِ الشُّيُوعِ ) فَلِهَذَا جَازَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ يَقِفَ ذَلِكَ الْبَاقِيَ فَقَطْ ( وَعَلَى هَذَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ الْمَمْلُوكَةُ ) لَوْ اُسْتُحِقَّ مِنْهُمَا جُزْءٌ شَائِعٌ بَطَلَتْ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ مُعَيَّنٌ لَا تَبْطُلُ .
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَقَفَاهَا عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ ، وَدَفَعَاهَا إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الصَّدَقَةِ شُيُوعٌ فِي الْمَحَلِّ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ ، وَلَا شُيُوعَ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَدَقَةٌ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ ذَلِكَ مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْقَبْضِ مِنْ الْوَالِي فِي الْكُلِّ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهَا شَائِعًا عَلَى حِدَةٍ وَجَعَلَ لَهَا وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَصَدَّقَ بِنَصِيبِهِ بِعُقْدَةٍ عَلَى حِدَةٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ لِنَصِيبِهِ وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ ، حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا مَشَاعًا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ ، وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ كُلٍّ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا ؛ فَكَذَا قَبْضُ الْوَالِيَيْنِ هُنَا .
وَلَوْ وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ وَجَعَلَا الْوَالِيَ وَاحِدًا فَسَلَّمَاهَا إلَيْهِ جَمِيعًا جَازَ ؛ لِأَنَّ تَمَامَهَا بِالْقَبْضِ ، وَالْقَبْضُ مُجْتَمِعٌ ( قَوْلُهُ وَلَا يَتِمُّ الْوَقْفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَجْعَلَ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا ) كَالْمَسَاكِينِ وَمَصَالِحِ الْحَرَمِ وَالْمَسَاجِدِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَجْعَلْ آخِرَهُ لِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ لَا يَصِحُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُخَرِّبَ
الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ جَازَ وَصَارَ بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ ) هَذَا كَلَامُ الْقُدُورِيِّ .
وَهَذَا كَمَا تَرَى لَا يُنَاسِبُ اسْتِدْلَالَ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ ( إنَّ مُوجَبَ الْوَقْفِ ) يَعْنِي بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَعْدَ الْحُكْمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( زَوَالُ الْمِلْكِ بِلَا تَمْلِيكٍ وَزَوَالُهُ يَتَأَبَّدُ بِعِتْقٍ ، وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوْقِيتُ مُبْطِلًا لَهُ ) كَمَا لَوْ وَقَفَ عِشْرِينَ سَنَةً لَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لَوْ قَالَ بِجَوَازِ انْقِطَاعِهِ وَعَوْدِهِ إلَى الْوَاقِفِ بَعْدَ انْقِطَاعِ تِلْكَ الْجِهَةِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ ، بَلْ قَالَ إذَا انْقَطَعَتْ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ .
ثُمَّ نَقَلَ الْقُدُورِيُّ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ثَابِتًا عَنْهُ مِنْ التَّأْبِيدِ حَيْثُ قَالَ ( وَقِيلَ إنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ بِالْإِجْمَاعِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ لَا يَشْتَرِطُ ذِكْرَ التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ مُنْبِئٌ عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ كَالْعِتْقِ ) وَعِنْدَهُمَا يُشْتَرَطُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذِكْرُ التَّأْبِيدِ شَرْطٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا صَدَقَةٌ بِالْمَنْفَعَةِ ) إنْ كَانَ وَقَفَ لِلسُّكْنَى ( أَوْ بِالْغَلَّةِ ) إنْ لَمْ يَكُنْ ذَكَرَ السُّكْنَى ، ( وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ فَمُطْلَقُهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُؤَبَّدِ ) بِعَيْنِهِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ التَّنْصِيصِ ) عَلَيْهِ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُولِيَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لِمَا نَقَلَهُ مِنْ عِبَارَةِ الْقُدُورِيِّ ؛ ثُمَّ يَذْكُرَ الرِّوَايَةَ الْأُخْرَى وَيَذْكُرَ دَلِيلَهُمَا الْأَوَّلَ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَإِنَّمَا يُنَاسِبُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ الْجِهَةِ يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ
الْوَاقِفِ أَوْ ذُرِّيَّتِهِ ، وَقَدْ نَقَلَ مِنْ الْفُرُوعِ مَا يَدُلُّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، فَمِنْهَا مَا فِي الْمَبْسُوطِ فِيمَا إذَا تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَجَعَلَ لَهُنَّ السُّكْنَى بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَأَيُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ مِنْهُنَّ أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً إلَى غَيْرِهِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي السُّكْنَى ، وَنَصِيبُهَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ مِنْهُنَّ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلسُّكْنَى بِالْغَلَّةِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَصِحُّ مِنْهُ لَهُنَّ فِي الْغَلَّةِ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ مَنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ كَانَ مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَوَسَّعُ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ فَلَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ زَوَالِ حَاجَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يُفَوِّتُ مُوجَبَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّأْبِيدُ شَرْطٌ وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ يُبْطِلُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ فَيَجُوزُ كَالْوَصِيَّةِ لِمَعْلُومٍ بِسُكْنَى دَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَلْزَمَ وَيَعُودَ إلَى الْوَرَثَةِ إذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا نُقِلَ لِلنَّاطِفِيِّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ شُرُوطِ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ : إذَا وَقَفَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ جَازَ ، وَإِذَا مَاتَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ رَجَعَ الْوَقْفُ إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ .
قَالَ : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَإِذَا عُرِفَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ جَوَازُ عَوْدِهِ إلَى الْوَرَثَةِ فَقَدْ يَقُولُ فِي وَقْفِ عِشْرِينَ سَنَةً بِالْجَوَازِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ أَصْلًا ، وَمِنْهَا مَا ذُكِرَ فِي الْبَرَامِكَةِ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا انْقَرَضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ يُصْرَفُ الْوَقْفُ إلَى الْفُقَرَاءِ .
قَالَ فِي الْأَجْنَاسِ : فَحَصَلَ عَنْهُ رِوَايَتَانِ .
وَأَمَّا الشَّرْطُ الَّذِي تَقَدَّمَ وَهُوَ قَوْلُهُ مَنْ تَزَوَّجَتْ أَوْ
خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً عَنْهُ فَلَا حَقَّ لَهَا فَصَحِيحٌ ، فَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ أَوْ عَادَتْ بَعْدَمَا انْتَقَلَتْ لَا يَرْجِعُ لَهَا مَا كَانَ لَهَا فِي الْوَقْفِ ، بَلْ قَدْ سَقَطَ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ اسْتِحْقَاقَهَا بِأَحَدِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَعُودُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ فَيَقُولَ فَإِنْ عَادَتْ أَوْ فَارَقَتْ عَادَ مَا كَانَ لَهَا
قَالَ ( وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ ) لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَقَفُوهُ
( قَوْلُهُ وَيَجُوزُ وَقْفُ الْعَقَارِ ) وَهُوَ الْأَرْضُ مَبْنِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ وَيَدْخُلُ الْبِنَاءُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ تَبَعًا فَيَكُونُ وَقْفًا مَعَهَا .
وَفِي دُخُولِ الشَّجَرِ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْخُلَاصَةِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : تَدْخُلُ الْأَشْجَارُ وَالْبِنَاءُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ كَمَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، وَيَدْخُلُ الشُّرْبُ وَالطَّرِيقُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تُوقَفُ إلَّا لِلِاسْتِغْلَالِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْمَاءِ وَالطَّرِيقِ فَيَدْخُلَانِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَلَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ الْقَائِمَةُ وَقْتَ الْوَقْفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا تُؤْكَلُ أَوْ لَا كَالْوَرْدِ وَالرَّيَاحِينِ ؛ وَلَوْ قَالَ وَقَفْتهَا بِحُقُوقِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا قَالَ هِلَالٌ : لَا تَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ أَيْضًا ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُ التَّصَدُّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً بِجَمِيعِ مَا فِيهَا وَمِنْهَا فَقَدْ تَكَلَّمَ بِمَا يُوجِبُ التَّصَدُّقَ ، وَلَا تَدْخُلُ الزُّرُوعُ كُلُّهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ أَصْلٌ لَا يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَجَرٍ يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ فَهُوَ لِلْوَاقِفِ ، وَمَا لَا يُقْطَعُ فِي سَنَةٍ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْوَقْفِ ؛ فَيَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْأَرْضِ أُصُولُ الْبَاذِنْجَانِ وَقَصَبُ السُّكَّرِ ، وَيَدْخُلُ فِي وَقْفِ الْحَمَامِ الْقِدْرُ وَمُلْقَى سِرْقِينِهِ وَرَمَادِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ مَسِيلُ مَاءٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ طَرِيقٍ .
وَقَوْلُهُ ( لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَقَفُوهُ ) قَدَّمْنَا ذِكْرَ جَمَاعَةٍ مِنْ الرِّجَالِ الصَّحَابَةِ وَنِسَائِهِمْ وَقَفُوا ، وَأَسَانِيدُهَا مَذْكُورَةٌ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ .
وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَقْفِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْضَهُ ثَمْغَ .
وَأَخْرَجَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْن أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ
الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ دَارًا لَهُ عَلَى الْمَرْدُودَةِ مِنْ بَنَاتِهِ .
قَالَ : وَالْمَرْدُودَةُ هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَالْفَاقِدَةُ الَّتِي مَاتَ زَوْجُهَا .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : { وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْضًا وَجَعَلَهَا لِابْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً } .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ فِيهِ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَنَا وَسَكَتَ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَنَا ابْنُ سَبْعِ الْإِسْلَامِ أَسْلَمَ أَبِي سَابِعَ سَبْعَةٍ .
وَكَانَتْ دَارُهُ عَلَى الصَّفَا وَهِيَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ فِيهَا فِي الْإِسْلَامِ ، وَفِيهَا دَعَا النَّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ فِيهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسُمِّيَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَتَصَدَّقَ بِهَا الْأَرْقَمُ عَلَى وَلَدِهِ .
وَذَكَرَ أَنَّ نُسْخَةَ صَدَقَتِهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ هَذَا مَا قَضَى الْأَرْقَمُ ، إلَى أَنْ قَالَ : لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ .
وَفِي الْخِلَافِيَّاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ : وَتَصَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَارِهِ بِمَكَّةَ عَلَى وَلَدِهِ فَهِيَ إلَى الْيَوْمِ ، وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِرُبْعِهِ ، وَتَصَدَّقَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِدَارِهِ بِالْمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ فَذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ ، وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرُومَةَ فَهِيَ إلَى الْيَوْمِ ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِالْوَهْطِ مِنْ الطَّائِفِ وَدَارِهِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى وَلَدِهِ فَذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ .
قَالَ : وَمَا لَا يَحْضُرُنِي كَثِيرٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ إجَازَتِهِ الْوَقْفَ .
[ فَرْعٌ ] إذَا كَانَتْ الدَّارُ مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً صَحَّ وَقْفُهَا وَإِنْ لَمْ تُحَدَّدْ اسْتِغْنَاءً لِشُهْرَتِهَا عَنْ تَحْدِيدِهَا .
[ فَرْعٌ آخَرُ ] وَقَفَ عَقَارًا عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ
مَدْرَسَةٍ هَيَّأَ مَكَانًا لِبِنَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهَا اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ وَتُصْرَفُ غَلَّتُهَا إلَى الْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ تُبْنَى ، فَإِذَا بُنِيَتْ رُدَّتْ إلَيْهَا الْغَلَّةُ أَخْذًا مِنْ الْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ وَلَا أَوْلَادَ لَهُ حَكَمُوا بِصِحَّتِهِ ، وَتُصْرَفُ غَلَّتُهُ لِلْفُقَرَاءِ إلَى أَنْ يُولَدَ لِفُلَانٍ
( وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ ) وَكَذَا سَائِرُ آلَاتِ الْحِرَاسَةِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَقَدْ يَثْبُتُ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالشُّرْبِ فِي الْبَيْعِ وَالْبِنَاءِ فِي الْوَقْفِ ، وَمُحَمَّدٌ مَعَهُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ فِيهِ تَبَعًا أَوْلَى .
( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ حَبْسُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ) وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ فِيهِ عَلَى مَا قَالُوا ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ .
الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ : مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَأَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ حَبَسَ أَدْرُعًا وَأَفْرَاسًا لَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَلْحَةُ حَبَسَ دُرُوعَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } وَيُرْوَى أَكْرَاعُه .
وَالْكُرَاعُ : الْخَيْلُ .
وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ الْإِبِلُ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُجَاهِدُونَ عَلَيْهَا ، وَكَذَا السِّلَاحُ يُحْمَلُ عَلَيْهَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ وَقْفُ مَا فِيهِ تَعَامُلٌ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ كَالْفَأْسِ وَالْمَرِّ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْشَارِ وَالْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا وَالْقُدُورِ وَالْمَرَاحِلِ وَالْمَصَاحِفِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُتْرَكُ بِالنَّصِّ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ .
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْقِيَاسُ قَدْ يُتْرَكُ بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ .
وَعَنْ نُصَيْرِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ وَقَفَ كُتُبَهُ إلْحَاقًا لَهَا بِالْمَصَاحِفِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُمْسَكُ لِلدِّينِ تَعْلِيمًا وَتَعَلُّمًا وَقِرَاءَةً ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى
قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَقْفُهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَأَشْبَهَ الْعَقَارَ وَالْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَقْفَ فِيهِ لَا يَتَأَبَّدُ ، وَلَا بُدَّ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَصَارَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، بِخِلَافِ الْعَقَارِ ، وَلَا مُعَارِضَ مِنْ حَيْثُ السَّمْعُ وَلَا مِنْ حَيْثُ التَّعَامُلُ فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقَارَ يَتَأَبَّدُ ، وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى فَلَا يَكُونُ غَيْرُهُمَا فِي مَعْنَاهُمَا .
( قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ مَا يُنْقَلُ وَيُحَوَّلُ ) كَذَا قَالَ الْقُدُورِيُّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَهَذَا عَلَى الْإِرْسَالِ ) أَيْ عَلَى الْإِطْلَاقِ ( قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ثُمَّ قَالَ الْقُدُورِيُّ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأُكْرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ جَازَ ) وَالْأُكْرَةُ الْحَرَّاثُونَ ( وَكَذَا آلَاتُ الْحِرَاثَةِ ) إذَا كَانَتْ تَبَعًا لِلْأَرْضِ يَجُوزُ ( لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلْأَرْضِ فِي تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ) مِنْهَا ( وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ الْحُكْمِ تَبَعًا مَا لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشُّرْبِ ) وَالطَّرِيقُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا ، وَهَذَا كَثِيرٌ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْعَدِّ .
وَلَوْ مَرِضَ بَعْضُهُمْ فَتَعَطَّلَ عَنْ الْعَمَلِ إنْ كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَ نَفَقَتَهُمْ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَصَرَّحَ بِهَا فَهِيَ فِي مَالِ الْوَقْفِ وَإِلَّا لَا نَفَقَةَ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي مَالِ الْوَقْفِ فَلِلْقَيِّمِ أَنْ يَبِيعَ مَنْ عَجَزَ ، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ آخَرَ يَعْمَلُ كَمَا لَوْ قُتِلَ فَأَخَذَ دِيَتَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا آخَرَ ، وَلَوْ جَنَى أَحَدُهُمْ جِنَايَةً فَعَلَى الْقَيِّمِ أَنْ يَنْظُرَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَصْلَحُ دَفْعَ هَذَا الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ دَفَعَهُ أَوْ فِدَاءَهُ فَدَاهُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ ، وَإِذَا فَدَاهُ بِفِدْيَةٍ تَزِيدُ عَلَى أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْوَقْفِ مِنْ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ شَيْءٌ ، فَإِنْ فَدَوْهُ كَانُوا مُتَطَوِّعِينَ ( وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِ ) يَعْنِي فَلَا مَعْنَى لِإِفْرَادِ أَبِي يُوسُفَ ( لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ إفْرَادُ بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ بِالْوَقْفِ عِنْدَهُ ) أَيْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَتَجْوِيزُهُ تَبَعًا لِلْعَقَارِ أَوْلَى وَضَمِيرُ لِأَنَّهُ لِلشَّأْنِ ، أَمَّا لَوْ وَقَفَ ضَيْعَةً فِيهَا بَقَرٌ وَعَبِيدٌ لَهُ وَلَمْ يَذْكُرْهُمْ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ الْآلَاتِ وَالْبَقَرِ وَالْعَبِيدِ فِي الْوَقْفِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ حَبْسُ
الْكُرَاعِ ) وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ ، ( وَمَعْنَاهُ وَقْفُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَبُو يُوسُفَ مَعَهُ ) أَيْضًا فِي ذَلِكَ ( عَلَى مَا قَالُوا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ) مِنْ شَرْطِ التَّأْبِيدِ وَالْمَنْقُولُ لَا يَتَأَبَّدُ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ .
مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَمَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إلَّا أَنْ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا وَقَدْ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَمَّا الْعَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ عَلَيَّ وَمِثْلُهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا شَعَرْت أَنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ } وَأَمَّا مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ طَلْحَةَ حَبَسَ دُرُوعَهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فَلَمْ يُعْرَفْ ، وَكَذَا لَمْ يُعْرَفْ جَمْعُهُ عَلَى أَكْرَاعٍ ؛ لِأَنَّ فُعَالًا لَا يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ بَلْ عَلَى أَفْعُلٍ كَعُقَابٍ وَأَعْقُبٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ لَهُ فِي الصِّحَاحِ صِيغَتَيْ جَمْعٍ ، قَالَ : فَالْجَمْعُ أَكْرُعٌ ثُمَّ أَكَارِعٌ ، إلَّا أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ أَخْرَجَ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُخْتَارِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ الْوَفَاةُ قَالَ : لَقَدْ طَلَبْت الْقَتْلَ فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي إلَّا أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي ، وَمَا مِنْ عَمَلٍ أَرْجَى عِنْدِي مِنْ " لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا أَنَا مِتّ فَانْظُرُوا سِلَاحِي وَفَرَسِي فَاجْعَلُوهُ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِهَذَا
السَّنَدِ فِي تَارِيخِ ابْنِ كَثِيرٍ ، وَقَالَ فِيهِ : مَا مِنْ عَمَلٍ أَرْجَى عِنْدِي بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مِنْ لَيْلَةٍ بِتُّهَا وَأَنَا مُتَتَرِّسٌ وَالسَّمَاءُ تَهُلْنِي نَنْظُرُ الصُّبْحَ حَتَّى نُغِيرَ عَلَى الْكُفَّارِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَالْإِبِلُ تَدْخُلُ فِي حُكْمِهِ بِالدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَغْزُونَ عَلَيْهَا ، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ أُمَّ مَعْقِلٍ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا مَعْقِلٍ جَعَلَ نَاضِحَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ أَفَأَرْكَبُهُ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْكَبِيهِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَقْفَ الْمَنْقُولِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ يَجُوزُ .
وَأَمَّا وَقْفُهُ مَقْصُودًا ، إنْ كَانَ كُرَاعًا أَوْ سِلَاحًا جَازَ ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ إنْ كَانَ مِمَّا لَمْ يَجْرِ التَّعَامُلُ بِوَقْفِهِ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَنَحْوِهِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَارَفًا كَالْجِنَازَةِ وَالْفَأْسِ وَالْقَدُومِ وَثِيَابِ الْجِنَازَةِ وَمِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْأَوَانِي وَالْقُدُورِ فِي غُسْلِ الْمَوْتَى وَالْمَصَاحِفِ ، قَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَجُوزُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ مِنْهُمْ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ .
وَفِي الْفَتَاوَى لِقَاضِي خَانْ .
وَقَفَ بِنَاءً بِدُونِ أَرْضٍ قَالَ هِلَالٌ : لَا يَجُوزُ انْتَهَى .
لَكِنْ فِي الْخَصَّافِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْأَرْضَ إذَا كَانَتْ مُتَقَرِّرَةً لِلِاحْتِكَارِ جَازَ فَإِنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ وَقَفَ بِنَاءَ دَارٍ لَهُ دُونَ الْأَرْضِ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ ، قِيلَ لَهُ فَمَا تَقُولُ فِي حَوَانِيتِ السُّوقِ إنْ وَقَفَ رَجُلٌ حَانُوتًا مِنْهَا ؟ قَالَ : إنْ كَانَ الْأَرْضُ إجَارَةً فِي أَيْدِي الْقَوْمِ الَّذِينَ بَنَوْهَا لَا يُخْرِجُهُمْ السُّلْطَانُ عَنْهَا فَالْوَقْفُ جَائِزٌ لِأَنَّا رَأَيْنَاهَا فِي أَيْدِي أَصْحَابِ الْبِنَاءِ يَتَوَارَثُونَهَا وَتُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ السُّلْطَانُ
وَلَا يُزْعِجُهُمْ عَنْهَا ، وَإِنَّمَا لَهُ غَلَّةٌ يَأْخُذُهَا وَتَدَاوَلَهَا الْخُلَفَاءُ وَمَضَى عَلَيْهِ الدُّهُورُ وَهِيَ فِي أَيْدِيهِمْ يَتَبَايَعُونَهَا وَيُؤَاجِرُونَهَا وَتَجُوزُ فِيهَا وَصَايَاهُمْ وَيَهْدِمُونَ بِنَاءَهَا وَيَبْنُونَ غَيْرَهُ ، فَأَفَادَ أَنَّ مَا كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ جَازَ وَقْفُ الْبُنْيَانِ فِيهِ وَإِلَّا فَلَا .
وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : إذَا بَنَى قَنْطَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ وَلَا يَكُونُ بِنَاؤُهَا مِيرَاثًا ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ الْبِنَاءَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ تُتَّخَذَ عَلَى جَنْبَتَيْ النَّهْرِ الْعَامِّ وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ .
ثُمَّ قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَقْفِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَصْلِ .
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ وَقْفَ الْبِنَاءِ بِدُونِ أَصْلِ الدَّارِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ الْبِنَاءِ فِي أَرْضٍ هِيَ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مِلْكًا لِوَاقِفِ الْبِنَاءِ جَازَ عِنْدَ الْبَعْضِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ : إذَا كَانَ الْبِنَاءُ فِي أَرْضِ وَقْفٍ جَازَ وَقْفُهُ عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَيْهَا .
ذَكَرَ الْكُلَّ فِي الْفَتَاوَى .
وَإِطْلَاقُ الْإِجَارَةِ يُعَارِضُ قَوْلَ الْخَصَّافِ فِي أَرْضِ الْحُكُورِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ تَخْصِيصَهَا بِسَبَبِ أَنَّهَا صَارَتْ كَالْأَمْلَاكِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَسَمِعْته .
وَفِي الْخُلَاصَةِ ، إذَا وَقَفَ مُصْحَفًا عَلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إنْ كَانُوا يُحْصُونَ جَازَ ، وَإِنْ وَقَفَ عَلَى الْمَسْجِدِ جَازَ وَيُقْرَأُ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَلَا يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ ، وَأَمَّا وَقْفُ الْكُتُبِ فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يُجِيزُهُ وَنُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى يُجِيزُهُ وَوَقَفَ كُتُبَهُ ، وَالْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ يُجِيزُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ، وَالنَّصُّ وَرَدَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَلَى خِلَافِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ( وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْقِيَاسُ يَنْزِلُ
بِالتَّعَامُلِ كَمَا فِي الِاسْتِصْنَاعِ ، وَقَدْ وُجِدَ التَّعَامُلُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَكْثَرُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، وَمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ لَا يَجُوزُ وَقْفُهُ عِنْدَنَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ مَا أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ يَجُوزُ وَقْفُهُ ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ أَيْضًا .
وَأَمَّا وَقْفُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالْإِتْلَافِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، وَالْمُرَادُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَمَا لَيْسَ بِحُلِيٍّ .
وَأَمَّا الْحُلِيُّ فَيَصِحُّ وَقْفُهُ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ابْتَاعَتْ حُلِيًّا بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَحَبَسَتْهُ عَلَى نِسَاءِ آلِ الْخَطَّابِ فَكَانَتْ لَا تُخْرِجُ زَكَاتَهُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَصِحُّ وَقْفُهُ ، وَأَنْكَرَ الْحَدِيثَ ، ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي .
وَحَاصِلُ وَجْهِ الْجَمَاعَةِ الْقِيَاسُ عَلَى الْكُرَاعِ ، وَعَارَضَهُ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ الشَّرْعِيِّ التَّأْبِيدُ وَلَا يَتَأَبَّدُ غَيْرُ الْعَقَارِ ، غَيْرَ أَنَّهُ تُرِكَ فِي الْجِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ سَنَامُ الدِّينِ ، فَكَانَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِمَا أَقْوَى ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوَقْفِ فِيهِمَا شَرْعِيَّتُهُ فِيمَا هُوَ دُونَهُمَا ، وَلَا يُلْحَقُ دَلَالَةً أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُمَا .
وَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَقَدْ زَادَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَشْيَاءَ مِنْ الْمَنْقُولِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لِمَا رَأَوْا مِنْ جَرَيَانِ التَّعَامُلِ فِيهَا .
فَفِي الْخُلَاصَةِ : وَقَفَ بَقَرَةً عَلَى أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ لَبَنِهَا وَسَمْنِهَا يُعْطَى لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ قَالَ : إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ غَلَبَ ذَلِكَ فِي أَوْقَافِهِمْ رَجَوْت أَنْ يَكُونَ جَائِزًا .
وَعَنْ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ زُفَرَ فِيمَنْ وَقَفَ الدَّرَاهِمَ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ مَا يُوزَنُ أَيَجُوزُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَعَمْ ،
قِيلَ وَكَيْفَ ؟ قَالَ يَدْفَعُ الدَّرَاهِمَ مُضَارَبَةً ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا فِي الْوَجْهِ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ ، وَمَا يُكَالُ وَمَا يُوزَنُ يُبَاعُ وَيُدْفَعُ ثَمَنُهُ مُضَارَبَةً أَوْ بِضَاعَةً .
قَالَ : فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ إذَا وَقَفَ هَذَا الْكُرَّ مِنْ الْحِنْطَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقْرَضَ لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ لَا بَذْرَ لَهُمْ لِيَزْرَعُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ ، ثُمَّ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ قَدْرُ الْقَرْضِ ، ثُمَّ يُقْرَضُ لِغَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَبَدًا عَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ جَائِزًا .
قَالَ : وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الرَّيِّ وَنَاحِيَةِ دَنْبَاوَنْدَ ، وَالْأَكْسِيَةُ وَأَسْتِرَةُ الْمَوْتَى إذَا وَقَفَ صَدَقَةً أَبَدًا جَازَ فَتُدْفَعُ الْأَكْسِيَةُ لِلْفُقَرَاءِ فَيَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي أَوْقَاتِ لُبْسِهَا ؛ وَلَوْ وَقَفَ ثَوْرًا لِإِنْزَاءِ بَقَرِهِمْ لَا يَصِحُّ .
ثُمَّ إذَا عَرَفَ جَوَازَ وَقْفِ الْفَرَسِ وَالْجَمَلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَلَوْ وَقَفَهُ عَلَى أَنْ يَمْسِكَهُ مَا دَامَ حَيًّا إنْ أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لِجَاعِلِ فَرَسِ السَّبِيلِ أَنْ يُجَاهِدَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَصَحَّ جَعْلُهُ لِلسَّبِيلِ : يَعْنِي يَبْطُلُ الشَّرْطُ ، وَيَصِحُّ وَقْفُهُ ، وَلَا يُؤَاجَرُ فَرَسُ السَّبِيلِ إلَّا إذَا اُحْتِيجَ إلَى نَفَقَتِهِ فَيُؤَاجَرُ بِقَدْرِ مَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَهَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا احْتَاجَ إلَى نَفَقَةٍ يُؤَاجِرُ قِطْعَةً مِنْهُ بِقَدْرِ مَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ ا هـ .
وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَعُودُ إلَى الْقُبْحِ الَّذِي لِأَجْلِهِ اسْتَثْنَى أَبُو يُوسُفَ الْمَسْجِدَ مِنْ وَقْفِ الْمَشَاعِ ، وَهُوَ أَنْ يَتَّخِذَ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ عَامًا وَإِصْطَبْلًا يُرْبَطُ فِيهِ الدَّوَابُّ عَامًا ، وَلَوْ قِيلَ إنَّمَا يُؤَاجَرُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَنَقُولُ غَايَةُ مَا يَكُونُ لِلسُّكْنَى وَيَسْتَلْزِمُ جَوَازَ الْمُجَامَعَةِ فِيهِ وَإِقَامَةَ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ فِيهِ ،
وَلَوْ قِيلَ لَا يُؤَاجَرُ لِذَلِكَ فَكُلُّ عَمَلٍ يُؤَاجَرُ لَهُ فِيهِ تَغْيِيرُ أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بِاحْتِيَاجِهِ إلَى النَّفَقَةِ لَا تَتَغَيَّرُ أَحْكَامُهُ الشَّرْعِيَّةُ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا .
نَعَمْ إنْ خَرِبَ مَا حَوْلَهُ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَتَجِبُ عِمَارَتُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَيْضًا : يَجُوزُ وَقْفُ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي عَلَى مَصَالِحِ الرِّبَاطِ ، وَإِذَا زَوَّجَ السُّلْطَانُ أَوْ الْقَاضِي جَارِيَةَ الْوَقْفِ يَجُوزُ ، وَلَوْ زَوَّجَ عَبْدَ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ اكْتِسَابًا لِلْوَقْفِ دُونَ الثَّانِي ، وَلِهَذَا لَوْ زَوَّجَ أَمَةَ الْوَقْفِ مِنْ عَبْدِ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ .
وَمِنْ فُرُوعِ وَقْفِ الْمَنْقُولِ وَقْفُ دَارٍ فِيهَا حَمَّامَاتٌ يَخْرُجْنَ وَيَرْجِعْنَ يَدْخُلُ فِي وَقْفِهِ الْحَمَّامَاتُ الْأَصْلِيَّةُ قَالَ الْفَقِيهُ : هُوَ كَوَقْفِ الضَّيْعَةِ مَعَ الثِّيرَانِ .
وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ عَمَّنْ وَقَفَ شَجَرَةً بِأَصْلِهَا وَالشَّجَرَةُ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِأَوْرَاقِهَا وَثَمَرِهَا قَالَ : الْوَقْفُ جَائِزٌ وَيُنْتَفَعُ بِثَمَرِهَا وَلَا يُقْطَعُ أَصْلُهَا إلَّا أَنْ تَفْسُدَ أَغْصَانُهَا ، فَإِنْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِأَوْرَاقِهَا وَثَمَرِهَا فَإِنَّهَا تُقْطَعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهَا إلَى سَبِيلِهِ ، فَإِنْ نَبَتَتْ ثَانِيًا وَإِلَّا غَرَسَ مَكَانَهَا .
وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ عَنْ شَجَرَةِ وَقْفٍ يَبِسَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضُهَا فَقَالَ : مَا يَبِسَ مِنْهَا فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ غَلَّتِهَا ، وَمَا بَقِيَ مَتْرُوكٌ عَلَى حَالِهَا
قَالَ ( وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَيَطْلُبُ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ فَيَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ ) أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا .
وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ وَإِفْرَازٌ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا ؛ ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ إلَى وَصِيَّةٍ ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَاَلَّذِي يُقَاسِمُهُ الْقَاضِي أَوْ يَبِيعُ نَصِيبَهُ الْبَاقِي مِنْ رَجُلٍ ، ثُمَّ يُقَاسِمُهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ إنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ لَا يَجُوزُ لِامْتِنَاعِ بَيْعِ الْوَقْفِ ، وَإِنْ أَعْطَى الْوَاقِفَ جَازَ وَيَكُونُ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ شِرَاءً
( قَوْلُهُ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ ) أَيْ لَزِمَ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي قَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَإِذَا صَحَّ الْوَقْفُ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ .
ثُمَّ قَوْلُهُ ( لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ وَلَا تَمْلِيكُهُ ) هُوَ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشَاعًا فَيَطْلُبَ شَرِيكُهُ الْقِسْمَةَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَتَصِحُّ مُقَاسَمَتُهُ ، أَمَّا امْتِنَاعُ التَّمْلِيكِ فَلِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَصَدَّقْ بِأَصْلِهَا لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ } وَمِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَى آخِرِهِ ، وَلِأَنَّهُ بِاللُّزُومِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ وَبِلَا مِلْكٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْبَيْعِ ( وَأَمَّا جَوَازُ الْقِسْمَةِ ) أَيْ عِنْدَهُمَا ، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِصِحَّةِ وَقْفِ الْمَشَاعِ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الرَّاجِحُ فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ ( فَلِأَنَّهَا تَمْيِيزٌ ) مَعْنًى ( وَإِفْرَازُ غَايَةِ الْأَمْرِ أَنَّ الْغَالِبَ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْوَقْفِ جَعَلْنَا الْغَالِبَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ نَظَرًا لِلْوَقْفِ فَلَمْ تَكُنْ بَيْعًا وَتَمْلِيكًا ، ثُمَّ إنْ وَقَفَ نَصِيبَهُ مِنْ عَقَارٍ مُشْتَرَكٍ فَهُوَ الَّذِي يُقَاسِمُ شَرِيكَهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْوَاقِفِ ) عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَوَقْفُ الْمَشَاعِ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ ( وَ ) لَوْ طَلَبَ الشَّرِيكُ الْقِسْمَةَ ( بَعْدَ مَوْتِهِ ) فَالْقِسْمَةُ ( إلَى وَصِيِّهِ ، وَإِنْ وَقَفَ نِصْفَ عَقَارٍ خَالِصٍ لَهُ فَ ) لِلْقِسْمَةِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ ( يُقَاسِمَهُ الْقَاضِي ) بِأَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَيْهِ ، وَيَطْلُبَ مِنْهُ الْقِسْمَةَ فَيَأْمُرَ رَجُلًا أَنْ يُقَاسِمَهُ ( الثَّانِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ الْبَاقِيَ مِنْ رَجُلٍ ثُمَّ يُقَاسِمَ الْمُشْتَرِيَ ثُمَّ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ مِنْهُ ) إنْ أَحَبَّ ، وَهَذَا ( لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ فَضْلُ دَرَاهِمَ ) بِأَنْ كَانَ
أَحَدُ النِّصْفَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ الْآخَرِ فَجَعَلَ بِإِزَاءِ الْجَوْدَةِ دَرَاهِمَ ، فَإِنْ كَانَ الْآخِذُ لِلدَّرَاهِمِ هُوَ الْوَاقِفُ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْوَقْفِ هُوَ الْأَحْسَنُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا بَعْضَ الْوَقْفِ وَبَيْعُ الْوَقْفِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ شَرِيكَهُ بِأَنْ كَانَ النَّصِيبُ الْوَقْفُ أَحْسَنَ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ مُشْتَرٍ لَا بَائِعٌ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى بَعْضَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَوَقَفَهُ .
فَقَوْلُهُ ( إنْ أُعْطَى الْوَاقِفُ لَا يَجُوزُ ) يَصِحُّ عَلَى بِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ وَرَفْعِ الْوَاقِفِ ، وَيَصِحُّ عَلَى بِنَائِهِ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبِ الْوَاقِفِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الْبَيْعِ فِي غَيْرِ الْقِسْمَةِ فِيمَا إذَا كَانَ قَائِمًا عَامِرًا ، أَمَّا إذَا تَهَدَّمَ وَلَا حَاصِلَ لَهُ يَعْمُرُ بِهِ فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ إنْ كَانَ حَيًّا ، وَإِلَى وَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا .
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَظَرٌ : يَعْنِي لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَمَا خَرَجَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِرُجُوعِهِ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ خُلُوصَهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْقَافِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الْفَائِدَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ انْتِفَاؤُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ رِيعٌ يُعَادُ بِهِ وَلَا يُوجَدُ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ فَيُعَمِّرُهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ حَانُوتٌ احْتَرَقَ فِي السُّوقِ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ أَلْبَتَّةَ ، وَحَوْضُ مَحَلَّةٍ خَرِبَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ عِمَارَتُهُ فَهُوَ لِلْوَاقِفِ وَلِوَرَثَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ وَاقِفُهُ وَوَرَثَتُهُ لَا تُعْرَفُ فَهُوَ لُقَطَةٌ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ .
زَادَ فِي فَتَاوَى الْخَاصِّيِّ : إذَا كَانَ كَاللُّقَطَةِ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ عَلَى فَقِيرٍ ثُمَّ يَبِيعُهُ الْفَقِيرُ فَيَنْتَفِعُ بِثَمَنِهِ ، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّمَا يَصِيرُ
لِبَيْتِ الْمَالِ إذَا عُرِفَ الْوَاقِفُ وَعُرِفَ مَوْتُهُ وَانْقِرَاضُ عَقِبِهِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ : إذَا ضَعُفَتْ الْأَرْضُ عَنْ الِاسْتِغْلَالِ وَيَجِدُ الْقَيِّمُ بِثَمَنِهَا أُخْرَى هِيَ أَكْثَرُ رِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ رِيعًا .
وَأَمَّا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فِيمَا إذَا خَافَ الْمُتَوَلِّي عَلَى الْوَقْفِ مِنْ وَارِثٍ أَوْ سُلْطَانٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ .
قَالَ فِي النَّوَازِلِ : يَبِيعُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا .
قَالَ : وَكَذَا كُلُّ قَيِّمٍ خَافَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ .
قَالُوا : فَالْفَتْوَى عَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّ الْوَقْفَ بَعْدَ مَا صَحَّ بِشَرَائِطِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى ذَكَرَ فِي شَجَرَةِ جَوْزٍ وَقْفٍ فِي دَارِ وَقْفٍ خَرِبَتْ الدَّارُ لَا تُبَاعُ الشَّجَرَةُ لِعِمَارَةِ الدَّارِ بَلْ تُكْرَى الدَّارُ ، وَيُسْتَعَانُ بِنَفْسِ الْجَوْزِ عَلَى الْعِمَارَةِ ، ثُمَّ إذَا جَازَ بَيْعُ الْأَشْجَارِ الْمَوْقُوفَةِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْقَطْعِ بَلْ بَعْدَهُ ، هَكَذَا عَنْ الْفَضْلِيِّ فِي الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ ، وَفِي غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ قَالَ : يَجُوزُ قَبْلَ الْقَلْعِ لِأَنَّهَا هِيَ الْغَلَّةُ ، وَبِنَاءُ الْوَقْفِ وَالنَّبَاتِ لَا يَجُوزُ قَبْلَ الْهَدْمِ وَالْقَلْعِ كَالْمُثْمِرَةِ كَذَا قَبْلُ .
وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي إذَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ كَوْنُهُ قَبْلَ الْهَدْمِ دَفْعًا لِزِيَادَةِ مُؤْنَةِ الْهَدْمِ ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ الْقِيمَةُ بِالْهَدْمِ .
وَفِي زِيَادَاتِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَامِدٍ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَحَصِيرِهِ إذَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ
قَالَ ( وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاقِفُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ) لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ صَرْفُ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا ، وَلَا تَبْقَى دَائِمَةً إلَّا بِالْعِمَارَةِ فَيَثْبُتُ شَرْطُ الْعِمَارَةِ اقْتِضَاءً وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ ، فَإِنَّهَا عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا .
ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَا يَظْفَرُ بِهِمْ ، وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ فَتَجِبُ فِيهَا .
وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ : أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ .
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِمَارَةَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَهُ ، وَإِنْ خَرِبَ يَبْنِي عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ ؛ لِأَنَّهَا بِصِفَتِهَا صَارَتْ غَلَّتُهَا مَصْرُوفَةً إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ عَلَيْهِ وَالْغَلَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى شَيْءٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ ، وَعِنْدَ الْآخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْعِمَارَةِ ضَرُورَةُ إبْقَاءِ الْوَقْفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ .
( قَوْلُهُ وَالْوَاجِبُ أَنْ يُبْتَدَأَ مِنْ ارْتِفَاعِ الْوَقْفِ بِعِمَارَتِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ لِكُلِّ وَاقِفٍ وُصُولُ الثَّوَابِ مُؤَبَّدًا وَذَلِكَ ( بِصَرْفِ الْغَلَّةِ مُؤَبَّدًا ) وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ بِلَا عِمَارَةٍ ، فَكَانَتْ الْعِمَارَةُ مَشْرُوطَةً اقْتِضَاءً ، وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ فِي شَيْءٍ مِنْ رَسْمِ الصُّكُوكِ فَاشْتَرَطَ أَنْ يَرْفَعَ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ عَامٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَالْبَذْرِ وَأَرْزَاقِ الْوُلَاةِ عَلَيْهَا وَالْعَمَلَةِ وَأُجُورِ الْحُرَّاسِ وَالْحَصَّادِينَ وَالدَّارِسِينَ ؛ لِأَنَّ حُصُولَ مَنْفَعَتِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِدَفْعِ هَذِهِ الْمُؤَنِ مِنْ رَأْسِ الْغَلَّةِ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِلَا شَرْطٍ عِنْدَنَا لَكِنْ لَا يُؤْمَنُ جَهْلُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَيَذْهَبُ رَأْيُهُ إلَى قِسْمَةِ جَمِيعِ الْغَلَّةِ ، فَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ فِي صَكِّهِ يَقَعُ الْأَمْنُ بِالشَّرْطِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ) أَيْ الِانْتِفَاعُ بِخَرَاجِ الشَّيْءِ كَغَلَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِقِيَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ : أَيْ لِكَوْنِ ذَلِكَ الشَّيْءِ لَوْ تَلِفَ تَلِفَ مِنْ ضَمَانِ الْمُسْتَغِلِّ .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ غَرِيبِ الْحَدِيثِ عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ مَخْلَدِ بْنِ أَبِي خِفَافٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْمَمْلُوكَ فَيَسْتَغِلُّهُ ، ثُمَّ يَجِدُ بِهِ عَيْبًا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ فَقُضِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ ، وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ فَيَأْخُذُهُ وَتَكُونُ لَهُ الْغَلَّةُ طَيِّبَةً وَهُوَ الْخَرَاجُ ، وَإِنَّمَا طَابَتْ لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْعَبْدِ ، وَلَوْ مَاتَ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ا هـ .
وَلِهَذَا الْحَدِيثِ نَقَضَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَاءَهُ حِينَ قَضَى بِالْغَلَّةِ لِلْبَائِعِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ ، وَفِي مَعْنَاهُ : { الْغُرْمُ بِالْغُنْمِ } .
وَقَدْ جَرَى لَفْظُهُ مَجْرَى الْمَثَلِ وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مَضَرَّةٍ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةٍ .
وَقَوْلُهُ ( وَصَارَ ) أَيْ عِمَارَةُ الْوَقْفِ ( كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ فَإِنَّهَا ) تَكُونُ ( عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِهَا ) ( قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَلَا يَظْفَرُ بِهِمْ ) لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَلْزَمُوا لِعَدَمِ اجْتِمَاعِهِمْ وَلِعُسْرَتِهِمْ ( وَأَقْرَبُ أَمْوَالِهِمْ هَذِهِ الْغَلَّةُ ) الْكَائِنَةُ لِلْوَقْفِ ( فَتَجِبُ ) الْعِمَارَةُ فِيهَا ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ ) أَوْ رِجَالٍ ( وَآخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ فَهُوَ فِي مَالِهِ أَيِّ مَالٍ شَاءَ فِي حَيَاتِهِ ) فَإِذَا مَاتَ فَمِنْ الْغَلَّةِ ( وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْغَلَّةِ ) عَيْنًا ( لِأَنَّهُ ) رَجُلٌ ( مُعَيَّنٌ يُمْكِنُ مُطَالَبَتُهُ ) ثُمَّ هُوَ يُعْطِي إنْ شَاءَ مِنْ الْغَلَّةِ وَإِنْ شَاءَ مِنْ غَيْرِهَا ، ثُمَّ الْعِمَارَةُ الْمُسْتَحَقَّةُ عَلَيْهِ إنَّمَا هِيَ ( بِقَدْرِ مَا يَبْقَى الْمَوْقُوفُ بِهَا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي وَقَفَ ) عَلَيْهَا ( فَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ ) فَلَا تُصْرَفُ فِي الْعِمَارَةِ ( إلَّا بِرِضَاهُ ، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْبَعْضِ ) أَيْ لَا يُزَادُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا ( وَعِنْدَ آخَرِينَ يَجُوزُ ذَلِكَ ) أَيْ الزِّيَادَةُ ( وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) لِأَنَّهُ صَرَفَ حَقَّ الْفُقَرَاءِ إلَى غَيْرِ مَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ ، وَلَا تُؤَخَّرُ الْعِمَارَةُ إذَا اُحْتِيجَ إلَيْهَا وَتُقْطَعُ الْجِهَاتُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَيْهَا لَهَا إنْ لَمْ يُخَفْ ضَرَرٌ بَيِّنٌ ، فَإِنْ خِيفَ قُدِّمَ .
وَأَمَّا النَّاظِرُ فَإِنْ كَانَ الْمَشْرُوطُ لَهُ مِنْ الْوَاقِفِ فَهُوَ كَأَحَدِ الْمُسْتَحِقِّينَ ، فَإِذَا قَطَعُوا لِلْعِمَارَةِ قَطَعَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ كَالْفَاعِلِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوَهُمَا فَيَأْخُذُ قَدْرَ أُجْرَتِهِ ، وَإِنْ
لَمْ يَعْمَلْ لَا يَأْخُذْ شَيْئًا .
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ : رَجُلٌ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلَى مَوَالِيهِ وَمَاتَ فَجَعَلَ الْقَاضِي الْوَقْفَ فِي يَدِ قَيِّمٍ ، وَجَعَلَ لَهُ عُشْرَ الْغَلَّاتِ مَثَلًا وَفِي الْوَقْفِ طَاحُونَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِالْمُقَاطَعَةِ لَا حَاجَةَ فِيهَا إلَى الْقَيِّمِ ، وَأَصْحَابُ هَذِهِ الطَّاحُونَةِ يَقْسِمُونَ غَلَّتَهَا لَا يَجِبُ لِلْقَيِّمِ فِيهَا ذَلِكَ الْعُشْرُ ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ لَا يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْأَجْرِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِلَا عَمَلٍ ا هـ .
فَهَذَا عِنْدَنَا فِيمَنْ لَمْ يَشْرِطْ لَهُ الْوَاقِفُ شَيْئًا ؛ أَمَّا إذَا شَرَطَ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ
قَالَ ( فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ سُكْنَى ) لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ ( فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ فَقِيرًا آجَرَهَا الْحَاكِمُ وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا ، وَإِذَا عَمَّرَهَا رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ، وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ فِي الْمُزَارَعَةِ فَلَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ لِأَنَّهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ ، وَلَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ وَقَفَ دَارًا عَلَى سُكْنَى وَلَدِهِ ) أَوْ غَيْرِ وَلَدِهِ ( فَالْعِمَارَةُ عَلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ وَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ كَانَ فَقِيرًا أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ ( وَعَمَّرَهَا بِأُجْرَتِهَا ) ثُمَّ رَدَّهَا إلَى مَنْ لَهُ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ رِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ حَقِّ الْوَاقِفِ وَحَقِّ صَاحِبِ السُّكْنَى ( لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا تَفُوتُ السُّكْنَى أَصْلًا ، وَالْأَوَّلُ ) وَهُوَ الْعِمَارَةُ ( أَوْلَى ) مِنْ الثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ عِمَارَتِهَا الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَوْ لَمْ يُعَمِّرْهَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْلَى مِنْ إبْطَالِ إحْدَاهُمَا ( وَلَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ عَلَى الْعِمَارَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ ) إلْزَامِ الضَّرَرِ ( بِإِتْلَافِ مَالِهِ فَأَشْبَهَ امْتِنَاعَ صَاحِبِ الْبَذْرِ ) فِيهِمَا إذَا عَقَدَ عَقْدَ ( الْمُزَارَعَةِ ) وَبَيَّنَا مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ فَامْتَنَعَ مَنْ عَلَيْهِ الْبَذْرُ عَنْ الْعَمَلِ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ ( ثُمَّ لَا يَكُونُ امْتِنَاعُهُ رِضًا مِنْهُ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ فِي حَيِّزِ التَّرَدُّدِ ) يَعْنِي دَلَالَةَ الِامْتِنَاعِ عَلَى الرِّضَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ مُتَرَدِّدٌ فِيهَا لِجَوَازِ كَوْنِ امْتِنَاعِهِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعِمَارَةِ أَوْ لِرَجَائِهِ اصْطِلَاحَ الْقَاضِي كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ لِرِضَاهُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ أَجَّرَهَا الْحَاكِمُ ؛ لِأَنَّهُ ( لَا تَصِحُّ إجَارَةُ مَنْ لَهُ السُّكْنَى ) وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ ) وَفِي تَقْرِيرِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْمَنْفَعَةِ بَلْ أُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ .
فَإِنَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى أَنْ يُعِيرَ الدَّارَ ، وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِلَا عِوَضٍ ، وَالْمَسْأَلَةُ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَيْنِ وَالْإِجَارَةُ تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ فَلَا
يَتَحَقَّقُ مِلْكُهَا لِيَمْلِكَهَا فَأُقِيمَتْ الْعَيْنُ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِيَرُدَّ عَلَيْهَا الْعَقْدَ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَمْلُوكَةً ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ إجَارَةُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى الْإِعَارَةُ لَكِنَّهُ يَصِحُّ كَمَا ذَكَرْنَا ؛ فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكُ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ فَلَمْ يَمْلِكَ تَمْلِيكَهَا بِبَدَلٍ وَهُوَ الْإِجَارَةُ ، وَإِلَّا لَمَلَكَ أَكْثَرَ مِمَّا مَلَكَ بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ يُفِيدُ أَنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ السُّكْنَى وَغَيْرِهِ ، حَتَّى أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ الدَّارُ الْمُسْتَحِقَّ لِلْغَلَّةِ أَيْضًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِلْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَيْنِ مَقَامَ مَنَافِعِهَا لِيَرُدَّ عَلَيْهِ عَقْدَ الْإِجَارَةِ بَلْ مَا مَلَكَهُ مِنْ الْمَنَافِعِ بِلَا بَدَلٍ .
وَنَصَّ الْأُسْرُوشَنِيُّ أَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنْقُولِ أَنَّ إجَارَةَ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ الْمُتَوَلِّي أَوْ الْقَاضِي .
وَنُقِلَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْوَقْفُ لَا يَسْتَرِمُّ تَجُوزُ إجَارَتُهُ وَهَذَا فِي الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ .
وَأَمَّا الْأَرَاضِي فَإِنْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ تَقْدِيمَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَسَائِرِ الْمُؤَنِ فَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ ذَلِكَ ، فَيَجِبُ أَنْ يَجُوزَ وَيَكُونَ الْخَرَاجُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ ، هَذَا وَإِنْ لَمْ يَرْضَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ السُّكْنَى بِالْعِمَارَةِ وَلَمْ يَجِدْ الْقَاضِي مَنْ يَسْتَأْجِرُهَا لَمْ أَرَ حُكْمَ هَذِهِ فِي الْمَنْقُولِ مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَالْحَالُ فِيهَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ تَصِيرَ نَقْضًا عَلَى الْأَرْضِ كَرَمَادٍ تَسْفُوهُ الرِّيَاحُ ، وَخَطَرَ لِي أَنَّهُ يُخَيِّرُهُ الْقَاضِي بَيْنَ أَنْ يُعَمِّرَهَا فَيَسْتَوْفِيَ مَنْفَعَتَهَا ،
وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى وَرَثَةِ الْوَاقِفِ
قَالَ ( وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ ) صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفَهُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِمَارَةِ لِيَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْوَاقِفِ .
فَإِنْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي الْحَالِ صَرَفَهَا فِيهَا ، وَإِلَّا أَمْسَكَهَا حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوَانَ الْحَاجَةِ فَيَبْطُلُ الْمَقْصُودُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ إعَادَةُ عَيْنِهِ إلَى مَوْضِعِهِ بِيعَ وَصُرِفَ ثَمَنُهُ إلَى الْمَرَمَّةِ صَرْفًا لِلْبَدَلِ إلَى مَصْرِفِ الْمُبْدَلِ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْسِمَهُ ) يَعْنِي النَّقْضَ ( بَيْنَ مُسْتَحَقِّي الْوَقْفِ ) لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا حَقَّ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فِيهِ : وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْمَنَافِعِ ، وَالْعَيْنُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصْرِفُ إلَيْهِمْ غَيْرَ حَقِّهِمْ .
( قَوْلُهُ وَمَا انْهَدَمَ مِنْ بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ ) وَهُوَ بِالْجَرِّ كَالْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَقَدْ يُضَمُّ عَطْفًا عَلَى مَا صَرَفَهُ الْحَاكِمُ فِي عِمَارَةِ الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَيْهِ ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ بِالِانْهِدَامِ تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى عِمَارَةِ ذَلِكَ الْقَدْرِ فَلَا مَعْنَى لِلشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ أَمْسَكَهُ حَتَّى يَحْتَاجَ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ إنْ كَانَ التَّهَيُّؤُ لِلْعِمَارَةِ ثَابِتًا فِي الْحَالِ صَرَفَهُ إلَيْهَا ، وَإِلَّا حَفِظَهُ حَتَّى يَتَهَيَّأَ ذَلِكَ وَتَتَحَقَّقَ الْحَاجَةُ ، فَإِنَّ الْمُنْهَدِمَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا جِدًّا لَا يُخِلُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْوَقْفِ وَلَا يَقْرَبُهُ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيُؤَخَّرُ حَتَّى تَحْسُنَ أَوْ تَجِبَ الْعِمَارَةُ ؛ وَإِنْ تَعَذَّرَتْ إعَارَتُهُ بِأَنْ خَرَجَ عَنْ الصَّلَاحِيَةِ لِذَلِكَ لِضَعْفِهِ وَنَحْوِهِ بَاعَهُ وَصَرَفَ ثَمَنَهُ فِي ذَلِكَ إقَامَةً لِلْبَدَلِ مَقَامَ الْمُبْدَلِ ، وَلَا يَقْسِمُهُ بَيْنَ مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْوَقْفِ ، وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْعَيْنِ الْمَوْقُوفَةِ ، لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقُّهُمْ فِي الْغَلَّةِ فَقَطْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ جَوَازِ بَيْعِهِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الِانْتِفَاعُ بِهِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَقْفُ الْوَاقِفِ ، أَمَّا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُتَوَلِّي مِنْ مُسْتَغَلَّاتِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَا هَذَا الشَّرْطِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي صَيْرُورَتِهِ وَقْفًا خِلَافًا ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَقْفًا فَلِلْقَيِّمِ أَنْ يَبِيعَهُ مَتَى شَاءَ لِمَصْلَحَةٍ عَرَضَتْ
قَالَ ( وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ فَصْلَيْنِ شَرْطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَجَعْلَ الْوِلَايَةِ إلَيْهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ الرَّازِيّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ وَالْإِفْرَازِ .
وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ ، وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَ الْبَعْضَ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ ، وَفِيمَا إذَا شَرَطَ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ لِلْفُقَرَاءِ سَوَاءٌ ؛ وَلَوْ وَقَفَ وَشَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً ، فَإِذَا مَاتُوا فَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، فَقَدْ قِيلَ يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ ، فَاشْتِرَاطُهُ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفِّذَةِ ، وَشَرْطَ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ } وَالْمُرَادُ مِنْهَا صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ تَعَالَى لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ يَجْعَلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا جَائِزٌ ، كَمَا إذَا بَنَى خَانًا أَوْ سِقَايَةً أَوْ جَعَلَ
أَرْضَهُ مَقْبَرَةً ، وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَهُ أَوْ يَشْرَبَ مِنْهُ أَوْ يُدْفَنَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ الْقُرْبَةُ وَفِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ } .
( قَوْلُهُ وَإِذَا جَعَلَ الْوَاقِفُ غَلَّةَ الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) فَهَذَانِ فَصْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْقُدُورِيُّ ( شَرَطَ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْوِلَايَةَ إلَيْهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَالزُّهْرِيِّ .
وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ابْنُ سُرَيْجٍ ( وَلَا يَجُوزُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهِلَالٍ ) الرَّأْيِيِّ وَهُوَ هِلَالُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُسْلِمٍ الْبَصْرِيُّ ، وَإِنَّمَا نُسِبَ إلَى الرَّأْيِ : أَيْ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَرَأْيِهِمْ ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ الْبَصْرِيِّ ، وَيُوسُفُ هَذَا مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقِيلَ إنَّ هِلَالًا أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ .
وَوَقَعَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمَا الرَّازِيّ .
وَفِي الْمُغْرِبِ هُوَ تَحْرِيفٌ ، بَلْ هُوَ الرَّأْيِيُّ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ لِأَنَّهُ مِنْ الْبَصْرَةِ لَا مِنْ الرَّيِّ .
وَالرَّازِيُّ نِسْبَةً إلَى الرَّيِّ ، وَهَكَذَا صَحَّحَ فِي مُسْنَدِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ ، وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ، وَالْخِلَافُ فِي شَرْطِ كُلِّ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ وَبَعْدَهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ بَعْضِهَا وَبَعْدَهُ لِلْفُقَرَاءِ .
ثُمَّ ( قِيلَ إنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ ) أَيْ قَبْضِ الْمُتَوَلِّي ، فَلَمَّا شَرَطَهُ مُحَمَّدٌ مَنَعَ اشْتِرَاطَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ فِيهِ ، وَمَا شَرَطَ الْقَبْضَ إلَّا لِيَنْقَطِعَ حَقُّهُ ، وَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْهُ أَبُو يُوسُفَ لَمْ يَمْنَعْهُ ( وَقِيلَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ ) غَيْرُ مَبْنِيَّةٍ وَهُوَ أَوْجَهُ ، ثُمَّ وَصَلَ الْمُصَنِّفُ بِهَذِهِ الْخِلَافِيَّةِ مَا إذَا شَرَطَ الْغَلَّةَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ مَا دَامُوا أَحْيَاءً ، فَإِذَا مَاتُوا كَانَ لِلْفُقَرَاءِ بِنَاءً عَلَى جَعْلِ الْخِلَافِ الْمَعْلُومِ جَارِيًا فِيهَا عَلَى مَا
صَحَّحَهُ الْمُصَنِّفُ .
وَقِيلَ بَلْ صِحَّةُ شَرْطِ الْغَلَّةِ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبَّرِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
وَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، فَإِنَّ الْكُلَّ جَعَلُوا الصِّحَّةَ بِالِاتِّفَاقِ .
وَفَرَّقَ فِي الْمَبْسُوطِ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ شَرْطِ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ وَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ حَيْثُ يَجُوزُ مَعَ أَنَّ شَرْطَهُ لَهُنَّ وَلِمُدَبَّرِيهِ كَشَرْطٍ لِنَفْسِهِ بِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ ثَبَتَتْ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ الْوَقْفُ عَلَيْهِمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَجَانِبِ ، وَيَكُونُ ثُبُوتُهُ لَهُمْ حَالَةَ حَيَاتِهِ تَبَعًا لِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا قَالَ فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ وَفَاتِي يَلْزَمُ ، أَمَّا لَوْ وَقَفَ عَلَى عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ بِمَوْتِهِ فَلَا تَبَعِيَّةَ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ كَشَرْطِهِ لِنَفْسِهِ ( وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الْوَقْفَ تَبَرُّعٌ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ ) لِلْغَلَّةِ أَوْ لِلسُّكْنَى ( فَاشْتِرَاطُ الْبَعْضِ أَوْ الْكُلِّ لِنَفْسِهِ يُبْطِلُهُ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَتَحَقَّقُ فَصَارَ كَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ ) بِأَنْ تَصَدَّقَ عَلَى فَقِيرٍ بِمَالٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ لِي لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ ، إذْ لَمْ يَكُنْ مُمَلَّكًا عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إلَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْقَدْرِ ، فَكَذَا فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ ( وَكَشَرْطِ بَعْضِ بُقْعَةِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ ) بَيْتًا ( وَلِأَبِي يُوسُفَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ } وَالْمُرَادُ صَدَقَتُهُ الْمَوْقُوفَةُ ، وَلَا يَحِلُّ الْأَكْلُ مِنْهَا إلَّا بِالشَّرْطِ ) فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا لَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ الْأَكْلَ مِنْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا شَرَطَهُ ،
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا أَنَّ فِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ { قَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ حُجْرًا الْمَدْرِيَّ أَخْبَرَنِي قَالَ : إنَّ فِي صَدَقَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْهَا أَهْلُهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرِ الْمُنْكَرِ } .
( وَلِأَنَّ الْوَقْفَ إزَالَةُ الْمِلْكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا شَرَطَ الْبَعْضَ أَوْ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ فَقَدْ جَعَلَ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لِلَّهِ لِنَفْسِهِ لَا أَنَّهُ جَعَلَ مِلْكَ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ) كَذَا قَرَّرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَعَلَى مَا سَلَفَ لَنَا فِي اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَ هَكَذَا الْمَوْقُوفُ إزَالَةَ الْمِلْكِ الْكَائِنِ بِالْعَيْنِ وَإِسْقَاطَهُ لَا إلَى مَالِكٍ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يُعْتَبَرُ فِيهِ شَرْطُهُ الْغَيْرُ الْمُنَافِي لِلْقُرْبَةِ وَالشَّرْعِ ، وَشَرْطُ النَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ( كَمَا إذَا بَنَى خَانًا وَشَرَطَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ أَوْ سِقَايَةً وَشَرَطَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهَا أَوْ مَقْبَرَةً وَشَرَطَ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ } ) رُوِيَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ يَبْلُغُ بِهَا الشُّهْرَةَ ، فَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَا مِنْ كَسْبِ الرَّجُلِ كَسْبٌ أَطْيَبُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ } وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ عَنْ بَقِيَّةَ عَنْ بُجَيْرٍ بِلَفْظِ : { مَا أَطْعَمْت نَفْسَك فَهُوَ لَك صَدَقَةٌ } الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَيُّمَا رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا حَلَالًا فَأَطْعَمَهُ نَفْسَهُ أَوْ كَسَاهَا فَمَنْ دُونَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لَهُ زَكَاةً } وَرَوَاهُ
الْحَاكِمُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ { فَإِنَّهُ لَهُ زَكَاةٌ } وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ .
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ، وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ صَدَقَةٌ } الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ فَقُلْت لِمُحَمَّدٍ بْنِ الْمُنْكَدِرِ : مَا مَعْنَى وَقَى بِهِ عِرْضَهُ قَالَ : أَنْ يُعْطِيَ الشَّاعِرَ وَذَا اللِّسَانِ الْمُتَّقَى .
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { مَنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ ، وَمَنْ أَنْفَقَ عَلَى امْرَأَتِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ } وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ ابْدَأْ بِنَفْسِك فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلِأَهْلِك } الْحَدِيثَ ، فَقَدْ تَرَجَّحَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَنَحْنُ أَيْضًا نُفْتِي بِقَوْلِهِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْوَقْفِ ، وَاخْتَارَهُ مَشَايِخُ بَلْخَ ، وَكَذَا ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ حَيْثُ أَخَّرَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَدْفَعْهُ .
وَمِنْ صُوَرِ الِاشْتِرَاطِ لِنَفْسِهِ مَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ غَلَّتِهِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ إذَا حَدَثَ عَلَيَّ الْمَوْتُ وَعَلَيَّ دَيْنٌ يُبْدَأُ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ بِقَضَاءِ مَا عَلَيَّ فَمَا فَضَلَ فَعَلَى سَبِيلِهِ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ .
وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ إذَا شَرَطَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَحَشَمِهِ وَعِيَالِهِ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فَجَاءَتْ غَلَّتُهُ فَبَاعَهَا وَقَبَضَ ثَمَنَهَا ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنْفِقَ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِأَهْلِ الْوَقْفِ ؟ قَالَ : يَكُونُ لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَكَانَ لَهُ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ شَرْطَ بَعْضِ الْغَلَّةِ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ بَعْضًا مُعَيَّنًا كَالنِّصْفِ
وَالرُّبُعِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إذَا حَدَثَ عَلَى فُلَانٍ الْمَوْتُ : يَعْنِي الْوَاقِفَ نَفْسَهُ أُخْرِجَ مِنْ غَلَّةِ هَذَا الْوَقْفِ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ عَشْرَةِ أَسْهُمٍ مَثَلًا سَهْمٌ يُجْعَلُ فِي الْحَجِّ عَنْهُ أَوْ فِي كَفَّارَاتِ أَيْمَانِهِ ، وَفِي كَذَا وَكَذَا وَسَمَّى أَشْيَاءَ ، أَوْ قَالَ أَخْرَجَ مِنْ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لِتُصْرَفَ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ وَيُصْرَفَ الْبَاقِي فِي كَذَا وَكَذَا عَلَى مَا سَبَّلَهُ
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا أَرْضًا أُخْرَى ) تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهُ ( فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَهِلَالٍ وَالْخَصَّافِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أُخْرَى مَكَانًا .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَصِحُّ الْوَقْفُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ، وَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ اسْتِبْدَالِهِ مَرَّةً أَنْ يَسْتَبْدِلَ ثَانِيًا لِانْتِهَاءِ الشَّرْطِ بِمَرَّةٍ ، إلَّا أَنْ يَذْكُرَ عِبَارَةً تُفِيدُ لَهُ ذَلِكَ دَائِمًا ، وَكَذَا لَيْسَ لِلْقَيِّمِ الِاسْتِبْدَالُ إلَّا أَنْ يَنُصَّ لَهُ بِذَلِكَ ، وَعَلَى وِزَانِ هَذَا لَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ الْمَعَالِيمِ إذَا شَاءَ وَيَزِيدَ وَيُخْرِجَ مَنْ شَاءَ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِقَيِّمِهِ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ لَهُ ، وَإِذَا أَدْخَلَ وَأَخْرَجَ مَرَّةً لَيْسَ لَهُ ثَانِيًا إلَّا بِشَرْطِهِ ، وَلَوْ شَرَطَهُ لِلْقَيِّمِ وَلَمْ يَشْرِطْهُ لِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ إفَادَتَهُ الْوِلَايَةَ لِغَيْرِهِ بِذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِهِ يَمْلِكُهَا ، وَلَوْ قَيَّدَ شَرْطَ الِاسْتِبْدَالِ لِلْقَيِّمِ بِحَيَاةِ الْوَاقِفِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : قَوْلُ هِلَالٍ وَأَبِي يُوسُفَ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ لَا يُبْطِلُ الْوَقْفَ ، لِأَنَّ الْوَقْفَ يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ ، فَإِنَّ أَرْضَ الْوَقْفِ إذَا غَصَبَهَا غَاصِبٌ وَأَجْرَى عَلَيْهَا الْمَاءَ حَتَّى صَارَتْ بَحْرًا لَا تَصْلُحُ لِلزِّرَاعَةِ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيَشْتَرِي بِهَا أَرْضًا أُخْرَى فَتَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا ، وَكَذَا أَرْضُ الْوَقْفِ إذَا قَلَّ نُزُلُهَا بِحَيْثُ لَا تَحْتَمِلُ الزِّرَاعَةَ وَلَا تَفْضُلُ غَلَّتُهَا مِنْ مُؤْنَتِهَا وَيَكُونُ صَلَاحُ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِأَرْضٍ أُخْرَى ، وَفِي نَحْوِ هَذَا عَنْ الْأَنْصَارِيِّ صِحَّةُ الشَّرْطِ لَكِنْ لَا يَبِيعُهَا إلَّا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا رُفِعَ إلَيْهِ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَأْذَنَ فِي بَيْعِهَا إذَا رَآهُ أَنْظَرَ لِأَهْلِ
الْوَقْفِ ، وَإِذَا كَانَ حَاصِلُهُ إثْبَاتَ وَقْفٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا فَاسِدًا هُوَ اشْتِرَاطُ عَدَمِ حُكْمِهِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ بَلْ هُوَ تَأْبِيدٌ مَعْنًى .
وَلَا يُقَالُ : حُكْمُ الْوَقْفِ إذَا صَحَّ الْخُرُوجُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ .
لِأَنَّا نَقُولُ : حُكْمُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَنْفُذُ فِيهِ شَرْطُهُ الَّذِي شَرَطَ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ إذَا لَمْ يُخَالِفْ أَمْرًا شَرْعِيًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِبْدَالِ لَا يُخَالِفُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ ، وَكَوْنُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ ذَكَرَ مَسْأَلَةً ثُمَّ قَالَ : وَلِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ مَنْ يُجَوِّزُ اسْتِبْدَالَ الْوَقْفِ ، وَكَذَا مَا نُقِلَ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُفْتِي بِهِ لَا يُوجِبُ اتِّبَاعَهُ مَعَ قِيَامِ وَجْهٍ غَيْرِهِ ، وَلَوْ أُرِيدَ تَجْوِيزُ الِاسْتِبْدَالِ بِغَيْرِ شَرْطِ الِاسْتِبْدَالِ فِيمَا إذَا كَانَ أَحْسَنَ لِلْوَقْفِ كَانَ حَسَنًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ إمَّا عَنْ شَرْطِهِ الِاسْتِبْدَالَ وَهُوَ مَسْأَلَةُ الْكِتَابِ أَوْ لَا عَنْ شَرْطٍ ، فَإِنْ كَانَ لِخُرُوجِ الْوَقْفِ عَنْ انْتِفَاعِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ كَالصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِقَاضِي خَانْ ، وَإِنْ كَانَ لَا لِذَلِكَ بَلْ اتَّفَقَ أَنَّهُ أَمْكَنَ أَنْ يُؤْخَذَ بِثَمَنِ الْوَقْفِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إبْقَاءُ الْوَقْفِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ دُونَ زِيَادَةٍ أُخْرَى ، وَلِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِتَجْوِيزِهِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ فِي الْأَوَّلِ الشَّرْطُ وَفِي الثَّانِي الضَّرُورَةُ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي هَذَا إذْ لَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ فِيهِ بَلْ تَبْقِيَتُهُ كَمَا كَانَ ، وَلَعَلَّ مَحْمَلَ مَا نُقِلَ عَنْ السِّيَرِ الْكَبِيرِ مِنْ قَوْلِهِ اسْتِبْدَالُ الْوَقْفِ بَاطِلٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ هَذَا الِاسْتِبْدَالُ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالشَّرْطِ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ الْمَعْرُوفُ لَا مُجَرَّدُ رِوَايَةٍ ، وَالِاسْتِبْدَالُ الثَّانِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ
كَمَا قُلْنَا .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : أَجْمَعُوا أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ يَصِحُّ الشَّرْطُ وَالْوَقْفُ وَيَمْلِكُ الِاسْتِبْدَالَ .
أَمَّا بِلَا شَرْطٍ أَشَارَ فِي السِّيَرِ إلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الِاسْتِبْدَالِ لِنَفْسِهِ إذَا شَرَطَهُ لَهُ .
وَفِي الْقَاضِي فِيمَا لَا شَرْطَ فِيهِ لَا فِي أَصْلِ الِاسْتِبْدَالِ ، وَإِلَّا فَهُوَ قَدْ نَقَلَ الْخِلَافَ .
وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَحْمَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَنْصَارِيِّ مَا إذَا لَمْ يَشْرِطْهُ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إذَا اشْتَرَى الْبَدَلَ لِلْوَقْفِ صَارَ وَقْفًا ، وَلَا يَتَوَقَّفُ وَقْفِيَّتُهُ عَلَى أَنْ يَقِفَهُ بِلَفْظٍ يَخُصَّهُ ، وَلَيْسَ لِلْقَيِّمِ أَنْ يُوصِيَ بِالِاسْتِبْدَالِ لِمَنْ يُوصَى إلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِهِ بِالْوَقْفِ .
وَمِنْ فُرُوعِ الِاسْتِبْدَالِ لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ أَوْ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا عَبْدًا نَصَّ هِلَالٌ عَلَى فَسَادِ الْوَقْفِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَنْ أُبْطِلَهَا ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ عَلَى أَنْ أَبِيعَهَا وَأَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا أَرْضًا جَازَ اسْتِحْسَانًا ، وَإِذَا قَالَ عَلَى أَنْ أَسْتَبْدِلَ أَرْضًا أُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَلَ دَارًا ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ ؛ وَلَوْ قَالَ بِأَرْضٍ مِنْ الْبَصْرَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مِنْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ قَدْ تَخْتَلِفُ فِي جَوْدَةِ الْأَرْضِ ، وَيَنْبَغِي إنْ كَانَتْ أَحْسَنَ أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافٌ إلَى خَيْرٍ ؛ وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا اسْتَبْدَلَ مَا شَاءَ مِنْ الْعَقَارِ خَاصَّةً ، وَلَوْ بَاعَ الْوَقْفَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ ؛ وَلَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ ، وَكَذَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ ، أَمَّا لَوْ ضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ عَرْضًا مِمَّا لَا يَكُونُ وَقْفًا فَهُوَ لَهُ وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ
الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْهِبَةُ وَيَضْمَنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنَعَهُ أَبُو يُوسُفَ .
أَمَّا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ بَاعَهُ بِعَرَضٍ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِحُّ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَهِلَالٌ : لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ بِأَرْضٍ تَكُونُ وَقْفًا مَكَانَهَا ؛ وَإِذَا بَاعَ الْوَقْفَ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ بِمَا هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا ثَانِيًا ، وَإِنْ عَادَتْ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَقْفًا فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَمَّمَ لِنَفْسِهِ الِاسْتِبْدَالَ ، وَلَوْ رُدَّتْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَعْدَ الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَضَاءٍ عَادَتْ وَقْفًا ؛ وَكَذَا إذَا قَالَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِالْأُخْرَى مَا شَاءَ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّتْ الْأُولَى فِي الْقِيَاسِ تَبْقَى الثَّانِيَةُ وَقْفًا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ كَانَتْ وَقْفًا بَدَلًا عَنْ الْأُولَى وَبِالِاسْتِحْقَاقِ انْتَقَضَتْ تِلْكَ الْمُبَادَلَةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا تَبْقَى الثَّانِيَةُ وَقْفًا ، وَلَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ فَوَكَّلَ بِهِ جَازَ ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي الْوَكَالَةِ وَهُوَ حَيٌّ لَوْ تَمَكَّنَ خَلَلُهُ أَمْكَنَهُ الِاسْتِبْدَالُ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ ، وَلَوْ شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ لِنَفْسِهِ مَعَ آخَرَ عَلَى أَنْ يَسْتَبْدِلَا مَعًا فَتَفَرَّدَ بِذَلِكَ الرَّجُلُ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ تَفَرَّدَ بِهِ الْوَاقِفُ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَرَطَهُ لِذَلِكَ ، وَمَا شَرَطَ لِغَيْرِهِ فَهُوَ مَشْرُوطٌ لَهُ ، كَمَا لَوْ نَصَّبَ قَاضِيَا بَلَدَيْنِ كُلٌّ قَيِّمًا كَانَ لِكُلٍّ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَحْدَهُ ، وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الْقَاضِيَيْنِ أَرَادَ أَنْ يَعْزِلَ الَّذِي أَقَامَهُ الْقَاضِي الْآخَرُ قَالَ : إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ كَانَ لَهُ عَزْلُهُ وَإِلَّا فَلَا
وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي الْوَقْفِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْوَقْفُ بَاطِلٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
( قَوْلُهُ وَلَوْ شَرَطَ ) أَيْ الْوَاقِفُ ( الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ) بِأَنْ قَالَ وَقَفْت دَارِي هَذِهِ عَلَى كَذَا عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ( جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْوَقْفُ بَاطِلٌ ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَهِلَالٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا ) يُرِيدُ الْأَصْلَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ : أَعْنِي شَرْطَ التَّسْلِيمِ ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا لَمَّا شَرَطَ تَمَامَ الْقَبْضِ لِيَنْقَطِعَ حَقُّ الْوَاقِفِ فَلَا شَكَّ أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَفُوتُ مَعَهُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مَعَهُ تَمَامُ الْقَبْضِ ، وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ فَلَمَّا لَمْ يَشْرِطْ تَمَامَ قَبْضِ مُتَوَلٍّ انْبَنَى عَلَيْهِ جَوَازُ شَرْطِ الْخِيَارِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَقْفَ جَائِزٌ وَالشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ السَّمْتِيِّ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ كَالْإِعْتَاقِ فِي أَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى مَالِكٍ ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ عَتَقَ وَبَطَلَ الشَّرْطُ ، فَكَذَا يَجِبُ هَذَا وَلِذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي الْمَسْجِدِ يَبْطُلُ وَيَتِمُّ وَقْفُ الْمَسْجِدِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَالَ الْهِنْدُوَانِيُّ : عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الْوَقْفُ وَيَبْطُلَ الشَّرْطُ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الزَّوَالِ ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ يَقُولُ بِتَمَامِ الرِّضَا وَالْقَبْضِ يَتِمُّ الْوَقْفُ ، وَمَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَتِمُّ الرِّضَا وَلَا الْقَبْضُ فَكَانَ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَقْفِ ، فَلَا يَتِمُّ مَعَهُ ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ شَرْطًا فِيهِ عِنْدَهُ بَلْ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِجَمَاعَةٍ ، وَكَذَا فِي الْإِعْتَاقِ فَإِنَّ الْقَبْضَ فِيهِ لَيْسَ شَرْطًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ تَمَّ لَهُ شَرْطُ التَّسْلِيمِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ تَمَّ لَهُ هَذَا وَقَدَّمْنَا مَا فِيهِ ، وَتَقْيِيدُ الْخِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ قَيْدًا بَلْ أَنْ يَكُونَ
مَعْلُومًا ؛ حَتَّى لَوْ كَانَتْ مَجْهُولَةً بِأَنْ وَقَفَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ لَا يَجُوزُ الِاتِّفَاقُ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ : إنْ بَيَّنَ لِلْخِيَارِ وَقْتًا جَازَ الْوَقْفُ وَالشَّرْطُ وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ لَهُ فَالْوَقْفُ وَالشَّرْطُ بَاطِلَانِ ، ثُمَّ إذَا لَمْ يَصِحَّ الْوَقْفُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، فَلَوْ أَبْطَلَ الْخِيَارَ قَبْلَ الثَّلَاثِ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَبَّدًا وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ التَّأْبِيدَ ، وَكَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْخِيَارَ فِيهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ بَلْ يُفْسِدُهُ إذَا شَرَطَهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِامْتِنَاعِ لُزُومِ الْعَقْدِ بَعْدَ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ الْفَسَادُ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ ، فَإِذَا أَسْقَطَهُ قَبْلَ الثَّلَاثِ جَازَ ، ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَلَا يَبْطُلُ الْوَقْفُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَقَفَ أَرْضًا عَلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ دَرَاهِمَ جَازَ الْوَقْفُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَيْضًا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ وَقَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَوْقُوفٌ فَكَذَا الْوَقْفُ ، وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَوَقَفَهَا ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَلَا يَكُونُ لِلْوَقْفِ بَلْ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ .
[ فُرُوعٌ ] اشْتَرَى أَرْضًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَوَقَفَهَا ثُمَّ أَسْقَطَ الْخِيَارَ صَحَّ ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَوَقَفَهَا الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ أَسْقَطَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ لَا تَكُونُ وَقْفًا ، وَلَوْ وَقَفَهَا الْبَائِعُ صَحَّ ، وَلَوْ وَقَفَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَرْضَ قَبْلَ قَبْضِهَا ، ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَصِحُّ الْوَقْفُ ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا الْمُوصَى لَهُ بِهَا قَبْلَ مَوْتِ الْمُوصِي ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ، وَكَذَا لَوْ وَقَفَهَا فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَبْلَ قَبْضِهَا
وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ وَقَالَ أَقْوَامٌ : إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ وِلَايَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ .
قَالَ مَشَايِخُنَا : الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ ، فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّي إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ الْوِلَايَةُ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْهُ ، وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى هَذَا الْوَقْفِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ ، كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا يَكُونُ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ فِيهِ ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ .
وَلَوْ أَنَّ الْوَاقِفَ شَرَطَ وِلَايَتَهُ لِنَفْسِهِ وَكَانَ الْوَاقِفُ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَنْزِعَهَا مِنْ يَدِهِ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ ، وَكَذَا إذَا شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ يَدِهِ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَبَطَلَ
( قَوْلُهُ وَأَمَّا فَصْلُ الْوِلَايَةِ فَقَدْ نَصَّ فِيهِ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ ( عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ) حَيْثُ قَالَ : أَوْ جَعَلَ الْوِلَايَةَ بِهِ إلَيْهِ جَازَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ( وَهُوَ قَوْلُ هِلَالٍ أَيْضًا ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَذَكَرَ هِلَالٌ فِي وَقْفِهِ ) فَقَالَ ( وَقَالَ أَقْوَامٌ : إنْ شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ كَانَتْ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْ لَمْ تَكُنْ لَهُ وِلَايَةٌ .
قَالَ مَشَايِخُنَا : الْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَقْفِ فَإِذَا سَلَّمَ لَمْ يَبْقَ لَهُ وِلَايَةٌ فِيهِ ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ تَصْرِيحُ مُحَمَّدٍ بِهِ ، وَلِذَا أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَأَوْرَدَ عَلَى هَذَا أَنَّ مُقْتَضَى اشْتِرَاطِ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمَ إلَى الْقَيِّمِ أَنْ لَا يَثْبُتَ لِلْوَاقِفِ وِلَايَةٌ وَإِنْ شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنَافِي هَذَا الشَّرْطَ .
أُجِيبُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ سَلَّمَهَا إلَى الْمُتَوَلِّي فَإِنَّ الْوِلَايَةَ تَكُونُ لَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ أَنَّهُ إذَا وَقَفَ ضَيْعَةً وَأَخْرَجَهَا إلَى الْقَيِّمِ لَا تَكُونُ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْرِطْ فِي ابْتِدَاءِ الْوَقْفِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي شَرْطُ الْوَقْفِ فَلَا تَبْقَى لَهُ وِلَايَةٌ بَعْدَ هَذَا التَّسْلِيمِ ، إلَّا إنْ شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ التَّسْلِيمُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَكَانَ الْوِلَايَةُ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَشْرِطْهَا ، وَمِثْلُ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مَذْكُورٌ فِي التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ ، وَالْآخَرُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ شَرَطَ
الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ فَهِيَ لَهُ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ يَسْقُطُ شَرْطُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ شُرُوطَ الْوَاقِفِ تُرَاعَى ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُ التَّسْلِيمِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : كَذَا وَجَدْت فِي مَوْضِعٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ ، وَقَدَّمْنَا فَرْعًا آخَرَ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الَّذِي جَعَلَهُ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ ( وَلَنَا أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ إنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْوِلَايَةَ مِنْ جِهَتِهِ بِشَرْطِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وِلَايَةٌ وَغَيْرُهُ يَسْتَفِيدُهَا مِنْهُ ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَمْنَعَ اسْتِفَادَةَ الْوِلَايَةِ مِنْهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ التَّسْلِيمِ شَرْطًا ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْلِيمِ يَخْرُجُ عَنْ مِلْكِهِ فَيَصِيرُ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ ، فَيَجِبُ كَوْنُ الْوِلَايَةِ فِيهِ لِلْحَاكِمِ يُوَلِّي فِيهِ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْوِلَايَةَ فِي الْوَقْفِ ، وَلَيْسَ فِيهِ فِسْقٌ يُعْرَفُ بِنَاءً عَلَى خُلُوصِ الْحَقِّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّ الْحَاكِمَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ تَخْرِيجٌ لِلشَّافِعِيَّةِ فَلَا بُدَّ لِكَوْنِ الْوِلَايَةِ لَهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ دَلِيلٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَهَا لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ يَتِمُّ قَوْلُهُ ( وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْوَقْفِ فَكَانَ أَوْلَى بِوِلَايَتِهِ ) دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَيْهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْوَاقِفَ عَدْلٌ مَأْمُونٌ فَهُوَ أَحَقُّ مِنْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ زَالَ الْمِلْكُ فَهُوَ عَلَى وَجْهٍ تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ لِلْوَاقِفِ يَصْرِفُهُ إلَى الْجِهَاتِ الَّتِي عَيَّنَهَا ، وَهُوَ أَنْصَحُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَيَنْتَصِبُ وَلِيًّا .
وَقَوْلُهُ ( كَمَنْ اتَّخَذَ مَسْجِدًا كَانَ أَوْلَى بِعِمَارَتِهِ وَنَصْبِ الْمُؤَذِّنِ ، وَكَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا كَانَ الْوَلَاءُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِ ) أَمَّا عِمَارَتُهُ فَلَا خِلَافَ
يُعْلَمُ فِيهِ ، وَأَمَّا نَصْبُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ فَقَالَ أَبُو نَصْرٍ فَلِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَيْسَ الْبَانِي أَحَقَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافِ : الْبَانِي أَحَقُّ بِنَصْبِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ كَالْعِمَارَةِ .
قَالَ أَبُو اللَّيْثِ : وَبِهِ نَأْخُذُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ إمَامًا وَمُؤَذِّنًا وَالْقَوْمُ يُرِيدُونَ الْأَصْلَحَ فَلَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ، كَذَا فِي النَّوَازِلِ ( ثُمَّ إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ الْوِلَايَةَ لِنَفْسِهِ ، وَكَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَى الْوَقْفِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُخْرِجَهُ نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ ، كَمَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَ الْوَصِيَّ نَظَرًا لِلصِّغَارِ ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لَيْسَ لِسُلْطَانٍ وَلَا لِقَاضٍ أَنْ يُخْرِجَهُ عَنْهُ وَيُوَلِّيَهَا غَيْرَهُ ) لَا يُلْتَفَتُ إلَى شَرْطِهِ إذَا كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَبْطُلُ ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ مِمَّا يَخْرُجُ بِهِ النَّاظِرُ مَا إذَا ظَهَرَ بِهِ فِسْقٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : لَوْ جَعَلَ الْوَاقِفُ وِلَايَةَ الْوَقْفِ إلَى رَجُلَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَوْصَى أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ وَمَاتَ جَازَ تَصَرُّفُ الْحَيِّ فِي جَمِيعِ الْوَقْفِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا .
وَفِيهَا لَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ وَقْفًا فَمَرَضَ مَرَضَ الْمَوْتِ فَجَعَلَ رَجُلًا وَصِيَّ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ شَيْئًا فَإِنَّ وِلَايَةَ الْوَقْفِ لَا تَكُونُ إلَى الْوَصِيِّ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتَ وَصِيِّ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ خَاصَّةً قَالَ أَبُو يُوسُفَ : هُوَ كَمَا قَالَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ وَصِيٌّ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا .
( فَصْلٌ ) ( وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرِزَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِطَرِيقِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مِلْكِهِ ) أَمَّا الْإِفْرَازُ فَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا بِهِ ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِيهِ فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَيُشْتَرَطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ ، وَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْقَبْضُ فَقَامَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مَقَامَهُ ثُمَّ يُكْتَفَى بِصَلَاةِ الْوَاحِدِ فِيهِ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْجِنْسِ مُتَعَذِّرٌ فَيُشْتَرَطُ أَدْنَاهُ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ بُنِيَ لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَزُولُ مِلْكُهُ بِقَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِمِلْكِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِسُقُوطِ حَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَ كَالْإِعْتَاقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .
( فَصْلٌ ) لَمَّا اخْتَصَّ الْمَسْجِدُ بِأَحْكَامٍ تُخَالِفُ أَحْكَامَ مُطْلَقِ الْوَقْفِ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَسْجِدِ حُكْمُ الْحَاكِمِ وَلَا الْإِيصَاءُ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ مَشَاعًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَفْرَدَهُ بِفَصْلٍ عَلَى حِدَتِهِ وَأَخَّرَهُ .
هَذَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهَا ، ثُمَّ وَقَفَهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ جَازَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْفُقَرَاءِ ، وَلَوْ اتَّخَذَهَا مَسْجِدًا قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا شِرَاءً فَاسِدًا وَبَنَاهَا بِنَاءَ الْمَسْجِدِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْبَائِعِ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَتُرَدُّ الْأَرْضُ إلَى الْبَائِعِ بِفَسَادِ الْبَيْعِ .
قَالَ : فَاشْتِرَاطُ الْبِنَاءِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَسْجِدًا قَبْلَ الْبِنَاءِ عِنْدَ الْكُلِّ .
وَذَكَرَ هِلَالٌ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا فَصَارَ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : فِي الْوَقْفِ أَيْضًا رِوَايَتَانِ .
وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ أَنَّ فِي الْوَقْفِ حَقَّ الْعِبَادِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ خَبِيثٌ لَا يُصْلَحُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ اشْتَرَى دَارًا لَهَا شَفِيعٌ فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَانَ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْمَسْجِدَ ( قَوْلُهُ وَإِذَا بَنَى مَسْجِدًا لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ حَتَّى يُفْرِزَهُ بِطَرِيقِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَيَأْذَنَ لِلنَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ زَالَ مِلْكُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَمُحَمَّدٍ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُمَا ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُمَا : لَا يَزُولُ إلَّا
بِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا .
أَمَّا قَوْلُهُمَا فَلِأَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَزُلْ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ فَمَشَى مُحَمَّدٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي اشْتِرَاطِ التَّسْلِيمِ ، لَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْمُتَوَلِّي ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَهُ لِتَحَقُّقِ التَّسْلِيمِ إلَى مَنْ أَخْرَجَ إلَيْهِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي ضِمْنِ التَّسْلِيمِ إلَى الْعَبْدِ عَلَى مَا مَرَّ لَا كُلَّ عَبْدٍ ، بَلْ الَّذِي تَعُودُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ يُقَامُ مَقَامَهُمْ فِي الْقَبْضِ ، وَمَقَامَ الْوَاقِفِ فِي إقْبَالِ الْغَلَّةِ لَهُمْ لِكُلِّ وَقْفٍ فِي الْعَادَة ، فَتَبَيَّنَ وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي الْمَسْجِدِ بِذَلِكَ إذْ لَيْسَ لَهُ غَلَّةٌ يَسْتَحِقُّهَا النَّاسُ فَأُقِيمَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ مَقَامَ التَّسْلِيمِ وَهُوَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ عَنْ الْمِلْكِ بِصَلَاةِ الْمُنْفَرِدِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْجِنْسِ مُتَعَذَّرٌ فَاكْتَفَى بِالْوَاحِدِ .
وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اخْتَلَفُوا لَوْ صَلَّى الْوَاقِفُ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ لِأَجْلِ الْقَبْضِ لِلْعَامَّةِ وَقَبْضُهُ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَكْفِي ، فَكَذَا صَلَاتُهُ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهَا الْمَقْصُودُ بِالْمَسْجِدِ لَا مُطْلَقَ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَكَانَ تَحَقُّقُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ عِنْدَهُمَا .
وَلَوْ جَعَلَ لَهُ وَاحِدًا مُؤَذِّنًا وَإِمَامًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى وَحْدَهُ صَارَ مَسْجِدًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَالْجَمَاعَةِ ، وَلِهَذَا قَالُوا يُكْرَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْمُؤَذِّن هَذِهِ أَنْ تُعَادَ الْجَمَاعَةُ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ الْبَعْضِ .
وَقَوْلُنَا لَا يَتَعَيَّنُ الْمُتَوَلِّي يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ جَعَلَهُ لَهُ صَحَّ ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ
فِيهِ أَحَدٌ .
وَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ .
وَالْوَجْهُ الصِّحَّةُ ؛ لِأَنَّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي أَيْضًا يَحْصُلُ تَمَامُ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ تَعَالَى لِرَفْعِ يَدِهِ عَنْهُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ بِلَا حُكْمٍ مِمَّا سَيَأْتِي بِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ فِي قَوْلِ الْوَاقِفِ جَعَلْت أَرْضِي صَدَقَةً مَوْقُوفَةً وَنَحْوَهَا لَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ عَنْ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْوَقْفِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ ، وَالصَّدَقَةُ لَيْسَ مَعْنَاهَا إلَّا التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ وَهِيَ مَعْدُومَةٌ فَلَا يَصِحُّ ، بَلْ الْوَقْفُ يُنْبِئُ عَنْ الْإِبْقَاءِ فِي الْمِلْكِ لِتَحْصُلَ الْغَلَّةُ عَلَى مِلْكِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهَا فَيَحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ لِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ فِي مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ جَعَلْته مَسْجِدًا فَإِنَّهُ لَيْسَ مُنْبِئًا عَنْ إبْقَاءِ الْمِلْكِ لِيَحْتَاجَ إلَى الْقَضَاءِ بِزَوَالِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ فِيهِ فَصَلَّى كَمَا ذَكَرْنَا ، قَضَى الْعُرْفُ فِي ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ عَنْهُ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي جَعْلِهِ مَسْجِدًا إلَى قَوْلِهِ وَقَفْته وَنَحْوَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا بُدَّ مِنْ قَوْلِهِ وَقَفْته أَوْ حَبَسْته وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى قُرْبَةٍ فَكَانَ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ وَالتَّخْلِيَةِ يُفِيدُ الْوَقْفَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ فَكَانَ كَالتَّعْبِيرِ بِهِ ، فَكَانَ كَمَنْ قَدَّمَ طَعَامًا إلَى ضَيْفِهِ أَوْ نَثَرَ نِثَارًا كَانَ إذْنًا فِي أَكْلِهِ وَالْتِقَاطِهِ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لَمْ تَجْرِ عَادَةٌ فِيهِ بِمُجَرَّدِ التَّخْلِيَةِ وَالْإِذْنِ بِالِاسْتِغْلَالِ ، وَلَوْ جَرَتْ بِهِ عَادَةٌ فِي الْعُرْفِ اكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ كَمَسْأَلَتِنَا .
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَقَفْتُهُ مَسْجِدًا ، وَلَمْ يَأْذَنْ فِي
الصَّلَاةِ فِيهِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا بِلَا حُكْمٍ وَهُوَ بَعِيدٌ .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ زَوَالِ الْمِلْكِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَذِنَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ ، وَيَصِيرُ مَسْجِدًا بِلَا حُكْمٍ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ كَالْإِعْتَاقِ ، وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ كُلًّا مِنْ مُجَرَّدِ الْقَوْلِ وَالْإِذْنِ كَمَا قَالَا مُوجِبٌ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَصَيْرُورَتِهِ مَسْجِدًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْعُرْفِ
قَالَ : وَمَنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ وَجَعَلَ بَابَ الْمَسْجِدِ إلَى الطَّرِيقِ ، وَعَزَلَهُ عَنْ مِلْكِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَإِنْ مَاتَ يُورَثُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ ، وَلَوْ كَانَ السِّرْدَابُ لِمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ جَازَ كَمَا فِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا وَعَلَى ظَهْرِهِ مَسْكَنٌ فَهُوَ مَسْجِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِمَّا يَتَأَبَّدُ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلُوِّ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَلَى عَكْسِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ ، وَإِذَا كَانَ فَوْقَهُ مَسْكَنٌ أَوْ مُسْتَغَلٌّ يَتَعَذَّرُ تَعْظِيمُهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَمِنْ جَعَلَ مَسْجِدًا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ ) وَهُوَ بَيْتٌ يُتَّخَذُ تَحْتَ الْأَرْضِ لِتَبْرِيدِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ ( أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ ) لَيْسَ لِلْمَسْجِدِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَلَيْسَ بِمَسْجِدٍ ( وَلَهُ بَيْعُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ إذَا مَاتَ ) ، وَلَوْ عَزَلَ بَابَهُ إلَى الطَّرِيقِ ( لِبَقَاءِ حَقِّ الْعَبْدِ مُتَعَلِّقًا بِهِ ) وَالْمَسْجِدُ خَالِصٌ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ فَكَانَ فَائِدَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ اخْتِصَاصَهُ بِهِ ، وَهُوَ بِانْقِطَاعِ حَقِّ كُلِّ مَنْ سِوَاهُ عَنْهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِيمَا ذَكَرَ .
أَمَّا إذَا كَانَ السُّفْلُ مَسْجِدًا فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ حَقًّا فِي السُّفْلِ حَتَّى يَمْنَعَ صَاحِبَهُ أَنْ يَنْقُبَ فِيهِ كُوَّةً أَوْ يَتِدَ فِيهِ وَتَدًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبِاتِّفَاقِهِمْ لَا يُحْدِثُ فِيهِ بِنَاءً وَلَا مَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْعُلُوُّ مَسْجِدًا فَلِأَنَّ أَرْضَ الْعُلُوِّ مِلْكٌ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ السِّرْدَابُ أَوْ الْعُلْوُ مَوْقُوفًا لِصَاحِبِ الْمَسْجِدِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ إذْ لَا مِلْكَ فِيهِ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ مِنْ تَتْمِيمِ مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ فَهُوَ كَسِرْدَابِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا دُونَ الْعُلُوِّ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَبَّدُ ، بِخِلَافِ الْعُلُوِّ ، وَهَذَا تَعْلِيلٌ لِلْحُكْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ، فَإِنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطٌ وَهُوَ مَعَ الْمُقْتَضَى ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ مَعَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْمَانِعِ وَهُوَ تَعَلُّقُ حَقٍّ وَاحِدٍ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ عَكْسُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَظَّمٌ وَهُوَ تَعْلِيلٌ بِحُكْمِ الشَّيْءِ وَهُوَ مُتَوَقِّفٌ عَلَى وُجُودِهِ ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي الْأَوَّلَيْنِ لَمَّا دَخَلَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْأَمَاكِنِ وَ ) كَذَا ( عَنْ مُحَمَّدٍ لَمَّا دَخَلَ الرَّيَّ ) وَهَذَا تَعْلِيلٌ صَحِيحٌ ؛
لِأَنَّهُ تَعْلِيلٌ بِالضَّرُورَةِ
قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا ، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا ، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ .
( وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ ) إذْنًا عَامًّا ( لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ لِأَحَدٍ حَقُّ الْمَنْعِ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ ) الْأَرْبَعِ ( كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا ، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى ) وَعَنْ كُلٍّ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا وَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ دَاخِلًا بِلَا ذِكْرٍ كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ بِلَا ذِكْرٍ
قَالَ ( وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَا يُورَثَ عَنْهُ ) يَعْنِي بَعْدَ صِحَّتِهِ بِشَرْطِهِ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : رَجُلٌ لَهُ سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فِيهَا أَمَرَ قَوْمًا أَنْ يُصَلُّوا فِيهَا بِجَمَاعَةٍ ، قَالُوا : إنْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ فِيهَا أَبَدًا أَوْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ بِجَمَاعَةٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَبَدَ إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ الْأَبَدَ ، ثُمَّ مَاتَ لَا يَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ ، وَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً ثُمَّ مَاتَ يُورَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّأْبِيدِ وَالتَّوْقِيتُ يُنَافِيه ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يَصِيرَ لَيْسَ مَسْجِدًا فِيمَا إذَا أَطْلَقَ إلَّا إذَا اعْتَرَفَتْ الْوَرَثَةُ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْأَبَدَ ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ لَا تُعْلَمُ فَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ بِمَنْعِ إرْثِهِمْ بِمَا لَمْ يَثْبُتْ .
وَلَوْ ضَاقَ الْمَسْجِدُ وَبِجَنْبِهِ أَرْضٌ وَقْفٌ عَلَيْهِ أَوْ حَانُوتٌ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ وَيُدْخَلَ فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ مِلْكَ رَجُلٍ أُخِذَ بِالْقِيمَةِ كُرْهًا ، فَلَوْ كَانَ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ أُدْخِلَ بَعْضُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِالطَّرِيقِ .
وَفِي كِتَابِ الْكَرَاهِيَةِ مِنْ الْخُلَاصَةِ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الطَّرِيقِ مَسْجِدًا ، أَوْ يُجْعَلَ شَيْءٌ مِنْ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ ا هـ .
يَعْنِي إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ ، وَلِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَجْعَلُوا الرَّحْبَةَ مَسْجِدًا ، وَكَذَا عَلَى الْقَلْبِ وَيُحَوِّلُوا الْبَابَ أَوْ يُحْدِثُوا لَهُ بَابًا آخَرَ ، وَلَوْ اخْتَلَفُوا يُنْظَرُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وِلَايَةً لَهُ ذَلِكَ ، وَثُمَّ أَنْ يَهْدِمُوهُ وَيُجَدِّدُوهُ ، وَلَيْسَ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ذَلِكَ ، وَكَذَا لَهُمْ أَنْ يَضَعُوا الْحَبَابَ وَيُعَلِّقُوا الْقَنَادِيلَ وَيَفْرِشُوا الْحُصْرَ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ ، وَأَمَّا مِنْ مَالِ الْوَقْفِ فَلَا يَفْعَلُ غَيْرُ الْمُتَوَلِّي إلَّا بِإِذْنِ الْقَاضِي ، الْكُلُّ مِنْ الْخُلَاصَةِ ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَعَلَى الْقَلْبِ يَقْتَضِي جَعْلَ
الْمَسْجِدِ رَحْبَةً ، وَفِيهِ نَظَرٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي عَلَامَةِ النُّونِ مِنْ كِتَابِ التَّجْنِيسِ : قَيِّمُ الْمَسْجِدِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ حَوَانِيتَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي فِنَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْمَسْجِدَ سَكَنًا تَسْقُطُ حُرْمَةُ الْمَسْجِدِ ، وَأَمَّا الْفِنَاءُ فَلِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْمَسْجِدِ
وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ يَبْقَى مَسْجِدًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مِنْهُ فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْبَانِي ، أَوْ إلَى وَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ لِنَوْعِ قُرْبَةٍ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ إنَّهُ يُنْقَلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتُغْنِيَ عَنْهُ ) أَيْ اسْتَغْنَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ أَوْ الْقَرْيَةِ بِأَنْ كَانَ فِي قَرْيَةٍ فَخَرِبَتْ وَحُوِّلَتْ مَزَارِعَ يَبْقَى مَسْجِدًا عَلَى حَالِهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ يُبَاعُ نَقْضُهُ وَيُصْرَفُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ ، وَكَذَا فِي الدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا خَرِبَتْ يُبَاعُ نَقْضُهَا وَيُصْرَفُ ثَمَنُهَا إلَى وَقْفٍ آخَرَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى لَمَّا نُقِبَ بَيْتُ الْمَالِ الَّذِي بِالْكُوفَةِ اُنْقُلْ الْمَسْجِدَ الَّذِي بِالتَّمَارِينِ وَاجْعَلْ بَيْتَ الْمَالِ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ ( وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ ) إنْ كَانَ حَيًّا ( وَإِلَى وَرَثَتِهِ ) إنْ كَانَ مَيِّتًا ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بَانِيه وَلَا وَرَثَتُهُ كَانَ لَهُمْ بَيْعُهُ وَالِاسْتِعَانَةُ بِثَمَنِهِ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ آخَرَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ ( عَيَّنَّهُ لِقُرْبَةٍ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ فَيَنْقَطِعُ هُوَ أَيْضًا وَصَارَ كَحَصِيرِ الْمَسْجِدِ وَحَشِيشِهِ إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْهُ ) وَقِنْدِيلُهُ إذَا خَرِبَ الْمَسْجِدُ يَعُودُ إلَى مِلْكِ مُتَّخِذِهِ ، وَكَمَا لَوْ كَفَّنَّ مَيِّتًا فَافْتَرَسَهُ سَبُعٌ عَادَ الْكَفَنُ إلَى مِلْكِ مَالِكِهِ ، وَكَهَدْيِ الْإِحْصَارِ إذَا زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ .
وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ بِالْكَعْبَةِ .
فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِ مَوْضِعِهَا عَنْ الْمَسْجِدِيَّةِ وَالْقُرْبَةِ ، إلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْقُرْبَةُ الَّتِي عُيِّنَتْ لَهُ هُوَ الطَّوَافُ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ .
وَلَمْ يَنْقَطِعْ الْخَلْقُ عَنْ ذَلِكَ زَمَانَ الْفَتْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ لِكُفْرِهِمْ ، عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَنْقَطِعْ مِنْ الدُّنْيَا رَأْسًا ، فَقَدْ كَانَ لِمِثْلِ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ أَمْثَالٌ .
فَالْأَوْجَهُ أَنَّهُ بَعْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ سُقُوطِ الْمِلْكِ فِيهِ لَا يَعُودُ كَالْمُعْتَقِ كَمَا لَا يَعُودُ
إذَا زَالَ إلَى مَالِكٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا إلَّا بِسَبَبٍ ، وَوَجَبَ تَجَدُّدُ الْمِلْكِ ، فَمَا لَمْ يَتَحَقَّقْ لَمْ يَعُدْ .
وَأَمَّا مَا قَاسَ عَلَيْهِ مِنْ هَدْيِ الْإِحْصَارِ فَلَيْسَ بِلَازِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ ، وَكَذَا الْكَفَنُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ مَالِكِهِ ، إنَّمَا أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَقَدْ اسْتَغْنَى الْمُسْتَعِيرُ فَيَعُودُ إلَى الْمُعِيرِ ، وَأَمَّا الْحَصِيرُ وَالْقِنْدِيلُ فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ مُتَّخِذِهِ بَلْ يُحَوَّلُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ أَوْ يَبِيعُهُ قَيِّمُ الْمَسْجِدِ لِلْمَسْجِدِ ، وَلِأَنَّهُ مَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا لِيُصَلِّيَ فِيهِ أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ لَا غَيْرُ بَلْ يُصَلِّيَ فِيهِ الْعَامَّةُ مُطْلَقًا أَهْلُ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ وَغَيْرُهُمْ .
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَحْمَدَ بِمَا كَتَبَهُ عُمَرُ لَا يُفِيدُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِاِتِّخَاذِ بَيْتِ الْمَالِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَاسْتِدْلَالُهُ بِالِانْتِفَاعِ بِالِاسْتِبْدَالِ مَرْدُودٌ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْفَرَسِ إذَا جَعَلَهُ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُسْتَطَاعُ أَنْ يُرْكَبَ يُبَاعُ وَيُصْرَفُ ثَمَنُهُ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ وَرَثَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبُهُ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ فَرَسٌ آخَرُ يُغْزَى عَلَيْهِ وَلَا حَاجَةَ إلَى الْحَاكِمِ ، وَلَوْ جَعَلَ جِنَازَةً وَمُلَاءَةً وَمُغْتَسَلًا وَقْفًا فِي مَحَلَّةٍ ، وَمَاتَ أَهْلُهَا كُلُّهُمْ لَا يُرَدُّ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يُحْمَلُ إلَى مَكَان آخَرَ ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا مِنْ مُحَمَّدٍ فَهُوَ رِوَايَةٌ فِي الْحُصْرِ وَالْبَوَارِي أَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ .
وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْحَلْوَانِيِّ فِي الْمَسْجِدِ وَالْحَوْضِ إذَا خَرِبَ وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَفَرُّقِ النَّاسِ عَنْهُ أَنَّهُ يُصْرَفُ أَوْقَافُهُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ أَوْ حَوْضٍ آخَرَ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا اُسْتُغْنِيَ عَنْ
الْمَسْجِدِ لِخَرَابِ الْمَحَلَّةِ وَالْقَرْيَةِ وَتَفَرُّقِ أَهْلِهَا مَا إذَا انْهَدَمَ الْوَقْفُ ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْغَلَّةِ مَا يُمْكِنُ بِهِ عِمَارَتُهُ أَنَّهُ يُبْطِلُ الْوَقْفُ وَيَرْجِعُ النَّقْضُ إلَى بَانِيهِ أَوْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَكَذَا حَانُوتٌ فِي سُوقٍ احْتَرَقَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ أَلْبَتَّةَ يَخْرُجُ عَنْ الْوَقْفِيَّةِ ، وَكَذَا فِي حَوْضِ مَحَلَّةٍ خَرِبَ ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يُعَمَّرُ بِهِ فَهُوَ لِوَارِثِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ فَهُوَ لُقَطَةٌ ، وَكَذَا الرِّبَاطُ إذَا خَرِبَ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَصِيرُ مِيرَاثًا ، وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ عَلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَالْبِنَاءُ لِلْبَانِي ، وَأَصْلُ الْوَقْفِ لِوَرَثَةِ الْوَاقِفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ نَظَرٌ فَلْيَتَأَمَّلْ عِنْدَ الْفَتْوَى غَيْرَ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ .
وَفِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ : سُئِلَ الْحَلْوَانِيُّ عَنْ أَوْقَافِ الْمَسْجِدِ إذَا تَعَطَّلَتْ وَتَعَذَّرَ اسْتِغْلَالُهَا هَلْ لِلْمُتَوَلِّي بَيْعُهَا ، وَيَشْتَرِي بِثَمَنِهَا أُخْرَى ؟ قَالَ نَعَمْ .
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : إذَا صَارَ الْوَقْفُ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَسَاكِينُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ غَيْرَهُ ، وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفْتِيَ عَلَى قَوْلِهِ بِرُجُوعِهِ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَوَرَثَتِهِ بِمُجَرَّدِ تَعَطُّلِهِ وَخَرَابِهِ ، بَلْ إذَا صَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ وَقْفٌ آخَرُ يُسْتَغَلُّ ، وَلَوْ كَانَتْ غَلَّتُهُ دُونَ غَلَّةِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَا لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَبِيعَ مِنْ تُرَابِ مُسْبِلَةٍ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : وَقَفَ عَلَى مِسَمَّيْنِ خَرِبَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَا يُسْتَأْجَرُ أَصْلُهُ يَبْطُلُ الْوَقْفُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ يُسْتَأْجَرُ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ يَبْقَى أَصْلُهُ وَقْفًا انْتَهَى .
