كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
شَرْعِيَّةٌ فِي جِنْسِ التَّصَرُّفِ بِأَهْلِيَّةِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ تَوْكِيلُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِحُكْمِ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ عَلَى مَذْهَبِنَا فِي فَصْلِهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا فَفَضْلَةٌ مِنْ التَّوْجِيهِ ذَكَرَهُ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ هُوَ الِاحْتِرَازُ مِنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ فَكَوْنُهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي عَامَّةِ التَّصَرُّفَاتِ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى ، وَعَنْ هَذَا تَرَى الْفُقَهَاءَ فِي كُلِّ عَقْدٍ جَعَلُوا الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ شَرْطًا فِيهِ وَقَصَدُوا بِهِ الِاحْتِرَازَ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَمْ يَسْتَثْنُوا الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ عَنْهُ صَرَاحَةً ( وَتَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ ) قِيلَ هَذَا احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ مِمَّنْ لَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الْمَبِيعَ وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الثَّمَنَ فَلِذَلِكَ لَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ الْوَكِيلِ غَيْرَهُ .
وَقِيلَ هُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورَيْنِ ؛ فَإِنَّهُمَا لَوْ اشْتَرَيَا شَيْئًا لَا يَمْلِكَانِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ تَوْكِيلُهُمَا ، كَذَا فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ لِلْقِيلِ الثَّانِي : وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَيَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ يَحْتَمِلُ أَحْكَامَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَجِنْسَ الْأَحْكَامِ .
فَالْأَوَّلُ احْتِرَازٌ عَنْ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ دُونَ التَّوْكِيلِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَلْزَمْهُ الْأَحْكَامُ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ شَرْطَانِ .
وَالثَّانِي : احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَيَكُونُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ وَلُزُومُ الْأَحْكَامِ شَرْطًا وَاحِدًا ، وَهَذَا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أُذِنَ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ صَحَّ وَلَمْ
يَلْزَمْهُ أَحْكَامُ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ .
فَإِنْ قُلْت : إذَا جَعَلْتهمَا شَرْطًا وَاحِدًا لَزِمَك الْوَكِيلُ فَإِنَّهُ مِمَّنْ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ وَيَلْزَمُهُ جِنْسُ الْأَحْكَامِ وَلَا يَجُوزُ تَوْكِيلُهُ قُلْت : غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْمَشْرُوطِ لَا سِيَّمَا مَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ وَهُوَ فَوَاتُ رَأْيِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ ( لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ ) تَعْلِيلٌ لِاشْتِرَاطِ مَا شُرِطَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ : يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ تَمْلِيكَ التَّصَرُّفِ وَتَمْلِيكُ التَّصَرُّفِ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُهُ مُحَالٌ ( فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا ) أَيْ لِلتَّصَرُّفِ ( لِيَمْلِكَهُ مِنْ غَيْرِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْوَكِيلُ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ فِيهِ ، وَالثَّانِي مُسْلِمٌ وَيَنْتَقِضُ بِتَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ بِبَيْعِ الْخَمْرِ ، وَالْأَوَّلُ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِأَهْلِيَّتِهِ وَلِهَذَا لَوْ تَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ صَحَّ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَكِيلَ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَكِيلٌ يَمْلِكُ جِنْسَ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ عَلَى أَنَّ الْمَالِكَ يَثْبُتُ لَهُ خِلَافَةٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِيمَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ .
وَتَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ وَلَا الْكَلَامِ فِيهِ ، وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضًا لِجَوَازِ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِأَمْرَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ انْتَهَى أَقُولُ : فِي جَوَابِهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْوَكِيلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ وَكِيلٌ مَالِكًا لِجِنْسِ التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ إنَّمَا يُتَوَهَّمُ فِي التَّوْكِيلِ بِتَصَرُّفٍ لَا بِعَيْنِهِ بِأَنْ قَالَ : اصْنَعْ مَا شِئْت أَوْ اعْمَلْ بِرَأْيِك ، وَأَمَّا فِي التَّوْكِيلِ بِتَصَرُّفٍ بِعَيْنِهِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ مَادَّةِ النَّقْضِ بِتَوْكِيلِ مُسْلِمٍ ذِمِّيًّا بِبَيْعِ خَمْرٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ قَطْعًا ،
إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْوَكِيلَ هُنَاكَ إنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ التَّصَرُّفَ الْمُعَيَّنَ الْمَعْهُودَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ وَهُوَ بَيْعُ الْخَمْرِ لَا جِنْسُ التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا وَإِلَّا لَصَحَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ هُنَاكَ بِتَصَرُّفٍ آخَرَ ، كَأَنْ يَهَبَ الْخَمْرَ الَّتِي وُكِّلَ بِبَيْعِهَا لِذِمِّيٍّ أَوْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِنْهُ شَيْئًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا .
وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ أَنْ يَخْتَارَ الشِّقَّ الثَّانِيَ وَهُوَ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ .
وَيُدْفَعُ النَّقْضُ الْمَذْكُورُ بِحَمْلِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَوْ بِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ فَإِنَّ بَيْعَ الْخَمْرِ جَائِزٌ لِلْمُسْلِمِ فِي الْأَصْلِ .
وَإِنَّمَا امْتَنَعَ بِعَارِضِ النَّهْيِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ نَقْلًا عَنْ الْكُتُبِ الْمُعْتَبَرَةِ ( وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ يَعْقِلُ الْعَقْدَ ) بِأَنْ يَعْرِفَ مَثَلًا أَنَّ الْبَيْعَ سَالِبٌ وَالشِّرَاءَ جَالِبٌ وَيَعْرِفَ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ مِنْ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي مَأْذُونِ الذَّخِيرَةِ وَفِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَمْ يَعْقِلْ وَالْمَجْنُونِ ( وَيَقْصِدُهُ ) أَيْ يَقْصِدُ الْعَقْدَ ، وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَكُونَ هَازِلًا فِيهِ ، كَذَا رَأَى جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ .
وَرَدَّ عَلَيْهِمْ الشَّارِحُ ابْنُ الْهُمَامِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ نَقْلِ قَوْلِهِمْ : أَيُّ ارْتِبَاطٍ بَيْنَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ وَكَوْنِ الْوَكِيلِ هَازِلًا فِي الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ فِي بَيْعِ مَا وُكِّلَ بِبَيْعِهِ غَايَتُهُ أَنْ لَا يَصِحَّ ذَلِكَ الْبَيْعُ وَالْوَكَالَةُ صَحِيحَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْهُ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ : الْقَصْدُ شَرْطٌ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ عَنْ الْآمِرِ ، حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ هَازِلًا لَا يَقَعُ عَنْهُ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ ذَلِكَ فِي الْوَكِيلِ (
لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْعِبَارَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ) وَأَهْلِيَّةُ الْعِبَارَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ كَأَلْحَانِ الطُّيُورِ ( حَتَّى لَوْ كَانَ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ أَوْ مَجْنُونًا كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا ) إذْ لَيْسَ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الْعِبَارَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِمَا حُكْمٌ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ مِنْ الْفَاحِشِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْكِيلِ ، لَكِنْ ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ شَرْطٌ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَوْكِيلَ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ صَحِيحٌ ، وَمَعْرِفَةُ مَا زَادَ عَلَى " ده نيم " فِي الْمَتَاعِ وَ " ده يازده " فِي الْحَيَوَانِ وَ " ده دوازده " فِي الْعَقَارِ ، أَوْ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ .
انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَةَ نَفْسِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ الدَّاخِلِ تَحْتَ أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ لَا يُمَارِسُ الْعِلْمَ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ يُعْرَفُ بِاخْتِلَاطِهِ بِالنَّاسِ وَتَعَامُلِهِ مَعَهُمْ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى مَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ أَوْ مَا زَادَ عَلَى " ده نيم " فِي الْمَتَاعِ وَ " ده يازده " فِي الْحَيَوَانِ ، وَ " ده دوازده " فِي الْعَقَارِ غَبْنٌ فَاحِشٌ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ غَبْنٌ يَسِيرٌ كَمَا هُوَ حَالُ أَكْثَرِ أَهْلِ السُّوقِ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَةَ عِبَارَاتِ أَهْلِ الشَّرْعِ فِي الْغَبْنِ الْفَاحِشِ وَالْيَسِيرِ وَاصْطِلَاحَاتِهِمْ فِيهِ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَ الِاشْتِغَالِ بِعِلْمِ الْفِقْهِ فَمُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يُجْدِي ذَلِكَ شَيْئًا ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ فِي
الْكِتَابِ مَعْرِفَةُ الْغَبْنِ الْيَسِيرِ مِنْ الْفَاحِشِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي
( وَإِذَا وَكَّلَ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ مِثْلَهُمَا جَازَ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِالْعَاقِلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ لَا يَجُوزُ ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يُقَيَّدْ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَقْلِ مِمَّا يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ الْمَأْذُونُ لِيَشْمَلَ الْعَبْدَ وَالصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ ، فَإِنَّ تَوْكِيلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرَهُ جَائِزٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِمَا .
ثُمَّ إنَّ هَذَا غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْمِثْلِيَّةِ فِي صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّيَّةِ ، بَلْ يَجُوزُ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ فَوْقَهُ كَتَوْكِيلِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ الْحُرَّ أَوْ مَنْ دُونَهُ كَتَوْكِيلِ الْحُرِّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ التَّعْلِيلَ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالْوَكِيلَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ) يَشْمَلُ الْأَوْجُهَ الثَّلَاثَةَ مِنْ الْمِثْلِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ وَالدُّونِيَّةِ كَمَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ : وَلَوْ قَالَ كُلًّا مِنْهُمَا كَانَ أَشْمَلَ لِتَنَاوُلِهِ تَوْكِيلَ الْحُرِّ الْبَالِغِ مِثْلَهُ أَوْ الْمَأْذُونَ ، وَتَوْكِيلُ الْمَأْذُونِ مِثْلَهُ أَوْ الْحُرَّ الْبَالِغَ انْتَهَى .
وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ قَدْ رَامَ تَوْجِيهَ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ : وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَهُمَا جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ كَانَ فَوْقَهُمَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّهُ لَا يُجْدِي كَثِيرٌ طَائِلٌ ، إذْ يَبْقَى حِينَئِذٍ جَوَازُ تَوْكِيلِ مَنْ كَانَ دُونَ الْمُوَكِّلِ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ كَانَ فَوْقَهُمَا لَا يَخْلُو عَنْ سَمَاجَةٍ إذْ لَا أَحَدَ فَوْقَ الْحُرِّ الْبَالِغِ
( وَإِنْ وَكَّلَ ) أَيْ الْحُرُّ الْبَالِغُ أَوْ الْمَأْذُونُ ( صَبِيًّا مَحْجُورًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ جَازَ ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْحُقُوقُ ) أَيْ حُقُوقُ مَا بَاشَرَاهُ مِنْ الْعَقْدِ كَالْقَاضِي وَأَمِينِهِ حَيْثُ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِمَا فِيمَا فَعَلَاهُ ( وَتَتَعَلَّقُ بِمُوَكَّلِهِمَا ) وَإِنَّمَا جَازَ تَوْكِيلُهُمَا عِنْدَنَا لِانْتِفَاءِ مَا يَمْنَعُهُ ، أَمَّا مِنْ جَانِبِ الْمُوَكِّلِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الْوَكِيلِ فَلِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الصَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْعِبَارَةِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ مَالِكٌ لَهُ ) أَيْ لِلتَّصَرُّفِ عَلَى نَفْسِهِ وَلِهَذَا صَحَّ طَلَاقُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ( وَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُهُ ) أَيْ التَّصَرُّفَ ( فِي حَقِّ الْمَوْلَى ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ( وَالتَّوْكِيلُ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ تَتَعَلَّقُ بِصِحَّةِ الْعِبَارَةِ وَالْعَبْدُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْعِبَارَةِ ، فَإِنَّ صِحَّتَهَا بِكَوْنِهِ آدَمِيًّا ( إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا ) أَيْ مِنْ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ ( الْتِزَامُ الْعُهْدَةِ ، أَمَّا الصَّبِيُّ لِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ ) أَيْ أَمَّا الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَلِقُصُورِ أَهْلِيَّتِهِ بِعَدَمِ الْبُلُوغِ ( وَالْعَبْدُ لِحَقِّ سَيِّدِهِ ) أَيْ وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَلِثُبُوتِ حَقِّ سَيِّدِهِ فِي مَالِيَّتِهِ ، فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَتَلْزَمُ ) أَيْ الْعُهْدَةُ ( الْمُوَكِّلَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إلَيْهِمَا حَيْثُ انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِهِمَا .
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أُعْتِقَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ لُزُومِهَا كَانَ حَقَّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ ، وَأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ
لَمْ يَلْزَمْهُ الْعُهْدَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ لُزُومِهَا كَانَ قُصُورَ أَهْلِيَّتِهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ مُلْزِمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَمْ تَلْزَمْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ أَيْضًا .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا ذُكِرَ صَرِيحًا فِي الْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ قَاضِي خَانْ .
ثُمَّ إنَّ فِي تَقْيِيدِ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ بِقَوْلِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا مَأْذُونَيْنِ تَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِمَا لَكِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ الْمَأْذُونَ إذَا وُكِّلَ بِالْبَيْعِ فَبَاعَ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا وَإِذَا وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ ؛ فَإِنْ وَكَّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَمْ تَلْزَمْهُ الْعُهْدَةُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا بَلْ تَكُون الْعُهْدَةُ عَلَى الْآمِرِ حَتَّى إنَّ الْبَائِعَ يُطَالِبُ الْآمِرَ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ضَمَانُ كَفَالَةٍ لَا ضَمَانُ ثَمَنٍ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ مَا يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلضَّامِنِ فِي الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ إنَّمَا هَذَا الْتَزَمَ مَالًا فِي ذِمَّتِهِ اسْتَوْجَبَ مِثْلَ ذَلِكَ عَلَى مُوَكِّلِهِ وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ ، وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ لَا ضَمَانُ الْكَفَالَةِ .
وَأَمَّا إذَا وُكِّلَ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنٍ حَالٍّ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْعُهْدَةُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ مَا الْتَزَمَهُ ضَمَانُ ثَمَنٍ حَيْثُ مَلَّكَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالثَّمَنِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَاعَ مِنْهُ وَالصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا ؛ لِأَنَّهُ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ الثَّمَنِ لَا يُمَلِّكُ الْمُشْتَرِيَ لَا مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَلَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ حَبْسَهُ بِذَلِكَ فَكَانَ ضَمَانَ كَفَالَةٍ مِنْ حَيْثُ
الْمَعْنَى .
وَالْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا وُكِّلَ بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ الْمَحْجُورَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِمَا الْحُقُوقُ فَلِقَبْضِهِمَا الثَّمَنَ وَتَسْلِيمِهِمَا الْمَبِيعَ اعْتِبَارٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ بَعْدُ فِي فَصْلِ الشِّرَاءِ فِي التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ حَيْثُ قَالَ : وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ انْتَهَى .
( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِ الْبَائِعِ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ عَبْدٌ مَحْجُورٌ ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : أَوْ مَجْنُونٌ ، فَقِيلَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ يُجَنُّ وَيُفِيقُ ، وَقِيلَ عَلَى حَاشِيَةِ نُسْخَةِ الْمُصَنِّفِ مَحْجُورٌ مَقَامَ مَجْنُونٍ .
قَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ عِنْدَ نَقْلِ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ : وَفِي الْكَافِي لِلْعَلَّامَةِ النَّسَفِيِّ : ثُمَّ عُلِمَ أَنَّهُ صَبِيٌّ مَحْجُورٌ أَوْ عَبْدٌ مَحْجُورٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَجْنُونٌ تَصْحِيفٌ انْتَهَى ( لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ ) أَيْ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ( دَخَلَ فِي الْعَقْدِ عَلَى ) ظَنِّ ( أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا رَضِيَ بِالْعَقْدِ إلَّا عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ( فَإِذَا ظَهَرَ خِلَافُهُ يَتَخَيَّرُ ) ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ عَنْهُ وَصْفٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ ، فَصَارَ ( كَمَا إذَا عَثَرَ ) أَيْ اطَّلَعَ ( عَلَى عَيْبٍ ) أَيْ عَلَى عَيْبٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عَدَمُ الرِّضَا .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلَا لِلْبَائِعِ ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ .
قَالَ ( وَالْعَقْدُ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْوُكَلَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ) : كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ ، فَكَذَا تَوَابِعُهُ وَصَارَ كَالرَّسُولِ وَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ .
وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقُومُ بِالْكَلَامِ ، وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا وَكَذَا حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ كَانَ سَفِيرًا عَنْهُ لَمَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ كَالرَّسُولِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَصِيلًا فِي الْحُقُوقِ فَتَتَعَلَّقُ بِهِ وَلِهَذَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ( يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ وَيُطَالِبُ بِالثَّمَنِ إذَا اشْتَرَى ، وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ وَيُخَاصِمُ فِي الْعَيْبِ وَيُخَاصِمُ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْهُ ، اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ كَالْعَبْدِ يُتَّهَبُ وَيُصْطَادُ هُوَ الصَّحِيحُ .
قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ : وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَيْبِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَالْعُقُودُ الَّتِي يَعْقِدُهَا الْوُكَلَاءُ عَلَى ضَرْبَيْنِ ) وَقَالَ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ : وَالْعَقْدُ الَّذِي يَعْقِدُهُ الْوُكَلَاءُ : أَيْ جِنْسُ الْعَقْدِ كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ ) أَيْ تَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى نَفْسِهِ وَيُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَتِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ ( كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَحُقُوقُهُ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ) أَقُولُ : هَذِهِ الْكُلِّيَّةُ تَنْتَقِضُ بِمَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ حُقُوقَ عَقْدِهِمَا تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ مِمَّا يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى نَفْسِهِ كَمَا عَرَفْته فِيمَا مَرَّ .
( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( لِأَنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ فَكَذَا تَوَابِعُهُ وَصَارَ ) أَيْ صَارَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ ( كَالرَّسُولِ ) فَإِنْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ : كُنْ رَسُولِي فِي بَيْعِ عَبْدِي وَحُقُوقُ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ بِلَا خِلَافٍ ( وَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ ) أَيْ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي فَإِنَّ حُقُوقَ عَقْدِ النِّكَاحِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ اتِّفَاقًا كَمَا سَيَجِيءُ وَلَنَا أَنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْعَاقِدُ ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذَا الضَّرْبِ هُوَ الْعَاقِدُ ( حَقِيقَةً ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ ( لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقُومُ بِالْكَلَامِ وَصِحَّةُ عِبَارَتِهِ ) أَيْ وَصِحَّةُ عِبَارَةِ الْعَاقِدِ : أَيْ صِحَّةُ كَلَامِهِ ( لِكَوْنِهِ آدَمِيًّا لَهُ أَهْلِيَّةُ الْإِيجَابِ وَالِاسْتِيجَابِ لَا لِكَوْنِهِ وَكِيلًا ) ، فَكَانَ الْعَقْدُ الْوَاقِعُ مِنْهُ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءً .
وَفِي الْكَافِي : فَقَضِيَّتُهُ تَسْتَدْعِي أَنْ يَكُونَ الْحَاصِلُ بِالتَّصَرُّفِ وَاقِعًا لَهُ غَيْرَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا اسْتَنَابَهُ فِي تَحْصِيلِ الْحُكْمِ جَعَلْنَاهُ نَائِبًا فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَرَاعَيْنَا
الْأَصْلَ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ ( وَكَذَا حُكْمًا ) أَيْ وَكَذَا الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ هُوَ الْعَاقِدُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَوْ كَانَ سَفِيرًا ) عَنْهُ ( لَمَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ ) أَيْ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ ( كَالرَّسُولِ ) وَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ فَإِنَّهُمَا لَا يَسْتَغْنِيَانِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ) أَيْ إذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ هُوَ الْعَاقِدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ( كَانَ أَصِيلًا فِي الْحُقُوقِ فَتَتَعَلَّقُ ) حُقُوقُ الْعَقْدِ ( بِهِ ) أَيْ تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ( فَلِهَذَا ) أَيْ فَلِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَصْلًا فِي الْحُقُوقِ ( قَالَ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ .
وَقِيلَ : أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَبْسُوطِ ( يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ ) أَيْ يُسَلِّمُ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ ( وَيَقْبِضُ الثَّمَنَ ) إذَا بَاعَ ( وَيُطَالَبُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ : أَيْ يُطَالَبُ الْوَكِيلُ ( بِالثَّمَنِ إذَا اشْتَرَى وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ ) أَيْ وَيَقْبِضُ الْمَبِيعَ إذَا اشْتَرَى ( وَيُخَاصَمُ فِي الْعَيْبِ وَيُخَاصِمُ فِيهِ ) بِفَتْحِ الصَّادِ فِي الْأَوَّلِ وَكَسْرِهَا فِي الثَّانِي ، فَالْأَوَّلُ فِيمَا إذَا بَاعَ ، وَالثَّانِي فِيمَا إذَا اشْتَرَى عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَاهُنَا فَائِدَةً جَلِيلَةً يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهَا قَدْ ذَكَرَهَا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ حَيْثُ قَالَ : يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْحُقُوقَ نَوْعَانِ : حَقٌّ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ ، وَحَقٌّ يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ .
فَالْأَوَّلُ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَمُطَالَبَةِ ثَمَنِ الْمُشْتَرِي وَالْمُخَاصَمَةِ فِي الْعَيْبِ وَالرُّجُوعِ بِثَمَنٍ مُسْتَحَقٍّ .
فَفِي هَذَا النَّوْعِ لِلْوَكِيلِ وِلَايَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ لَكِنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ امْتَنَعَ لَا يُجْبِرُهُ الْمُوَكِّلُ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْعَمَلِ بَلْ
يُوَكِّلُ الْمُوَكِّلُ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ ، وَسَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ بَعْضُ هَذَا ، وَإِنْ مَاتَ الْوَكِيلُ فَوِلَايَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ لِوَرَثَتِهِ ، فَإِنْ امْتَنَعُوا وَكَّلُوا مُوَكِّلَ مُورِثِهِمْ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلْمُوَكَّلِ وِلَايَةُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِلَا تَوْكِيلٍ مِنْ الْوَكِيلِ أَوْ وَارِثِهِ .
وَفِي النَّوْعِ الْآخَرِ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُجْبِرَ الْوَكِيلَ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَأَخَوَاتِهِمَا إلَى هُنَا كَلَامُهُ ( وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْوَكِيلِ ، هَذَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ إنَّ الْحُقُوقَ تَابِعَةٌ لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ ، وَالْحُكْمُ وَهُوَ الْمِلْكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ فَكَذَا تَوَابِعُهُ .
تَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً ، لَكِنْ لَا أَصَالَةَ حَتَّى يَثْبُتَ لَهُ تَوَابِعُهُ أَيْضًا بَلْ خِلَافَةٌ عَنْ الْوَكِيلِ ، وَمَعْنَى الْخِلَافِ أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً وَيَنْعَقِدَ السَّبَبُ مُوجِبًا حُكْمَهُ لِلْوَكِيلِ فَكَانَ الْمُوَكِّلُ قَائِمًا مَقَامَ الْوَكِيلِ فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ ( اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ ) وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَكِيلَ خَلَفٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي حَقِّ اسْتِفَادَةِ التَّصَرُّفِ وَالْمُوَكِّلَ خَلَفٌ عَنْ الْوَكِيلِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْمِلْكِ ( كَالْعَبْدِ يُتَّهَبُ وَيُصْطَادُ ) فَإِنَّهُ إذَا اُتُّهِبَ : أَيْ قَبِلَ الْهِبَةَ وَاصْطَادَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى ابْتِدَاءً خِلَافَةً عَنْ الْعَبْدِ ، فَإِنْ وَلَّاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَمَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ لِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ جِهَتَيْنِ : جِهَةُ حُصُولِهِ بِعِبَارَتِهِ وَجِهَةُ نِيَابَتِهِ ، وَإِعْمَالُهُمَا وَلَوْ بِوَجْهٍ أَوْلَى مِنْ إهْمَالِ أَحَدِهِمَا ، فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ وَالْحُقُوقَ لِلْوَكِيلِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لِحُصُولِهِمَا بِعِبَارَتِهِمْ وَأَهْلِيَّتِهِ بَطَلَ تَوْكِيلُ الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ أَثْبَتْنَاهُمَا لِلْمُوَكِّلِ
بَطَلَ عِبَارَةُ الْوَكِيلِ .
فَأَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَرَضُ مِنْ التَّوْكِيلِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ فَتُعَيَّنُ الْحُقُوقُ لِلْوَكِيلِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِغَيْرِ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ كَالْعَبْدِ يَقْبَلُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَيَصْطَادُ فَإِنَّ مَوْلَاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ طَرِيقَةُ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : قَوْلُ أَبِي طَاهِرٍ أَصَحُّ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( هُوَ الصَّحِيحُ ) وَاحْتُرِزَ بِهِ عَنْ طَرِيقَةِ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ وَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِلَيْهَا ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهِيَ اخْتِيَارُ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ كَمَا ذُكِرَ فِي التَّحْرِيرِ ، وَإِنَّمَا قَالَ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إذَا اشْتَرَى مَنْكُوحَتَهُ أَوْ قَرِيبَهُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَلَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الْمِلْكُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَجَوَابُهُ أَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ يَحْتَاجُ إلَى مِلْكٍ مُسْتَقِرٍّ دَائِمٍ وَمِلْكُ الْوَكِيلِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ وَلَا دَائِمٍ فِيهِ بَلْ يَزُولُ عَنْهُ فِي ثَانِي الْحَالِ وَيَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ .
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ حُرَّةً عَلَى رَقَبَتِهَا فَأَجَازَ مَوْلَاهَا فَإِنَّهُ تَصِيرُ الْأَمَةُ مَهْرًا لِلْحُرَّةِ وَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ وَإِنْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلزَّوْجِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ حَيْثُ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا انْتَهَى .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الْجَوَابِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ إطْلَاقَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَ انْتَهَى .
أَقُولُ
: الْجَوَابُ عَنْ هَذَا النَّظَرِ ظَاهِرٌ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمِلْكَ الْكَامِلَ هُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَقِرُّ فَلَا مُخَالَفَةَ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : إنَّ الْقَاضِيَ أَبَا زَيْدٍ خَالَفَهُمَا وَقَالَ : الْوَكِيلُ نَائِبٌ فِي حَقِّ الْحُكْمِ أَصِيلٌ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ ، فَإِنَّ الْحُقُوقَ تَثْبُتُ لَهُ ثُمَّ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ قِبَلِهِ فَوَافَقَ أَبَا الْحَسَنِ فِي حَقِّ الْحُقُوقِ ، وَوَافَقَ أَبَا طَاهِرٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ وَهَذَا حَسَنٌ ، كَذَا ذُكِرَ فِي الْإِيضَاحِ وَالْفَتَاوَى الصُّغْرَى ( قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَيْبِ تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) أَرَادَ بِهِ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ : وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : الْقَصْرُ عَلَيْهِ قُصُورٌ بَلْ الظَّاهِرُ عُمُومُ الْحَوَالَةِ لِمَا يَذْكُرُهُ فِي فَصْلٍ فِي الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ إلَخْ .
أَقُولُ : الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ فِي الْكِتَابِ إنَّمَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ بِمُقْتَضَى تَعَلُّقِ حُقُوقِ عَقْدِ الشِّرَاءِ بِالْوَكِيلِ .
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا إنْ بَقِيَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ يَبْقَى حَقُّ الرَّدِّ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ بَلْ كَانَ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْحَقُّ عَنْهُ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْوَكَالَةِ بِالتَّسْلِيمِ فَيَتَوَقَّفُ الرَّدُّ عَلَى
إذْنِ الْمُوَكِّلِ .
وَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ هَذَا التَّفْصِيلُ هَاهُنَا وَكَانَ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ أَحَالَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا سَيَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ مِنْ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَأَمَّا الَّذِي يَذْكُرُهُ فِي فَصْلِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ وَقَبَضَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ إلَخْ فَمِمَّا لَا مِسَاسَ لَهُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رُدَّ الْعَبْدُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِعَيْبٍ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ قَاصِرَةٍ لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ تَعَلُّقِ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِالْوَكِيلِ يَجْرِي بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْحَوَالَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ لَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُجَرَّدِ الْعَيْبِ ، فَلِهَذَا لَمْ يُعَمِّمْهَا الشُّرَّاحُ كَمَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ
قَالَ ( وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ إلَى مُوَكِّلِهِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَلَا يُطَالَبُ وَكِيلُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَلْزَمُ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُهَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيهَا سَفِيرٌ مَحْضٌ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ النِّكَاحُ لَهُ فَصَارَ كَالرَّسُولِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ فَيَتَلَاشَى فَلَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ مِنْ شَخْصٍ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ فَكَانَ سَفِيرًا .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَكُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ ) أَيْ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ ( إلَى مُوَكِّلِهِ ) هَذِهِ ضَابِطَةُ الضَّرْبِ الثَّانِي : أَيْ كُلُّ عَقْدٍ لَا يَسْتَغْنِي الْوَكِيلُ فِيهِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُوَكِّلِ ( كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَإِنَّ حُقُوقَهُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ) فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( فَلَا يُطَالَبُ ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ ( وَكِيلُ الزَّوْجِ بِالْمَهْرِ وَلَا يَلْزَمُ وَكِيلَ الْمَرْأَةِ تَسْلِيمُهَا ) أَيْ تَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ إلَى زَوْجِهَا ( لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ( سَفِيرٌ مَحْضٌ ) أَيْ مُعَبِّرٌ مَحْضٌ حَاكٍ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ ، وَمَنْ حَكَى قَوْلَ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُ قَوْلِ ذَلِكَ الْغَيْرِ ( أَلَا يُرَى أَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ ) كَيْفَ ( وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ النِّكَاحُ ) مَثَلًا ( لَهُ ) أَيْ لِلْوَكِيلِ نَفْسِهِ فَيَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الْوَكَالَةِ وَالْكَلَامِ فِيهِ ( فَصَارَ كَالرَّسُولِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا الضَّرْبِ سَفِيرًا مَحْضًا فَقَدْ صَارَ كَالرَّسُولِ فِي بَابِ الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الرِّسَالَةِ يَرْجِعُ إلَى الْمُرْسِلِ دُونَ الرَّسُولِ ( وَهَذَا ) يَعْنِي كَوْنَ الْحُقُوقِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ، وَهَذَا عَلَى مَا هُوَ دَأْبُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ هَذَا مِنْ أَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ ذِكْرِ دَلِيلٍ عَلَى مُدَّعٍ : وَهَذَا ؛ لِأَنَّ إلَخْ ، وَيُرِيدُ بِهِ بِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ لَمِّيٍّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ دَلِيلًا إنِّيًّا فَهَاهُنَا لَمَّا بَيَّنَ إنِّيَّةَ كَوْنِ الْحُقُوقِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُتَعَلِّقَةً بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ بِكَوْنِ الْوَكِيلِ فِيهَا سَفِيرًا مَحْضًا غَيْرَ مُسْتَغْنٍ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَمِّيَّتَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا ) أَيْ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ( لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ
السَّبَبِ ) حَتَّى لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا خِيَارُ الشَّرْطِ ، إذْ الْخِيَارُ يَدْخُلُ عَلَى الْحُكْمِ فَيُوجِبُ تَرَاخِيَهُ عَنْ السَّبَبِ ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَقْبَلُ ذَلِكَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ( إسْقَاطٌ ) أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْقَاطَاتِ .
أَمَّا فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَلِأَنَّ مَحَلَّ النِّكَاحِ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ ، وَهُنَّ فِي الْأَصْلِ خُلِقْنَ حَرَائِرَ وَالْحُرِّيَّةُ تَسْتَدْعِي انْتِفَاءَ وُرُودِ الْمِلْكِ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِهَا ، إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ نَوْعَ مِلْكٍ عَلَى الْحُرِّيَّةِ بِالنِّكَاحِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّسْلِ ، فَكَانَ ذَلِكَ إسْقَاطًا لِمَعْنَى الْمَالِكِيَّةِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْحُرِّيَّةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ، كَذَا نُقِلَ عَنْ الْعَلَّامَةِ شَمْسِ الدِّينِ الْكُرْدِيِّ ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةُ فَكَانَ النِّكَاحُ إسْقَاطًا لِلْحُرْمَةِ نَظَرًا إلَى الْأَصْلِ كَذَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي .
وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ إسْقَاطًا ( فَيَتَلَاشَى ) أَيْ فَيَضْمَحِلُّ ( فَلَا يُتَصَوَّرُ صُدُورُهُ ) أَيْ صُدُورُ السَّبَبِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ ( مِنْ شَخْصٍ وَثُبُوتُ حُكْمِهِ لِغَيْرِهِ ) كَمَا فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ( فَكَانَ سَفِيرًا ) أَيْ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ سَفِيرًا مَحْضًا .
فَإِنْ قُلْت : لَيْسَ الْكَلَامُ فِي الْحُكْمِ بَلْ فِي الْحُقُوقِ فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ السَّبَبِ ؟ قُلْت : إنَّهُمْ قَالُوا فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ إنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ اعْتِبَارًا لِلتَّوْكِيلِ السَّابِقِ ، وَتَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ اعْتِبَارًا لِعِبَارَتِهِ ، وَهَا هُنَا إذَا لَمْ يَنْفَصِلْ الْحُكْمُ عَنْ الْعِبَارَةِ لِكَوْنِهَا لِلْإِسْقَاطِ ، فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِلْوَكِيلِ أَوْ تَنْتَقِلَ الْعِبَارَةُ إلَى الْمُوَكِّلِ ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ التَّوْكِيلَ وَيُنَافِي الْإِضَافَةَ إلَى الْمُوَكِّلِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بِقَوْلِهِ فَكَانَ سَفِيرًا
وَالضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ أَخَوَاتِهِ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ .
فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ سَفِيرٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ ، وَأَنَّهُ يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ فَلَا يُجْعَلُ أَصِيلًا ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ ، وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ ، إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فِيهِ .
( وَالضَّرْبُ الثَّانِي ) وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ يُضِيفُهُ الْوَكِيلُ إلَى مُوَكِّلِهِ ( مِنْ أَخَوَاتِهِ ) أَيْ مِنْ أَفْرَادِهِ الَّتِي بَيْنَهُنَّ أُخُوَّةٌ : أَيْ مُشَارَكَةٌ فِي الْحُكْمِ ( الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ ) .
قَوْلُهُ وَالضَّرْبُ الثَّانِي مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ .
وَقَوْلُهُ مِنْ أَخَوَاتِهِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِمُبْتَدَإٍ ثَانٍ وَهُوَ قَوْلُهُ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ .
وَالْجُمْلَةُ أَعْنِي الْمُبْتَدَأَ الثَّانِيَ مَعَ خَبَرِهِ خَبَرٌ لِلْمُبْتَدَأِ الْأَوَّلِ ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى وَمِنْ أَخَوَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا : أَيْ الْعُقُودُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي الضَّرْبِ الثَّانِي مِنْ أَخَوَاتِهَا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ ، وَقَالَ : إنَّمَا فَسَّرْنَا بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عَلَى مَالٍ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مَشْمُولَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي لَا مِنْ أَخَوَاتِهِ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ التَّفْسِيرَ الَّذِي ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ التَّرْكِيبُ مِنْ حَيْثُ الْعَرَبِيَّةُ أَصْلًا فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْمَعْنَى عَلَيْهِ ، وَأَمَّا كَوْنُ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَأَخَوَاتِهِ مِنْ مَشْمُولَاتِ الضَّرْبِ الثَّانِي لَا مِنْ أَخَوَاتِهِ فَإِنَّمَا يُنَافِي اعْتِبَارَ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الضَّرْبِ الثَّانِي وَمَشْمُولَاتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ ضَرُورَاتِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إضَافَةُ الْأَخَوَاتِ إلَى ضَمِيرِ الضَّرْبِ الثَّانِي لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْرَادِهِ ، وَيَكُونُ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِالْأَخَوَاتِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مُشَارَكَتِهَا فِي الْحُكْمِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ أَخَوَاتِهِ .
نَعَمْ الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْإِضَافَةِ اعْتِبَارُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا فِي نَظَائِرِهِ ، لَكِنَّ قَرِينَةَ الْمَقَامِ صَارِفَةٌ عَنْهُ إلَى مَا قُلْنَا فَتَدَبَّرْ ( وَالْكِتَابَةُ ) عَطْفٌ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ دَاخِلٍ فِي حُكْمِ الْكَلَامِ السَّابِقِ ؛ وَكَذَا قَوْلُهُ ( وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ ) وَإِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ
الْعُقُودَ مِنْ قَبِيلِ الضَّرْبِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْإِسْقَاطَاتِ دُونَ الْمُعَاوَضَاتِ .
أَمَّا الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَالْكِتَابَةُ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِمَا بِمُقَابَلَةِ إزَالَةِ الرِّقِّ وَفَكِّ الْحَجْرِ .
وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فَلِأَنَّ الْبَدَلَ فِيهِ بِمُقَابَلَةِ دَفْعِ الْخُصُومَةِ وَافْتِدَاءِ الْيَمِينِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ( فَأَمَّا الصُّلْحُ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ) أَرَادَ بِالصُّلْحِ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ الصُّلْحَ عَنْ إقْرَارٍ فِيمَا إذَا كَانَ عَنْ مَالٍ بِمَالٍ فَإِنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ أَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ عَنْ إقْرَارٍ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فَكَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ سَفِيرًا مَحْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَابِ التَّبَرُّعِ بِالصُّلْحِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ كِتَابِ الصُّلْحِ .
أَقُولُ : فَبِهَذَا ظَهَرَ أَنَّ مَا وَقَعَ هَاهُنَا فِي الشُّرُوحِ مِنْ تَفْسِيرِ الصُّلْحِ الَّذِي هُوَ جَارٍ مَجْرَى الْبَيْعِ بِالصُّلْحِ عَنْ إقْرَارٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَا ذَكَرْنَاهُ تَقْصِيرٌ فِي تَعْيِينِ الْمَرَامِ وَتَحْقِيقِ الْمَقَامِ ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا هَاهُنَا لَمَا بَدَّلَ الْمُصَنِّفُ اللَّفْظَ الْيَسِيرَ بِاللَّفْظِ الْكَثِيرِ ( وَالْوَكِيلُ بِالْهِبَةِ وَالتَّصَدُّقِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِقْرَاضِ سَفِيرٌ أَيْضًا ) وَتَفْسِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ لِفُلَانٍ أَوْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ يُعِيرَهُ إيَّاهُ أَوْ يُودِعَهُ أَوْ يُرْهِنَهُ فَقَبَضَ الْوَكِيلُ وَفَعَلَ مَا أَمَرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ الْمُطَالَبَةُ بِرَدِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى يَدِهِ ، وَلَا أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ وَالْعَارِيَّةَ وَلَا الرَّهْنَ وَلَا الْقَرْضَ مِمَّنْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ هَذِهِ
الْعُقُودِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ فِيهِ أَصِيلًا ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ الْقَبْضُ فَكَانَ سَفِيرًا وَمُعَبِّرًا عَنْ الْمَالِكِ انْتَهَى .
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِيهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْحُكْمَ فِيهَا ) أَيْ فِي الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ ( يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ ) أَيْ بِقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ وَنَظَائِرِهِمَا ( وَأَنَّهُ ) أَيْ الْقَبْضَ ( يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ ) أَيْ لِغَيْرِ الْوَكِيلِ ، فَالْحُكْمُ أَيْضًا يُلَاقِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْوَكِيلِ وَهُوَ الْمُوَكِّلُ ( فَلَا يُجْعَلُ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( أَصِيلًا ) لِكَوْنِهِ أَجْنَبِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ ، بِخِلَافِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي تَقُومُ بِالْقَبُولِ وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَصِيلًا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ فِي التَّكَلُّمِ وَكَلَامُهُ مَمْلُوكٌ لَهُ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَقَوْلُهُ فَلَا يُجْعَلُ أَصِيلًا مُقْتَضَاهُ أَصِيلًا فِي الْحُكْمِ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ .
وَيَدْفَعُ ذَلِكَ بِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا لَاقَى مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِغَيْرِ الْوَكِيلِ كَانَ ثَابِتًا لِمَنْ لَهُ الْمَحَلُّ وَالْحُقُوقُ فِيمَا يُثْبِتُ الْحُكْمَ بِالْعِبَارَةِ وَحْدَهَا فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ الِانْفِصَالَ عَنْهَا انْتَقَلَتْ إلَى الْمُوَكِّلِ بِجَعْلِ الْعِبَارَةِ سِفَارَةً فَفِيمَا احْتَاجَ إلَى الْقَبْضِ أَوْلَى لِضَعْفِهَا فِي الْعَلِيَّةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا اسْتِشْكَالُهُ بِشَيْءٍ وَلَا دَفْعُهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَمْ يُجْعَلْ أَصِيلًا فِي الْحُكْمِ ثَبَتَ أَيْضًا مَا فِيهِ الْكَلَامُ وَهُوَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْوَكِيلِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ ، إذْ قَدْ كَانَ مَبْنَى تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِالْوَكِيلِ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُجْعَلَ
الْوَكِيلُ أَصِيلًا فِي الْحُكْمِ ، فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ فِي الْعُقُودِ الْمَذْكُورَةِ أَصِيلًا فِيهِ تَعَيَّنَ عَدَمُ تَعَلُّقِ الْحُقُوقِ بِهِ فِيهَا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْبَاعِثَ عَلَى انْتِقَالِ الْحُقُوقِ إلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْحُكْمُ الِانْفِصَالَ عَنْ الْعِبَارَةِ لَيْسَ إلَّا كَوْنُ السَّبَبِ إسْقَاطًا مُتَلَاشِيًا ، وَالسَّبَبُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْقَاطَاتِ كَمَا لَا يَخْفَى فَلَا مُسَاوَاةَ فَضْلًا عَنْ الْأَوْلَوِيَّةِ .
وَأَمَّا الضَّعْفُ فِي الْعَلِيَّةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فَإِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ نَفْسِ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لَا فِي حَقِّ الِانْتِقَالِ فَتَأَمَّلْ .
( وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ لِلتَّصَرُّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِأَنْ وَكَّلَهُ بِالِاسْتِيهَابِ أَوْ الِاسْتِعَارَةِ أَوْ الِارْتِهَانِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا أَيْضًا فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ وَالْحُقُوقُ كُلُّهَا بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ .
وَفِي الْعِنَايَةِ : أَمَّا إذَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ فَلَا إشْكَالَ ، وَأَمَّا إذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَتَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ لِاجْتِمَاعِ الْقَوْلِ وَالْقَبْضِ .
وَيُدْفَعُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مُوَكِّلِهِ وَهِيَ تَجْعَلُ الْقَبْضَ لَهُ فَصَارَ كَمَا إذَا قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ انْتَهَى ( وَكَذَا الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ ) يَعْنِي إذَا وَكَّلَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ أَوْ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ الْوَكِيلُ سَفِيرًا أَيْضًا وَتَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِالْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ، إذْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى مُوَكِّلِهِ ، حَتَّى لَوْ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ يَقَعُ عَنْهُ لَا عَنْ مُوَكِّلِهِ ( إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ ) اسْتِثْنَاءً مِنْ قَوْلِهِ : " وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ " ( حَتَّى لَا يَثْبُتَ الْمِلْكُ لِلْمُوَكِّلِ ) فَلِلْوَكِيلِ أَنْ
يَمْنَعَ الَّذِي اسْتَقْرَضَهُ مِنْ الْآمِرِ ، وَلَوْ هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِهِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَاعْلَمْ أَنِّي أُعِيدُ لَك هَاهُنَا مَا ذَكَرْته فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَأَزِيدُك مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ لِكَوْنِ الْمَقَامِ مِنْ مَعَارِكِ الْآرَاءِ ، فَإِنْ ظَهَرَ لَك فَاحْمَدْ اللَّهَ تَعَالَى ، وَإِنْ سَمَحَ ذِهْنُك بِخِلَافِهِ فَلَا مَلُومَةَ فَإِنَّ جَهْدَ الْمُقِلِّ دُمُوعُهُ : التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ .
وَرُدَّ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ مَحَلَّهُ هُوَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَهُوَ مِلْكُهُ .
وَأُورِدَ بِأَنَّهُ هَلَّا جُعِلَ مَحَلُّهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ الْبَدَلَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ .
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ إيفَاءِ الْقَرْضِ لَا الِاسْتِقْرَاضِ .
وَأُورِدَ التَّوْكِيلُ بِالِاتِّهَابِ وَالِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَلَا مَحَلَّ لَهُ سِوَى الْمُسْتَعَارِ وَالْمَوْهُوبِ إذْ لَيْسَ ثَمَّةَ بَدَلٌ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُجْعَلُ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُسْتَعَارَ وَالْمَوْهُوبَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِالْإِعَارَةِ وَالْهِبَةِ لَا الِاسْتِعَارَةُ وَالِاتِّهَابُ ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِيهِمَا عِبَارَةُ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِجَعْلِهَا مُوجِبَةً لِلْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ بِإِقَامَةِ الْمُوَكِّلِ مَقَامَ نَفْسِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلْيَكُنْ فِي الِاسْتِقْرَاضِ كَذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا اعْتَبَرْنَا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَنَحْوِهَا ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ يَلْزَمُ فِي الذِّمَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَدَلٌ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا مَحَلًّا لَهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَفِيهِ بَدَلٌ مُعْتَبَرٌ لِلْإِيفَاءِ فِي الذِّمَّةِ لَزِمَ اجْتِمَاعُ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةِ عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ لِبُطْلَانِ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ وَهُوَ الدَّلِيلُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَمُخْتَارِ جُمْهُورِ الشُّرَّاحِ عَلَى مَا ذَكَرُوا فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ لَيْسَ بِتَامٍّ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَالْأَمْرَ بِهِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ وَرِضَاهُ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِلْكَ الْغَيْرِ أَوْ أَمَرَ بِغَصْبِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ فَيَجُوزُ قَطْعًا ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ لِنَفْسِهِ يَقْبِضُ الْمَالَ الْمُسْتَقْرَضَ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْمُقْرِضِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ ، وَكَذَا الْمُسْتَعِيرُ يَقْبِضُ الْمُسْتَعَارَ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْمُعِيرِ وَيَسْتَعْمِلُهُ ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي جَوَازِ ذَلِكَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْمُقْرِضِ بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ لَا بِالْجَبْرِ وَالْغَصْبِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَيْضًا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الرَّدِّ لَهُ بِالتَّوْكِيلِ فِي الشِّرَاءِ مِنْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ وَهُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ بَلْ هُوَ أَمْرٌ بِإِيجَادِ الْعَقْدِ ، وَقَبْضُ الْمَبِيعِ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ الْعَقْدِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِالشِّرَاءِ أَمْرًا بِقَبْضِ الْمَبِيعِ .
سَلَّمْنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ أَمْرٌ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ أَيْضًا لَكِنَّهُ أَمْرٌ بِهِ بَعْدَ إيجَادِ الْعَقْدِ لَا قَبْلَهُ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَالْمَبِيعُ بَعْدَ إيجَادِ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لَا مِلْكُ الْغَيْرِ ، بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّ الْمُسْتَقْرَضَ لَا يَكُونُ مِلْكَ الْمُسْتَقْرِضِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بَلْ بِالْقَبْضِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ .
فَالصَّوَابُ فِي تَمْشِيَةِ النَّقْضِ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ أَمْرٌ بِتَمَلُّكِ الْمَبِيعِ الَّذِي هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ كَمَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ
وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ الْمَذْكُورِ إنَّ مَحَلَّهُ هُوَ الثَّمَنُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ أَنَّ مَحَلَّ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ هُوَ نَفْسُ الثَّمَنِ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِإِيفَاءِ الثَّمَنِ بَعْدَ تَمَامِ عَقْدِ الشِّرَاءِ لَا مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ مَحَلَّهُ هُوَ إيجَابُ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَالْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ لَا يَتِمُّ حِينَئِذٍ جَوَابُهُ عَنْ الْإِيرَادِ الْآتِي فَإِنَّ مَعْنَاهُ حِينَئِذٍ هُوَ أَنَّهُ هَلَّا جُعِلَ مَحَلُّهُ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا إيجَابَ الْبَدَلِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ ، وَلَا يَتَيَسَّرُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ مَحَلُّ إيفَاءِ الْقَرْضِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ إيفَائِهِ هُوَ نَفْسُ الْبَدَلِ لَا إيجَابُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ .
بَلْ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنَّ الْبَدَلَ فِي بَابِ الْقَرْضِ إنَّمَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ بِالْقَبْضِ لَا بِعَقْدِ الْقَرْضِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ الْأَمْرِ بِالْقَبْضِ أَوَّلًا حَتَّى يَسْتَقِيمَ الْأَمْرُ بِإِيجَابِ الْمِثْلِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَالْأَمْرُ بِالْقَبْضِ لَمْ يَصِحَّ بَعْدُ لِكَوْنِ الْمَقْبُوضِ مِلْكَ الْغَيْرِ .
وَأَمَّا رَابِعًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ النَّقْضِ بِالِاتِّهَابِ وَالِاسْتِعَارَةِ : إنَّ الْمُسْتَعَارَ وَالْمَوْهُوبَ مَحَلُّ التَّوْكِيلِ بِالْإِعَارَةِ وَالْهِبَةِ لَا الِاسْتِعَارَةِ وَالِاتِّهَابِ ، وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِيهِمَا عِبَارَةُ الْمُوَكِّلِ غَيْرُ تَامٍّ ، فَإِنَّهُ إنْ قَالَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِعَارَةِ : إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَسْتَعِيرُ مِنْك كَذَا ، وَقَالَ الْوَكِيلُ بِالِاتِّهَابِ : إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَتَّهِبُ مِنْك كَذَا ، فَإِنَّهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَانَا مُتَصَرِّفَيْنِ فِي عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ وَلَكِنَّهُمَا
لَمْ يُخْرِجَا الْكَلَامَ حِينَئِذٍ مَخْرَجَ الْوَكَالَةِ بَلْ أَخْرَجَاهُ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي حُكْمِ الْوَكَالَةِ دُونَ الرِّسَالَةِ ، فَإِنَّ الرِّسَالَةَ صَحِيحَةٌ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا حَتَّى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَوْ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الرِّسَالَةِ فَقَالَ إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَسْتَقْرِضُ مِنْك كَذَا كَانَ مَا اسْتَقْرَضَهُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا .
وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ بِالِاسْتِعَارَةِ : أَسْتَعِيرُ مِنْك كَذَا لِفُلَانٍ الْمُوَكِّلِ ، وَقَالَ الْوَكِيلُ بِالِاتِّهَابِ أَتَّهِبُ مِنْك كَذَا لِفُلَانٍ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّمَا فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ جَرْيًا عَلَى حُكْمِ وَكَالَتِهِمَا وَلَكِنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا مُتَصَرِّفَيْنِ فِي عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ أَصْلًا حَيْثُ لَمْ يَحْكِيَا عَنْهُ كَلَامًا ، بَلْ إنَّمَا تَكَلَّمَا بِكَلَامِ أَنْفُسِهِمَا إلَّا أَنَّهُمَا أَضَافَا الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِمَا كَمَا فِي سَائِرِ صُوَرِ الضَّرْبِ الثَّانِي ، فَأَيْنَ يَتَمَشَّى الْقَوْلُ بِأَنَّ مَحَلَّ التَّوْكِيلِ فِيهِمَا عِبَارَةُ الْمُوَكِّلِ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنْهُ يُخَالِفُ صَرِيحَ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَارْتَضَاهُ كِبَارُ الشُّرَّاحِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ أَنَّ الْمَوْضُوعَ لِنَقْلِ الْعِبَارَةِ إنَّمَا هُوَ الرِّسَالَةُ ، فَإِنَّ الرَّسُولَ مُعَبِّرٌ وَالْعِبَارَةُ مِلْكُ الْمُرْسِلِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ .
وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَغَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِنَقْلِ عِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ الْعِبَارَةَ فِيهَا لِلْوَكِيلِ .
وَأَمَّا خَامِسًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ فَالْجَوَابُ إنَّا اعْتَبَرْنَا الْعِبَارَةَ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِعَارَةِ وَنَحْوِهَا ضَرُورَةَ صِحَّةِ الْعَقْدِ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ يَلْزَمُ فِي الذِّمَّةِ إلَخْ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْخَلَفِ عَنْ الْبَدَلِ عَلَى تَقْدِيرِ لُزُومِهِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَأَمَّا
فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ قَبِيلِ التَّبَرُّعَاتِ فَلَا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الِاسْتِعَارَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ قَبِيلِ الثَّانِيَةِ فَلَا مَعْنَى لِحَدِيثِ الْخَلْفِيَّةِ هَاهُنَا .
وَأَيْضًا اسْتِحَالَةُ اجْتِمَاعِ الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ إنَّمَا تَقْتَضِي عَدَمَ جَوَازِ اعْتِبَارِ الْعِبَارَةِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ لَا عَدَمَ جَوَازِ اعْتِبَارِهَا مُطْلَقًا ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْتَبَرَ مَحَلًّا لِلتَّوْكِيلِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ أَيْضًا لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ تُجْعَلْ خَلَفًا عَنْ بَدَلٍ ؟ أَلَا يُرَى أَنَّهَا اُعْتُبِرَتْ مَحَلًّا لِلرِّسَالَةِ فِي الِاسْتِقْرَاضِ وَلِهَذَا صَحَّتْ الرِّسَالَةُ فِيهِ تَأَمُّلٌ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَالَ بَعْضُهُمْ فِي بَيَانِ بُطْلَانِ اسْتِقْرَاضِ الْوَكِيلِ : إنَّ الْعِبَارَةَ لِلْوَكِيلِ وَالْمَحَلَّ الَّذِي أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ مِلْكُ الْغَيْرِ ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ الَّتِي يَسْتَقْرِضُهَا الْوَكِيلُ مِلْكَ الْمُقْرِضِ ، وَالْأَمْرُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بَاطِلٌ .
قُلْت : هَذَا الَّذِي قَالَ يَبْطُلُ بِالتَّوْكِيلِ بِالِاسْتِعَارَةِ ، فَإِنَّهُ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَلَيْسَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا فَهِمَهُ هَذَا الْقَائِلُ ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ ، وَقَالَ أَقْرِضْنِي كَانَ التَّوْكِيلُ بَاطِلًا حَتَّى لَا يَكُونَ الْقَرْضُ لِلْمُوَكِّلِ بَلْ يَكُونُ لِلْوَكِيلِ ، إلَّا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَبَلَّغَ عَلَى وَجْهِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ : أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْك يَسْتَقْرِضُ كَذَا فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ الِاسْتِقْرَاضُ وَيَقَعُ الْقَرْضُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُوَكِّلَ عَنْهُ فَافْهَمْهُ فَفِيهِ غِنًى عَنْ تَطْوِيلٍ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : وَفِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ أَنَّ الْوَكِيلَ هَاهُنَا سَفِيرٌ أَيْضًا لَا تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ
الْعَقْدِ بِهِ بَلْ بِمُوَكِّلِهِ لِإِضَافَتِهِ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ دُونَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ بَاطِلٌ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَكَذَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً ، وَمِنْهُمْ هَذَا الشَّارِحُ ، وَلَوْ كَانَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا فَهِمَهُ هَذَا الشَّارِحُ لَمَا كَانَ لِتَخْصِيصِ الِاسْتِثْنَاءِ بِبُطْلَانِ صُورَةِ التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ مَعْنًى ، إذْ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَصِيرُ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ صُوَرِ مَا إذَا كَانَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُلْتَمِسِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَوْهِبِ وَالْمُرْتَهِنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ لَا إلَى الْمُوَكِّلِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ وَيَكُونُ مَا أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِمُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ كُلَّهَا مِنْ الضَّرْبِ الثَّانِي ، وَمِنْ شَرْطِ هَذَا الضَّرْبِ أَنْ يُضِيفَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ إلَى مُوَكِّلِهِ ، فَإِذَا انْتَفَى بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ قَطْعًا ، وَلَعَمْرِي إنَّ هَذَا الشَّارِحَ قَدْ هَرَبَ هَاهُنَا عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى حَتَّى أَفْسَدَ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِالْكُلِّيَّةِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( بِخِلَافِ الرِّسَالَةِ فِيهِ ) أَيْ فِي الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ .
قَالَ فِي الْإِيضَاحِ : التَّوْكِيلُ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَصِحُّ ، وَلَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ فِيمَا إذَا اسْتَقْرَضَ لِلْآمِرِ إلَّا إذَا بَلَّغَ عَلَى سَبِيلِ الرِّسَالَةِ فَيَقُولُ أَرْسَلَنِي إلَيْك فُلَانٌ يَسْتَقْرِضُ مِنْك فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُسْتَقْرِضِ : أَيْ الْمُرْسِلِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ : وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِقْرَاضِ جَائِزٌ
قَالَ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُوَكِّلُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ وَحُقُوقِهِ لِمَا أَنَّ الْحُقُوقَ إلَى الْعَاقِدِ ( فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ ثَانِيًا ) ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ حَقُّهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ثُمَّ الدَّفْعِ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ يَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ يَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ أَيْضًا دُونَ دَيْنِ الْوَكِيلِ وَبِدَيْنِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ إنْ كَانَ يَقَعُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ عِنْدَهُمَا وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِلْمُوَكِّلِ فِي الْفَصْلَيْنِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا طَالَبَ الْمُوَكِّلُ الْمُشْتَرِيَ بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ إيَّاهُ ) أَيْ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُوَكِّلِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُوَكِّلَ ( أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْعَقْدِ وَحُقُوقِهِ ، لِمَا ) تَقَدَّمَ ( أَنَّ الْحُقُوقَ تَعُودُ إلَى الْعَاقِدِ ) فِي الْبَيْعِ وَأَمْثَالِهِ ، وَلِهَذَا إذَا نَهَاهُ الْوَكِيلُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ صَحَّ ، وَإِنْ نَهَاهُ الْمُوَكِّلُ عَنْ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ مُطَالَبَةُ الْمُوَكِّلِ إلَّا بِإِذْنِ الْوَكِيلِ ( فَإِنْ دَفَعَهُ إلَيْهِ ) أَيْ إنْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ ( جَازَ ) يَعْنِي وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ جَازَ دَفْعُهُ إلَيْهِ اسْتِحْسَانًا .
فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ دَفَعَهُ لِلْعَطْفِ لَا لِلسَّبَبِيَّةِ ، وَلَكِنْ لَوْ بُدِّلَتْ بِالْوَاوِ لَكَانَ أَحْسَنَ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَلَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ ) أَيْ بِالثَّمَنِ ( ثَانِيًا ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ حَقُّهُ ) أَيْ حَقُّ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَتْ مُطَالَبَتُهُ حَقَّ الْوَكِيلِ ( وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ) وَقَدْ وَصَلَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ إلَى نَفْسِهِ ( فَلَا فَائِدَةَ فِي الْأَخْذِ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْمُوَكِّلِ ( ثُمَّ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْوَكِيلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ الصَّرْفِ ، وَأَمَّا فِي الصَّرْفِ فَقَبْضُ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي الصَّرْفِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَبْضُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ؛ وَلَوْ ثَبَتَ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الْقَبُولِ وَقَبِلَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ .
فَكَذَا إذَا ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ وَقَبَضَ الْمُوَكِّلُ ، أُشِيرَ إلَى هَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِكَوْنِ نَفْسِ الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ حَقَّ الْمُوَكِّلِ ( لَوْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دَيْنٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا دَيْنٌ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ أَيْضًا
دُونَ دَيْنِ الْوَكِيلِ ) حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَلَوْ أَبْرَآهُ جَمِيعًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِإِبْرَاءِ الْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ فَكَذَا هَاهُنَا ، وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ احْتَجْنَا إلَى قَضَاءٍ آخَرَ فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَقْضِي لِلْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ لَمْ نَحْتَجْ إلَى قَضَاءٍ آخَرَ فَجَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ فَقَدْ أَثْبَتْنَا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ لَأَثْبَتْنَا حُكْمًا مُخْتَلَفًا فِيهِ فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ أَوْلَى ، كَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفُ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ .
وَلَمَا اُسْتُشْعِرَ أَنْ يُقَالَ الْمُقَاصَّةُ لَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ نَفْسِ الثَّمَنِ حَقًّا لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ فَإِنَّهَا تَقَعُ بِدَيْنِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي دَيْنٌ عَلَى الْوَكِيلِ وَحْدَهُ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَبِدَيْنِ الْوَكِيلِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ ) إنْ كَانَ ( تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِمَا أَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْمُشْتَرِي ( عِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ : يَعْنِي أَنَّهُ إنْ كَانَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ عِنْدَهُمَا بِدَيْنِ الْوَكِيلِ وَحْدَهُ لِعِلَّةِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بِغَيْرِ عِوَضٍ عَنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا فَيَمْلِكُ الْمُقَاصَّةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ فَتُعْتَبَرُ بِالْإِبْرَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ( وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ ) أَيْ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ الثَّمَنَ ( لِلْمُوَكِّلِ فِي الْفَصْلَيْنِ ) أَيْ فِي فَصْلِ الْإِبْرَاءِ وَالْمُقَاصَّةِ ، بِخِلَافِ الْمُوَكِّلِ فَإِنَّهُ لَا
يَضْمَنُ لِأَحَدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفَصْلَيْنِ فَافْتَرَقَا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : لَا يَجُوزُ إبْرَاءُ الْوَكِيلِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي مِلْكُ الْمُوَكِّلِ ، فَإِبْرَاءُ الْوَكِيلِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ ، كَمَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ لِلْمُشْتَرِي .
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْقَبْضِ ، وَالْقَبْضُ خَالِصُ حَقِّ الْوَكِيلِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقَبْضِ مُسْقِطًا حَقَّ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ .
ثُمَّ أَنَّهُ لَمَّا أُسْقِطَ حَقُّ الْقَبْضِ انْسَدَّ عَلَى الْمُوَكِّلِ بَابُ الِاسْتِيفَاءِ إذْ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ فَصَارَ ضَامِنًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ يَعْتِقُ الْمَرْهُونَ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَلَكِنْ يَضْمَنُ لِلْمُرْتَهِنِ لِانْسِدَادِ بَابِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِثْلُ هَذَا الْبَيْعِ الَّذِي يُوجِبُ مُقَاصَّةَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ بِدَيْنِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الْمُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَكَّلَهُ بِبَيْعٍ يَصِلُ إلَيْهِ ثَمَنُهُ وَهَا هُنَا لَا يَصِلُ .
قُلْت : إنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ قِصَاصًا بِدَيْنِ الْآمِرِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ يَمْلِكُ إبْرَاءَ الْمُشْتَرِي عَنْ الثَّمَنِ بِغَيْرِ عِوَضٍ عِنْدَهُمْ فَيَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ بِعِوَضٍ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
( بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ) ( فَصْلٌ فِي الشِّرَاءِ ) ( قَالَ : وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ أَوْ جِنْسِهِ وَمَبْلَغِ ثَمَنِهِ ) لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا فَيُمْكِنُهُ الِائْتِمَارُ ، ( إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ وَكَالَةً عَامَّةً فَيَقُولَ : ابْتَعْ لِي مَا رَأَيْت ) ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَشْتَرِيهِ يَكُونُ مُمْتَثِلًا .
وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ تَتَحَمَّلُ فِي الْوَكَالَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ اسْتِحْسَانًا ، لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى التَّوَسُّعَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ .
وَفِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ بَعْضُ الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ
( بَابُ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ) ( فَصْلٌ فِي الشِّرَاءِ ) قَدَّمَ مِنْ أَبْوَابِ الْوَكَالَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ وُقُوعًا وَأَمَسُّ حَاجَةً وَهُوَ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَقَدَّمَ فَصْلَ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ .
وَالْبَيْعُ يُنْبِئُ عَنْ إزَالَتِهِ ، وَالْإِزَالَةُ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ لِتَقْدِيمِ فَصْلِ الشِّرَاءِ ضَعِيفُ جِدًّا ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ لَا تَحْقِيقِيٌّ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ كَمَا يُنْبِئُ عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الْمَبِيعِ يُنْبِئُ أَيْضًا عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الثَّمَنِ ، وَإِنَّ الْبَيْعَ كَمَا يُنْبِئُ عَنْ إزَالَةِ الْمِلْكِ عَنْ الْمَبِيعِ يُنْبِئُ أَيْضًا عَنْ إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا إنَّ الشِّرَاءَ جَالِبٌ لِلْمَبِيعِ سَالِبٌ لِلثَّمَنِ وَالْبَيْعُ عَلَى عَكْسِهِ ، فَهُمَا سِيَّانِ فِي الْإِنْبَاءِ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالْإِزَالَةِ .
وَإِنْ وُجِّهَ بِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْعُمْدَةَ فِي عَقْدِ الْمُبَايَعَةِ هُوَ الْمَبِيعُ فَيَكْفِي إنْبَاءُ الشِّرَاءِ عَنْ الْإِثْبَاتِ وَالْبَيْعِ عَنْ الْإِزَالَةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ .
قُلْنَا : لَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ لَيْسَ بِمُقَدَّمٍ عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْهُ ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كُلِّ مَبِيعٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ هُوَ قَبْلَ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ عَنْهُ مِلْكَانِ مُسْتَقِلَّانِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ وَزَوَالَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إنَّمَا يَتَحَقَّقَانِ مَعًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّخْصَيْنِ .
وَأَمَّا قَضِيَّةُ كَوْنِ الْإِزَالَةِ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ فَإِنَّمَا تُجْرَى فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ .
فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْوَجْهَ فِي تَقْدِيمِ فَصْلِ الشِّرَاءِ عَلَى فَصْلِ الْبَيْعِ مَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَقْدِيمِ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْوَكَالَةِ مِنْ كَوْنِهِ أَكْثَرَ وُقُوعًا
وَأَمَسَّ حَاجَةً ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يُوَكِّلُ الْآخَرَ بِالشِّرَاءِ فِي مَأْكِلِهِ وَمَشَارِبِهِ وَمَلَابِسِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي قَلَّمَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ فِي أَوْقَاتِهِ مِنْ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا ، وَقَلَّمَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَتَوَلَّى شِرَاءَهَا بِنَفْسِهِ .
بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فِي بَابِ الْبَيْعِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِشِرَاءِ شَيْءٍ أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَسْمِيَةِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ ) كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ ) كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ جِنْسٌ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ ، وَكَذَا الْجَارِيَةُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ ( وَصِفَتُهُ ) أَيْ نَوْعُهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالتُّرْكِيِّ وَالْهِنْدِيِّ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : فَيَحْتَاجُ إلَى تَعْرِيفِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ ، فَقِيلَ الْجِنْسُ هُوَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَغَايِرَةٌ ، وَالنَّوْعُ اسْمٌ لِأَحَدِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمٍ فَوْقَهُ .
وَذَكَرَ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ مُحَالًا إلَى أَهْلِ الْمَنْطِقِ : الْجِنْسُ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالنَّوْعِ ، وَالنَّوْعُ اسْمٌ دَالٌّ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالشَّخْصِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ يُعَرِّفُ بِهِ مَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا لَا حَاصِلَ لَهُ بَلْ هُوَ أَمْرٌ مُبْهَمٌ مُتَنَاوِلٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ غَيْرِ مُرَادَةٍ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ هَاهُنَا قَطْعًا .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا لَا يُطَابِقُ مُرَادَ الْفُقَهَاءِ وَيَشْهَدُ بِذَلِكَ قَطْعًا مَا ذَكَرُوهُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَأَرَادَ بِالْجِنْسِ النَّوْعَ لَا مُصْطَلَحَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ وَهُوَ الْكُلِّيُّ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالنَّوْعِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ ، وَالنَّوْعُ هُوَ
الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْعَدَدِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ ، أَوْ أَرَادَ مُصْطَلَحَ أَهْلِ النَّحْوِ وَهُوَ مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ وَعَلَى كُلِّ مَا أَشْبَهَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْجِنْسِ مَا يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ ، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فِي بَابِ الْمَهْرِ انْتَهَى .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الَّتِي جَوَّزَ كَوْنَهَا مُرَادَةً بِالْجِنْسِ هَاهُنَا مَنْظُورٌ فِيهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالنَّوْعِ فِي قَوْلِهِ وَأَرَادَ بِالْجِنْسِ النَّوْعَ الْمَنْطِقِيَّ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ مَا لَيْسَ بِنَوْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَإِنَّهُمَا لَيْسَا بِنَوْعَيْنِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُمَا عِنْدَهُمْ مِنْ أَصْنَافِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ النَّوْعَ اللُّغَوِيَّ بِمَعْنَى الْقِسْمِ يَلْزَمُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ جَمِيعُ الْأَنْوَاعِ الشَّرْعِيَّةِ بَلْ أَصْنَافُهَا أَيْضًا ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا قِسْمٌ مِمَّا هُوَ الْأَعَمُّ مِنْهُ ، فَلَا يَتَمَيَّزُ الْجِنْسُ الشَّرْعِيُّ عَنْ النَّوْعِ الشَّرْعِيِّ وَمَا دُونَهُ فَيُخْتَلَ مَعْنَى الْمَقَامِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُصْطَلَحُ أَهْلِ النَّحْوِ فِي اسْمِ الْجِنْسِ .
وَحَاصِلُهُ مَا عُلِّقَ عَلَى شَيْءٍ لَا بِعَيْنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ يَصْدُقُ عَلَى مَا فَرَّقَ الْأَجْنَاسَ الشَّرْعِيَّةَ كَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ وَالرَّقِيقِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِمَّا يَجْمَعُ الْأَجْنَاسَ الشَّرْعِيَّةَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَيَصْدُقُ أَيْضًا عَلَى مَا تَحْتَ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا دُونَهَا ، فَلَا يَتَمَيَّزُ الْجِنْسُ الشَّرْعِيُّ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِهِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْمَقَامِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ مُصْطَلَحُ حُكَمَاءِ الْيُونَانِ فِي الْجِنْسِ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ سِينَا يَصْدُقُ
عَلَى كُلِّ مَفْهُومٍ كُلِّيٍّ يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ فَيَعُمُّ مَا فَوْقَ الْأَجْنَاسِ الشَّرْعِيَّةِ وَمَا تَحْتَهَا مِنْ الْأَنْوَاعِ الشَّرْعِيَّةِ وَأَصْنَافِهَا ، فَلَا يَتَمَيَّزُ الْجِنْسُ الشَّرْعِيُّ حِينَئِذٍ مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْمَقَامِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْمُرَادُ بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ هَاهُنَا غَيْرُ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَنْطِقِ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ عِنْدَهُمْ هُوَ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُخْتَلِفِينَ بِالْحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ كَالْحَيَوَانِ ، وَالنَّوْعُ هُوَ الْمَقُولُ عَلَى كَثِيرِينَ مُتَّفِقِينَ بِالْحَقِيقَةِ فِي جَوَابِ مَا هُوَ كَالْإِنْسَانِ مَثَلًا ، وَالصِّنْفُ هُوَ النَّوْعُ الْمُقَيَّدُ بِقَيْدٍ عَرَضِيٍّ كَالتُّرْكِيِّ وَالْهِنْدِيِّ ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا بِالْجِنْسِ مَا يَشْمَلُ أَصْنَافًا عَلَى اصْطِلَاحِ أُولَئِكَ وَبِالنَّوْعِ الصِّنْفُ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِالْفِقْهِ أَنَّ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَقْرَبُ إلَى ضَبْطِ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ ، لَكِنَّ فِيهِ أَيْضًا إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالصِّنْفِ فِي قَوْلِهِ وَبِالنَّوْعِ الصِّنْفِ الصِّنْفَ الْمَنْطِقِيَّ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ سِيَاقِ كَلَامِهِ ، يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْحِمَارَ نَوْعٌ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِنْفٍ مَنْطِقِيٍّ ، بَلْ هُوَ نَوْعٌ عِنْدَ أَهْلِ الْمَنْطِقِ أَيْضًا ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ الصِّنْفَ اللُّغَوِيَّ بِمَعْنَى الضَّرْبِ وَالْقِسْمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الرَّقِيقَ مَثَلًا صِنْفٌ بِهَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْإِنْسَانِ وَلَيْسَ بِنَوْعٍ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ ، بَلْ هُوَ عِنْدَهُمْ مِمَّا يَجْمَعُ الْأَجْنَاسَ الشَّرْعِيَّةَ كَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ مَثَلًا صِنْفَانِ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ وَلَيْسَا بِنَوْعَيْنِ عِنْدَهُمْ بَلْ هُمَا عِنْدَهُمْ جِنْسَانِ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ ( أَوْ جِنْسِهِ وَمَبْلَغِ ثَمَنِهِ ) أَيْ أَوْ
تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ وَمِقْدَارِ ثَمَنِهِ ( لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا فَيُمْكِنُهُ الِائْتِمَارُ ) أَيْ فَيُمْكِنُ الْوَكِيلُ الِامْتِثَالَ لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّ ذِكْرَ الْجِنْسِ مُجَرَّدًا عَنْ الصِّفَةِ أَوْ الثَّمَنِ لَا يُفِيدُ الْمَعْرِفَةَ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَهُ الْمُوَكِّلُ بِهِ .
وَاعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِهِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ مَعْلُومٌ وَهُوَ الشِّرَاءُ .