وَيَجِبُ حِفْظُ هَذَا فَإِنَّهُ قَدْ تَخْرَبُ الدَّارُ وَتَصِيرُ كَوْمًا وَهِيَ بِحَيْثُ لَوْ نُقِلَ
نَقْضُهَا اسْتَأْجَرَ أَرْضَهَا مَنْ يَبْنِي أَوْ يَغْرِسُ وَلَوْ بِقَلِيلٍ فَيُغْفَلُ عَنْ ذَلِكَ وَتُبَاعُ كُلُّهَا لِلْوَاقِفِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَيْهِ إلَّا النَّقْضُ .
فَإِنْ قُلْت : عَلَى هَذَا تَكُونُ مَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ الَّتِي ذَكَرْنَا مُقَيَّدَةً بِمَا إذَا لَمْ تَكُنْ أَرْضُهُ بِحَيْثُ تُسْتَأْجَرُ .
قُلْنَا : إلَّا لِأَنَّ الرِّبَاطَ مَوْقُوفٌ لِلسُّكْنَى وَامْتَنَعَتْ بِانْهِدَامِهِ ، بِخِلَافِ هَذِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ وَقْفٌ يَكُونُ لِاسْتِغْلَالِ الْجَمَاعَةِ الْمُسَمَّيْنَ ، وَلَوْ انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَاءِ الدَّارِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَا يُعَادُ بِهِ يُبَاعُ وَيُحْفَظُ ثَمَنُهُ فِي يَدِ الْقَائِمِ بِأَمْرِ الْوَاقِفِ إلَى أَنْ يَحْتَاجَ الْبَاقِي إلَى الْعِمَارَةِ فَيُصْرَفُ فِيهِ ، وَكَذَا إذَا يَبَسَ بَعْضُ أَشْجَارِ الْأَرْضِ الْمَوْقُوفَةِ يَبِيعُهَا وَلَا يَبِيعُ مِنْ نَفْسِ الْأَرْضِ لِذَلِكَ وَلَا يُعْطَى الْمُسْتَحَقُّونَ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِ النَّقْضِ وَلَا مِنْ عَيْنِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُمْ فِيمَا سِوَى الْغَلَّةِ ، بَلْ الْحَالُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ شِرَاءُ شَيْءٍ يُسْتَغَلُّ وَلَوْ قَلِيلًا أَوْ إجَارَةٌ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ وَلَوْ قَلِيلًا فَعَلَ وَحَفِظَهُ لِعِمَارَةِ مَا بَقِيَ .
وَلَوْ خَرِبَ الْكُلُّ وَتَعَذَّرَ أَنْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مُسْتَغَلٌّ وَلَوْ قَلِيلًا حِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ
قَالَ ( وَمَنْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ عَنْ حَقِّ الْعَبْدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ فَيَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ ، وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِالْقَوْلِ ) كَمَا هُوَ أَصْلُهُ ، إذْ التَّسْلِيمُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْوَقْفُ لَازِمٌ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا اسْتَقَى النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَسَكَنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَدُفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ زَالَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ تَسْلِيمُ نَوْعِهِ ، وَذَلِكَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ كُلِّهِ ، وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ الْمَوْقُوفَةُ وَالْحَوْضُ ، وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَفِعْلُ النَّائِبِ كَفِعْلِ الْمَنُوبِ عَنْهُ ، وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ قِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لِلْمُتَوَلِّي فِيهِ ، وَقِيلَ يَكُونُ تَسْلِيمًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ ، فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ ، وَالْمَقْبَرَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَسْجِدِ عَلَى مَا قِيلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ عُرْفًا .
وَقِيلَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ السِّقَايَةِ وَالْخَانِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُصِّبَ الْمُتَوَلِّي يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ الْعَادَةِ ، وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِحَاجِّ بَيْتِ اللَّهِ وَالْمُعْتَمِرِينَ ، أَوْ جَعَلَ
دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ .
أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ فِي الْغَلَّةِ تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَفِيمَا سِوَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالسِّقَايَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، وَالْفَارِقُ هُوَ الْعُرْفُ فِي الْفَصْلَيْنِ .
فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ ، وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ .
وَالْغَنِيُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى صَرْفِ هَذَا الْغَلَّةِ لِغِنَاهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ بَنَى سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ خَانًا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ أَوْ رِبَاطًا ، أَوْ جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ) وَلَوْ سَلَّمَهُ إلَى مُتَوَلٍّ ( لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُ عَنْهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ ) فِي الْحَالِ ( فَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي الْخَانِ وَيَنْزِلَ فِي الرِّبَاطِ ، وَيَشْرَبَ مِنْ السِّقَايَةِ وَيُدْفَنَ فِي الْمَقْبَرَةِ فَيُشْتَرَطُ حُكْمُ الْحَاكِمِ أَوْ الْإِضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ) لِيَكُونَ وَصِيَّةً فَيَلْزَمُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ عَلَى مَا مَرَّ ( كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ ) بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنْ الْخُرُوجِ عَنْ الْمِلْكِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي وَقَفْت وَتَصَدَّقْت ، وَفِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَعَ ذَلِكَ ثُبُوتُ تَعَلُّقِ حَقِّهِ انْتِفَاعًا بِعَيْنِ الْوَقْفِ كَمَا ذَكَرْنَا ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَنَحْوِهِ ( بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ) لَا يُشْتَرَطُ فِي زَوَالِهِ عَنْ مِلْكِهِ حُكْمٌ وَلَا وَصِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ فَخَلَصَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِلَا حُكْمٍ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَزُولُ مِلْكُهُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ .
وَقَوْلُهُ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ كَمَا مَرَّ ( وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ) لَا يَزُولُ ( حَتَّى يَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْ السِّقَايَةِ وَيَسْكُنُوا الْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَيُدْفَنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَهُ شَرْطٌ ) وَتَسْلِيمُ هَذِهِ ( بِمَا ذَكَرْنَا ) مِنْ سُكْنَاهُمْ الْخَانَ وَالرِّبَاطَ إلَى آخِرِهِ ( وَيُكْتَفَى بِالْوَاحِدِ ) فِي التَّسْلِيمِ الْمُوجِبِ لِزَوَالِ الْمِلْكِ ( لِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْجِنْسِ ) أَيْ تَسَلُّمِ الْكُلِّ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِمْ ( وَعَلَى هَذَا الْبِئْرُ ) إذَا احْتَفَرَهُ ( وَالْحَوْضُ ) يَزُولُ الْمِلْكُ إذَا اسْتَقَى مِنْهُمَا وَاحِدٌ أَوْ شَرِبَتْ دَابَّةٌ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ أَدْخَلَ قِطْعَةَ
أَرْضٍ لَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَجَعَلَهَا طَرِيقًا يُشْتَرَطُ فِيهِ مُرُورُ وَاحِدٍ بِإِذْنِهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ الْقَبْضَ فِي الْأَوْقَافِ وَكَذَا الْقَنْطَرَةُ يَتَّخِذُهَا لِلْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُ بِمُرُورِ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ بِنَاؤُهَا مِيرَاثًا ( وَلَوْ سُلِّمَ إلَى الْمُتَوَلِّي صَحَّ التَّسْلِيمُ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ) أَعْنِي السِّقَايَةَ وَالْخَانَ وَالرِّبَاطَ وَالْمَقْبَرَةَ وَالْبِئْرَ وَالْحَوْضَ ( لِأَنَّهُ ) أَعْنِي الْمُتَوَلِّيَ ( نَائِبٌ عَنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَفِعْلُهُ ) أَيْ تَسْلِيمُهُ ( كَفِعْلِهِمْ ) أَيْ تَسَلُّمِهِمْ ( وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَقِيلَ لَا يَكُونُ تَسْلِيمًا ، وَقِيلَ يَكُونُ ) وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مَعَ وَجْهِهِ ، وَوَجْهُ الْمُصَنِّفِ الصِّحَّةُ ( بِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَسْجِدَ ( يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَكْنُسُهُ وَيُغْلِقُ بَابَهُ فَإِذَا سُلِّمَ إلَيْهِ صَحَّ التَّسْلِيمُ ) .
؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلٍّ لَهُ عُرْفًا وَاخْتُلِفَ فِي الْمَقْبَرَةِ .
قِيلَ كَالْمَسْجِدِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْهُ التَّسْلِيمُ إلَى مُتَوَلٍّ ( لِأَنَّهُ لَا مُتَوَلِّيَ لَهُ ) فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ إلَّا بِالدَّفْنِ فِيهَا ( وَقِيلَ كَالسِّقَايَةِ فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي ) ( قَوْلُهُ وَلَوْ جَعَلَ دَارًا لَهُ بِمَكَّةَ سُكْنَى لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ ، أَوْ حَمَلَ دَارِهِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ ، أَوْ جَعَلَهَا فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ ، أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَالٍ يَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا رُجُوعَ فِيهَا ) أَيْ فِي السِّقَايَةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَفِي الدَّارِ الْمُسَبَّلَةِ عِنْدَهُمَا لِلْخُرُوجِ عَنْ مِلْكِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِلَا شَرْطِ الدَّفْعِ إلَى الْمُتَوَلِّي كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ حَاكِمٌ .
ثُمَّ رَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ بَعْدَ الدَّفْنِ لَا يَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي دُفِنَ
فِيهِ وَيَرْجِعُ فِيمَا سِوَاهُ ، ثُمَّ إذَا رَجَعَ فِي الْمَقْبَرَةِ بَعْدَ الدَّفْنِ لَا يَنْبُشُهَا ؛ لِأَنَّ النَّبْشَ حَرَامٌ ، وَلَكِنْ يُسَوِّي الْأَرْضَ وَيَزْرَعُ ، وَهَذَا عَلَى غَيْرِ رِوَايَةِ الْحَسَنِ .
وَالْفَتْوَى فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلتَّعَامُلِ الْمُتَوَارَثِ ، هَذَا وَتُفَارِقُ الْمَقْبَرَةُ غَيْرَهَا بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْمَقْبَرَةِ أَشْجَارٌ وَقْتَ الْوَقْفِ كَانَ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَقْطَعُوهَا ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَهَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوَقْفِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِهَا ، كَمَا لَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَقْبَرَةً لَا يَدْخُلُ مَوْضِعُ الْبِنَاءُ فِي الْوَقْفِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَقْبَرَةِ فَإِنَّ الْأَشْجَارَ وَالْبِنَاءَ إذَا كَانَ فِي عَقَارٍ وَقَفَهُ دَخَلَتْ فِي الْوَقْفِ تَبَعًا ، وَلَوْ نَبَتَتْ فِيهَا بَعْدَ الْوَقْفِ إنْ عَلِمَ غَارِسُهَا كَانَتْ لِلْغَارِسِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَالرَّأْيُ فِيهَا لِلْقَاضِي إنْ رَأَى بَيْعَهَا وَصَرْفَ ثَمَنِهَا عَلَى عِمَارَةِ الْمَقْبَرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَتَكُونُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا وَقْفٌ .
وَلَوْ كَانَتْ قَبْلَ الْوَقْفِ لَكِنَّ الْأَرْضَ مَوَاتٌ لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ فَاِتَّخَذَهَا أَهْلُ الْقَرْيَةِ مَقْبَرَةً فَالْأَشْجَارُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ جَعْلِهَا مَقْبَرَةً .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا غَرَسَ شَجَرَةً فِي الْمَسْجِدِ فَهِيَ لِلْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ عَلَى رِبَاطٍ مَثَلًا فَهِيَ لِلْوَقْفِ إنْ قَالَ لِلْقَيِّمِ تَعَاهَدْهَا ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ فَهِيَ لَهُ يَرْفَعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَلَا يَكُونُ غَارِسًا لِلْوَقْفِ .
وَلَوْ غَرَسَ فِي طَرِيقِ الْعَامَّةِ أَوْ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ الْعَامِّ أَوْ شَطِّ الْحَوْضِ الْقَدِيمِ فَهِيَ لِلْغَارِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ جَعْلِهَا لِلْعَامَّةِ ، وَكَذَا عَلَى شَطِّ نَهْرِ الْقَرْيَةِ .
وَلَوْ قَطَعَهَا فَنَبَتَ مِنْ عُرُوقِهِمَا أَشْجَارٌ فَهِيَ لِلْفَارِسِ وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي الْمَقْبَرَةِ بَيْتًا لِحِفْظِ اللَّبَنِ وَنَحْوِهِ ، إنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ سَعَةٌ جَازَ وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ أَهْلُ
الْقَرْيَةِ ، لَكِنْ إذَا اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ يُرْفَعُ الْبِنَاءُ لِيَقْبُرَ فِيهِ .
وَمَنْ حَفَرَ لِنَفْسِهِ قَبْرًا فَلِغَيْرِهِ أَنْ يَقْبُرَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَرْضِ سَعَةٌ ، إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ لَا يُوحِشَهُ إنْ كَانَ فِيهَا سَعَةٌ ، وَهُوَ كَمَنْ بَسَطَ سَجَّادَةً فِي الْمَسْجِدِ أَوْ نَزَلَ فِي الرِّبَاطِ فَجَاءَ آخَرُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُوحِشَ الْأَوَّلَ إنْ كَانَ فِي الْمَكَانِ سَعَةٌ .
وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْحَفْرِ لِيَجْمَعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْقَرْيَةِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَقْبَرَةِ الدَّائِرَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهَا حَشِيشٌ يُحَشُّ وَيُخْرَجُ إلَى الدَّوَابِّ وَلَا يُرْسَلُ الدَّوَابُّ فِيهَا ، ثُمَّ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُكْنَى الْخَانِ وَدَارِ الْغُزَاةِ وَالسِّقَايَةِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ يَسْتَوِي الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ ، بِخِلَافِ وَقْفِ الْغَلَّةِ عَلَى الْغُزَاةِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لِلْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْفَارِقُ ) فِيهِ ( الْعُرْفُ فَإِنَّ ) الْوَاقِفِينَ مِنْ ( أَهْلِ الْعُرْفِ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِي الْغَلَّةِ الْفُقَرَاءَ وَفِي غَيْرِهَا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ .
وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ تَشْمَلُ الْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ فِي الشُّرْبِ وَالنُّزُولِ ) ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا يَشْرَبُهُ فِي كُلِّ مَكَان ، وَلَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ مِنْ السَّفَرِ ، وَعَلَى هَذَا فَيَجِبُ فِي الرِّبَاطِ أَنْ يَخُصَّ سُكْنَاهُ بِالْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ عَلَى أَنَّ بِنَاءَ الْأَرْبِطَةِ لِلْفُقَرَاءِ .
وَهَذَانِ فَصْلَانِ فِي الْمُتَوَلِّي وَالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ( الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي الْمُتَوَلِّي ) قَالُوا : لَا يُوَلَّى مَنْ طَلَبَ الْوِلَايَةَ عَلَى الْأَوْقَافِ كَمَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ لَا يُقَلَّدُ ، وَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا فَضَلَ مِنْ غَلَّةِ الْوَقْفِ إذَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْعِمَارَةِ .
مُسْتَغِلًّا ، وَلَا يَكُونُ وَقْفًا فِي الصَّحِيحِ حَتَّى جَازَ بَيْعُهُ .
وَمَنْ سَكَنَ دَارَ الْوَقْفِ غَصْبًا أَوْ بِإِذْنِ الْمُتَوَلِّي بِلَا أُجْرَةٍ كَانَ عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ سَوَاءً كَانَ ذَلِكَ مُعَدًّا لِلِاسْتِغْلَالِ أَوْ غَيْرَ مُعَدٍّ لَهُ ، حَتَّى لَوْ بَاعَ الْمُتَوَلِّي دَارًا لِلْوَقْفِ فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَفَعَ إلَى قَاضٍ هَذَا الْأَمْرَ فَأَبْطَلَ الْبَيْعَ وَظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ لِلْوَقْفِ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أُجْرَةُ مِثْلِهِ ، وَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَخْدُمُ الْمَسْجِدَ بِكَنْسِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةً يَتَغَابَنُ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَالْإِجَارَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ الدَّفْعُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَيَضْمَنُ لَوْ دَفَعَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ ، وَإِنْ عَلِمَ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ عَلَى حَاجَةِ الْوَقْفِ .
وَلَوْ أَدْخَلَ جِذْعًا مِنْ مَالِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ كَالْوَصِيِّ إذَا أَنْفَقَ عَلَى الصَّغِيرِ ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَلَّةِ الْمَسْجِدِ دُهْنًا وَحَصِيرًا وَآجُرًّا وَحُصًّا لِفُرُشِ الْمَسْجِدِ إنْ كَانَ الْوَاقِفُ وَسَّعَ فَقَالَ يَفْعَلُ مَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً ، وَإِنْ وَقَفَ لِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَزِدْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ شَرْطٌ يَعْمَلُ مَا عَمِلَ مَنْ قَبْلَهُ ، وَلَا يَسْتَدِينُ عَلَى الْوَقْفِ إلَّا إذَا اسْتَقْبَلَهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ فَيَسْتَدِينُ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، وَيَرْجِعُ فِي غَلَّةِ الْوَقْفِ .
وَذَكَرَ النَّاطِفِيُّ : وَكَذَا لَهُ أَنْ يَسْتَدِينَ لِزِرَاعَةِ الْوَقْفِ وَبِزْرِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَمْلِكُ الِاسْتِدَانَةَ عَلَى الْوَقْفِ
فَصَحَّ بِأَمْرِهِ ، بِخِلَافِ الْمُتَوَلِّي لَا يَمْلِكُهُ ، وَالِاسْتِدَانَةُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَيَسْتَدِينُ وَيَرْجِعُ .
أَمَّا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مَالُ الْوَقْفِ فَاشْتَرَى وَنَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْوَكِيلِ إذَا اشْتَرَى وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَ دَارَ الْوَقْفِ ، فَإِنْ فَعَلَ وَسَكَنَهَا الْمُرْتَهِنُ ضَمِنَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ .
وَلَوْ أَنْفَقَ دَرَاهِمَ الْوَقْفِ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ثُمَّ أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِ مِثْلَهَا فِي الْوَقْفِ جَازَ وَيَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَلَوْ خَلَطَ دَرَاهِمَ الْوَقْفِ بِمِثْلِهَا مِنْ مَالِهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْكُلِّ .
وَلَوْ اجْتَمَعَ مَالُ الْوَقْفِ ثُمَّ نَابَتْ نَائِبَةٌ مِنْ الْكَفَرَةِ فَاحْتِيجَ إلَى مَالٍ لِدَفْعِ شَرِّهِمْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ : مَا كَانَ مِنْ غَلَّةِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ إذَا لَمْ تَكُنْ حَاجَةٌ لِلْمَسْجِدِ إلَيْهِ .
وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ظُلَّةً لِدَفْعِ أَذَى الْمَطَرِ عَنْ الْبَابِ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ إنْ كَانَ عَلَى مَصَالِحِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى عِمَارَتِهِ أَوْ تَرْمِيمِهِ فَلَا يَصِحُّ ، وَالْأَصَحُّ مَا قَالَهُ ظَهِيرُ الدِّينِ أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ وَمَصَالِحِ الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ .
وَإِذَا كَانَ عَلَى عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ لَا يَشْتَرِي مِنْهُ الزَّيْتَ وَالْحَصِيرَ وَلَا يَصْرِفُ مِنْهُ لِلزِّينَةِ وَالشُّرُفَاتِ ، وَيَضْمَنُ إنْ فَعَلَ ، وَمَنْ وَقَفَ وَقْفًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مُتَوَلِّيًا حَتَّى حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ قَالُوا يَكُونُ وَصِيًّا وَقَيِّمًا ، هَذَا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَصَحَّ الْوَقْفُ فِي حَيَاتِهِ بِلَا تَسْلِيمٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَعَلَ لَهُ قَيِّمًا ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَأَوْصَى لَا يَكُونُ هَذَا الْوَصِيُّ قَيِّمًا فِي الْوَقْفِ .
قَيِّمُ مَسْجِدٍ مَاتَ فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَلَى جَعْلِ رَجُلٍ قَيِّمًا
بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ، فَقَامَ وَأَنْفَقَ مِنْ غَلَّاتِ وَقْفِ الْمَسْجِدِ فِي عِمَارَتِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي هَذِهِ التَّوْلِيَةِ وَالْأَصَحُّ لَا تَصِحُّ .
بَلْ نَصْبُ الْقَيِّمِ إلَى الْقَاضِي لَكِنْ لَا يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ فِي الْعِمَارَةِ مِنْ غَلَّاتِهِ إذَا كَانَ أَجَّرَ الْوَقْفَ وَأَخَذَ الْغَلَّةَ فَأَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ وِلَايَتُهُ فَإِنَّهُ غَاصِبٌ ، وَالْغَاصِبُ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ كَانَ الْأَجْرُ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ .
كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُفْتَى بِهِ تَضْمِينُ غَاصِبِ الْأَوْقَافِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ وُقِفَ عَلَى أَرْبَابٍ مَعْلُومِينَ فَإِنَّ لَهُمْ أَنْ يُنَصِّبُوا مُتَوَلِّيًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ .
لَكِنْ قِيلَ الْأَوْلَى أَنْ يَرْفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى الْقَاضِي لِيُنَصِّبَ لَهُمْ .
وَقِيلَ بَلْ الْأَوْلَى فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ لَا يَفْعَلُوا وَيُنَصِّبُوا لَهُمْ .
وَلَيْسَ لِلْمُشْرِفِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَالِ الْوَقْفِ بَلْ وَظِيفَتُهُ الْحِفْظُ لَا غَيْرُ ، وَهَذَا يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعُرْفِ فِي مَعْنَى الْمُشْرِفِ ، وَلِلْمُتَوَلِّي أَنْ يُفَوِّضَ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ كَالْوَصِيِّ لَهُ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَ لِذَلِكَ الْمُتَوَلِّي مَالًا مُسَمًّى لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِمَنْ أَوْصَى إلَيْهِ بَلْ يُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْقَاضِي إذَا تَبَرَّعَ بِعَمَلِهِ لِيُفْرَضَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاقِفُ جَعَلَ ذَلِكَ لِكُلِّ مُتَوَلٍّ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لِلَّذِي أَدْخَلَهُ مَا كَانَ الْوَاقِفُ جَعَلَهُ لِلَّذِي كَانَ أَدْخَلَهُ ؛ لِأَنَّ لِلْوَاقِفِ فِي هَذَا مَا لَيْسَ لِلْحَاكِمِ ، وَكَذَا إذَا أَخَذَ الْمُتَوَلِّي مِنْ مَالِ الْوَقْفِ وَمَاتَ بِلَا بَيَانٍ لَا يَضْمَنُ .
فَالْأَمَانَاتُ تَنْقَلِبُ مَضْمُونَةً بِالْمَوْتِ عَنْ تَجْهِيلٍ إلَّا فِي ثَلَاثٍ : هَذِهِ إحْدَاهَا .
وَالثَّانِيَةُ إذَا أَوْدَعَ السُّلْطَانُ الْغَنِيمَةَ عِنْدَ بَعْضِ الْغَانِمِينَ ، وَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَ .
وَالثَّالِثَةُ الْقَاضِي إذَا أَخَذَ مَالَ الْيَتِيمِ
وَأَوْدَعَ غَيْرَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ مَنْ أَوْدَعَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، أَمَّا لَوْ كَانَ الْقَاضِي أَخَذَ مَالَ الْيَتِيمِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ حَتَّى مَاتَ فَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَضْمَنُ .
وَلَوْ قَالَ قَبْلَ مَوْتِهِ ضَاعَ مَالُ الْيَتِيمِ عِنْدِي أَوْ أَنْفَقْته عَلَيْهِ ، وَمَاتَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا ، أَمَّا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ ضَمِنَ .
وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْمُتَوَلِّي دَارَ الْوَقْفِ ، وَمَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيْنَ الثَّمَنُ فَإِنَّهُ يَكُونُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ ، وَلِلنَّاسِ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُتَوَلِّيَ بِتَسْوِيَةِ حَائِطِ الْوَقْفِ إذَا مَالَ إلَى أَمْلَاكِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ يُرْفَعُ إلَى الْقَاضِي لِيَأْمُرَ بِالِاسْتِدَانَةِ لِإِصْلَاحِهَا ، وَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ قَرْيَةً فِي أَرْضِ الْوَقْفِ لِلْأُكْرَةِ وَحُفَّاظِهَا ، وَلِيَجْمَعَ فِيهَا الْغَلَّةَ وَأَنْ يَبْنِيَ بُيُوتًا يَسْتَغِلُّهَا إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ مُتَّصِلَةً بِبُيُوتِ الْمِصْرِ لَيْسَتْ لِلزِّرَاعَةِ ، فَإِنْ كَانَ زِرَاعَتُهَا أَصْلَحَ مِنْ الِاسْتِغْلَالِ لَا يَبْنِي .
وَفِي النَّوَازِلِ فِي إقْرَاضِ مَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ قَالَ : إنْ كَانَ أَحْرَزَ لِلْغَلَّةِ أَرْجُو أَنْ يَكُونَ وَاسِعًا وَلَا يُؤَجِّرَ الْوَقْفَ إجَارَةً طَوِيلَةً وَأَكْثَرُ مَا يَجُوزُ سِنِينَ ، وَلَيْسَ لَهُ الْإِقَالَةُ إلَّا إنْ كَانَتْ أَصْلَحَ لِلْوَقْفِ .
وَلَوْ زَرَعَ الْوَاقِفُ أَوْ الْمُتَوَلِّي أَرْضُ الْوَقْفِ وَقَالَ زَرَعْتهَا لِنَفْسِي وَقَالَ الْمُسْتَحِقُّونَ بَلْ لِلْوَقْفِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَعَلَى الْوَاقِفِ وَالْمُتَوَلِّي فِي هَذَا نُقْصَانُ الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَجْرُ مِثْلِ الْأَرْضِ ، وَيَقُولُ الْقَاضِي لَهُ ازْرَعْهَا لِلْوَقْفِ ، فَإِنْ قَالَ لَيْسَ لِلْوَقْفِ مَالٌ أَزْرَعُهَا بِهِ يَأْمُرُهُ بِالِاسْتِدَانَةِ لِذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ لَا يُمْكِنُنِي يَقُولُ لِأَهْلِ الْوَقْفِ اسْتَدِينُوا ، فَإِنْ قَالُوا لَا يُمْكِنُنَا بَلْ نَزْرَعُ لِأَنْفُسِنَا لَا يُمَكِّنُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ فِي يَدِ الْوَاقِفِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ
غَيْرَ مَأْمُونٍ ، ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَغَيْرِهِ .
وَيَنْعَزِلُ النَّاظِرُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ إذَا دَامَ سَنَةً نَصَّ عَلَيْهِ الْخَصَّافُ لَا إنْ دَامَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ عَقْلُهُ وَبَرَأَ مِنْ عِلَّتِهِ عَادَ إلَيْهِ النَّظَرُ .
وَلِلنَّاظِرِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يَقُومُ بِمَا كَانَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْوَقْفِ ، وَيَجْعَلَ لَهُ مِنْ جَعْلِهِ شَيْئًا ، وَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِ أَوْ لَا يَسْتَبْدِلَ ، وَلَوْ جُنَّ انْعَزَلَ وَكِيلُهُ وَيَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي فِي النَّصْبِ .
وَلَوْ أَخْرَجَ حَاكِمٌ قَيِّمًا فَمَاتَ أَوْ عُزِلَ فَتَقَدَّمَ الْمُخْرَجُ إلَى الْقَاضِي الثَّانِي بِأَنَّ ذَلِكَ الْقَاضِي أَخْرَجَهُ بِلَا جُنْحَةٍ لَا يُدْخِلْهُ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَوَّلِ مَحْمُولٌ عَلَى السَّدَادِ ، وَلَكِنْ يُكَلِّفُهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهُ بَيِّنَةً أَنَّهُ أَهْلٌ وَمَوْضِعٌ لِلنَّظَرِ فِي هَذَا الْوَقْفِ ، فَإِنْ فَعَلَ أَعَادَهُ .