وَالْجَوَابُ : إنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ لَيْسَ هُوَ الشِّرَاءَ ، بَلْ هُوَ شِرَاءُ نَوْعٍ مِنْ جِنْسٍ ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ النَّوْعُ لَمْ يُعْلَمْ الْفِعْلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ شِرَاءُ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ مِنْ جِنْسٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَمَعْنَى الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَمِّ الْمُوَكِّلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ نَوْعَهُ مَعَ جِنْسِهِ أَوْ مَبْلَغَ ثَمَنِهِ مَعَ جِنْسِهِ لَمْ يَصِرْ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا فَلَمْ يُمْكِنْ لِلْوَكِيلِ الِائْتِمَارُ بِمَا أَمَرَ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ شِرَاءَ نَوْعٍ مُعَيَّنٍ لِكَوْنِهِ خِلَافَ الْمَفْرُوضِ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ فِي هَذَا الْقِسْمِ شِرَاءُ نَوْعٍ مَا مِنْ أَنْوَاعِ جِنْسٍ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنْ يُرَدُّ عَلَيْهِ الِاعْتِرَاضُ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ حِينَئِذٍ مَعْلُومٌ ، وَهُوَ شِرَاءُ نَوْعٍ مَا مِنْ جِنْسٍ ، فَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ أَيَّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ يَصِيرُ مُؤْتَمَرًا بِمَا أُمِرَ بِهِ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُوَكَّلَ بِهِ حِينَئِذٍ وَإِنْ كَانَ شِرَاءَ نَوْعٍ مُطْلَقٍ مِنْ جِنْسٍ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُوَكِّلِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْمُوَكِّلِ شِرَاءَ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ النَّوْعُ الْمُرَادُ لَمْ يُمْكِنْ لِلْوَكِيلِ
الِائْتِمَارُ بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ مُرَادِهِ ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِيَصِيرَ الْفِعْلُ الْمُوَكَّلُ بِهِ مَعْلُومًا عَلَى وَفْقِ مُرَادِ الْمُوَكِّلِ فَيُمَكِّنُ لِلْوَكِيلِ الِائْتِمَارُ بِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا سَيَأْتِي فَلَا يَدْرِي مُرَادَ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ ( إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ وَكَالَةً عَامَّةً ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ جِنْسِهِ وَصِفَتِهِ أَوْ جِنْسِهِ وَمَبْلَغِ ثَمَنِهِ : يَعْنِي إذَا وَكَّلَهُ وَكَالَةً عَامَّةً ( فَيَقُولُ ابْتَعْ لِي مَا رَأَيْت ) فَلَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْهَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُوَكِّلَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ ) أَيْ إلَى رَأْيِ الْوَكِيلِ ( فَأَيَّ شَيْءٍ يَشْتَرِيهِ يَكُونُ مُمْتَثِلًا ) لِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ فَيَقَعُ عَنْهُ .
أَعْلَمْ أَنَّ الْجَهَالَةَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : فَاحِشَةٌ وَهِيَ جَهَالَةُ الْجِنْسِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالرَّقِيقِ وَهِيَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ .
وَيَسِيرَةٌ وَهِيَ جَهَالَةُ النَّوْعِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ الْحِمَارِ وَالْفَرَسِ وَالْبَغْلِ وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ : لَا تَصِحُّ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَلَنَا { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ بِشِرَاءِ شَاةٍ لِلْأُضْحِيَّةِ } وَلَمْ يُبَيِّنْ صِفَتَهَا .
وَمَبْنَى الْوَكَالَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ لِكَوْنِهَا اسْتِعَانَةً فَيَتَحَمَّلُ فِيهَا الْجَهَالَةُ الْيَسِيرَةُ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْوَصْفِ بَعْضُ الْحَرَجِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ ، وَجَهَالَةٌ مُتَوَسِّطَةٌ وَهِيَ بَيْنَ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ كَالتَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ شِرَاءِ أَمَةٍ أَوْ دَارٍ ، فَإِنْ
بَيَّنَ الثَّمَنَ أَوْ النَّوْعَ وَيُجْعَلُ مُلْحَقًا بِجَهَالَةِ النَّوْعِ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ أَوْ النَّوْعَ لَا يَصِحُّ وَيُلْحَقُ بِجَهَالَةِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ .
كَذَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي أَخْذًا مِنْ الْمَبَاسِيطِ وَالْجَوَامِعِ .
فَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ أَنْ يُشِيرَ إلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْجَهَالَةِ ، وَأَنْ يُبَيِّنَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي بَابِ الْوَكَالَةِ .
فَقَالَ ( وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْيَسِيرَةَ تَتَحَمَّلُ فِي الْوَكَالَةِ كَجَهَالَةِ الْوَصْفِ اسْتِحْسَانًا ) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ ، وَإِنَّمَا قُيِّدَ بِالِاسْتِحْسَانِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا تَتَحَمَّلَ الْجَهَالَةُ فِي الْوَكَالَةِ وَإِنْ قَلَّتْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّا نَجْعَلُ الْوَكِيلَ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ ثُمَّ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ قَوْلُهُ ( لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ عَلَى التَّوَسُّعَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ وَفِي اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ ) يَعْنِي اشْتِرَاطُ بَيَانِ الْوَصْفِ أَوْ اشْتِرَاطُ عَدَمِ الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ ( بَعْضُ الْحَرَجِ وَهُوَ مَدْفُوعٌ ) شَرْعًا بِالنَّصِّ
( ثُمَّ إنْ كَانَ اللَّفْظُ يَجْمَعُ أَجْنَاسًا أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ ) ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ فَلَا يُدْرَى مُرَادُ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ ( وَإِنْ كَانَ جِنْسًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا ، وَبِذِكْرِ النَّوْعِ تَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَلَا تَمْنَعُ الِامْتِثَالَ .
مِثَالُهُ : إذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا فَإِنْ بَيَّنَ النَّوْعَ كَالتُّرْكِيِّ وَالْحَبَشِيِّ أَوْ الْهِنْدِيِّ أَوْ السِّنْدِيِّ أَوْ الْمُوَلِّدِ جَازَ ، وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَوْ بَيَّنَ النَّوْعَ أَوْ الثَّمَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ وَالْجَوْدَةَ وَالرَّدَاءَةَ وَالسِّطَةَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ ، وَمُرَادُهُ مِنْ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ النَّوْعُ
( ثُمَّ إنْ كَانَ اللَّفْظُ ) أَيْ لَفْظُ الْمُوَكِّلِ ( يَجْمَعُ أَجْنَاسًا ) كَالدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ ( أَوْ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ ) كَالدَّارِ وَالرَّقِيقِ ( لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ ) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ ( لِأَنَّ بِذَلِكَ الثَّمَنِ يُوجَدُ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ ) أَيْ يُوجَدُ فَرْدٌ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ ( فَلَا يُدْرَى مُرَادُ الْآمِرِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ ) فَالْوَكِيلُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ ( وَإِنْ كَانَ ) أَيْ اللَّفْظُ ( جِنْسًا يَجْمَعُ أَنْوَاعًا ) كَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ( لَا يَصِحُّ ) أَيْ التَّوْكِيلُ ( إلَّا بِبَيَانِ الثَّمَنِ أَوْ النَّوْعِ ) هَذَا بَيَانٌ لِحُكْمِ الْجَهَالَةِ الْمُتَوَسِّطَةِ وَإِنَّمَا كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ ( لِأَنَّهُ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا وَبِذِكْرِ النَّوْعِ تَقِلُّ الْجَهَالَةُ فَلَا يَمْنَعُ الِامْتِثَالَ ) أَيْ امْتِثَالَ أَمْرِ الْآمِرِ ( مِثَالُهُ ) أَيْ مِثَالُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الْجَهَالَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمِثَالَ لِهَذَا النَّوْعِ دُونَ النَّوْعَيْنِ السَّابِقَيْنِ ؛ لِأَنَّ مِثَالَ ذَيْنِك النَّوْعَيْنِ سَيَأْتِي فِي أَثْنَاءِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، بِخِلَافِ هَذَا النَّوْعِ وَهَذَا سِرٌّ تَفَرَّدْت بِبَيَانِهِ .
( إذَا وَكَّلَهُ ) أَيْ إذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا ( بِشِرَاءِ عَبْدٍ أَوْ جَارِيَةٍ لَا يَصِحُّ ) أَيْ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا اللَّفْظِ ( لِأَنَّهُ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا ) أَيْ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ : يَعْنِي اللَّفْظَ عَبْدٌ وَجَارِيَةٌ يَشْمَلُ أَنْوَاعًا فَلَا يُدْرَى الْمُرَادُ ( فَإِنْ بَيَّنَ النَّوْعَ كَالتُّرْكِيِّ أَوْ الْحَبَشِيِّ أَوْ الْهِنْدِيِّ أَوْ السِّنْدِيِّ أَوْ الْمُوَلَّدِ ) وَفِي الْمُغْرِبِ : " الْمُوَلَّدَةُ الَّتِي وُلِدَتْ بِبِلَادِ الْإِسْلَامِ " ( جَازَ ) أَيْ التَّوْكِيلُ وَكَذَا إذَا بَيَّنَ الثَّمَنَ ( لِمَا ذَكَرْنَاهُ ) أَرَادَ بِهِ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ النَّوْعُ مَعْلُومًا قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : إنْ كَانَ يُوجَدُ بِمَا سَمَّى
مِنْ الثَّمَنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ لَا يَصِحُّ بِبَيَانِ الثَّمَنِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ النَّوْعَ كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ ( وَلَوْ بَيَّنَ النَّوْعَ أَوْ الثَّمَنَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ ) وَهِيَ ( الْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ وَالسِّطَةُ ) أَيْ الْوَسَطُ ، السِّطَةُ مَعَ الْوَسَطِ كَالْعِدَّةِ مَعَ الْوَعْدِ وَالْعِظَةِ مَعَ الْوَعْظِ فِي أَنَّ التَّاءَ فِي آخِرِهَا عُوِّضَتْ عَنْ الْوَاوِ السَّاقِطَةِ مِنْ أَوَّلِهَا فِي الْمَصْدَرِ وَالْفِعْلُ مِنْ حَدِّ ضَرَبَ ( جَازَ ) أَيْ التَّوْكِيلُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْجَهَالَةِ ( جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ ) أَيْ يَسِيرَةٌ فَلَا يُبَالِي بِهَا ( وَمُرَادُهُ ) أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ ( مِنْ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْكِتَابِ ) أَيْ فِي مُخْتَصَرِهِ ( النَّوْعُ ) لِيُوَافِقَ كَلَامُهُ الْقَاعِدَةَ الشَّرْعِيَّةَ وَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي كُتُبِ سَائِرِ الْمَشَايِخِ
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ ) لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
وَفِي الْعُرْفِ يُطْلَقُ عَلَى الْخَيْلِ وَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَقَدْ جَمَعَ أَجْنَاسًا ، وَكَذَا الثَّوْبُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلْبُوسَ مِنْ الْأَطْلَسِ إلَى الْكِسَاءِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ مَهْرًا وَكَذَا الدَّارُ تَشْمَلُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَرَافِقِ وَالْمَحَالِّ وَالْبُلْدَانِ فَيَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ ( قَالَ : وَإِنْ سَمَّى ثَمَنَ الدَّارِ وَوَصَفَ جِنْسَ الدَّارِ وَالثَّوْبِ جَازَ ) مَعْنَاهُ نَوْعُهُ ، وَكَذَا إذَا سَمَّى نَوْعَ الدَّابَّةِ بِأَنْ قَالَ حِمَارًا أَوْ نَحْوَهُ .
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : اشْتَرِ لِي ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ ) أَيْ وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ كَمَا ذَكَرَ فِيمَا مَرَّ ، وَلَمَّا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ كَانَ الشِّرَاءُ وَاقِعًا عَلَى الْوَكِيلِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَقَالَ : رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً فَاشْتَرَى فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ وَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ ( لِلْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يَدُبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ .
وَفِي الْعُرْفِ عَلَى الْخَيْلِ وَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ فَقَدْ جَمَعَ أَجْنَاسًا ) يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى اللُّغَةِ أَوْ عَلَى الْعُرْفِ قَدْ جَمَعَ أَجْنَاسًا فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِيهِ فَاحِشَةً ( وَكَذَا الثَّوْبُ ) أَيْ هُوَ أَيْضًا يَجْمَعُ أَجْنَاسًا ( لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْمَلْبُوسَ مِنْ الْأَطْلَسِ إلَى الْكِسَاءِ ) أَيْ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ فِيهِ أَيْضًا فَاحِشَةً ( وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ ) أَيْ تَسْمِيَةُ الثَّوْبِ ( مَهْرًا ) فَإِنَّ الْجَهَالَةَ الْفَاحِشَةَ تُبْطِلُ التَّسْمِيَةَ فِي بَابِ الْمَهْرِ أَيْضًا ( وَكَذَا الدَّارُ تَشْمَلُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ ) يَعْنِي أَنَّ الدَّارَ وَإِنْ لَمْ تَجْمَعْ أَجْنَاسًا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهَا تَجْمَعُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأَجْنَاسِ ( لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا فَاحِشًا بِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ وَالْجِيرَانِ وَالْمَرَافِقِ وَالْمَحَالِّ وَالْبُلْدَانِ فَيَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ ) أَيْ يَتَعَذَّرُ الِامْتِثَالُ لِأَمْرِ الْآمِرِ بِشِرَاءِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ لِتَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ سَمَّى ثَمَنَ الدَّارِ وَوَصَفَ جِنْسَ الدَّارِ وَالثَّوْبِ جَازَ ) أَيْ التَّوْكِيلُ هَذَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( مَعْنَاهُ ) يَعْنِي مَعْنَى جِنْسِ الدَّارِ فِي قَوْلِهِ وَوَصَفَ جِنْسَ الدَّارِ ( نَوْعُهُ ) فَحِينَئِذٍ تَلْتَحِقُ بِجَهَالَةِ النَّوْعِ وَهِيَ جَهَالَةٌ يَسِيرَةٌ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ
الْوَكَالَةِ كَمَا مَرَّ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَتَقْيِيدُهُ بِذِكْرِ نَوْعِ الدَّارِ مُخَالِفٌ لِرِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ فَقَالَ فِيهِ : وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَارًا وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ جَازَ ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ تَصِيرُ مَعْلُومَةً عَادَةً ، وَإِنْ بَقِيَتْ جَهَالَةٌ فَهِيَ يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ .
وَالْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ فِي دِيَارِنَا لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ الْمَحَلَّةِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ .
وَأَنَا أَقُولُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ : إنَّمَا حَمَلَ الْمُصَنِّفُ الْجِنْسَ الْوَاقِعَ فِي عِبَارَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَاهُنَا عَلَى النَّوْعِ لِئَلَّا يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَقَامِ ، فَإِنْ لَوْ أَجْرَى الْجِنْسَ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيِّ كَانَ ذِكْرُ وَصْفِ الْجِنْسِ مُسْتَدْرَكًا بِالنَّظَرِ إلَى مَسْأَلَةِ الدَّارِ وَمُخِلًّا بِالنَّظَرِ إلَى مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا سَمَّى ثَمَنَ الدَّارِ يَلْغُو هُنَاكَ وَصْفُ جِنْسِهَا ، إذْ لَا مَدْخَلَ لِوَصْفِ جِنْسِ الْجِنْسِ فِي رَفْعِ الْجَهَالَةِ ، وَإِنَّمَا تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَوْ بِبَيَانِ النَّوْعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ قَبْلُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الثَّوْبَ مَعْطُوفٌ عَلَى الدَّارِ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى : إنْ وَصَفَ الْمُوَكِّلُ جِنْسَ الثَّوْبِ جَازَ التَّوْكِيلُ ، وَلَا صِحَّةَ لَهُ عَلَى تَقْدِيرٍ إنْ كَانَ الْجِنْسُ يَجْرِي عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيِّ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مِنْ قَبِيلِ مَا يَجْمَعُ أَجْنَاسًا فَالْجَهَالَةُ فِيهِ فَاحِشَةٌ وَهِيَ لَا تَرْتَفِعُ .
وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ارْتِفَاعُهَا بِمُجَرَّدِ وَصْفِ الْجِنْسِ .
وَأَمَّا إذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى النَّوْعِ فَيَصِحُّ الْمَعْنَى فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ بِلَا غُبَارٍ ، إذْ بِبَيَانِ النَّوْعِ تَرْتَفِعُ الْجَهَالَةُ الَّتِي تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ قَطْعًا ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْكَلَامُ فِي
مَسْأَلَةِ الدَّارِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ حِينَئِذٍ مُقَيَّدَةً بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَوَصْفِ النَّوْعِ ، مَعَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الثَّمَنِ كَافِيَةٌ فِيهَا عَلَى مَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْمَبْسُوطِ ، بَلْ فِي رِوَايَةِ عَامَّةِ الْكُتُبِ ، فَتَصِيرُ رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مُخَالِفَةً لِرِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ الرِّوَايَتَيْنِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ هَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ ، فَيَكُونُ مَدَارُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الدَّارِ فَاحِشَةٌ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَمَدَارُ رِوَايَةِ تِلْكَ الْكُتُبِ عَلَى أَنَّ الْجَهَالَةَ فِيهَا مُتَوَسِّطَةٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
ثُمَّ إنَّا إنْ جَعَلْنَا وَصْف النَّوْعِ فِي حَقِّ الدَّارِ بَيَانَ الْمَحَلَّةِ صَارَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَيْنَ مَا قَالَهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا وَكَانَ مُوَافِقًا لِمَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْكُتُبِ فَتَأَمَّلْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا إذَا سَمَّى نَوْعَ الدَّابَّةِ بِأَنْ قَالَ حِمَارًا وَنَحْوَهُ ) أَيْ يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الثَّمَنَ ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمَبْسُوطِ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ صَارَ مَعْلُومًا بِتَسْمِيَةِ النَّوْعِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ فَتَصِحُّ الْوَكَالَةُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْحَمِيرُ أَنْوَاعٌ مِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِرُكُوبِ الْعُظَمَاءِ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : هَذَا اخْتِلَافُ الْوَصْفِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمُوَكِّلِ حَتَّى قَالُوا : إنَّ الْقَاضِيَ أَوْ الْوَالِيَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِشِرَاءِ حِمَارٍ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَرْكَبُ مِثْلَهُ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ مَقْطُوعَ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنَيْنِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَمَرَهُ الْفَالِيزِيُّ بِذَلِكَ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
هَاهُنَا مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ فِي مَسْأَلَةِ التَّزَوُّجِ عَلَى حَيَوَانٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ : مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُسَمِّيَ جِنْسَ الْحَيَوَانِ دُونَ الْوَصْفِ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى فَرَسٍ أَوْ حِمَارٍ انْتَهَى .
فَقَدْ جُعِلَ الْحِمَارُ هُنَاكَ جِنْسًا وَهُنَا نَوْعًا وَالتَّوْجِيهُ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هُنَاكَ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجِنْسِ مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ دُونَ مُصْطَلَحِ أَهْلِ الْمَنْطِقِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ ، إذْ قَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا بِأَنَّ الْحِمَارَ نَوْعٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَهُ بِالنَّوْعِ هَاهُنَا مَا هُوَ مُصْطَلَحُ الْفُقَهَاءِ وَإِلَّا لَلَزِمَ بَيَانُ ثَمَنِ الْحِمَارِ أَيْضًا ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِعَدَمِ لُزُومِهِ فَلَمْ يَكُنْ الْحِمَارُ جِنْسًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْفُقَهَاءِ أَيْضًا
( قَالَ : وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ) اسْتِحْسَانًا .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ مَطْعُومٍ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ إذْ الطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُرْفَ أَمْلَكُ وَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ إذَا ذُكِرَ مَقْرُونًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَا عُرْفَ فِي الْأَكْلِ فَبَقِيَ عَلَى الْوَضْعِ ، وَقِيلَ إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ فَعَلَى الْحِنْطَةِ ، وَإِنْ قَلَّتْ فَعَلَى الْخُبْزِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَى الدَّقِيقِ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا فَهُوَ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ) وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِدَفْعِ الدَّرَاهِمِ إلَخْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ اشْتَرَى لِي طَعَامًا لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ الْمِقْدَارَ وَجَهَالَةُ الْقَدْرِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ كَجَهَالَةِ الْجِنْسِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْوَكِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ بِمَا سَمَّى لَهُ كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ اسْتِحْسَانٌ ( وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ عَلَى كُلِّ مَطْعُومٍ اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ ) أَيْ لِحَقِيقَةِ الطَّعَامِ ( كَمَا فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ ) يَعْنِي إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا يَحْنَثُ بِأَكْلِ أَيِّ طَعَامٍ كَانَ ( إذْ الطَّعَامُ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ ) بِحَسَبِ الْحَقِيقَةِ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعُرْفَ أَمْلَكُ ) أَيْ أَقْوَى وَأَرْجَحُ بِالِاعْتِبَارِ مِنْ الْحَقِيقَةِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْعُرْفِ ( عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) أَيْ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ( إذَا ذُكِرَ ) أَيْ الطَّعَامَ ( مَقْرُونًا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ الْعُرْفَ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ، وَبَائِعُ الطَّعَامِ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا دُونَ مَنْ يَبِيعُ الْفَوَاكِهَ فَصَارَ التَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ ، وَكَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ فِي الْكَافِي : وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِشِرَاءِ الْبُرِّ وَدَقِيقِهِ وَلَا عُرْفَ فِي الْأَكْلِ فَبَقِيَ عَلَى الْوَضْعِ ) أَيْ فَبَقِيَ الطَّعَامُ فِي حَقِّ الْأَكْلِ عَلَى الْوَضْعِ وَالْحَقِيقَةِ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ عَلَى الْأَكْلِ بِأَكْلِ أَيِّ مَطْعُومٍ كَانَ .
قَالُوا : هَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ مِنْ انْصِرَافِهِ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا إنَّمَا هُوَ عُرْفُ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ سُوقَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا عِنْدَهُمْ يُسَمَّى
سُوقَ الطَّعَامِ ، وَأَمَّا فِي عُرْفِ غَيْرِهِمْ فَيَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ كُلِّ مَطْعُومٍ .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ : الطَّعَامُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا مَا يُمْكِنُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ إدَامٍ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ وَالْمَشْوِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَيَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَيْهِ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا ( وَقِيلَ إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ فَعَلَى الْحِنْطَةِ ، وَإِنْ قَلَّتْ فَعَلَى الْخُبْزِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَى الدَّقِيقِ ) هَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مُطْلَقٌ : أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً إذَا وَكَّلَ بِشِرَاءِ الطَّعَامِ يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظٍ قِيلَ مُخَالِفٍ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ فِي أَوَّلِ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ بُيُوعِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَعَزَاهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ إلَى شَيْخِ الْإِسْلَامِ الْمَعْرُوفِ بِخُوَاهَرْ زَادَهْ ، وَلَكِنْ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّهُ لَيْسَ بِقَوْلٍ مُخَالِفٍ لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي الْأَوَّلِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ فَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ ذِكْرِ مَا قُلْنَا : ثُمَّ إنْ قَلَّتْ الدَّرَاهِمُ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا خُبْزًا ، وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْخُبْزَ ؛ لِأَنَّ ادِّخَارَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ الِادِّخَارُ فِي الْحِنْطَةِ .
وَذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ : وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ طَعَامًا وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ صَحَّ التَّوْكِيلُ اسْتِحْسَانًا .
وَيَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا وَخُبْزِهَا وَتُحَكَّمُ الدَّرَاهِمُ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهَا إنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَلِيلَةً بِحَيْثُ لَا يَشْتَرِي بِمِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ إلَّا الْخُبْزَ ، فَالتَّوْكِيلُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْخُبْزِ إلَى آخِرِهِ .
ثُمَّ قَالَ : قَالَ الْقُدُورِيُّ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ قَدْ اتَّخَذَ وَلِيمَةً يَعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ التَّوْكِيلِ الْخُبْزُ وَإِنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ ، فَإِذَا اشْتَرَى الْخُبْزَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ إلَى هَاهُنَا كَلَامُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ رَأْيِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ هَاهُنَا مِنْ أَنَّ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِقِيلَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ .
وَأَقُولُ : فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ : الْعُرْفُ يَصْرِفُ إطْلَاقَ اللَّفْظِ الْمُتَنَاوَلِ لِكُلِّ مَطْعُومٍ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ، وَالدَّرَاهِمُ بِقِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا وَسِطَتِهَا تُعَيِّنُ أَفْرَادَ مَا عَيَّنَهُ الْعُرْفُ .
وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يَتَرَجَّحُ عَلَى ذَلِكَ وَيَصْرِفُهُ إلَى خِلَافِ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِثْلَ الرَّجُلِ اتَّخَذَ الْوَلِيمَةَ وَدَفَعَ دَرَاهِمَ كَثِيرَةً لِيَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَاشْتَرَى بِهَا خُبْزًا وَقَعَ عَلَى الْوَكَالَةِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ انْتَهَى .
وَطَعَنَ فِيهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : نِسْبَةُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى نَفْسِهِ عَجِيبٌ ، فَإِنَّ صَاحِبَ النِّهَايَةِ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ أَقُولُ هُوَ مَا فِي الذَّخِيرَةِ بِعَيْنِهِ انْتَهَى .
وَأَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى الْمُتَأَمِّلِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَنَّ نِسْبَتَهُ إلَى نَفْسِهِ لَيْسَتْ بِمَحَلِّ التَّعَجُّبِ ؛ لِأَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ وَجْهِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا مِنْ أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانَ طَرِيقِ دُخُولِ مَا ذَكَرَ ثَانِيًا بِقِيلَ فِي الْأَوَّلِ وَبَيَانَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا بِقِيلَ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ بِتَحَكُّمِ الدَّرَاهِمِ ، وَقَصْدُ إفَادَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ بِقِيلَ دَاخِلٌ فِي الْأَوَّلِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ الْخُبْزُ أَيْضًا دُونَ الْأَوَّلِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ مَا ذَكَرَ فِي التَّحْقِيقِ الْمَزْبُورِ مِنْ أَنَّ الدَّرَاهِمَ بِقِلَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا
وَسِطَتِهَا تُعَيِّنُ أَفْرَادَ مَا عَيَّنَهُ الْعُرْفُ ، وَالْخُبْزُ لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا عَيَّنَهُ الْعُرْفُ عَلَى مَا ذَكَرَ فِيهِ .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يُدْرَجَ الْخُبْزُ فِي الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا الْمَذْكُورَيْنِ أَوْ أَنْ يُجْعَلَ فِي حُكْمِهِمَا فَيَكْتَفِي بِذِكْرِهِمَا عَنْ ذِكْرِهِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَا مَجَالَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا الْخُبْزَ قَسِيمًا لِلْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا فِي الذِّكْرِ وَالْحُكْمِ حَيْثُ قَالُوا : إنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ فَعَلَى الْحِنْطَةِ ، وَإِنْ قَلَّتْ فَعَلَى الْخُبْزِ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَى الدَّقِيقِ فَأَنَّى يَتَيَسَّرُ ذَلِكَ .
نَعَمْ قَدْ ذَكَرَ الْخُبْزَ مَعَ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا فِي الذَّخِيرَةِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانِ تَحْكِيمِ الدَّرَاهِمِ كَمَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ عِنْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ ، فَحِينَئِذٍ لَا إشْكَالَ ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي تَصْحِيحِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ وَمَسْأَلَةِ الْمَبْسُوطِ عَلَى الْقَوْلِ بِكَوْنِ الْكَلَامِ الثَّانِي دَاخِلًا فِي الْأَوَّلِ فَتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ وَقَبَضَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَهِيَ كُلُّهَا إلَيْهِ ( فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ ، وَلِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ يَدِهِ الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْمُشْتَرِي دَعْوَى كَالشَّفِيعِ وَغَيْرِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا بَعْدَهُ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا اشْتَرَى الْوَكِيلُ وَقَبَضَ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ ) أَيْ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْبَائِعِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فِيهِ ( مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ ( مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ) أَيْ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِ الشِّرَاءِ ( وَهِيَ كُلُّهَا إلَيْهِ ) أَيْ الْحُقُوقُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ ( فَإِنْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ ) أَيْ فَإِنْ سَلَّمَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُوَكِّلِ ( لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ) أَيْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ ( لِأَنَّهُ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ ) أَيْ انْتَهَى حُكْمُ الْوَكَالَةِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَخَرَجَ مِنْ الْوَكَالَةِ وَالْقَطْعِ حَقُّهُ ( وَلِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ ( إبْطَالَ يَدِهِ ) أَيْ يَدِ الْمُوَكِّلِ ( الْحَقِيقِيَّةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ) أَيْ بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ الَّذِي هُوَ صَاحِبُ الْيَدِ الْحَقِيقِيَّةِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَجْلِ كَوْنِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا إلَى الْوَكِيلِ كَذَا قِيلَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْسِيرَ إنَّمَا يَتِمُّ بِالنَّظَرِ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَيَأْتِي قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ لَا بِالنَّظَرِ إلَى قَوْلِهِ لَا بَعْدَهُ كَمَا لَا يَخْفَى ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِي حَيِّزِ هَذَا التَّفْرِيعِ كَمَا تَرَى .
فَالْحَقُّ فِي التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ : أَيْ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِ الرَّدِّ فِي صُورَةٍ وَعَدَمِ جَوَازِهِ فِي أُخْرَى ( كَانَ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْمُشْتَرِي دَعْوَى كَالشَّفِيعِ ) إذَا ادَّعَى حَقَّ الشُّفْعَةِ فِي الْمُشْتَرِي ( وَغَيْرِهِ ) أَيْ وَغَيْرِ الشَّفِيعِ كَمَنْ يَدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ الْمِلْكُ ( قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ كَانَ خَصْمًا : أَيْ
كَانَ الْوَكِيلُ خَصْمًا لِذَلِكَ الْمُدَّعِي قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُوَكِّلِ ( لَا بَعْدَهُ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا لَهُ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ
قَالَ ( وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَمُرَادُهُ التَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ دُونَ قَبُولِ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَبِيعُ طَعَامًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ) يَعْنِي إذَا وَكَّلَ شَخْصًا أَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ الصَّرْفِ أَوْ يُسَلِّمَ فِي مَكِيلٍ مَثَلًا فَفَعَلَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّوْكِيلَ بِهِ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ ( عَلَى مَا مَرَّ ) فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ كُلُّ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يَعْقِدَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ .
قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : يَرُدُّ عَلَيْهِ مَسْأَلَةُ الْوَكَالَةِ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَإِنَّهَا لَا تَجُوزُ مَعَ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ لَوْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ لِقَبُولِ السَّلَمِ يَجُوزُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَجِبْ عَنْهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ عَنْهُ .
فَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : فَجَوَابُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ أَيْضًا لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ ، إلَّا أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رُخْصَةً لَهُ دَفْعًا لِحَاجَةِ الْمَفَالِيسِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } وَمَا ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ فَلَمْ يَجُزْ تَوْكِيلُهُ غَيْرَهُ .
أَوْ نَقُولُ : جَازَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ ضَرُورَةَ دَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ .
وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ ، فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي التَّوْكِيلِ وَلَمْ يَرِدْ نَقْضًا عَلَى الْكُلِّيِّ الَّذِي قَالَهُ الْقُدُورِيُّ ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ لِعَارِضِ الضَّرُورَةِ ، وَالْعَوَارِضُ لَا تَقْدَحُ فِي الْقَوَاعِدِ .
وَقَالَ هَذَا مَا سَمَحَ بِهِ خَاطِرِي فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَقَدْ تَبِعَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي كِلَا وَجْهَيْ جَوَابِهِ وَلَكِنَّهُ أَجْمَلَهُمَا .
أَقُولُ : فِي كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمَا نَظَرٌ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّهُ مَنْقُوضٌ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ مَثَلًا ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاشِرَهُ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ
يَجُوزُ أَنْ يُوَكِّلَ بِهِ غَيْرَهُ بِلَا خِلَافٍ ، مَعَ أَنَّهُ ثَابِتٌ أَيْضًا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ كَمَا سَيَأْتِي فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِجَارَةِ .
ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَوْرِدَ النَّصِّ مُجَرَّدُ جَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ ، فَجَوَازُ التَّوْكِيلِ فِيهِ عَلَى فَرْضٍ لَا يُنَافِي الِاقْتِصَارَ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ ، كَمَا أَنَّ جَوَازَهُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ لَمْ يُنَافِ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ مَعَ انْتِقَاضِهِ أَيْضًا بِمِثْلِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ فِي التَّوْكِيلِ أَيْضًا ضَرُورَةَ دَفْعِ الْحَاجَةِ سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أَوْ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ الثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ مُقَدَّرًا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّوْكِيلِ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ أَيْضًا .
لَا يُقَالُ : إنَّمَا جَازَ بَيْعُ الْمَعْدُومِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ لِضَرُورَةِ دَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ إلَى الثَّمَنِ لَا لِمُطْلَقِ الضَّرُورَةِ .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ فِي التَّوْكِيلِ ضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَى الْعَمَلِ لَا غَيْرُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ يَتَحَقَّقُ فِي التَّوْكِيلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ضَرُورَةُ دَفْعِ حَاجَةِ الْمَفَالِيسِ إلَى الثَّمَنِ أَيْضًا مَعَ زِيَادَةٍ ، فَإِنَّ الْمُفْلِسَ الْعَاجِزَ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَوْكِيلِ غَيْرِهِ لِقَبُولِ السَّلَمِ تَشْتَدُّ حَاجَتُهُ إلَى الثَّمَنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمُرَادُهُ التَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ ) أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ بِالتَّوْكِيلِ بِعَقْدِ السَّلَمِ التَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ ، وَهُوَ تَوْكِيلُ رَبِّ السَّلَمِ غَيْرَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَقْدَ السَّلَمِ ، وَلَفْظُ الْإِسْلَامِ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ .
يُقَالُ : أَسْلَمَ فِي كَذَا : إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِالسَّلَمِ ( دُونَ قَبُولِ السَّلَمِ ) أَيْ لَيْسَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ التَّوْكِيلَ بِقَبُولِ السَّلَمِ وَهُوَ التَّوْكِيلُ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ
إلَيْهِ ( لِأَنَّ ذَلِكَ ) أَيْ : لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبُولِ السَّلَمِ ( لَا يَجُوزُ فَإِنَّ الْوَكِيلَ حِينَئِذٍ يَبِيعُ طَعَامًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ ) أَيْ الْمُوَكِّلِ ( وَهَذَا لَا يَجُوزُ ) لِأَنَّ مَنْ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ فِي الدُّيُونِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُحَمَّدٌ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالسَّلَمِ مِنْ الْبُيُوعِ .
وَإِذَا بَطَلَ التَّوْكِيلُ مِنْ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بِقَبُولِ عَقْدِ السَّلَمِ كَانَ الْوَكِيلُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَيَجِبُ الطَّعَامُ فِي ذِمَّتِهِ وَرَأْسُ الْمَالِ مَمْلُوكٌ لَهُ ، فَإِذَا سَلَّمَهُ إلَى الْآمِرِ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ مِنْهُ كَانَ قَرْضًا لَهُ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِشَيْءٍ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ كَمَا فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الْمُطَالَبُ بِالثَّمَنِ وَالثَّمَنُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ فَلِمَ لَا يَجُوزُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَوْكِيلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ غَيْرُهُ بِقَبُولِ السَّلَمِ عَلَى أَنْ يُطَالِبَ الْوَكِيلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ بِجَامِعِ مَعْنَى الدَّيْنِيَّةِ .
فَإِنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ كَالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي .
قُلْنَا : بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ فَرْقٌ ، فَإِنَّ الْمُسَلِّمَ فِيهِ دَيْنٌ لَهُ حُكْمُ الْمَبِيعِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَيْسَ لِلثَّمَنِ حُكْمُ الْمَبِيعِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْجَوَازِ هُنَاكَ الْجَوَازُ هُنَا .
كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ : إنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُبْدَلُ فِي ذِمَّةِ شَخْصٍ وَآخَرُ يَمْلِكُ بَدَلَهُ ، وَمَا ذَكَرْتُمْ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ الْمُبْدَلَ وَيَلْزَمُ الْبَدَلُ فِي ذِمَّتِهِ .
وَقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : فَاجْعَلْ الْمُسَلِّمَ فِيهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ وَالْمَالَ لَهُ كَمَا فِي صُورَةِ الشِّرَاءِ .
فَالْجَوَابُ هُوَ الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ آنِفًا انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : إنَّهُ عَدَلَ هَاهُنَا عَنْ نَهْجِ الصَّوَابِ حَيْثُ قَصَدَ التَّصَرُّفَ الزَّائِدَ وَلَكِنْ أَفْسَدَ ؛ لِأَنَّ مَآلَ جَوَابِهِ الِاعْتِرَافُ بِعَدَمِ تَمَامِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، وَالْمَصِيرُ إلَى دَلِيلٍ آخَرَ حَاصِلٌ مِنْ الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَاصِلُهُ أَنَّ جَوَازَ قَبُولِ السَّلَمِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَبِالضَّرُورَةِ ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ وَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْآمِرِ بِهِ .
وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِمَّا تَلَقَّتْهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ بِالْقَبُولِ فَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَافِ بِعَدَمِ تَمَامِهِ مَعَ تَحْقِيقِ الْمُخْلِصِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِالْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ غَيْرُهُ .
عَلَى أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ قَدْ عَرَفْت عَدَمَ تَمَامِهِ بِمَا أَوْرَدْنَا عَلَيْهِ فِيمَا قَبْلُ
( فَإِنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ ) لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ( وَلَا يُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ ، وَيَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْمُرْسِلِ فَصَارَ قَبْضُ الرَّسُولِ قَبْضَ غَيْرِ الْعَاقِدِ فَلَمْ يَصِحَّ .
( فَإِنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : أَيْ إنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ صَاحِبَهُ الَّذِي عَقَدَ مَعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ ( لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ) يَعْنِي أَنَّ مِنْ شَرْطِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ قَبْضَ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ ، فَإِذَا وُجِدَ الِافْتِرَاقُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ فَبَطَلَ الْعَقْدُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : هَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ كَأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارِفٌ بِنَفْسِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْوَكِيلِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ .
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ : وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنَّ الْوَكِيلَ أَصِيلٌ فِي بَابِ الْبَيْعِ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ الْعَقْدَ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ انْتَهَى ( وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ ) أَيْ لَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَتُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ( لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَالْمُسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ ) أَيْ قَبْضُ الْوَكِيلِ بَدَلَ الصَّرْفِ ( وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُقُوقُ ) أَيْ وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ مِمَّنْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ ( كَالصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الصَّرْفِ مِنْ تَتِمَّةِ الْعَقْدِ فَيَصِحُّ مِمَّنْ يُصْدَرُ عَنْهُ الْعَقْدُ : أَقُولُ : لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ قَبْضُ الْعَاقِدِ وَالْقَبْضُ مِنْ الْعَاقِدِ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ وَالْقَبْضُ مِنْهُ لَكَانَ أَوْلَى وَأَلْيَقَ ، إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْوَكِيلِ عَامٌّ لِبَابَيْ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهُ فَإِنْ فَارَقَ الْوَكِيلُ صَاحِبَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ عَامُّ لَهُمَا .
وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا خَاصٌّ بِبَابِ
الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي بَابِ السَّلَمِ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ لَا مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ كَمَا مَرَّ ، وَالْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ لَيْسَ بِقَابِضِ الْبَدَلِ بَلْ هُوَ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ قَوْلُهُ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْعَاقِدُ وَهُوَ الْوَكِيلُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ فَكَانَ الدَّلِيلُ قَاصِرًا عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعِي ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا فَتَدَبَّرْ ( بِخِلَافِ الرَّسُولِ ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ .
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرَّسُولَ إذَا قَبَضَ لَا يَصِحُّ قَبْضُهُ فَلَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ : أَيْ الرَّسُولِ فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي بَابِ السَّلَمِ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الرَّسُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي السَّلَمِ : أَيْ مِنْ جَانِبِ رَسُولِ السَّلَمِ وَمِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْوَكَالَةُ مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الرِّسَالَةُ مِنْ جَانِبِهِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ ) وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ هَاهُنَا فِي مُخَالَفَةِ الرَّسُولِ فِي الْعَقْدِ لِلْوَكِيلِ فِي الْعَقْدِ فِي بَابَيْ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ، وَرِسَالَةُ الرَّسُولِ فِي الْعَقْدِ إنَّمَا تَثْبُتُ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ خَارِجٌ عَنْ الْعَقْدِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الرِّسَالَةِ فِيهِ هَذَا .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَوْضِيحِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ فِي الْعَقْدِ لَا فِي الْقَبْضِ : وَإِلَّا لَكَانَ افْتِرَاقٌ بِلَا قَبْضٍ ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مُرَادَهُ بِأَنْ قَالَ : فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا عَقَدَ الْمُرْسِلُ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَقْبِضْ وَفَارَقَ صَاحِبَهُ ثُمَّ أَرْسَلَهُ إذْ لَا مَعْنَى لِلْإِرْسَالِ قَبْلَ الْمُفَارَقَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثُ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنَّمَا يُفِيدُ أَنْ لَا تَكُونَ الرِّسَالَةُ فِي الْقَبْضِ فَقَطْ ، لَا أَنْ تَكُونَ فِي الْعَقْدِ
وَالْقَبْضِ مَعًا ، وَبِدُونِ دَفْعِ هَذَا الِاحْتِمَالِ أَيْضًا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ ( وَيَنْتَقِلُ كَلَامُهُ إلَى الْمُرْسِلِ ) أَيْ وَيَنْتَقِلُ كَلَامُ الرَّسُولِ فِي الْعَقْدِ إلَى الْمُرْسِلِ ( فَصَارَ قَبْضُ الرَّسُولِ قَبْضَ غَيْرِ الْعَاقِدِ فَلَمْ يَصِحَّ ) أَيْ لَمْ يَصِحَّ قَبْضُ الرَّسُولِ فَلَمْ يَتِمُّ الْعَقْدُ بِهِ .
وَأَقُولُ : هَاهُنَا إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّ الرِّسَالَةَ فِي السَّلَمِ إنَّمَا تَجُوزُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ لَا مِنْ جَانِبِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ كَالْوَكَالَةِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ، فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ فِي بَابِ السَّلَمِ هُوَ الرَّسُولُ مِنْ جَانِبِ رَبِّ السَّلَمِ فَقَطْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ وَظِيفَةَ رَبِّ السَّلَمِ هِيَ الْعَقْدُ وَتَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ لَا قَبْضُهُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ عَقْدِ السَّلَمِ ، وَإِنَّمَا الْقَبْضُ وَظِيفَةُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَلَا يَتِمُّ الْكَلَامُ بِالنَّظَرِ إلَى الرَّسُولِ فِي بَابِ السَّلَمِ كَمَا لَا يَخْفَى .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ ظَاهِرٌ عَلَى نُسْخَةِ ، بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ وَهِيَ نُسْخَةٌ أَطْبَقَ عَلَيْهَا الشُّرَّاحُ حَتَّى أَنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ شَرَحَا هَذِهِ النُّسْخَةَ وَلَمْ يَذْكُرَا النُّسْخَةَ الْأُخْرَى أَصْلًا ، وَصَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ جَعَلَهَا أَصْلًا وَذَكَرَ الْأُخْرَى نُسْخَةً وَفَسَّرَ كُلُّهُمْ الرَّسُولَيْنِ بِالرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي السَّلَمِ .
وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ بِخِلَافِ الرَّسُولِ فَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ الرَّسُولَ عَامًّا لِلرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي السَّلَمِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ حَيْثُ فَسَرُّوا الرَّسُولَ بِالرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ وَالرَّسُولِ فِي السَّلَمِ .
وَكَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : بِخِلَافِ الرَّسُولِ : أَيْ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ انْتَهَى .
وَأَمَّا إذَا جُعِلَ مَخْصُوصًا بِالرَّسُولِ فِي الصَّرْفِ لِيَكُونَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الرَّسُولِ مُطَابِقًا لِمُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَيَصِحُّ قَبْضُهُ ، فَإِنَّ الْمَعْنَى هُنَاكَ فَيَصِحُّ قَبْضُ الْوَكِيلِ
بَدَلَ الصَّرْفِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ فَيَرْتَفِعُ الْإِشْكَالُ
( قَالَ : وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلِهَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ وَقَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرِي لِلْمُوَكِّلِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ لَمَّا كَانَتْ رَاجِعَةً إلَيْهِ وَقَدْ عَلِمَهُ الْمُوَكِّلُ يَكُونُ رَاضِيًا بِدَفْعِهِ مِنْ مَالِهِ ( فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ قَبْلَ حَبْسِهِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَسْقُطْ الثَّمَنُ ) ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْبِسْهُ يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ قَابِضًا بِيَدِهِ
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا دَفَعَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ ) لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا ( فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ ) أَيْ بِالثَّمَنِ ( عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ ( مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ ) أَيْ بَيْعٌ حُكْمِيٌّ فَصَارَ الْوَكِيلُ كَالْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَكِيلِ أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ مِنْهُ إلَى الْمُوَكِّلِ انْتَهَى ، أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا لَا يَرْتَضِيهِ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ انْتِقَالَ الْمِلْكِ أَوَّلًا إلَى الْوَكِيلِ ثُمَّ إلَى الْمُوَكِّلِ طَرِيقَةُ الْكَرْخِيِّ .
وَالْمُصَنِّفُ قَدْ اخْتَارَ فِيمَا مَرَّ طَرِيقَةَ أَبِي طَاهِرٍ ، وَقَالَ : هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازًا عَنْ طَرِيقَةِ الْكَرْخِيِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ قَاطِبَةً هُنَاكَ ، وَمِنْهُمْ هَذَا الشَّارِحُ .
وَطَرِيقَةُ أَبِي طَاهِرٍ ثُبُوتُ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً لِلْمُوَكِّلِ ، لَكِنْ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ عَلَى مَا مَرَّ تَفْصِيلُهُ ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُحْمَلَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ لِلْمُوَكَّلِ ابْتِدَاءً عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي طَاهِرٍ إلَّا أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ خِلَافَةً عَنْ الْوَكِيلِ لَا أَصَالَةً كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ كَافٍ فِي انْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِيًا فِي الْمُبَادَلَةِ الْحَقِيقِيَّةِ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِانْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا ( إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ ) وَالتَّحَالُفُ مِنْ خَوَاصِّ الْمُبَادَلَةِ ( وَيَرُدُّ الْمُوَكِّلُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْوَكِيلِ ) أَيْ وَإِذَا وَجَدَ الْمُوَكِّلُ عَيْبًا بِالْمُشْتَرَى رَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ خَصَائِصِ الْمُبَادَلَةِ .
لَا يُقَالُ : مَا ذَكَرْتُمْ فَرْعٌ عَلَى الْمُبَادَلَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَيْهَا ؟ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ
: هَذَا دَلِيلٌ إنِّيٌّ لَا دَلِيلٍ لَمِّيٌّ فَلَا يُنَافِي الْفَرْعِيَّةَ تَأَمَّلْ ( وَقَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ ( مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ ) أَيْ فَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُوَكِّلُ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيل وَقَدْ سَلَّمَ الْمُشْتَرَى لِلْمُوَكِّلِ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ قَطْعًا ( وَلِأَنَّ الْحُقُوقَ ) دَلِيلٌ آخَرُ ( لَمَّا كَانَتْ إلَيْهِ ) أَيْ لَمَّا كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الْوَكِيلِ ( وَقَدْ عَلِمَهُ الْمُوَكِّلُ ) أَيْ عَلِمَ رُجُوعَهَا إلَيْهِ ( فَيَكُونُ ) أَيْ الْمُوَكِّلُ ( رَاضِيًا بِدَفْعِهِ ) أَيْ بِدَفْعِ الثَّمَنِ ( مِنْ مَالِهِ ) أَيْ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلُ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ التَّبَرُّعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الدَّفْعُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُوَكِّلِ ، وَالْأَمْرُ ثَابِتٌ هُنَا دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ الْحُقُوقَ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وَمِنْ جُمْلَتِهَا دَفْعُ الثَّمَنِ عَلِمَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِدَفْعِ الثَّمَنِ لِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ آمِرًا بِهِ دَلَالَةً ( فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ) أَيْ فِي يَدِ الْوَكِيلِ ( قَبْلَ حَبْسِهِ ) أَيْ قَبْلَ حَبْسِ الْوَكِيلِ الْمَبِيعَ ( هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَمْ يَسْقُطْ الثَّمَنُ ) أَيْ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الْمُوَكَّلِ ، هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ قَبْلَ حَبْسِهِ إيَّاهُ لَا يَسْقُطُ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ( لِأَنَّ يَدَهُ ) أَيْ يَدَ الْوَكِيلِ ( كَيَدِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْبِسْهُ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ قَابِضًا بِيَدِهِ ) أَيْ بِيَدِ الْوَكِيلِ ، فَالْهَلَاكُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَسْقُطُ الرُّجُوعُ
( وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِيَدِهِ فَكَأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ ، عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ مَوْقُوفٌ فَيَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلِنَفْسِهِ عِنْدَ حَبْسِهِ ( فَإِنْ حَبَسَهُ فَهَلَكَ كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَضَمَانَ الْمَبِيعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَضَمَانَ الْغَصْبِ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِغَيْرِ حَقٍّ ، لَهُمَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْهُ فَكَانَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْحَبْسِ لِلِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ الرَّهْنُ بِعَيْنِهِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ وَهَا هُنَا لَا يَنْفَسِخُ أَصْلُ الْعَقْدِ .