وَكَذَا لَوْ أَخْرَجَهُ لِفِسْقٍ وَخِيَانَةٍ فَبَعْدَ مُدَّةٍ أَنَابَ إلَى اللَّهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ صَارَ أَهْلًا لِذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعِيدُهُ ، وَلَيْسَ عَلَى النَّاظِرِ أَنْ يَفْعَلَ إلَّا مَا يَفْعَلُهُ أَمْثَالُهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْمَصَالِحِ ، وَيَصْرِفُ الْأَجْرَ مِنْ مَالِ الْوَقْفِ لِلْعَمَلَةِ بِأَيْدِيهِمْ ، وَلِذَا قُلْنَا لَوْ عَمِيَ أَوْ طَرِشَ أَوْ خَرِسَ أَوْ فَلَجَ ، إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ الْكَلَامُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَلَهُ الْأَجْرُ الَّذِي عَيَّنَهُ لَهُ الْوَاقِفُ ؛ وَلِلنَّاظِرِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَنْ يُعْطِيَ قَوْمًا مُدَّةً وَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُمْ وَيُعْطِيَ غَيْرَهُمْ فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُ كَثْرَةٌ بِحَيْثُ يُحَاصِصُونَهُمْ .
وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ : أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي أَنْ لَا يُعْطِيَ غَيْرَ هَذَا الرَّجُلِ لَمْ يُعْطِ غَيْرَهُ ، وَمَا لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهُ وَيَحْرِمَهُ ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَنْفِيذُ شَرْطِ الْوَاقِفِ ، وَقَدْ اُسْتُبْعِدَتْ صِحَّةُ هَذَا الْحُكْمِ ، وَكَيْفَ سَاغَ بِلَا
شُرُوطٍ حَتَّى ظَفِرَتْ فِي الْمَسْأَلَةِ بِقُوَيْلَةٍ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَلْزَمُ .
( الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ) وُقِفَ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ الْمَسَاكِينِ فَرَدَّ زَيْدٌ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ ، وَكَذَا عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو فَرَدَّ أَحَدُهُمَا أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَيِّتًا فَنُصِيبُهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَكَذَا إذَا رَدَّا جَمِيعًا ، وَمَنْ قَبِلَ بَعْدَ الرَّدِّ لَا يَعُودُ ، وَمَنْ أَخَذَ سَنَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَمَّا لَوْ قَالَ لَا أَقْبَلُهَا سَنَةً ، وَأَقْبَلُ مَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَحِصَّتُهُ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ لِلْبَاقِي مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ ، ثُمَّ يُشَارِكُهُمْ فِيمَا بَعْدَهَا ، وَلَوْ قَبِلَ سِنِينَ وَسَمَّاهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بَلْ بَعْدَهَا عَلَى وَلَدِهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَى وَلَدِ فُلَانٍ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا فَرَدَّهُ الْمَوْجُودُونَ صَارَ لِلْفُقَرَاءِ ، فَإِذَا جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ رَجَعَ مِنْ الْفُقَرَاءِ إلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَرُدُّوهُ ، وَلَوْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَقَطْ فَالْغَلَّةُ كُلُّهَا لِمَنْ قَبِلَ ، وَيُجْعَلُ مَنْ لَمْ يَقْبَلْ كَالْمَيِّتِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَكَانُوا يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعَةً فَرَدَّ وَاحِدٌ فَحِصَّتُهُ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي ، وَهَذِهِ مِمَّا افْتَرَقَ فِيهِ الْوَصِيَّةُ وَالْوَقْفُ ، وَالْفَرْقُ ذَكَرَهُ هِلَالٌ وَغَيْرُهُ .
وَعَلَى فُلَانٍ وَوَلَدِهِ فَرَدَّهُ فُلَانٌ لَمْ يُعْمَلْ رَدُّهُ فِي رَدِّ مَا لِوَلَدِهِ صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا .
وَقَفَ عَلَى وَلَدِهِ ثُمَّ لِلْمَسَاكِينِ فَلِوَلَدِ صُلْبِهِ يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَخُصَّ صِنْفًا مَا دَامَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَالْكُلُّ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَقْتَ الْوَقْفِ بَلْ وَلَدُ ابْنٍ كَانَ لَهُ لَا يُشَارِكُهُ مَنْ دُونَهُ مِنْ الْبُطُونِ ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ بِنْتٍ لَا يَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَبِهِ أَخَذَ هِلَالٌ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ يَدْخُلُ وَصَحَّحَ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ .
ثُمَّ إذَا وُلِدَ لِلْوَاقِفِ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ رَجَعَ مِنْ ابْنِ الِابْنِ إلَيْهِ ، وَلَوْ ضُمَّ إلَى الْوَلَدِ وَلَدُ الْوَلَدِ فَقَالَ عَلَى وَلَدِي وَوَلَدِ وَلَدِي ثُمَّ لِلْمَسَاكِينِ
اشْتَرَكَ فِيهِ الصُّلْبِيُّونَ وَأَوْلَادُ بَنِيهِ وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِ ، كَذَا اخْتَارَهُ هِلَالٌ وَالْخَصَّافُ وَصَحَّحَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَأَنْكَرَ الْخَصَّافُ رِوَايَةَ حِرْمَانِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ وَقَالَ : لَمْ أَجِدْ مَنْ يَقُومُ بِرِوَايَةِ ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ لِوَلَدِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، فَإِنْ وُجِدَ لَهُ وَلَدٌ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ لِصُلْبِهِ يَوْمَ يَمُوتُ الْمُوصِي كَانَ بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ لِصُلْبِهِ بَلْ وَلَدُ وَلَدٍ مِنْ أَوْلَادِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ كَانَ لِوَلَدِ الذُّكُورِ دُونَ الْبَنَاتِ فَكَأَنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَذِهِ هِيَ وَزَانُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
وَفَرَّقَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَذِهِ بِأَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ اسْمٌ لِمَنْ وَلَدُهُ وَلَدُهُ وَبِنْتُهُ وَلَدُهُ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَلَدِي فَإِنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ لَا يَدْخُلُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ وَلَدِهِ يَتَنَاوَلُ وَلَدَهُ لِصُلْبِهِ ، وَإِنَّمَا وُضِعَ فِي وَلَدِ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ عُرْفًا .
قَالَ : وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وَلَدَ الْوَلَدِ يَتَنَاوَلُ وَلَدَ الْبِنْتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا ، لَكِنْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّجْنِيسِ أَنَّ الْفَتْوَى عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي الِاخْتِيَارِ ، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ مِنْ صِدْقِ وَلَدِ الْوَلَدِ عَلَى وَلَدِ الْبِنْتِ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ ، لَكِنْ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِالْعُرْفِ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ وَلَدُ وَلَدِ فُلَانٍ كَذَا ، وَكَذَا وَلَدُ ابْنِهِ وَكَلَامُ الْوَاقِفِينَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْعُرْفِ فَإِنَّ تَخَاطُبَهُمْ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُضِفْ إلَى الْوَلَدِ كَمَا يُقَالُ وَلَدَتْ فُلَانَةُ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَوَلَدْت ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ؟ فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِفْهَامَ ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ فَهْمِ الذَّكَرِ بِخُصُوصِهِ ، وَإِذَا عُرِفَ الِاخْتِلَافُ فِي دُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي أَوْلَادِ أَوْلَادِي
فَيَجِبُ فِيمَا لَوْ قَالَ عَلَى الذُّكُورِ مِنْ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي إدْخَالُ ابْنِ الْبِنْتِ عَلَى الْخِلَافِ لَا يَدْخُلُ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنَ وَلَدِ الْوَلَدِ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَدْخُلُ ؛ ثُمَّ إذَا انْقَرَضَ وَلَدُ الْوَلَدِ لَا يُعْطِي لِمَنْ بَعْدَهُمْ بَلْ لِلْفُقَرَاءِ ، وَلَوْ قَالَ وَلَدِي وَوَلَدُ وَلَدِي وَوَلَدُ وَلَدِي صُرِفَتْ إلَى أَوْلَادِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا ، وَلَا يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِهِ وَاحِدٌ ، وَيَسْتَوِي الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ إلَّا أَنْ يُرَتِّبَ الْوَاقِفُ .
وَلَوْ قَالَ أَوْلَادِي بِلَفْظِ الْجَمْعِ يَدْخُلُ النَّسْلُ كُلُّهُ كَذِكْرِ الطَّبَقَاتِ الثَّلَاثِ بِلَفْظِ وَلَدِي ، وَلَوْ قَالَ وَلَدِي وَأَوْلَادُهُمْ وَلَهُ أَوْلَادُ أَوْلَادٍ مَاتَ آبَاؤُهُمْ قَبْلَ الْوَقْفِ لَا يَدْخُلُونَ مَعَ أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ الْمَوْجُودِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ بَعْدَ مَوْتِ أُولَئِكَ عَلَى أَوْلَادِي فَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَوْجُودِينَ ، وَضَمِيرُ أَوْلَادِهِمْ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ خَاصَّةً ، بِخِلَافِ أَوْلَادِي وَأَوْلَادِ أَوْلَادِي لَا مُوجِبَ لِقَصْرِهِ عَلَى الْأَوْلَادِ الْمَوْجُودِينَ فَتُدَخِّلُ أَوْلَادَ الَّذِينَ مَاتُوا مِنْ قَبْلُ مَعَهُمْ ، وَلَوْ قَالَ أَوْلَادِي وَهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَبَعْدَهُمْ لِلْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أُعْطِيَ نَصِيبُهُ لِلْفُقَرَاءِ لَا لِلْبَاقِينَ مِنْ إخْوَتِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ يَقُلْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ بَلْ أَوْلَادِي ثُمَّ الْفُقَرَاءُ يُصْرَفُ الْكُلُّ لِلْوَاحِدِ إذَا مَاتَ مَنْ سِوَاهُ .
وَلَوْ قَالَ عَلَى بَنِيَّ وَلَهُ ذَكَرَانِ صُرِفَ إلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَلَهُ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ اثْنَانِ ، فَإِنَّمَا جُعِلَ مُسْتَحِقَّ كُلِّهِ اثْنَيْنِ .
وَعَلَيْهِ فَرَّعَ ابْنُ الْفَضْلِ قَوْلَهُ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْ وَلَدِي وَلَيْسَ فِي وَلَدِهِ مُحْتَاجٌ إلَّا وَاحِدٌ أَنَّ النِّصْفَ لَهُ وَالنِّصْفَ الْآخَرَ لِلْفُقَرَاءِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يُشْكِلُ بِأَوْلَادِي فَإِنَّهُ يُصْرَفُ لِلْوَاحِدِ
الْكُلُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عُرْفٌ فِي أَوْلَادِي يُخَالِفُ كُلَّ جَمْعٍ لِمَادَّةِ غَيْرِهِ كَبَنِيَّ وَالْمُحْتَاجِينَ وَنَحْوَهُ مِمَّا هُوَ جَمْعٌ غَيْرُ لَفْظِ أَوْلَادِي .
وَنُقِلَ الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِيمَا لَوْ أَعْطَى الْقَيِّمَ نَصِيبَ الْفُقَرَاءِ لِوَاحِدٍ أَجَازَهُ أَبُو يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ لَا يُحْصُونَ فَكَانَ الْمَقْصُودُ الْجِنْسَ .
وَمَعَهُ مُحَمَّدٌ لِلْجَمْعِيَّةِ فَوَجَبَ إعْطَاءُ اثْنَيْنِ ، وَتَدْخُلُ الْبَنَاتُ فِي قَوْلِهِ بَنِيَّ وَاخْتَارَهُ هِلَالٌ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ اخْتِصَاصُ الذُّكُورِيَّةِ .
قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى .
وَالْوَجْهُ الدُّخُولُ لِمَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَعَلَيْهِ بَنَوْا قَوْلَ الْمُسْتَأْمَنِ آمِنُونِي عَلَى بَنِيَّ تَدْخُلُ الْبَنَاتُ .
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ : وَهَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ فِي بَنِي أَبٍ يُحْصَوْنَ ، أَمَّا فِيمَا لَا يُحْصَوْنَ فَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي فُلَانٍ انْتَهَى يَعْنِي فَتَدْخُلُ الْمَرْأَةُ بِلَا تَرَدُّدٍ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا بَنَاتٌ صُرِفَتْ الْغَلَّةُ لِلْفُقَرَاءِ ، وَعَلَى بَنَاتِي لَا تَدْخُلُ الذُّكُورُ ، ثُمَّ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْوَلَدِ كُلُّ مَنْ أَدْرَكَ خُرُوجَ الْغَلَّةِ عَالِقًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، حَتَّى لَوْ حَدَثَ وَلَدٌ بَعْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ بِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ اسْتَحَقَّ ، وَمَنْ حَدَثَ إلَى تَمَامِهَا فَصَاعِدًا لَا يَسْتَحِقُّ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْأَوَّلِ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ خُرُوجِ الْغَلَّةِ فَاسْتَحَقَّ ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ لِوَرَثَتِهِ .
وَهَذَا فِي وَلَدِ الزَّوْجَةِ ، أَمَّا لَوْ جَاءَتْ أَمَتُهُ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَاعْتَرَفَ بِهِ لَا يَسْتَحِقُّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ عَلَى الْغَيْرِ : أَعْنِي بَاقِيَ الْمُسْتَحِقِّينَ ، بِخِلَافِ وَلَدِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ حِينَ يُولَدُ ثَابِتُ النَّسَبِ .
وَلَوْ مَاتَ الْوَاقِفُ مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ وَقَفَ
اسْتَحَقَّ مِنْ كُلِّ غَلَّةٍ خَرَجَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الْوَقْفِ بِلَا تَخَلُّلِ مُدَّةٍ كَذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَوْتُ وَالطَّلَاقُ بَعْدَ زَمَانٍ يُمْكِنُ فِيهِ الرُّجُوعُ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ حَمْلٍ حَدَثَ ، وَخُرُوجُ الْغَلَّةِ الَّتِي هِيَ الْمَنَاطُ وَقْتَ انْعِقَادِ الزَّرْعِ حَبًّا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَوْمَ يَصِيرُ الزَّرْعُ مُتَقَوِّمًا ذَكَرَهُ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ .
وَهَذَا فِي الْحَبِّ خَاصَّةً .
وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ يَوْمَ طَلَعَتْ الثَّمَرَةُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ وَقْتُ أَمَانِهِ الْعَاهَةُ كَمَا فِي الْحَبِّ ؛ لِأَنَّهُ بِالِانْعِقَادِ يَأْمَنُ الْعَاهَةَ ، وَقَدْ اُعْتُبِرَ انْعِقَادُهُ .
وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ بِلَادِنَا مِنْ إجَارَةِ أَرْضِ الْوَقْفِ لِمَنْ يَزْرَعُهَا لِنَفْسِهِ بِأُجْرَةٍ تُسْتَحَقُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَاطٍ كُلُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قِسْطٌ ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ إدْرَاكِ الْقِسْطِ فَهُوَ كَإِدْرَاكِ الْغَلَّةِ ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ الرَّابِعِ حَتَّى تَمَّ وَهُوَ مَخْلُوقٌ اسْتَحَقَّ هَذَا الْقِسْطَ وَمَنْ لَا فَلَا ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَلَى أَصَاغِرِ وَلَدِي أَوْ الْعُمْيَانِ مِنْهَا أَوْ الْعُورِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَخْتَصُّ بِهِمْ ، وَيُعْتَبَرُ الصِّغَرُ وَالْعَوَرُ وَالْعَمَى يَوْمَ الْوَقْفِ لَا يَوْمَ الْغَلَّةِ ، بِخِلَافِ الْوَقْفِ عَلَى سَاكِنِي الْبَصْرَةِ مَثَلًا وَبَغْدَادَ يُعْتَبَرُ سُكْنَى الْبَصْرَةِ يَوْمَ الْغَلَّةِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا كَانَ لَا يَزُولُ فَهُوَ كَالِاسْمِ الْعَلَمِ .
وَكَذَلِكَ إذَا زَالَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَقْفِ ، بِخِلَافِ الْفَقْرِ وَسُكْنَى الْبَصْرَةِ يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ بَعْدَ الزَّوَالِ .
وَلَوْ قَالَ مَنْ خَرَجَ يَسْقُطُ سَهْمُهُ فَخَرَجَ وَاحِدٌ ثُمَّ عَادَ لَا يَعُودُ سَهْمُهُ ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الْأَيَامَى عَلَى أَنَّ مَنْ تَزَوَّجَتْ سَقَطَ سَهْمُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِوَاحِدٍ ، ثُمَّ طَلُقَتْ لَا يَعُودُ إلَّا إنْ كَانَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْتَحَقِّينَ
إذَا لَمْ يُبَيِّنْ الْوَاقِفُ حَالَ حِصَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يُقَسَّمُ عَلَى الْبَاقِينَ ، فَقَدْ تُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيُعْطَى الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ إلَّا أَنْ يُعِينَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ وَلَدِهِ فَيَلْزَمُ ؛ فَمَنْ ادَّعَى الْحَاجَةَ مِنْهُمْ لَا يُعْطَى مَا لَمْ يُثَبِّتْهَا عِنْدَ الْقَاضِي .
وَلَوْ تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَا فَقْرِهِ وَغِنَاهُ حُرِمَ تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ غِنَاهُ ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا .
وَمَنْ وُلِدَ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ خُرُوجِ الْغَلَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَ هِلَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْحَاجَةِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَلِذَا لَمْ يَجْعَلْ نَفَقَةَ الْحَامِلِ فِي مَالِ مَنْ فِي بَطْنِهَا ، وَاسْتَحَقَّ عِنْدَ الْخَصَّافِ لِأَنَّهُ كَانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ مَجِيءِ الْغَلَّةِ وَلَا مَالَ لَهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُحْتَاجٌ كَانَ لِلْمَسَاكِينِ ؛ وَمَنْ افْتَقَرَ بَعْدَ الْغِنَى رَجَعَ إلَيْهِ الْكُلُّ .
وَفِي وَقْفِ الْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ اجْتَمَعَتْ عِدَّةُ سِنِينَ بِلَا قِسْمَةٍ حَتَّى اسْتَغْنَى قَوْمٌ وَافْتَقَرَ آخَرُونَ ثُمَّ قُسِّمَتْ يُعْطَى مَنْ كَانَ فَقِيرًا يَوْمَ الْقِسْمَةِ ، وَلَا أَنْظُرُ إلَى مَنْ كَانَ فَقِيرًا وَقْتَ الْغَلَّةِ ثُمَّ اسْتَغْنَى فَأُعْطِيَهُ ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ الْقِسْمَةِ لَا يُعْطَى مِنْ هَذِهِ الْقِسْمَةِ شَيْئًا بَلْ مِمَّا بَعْدَهَا ، وَكَذَا لَوْ خَصَّ عُمْيَانَ أَوْلَادِهِ وَنَحْوَهُ تَعَيَّنُوا ، وَالْمُحْتَاجُ الَّذِي يُصْرَفُ إلَيْهِ مَنْ تُدْفَعُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَرْضٌ أَوْ دَارٌ يَسْتَغِلُّهَا ، وَإِنْ لَمْ تَفِ غَلَّتُهَا بِكِفَايَتِهِ حَتَّى يَبِيعَهَا وَيُنْفِقَ ثَمَنَهُمَا ، أَوْ يَفْضُلَ مِنْهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ .
بِخِلَافِ الدَّارِ الَّتِي يَسْكُنُهَا وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ وَلَيْسَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ الدَّارُ سُكْنَاهَا بَلْ الِاسْتِغْلَالُ ، كَمَا لَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ السُّكْنَى الِاسْتِغْلَالُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ أَوْلَادَهُ وَأَقَارِبَهُ صَحَّ لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَخْتَصَّ الْفُقَرَاءَ
كَمَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إذَا ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِمْ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحَاجَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ سَوَاءً كَانُوا يُحْصَوْنَ أَوْ لَا يُحْصَوْنَ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ ، فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ بَاطِلٌ ، إلَّا إنْ كَانَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا بَيْنَ النَّاسِ لَا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ كَالْيَتَامَى فَالْوَقْفُ عَلَيْهِمْ صَحِيحٌ ، وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ .
فَانْبَنَى عَلَى هَذِهِ مَا لَوْ وَقَفَ عَلَى الرِّجَالِ أَوْ النِّسَاءِ أَوْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الصِّبْيَانِ أَوْ عَلَى مُضَرَ أَوْ رَبِيعَةَ أَوْ عَلَى تَمِيمٍ أَوْ بَنِي هَاشِمٍ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِانْتِظَامِهِ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ مَعَ عَدَمِ الْإِحْصَاءِ ، وَلَا مُمَيِّزَ فِي الِاسْتِعْمَالِ .
وَنَصَّ الْخَصَّافُ عَلَى أَنَّ الْوَقْفَ عَلَى الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَالْعُورَانِ بَاطِلٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْتَظِمَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ ، وَكَذَا عَلَى قُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الْفُقَهَاءِ .
أَوْ قَالَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَدِيثِ أَوْ الشُّعَرَاءِ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا .
وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه الضَّابِطُ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الزَّمْنَى وَالْعُمْيَانِ وَقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَيُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ كَالْيَتَامَى لِإِشْعَارِ الْأَسْمَاءِ بِالْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا ؛ لِأَنَّ الْعَمَى وَالِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ يَقْطَعُ عَنْ الْكَسْبِ فَيَغْلِبُ فِيهِمْ الْفَقْرُ ، وَقَدْ صُرِّحَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الْفُقَهَاءِ بِاسْتِحْقَاقِ الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَهُوَ فَرْعُ الصِّحَّةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ فَصْلِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْهِدَايَةِ تُفِيدُ ذَلِكَ ، وَهِيَ مَا إذَا جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ وَقْفًا عَلَى الْغُزَاةِ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيُصْرَفُ إلَى
فُقَرَاءِ الْغُزَاةِ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْغُزَاةِ يَنْتَظِمُ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ غَيْرَ أَنَّهُ يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ ، وَنَصَّ فِي وَقْفِ هِلَالٍ عَلَى جَوَازِهِ عَلَى الزَّمْنَى ، وَيُدْفَعُ لِفُقَرَائِهِمْ .
وَصَرَّحَ فِي وَقْفِ الْخَصَّافِ بِصِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى أَرَامِلِ بَنِي فُلَانٍ ، وَأَنَّهُ لِكُلِّ أَرْمَلَةٍ كَانَتْ يَوْمَ الْوَقْفِ أَوْ حَدَثَتْ سَوَاءٌ كُنَّ يُحْصَيْنَ أَوْ لَا ، وَهُوَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ بَالِغَةً ، فَمَنْ أُعْطِيَ مِنْهُنَّ أَجْزَأَ .
وَالْأَرْمَلَةُ الْمُسْتَحِقَّةُ : كُلُّ بَالِغَةٍ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَطَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ .
وَخَالَفُوا فِي الْأَيَامَى ، فَإِذَا وَقَفَ عَلَى أَيَامَى بَنِي فُلَانٍ وَبَعْدَهُنَّ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ أَيَامَى قَرَابَتِي إنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ ، فَالْوَقْفُ جَائِزٌ وَغَلَّتُهُ لِلْغَنِيَّةِ وَالْفَقِيرَةِ ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ لَمْ يَجُزْ الْوَقْفُ فَيَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ وَالْأَيِّمُ الْمُسْتَحِقَّةُ : كُلُّ أُنْثَى جُومِعَتْ وَلَوْ بِفُجُورٍ وَلَا زَوْجَ لَهَا بَالِغَةً أَوْ لَا .
وَلَوْ قَالَ عَلَى كُلِّ ثَيِّبٍ مِنْ بَنِي فُلَانٍ أَوْ مِنْ قَرَابَتِي فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ جَازَ لَهُنَّ وَلِكُلِّ مَنْ يَحْدُثُ مِنْهُنَّ ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ ؛ فِي وَقْتِ قِسْمَةٍ مِنْ الْقَسْمِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْغَلَّةُ لِلْمَسَاكِينِ .
وَالثَّيِّبُ : كُلُّ مَنْ جُومِعَتْ وَلَوْ بِفُجُورٍ وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ ، وَلِأَبْكَارِ قَرَابَتِي أَوْ بَنِي فُلَانٍ .
فَإِنْ كُنَّ يُحْصَيْنَ فَهُوَ لَهُنَّ وَلِمَنْ يَحْدُثُ أَبَدًا ، وَإِنْ كُنَّ لَا يُحْصَيْنَ فَالْوَقْفُ عَلَيْهِنَّ بَاطِلٌ وَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ .
وَالْبِكْرُ : مَنْ لَمْ تُجَامَعْ وَإِنْ كَانَتْ الْعُذْرَةُ زَائِلَةً .
وَفِي كُلِّ مَا لَا يُحْصَى مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَهُ الْوَقْفُ لَوْ قَيَّدَ فَقَالَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُنَّ جَازَ ، وَمَنْ أَعْطَى أَجْزَأَ كَالْوَقْفِ عَلَى الْأَقَارِبِ .
وَقَفَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ ثُمَّ الْمَسَاكِينِ دَخَلَ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِمَّنْ يُنَاسِبُهُ إلَى الْأَبِ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ أَسْلَمَ ذَلِكَ
الْأَبُ أَوْ لَا مِمَّنْ كَانَ مَوْجُودًا حَالَ الْوَقْفِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِأَقَلِّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَجِيءِ الْغَلَّةِ ، وَلَوْ كَانُوا مَرْقُوقِينَ لِقَوْمٍ أَوْ كُفَّارٍ أَوْ ذِمِّيِّينَ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَبُ وَيَدْخُلُ أَبُو الْوَاقِفِ وَأَجْدَادُهُ وَوَلَدُهُ لِصُلْبِهِ وَأَوْلَادُ الذُّكُورِ مِنْهُمْ وَإِنْ سَفَلُوا ، وَلَا تَدْخُلُ أَبْنَاءُ الْبَنَاتِ مِنْ وَلَدِهِ إلَّا إذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ مِمَّنْ يُنَاسِبُهُ إلَى ذَلِكَ الْجَدِّ الَّذِي أَدْرَكَ الْإِسْلَامَ ، وَلَا يَدْخُلُ الْوَاقِفُ وَلَا أَوْلَادُ عَمَّاتِهِ وَلَا أَوْلَادُ أَخَوَاتِهِ إذَا كَانَ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ .
وَقَوْلُهُ عَلَى آلِي وَجِنْسِي كَأَهْلِ بَيْتِي وَلَا يَخُصُّ الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ إلَّا إنْ خَصَّهُمْ ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ وَعَلَى مَنْ افْتَقَرَ مِنْهُمْ سَوَاءً ، حَيْثُ يَكُونُ لِمَنْ يَكُونُ فَقِيرًا وَقْتَ الْغَلَّةِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَقْتَ الْوَقْفِ ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَافْتَقَرَ عَلَى الصَّحِيحِ .
وَلَوْ وَقَفَ عَلَى قَرَابَتِهِ فَهُوَ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ إلَى أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ ، أَوْ إلَى أَقْصَى أَبٍ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ ، لَكِنْ لَا يَدْخُلُ أَبُو الْوَاقِفِ وَلَا أَوْلَادُهُ لِصُلْبِهِ .
وَفِي دُخُولِ الْجَدِّ رِوَايَتَانِ .
وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَا يَدْخُلُ ، وَيَدْخُلُ أَوْلَادُ الْبَنَاتِ وَأَوْلَادُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْأَجْدَادُ الْأَعْلَوْنَ وَالْجَدَّاتُ وَرَحِمِي وَأَرْحَامِي وَكُلِّ ذِي نَسَبٍ مِنِّي كَالْقَرَابَةِ .