قُلْنَا : يَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ ، كَمَا إذَا رَدَّهُ الْمُوَكِّلُ بِعَيْبٍ وَرَضِيَ الْوَكِيلُ بِهِ .
( وَلَهُ ) أَيْ لِلْوَكِيلِ ( أَنْ يَحْبِسَهُ ) أَيْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ عَنْ الْمُوَكِّلِ ( حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ) سَوَاءٌ كَانَ الْوَكِيلُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ أَوْ لَمْ يَدْفَعْ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ .
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ : لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَسَامَحَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَيْهِ هَلْ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ عَنْ الْمُوَكِّلِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الدَّرَاهِمَ مِنْهُ .
وَحُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِلْوَكِيلِ فِي مَوْضِعِ نَقْدِ الثَّمَنِ لِأَجْلِ بَيْعٍ حُكْمِيٍّ انْعَقَدَ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ النَّقْدِ وَعَدَمِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قُلْت هَذَا كَلَامٌ عَجِيبٌ مِنْ صَاحِبِ الذَّخِيرَةِ ، وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِ هَذَا ؟ وَقَدْ صَرَّحَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الشِّرَاءِ فَقَالَ : وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ وَقَبَضَهُ فَطَلَبَ الْآمِرُ أَخْذَ الْعَبْدِ مِنْ الْوَكِيلِ وَأَبَى الْوَكِيلُ أَنْ يَدْفَعَهُ فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَمْنَعَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ نَقَدَ الثَّمَنَ أَوْ لَمْ يَنْقُدْ فَهُوَ سَوَاءٌ ، إلَى هُنَا لَفْظُ مُحَمَّدٍ فِي الْأَصْلِ انْتَهَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْ الْمُوَكِّلِ ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ انْعَقَدَتْ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَكَذَا لِلْوَكِيلِ ، وَهَذَا لَا يُفَصِّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ أَوْ لَا ( وَقَالَ زَفَرٌ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ) أَيْ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ حَبْسُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ( لِأَنَّ
الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِيَدِهِ ) أَيْ بِيَدِ الْوَكِيلِ : يَعْنِي أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ هَلَاكَهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ ( فَكَأَنَّهُ سَلَّمَهُ إلَيْهِ ) أَيْ فَكَأَنَّ الْوَكِيلَ سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُوَكِّلِ ( فَيَسْقُطُ حَقُّ الْحَبْسِ ) تَشْرِيحُهُ أَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ الْمُوَكِّلِ حُكْمًا ، فَلَوْ وَقَعَ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ حَقُّ الْحَبْسِ ، وَكَذَا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ حُكْمًا ( قُلْنَا ) لَنَا طَرِيقَانِ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ : مَدَارُ أَحَدِهِمَا تَسْلِيمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ .
وَمَدَارُ الْآخَرِ مَنْعُ ذَلِكَ .
فَأَشَارَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ ( هَذَا ) أَيْ هَذَا الْقَبْضُ ( مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ) يَعْنِي سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ لَكِنَّ هَذَا الْقَبْضَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَتَوَسَّلُ إلَى الْحَبْسِ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْبِضَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ الْمُوَكِّلُ قَابِضًا ، وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الْوَكِيلِ فِي الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُ بِتَسْلِيمِهِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الرِّضَا فِيمَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ( فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ ) وَأَشَارَ إلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ ( عَلَى أَنَّ قَبْضَهُ مَوْقُوفٌ ) يَعْنِي عَلَى أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ صَارَ قَابِضًا بِقَبْضِ الْوَكِيلِ بَلْ قَبْضُ الْوَكِيلِ فِي الِابْتِدَاءِ مَوْقُوفٌ : أَيْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ لِتَتْمِيمِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ وَأَنْ يَكُونَ لِإِحْيَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِحَبْسِهِ ( فَيَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلِنَفْسِهِ عِنْدَ حَبْسِهِ ) يَعْنِي إنْ لَمْ يَحْبِسْهُ عَنْ الْمُوَكِّلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا
لِلْمُوَكِّلِ فَيَقَعُ لَهُ ، وَإِنْ حَبَسَهُ عَنْهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَإِنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا بِقَبْضِهِ ( فَإِنْ حَبَسَهُ ) أَيْ حَبَسَ الْوَكِيلُ الْمَبِيعَ ( فَهَلَكَ ) أَيْ الْمَبِيعُ ( كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الرَّهْنِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) يَعْنِي يُعْتَبَرُ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ مَثَلًا وَقِيمَةُ الْمَبِيعِ عَشَرَةٌ رَجَعَ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِخَمْسَةٍ ( وَضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) يَعْنِي يَسْقُطُ بِهِ الثَّمَنُ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْمُخْتَلَفِ وَالْحَصْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ : ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مِثْلَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، فَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ ) أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
( قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَلَمْ يَقُلْ رَأْسًا وَضَمَانُ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى مَا هُوَ اللَّائِقُ الْمُعْتَادُ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ قَوْلُهُمَا ( وَضَمَانُ الْغَصْبِ عِنْدَ زَفَرٍ ) يَعْنِي يَجِبُ مِثْلُهُ أَوْ قِيمَتُهُ بَالِغَةٌ مَا بَلَغَتْ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : فَلَا يَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ انْتَهَى .
وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِمَّا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ الشُّرُوحِ .
وَقَالَ الشَّارِحُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ ثَمَنُهُ أَكْثَرَ ، وَيَرْجِعُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْوَكِيلِ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ انْتَهَى .
وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِمَّا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ .
وَهُوَ الظَّاهِرُ عِنْدِي عَلَى قَوْلِ زَفَرٍ تَأَمَّلْ تَقَفْ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْحَبْسَ ( مَنْعٌ بِغَيْرِ حَقٍّ ) لِمَا مَرَّ أَنَّ قَبْضَ الْوَكِيلِ قَبْضُ الْمُوَكِّلِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ فِيهِ فَصَارَ غَاصِبًا (
لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلَ ( بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مِنْهُ ) أَيْ مِنْ الْمُوَكِّلِ كَمَا تَقَدَّمَ ( فَكَانَ حَبْسُهُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ) إذْ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ( فَيَسْقُطُ ) أَيْ الثَّمَنُ ( بِهَلَاكِهِ ) أَيْ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ .
وَاعْتِرَاضٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَزِمَ الضَّمَانُ حَبَسَ أَوْ لَمْ يَحْبِسْ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَحْبِسْ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ إذَا حَبَسَ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِالْقَبْضِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَتَقْوَى جِهَةُ كَوْنِهِ بَائِعًا فَلَزِمَ الضَّمَانُ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَحْبِسْ فَقَبَضَهُ كَانَ لِمُوَكِّلِهِ فَأَشْبَهَ الرَّسُولَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ أَمَانَةً كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّهُ يُشْبِهُ الرَّسُولَ يُشْبِهُ الْبَائِعَ أَيْضًا لِانْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا كَمَا مَرَّ ، فَإِنْ لَمْ تَجْعَلْ جِهَةَ مُشَابَهَتِهِ بِالْبَائِعِ سَاقِطَةً عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ فِيمَا إذَا لَمْ يَحْبِسْ الْمَبِيعَ لَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ عَدَمِ الضَّمَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَإِنْ جَعَلْت تِلْكَ الْجِهَةَ سَاقِطَةً عَنْ حَيِّزِ الِاعْتِبَارِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَمَعَ عَدَمِ ظُهُورِ عِلَّةِ الْإِسْقَاطِ فِيمَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَتَمَشَّى فِيهَا مَا ذَكَرَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا إذَا دَفَعَهُ مِنْ مَالِهِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ بِانْعِقَادِ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ شَامِلَةٌ لِصُورَتَيْ الْحَبْسِ وَعَدَمِ الْحَبْسِ ، وَعِلَّتُهَا انْعِقَادُ الْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَتَأَمَّلْ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ ) أَيْ الْهَالِكُ ( مَضْمُونٌ بِالْحَبْسِ لِلِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ ) أَيْ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا قَبْلَ الْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصَارَ مَضْمُونًا بَعْدَ الْحَبْسِ ، وَكُلُّ مَا هُوَ
كَذَلِكَ فَهُوَ بِمَعْنَى الرَّهْنِ ، أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَهُوَ الرَّهْنُ بِعَيْنِهِ ) يَعْنِي هُوَ بِمَعْنَى الرَّهْنِ ، وَهَذَا لِإِثْبَاتِ مُدَّعَاهُ ، وَقَوْلُهُ ( بِخِلَافِ الْمَبِيعِ ) لِنَفْيِ قَوْلِهِمَا : يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَحْبُوسَ هَاهُنَا لَيْسَ كَالْمَبِيعِ ( لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ ) أَيْ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ ( وَهَا هُنَا لَا يَنْفَسِخُ أَصْلُ الْعَقْدِ ) يَعْنِي الَّذِي بَيْنَ الْوَكِيلِ وَبَائِعِهِ .
وَأَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ( قُلْنَا يَنْفَسِخُ ) أَيْ الْعَقْدُ ( فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ ) وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ وَمِثْلُهُ لَا يُمْتَنَعُ ( كَمَا إذَا رَدَّهُ الْمُوَكِّلُ بِعَيْبٍ ) أَيْ إذَا وَجَدَ الْمُوَكِّلُ عَيْبًا بِالْمُشْتَرَى فَرَدَّهُ إلَى الْوَكِيلِ ( وَرَضِيَ الْوَكِيلُ بِهِ ) فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَكِيلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ لَمْ يَنْفَسِخْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَائِعِهِ .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَهَذِهِ مُغَالَطَةٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَبَيْنَ هَلَاكِهِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ بَعْدَ الْحَبْسِ ؛ فَفِي الْأَوَّلِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَفِي الثَّانِي لَا ، وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ بَيْنَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْفِسَاخِهِ مِنْ الْأَصْلِ إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَخَرَجَ الْجَوَابُ عَنْ مَوْضِعِ النِّزَاعِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ : وَإِنَّهُ كَمَا تَرَى فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا فُرِضَ أَنَّ الْوَكِيلَ بَائِعٌ كَانَ الْهَلَاكُ فِي يَدِهِ كَالْهَلَاكِ فِي يَدِ بَائِعٍ لَيْسَ بِوَكِيلٍ فَاسْتَوَيَا فِي وُجُودِ الْفَسْخِ وَبَطَلَ الْفَرْقُ ، بَلْ إذَا تَأَمَّلْت وَجَدْت مَا ذُكِرَ مِنْ جَانِبِ أَبِي يُوسُفَ غَلَطًا أَوْ مُغَالَطَةً ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَنْ الْوَكِيلِ بِمَنْزِلَةِ بَائِعِ الْبَائِعِ ، وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَائِعِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْفَسْخُ بَيْنَ الْبَائِعِ
وَبَائِعِهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ أَحَدَهُمَا : يَعْنِي غَلَطًا أَوْ مُغَالَطَةً
( قَالَ : وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ مِنْ لَحْمٍ يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشْرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ ) وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْأَصْلِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِصَرْفِ الدِّرْهَمِ فِي اللَّحْمِ وَظَنَّ أَنَّ سِعْرَهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ عِشْرِينَ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا وَصَارَ كَمَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالٍ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَاءِ الزِّيَادَةِ فَيَنْفُذُ شِرَاؤُهَا عَلَيْهِ وَشِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ بَدَلُ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ لَهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى مَا يُسَاوِي عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ حَيْثُ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ يَتَنَاوَلُ السَّمِينَ وَهَذَا مَهْزُولٌ فَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَى عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ مِنْ لَحْمٍ يُبَاعُ مِنْهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ ) أَيْ إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنْ ذَلِكَ اللَّحْمِ يُسَاوِي قِيمَتُهُ دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنْهُ لَا تُسَاوِي دِرْهَمًا نَفَذَ الْكُلُّ عَلَى الْوَكِيلِ بِالْإِجْمَاعِ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ ( لَزِمَ الْمُوَكِّلَ مِنْهُ عَشَرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا : يَلْزَمُهُ الْعِشْرُونَ بِدِرْهَمٍ ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ) أَيْ فِي بَعْضِ نُسَخِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ( قَوْلُ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمُحَمَّدٌ لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْأَصْلِ ) أَيْ فِي الْمَبْسُوطِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي آخِرِ بَابِ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْهُ : وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَشَرَةَ أَرْطَالِ لَحْمٍ بِدِرْهَمٍ لَزِمَ الْآمِرَ مِنْهَا عَشَرَةٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ قَدْرٍ مُسَمًّى ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ أَمْرُهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ أَمْرُهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ وَزَادَهُ مَنْفَعَةً بِالشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِمَّا سَمَّى لَهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ .
إلَى هُنَا لَفْظُ الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ كَمَا تَرَى ( لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ أَمَرَهُ ) أَيْ أَنَّ الْمُوَكِّلَ أَمَرَ الْوَكِيلَ ( بِصَرْفِ الدِّرْهَمِ فِي اللَّحْمِ وَظَنَّ أَنَّ سِعْرَهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ ، فَإِذَا اشْتَرَى بِهِ عِشْرِينَ فَقَدْ زَادَهُ خَيْرًا ) يَعْنِي أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يُخَالِفْ لِلْمُوَكِّلِ فِيمَا أَمَرَهُ ، وَإِنَّمَا جَاءَ ظَنُّهُ مُخَالِفًا لِلْوَاقِعِ فَلَيْسَ عَلَى الْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ سِيَّمَا إذَا زَادَهُ خَيْرًا ( وَصَارَ كَمَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ
فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ) حَيْثُ جَازَ ذَلِكَ فَكَذَا هَذَا ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ ) أَيْ بِشِرَاءِ عَشَرَةِ أَرْطَالِ لَحْمٍ ( وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِشِرَاءِ الزِّيَادَةِ ) وَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ الْمِقْدَارَ يُسَاوِي دِرْهَمًا وَقَدْ خَالَفَهُ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ ( فَيَنْفُذُ شِرَاؤُهَا ) أَيْ شِرَاءُ الزِّيَادَةِ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ ( وَشِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ) أَيْ وَيَنْفُذُ شِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ إتْيَانٌ بِالْمَأْمُورِ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْزِمَ الْآمِرَ عِنْدَهُ عَشَرَةً بِنِصْفِ دِرْهَمٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَشَرَةَ تَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْعِشْرِينِ لَا قَصْدًا وَقَدْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَشَرَةٍ قَصْدًا ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ كَمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : طَلِّقْ امْرَأَتِي وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَا يَقَعُ عِنْدَهُ الْوَاحِدَةُ لِثُبُوتِهَا فِي ضِمْنِ الثَّلَاثِ ، وَالْمُتَضَمَّنُ لَمْ يَثْبُتْ لِعَدَمِ التَّوْكِيلِ بِهِ فَلَا يَثْبُتُ مَا فِي ضِمْنِهِ أَيْضًا تَبَعًا لَهُ .
قُلْنَا : ذَاكَ مُسَلَّمٌ فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَضَمَّنَ لَمْ يَثْبُتْ هُنَاكَ لَا مِنْ الْمُوَكِّلِ لِعَدَمِ التَّوْكِيلِ بِهِ ، وَلَا مِنْ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ امْرَأَةُ الْمُوَكِّلِ لَا امْرَأَةُ الْوَكِيلِ ، وَأَمَّا هُنَا إذَا لَمْ يَثْبُتْ الشِّرَاءُ مِنْ الْمُوَكِّلِ ثَبَتَ مِنْ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ عَلَى الْوَكِيلِ كَمَا فِي سَائِرِ الصُّوَرِ الَّتِي خَالَفَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ فَلَمَّا ثَبَتَ الْمُتَضَمَّنُ وَهُوَ الْعِشْرُونَ ثَبَتَ مَا فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ ، وَإِلَّا أَنَّ الْوَكِيلَ خَالَفَ الْمُوَكِّلَ حَيْثُ اشْتَرَى الْعَشَرَةَ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ مُخَالَفَةٌ إلَى خَيْرٍ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلِأَنَّ الثَّمَنَ يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَبِيعِ فَحِينَئِذٍ كَانَ الْكُلُّ مَقْصُودًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الضِّمْنُ فِي الشِّرَاءِ كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ
نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ مَوْلَانَا حَمِيدِ الدِّينِ .
أَقُولُ : الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يَتَوَزَّعُ إلَخْ وَاضِحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْهُ فَمُشْكِلٌ لَا يُعْقَلُ إذَا بَعُدَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الشِّرَاءَ فِي الْمُتَضَمَّنِ وَهُوَ الْعِشْرُونَ يَثْبُتُ مِنْ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَيْفَ يَتِمُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَا فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ الْعَشَرَةُ يَثْبُتُ مِنْ الْمُوَكِّل ، وَلَا شَكَّ أَنَّ حُكْمَ مَا فِي ضِمْنِ الشَّيْءِ يَتْبَعُ حُكْمَ ذَلِكَ الشَّيْءِ دَائِمًا ، فَثُبُوتُ شِرَاءِ الْعِشْرِينَ مِنْ الْوَكِيلِ نَفْسِهِ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ شِرَاءِ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ مِنْهُ أَيْضًا ، فَلَا وَجْهَ لِنَفَاذِ شِرَاءِ الْعِشْرِينَ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَنَفَاذِ شِرَاءِ الْعَشَرَةِ الَّتِي فِي ضِمْنِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا لَا يَخْفَى .
فَإِنْ قُلْت : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ مُحَالًا إلَى الْمُنْتَقَى ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا هَرَوِيًّا بِعَشَرَةٍ فَاشْتَرَى لَهُ هَرَوِيَّيْنِ بِعَشَرَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسَاوِي عَشَرَةَ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُنَا أَيْضًا حَصَلَ مَقْصُودُ الْآمِرِ وَزَادَهُ خَيْرًا ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ مَا اشْتَرَاهُ عَلَى الْآمِرِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا فَكَيْفَ نَفَذَ هَاهُنَا شِرَاءُ الْعَشَرَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
قُلْت : يُحْتَمَلُ أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّحْمَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَوْزُونَاتِ .
وَالْأَصْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ أَنْ تَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَهِيَ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْقِيمَةِ إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَلَامُنَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا كَانَ اللَّحْمُ مِمَّا يُبَاعُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ فَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَجْعَلَ لِلْمُوَكِّلِ :
أَيَّ عَشَرَةٍ شَاءَ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ، وَالثَّوْبَانِ وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْقِيمَةِ ، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ وَذَلِكَ لَا يُعَيِّنُ حَقَّ الْمُوَكِّلِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ مَجْهُولًا فَلَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي التَّتِمَّةِ فَقَالَ : لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا أُعْطِيهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْعَشَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحِرْزِ وَالظَّنِّ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ وَنَسَبَهُ إلَى صَاحِبِ النِّهَايَةِ : وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إلَّا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ جَعَلَ اللَّحْمَ مِثْلِيًّا ، وَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيلٍ آخَرَ ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ اللَّحْمُ أَيْضًا مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ، لَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِيهِ قَلِيلٌ إذَا كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مَفْرُوضِ التَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ وَقَدْ اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ فَإِنَّ فِي تَطَرُّقِ الْخَلَلِ فِي احْتِمَالِ التَّسَاوِي كَثْرَةً مَادَّةً وَصُورَةً وَطُولًا وَعَرْضًا وَرِفْعَةً وَرُقْعَةً ، وَأَجَلُهُ كَوْنُهُ حَاصِلًا بِصُنْعِ الْعِبَادِ مَحَلَّ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ فَلَا يَلْزَمُ تَحَمُّلَهُ مَنْ تَحَمَّلَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ خَلَلًا انْتَهَى كَلَامُهُ ( بِخِلَافِ مَا اسْتَشْهَدَ بِهِ ) جَوَابٌ عَنْ تَمْثِيلِ أَبِي يُوسُفَ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِمَا إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ( لِأَنَّ الزِّيَادَةَ هُنَاكَ ) أَيْ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ ( بَدَلُ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ الْوَكِيلُ لَا بِإِذْنِ الْمُوَكِّلِ وَلَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ بِعْ ثَوْبِي هَذَا عَلَى أَنَّ ثَمَنَهُ لَك لَا يَصِحُّ ( فَتَكُونُ لَهُ ) أَيْ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ لِلْمُوَكِّلِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَرُدَّ بِأَنَّ الدِّرْهَمَ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ فَتَكُونُ الزِّيَادَةُ مِلْكَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا حِينَئِذٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَمَّةَ مُبْدَلُ مِنْهُ لَا
بَدَلٌ فَكَانَ الْفَرْقُ ظَاهِرًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ قِيَاسُ الْمَبِيعِ عَلَى الثَّمَنِ وَهُوَ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَنَّ الْأَلْفَ الزَّائِدَ لَا يَفْسُدُ بِطُولِ الْمُكْثِ ، بِخِلَافِ اللَّحْمِ ، وَيَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى نَاجِزَةٍ وَقَدْ يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ فِي اللَّحْمِ فَيُتْلَفُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّدِّ وَالْجَوَابِ شَيْءٌ فَتَأَمَّلْ ( بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى مَا يُسَاوِي عِشْرِينَ رِطْلًا بِدِرْهَمٍ ) مُتَعَلِّقٌ بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ( حَيْثُ يَصِيرُ ) أَيْ يَصِيرُ الْوَكِيلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ ) لِوُجُودِ الْمُخَالَفَةِ ( لِأَنَّ الْأَمْرَ يَتَنَاوَلُ السَّمِينَ ، وَهَذَا ) أَيْ مَا اشْتَرَاهُ ( مَهْزُولٌ فَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ ) فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ
قَالَ ( وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ ) لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْرِيرِ الْآمِرِ حَيْثُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ فِيهِ عَزْلَ نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى فَاشْتَرَى بِخِلَافِ جِنْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فَاشْتَرَى بِغَيْرِ النُّقُودِ أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَائِهِ فَاشْتَرَى الثَّانِي وَهُوَ غَائِبٌ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى الثَّانِيَ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ نَفَذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُهُ فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا .
.
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَلَيْسَ لَهُ ) أَيْ الْوَكِيلِ ( أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ ) أَيْ لَا يَجُوزُ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ سَوَاءٌ نَوَى عِنْدَ الْعَقْدِ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ أَوْ صَرَّحَ بِهِ لِشِرَاءٍ لِنَفْسِهِ بِأَنْ قَالَ : اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ اشْتَرَيْت لِنَفْسِي ، هَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ غَائِبًا ، فَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَصَرَّحَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لِنَفْسِهِ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ .
كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ التَّتِمَّةِ .
وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ فِي الذَّخِيرَةِ ثُمَّ قَالَ : وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ بِعَيْنِهِ فَشِرَاؤُهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَكَالَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَمَتَى أَتَى بِهِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْآمِرِ وَقَعَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ نَوَى أَوْ لَمْ يَنْوِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ ( يُؤَدِّي إلَى تَعْزِيرِ الْآمِرِ حَيْثُ اعْتَمَدَ عَلَيْهِ ) وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ( وَلِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ فِي اشْتِرَائِهِ لِنَفْسِهِ ( عَزْلَ نَفْسِهِ ) عَنْ الْوَكَالَةِ ( وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ فَسْخُ عَقْدٍ فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِهِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ .
أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْعَزْلِ فِي بَابِ الْوَكَالَةِ يَحْصُلُ بِأَسْبَابِ مُتَعَدِّدَةٍ : مِنْهَا حُضُورُ صَاحِبِهِ ، وَمِنْهَا بَعْثُ الْكِتَابِ وَوُصُولُهُ إلَيْهِ ، وَمِنْهَا إرْسَالُ الرَّسُولِ إلَيْهِ وَتَبْلِيغُهُ الرِّسَالَةَ إيَّاهُ ، وَمِنْهَا إخْبَارُ وَاحِدٍ عَدْلٍ أَوْ اثْنَيْنِ غَيْرِ عَدْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِخْبَارُ وَاحِدٍ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَا فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ سِيَّمَا فِي الْبَدَائِعِ .
فَاشْتِرَاطُ عِلْمِ الْآخَرِ فِي صِحَّةِ فَسْخِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ الْعَقْدَ الْقَائِمَ
بَيْنَهُمَا لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمْلِكَ الْوَكِيلُ عَزْلَ نَفْسِهِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ سَبَبِ وَاحِدٍ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ سَائِرِ الْأَسْبَابِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى انْتِفَاءِ سَائِرِ أَسْبَابِ الْعِلْمِ بِالْعَزْلِ أَيْضًا ، لَكِنَّهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ مِنْ عِبَارَاتِ الْكُتُبِ أَصْلًا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السِّرُّ فِي إقْحَامِ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ عَلَى مَا قِيلَ الْإِيمَاءُ إلَى ذَلِكَ فَتَأَمَّلْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْبَدَائِعِ قَالَ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِنَفْسِهِ ، وَإِذَا اشْتَرَى يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَزْلٌ لِنَفْسِهِ عَنْ الْوَكَالَةِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعِهِ وَهُوَ فَصْلُ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَخْرُجُ مِنْ الْوَكَالَةِ بِأَشْيَائِهِ : مِنْهَا عَزْلُ الْمُوَكِّلِ إيَّاهُ وَنَهْيُهُ بِأَنَّ الْوَكَالَةَ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ بِالْعَزْلِ وَالنَّهْيِ .
وَلِصِحَّةِ الْعَزْلِ شَرْطَانِ : أَحَدُهُمَا : عِلْمُ الْوَكِيلِ بِأَنَّ الْعَزْلَ فَسْخٌ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْفَسْخِ ، فَإِذَا عَزَلَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ انْعَزَلَ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابَ الْعَزْلِ فَبَلَغَهُ الْكِتَابُ وَعَلِمَ مَا فِيهِ مِنْ الْعَزْلِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ الْغَائِبِ كَالْخِطَابِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَغَ الرِّسَالَةَ وَقَالَ : إنَّ فُلَانًا أَرْسَلَنِي إلَيْك يَقُولُ إنِّي عَزَلْتُك عَنْ الْوَكَالَةِ فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ كَائِنًا مَنْ كَانَ الرَّسُولُ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا بَعْدَ أَنْ بَلَّغَ الرِّسَالَةَ عَلَى الْوَجْهِ
الَّذِي ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُرْسِلِ وَسَفِيرٌ عَنْهُ فَتَصِحُّ سِفَارَتُهُ بَعْدَ أَنْ صَحَّتْ عِبَارَتُهُ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ كِتَابًا وَلَا أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا وَلَكِنْ أَخْبَرَهُ بِالْعَزْلِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ كَانَا أَوْ غَيْرُ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ يَنْعَزِلُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا سَوَاءٌ صَدَّقَهُ الْوَكِيلُ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مَقْبُولٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا فَخَبَرُ الْعَدَدِ أَوْ الْعَدْلِ أَوْلَى .
وَإِنْ أَخْبَرَهُ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ يَنْعَزِلُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَنْعَزِلُ ، وَإِنْ ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَعِنْدَهُمَا يَنْعَزِلُ إذَا ظَهَرَ صِدْقُ الْخَبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ بَيْنَ كَلَامَيْهِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَدَافُعًا ، فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي فَصْلِ مَا يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عَنْ الْوَكَالَةِ صَرِيحٌ فِي صِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ الْوَكِيلَ بِشَرْطِ عِلْمِ الْوَكِيلِ سَوَاءٌ عَزَلَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ أَوْ عَزَلَهُ بِغَيْبَتِهِ مِنْهُ ، وَلَكِنَّ عِلْمَ الْعَزْلِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابٍ شَتَّى عَلَى مَا فَصَّلَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا مِنْ قَوْلِهِ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ عَزْلَهُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى حَصْرِ صِحَّةِ عَزْلِ الْمُوَكِّلِ لِلْوَكِيلِ فِي صُورَةِ إنْ عَزَلَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ كَمَا تَرَى .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَحَالَ الْأَوَّلَ عَلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا إذَا نَكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِمِثْلِ الْمَهْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى الْوَكِيلِ لَا عَلَى الْمُوَكِّلِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ فِي الْمَهْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ النِّكَاحَ الْمُوَكَّلَ بِهِ نِكَاحٌ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ
بِالنِّكَاحِ لَا بُدَّ أَنْ يُضِيفَ النِّكَاحَ إلَى مُوَكِّلِهِ فَيَقُولُ زَوَّجْتُك لِفُلَانٍ ، وَالْمَوْجُودُ فِيمَا إذَا نَكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَى الْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ مِنْ نَفْسِهِ هُوَ أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُك فَكَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَوْجُودَةٌ فَوَقَعَ عَلَى الْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ الْمُوَكَّلَ بِهِ هُنَا شِرَاءٌ مُطْلَقٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا شِرَاءٌ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا أَتَى بِذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ .
( فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُسَمًّى ) يَعْنِي لَوْ وَكَّلَهُ بِالشِّرَاءِ بِثَمَنِ مُسَمَّى ( فَاشْتَرَى بِخِلَافِ جِنْسِهِ ) أَيْ بِخِلَافِ جِنْسِ الْمُسَمَّى بِأَنْ سَمَّى دَرَاهِمَ مَثَلًا فَاشْتَرَى بِدَنَانِيرَ ( أَوْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فَاشْتَرَى بِغَيْرِ النُّقُودِ ) كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ( أَوْ وَكَّلَ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( وَكِيلًا بِشِرَائِهِ فَاشْتَرَى الثَّانِي ) أَيْ فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ الثَّانِي وَهُوَ وَكِيلُ الْوَكِيلِ ( وَهُوَ غَائِبٌ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ غَائِبٌ ( يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ ) أَيْ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ : يَعْنِي إنَّمَا لَا يَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ فِيمَا وُكِّلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ إذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدُ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ : أَمَّا إذَا وُجِدَ فَيَكُونُ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ ( خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ ) وَهُوَ الْمُوَكِّلُ .
أَمَّا إذَا اشْتَرَى بِخِلَافِ جِنْسِ مَا سَمَّى فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى بِغَيْرِ النُّقُودِ فَلِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ نَقْدُ الْبَلَدِ فَالْأَمْرُ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءٍ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُحْضِرَ رَأْيَهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ حَالَ غَيْبَتِهِ ( فَنَفَذَ ) أَيْ الشِّرَاءُ ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ( وَلَوْ اشْتَرَى الثَّانِي ) أَيْ
الْوَكِيلُ الثَّانِي ( بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ نَفَذَ ) أَيْ الشِّرَاءُ ( عَلَى الْمُوَكِّلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ حَضَرَهُ رَأْيُهُ ) أَيْ رَأْيُ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ( فَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا ) أَيْ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِأَمْرِ آمِرِهِ ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ .
أَلَا يَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِحَضْرَتِهَا جَازَ ؟ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ الْعَقْدَ وَكَانَ الْأَبُ مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلِ شَاهِدَيْنِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قِيلَ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالْكِتَابَةِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ الثَّانِي بِحَضْرَةِ الْأَوَّلِ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ فَبَلَغَ الْوَكِيلُ فَأَجَازَهُ يَجُوزُ ، وَبَيْنَ الْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ؟ فَإِنَّهُ لَوْ وَكَّلَ غَيْرَهُ فَطَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ الثَّانِي لَا يَقَعُ وَإِنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، وَالرِّوَايَةُ فِي التَّتِمَّةِ وَالذَّخِيرَةِ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَقِيقَةِ الْوَكَالَةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مُتَعَذَّرٌ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَتَفْوِيضُ الرَّأْيِ إلَى الْوَكِيلِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ، وَلَا حَاجَةَ فِيهِمَا إذَا انْفَرَدَا عَنْ مَالٍ إلَى الرَّأْيِ فَجَعَلْنَا الْوَكَالَةَ فِيهِمَا مَجَازًا عَنْ الرِّسَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَالرَّسُولُ يَنْقُلُ عِبَارَةَ الْمُرْسِلِ ، فَصَارَ الْمَأْمُورُ فِيهِمَا مَأْمُورًا بِنَقْلِ عِبَارَةِ الْآمِرِ لَا بِشَيْءٍ آخَرَ ، وَتَوْكِيلُ الْآخَرِ أَوْ الْإِجَازَةُ لَيْسَ مِنْ النَّقْلِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ يَمْلِكْهُ الْوَكِيلُ .
وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِمَا فَالْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْوَكَالَةِ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ ، فَاعْتُبِرَ الْمَأْمُورُ وَكِيلًا وَالْمَأْمُورُ بِهِ حُضُورُ رَأْيِهِ وَقَدْ حَضَرَ بِحُضُورِهِ أَوْ
بِإِجَازَتِهِ
قَالَ ( وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ : فَاشْتَرَى عَبْدًا فَهُوَ لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ ) قَالَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ مُطْلَقٌ .
وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ كَانَ لِنَفْسِهِ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً إذْ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا وَعُرْفًا .
وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ، فَإِنْ نَوَاهَا لِلْآمِرِ فَهُوَ لِلْآمِرِ ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ فَلِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ وَيَعْمَلَ لِلْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ ، وَإِنْ تَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ يَحْكُمُ النَّقْدُ بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ لِلْعَاقِدِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ إلَّا إذَا ثَبَتَ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحْكُمُ النَّقْدُ ؛ لِأَنَّ مَا أَوْقَعَهُ مُطْلَقًا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا ، فَمِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ نَقَدَ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ لِصَاحِبِهِ وَلِأَنَّ مَعَ تَصَادُقِهِمَا يَحْتَمِلُ النِّيَّةَ لِلْآمِرِ ، وَفِيمَا قُلْنَا حَمْلُ حَالِهِ عَلَى الصَّلَاحِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّكَاذُبِ .
وَالتَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ فِي الطَّعَامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَإِنْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَهُوَ لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ يَشْتَرِيه بِمَالِ الْمُوَكِّلِ ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ ( قَالَ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ ( هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ أَضَافَ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ ) هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْمُرَادُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ هُوَ الْإِضَافَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ بِغَيْرِ إضَافَةٍ إلَيْهِ ( لِأَنَّ فِيهِ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ ( تَفْصِيلًا ) فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةً ، إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمَ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْوَكِيلِ ( وَخِلَافًا ) فَإِنَّهُ إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ عَلَى مَا سَيَجِيءُ ( وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ ) أَيْ لَوْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ يَقَعُ لَهُ بِالْإِجْمَاعِ ( وَهُوَ مُطْلَقٌ ) أَيْ قَوْلُهُ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ مُطْلَقٌ لَا تَفْصِيلَ فِيهِ فَيُحْمَلُ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى مَالِ الْمُوَكِّلِ ، كَذَا قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُمْ حَمَلُوا التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا ، عَلَى أَنَّهُ إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَفْصِيلٌ لِلنَّقْدِ الْمُطْلَقِ لَا
لِلنَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَمَا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ كَوْنِ الْمُرَادِ بِقَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ يَشْتَرِيهِ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ الْإِضَافَةَ إلَى دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ دُونَ النَّقْدِ مِنْ مَالِهِ إنَّمَا هُوَ وُقُوعُ التَّفْصِيلِ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ لَا وُقُوعُهُ فِي النَّقْدِ الْمُطْلَقِ ، إذْ لَا مِسَاسَ لَهُ بِكَلَامِ الْقُدُورِيِّ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ مَالُ الْمُوَكِّلِ دُونَ مُطْلَقِ الْمَالِ .
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ قَدْ سَلَكَ الْمَسْلَكَ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ وَزَادَ إخْلَالًا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : وَإِذَا عَلِمْت هَذِهِ الْوُجُوهَ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ تَفْصِيلًا إذَا اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ ، إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ نَوَاهُ لِلْمُوَكِّلِ لَا مُعْتَبَرَ بِالنَّقْدِ انْتَهَى .
فَإِنَّ قَوْلَهُ : " وَلَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ " قَيْدٌ مُفْسِدٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ نَوَى لِلْمُوَكِّلِ لَا يُعْتَبَرُ النَّقْدُ أَصْلًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ، فَلَا يَصِحُّ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ إنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ لِلْمُوَكِّلِ أَيْضًا كَانَ لَهُ صِدْقُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَطْ ، إذْ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ لِلْوَكِيلِ كَمَا سَيَجِيءُ ، فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مُنَاسِبًا لِشَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَخِلَافًا لِشَرْحِ قَوْلِهِ تَفْصِيلًا .
وَأَيْضًا أَنَّهُ بَعْدَمَا صَرَّحَ أَنَّ التَّفْصِيلَ إنَّمَا هُوَ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ حَيْثُ قَالَ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ تَفْصِيلًا كَيْفَ يَتَيَسَّرُ لَهُ بَيَانُ ذَلِكَ التَّفْسِيرِ فِي النَّقْدِ الْمُطْلَقِ بِأَنْ قَالَ : إنْ نَقَدَ مِنْ
دَرَاهِمِ الْمُوَكِّلِ كَانَ الشِّرَاءُ لَهُ ، وَإِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْوَكِيلِ كَانَ لَهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّكَاكَةَ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَفْحَشُ .
وَأَقُولُ : الْحَقُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِالتَّفْصِيلِ فِي قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا وَخِلَافًا صُورَتَيْ التَّكَاذُبِ وَالتَّوَافُقِ ، وَبِالْخِلَافِ الْخِلَافُ الْوَاقِعُ فِي صُورَتَيْ التَّوَافُقِ ؛ فَالْمَعْنَى أَنَّ فِي النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ تَفْصِيلًا ، فَإِنَّهُ إذَا نَقَدَ مِنْ مَالِهِ فَإِذَا تَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ يَحْكُمُ النَّقْدُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ لِلْعَاقِدِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ أَيْضًا ، وَخِلَافًا فَإِنَّهُ إذَا نَقَدَ مِنْ مَالِهِ وَتَوَافَقَا عَلَى عَدَمِ النِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا ، فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ لِلْعَاقِدِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ ، بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ فَإِنَّهُ لَا تَفْصِيلَ وَلَا خِلَافَ فِيهَا ، فَكَانَ حَمْلُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ عَلَيْهَا أَوْلَى .
ثُمَّ أَقُولُ : بَقِيَ لَنَا بَحْثٌ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِ إخْلَالًا بِأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ صُورَةَ إنْ أَضَافَ الْعَقْدُ إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ وَتَكَاذَبَا فِي النِّيَّةِ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً حِينَئِذٍ فِي شَيْءٍ مِنْ قِسْمَيْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لِلْوَكِيلِ أَلْبَتَّةَ بِمُوجِبِ مَا بَقِيَ فِي الْكَلَامِ بَعْدَ الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّهُ يَحْكُمُ النَّقْدُ فِيهَا بِالْإِجْمَاعِ .
فَفِيمَا نَقَدَ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ يَصِيرُ الْعَقْدُ لَهُ قَطْعًا ، وَإِنَّ صُورَةَ إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ وَتَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً أَيْضًا حِينَئِذٍ فِي شَيْءٍ مِنْ قِسْمَيْ الِاسْتِثْنَاءِ الْمَذْكُورِ ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ فِيهَا أَيْضًا لِلْوَكِيلِ بِمُوجِبِ مَا بَقِيَ بَعْدَ
الِاسْتِثْنَاءِ مَعَ أَنَّ فِيهَا خِلَافًا كَمَا سَيَأْتِي ، فَيَلْزَمُ حَمْلُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ عَلَى مَا فِيهِ الْخِلَافُ وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْمُصَنِّفُ .
وَبِالْجُمْلَةِ قَدْ هَرَبَ الْمُصَنِّفُ فِي حَلِّ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ هَاهُنَا عَنْ وَرْطَةٍ وَوَقَعَ فِي وَرْطَةٍ أُخْرَى مِثْلِ الْأُولَى بَلْ أَشَدَّ مِنْهَا فَمَا الْفَائِدَةُ فِيهِ ؟ وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لِذَلِكَ حَيْثُ زَادَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : وَلَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَهُوَ لِلْوَكِيلِ إلَّا أَنْ يَقُولَ نَوَيْت الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ بِمَالِ الْمُوَكِّلِ أَوْ يَنْقُدَ مِنْ مَالِهِ ، وَقَالَ : فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ : إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ يَشْتَرِيَهُ مِنْ مَالِ الْمُوَكِّلِ إلَى آخِرِهِ ( وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ ) أَيْ إنْ أَضَافَ الْوَكِيلُ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ ( كَانَ ) أَيْ الْعَقْدُ ( لِنَفْسِهِ ) هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ( حَمْلًا لِحَالِهِ ) أَيْ حَالِ الْوَكِيلِ ( عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ إنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ كَانَ لِلْآمِرِ : يَعْنِي أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ لِلْآمِرِ لَكَانَ وَاقِعًا لِلْوَكِيلِ ، فَلَوْ وَقَعَ لَهُ كَانَ غَاصِبًا لِدَرَاهِمِ الْآمِرِ ، وَهُوَ لَا يَحِلُّ شَرْعًا .
كَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ إنَّمَا يَلْزَمُ لَوْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ ، وَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُدْ مِنْ دَرَاهِمِهِ بَلْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُ الْغَصْبُ قَطْعًا .
وَجَوَابُ مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ مُتَّحِدٍ فِي الصُّورَتَيْنِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ وَنُقِلَ عَنْهَا فِي النِّهَايَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ (
أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا وَتَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَإِنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ كَانَ لِنَفْسِهِ : يَعْنِي أَنَّ الْعَادَةَ جَرَتْ بِأَنَّ الشِّرَاءَ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ يَقَعُ لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ فَلَمَّا أَضَافَ الْعَقْدَ هَاهُنَا إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ وَقَعَ لَهُ حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ فِي النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ الْعَامَّةُ .
قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ أَنْ جَرَى فِي شَرْحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَذْكُورَةِ : وَهِيَ تَوْزِيعُ التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ عَلَى الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيلَانِ لِلْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَالْحُكْمُ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَيُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ شَرْعًا فَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ وَيُضِيفَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْعَادَةُ فَجَارِيَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ وَيُضِيفُهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ أَنْ سَلَكَ الطَّرِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً دَلِيلًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي يُعْلَمُ بِالدَّلَالَةِ ، فَإِنَّهُ ، كَمَا لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ وَيُضِيفَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ شَرْعًا فَكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ وَيُضِيفَهُ إلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ وَالْعَادَةُ مُشْتَرِكَةٌ لَا مَحَالَةَ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْأَوَّلُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ يَصِيرُ غَاصِبًا دُونَ الثَّانِي فَلَا امْتِنَاعَ فِيهِ شَرْعًا انْتَهَى .
أَقُولُ : إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ ( إذْ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى دَرَاهِمِ غَيْرِهِ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا وَعُرْفًا ) يُنَادِي بِأَعْلَى الصَّوْتِ عَلَى أَنَّ التَّعْلِيلَ الْمَزْبُورَ بِشِقَّيْهِ مَعًا لِلْوَجْهِ
الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ ؛ فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَجْمُوعُ قَوْلِهِ حَمْلًا لِحَالِهِ عَلَى مَا يَحِلَّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً دَلِيلًا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَيَكْتَفِي فِي الْعِلْمِ بِالْوَجْهِ الثَّانِي بِدَلَالَةِ شِقِّهِ الثَّانِي : أَعْنِي قَوْلَهُ أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً عَلَى ذَلِكَ .
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ فِي تَحْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا تَعْقِيدًا وَاضْطِرَابًا كَمَا تَرَى ، وَلِهَذَا تَحَيَّرَ الشُّرَّاحُ فِي حَلِّهِ الْوَافِي وَشَرْحِهِ الْكَافِي ( وَإِنْ أَضَافَهُ ) أَيْ الْعَقْدَ ( إلَى دَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ) هَذَا هُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ نَوَاهَا ) أَيْ الدَّرَاهِمَ الْمُطْلَقَةَ ( لِلْآمِرِ فَهُوَ ) أَيْ الْعَقْدُ ( لِلْآمِرِ ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ فَلِنَفْسِهِ ) أَيْ فَالْعَقْدُ لِنَفْسِهِ ( لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ لِنَفْسِهِ وَيَعْمَلَ لِلْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ ) أَيْ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَكَانَتْ نِيَّتُهُ مُعْتَبَرَةً .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا نَوَاهَا لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ لِئَلَّا يَلْزَمَ الْمَحْذُورُ الَّذِي ذَكَرُوهُ فِيمَا إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ مِنْ كَوْنِهِ غَاصِبًا لِدَرَاهِمِ الْآمِرِ .
فَإِنْ قُلْت : الْغَصْبُ فِي صُورَةِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ فِي ضِمْنِ نَفْسِ الْعَقْدِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهِ ، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ فَفِي النَّقْدِ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ بُطْلَانِهِ بُطْلَانُ الْعَقْدِ فَافْتَرَقَتْ الصُّورَتَانِ .
قُلْت : الْغَصْبُ إزَالَةُ الْيَدِ الْمُحِقَّةِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ بَلْ يَتَحَقَّقُ فِي النَّقْدِ مِنْ دَرَاهِمِهِ فَهُوَ لَمْ يُوجَدْ فِي ضِمْنِ نَفْسِ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ ،
بَلْ إنَّمَا وُجِدَ فِي النَّقْدِ مِنْ دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ فِي تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ مَعًا فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ تَدَبَّرْ ( وَإِنْ تَكَاذَبَا ) أَيْ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ ( فِي النِّيَّةِ ) فَقَالَ الْوَكِيلُ نَوَيْت لِنَفْسِي وَقَالَ الْمُوَكِّلُ نَوَيْت لِي ( يَحْكُمُ النَّقْدُ بِالْإِجْمَاعِ ) فَمِنْ مَالِ مَنْ نَقَدَ الثَّمَنَ كَانَ الْمَبِيعُ لَهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ النَّقْدَ ( دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ) مِنْ حَمْلِ حَالِهِ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً ( وَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ ) فَفِيهِ اخْتِلَافٍ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ .
( قَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ ) أَيْ الْعَقْدُ ( لِلْعَاقِدِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ ) يَعْنِي أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ ( إلَّا إذَا ثَبَتَ جَعَلَهُ ) أَيْ جَعَلَ الْعَمَلَ ( لِغَيْرِهِ ) بِالْإِضَافَةِ إلَى مَالِهِ أَوْ بِالنِّيَّةِ لَهُ ( وَلَمْ يَثْبُتْ ) أَيْ وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ( وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْكُمُ النَّقْدُ ؛ لِأَنَّ مَا أَوْقَعَهُ مُطْلَقًا ) أَيْ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِنِيَّتِهِ ( يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ ) وَهُمَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ لِلْآمِرِ وَأَنْ يَكُونَ لِنَفْسِهِ ( فَيَبْقَى مَوْقُوفًا ، فَمِنْ أَيِّ الْمَالَيْنِ نَقَدَ فَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ لِصَاحِبِهِ ) فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَيْنِ ( وَلِأَنَّ مَعَ تَصَادُقِهِمَا ) عَلَى أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ ( يَحْتَمِلُ النِّيَّةُ لِلْآمِرِ ) بِأَنْ نَوَى لَهُ وَنَسِيَهُ ( وَفِيمَا قُلْنَا ) أَيْ فِي تَحْكِيمِ النَّقْدِ ( حَمَلَ ) أَيْ حَالَ الْوَكِيلِ ( عَلَى الصَّلَاحِ ) وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ غَاصِبًا عَلَى تَقْدِيرِ النَّقْدِ مِنْ مَالِ الْآمِرِ ( كَمَا فِي حَالَةِ التَّكَاذُبِ ) بَقِيَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى أَيِّ نَقْدٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقَيِّدَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ .
وَأُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّا لَا نَقُولُ إنَّ الشِّرَاءَ بِتِلْكَ
الدَّرَاهِمِ يَتَعَيَّنُ ، وَإِنَّمَا نَقُولُ الْوَكَالَةُ تَتَقَيَّدُ بِمَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ مِنْ أَنَّ النُّقُودَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، وَإِذَا تَقَيَّدَتْ بِهَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ بِغَيْرِهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْوَكَالَةِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ ، وَمَأْخَذُهُمْ الْمَبْسُوطُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ وَهُوَ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا بَعْدَهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ ، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بَعْدَهُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، وَسَيَظْهَرُ لَك فِيمَا سَيَجِيءُ عَنْ قَرِيبٍ .
وَجَوَابُ مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى دَرَاهِمِ الْآمِرِ وَإِلَى دَرَاهِمِ نَفْسِهِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِ الْإِضَافَةِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَغَيْرُ مُخْتَصٍّ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ ، وَبِالْإِجْمَاعِ كَمَا تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُجْعَلَ مَدَارُهُ مَا هُوَ الْمُقَيَّدُ وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ ؟ وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْإِضَافَةِ إلَى ثَمَنٍ مُعَيَّنٍ : لِأَنَّ الثَّمَنَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ التَّعَيُّنِ مِنْ حَيْثُ سَلَامَةُ الْمَبِيعِ بِهِ ، وَقَدْ تَعَيَّنَ قَدْرُهُ وَوَصْفُهُ وَلِهَذَا لَا يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ إذَا اشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ انْتَهَى .