وَعَلَى عِيَالِي يَدْخُلُ كُلُّ مَنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ مِنْ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالْجَدَّاتِ ، وَمَنْ كَانَ يَعُولُهُ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ وَغَيْرِ ذَوِي الرَّحِمِ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَلَوْ قَالَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى قَرَابَتِي فَهُوَ صَحِيحٌ وَتُصْرَفُ بَعْدَهُمْ لِمَنْ يُنَاسِبُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ ، وَلَوْ عَكَسَ فَقَالَ عَلَى قَرَابَتِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى أَهْلِ بَيْتِي لَمْ يَصِحَّ ، وَمِثْلُهُ
لَوْ قَالَ عَلَى إخْوَتِي فَإِذَا انْقَرَضُوا فَعَلَى إخْوَتِي لِأَبِي ، وَلَهُ إخْوَةٌ مُتَفَرِّقُونَ إذْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْكُلِّ لَا يَبْقَى لَهُ أَخٌ فَيَكُونُ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ لِلْمَسَاكِينِ وَعَلَى جِيرَانِهِ يَجُوزُ ، ثُمَّ هُمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُلَاصِقُونَ فَهُوَ لِجَمِيعِ مَنْ فِي كُلِّ دَارٍ لَاصَقَتْهُ مِنْ الْأَحْرَارِ ، وَلَوْ كَانُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ وَالْعَبِيدُ بِالسَّوِيَّةِ قَرُبَتْ الْأَبْوَابُ أَوْ بَعُدَتْ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُمْ الَّذِينَ تَجْمَعُهُمْ مَحَلَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ ، فَإِنْ جَمَعَتْهُمْ مَحَلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَتَفَرَّقُوا فِي مَسْجِدَيْنِ فَهِيَ مَحَلَّةٌ وَاحِدَةٌ إنْ كَانَ الْمَسْجِدَانِ صَغِيرَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ ، فَإِنْ تَبَاعَدَا وَكَانَ مَسْجِدًا عَظِيمًا جَامِعًا فَكُلُّ أَهْلِ مَسْجِدٍ جِيرَانٌ دُونَ الْآخَرِينَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُمْ الْمُلَازِقُونَ السُّكَّانَ سَوَاءٌ كَانُوا مَالِكِينَ لِلدَّارِ أَوْ لَا ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يَدْخُلُ الْأَرِقَّاءُ وَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ الْجِوَارِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَارِ بَطَلَ حَقُّهُ مِنْ الْوَقْفِ .
كِتَابُ الْبُيُوعِ قَالَ ( الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إذَا كَانَا بِلَفْظَيْ الْمَاضِي ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ ، وَالْإِنْشَاءُ يُعْرَفُ بِالشَّرْعِ وَالْمَوْضُوعُ لِلْإِخْبَارِ قَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ .
وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْآخَرُ لَفْظُ الْمَاضِي ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ .
وَقَوْلُهُ رَضِيت بِكَذَا أَوْ أَعْطَيْتُك بِكَذَا أَوْ خُذْهُ بِكَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَعْنَاهُ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ، وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ هُوَ الصَّحِيحُ لِتَحَقُّقِ الْمُرَاضَاةِ .
كِتَابُ الْبُيُوعِ عُرِفَ أَنَّ مَشْرُوعَاتِ الشَّارِعِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً ، وَحُقُوقِ الْعِبَادِ خَالِصَةً ، وَمَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّهُ تَعَالَى غَالِبٌ .
وَمَا اجْتَمَعَا فِيهِ وَحَقُّ الْعِبَادِ غَالِبٌ .
فَحُقُوقُهُ تَعَالَى عِبَادَاتٌ وَعُقُوبَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ ، فَابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى الْخَالِصَةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ أَنْوَاعِهَا ، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ ، ثُمَّ فِي تَرْتِيبِ خُصُوصِ بَعْضِ الْأَبْوَابِ عَلَى بَعْضِ مُنَاسَبَاتٍ خَاصَّةٍ ذُكِرَتْ فِي مَوَاضِعِهَا ، وَوَقَعَ فِي آخِرِهَا تَرْتِيبُ أَوَّلِ أَقْسَامِ حُقُوقِ الْعِبَادِ : أَعْنِي الْبَيْعَ عَلَى الْوَقْفِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَقْفَ إذَا صَحَّ خَرَجَ الْمَمْلُوكُ عَنْ مِلْكِ الْوَاقِفِ لَا إلَى مَالِكٍ .
وَفِي الْبَيْعِ إلَى مَالِكٍ فَنَزَلَ الْوَقْفُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَسِيطِ مِنْ الْمُرَكَّبِ ، وَالْبَسِيطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُرَكَّبِ فِي الْوُجُودِ فَقَدَّمَهُ فِي التَّعْلِيمِ ، هَكَذَا ذَكَرَ .
وَلَا يَخْفَى شُرُوعُهُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ زَمَانٍ ، فَإِنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اللُّقَطَةِ وَاللَّقِيطِ وَالْمَفْقُودِ وَالشَّرِكَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ .
ثُمَّ الْبَيْعُ مَصْدَرٌ ؛ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ فَيُجْمَعُ بِاعْتِبَارِهِ كَمَا يُجْمَعُ الْمَبِيعُ ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْأَصْلُ فَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَكُونُ سَلَمًا وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ ، وَقَلَبَهُ وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ ، وَصَرْفًا وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَنِ بِالثَّمَنِ ، وَمُقَابَضَةً وَهُوَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَبِخِيَارٍ وَمُنْجَزٍ أَوْ مُؤَجَّلِ الثَّمَنِ ، وَمُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً وَوَضِيعَةً وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَالْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ ، يُقَالُ بَاعَهُ : إذَا أَخَّرَ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ إلَيْهِ ، وَبَاعَهُ : أَيْ اشْتَرَاهُ ، وَيَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ وَبِالْحَرْفِ ، بَاعَ زَيْدٌ الثَّوْبَ وَبَاعَهُ مِنْهُ .
وَأَمَّا مَفْهُومُهُ لُغَةً وَشَرْعًا فَقَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ : الْبَيْعُ لُغَةً
: مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ ، وَكَذَا فِي الشَّرْعِ ، لَكِنْ زِيدَ فِيهِ قَيْدُ التَّرَاضِي ا هـ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّرَاضِيَ لَا بُدَّ مِنْهُ لُغَةً أَيْضًا ، فَإِنَّهُ لَا يُفْهَمُ مَنْ بَاعَهُ وَبَاعَ زَيْدٌ عَبْدَهُ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُبْدِلَ بِهِ بِالتَّرَاضِي ، وَأَنَّ الْأَخْذَ غَصْبًا وَإِعْطَاءَ شَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ تَرَاضٍ لَا يَقُولُ فِيهِ أَهْلُ اللُّغَةِ بَاعَهُ .
وَشَرْعِيَّةُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَالسُّنَّةُ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هَذَا يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ } وَبَعَثَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالنَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَقَرَّرَهُمْ عَلَيْهِ .
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَيْهِ .
وَسَبَبُ شَرْعِيَّتِهِ تَعَلُّقُ الْبَقَاءِ الْمَعْلُومِ فِيهِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ جَمِيلٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ اسْتَقَلَّ بِابْتِدَاءِ بَعْضِ حَاجَاتِهِ مِنْ حَرْثِ الْأَرْضِ ثُمَّ بَذْرِ الْقَمْحِ وَخِدْمَتِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَحَصْدِهِ وَدِرَاسَتِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ ثُمَّ تَنْظِيفِهِ وَطَحْنِهِ بِيَدِهِ وَعَجْنِهِ وَخَبْزِهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، وَفِي الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ لِلِبْسِهِ وَبِنَاءِ مَا يُظِلُّهُ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَدْفَعَهُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَيَبْتَدِئَ مُزَاوَلَةَ شَيْءٍ ، فَلَوْ لَمْ يُشَرَّعْ الْبَيْعُ سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ فِي الْبَدَلَيْنِ لَاحْتَاجَ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَى التَّغَالُبِ وَالْمُقَاهَرَةِ أَوْ السُّؤَالِ وَالشِّحَاذَةِ أَوْ يَصْبِرَ حَتَّى يَمُوتَ وَفِي كُلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَخْفَى مِنْ الْفَسَادِ .
وَفِي الثَّانِي مِنْ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ وَيُزْرِي بِصَاحِبِهِ .
فَكَانَ فِي شَرْعِيَّتِهِ بَقَاءُ الْمُكَلَّفِينَ الْمُحْتَاجِينَ وَدَفْعُ حَاجَتِهِمْ عَلَى النِّظَامِ الْحَسَنِ .
وَشَرْطُهُ فِي الْمُبَاشِرِ : التَّمْيِيزُ وَالْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ الْكَائِنَةُ عَنْ مِلْكٍ أَوْ وَكَالَةٍ أَوْ
وَصِيَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَيَصِحُّ بَيْعُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ اللَّذَيْنِ يَعْقِلَانِ الْبَيْعَ وَأَثَرَهُ .
وَفِي الْمَبِيعِ كَوْنُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا شَرْعًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ أَوْ فِي ثَانِي الْحَالِ فَيَدْخُلُ السَّلَمُ وَقَدْ قَالُوا شُرُوطُهُ : مِنْهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ وَالْوِلَايَةُ وَكَوْنُ الْمَبِيعِ مُتَقَوِّمًا .
وَمِنْهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ ، حَتَّى إذَا بَاعَ مِلْكَ غَيْرِهِ تَوَقَّفَ النَّفَاذُ عَلَى الْإِجَازَةِ مِمَّنْ لَهُ الْوِلَايَةُ .
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَالْفِعْلُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْبَدَلَيْنِ مِنْ الْمُتَخَاطِبَيْنِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمَا الدَّالُّ عَلَى الرِّضَا بِتَبَادُلِ الْمِلْكِ فِيهِمَا وَهَذَا مَفْهُومُ الِاسْمِ شَرْعًا .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لَفْظُ الْفِعْلِ قَوْلًا ، وَقَدْ يَكُونُ فِعْلًا غَيْرَ قَوْلٍ كَمَا فِي التَّعَاطِي كَمَا سَيَأْتِي ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّضَا ثَابِتًا ، وَقَدْ لَا يَكُونُ فَإِنَّ لَفْظَ بِعْت مَثَلًا لَيْسَ عِلَّةً لِثُبُوتِ الرِّضَا بَلْ أَمَارَةٌ عَلَيْهِ .
فَقَدْ يَتَحَقَّقُ مَعَ انْتِفَائِهِ كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ لِلْمَطَرِ ، فَكَذَا يَتَحَقَّقُ بِعْت وَاشْتَرَيْت وَلَا رِضَا كَمَا فِي الْمُكْرَهِ ، وَهَذَا عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّرَاضِي لَيْسَ جُزْءَ مَفْهُومِ الْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ بَلْ شَرْطُ ثُبُوتِ حُكْمِهِ شَرْعًا .
( قَوْلُهُ الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ) يَعْنِي إذَا سَمِعَ كُلٌّ كَلَامَ الْآخَرِ .
وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ لَمْ أَسْمَعْهُ وَلَيْسَ بِهِ وَقَدْ سَمِعَهُ مَنْ فِي الْمَجْلِسِ لَا يُصَدَّقُ ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْبَيْعِ هُنَا الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ الْخَاصُّ الْمَعْلُومُ حُكْمُهُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَجَعَلَهُمَا غَيْرَهُ يَثْبُتُ هُوَ بِهِمَا مَعَ أَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ إلَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ ؛ لِأَنَّهُمَا رُكْنَاهُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّ رُكْنَهُ الْفِعْلُ الدَّالُّ إلَى آخِرِهِ .
هَذَا وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْعِ هُنَا
لَيْسَ إلَّا نَفْسَ حُكْمِهِ لَا مَعْنَى لَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ ، وَمَا قِيلَ الْبَيْعُ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنًى شَرْعِيٍّ يَظْهَرُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حَتَّى يَكُونَ الْعَاقِدُ قَادِرًا عَلَى التَّصَرُّفِ لَيْسَ غَيْرُ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ قُدْرَةُ التَّصَرُّفِ .
فَالْمُتَحَقِّقُ مِنْ الشَّرْعِ لَيْسَ إلَّا ثُبُوتُ الْحُكْمِ الْمَعْلُومِ مِنْ تَبَادُلِ الْمِلْكَيْنِ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلَيْنِ : أَعْنِي الشَّطْرَيْنِ بِوَضْعِهِمَا سَبَبًا لَهُ شَرْعًا ، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ ثَالِثٌ ، فَالْمِلْكُ هُوَ قُدْرَةٌ يُثْبِتُهَا الشَّارِعُ ابْتِدَاءً عَلَى التَّصَرُّفِ فَخَرَجَ نَحْوُ الْوَكِيلِ .
فَإِذَا امْتَنَعَ أَنْ يُرَادَ الْفِعْلُ الْخَاصُّ لَزِمَ الْآخَرُ .
وَالْإِيجَابُ لُغَةً الْإِثْبَاتُ لِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ ، وَالْمُرَادُ هُنَا إثْبَاتُ الْفِعْلِ الْخَاصِّ الدَّالِ عَلَى الرِّضَا الْوَاقِعِ أَوَّلًا سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ الْبَائِعِ كَبِعْتُ أَوْ مِنْ الْمُشْتَرِي كَأَنْ يَبْتَدِئَ الْمُشْتَرِي فَيَقُولُ اشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ وَالْقَبُولُ الْفِعْلُ الثَّانِي ، وَإِلَّا فَكُلٌّ مِنْهُمَا إيجَابٌ ، أَيْ إثْبَاتٌ ، فَسُمِّيَ الْإِثْبَاتُ الثَّانِي بِالْقَبُولِ تَمْيِيزًا لَهُ عَنْ الْإِثْبَاتِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهُ يَقَعُ قَبُولًا وَرِضًا بِفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَحَيْثُ لَمْ تَصِحَّ إرَادَةُ اللَّفْظَيْنِ بِالْبَيْعِ بَلْ حُكْمُهُمَا وَهُوَ الْمِلْكُ فِي الْبَدَلَيْنِ وَجَبَ أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ يَنْعَقِدُ يَثْبُتُ : أَيْ الْحُكْمُ فَإِنَّ الِانْعِقَادَ إنَّمَا هُوَ لِلَّفْظَيْنِ لَا لِلْمِلْكِ أَيْ انْضِمَامُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ يَثْبُتُ أَثَرُهُ الشَّرْعِيُّ ، وَقَوْلُنَا فِي الْقَبُولِ إنَّهُ الْفِعْلُ الثَّانِي يُفِيدُ كَوْنَهُ أَعَمَّ مِنْ اللَّفْظِ وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ مِنْ الْفُرُوعِ مَا لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامِ بِدِرْهَمٍ فَأَكَلَهُ تَمَّ الْبَيْعُ وَأَكْلُهُ حَلَالٌ وَالرُّكُوبُ وَاللُّبْسُ بَعْدَ قَوْلِ الْبَائِعِ ارْكَبْهَا بِمِائَةٍ وَالْبَسْهُ بِكَذَا رِضًا بِالْبَيْعِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَبَضَهُ ، وَلَمْ يَقُلْ
شَيْئًا كَانَ قَبْضُهُ قَبُولًا ، بِخِلَافِ بَيْعِ التَّعَاطِي فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إيجَابٌ بَلْ قَبْضٌ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ فَقَطْ وَسَيَأْتِي ، فَفِي جَعْلِ مَسْأَلَةِ الْقَبْضِ بَعْدَ قَوْلِهِ بِعْتُكَ بِأَلْفٍ مِنْ صُوَرِ التَّعَاطِي كَمَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ نَظَرٌ .
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ : اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا بِكَذَا فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى هَؤُلَاءِ فَفَعَلَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ ، وَكَذَا اشْتَرَيْت مِنْك هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَاقْطَعْهُ لِي قَمِيصًا فَقَطَّعَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ .
وَقَوْلُهُ ( إذَا كَانَا بِلَفْظِ الْمَاضِي مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْت وَالْآخَرُ اشْتَرَيْت ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّ الْبَيْعَ إنْشَاءُ تَصَرُّفٍ ) أَيْ إثْبَاتُ تَصَرُّفٍ يُفِيدُ حُكْمًا يَثْبُتُ جَبْرًا ( وَالْإِنْشَاءُ ) عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا ( يُعْرَفُ ) إلَّا ( بِالشَّرْعِ ) لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ مَعْنًى يَكُونُ اللَّفْظُ عِلَّةً لَهُ ، وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إنَّمَا لَهُ قُدْرَةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْكَائِنِ أَوْ مَا سَيَكُونُ وَطَلَبُهُ ، فَقَوْلُهُمْ مِنْ الْإِنْشَاءِ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالْقَسَمُ وَالِاسْتِفْهَامُ اصْطِلَاحٌ فِي تَسْمِيَةِ مَا لَا خَارِجَ لِمَعْنَاهُ يُطَابِقُهُ أَوْ لَا يُطَابِقُهُ إنْشَاءٌ ، وَهُوَ يَعُمُّ مَا ذُكِرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا يُبَايِنُهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ لَعَلَّ زَيْدًا يَأْتِي وَلَيْتَ لِي مَالًا لَيْسَ عِلَّةً لِتَرَجِّي ذَلِكَ أَوْ تَمَنِّيهِ بَلْ دَالٌّ عَلَى التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي الْقَائِمَيْنِ بِالْمُتَكَلِّمِ كَأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ قِيَامِهِمَا بِهِ ، غَيْرَ أَنَّ أَهْلَ الِاصْطِلَاحِ لَا يُسَمُّونَهُ إخْبَارًا لِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ بِعْت وَطَالِقٌ فَإِنَّهُ عِلَّةٌ تَثْبُتُ بِهِ شَرْعًا مَعَانٍ لَا قُدْرَةَ لِلْمُتَكَلِّمِ عَلَى إثْبَاتِهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْشَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَوَاءٌ سُمِّيَ غَيْرُهُ إنْشَاءً اصْطِلَاحًا أَوْ لَا ، وَإِذَا كَانَ الْإِنْشَاءُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ ، وَلَمْ يُوضَعْ لَهُ
فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ يَخُصُّهُ .
وَالشَّرْعُ اسْتَعْمَلَ فِي إثْبَاتِهِ مِنْ اللُّغَةِ لَفْظَ الْخَبَرِ : أَيْ وَضَعَهُ عِلَّةً لِإِثْبَاتِهِ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ فَيَنْعَقِدُ : أَيْ يَثْبُتُ بِهِ .
وَأَمَّا تَعْلِيلُهُ بِأَنَّ لَفْظَ الْمَاضِي أَدَلُّ عَلَى الْوُجُودِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِتَحَقُّقِ الْوُجُودِ سَابِقًا فَاخْتِيرَ لَهُ فَرُبَّمَا يُعْطَى قَصْرَ الْعِلِّيَّةِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ الْوَجْهُ أَنَّهُ تَعْلِيلُ أَوْلَوِيَّةِ لَفْظِ الْمَاضِي بِأَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ كَمَا سَتَسْمَعُ ( قَوْلُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا لَفْظُ الْمُسْتَقْبَلِ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ ) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ زَوِّجْنِي فَقَالَ زَوَّجْتُك يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ ، أَمَّا الْبَيْعُ فَإِذَا قَالَ بِعْنِيهِ بِأَلْفٍ فَقَالَ بِعْتُك لَا يَنْعَقِدُ حَتَّى يَقُولَ الْأَوَّلُ اشْتَرَيْت وَنَحْوَهُ ، وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِمَّا قَالَ الطَّحَاوِيُّ إنَّهُ يَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ .
قَالَ ( وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ هُنَاكَ ) يَعْنِي قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ : يَعْنِي زَوِّجْنِي ، فَإِذَا قَالَ زَوَّجْتُك كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ مُزَوِّجًا لَهُ وَوَلِيًّا لِمَنْ زَوَّجَهَا وَالْوَاحِدُ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
وَقَدَّمْنَا مَنْ قَالَ إنَّ لَفْظَةَ الْأَمْرِ فِي النِّكَاحِ جُعِلَتْ إيجَابًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يُصَرَّحُ بِالْخِطْبَةِ فِيهِ ، وَطَلَبُهُ إلَّا بَعْدَ مُرَاجَعَاتٍ وَتَأَمُّلٍ وَاسْتِخَارَةٍ غَالِبًا فَلَا يَكُونُ لَفْظُ طَلَبِهِ : أَعْنِي زَوِّجْنِي مُسَاوَمَةً بَلْ تَحْقِيقًا فَاعْتُبِرَ إيجَابًا .
بِخِلَافِ الْبَيْعِ لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِمِثْلِ ذَلِكَ فَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ مُسَاوَمَةً فَلَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ جَوَابِ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَتِمُّ فَرْقُ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَوْنِهِ تَوْكِيلًا .
وَأَمَّا الْفَرْقُ بِأَنَّ رَدَّ النِّكَاحِ بَعْدَ إيجَابِهِ يُلْحِقُ الشَّيْنَ بِالْأَوْلِيَاءِ ، بِخِلَافِ رَدِّ الْبَيْعِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَعْلِ الْأَمْرِ
فِيهِ إيجَابًا .
ثُمَّ فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَزِمَ امْتِنَاعُ رُجُوعِهِ بَعْدَ قَوْلِهِ زَوِّجْنِي بِنْتَك قَبْلَ قَوْلِهِ زَوَّجْتُك ؛ لِأَنَّهُ أَيْضًا شَيْنٌ وَانْكِسَارٌ يَلْحَقُهُمْ .
وَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ مَوَاضِعَ : مِنْهَا الْبَيْعُ ، وَالْإِقَالَةُ لَا يُكْتَفَى بِالْأَمْرِ فِيهِمَا عَنْ الْإِيجَابِ .
وَمِنْهَا النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ يَقَعُ فِيهِمَا إيجَابًا .
الْخَامِسَةُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ نَفْسَك مِنِّي بِأَلْفٍ فَقَالَ فَعَلْت عَتَقَ .
السَّادِسَةُ فِي الْهِبَةِ قَالَ هَبْ لِي هَذَا فَقَالَ وَهَبْته مِنْك تَمَّتْ الْهِبَةُ .
السَّابِعَةُ قَالَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَبْرِئْنِي عَمَّا لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ فَقَالَ أَبْرَأْتُك تَمَّتْ الْبَرَاءَةُ .
الثَّامِنَةُ الْكَفَالَةُ قَالَ اُكْفُلْ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِفُلَانٍ قَالَ كَفَلْت تَمَّتْ الْكَفَالَةُ ، فَإِذَا كَانَ غَائِبًا فَقَدَّمَ وَأَجَازَ كَفَالَتَهُ جَازَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ عَدَمَ الِانْعِقَادِ بِالْمُسْتَقْبَلِ هُوَ إذَا لَمْ يَتَصَادَقَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِ ، أَمَّا إذَا تَصَادَقَا عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ فَيَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِقْبَالِ تَحْتَمِلُ الْحَالَ فَيَثْبُتُ بِالنِّيَّةِ .
ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ فِي صِفَةِ الِاسْتِقْبَالِ مُطْلَقًا .
وَفِي الْكَافِي قَصَرَ الْكَلَامَ عَلَى الْمُضَارِعِ فَقَالَ : الصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ فِي الْأَصْلِ مَوْضُوعٌ لِلْحَالِ وَوُقُوعُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ نَوْعُ تَجَوُّزٍ ا هـ .
وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ إذَا ادَّعَاهُ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ الْأَمْرُ ، فَلَوْ ادَّعَى فِي قَوْلِهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَرَادَ مَعْنَى اشْتَرَيْته بِكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ الْقَاضِي ؛ مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : أَبِيعُ مِنْك هَذَا بِكَذَا أَوْ أُعْطِيكَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْته أَوْ آخُذُهُ وَنَوَيَا الْإِيجَابَ لِلْحَالِ ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ بِنِيَّةِ الْحَالِ هُوَ الْمُضَارِعُ وَتَسْمِيَتُهُ مُسْتَقْبَلًا عَلَى
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَإِلَّا فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْحَالِ ، وَأَمَّا الْأَمْرُ فَلَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ التَّمْثِيلُ بِهِ لِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَقْبَلُ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِخْبَارِ كَمَالُ انْقِطَاعٍ فَلَا يَتَجَوَّزُ بِهِ فِيهِ ، فَلَا يُقَالُ بِعْنِيهِ وَالْمُرَادُ اشْتَرَيْته فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ إلَّا فِي قَوْلِهِ خُذْهُ بِكَذَا فَيَنْعَقِدُ لِثُبُوتِهِ الْإِيجَابَ اقْتِضَاءً ، وَمِثْلُ الْأَمْرِ الْمُضَارِعُ الْمَقْرُونُ بِالسِّينِ نَحْوَ سَأَبِيعُك فَلَا يَصِحُّ بَيْعًا وَلَا يَتَجَوَّزُ بِهِ فِي مَعْنَى بِعْتُك فِي الْحَالِ .
فَإِنَّ ذِكْرَ السِّينِ يُنَاقِضُ إرَادَةَ الْحَالِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَ الْوَاحِدِ لَا يَتَوَلَّى طَرَفَيْ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ مَخْصُوصٌ مِنْهُ الْأَبُ يَشْتَرِي مَالَ ابْنِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَبِيعُ مَالَهُ مِنْهُ ، وَالْوَصِيُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا اشْتَرَى لِلْيَتِيمِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِنَفْسِهِ مِنْهُ بِشَرْطِهِ الْمَعْرُوفِ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ ، وَقَيَّدَهُ فِي نَظْمِ الزندويستي بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي ( قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ رَضِيت ) هَذَا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ بِعْتُكَهُ ، وَقَالَ اشْتَرَيْته بِدِرْهَمٍ فَقَالَ رَضِيت أَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا فَقَالَ فَعَلْت أَوْ أَجَزْت أَوْ أُخِذَتْ كُلُّ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ قِبَلِ الْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي يَتِمُّ بِهَا الْبَيْعُ لِإِفَادَتِهَا إثْبَاتَ الْمَعْنَى وَالرِّضَا بِهِ ، وَكَذَا لَفْظَةُ خُذْهُ بِكَذَا يَنْعَقِدُ بِهِ إذَا قَبِلَ بِأَنْ قَالَ أَخَذْته وَنَحْوَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبَلًا لَكِنَّ خُصُوصَ مَادَّتِهِ : أَعْنِي الْأَمْرَ بِالْأَخْذِ يَسْتَدْعِي سَابِقَةَ الْبَيْعِ فَكَانَ كَالْمَاضِي ، إلَّا أَنَّ اسْتِدْعَاءَ الْمَاضِي سَبَقَ الْبَيْعَ بِحَسَبِ الْوَضْعِ وَاسْتِدْعَاءَ خُذْهُ سَبَقَهُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ، فَهُوَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُك عَبْدِي هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ ، وَيَثْبُتُ اشْتَرَيْت اقْتِضَاءً ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هُوَ حُرٌّ بِلَا فَاءٍ لَا يُعْتَقُ .
وَإِنَّمَا صَحَّ
بِهَذِهِ وَنَحْوِهَا ( لِأَنَّهَا تُؤَدِّي مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَالْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ) أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالُوا لَوْ قَالَ : وَهَبْتُك أَوْ وَهَبْت لَك هَذِهِ الدَّارَ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ بِثَوْبِك هَذَا فَرَضِيَ فَهُوَ بَيْعٌ بِالْإِجْمَاعِ .
قَالُوا : إنَّمَا قَالَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ احْتِرَازٌ عَنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّ اللَّفْظَ فِيهِمَا يُقَامُ مَقَامَ الْمَعْنَى ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إقَامَةَ اللَّفْظِ مَقَامَ الْمَعْنَى أَثَرٌ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ بِلَا نِيَّةٍ لَيْسَ غَيْرُ ، فَإِذَا فَارَقَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ ذَلِكَ اقْتَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِلَا نِيَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ حُكْمُهُ إلَّا إذَا أَرَادَهُ بِهِ ، وَحِينَئِذٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ بِعْت وَأَبِيعُ فِي تَوَقُّفِ الِانْعِقَادِ بِهِ عَلَى النِّيَّةِ وَلِذَا لَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ بِعْت هَزْلًا فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمَاضِي وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمُسْتَقْبَلِ ، ثُمَّ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَغَيْرِهِ بِالنِّيَّةِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ بِالْمَاضِي وَغَيْرِهِ بِلَا نِيَّةٍ وَمِنْ الصُّوَرِ لَفْظَةُ نَعَمْ تَقَعُ إيجَابًا فِي قَوْلِ الْمُسْتَفْهِمِ أَتَبِيعُنِي عَبْدَك بِأَلْفٍ ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ أَخَذْته فَهُوَ بَيْعٌ لَازِمٌ ، وَكَذَا أَبِيعُك .
وَمِنْهَا اشْتَرَيْته مِنْك بِأَلْفٍ فَقَالَ نَعَمْ أَوْ هَاتِ الثَّمَنَ انْعَقَدَ ، وَكَذَا إذَا قَالَ هَذَا عَلَيْك بِأَلْفٍ فَقَالَ فَعَلْت ؛ وَلَوْ قَالَ هُوَ لَك بِأَلْفٍ إنْ وَافَقَك أَوْ إنْ أَعْجَبَك ، أَوْ إنْ أَرَدْت فَقَالَ وَافَقَنِي أَوْ أَعْجَبَنِي أَوْ أَرَدْت انْعَقَدَ ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا بَعْدَ وُجُودِ مُقَدِّمَاتِ الْبَيْعِ فَقَالَ اشْتَرَيْت ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْك صَحَّ ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الثَّمَنِ إنْ أَدَّيْت ثَمَنَهُ فَقَدْ بِعْته مِنْك فَأَدَّى فِي الْمَجْلِسِ جَازَ اسْتِحْسَانًا .
[ فُرُوعٌ : فِي اخْتِلَافِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ] قَالَ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ فَقَالَ اشْتَرَيْته بِأَلْفَيْنِ جَازَ ،
فَإِنْ قَبِلَ الْبَائِعُ الزِّيَادَةَ ثُمَّ بِأَلْفَيْنِ وَالْأَصَحُّ بِأَلْفٍ إذْ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إدْخَالِ الزِّيَادَةِ فِي مِلْكِهِ بِلَا رِضَاهُ ؛ وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْته بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْتُكَهُ بِأَلْفٍ جَازَ كَأَنَّهُ قَبِلَ بِأَلْفَيْنِ وَحَطَّ عَنْهُ أَلْفًا ، وَلَوْ سَاوَمَهُ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ بِعِشْرِينَ فَقَبَضَهُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ لَزِمَ بِعَشَرَةٍ ، فَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ فَذَهَبَ بِهِ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ فَبِعِشْرِينَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : يَلْزَمُ بِآخِرِهِمْ كَلَامًا مُطْلَقًا .
وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفٍ بِعْتُكَهُ بِأَلْفَيْنِ فَقَالَ قَبِلْت الْأَوَّلَ بِأَلْفٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ رَجَعَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ هَكَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَإِنْ قَالَ قَبِلْت الْبَيْعَيْنِ جَمِيعًا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ فَهُوَ كَقَوْلِهِ قَبِلْت الْآخَرَ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ : يَعْنِي يَكُونُ الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ وَالْأَلْفُ زِيَادَةٌ إنْ شَاءَ قَبِلَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا ، وَكَذَا بِأَلْفٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الثَّانِي ، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ الثَّمَنَانِ وَالْأَوَّلُ فِي الزِّيَادَاتِ وَهُوَ أَوْجَهُ ، وَإِذَا قَبِلَ الزِّيَادَةَ فِي الْمَجْلِسِ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ ) أَيْ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَعْنَى يَنْعَقِدُ ( بِالتَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ ) قِيلَ النَّفِيسُ نِصَابُ السَّرِقَةِ فَصَاعِدًا وَالْخَسِيسُ مَا دُونَهُ ( وَقَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) احْتِرَازٌ مِنْ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالتَّعَاطِي فِي الْخَسِيسِ فَقَطْ ، وَأَرَادَ بِالْخَسِيسِ الْأَشْيَاءَ الْمُحْتَقَرَةَ كَالْبَقْلِ وَالرَّغِيفِ وَالْبِيضِ وَالْجَوْزِ اسْتِحْسَانًا لِلْعَادَةِ .
قَالَ أَبُو مُعَاذٍ : رَأَيْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ جَاءَ إلَى صَاحِبِ الرُّمَّانِ فَوَضَعَ عِنْدَهُ فَلْسًا ، وَأَخَذَ رُمَّانَةً وَلَمْ يَتَكَلَّمْ وَمَضَى .
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَعْنَى وَهُوَ دَلَالَةٌ عَلَى التَّرَاضِي يَشْمَلُ الْكُلَّ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلَا مَعْنَى
لِلتَّفْصِيلِ .
وَفِي الْإِيضَاحِ : هُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ ا هـ .
وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِفَخْرِ الْإِسْلَامِ فِي رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ : بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ فَاشْتَرَاهُ لَهُ ، ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ أَنَا أَمَرْته ، قَالَ يَأْخُذُهُ فُلَانٌ ، فَإِنْ قَالَ لَمْ آمُرْهُ ، وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ ، فَإِنْ سَلَّمَهُ وَأَخَذَهُ الَّذِي اشْتَرَاهُ لَهُ كَانَ بَيْعًا لِلَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَكَأَنَّ الْعُهْدَةَ عَلَيْهِ : أَيْ لِلْآخِذِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ التَّعَاطِي فِي النَّفِيسِ .
وَفِي الْمُنْتَقَى : لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ لِلَّذِي لَهُ الْمَالُ أَعْطَيْتُك بِمَالِك دَنَانِيرَ فَسَاوَمَهُ بِالدَّنَانِيرِ ، وَلَمْ يَقَعْ بَيْعٌ ثُمَّ فَارَقَهُ فَجَاءَهُ بِهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِ يُرِيدُ الَّذِي كَانَ سَاوَمَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَلَمْ يَسْتَأْنِفْ بَيْعًا جَازَ هَذِهِ السَّاعَةَ ، وَكَذَا لَوْ سَاوَمَ رَجُلًا بِشَيْءٍ وَلَيْسَ مَعَهُ وِعَاءٌ ، ثُمَّ فَارَقَهُ وَجَاءَ بِالْوِعَاءِ فَأَعْطَاهُ الثَّمَنَ وَكَالَ لَهُ جَازَ .
وَمِنْ صُوَرِهِ إذَا جَاءَ الْمُودَعُ بِأَمَةٍ غَيْرَ الْمُودَعَةِ وَقَالَ : هَذِهِ أَمَتُك وَالْمُودَعُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ إيَّاهَا ، وَحَلَفَ فَأَخَذَهَا حَلَّ الْوَطْءُ لِلْمُودِعِ وَلِلْأَمَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَوْ قَالَ لِلْخَيَّاطِ لَيْسَتْ هَذِهِ بِطَانَتِي فَحَلَفَ الْخَيَّاطُ أَنَّهَا هِيَ وَسِعَهُ أَخْذُهَا ، وَمِنْهَا قَوْلُ الدَّلَّالِ لِلْبَزَّازِ هَذَا الثَّوْبُ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ ضَعْهُ .
وَفِي أَجْنَاسِ النَّاطِفِيِّ : لَوْ قَالَ بِكَمْ تَبِيعُ قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَقَالَ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ اعْزِلْهُ فَعَزَلَهُ فَهُوَ بَيْعٌ .
وَكَذَا لَوْ قَالَ لِلْقَصَّابِ مِثْلَهُ فَوَزَنَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ فَهُوَ بَيْعٌ .
حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْقَصَّابُ مِنْ دَفْعِ الثَّمَنِ وَأَخْذِ اللَّحْمِ ، أَوْ امْتَنَعَ الْقَصَّابُ مِنْ دَفْعِ اللَّحْمِ أَجْبَرَهُمَا
الْقَاضِي .
وَكَذَا إذَا قَالَ زِنْ لِي مَا عِنْدَك مِنْ اللَّحْمِ عَلَى حِسَابِ ثَلَاثَةِ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ فَوَزَنَ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ زِنْ لِي ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ فَوَزَنَهَا لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مِنْ هَذَا الْجَنْبِ وَمِنْ هَذَا الْفَخِذِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِمَنْ جَاءَ بِوَقْرِ بِطِّيخٍ فِيهِ الْكِبَارُ وَالصِّغَارُ بِكَمْ عَشَرَةٍ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ بِدِرْهَمٍ فَعَزَلَ عَشَرَةً ، وَاخْتَارَهَا فَذَهَبَ بِهَا وَالْبَائِعُ يَنْظُرُ ، أَوْ عَزَلَ الْبَائِعُ عَشَرَةً فَقَبِلَهَا الْمُشْتَرِي تَمَّ الْبَيْعُ .
وَاخْتُلِفَ فِي أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ شَرْطٌ فِي بَيْعِ التَّعَاطِي أَوْ أَحَدُهُمَا كَافٍ ، وَالصَّحِيحُ الثَّانِي .
وَنَصَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ بَيْعَ التَّعَاطِي يَثْبُتُ بِقَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَهَذَا يَنْتَظِمُ الثَّمَنُ وَالْمَبِيعُ .
وَنَصُّهُ فِي الْجَامِعِ عَلَى أَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ يَكْفِي لَا يَنْفِي الْآخَرَ .
وَمِنْهَا لَوْ رَدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ ، وَالْبَائِعُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ فَأَخَذَهَا وَرَضِيَ فَهُوَ بَيْعٌ بِالتَّعَاطِي
قَالَ ( وَإِذَا ) ( أَوْجَبَ ) أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْخِيَارُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِذَا لَمْ يَفْسُدْ لِحُكْمٍ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ فَلِلْمُوجِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ قَبْلَ قَبُولِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَإِنَّمَا يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ جَامِعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فَاعْتُبِرَتْ سَاعَاتُهُ سَاعَةً وَاحِدَةً دَفْعًا لِلْعُسْرِ وَتَحْقِيقًا لِلْيُسْرِ ، وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ ، إلَّا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ صَفَقَاتُ مَعْنًى .
قَالَ ( وَأَيُّهُمَا قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْقَبُولِ بَطَلَ الْإِيجَابُ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ ) وَالرُّجُوعِ ، وَلَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ فَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ ، وَهَذَا خِيَارُ الْقَبُولِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ ) وَلِلْمُوجِبِ أَيُّهُمَا كَانَ بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ عَنْ الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقٌّ يُبْطِلُهُ الْآخَرُ بِلَا مُعَارِضٍ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهُ بَعْدَ الْإِيجَابِ حَقُّ التَّمَلُّكِ ، وَالْمُوجِبُ هُوَ الَّذِي أَثْبَتَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فَلَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ ؛ وَلَوْ سَلَّمَ فَلَا يُعَارِضُ حَقُّ التَّمَلُّكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ الرُّجُوعُ لَزِمَ تَعْطِيلُ حَقِّ الْمِلْكِ بِحَقِّ التَّمَلُّكِ ، وَدَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ تَنْفِيهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ التَّمَلُّكِ لِمَالِ وَلَدِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَبْلَ تَمَلُّكِهِ بِالْفِعْلِ كَانَ لِلْوَلَدِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ ، وَلَوْ صَادَفَ رَدُّ الْبَائِعِ قَبُولَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ .
وَأَوْرَدَ فِي الْكَافِي الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ لَيْسَ لَهُ حَقُّ اسْتِرْدَادِهَا لِثُبُوتِ حَقِّ التَّمَلُّكِ لِلْفَقِيرِ .
وَحَاصِلُ جَوَابِهِ أَنَّ الْأَصْلَ الْمُوجِبَ لِلدَّفْعِ قَائِمٌ وَهُوَ النِّصَابُ ، وَإِنَّمَا الْفَائِتُ وَصْفُهُ وَهُوَ النَّمَاءُ فَبَعْدَ أَخْذِ السَّبَبِ حُكْمَهُ تَمَّ الْأَمْرُ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يُوجَدْ الْأَصْلُ بَلْ شَطْرُهُ فَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ مَوْجُودًا .
وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مَا دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ حَتَّى اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ لَا يَنْعَقِدُ ، وَاخْتِلَافُهُ بِاعْتِرَاضِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ وَنَحْوِهِ .
أَمَّا لَوْ قَامَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَذْهَبْ فَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ وَعَلَيْهِ مَشَى جَمْعٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْقَبُولُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ قَامَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ : يَعْنِي الْإِيجَابَ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ .
فَإِنْ قِيلَ : الصَّرِيحُ أَقْوَى مِنْ الدَّلَالَةِ ، فَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْقِيَامِ قَبِلْت يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ
الْإِعْرَاضُ .
قُلْنَا : الصَّرِيحُ إذَا كَانَ أَقْوَى وَيُعْمَلُ إذَا بَقِيَ الْإِيجَابُ بَعْدَ قِيَامِهِ ، وَهُنَا لَمْ يَبْقَ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَبْقَى اللَّفْظُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ ، وَلَا يَجْتَمِعُ قَوْلُهُ قَبِلْت بِهِ إلَّا أَنَّ لِلْمَجْلِسِ أَثَرًا فِي جَمْعِ الْمُتَفَرِّقَاتِ وَبِالْقِيَامِ لَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ : إذَا قَامَ الْبَائِعُ وَلَمْ يَذْهَبْ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ قَبِلَ الْمُشْتَرِي صَحَّ ، وَإِلَيْهِ أُشِيرُ فِي جَمْعِ التَّفَارِيقِ ، وَهَذَا شَرْحٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي وَأَيُّهُمَا قَامَ إلَى آخِرِهِ ، وَعَلَى اشْتِرَاطِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ مَا إذَا تَبَايَعَا ، وَهُمَا يَمْشِيَانِ أَوْ يَسِيرَانِ لَوْ كَانَا عَلَى دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ فَأَجَابَ الْآخَرُ لَا يَصِحُّ لِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ كَالطَّحَاوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ إنْ أَجَابَ عَلَى فَوْرِ كَلَامِهِ مُتَّصِلًا جَازَ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ عَنْ النَّوَازِلِ : إذَا أَجَابَ بَعْدَمَا مَشَى خُطْوَةً أَوْ خُطْوَتَيْنِ جَازَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا يَمْشِيَانِ مَشْيًا مُتَّصِلًا لَا يَقَعُ الْإِيجَابُ إلَّا فِي مَكَان آخَرَ بِلَا شُبْهَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُخَاطَبُ فِي صَلَاةِ فَرِيضَةٍ فَفَرَغَ مِنْهَا وَأَجَابَ صَحَّ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ فِي نَافِلَةٍ فَضَمَّ إلَى رَكْعَةِ الْإِيجَابِ أُخْرَى ثُمَّ قَبِلَ جَازَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْمَلَهَا أَرْبَعًا .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ كُوزٌ فَشَرِبَ ثُمَّ أَجَابَ جَازَ ، وَكَذَا لَوْ أَكَلَ لُقْمَةً لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ إلَّا إذَا اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ ، وَلَوْ نَامَا جَالِسَيْنِ لَا يَخْتَلِفُ ، وَلَوْ مُضْطَجِعَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهِيَ فُرْقَةٌ .
وَالسَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ ، فَلَوْ عَقَدَا وَهِيَ تَجْرِي فَأَجَابَ الْآخَرُ لَا يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ بِجَرَيَانِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ إيقَافَهَا .
وَقِيلَ يَجُوزُ فِي الْمَاشِيَيْنِ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِذَاتَيْهِمَا ، أَمَّا الْمَسِيرُ بِلَا افْتِرَاقٍ فَلَا ، وَهَكَذَا فِي خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ بِخِلَافِ سَجْدَةِ
التِّلَاوَةِ ، وَلَوْ قَالَ بِعْتُك بِأَلْفٍ ثُمَّ قَالَ لِآخَرَ بِعْتُك بِأَلْفٍ فَقَبِلَا فَهِيَ لِلثَّانِي لَا لِلْأَوَّلِ .
وَلَوْ قَالَ بِعْتُكَهُ بِكَذَا فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى قَامَ الْبَائِعُ فِي حَاجَةٍ بَطَلَ ( قَوْلُهُ وَالْكِتَابُ كَالْخِطَابِ ، وَكَذَا الْإِرْسَالُ حَتَّى اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ بُلُوغِ الْكِتَابِ وَأَدَاءِ الرِّسَالَةِ ) فَصُورَةُ الْكِتَابِ أَنْ يَكْتُبَ : أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ بِعْت عَبْدِي مِنْك بِكَذَا .
فَلَمَّا بَلَغَهُ الْكِتَابُ وَفَهِمَ مَا فِيهِ قَالَ قَبِلْت فِي الْمَجْلِسِ انْعَقَدَ ، وَالرِّسَالَةُ أَنْ يَقُولَ : اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ وَقُلْ لَهُ إنَّ فُلَانًا بَاعَ عَبْدَهُ فُلَانًا مِنْك بِكَذَا فَجَاءَ فَأَخْبَرَهُ فَأَجَابَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ بِالْقَبُولِ .
وَكَذَا إذَا قَالَ بِعْت عَبْدِي فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا فَاذْهَبْ يَا فُلَانُ فَأَخْبِرْهُ فَذَهَبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَبِلَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّسُولَ نَاقِلٌ ، فَلَمَّا قَبِلَ اتَّصَلَ لَفْظُهُ بِلَفْظِ الْمُوجِبِ حُكْمًا ، فَلَوْ بَلَّغَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَقَبِلَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَسُولًا بَلْ فُضُولِيًّا ، وَلَوْ كَانَ قَالَ بَلِّغْهُ يَا فُلَانُ فَبَلَّغَهُ غَيْرُهُ فَقَبِلَ جَازَ .
وَلَوْ كَانَ الْمَكْتُوبُ بِعْنِيهِ بِكَذَا فَكَتَبَ بِعْتُكَهُ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَقُلْ الْأَوَّلُ قَبِلْت .
وَأَمَّا مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ كَتَبَ إلَيْهِ يَعْنِي بِكَذَا فَقَالَ بِعْته يَتِمُّ الْبَيْعُ ، فَلَيْسَ مُرَادُ مُحَمَّدٍ هُنَا مِنْ هَذَا سِوَى الْفَرْقِ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فِي شَرْطِ الشُّهُودِ لَا بَيَانَ اللَّفْظِ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ .
وَقِيلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فَبِعْنِي مِنْ الْحَاضِرِ يَكُونُ اسْتِيَامًا عَادَةً ، وَأَمَّا مِنْ الْغَائِبِ بِالْكِتَابَةِ فَيُرَادُ بِهِ أَحَدُ شَطْرَيْ الْعَقْدِ ، هَذَا وَيَصِحُّ رُجُوعُ الْكَاتِبِ وَالْمُرْسِلِ عَنْ الْإِيجَابِ الَّذِي كَتَبَهُ وَأَرْسَلَهُ قَبْلَ بُلُوغِ الْآخَرِ وَقَبُولِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ الْآخَرُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، حَتَّى لَوْ قَبِلَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ ثُمَّ
عَزَلَ الْوَكِيلَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ ، فَإِنَّهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ بِالْعَزْلِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَبَيْعُهُ نَافِذٌ ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْهِبَةِ وَالْكِتَابَةِ ، فَأَمَّا الْخُلْعُ وَالْعِتْقُ عَلَى مَالٍ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ شَطْرُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ بِالْإِجْمَاعِ إذَا كَانَا غَائِبَيْنِ عَلَى الْقَبُولِ فِي مَجْلِسِ بُلُوغِ الْخَبَرِ ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ خَالَعْتُ زَوْجِي وَهُوَ غَائِبٌ ، أَوْ يَقُولَ الْعَبْدُ قَبِلْت عِتْقَ سَيِّدِي الْغَائِبِ عَلَى أَلْفٍ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْإِجْمَاعِ .
وَفِي النِّكَاحِ مَرَّ الْخِلَافُ ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَتَوَقَّفُ وَعِنْدَهُمَا لَا ( قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ إلَى آخِرِهِ ) يَعْنِي إلَّا أَنْ يَرْضَى الْآخَرُ بِذَلِكَ بَعْدَ قَبُولِهِ فِي الْبَعْضِ ، وَيَكُونُ الْمَبِيعُ مِمَّا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِ بِالْإِجْزَاءِ كَعَبْدٍ وَاحِدٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَنْقَسِمُ إلَّا بِالْقِيمَةِ كَثَوْبَيْنِ وَعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَبِلَ الْآخَرُ .
وَلْنَتَكَلَّمْ عَلَى عِبَارَةِ الْكِتَابِ هُنَا فَإِنَّهَا مِمَّا وَقَعَ فِيهَا تَجَاذُبٌ فَنَقُولُ : الظَّاهِرُ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنَّ ضَمِيرَ لَهُ فِي وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا أَوْجَبَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْبَيْعَ أَوْ لِلْآخَرِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ أَعَمَّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، فَمَعْنَاهُ فِي الْبَائِعِ : أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بِأَنْ قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الْأَثْوَابَ أَوْ هَذَا الثَّوْبَ بِعَشَرَةٍ ، فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ مِنْ أَثْوَابٍ أَوْ الثَّوْبِ لِعَدَمِ رِضَا الْآخَرِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ غَرَضُهُ بِالْجُمْلَةِ بِسَبَبِ حَاجَتِهِ إلَى الْكُلِّ وَيَعْسُرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ بَاقِي الْأَثْوَابِ لِعِزَّتِهَا وَبَعْضُهَا لَا يَقُومُ بِحَاجَتِهِ ، فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْبَيْعَ فِي الْبَعْضِ انْصَرَفَ مَالُهُ وَلَمْ
تَنْدَفِعْ حَاجَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ .
وَأَمَّا فِي الْمُشْتَرِي فَمَعْنَاهُ : إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِهِ إذْ قَدْ يَتَضَرَّرُ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنْ يَضُمَّ الْبَائِعُونَ الْجَيِّدَ إلَى الرَّدِيءِ لَيُرَوِّجُونَهُ .
فَلَوْ أَلْزَمْنَاهُ الْبَيْعَ بَقِيَ الرَّدِيءُ وَذَهَبَ مَا يُرَوِّجُهُ بِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَبُولَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ يَكُونُ بِبَعْضِ الثَّمَنِ فَحَذَفَهُ الْمُصَنِّفُ لِلْعِلْمِ بِهِ لَكِنْ عَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ لِقَوْلِهِ وَلَا أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي بِبَعْضِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنْ الْعِبَارَةِ الْأُولَى بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَلَزِمَ كَوْنُ الضَّمِيرِ لِلْبَائِعِ وَلَفْظُ الْمُشْتَرِي بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ لِتَصْحِيحِ كَلَامِهِ ، أَيْ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَ فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ الَّذِي أَوْجَبَ فِيهِ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ ، وَلَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَقْبَلُ الْمُشْتَرَى فِي بَعْضِ الْمَبِيعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوجِبُ هُنَا الْبَائِعَ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَدَمَ صِحَّةِ الْقَبُولِ فِي الْبَعْضِ لِلُزُومِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُعْرَفَ بِمَاذَا يَثْبُتُ اتِّحَادُهَا وَتَفْرِيقُهَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَكُونُ تَارَةً مِنْ تَعَدُّدِ الْقَابِلِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ .
فَمَا مِنْ تَعَدُّدِ الْقَابِلِ امْتِنَاعُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الشَّرِكَةِ .
مِثَالُهُ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ لِمُشْتَرِيَيْنِ بِعْتُكُمَا هَذَا بِأَلْفٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا اشْتَرَيْت دُونَ الْآخَرِ تَعَدَّدَتْ ؛ فَلَا يَلْزَمُ لِأَنَّهُ لَوْ تَمَّ فِي الصَّفِّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَاطَبَهُمَا بِالْكُلِّ فَكَانَ مُخَاطِبًا كُلًّا بِالنِّصْفِ ، فَلَوْ لَزِمَ صَارَ شَرِيكًا لِلْبَائِعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَيْبُ الشَّرِكَةِ بِلَا رِضَاهُ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِمَالِكَيْ عَيْنٍ اشْتَرَيْت مِنْكُمَا هَذِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ بَيْعَهُ إنَّمَا يَتِمُّ فِي نَصِيبِهِ فَتَعَدَّدَتْ ، فَلَوْ تَمَّ تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي الْمُوجِبُ بِالشَّرِكَةِ
أَيْضًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوجِبُ اثْنَيْنِ خَاطَبَا وَاحِدًا فَقَالَا بِعْنَاك أَوْ اشْتَرَيْنَا مِنْك هَذَا بِكَذَا فَأَجَابَ هُوَ فِي بَعْضِهِ لَا يَلْزَمُ ، لَكِنْ لَا لِتَعَدُّدِهَا بِتَعَدُّدِ الْعَاقِدِ بَلْ لِإِجَابَتِهِ فِي الْبَعْضِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوجِبَ فِيهَا لَوْ كَانَ وَاحِدًا وَالْبَاقِي بِحَالِهِ كَانَ مِنْ تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ أَيْضًا ، فَعُرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى لَا مِنْ تَعَدُّدِ الْعَاقِدِ ، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِهِ فَبِصُورَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا أَنْ يُوجِبَ الْبَائِعُ فِي مِثْلِيَّيْنِ أَوْ وَاحِدٍ قِيَمِيٍّ أَوْ مِثْلِيٍّ فَقَبِلَ فِي الْبَعْضِ أَوْ يُوجِبُ الْمُشْتَرِي فِيمَا ذَكَرْنَاهُ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنْك بِكَذَا فَقَبِلَ الْبَائِعُ فِي الْبَعْضِ فَإِنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ ، فَإِذَا قَبِلَ فِي بَعْضِهِمَا فَرَّقَهَا فَلَا يَصِحُّ ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَ ثَمَنِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِلَا تَكْرَارِ لَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ بِتَكْرَارِهِ ، فَفِيمَا إذَا كَرَّرَهُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ صَفْقَتَانِ ، فَإِذَا قَبِلَ فِي أَحَدِهِمَا يَصِحُّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ وَبِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ أَوْ اشْتَرَيْت مِنْك هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ اشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ وَاشْتَرَيْت هَذَا بِأَلْفٍ كَذَا فِي مَوْضِعٍ ، وَفِي مَوْضِعٍ أَنْ يَقُولَ بِعْتُك هَذَيْنِ بِعْتُك هَذَا بِأَلْفٍ وَهَذَا بِأَلْفَيْنِ وَفِيمَا إذَا لَمْ يُكَرِّرْهُ مِثْلُ بِعْتُك هَذَيْنِ هَذَا بِمِائَةٍ وَهَذَا بِمِائَةٍ فَظَاهِرُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ صِفَتَانِ وَبِهِ قَالَ بَعْضُهُمْ .
وَقَالَ آخَرُونَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ إذَا كَرَّرَ لَفْظَ الْبَيْعِ ؛ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُكَرِّرْهُ ، وَقَدْ اتَّحَدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وَالْعَاقِدُ ، وَلَمْ يَتَعَدَّدْ الثَّمَنُ فَالصَّفْقَةُ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ فِي أَحَدِهِمَا .
وَقِيلَ الْأَوَّلُ اسْتِحْسَانٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالثَّانِي قِيَاسٌ وَهُوَ قَوْلُهُمَا .
وَالْوَجْهُ