لَكِنَّهُ لَمْ يَأْتِ أَيْضًا بِمَا يَشْفِي الْغَلِيلَ هَاهُنَا كَمَا تَرَى .
ثُمَّ أَقُولُ : الْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي كَوْنِ الْعَقْدِ لِمَنْ أَضَافَهُ إلَى دَرَاهِمِهِ تَعَيُّنَ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ بَلْ حُمِلَ حَالُهُ عَلَى مَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَوْ يَفْعَلُهُ عَادَةً كَمَا مَرَّ مُبَيَّنًا وَمَشْرُوحًا ، فَلَا ضَيْرَ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ النُّقُودِ بِالتَّعْيِينِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ
الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَالدَّرَاهِمُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَيَّنْ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُضِيفُ شِرَاءَ الشَّيْءِ لِنَفْسِهِ إلَى دَرَاهِمِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا وَعُرْفًا انْتَهَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالتَّوْكِيلُ بِالْإِسْلَامِ فِي الطَّعَامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ ) الْمَذْكُورَةِ فِي التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ وِفَاقًا وَخِلَافًا ؛ وَإِنَّمَا خَصَّهُ بِالذِّكْرِ مَعَ اسْتِفَادَةِ حُكْمِهِ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ نَفْيًا لِقَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا : فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ فَالْعَقْدُ لِلْوَكِيلِ إجْمَاعًا وَلَا يَحْكُمُ النَّقْدُ .
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ وَالسَّلَمِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ بِأَنَّ لِلنَّقْدِ أَثَرًا فِي تَنْفِيذِ السَّلَمِ ، فَإِنَّ الْمُفَارَقَةَ بِلَا نَقْدٍ تُبْطِلُ السَّلَمَ ، فَإِذَا جَهِلَ مَنْ لَهُ الْعَقْدُ يُسْتَبَانُ بِالنَّقْدِ ، وَلَيْسَ الشِّرَاءُ كَذَلِكَ فَكَانَ الْعَقْدُ لِلْعَاقِدِ عَمَلًا بِقَضِيَّةِ الْأَصْلِ .
كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ بِالْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا أَطْلَقَ النِّيَّةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالنِّيَّةِ فَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يَنْوِيَ الْحَجَّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فَصَارَ مُخَالِفًا بِتَرْكِ مَا هُوَ الشَّرْطُ .
وَأَمَّا فِي الْمُعَامَلَاتِ فَالنِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَلَا يَصِيرُ بِتَرْكِ النِّيَّةِ عَنْ الْآمِرِ مُخَالِفًا فَيَبْقَى حُكْمُ عَقْدِهِ مَوْقُوفًا عَلَى النَّقْدِ كَذَا فِي بَابِ الْوَكَالَةِ بِالسَّلَمِ مِنْ بُيُوعِ الْمَبْسُوطِ
قَالَ ( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ فَقَالَ قَدْ فَعَلْت وَمَاتَ عِنْدِي وَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْته لِنَفْسِك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ ) ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ .
وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي هُوَ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا ، إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْقُودًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الشِّرَاءِ فَلَا يُتَّهَمُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَوْلُ لِلْأَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ وَلَا ثَمَنَ فِي يَدِهِ هَاهُنَا ، وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا وَالْعَبْدُ حَيٌّ فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ ، وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ عَلَى مَا مَرَّ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ فَقَالَ ) أَيْ الْمَأْمُورُ ( قَدْ فَعَلْت وَمَاتَ عِنْدِي وَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتَهُ لِنَفْسِك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ، فَإِنْ كَانَ ) أَيْ الْآمِرُ ( دَفَعَ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمَأْمُورِ ( الْأَلْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَنْقُودًا إلَى الْمَأْمُورِ ( أَخْبَرَ ) أَيْ الْمَأْمُورُ ( عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ ) أَيْ اسْتِئْنَافَ سَبَبِهِ ( وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ ) فَإِنَّ سَبَبَ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ هُوَ الْعَقْدُ وَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِئْنَافِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَيْتٌ إذْ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالْمَيْتُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ فَكَانَ قَوْلُ الْوَكِيلِ فَعَلْت وَمَاتَ عِنْدِي لِإِرَادَةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ ( وَهُوَ ) أَيْ الْآمِرُ ( يُنْكِرُ ) ذَلِكَ ( وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ) فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ مَعْنَاهُ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ سَبَبِهِ عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ بِالْحَذْفِ ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ رَاجِعٌ إلَى " مَا " فِي عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْوَجْهُ الْأَحْسَنُ فِي حَلِّ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هُنَا ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا قَالَ وَهُوَ الرُّجُوعُ وَلَمْ يَقُلْ وَهُوَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَكِيلِ مِنْ ذِكْرِ الْعَقْدِ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ لَا الْعَقْدِ لِأَجْلِ الْآمِرِ ، فَتَرَكَ الْوَاسِطَةَ وَهِيَ الْعَقْدُ وَصَرَّحَ بِالْمَقْصُودِ وَهُوَ الرُّجُوعُ فَكَانَ ذِكْرًا لِلْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةً لِلسَّبَبِ ، وَجَازَ هَذَا ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ مُخْتَصٌّ بِالشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْآمِرِ ، وَإِلَى هَذَا التَّوْجِيهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا : وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ ، وَهُوَ بِهَذَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ انْتَهَى .
( وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي ) وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا إلَى الْمَأْمُورِ ( هُوَ ) أَيْ الْمَأْمُورُ ( أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ ) قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ : عَلَّلَ فِي الْهِدَايَةِ فِيمَا إذَا لَمْ يَدْفَعْ الْآمِرُ الثَّمَنَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ ، وَفِيمَا إذَا دَفَعَ بِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ .
أَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ شَامِلٌ لِلصُّورَتَيْنِ فَلَمْ يَتِمَّ بِهِ الْفَرْقُ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ انْضِمَامِ أَمْرٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ فِيمَا إذَا لَمْ يَدْفَعْ الثَّمَنَ يَدَّعِي الثَّمَنَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ يُنْكِرُهُ فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ، وَفِيمَا إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ يَدَّعِي الْآمِرُ الثَّمَنَ عَلَى الْمَأْمُورِ فَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّعْلِيلَيْنِ مَخْصُوصٌ بِصُورَتِهِ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُصَنِّفِ فِيهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَالْقَوْلُ لِلْمُنْكِرِ لَا يَشْمَلُ الصُّورَةَ الثَّانِيَةَ إذْ الثَّمَنُ فِيهَا مَقْبُوضٌ لِلْوَكِيلِ فَلَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ قَطْعًا ، وَقَدْ لَبَّسَ هَذَا الْقَائِلُ فِي تَعْلِيلِهِ حَيْثُ ذَكَرَ أَوَّلَ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَتَرَكَ آخِرَهُ الْفَارِقَ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ ضَمَّ إلَى مَا ذَكَرَهُ مَا هُوَ فِي مَعْنَى مَا تَرَكَهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الثَّمَنَ لَيْسَ بِمَقْبُوضِ الْوَكِيلِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا إنَّهُ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا ) فَقَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتُهُ لَكَ ، وَقَالَ الْآمِرُ بَلْ اشْتَرَيْتَهُ لِنَفْسِك ( إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ) يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ
الْأَمَانَةِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا مَرَّ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ) أَيْ الثَّمَنُ ( مَنْقُودًا فَكَذَلِكَ ) أَيْ فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ أَيْضًا ( عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الشِّرَاءِ ) لِلْآمِرِ إذْ الْعَبْدُ حَيٌّ وَالْحَيُّ مَحَلُّ الشِّرَاءِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فِي الْحَالِ لِأَجْلِ الْآمِرِ ( فَلَا يُتَّهَمُ فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْآمِرِ فَإِنْ قِيلَ : إنْ وَقَعَ الشِّرَاءُ أَوَّلًا لِلْوَكِيلِ كَيْفَ يَقَعُ بَعْدَ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِئْنَافَهُ ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ تَمَلُّكَ اسْتِئْنَافِ الشِّرَاءِ دَائِرٌ مَعَ التَّصَوُّرِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَتَفَاسَخَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مَعَ بَائِعِهِ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ لِأَجْلِ الْمُوَكِّلِ .
كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الشِّرَاءِ لِأَجْلِ الْآمِرِ ( مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ) أَيْ بِأَنْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ ( فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ ) أَيْ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَهَا الْآمِرَ ( بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( أَمِينٌ فِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَوْ فِي هَذَا الْوَجْهِ ( فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِذَلِكَ ) أَيْ لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ ، وَكَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ تَبَعًا وَلَا يَثْبُتُ قَصْدًا ( وَلَا ثَمَنَ فِي يَدِهِ هَاهُنَا ) أَيْ لَا ثَمَنَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ حَيًّا وَالثَّمَنُ غَيْرَ مَنْقُودٍ حَتَّى يَكُونَ أَمِينًا فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ تَبَعًا لِلْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ فَافْتَرَقَا ( وَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ) يَعْنِي إنْ كَانَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ( ثُمَّ اخْتَلَفَا وَالْعَبْدُ حَيٌّ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ الْعَبْدَ حَيٌّ ( فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ سَوَاءٌ كَانَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ ) أَيْ هَذَا الْوَجْهُ مِنْ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
بِالْإِجْمَاعِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَأْمُورَ ( أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فِي الْحَالِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ ) أَيْ فِي إخْبَارِهِ عَنْ ذَلِكَ ( لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ ) أَيْ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ ، قَيَّدَ بِهِ ، إذْ فِي حَالِ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ حَالَ حَضْرَتِهِ ( عَلَى مَا مَرَّ ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ عَزْلَ نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُهُ عَلَى مَا قِيلَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ( بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاخْتَلَفَا ( عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ لِأَبِي حَنِيفَةَ ) يَعْنِي مَا ذَكَرَهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا مِنْ جَانِبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ تُهْمَةٍ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً أَلْزَمَهَا الْآمِرَ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : التُّهْمَةُ مُتَحَقِّقَةٌ فِي صُورَةِ الْمُعَيَّن أَيْضًا بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ لَكِنْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ لِلْآمِرِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ ، كَأَنْ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ جِنْسِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى أَوْ بِغَيْرِ النُّقُودِ أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَائِهِ فَاشْتَرَاهُ الثَّانِي بِغَيْبَةِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى الصَّفْقَةَ خَاسِرَةً قَالَ لِلْآمِرِ اشْتَرَيْته لَك بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ لِلْآمِرِ .
وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْمُخَالَفَةِ لَهُ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيَمْلِكُهُ قَطْعًا عَلَى مَا مَرَّ فِي مَحَلِّهِ ، فَمَا الدَّافِعُ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؟ ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ : إنَّ احْتِمَالَ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ شُبْهَةٌ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ احْتِمَالُ أَنَّ اشْتِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ
الْمُخَالَفَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُوَافَقَةِ شُبْهَةُ شُبْهَةٍ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّ الشُّبْهَةَ تُعْتَبَرُ وَشُبْهَةُ الشُّبْهَةِ لَا تُعْتَبَرُ ، وَالتُّهْمَةُ فِي صُورَةِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ نَفْسُ الشُّبْهَةِ وَفِي صُورَةِ الْمُعَيَّنِ شُبْهَةُ الشُّبْهَةِ ، فَاعْتُبِرَتْ فِي الْأُولَى وَلَمْ تُعْتَبَرْ فِي الثَّانِيَةِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ الْوَلِيُّ إذَا أَقَرَّ بِتَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ لَا يُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ .
قُلْنَا : قَوْلُهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَقَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَكَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اتِّفَاقُ الْجَوَابِ مَعَ اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يُرَدَّ الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِهِ .
أَوْ نَقُولُ : لَوْ كَانَ فِي تَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ إخْبَارٌ عِنْدَ حُضُورِ شَاهِدَيْنِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ عِنْدَهُ أَيْضًا ، فَكَانَ ذَلِكَ إنْشَاءً لِلنِّكَاحِ ابْتِدَاءً فَلَا يُرَدُّ الْإِشْكَالُ لِمَا أَنَّهُ إنَّمَا لَا يُقْبَلُ هُنَاكَ إقْرَارٌ بِتَزْوِيجِ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إنْشَاؤُهُ شَرْعًا لِعَدَمِ الشُّهُودِ فَكَانَ لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَاطَّرَدَ الْجَوَابُ عِنْدَهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : فَإِنْ قُلْت : الْأَصْلُ فِي الدَّلَائِلِ الِاطِّرَادُ .
وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا أَقَرَّ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ الْإِقْرَارُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَكَذَا وَكِيلُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَمَوْلَى الْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لِصَاحِبَيْهِ مَعَ أَنَّ الْمُقِرَّ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ ؟ قُلْت : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُ مُقَيَّدًا بِحَالِ حَضْرَةِ
الشُّهُودِ وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ النِّكَاحِ حُضُورًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ بِلَا شُهُودٍ ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الثَّانِي .
وَقَوْلُ بَعْضِ الشَّارِحِينَ : إنَّ قَوْلَهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَقَعَ عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَقَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَقَعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قَوْلُهُ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ وَحْدَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : وَفِي قَوْلِهِ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُهُ مُقَيَّدًا بَحْثٌ ، فَإِنَّ تَمَلُّكَ الِاسْتِئْنَافِ دَائِرٌ مَعَ التَّصَوُّرِ كَمَا ذَكَرُوا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا سَاقِطٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُمْ بِالدَّوَرَانِ مَعَ التَّصَوُّرِ الْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ ، وَمَا لَمْ يَحْضُرْ الشُّهُودُ لَمْ يُمْكِنْ إنْشَاءُ النِّكَاحِ شَرْعًا .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ حَيْثُ قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ إنْشَاءٌ شَرْعًا لِعَدَمِ الشُّهُودِ .
وَأَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : وَلَمْ يَكُنْ شُهُودُ النِّكَاحِ حُضُورًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَلَمْ يَكُنْ الْإِنْشَاءُ بِلَا شُهُودٍ فَكَوْنُ تَمَلُّكِ الِاسْتِئْنَافِ دَائِرًا مَعَ التَّصَوُّرِ لَا يَقْدَحُ أَصْلًا فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْغَايَةِ .
لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَ الْعَقْدِ مُطْلَقًا بَلْ يَمْلِكُهُ مُقَيَّدًا بِحَالِ حَضْرَةِ الشُّهُودِ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ؛ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ .
وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ حَيًّا حِينَ اخْتَلَفَا أَوْ هَالِكًا .
وَقَدْ ذَكَرَ سِتَّةَ أَوْجُهٍ مِنْهَا فِي الْكِتَابِ مُدَلِّلًا وَمُفَصِّلًا كَمَا عَرَفْت فَبَقِيَ مِنْهَا وَجْهَانِ ، وَهُمَا أَنْ يَكُونَ
التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، وَيَكُونَ الْعَبْدُ هَالِكًا وَالثَّمَنُ مَنْقُودًا أَوْ غَيْرَ مَنْقُودٍ ، وَقَدْ ذَكَرَهُمَا مَعَ دَلِيلِهِمَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي تَقْسِيمِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ : وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا وَالثَّمَنُ مَنْقُودًا فَالْقَوْلُ لِلْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُرِيدُ الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْقُودٍ فَالْقَوْلُ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَيُرِيدُ بِذَلِكَ الرُّجُوعَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ لَهُ انْتَهَى .
أَقُولُ : دَلِيلُ الْوَجْهِ الْأَخِيرِ مِنْهَا مَحَلُّ إشْكَالٍ ، فَإِنَّ الْآمِرَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِاشْتِرَاءِ الْمَأْمُورِ لِلْآمِرِ لَكِنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِاشْتِرَائِهِ لِنَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ لِلْمَأْمُورِ بَلْ اشْتَرَيْته لِنَفْسِك .
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ بَلْ يَقَعُ الشِّرَاءُ لِلْمُوَكِّلِ أَلْبَتَّةَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لِإِنْكَارِ الْآمِرِ شِرَاءَ الْمَأْمُورِ حُكْمٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَتَأَمَّلْ
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ فَبَاعَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ أَنَا أَمَرْته بِذَلِكَ فَإِنَّ فُلَانًا يَأْخُذُهُ ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ اللَّاحِقُ .
( فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ لَمْ آمُرْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ ( إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرَى لَهُ فَيَكُونُ بَيْعًا عَنْهُ وَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا بِالتَّعَاطِي ، كَمَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَتَّى لَزِمَهُ ثُمَّ سَلَّمَهُ الْمُشْتَرَى لَهُ ، وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ يَكْفِي لِلتَّعَاطِي وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدُ الثَّمَنِ ، وَهُوَ يَتَحَقَّقُ فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ لِاسْتِتْمَامِ التَّرَاضِي وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ .
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : بِعْنِي هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ ) أَيْ لِأَجْلِ فُلَانٍ ( فَبَاعَهُ ثُمَّ أَنْكَرَ ) أَيْ الْمُشْتَرِي ( أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ أَمَرَهُ ثُمَّ جَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ أَنَا أَمَرْته بِذَلِكَ فَإِنَّ فُلَانًا يَأْخُذُهُ ) يَعْنِي أَنَّ لِفُلَانٍ وِلَايَةَ أَخْذِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ ) أَيْ قَوْلَ الْمُشْتَرِي السَّابِقَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ ( إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْوَكَالَةِ عَنْهُ فَلَا يَنْفَعُهُ الْإِنْكَارُ اللَّاحِقُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالشَّيْءِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِنْكَارِ اللَّاحِقِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ لِفُلَانٍ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي الْوَكَالَةِ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِشَفَاعَةِ فُلَانٍ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ : أَوْ أَنَّ أَجْنَبِيًّا طَلَبَ مِنْ الشَّفِيعِ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ فَقَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْتهَا لَك بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ اسْتِحْسَانًا كَأَنَّهُ قَالَ سَلَّمْت هَذِهِ الشُّفْعَةَ لِأَجْلِك .
قُلْنَا : اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَالِاحْتِمَالُ الْمَذْكُورُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا يُصَارُ إلَيْهِ بِلَا قَرِينَةٍ ، وَسُؤَالُ التَّسْلِيمِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ قَرِينَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ بِغَيْرِ سَبْقِ سُؤَالِ التَّسْلِيمِ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ وَلَيْسَتْ الْقَرِينَةُ بِمَوْجُودَةٍ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ .
كَذَا فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ وَذَكَرَ فِي الشُّرُوحِ ( فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ لَمْ آمُرْهُ بِذَلِكَ ) ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ( لَمْ يَكُنْ لَهُ ) أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ ) أَيْ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي ( ارْتَدَّ بِرَدِّهِ ) أَيْ بِرَدِّ فُلَانٍ ، فَإِذَا عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ حِينَ انْتَفَى الْإِقْرَارُ فَلَمْ يَصِحَّ تَصْدِيقُهُ ( إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ الْمُشْتَرِي لَهُ ) رُوِيَ لَفْظُ الْمُشْتَرِي بِرِوَايَتَيْنِ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا فَعَلَى الْكَسْرِ يَكُونُ الْمُشْتَرِي فَاعِلًا ،
وَقَوْلُهُ لَهُ : أَيْ لِأَجْلِهِ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفًا وَهُوَ إلَيْهِ ، فَالْمَعْنَى : إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْفُضُولِيُّ الْعَبْدَ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِأَجْلِ فُلَانٍ إلَيْهِ .
وَعَلَى الْفَتْحِ يَكُونُ الْمُشْتَرَى لَهُ مَفْعُولًا ثَانِيًا بِدُونِ حَرْفِ الْجَرِّ وَهُوَ فُلَانٌ ، وَيَكُونُ الْفَاعِلُ مُضْمَرًا يَعُودُ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَالْمَعْنَى : إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ الْفُضُولِيُّ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرَى لَهُ وَهُوَ فُلَانٌ .
ثُمَّ إنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ : أَيْ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ إلَّا فِي صُورَةِ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ صُورَةَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فُلَانًا لَوْ قَالَ أَجَزْت بَعْدَ قَوْلِهِ لَمْ آمُرْهُ بِهِ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ ، بَلْ يَكُونُ الْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَلْحَقُ الْمَوْقُوفَ دُونَ الْجَائِزِ ، وَهَذَا عَقْدٌ جَائِزٌ نَافِذٌ عَلَى الْمُشْتَرِي .
كَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( فَيَكُونُ بَيْعًا عَنْهُ ) أَيْ فَيَكُونُ تَسْلِيمُ الْعَبْدِ بَيْعًا مُبْتَدَأً ( وَعَلَيْهِ الْعُهْدَةُ ) أَيْ وَعَلَى فُلَانٍ عُهْدَةُ الْأَخْذِ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ ، كَذَا فَسَّرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْبَزْدَوِيُّ وَفَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ( لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا بِالتَّعَاطِي ) كَمَا لَا يَخْفَى ( كَمَنْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ ) أَيْ كَالْفُضُولِيِّ الَّذِي اشْتَرَى لِغَيْرِهِ ( بِغَيْرِ أَمْرِهِ حَتَّى لَزِمَهُ ) أَيْ لَزِمَ الْعَقْدُ الْمُشْتَرِيَ ( ثُمَّ سَلَّمَهُ الْمُشْتَرَى لَهُ ) حَيْثُ كَانَ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي .
قَالَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ بَيْعَ التَّعَاطِي كَمَا يَكُونُ بِأَخْذٍ وَإِعْطَاءٍ فَقَدْ يَنْعَقِدُ بِالتَّسْلِيمِ عَلَى جِهَةِ الْبَيْعِ وَالتَّمْلِيكِ ، وَإِنْ كَانَ أَخْذًا بِلَا إعْطَاءٍ لِعَادَةِ النَّاسِ وَثَبَتَ بِهِ أَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْخَسِيسَ فِي بَيْعِ التَّعَاطِي سَوَاءٌ .
وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا قَالَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ
بِقَوْلِهِ ( وَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ ) أَيْ دَلَّتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ( عَلَى أَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ يَكْفِي لِلتَّعَاطِي وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ نَقْدُ الثَّمَنِ وَهُوَ ) أَيْ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي ( يَتَحَقَّقُ فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ ) أَيْ نَفِيسِ الْأَمْوَالِ وَخَسِيسِهَا ( لِاسْتِتْمَامِ التَّرَاضِي ) أَيْ لِاسْتِتْمَامِ التَّرَاضِي فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ( وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْبَابِ ) أَيْ التَّرَاضِي هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي بَابِ الْبَيْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ } فَلَمَّا وُجِدَ التَّرَاضِي فِي النَّفِيسِ وَالْخَسِيسِ انْعَقَدَ الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي فِيهِمَا خِلَافًا لِمَا يَقُولُهُ الْكَرْخِيُّ إنَّ الْبَيْعَ بِالتَّعَاطِي لَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي الْأَشْيَاءِ الْخَسِيسَةِ ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْبُيُوعِ
قَالَ ( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَى لَهُ أَحَدَهُمَا جَازَ ) ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ ، وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ ( إلَّا فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ ( وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُمَا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ جَازَ ، وَإِنْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ ) ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الْأَلْفَ بِهِمَا وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ دَلَالَةً ، فَكَانَ آمِرًا بِشِرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ الشِّرَاءُ بِهَا مُوَافَقَةً وَبِأَقَلَّ مِنْهَا مُخَالَفَةً إلَى خَيْرٍ وَالزِّيَادَةُ إلَى شَرٍّ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ فَلَا يَجُوزُ ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا اسْتِحْسَانًا ) ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَوَّلِ قَائِمٌ وَقَدْ حَصَلَ غَرَضُهُ الْمُصَرَّحُ بِهِ وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَبْدَيْنِ بِالْأَلْفِ وَمَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ إلَّا دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ يَفُوقُهَا ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ مَا يُشْتَرَى بِمِثْلِهِ الْبَاقِي جَازَ ) ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ لَكِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ وَهُوَ فِيمَا قُلْنَا ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْأَلْفِ بَاقِيَةٌ يُشْتَرَى بِمِثْلِهَا الْبَاقِي لِيُمْكِنَهُ تَحْصِيلُ غَرَضِ الْآمِرِ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَى لَهُ أَحَدَهُمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ ) يَعْنِي أَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدِ اشْتِرَائِهِمَا مُتَفَرِّقَيْنِ أَوْ مُجْتَمِعَيْنِ فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ .
( وَقَدْ لَا يَتَّفِقُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ ( فِي الْبَيْعِ ) فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ( إلَّا فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ جَازَ : أَيْ جَازَ اشْتِرَاءُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِيمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ الْمَذْكُورَ ( تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ ) وَهُوَ لَا يَتَحَمَّلُ الْغَبْنَ الْفَاحِشَ بِالْإِجْمَاعِ ، بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ الْبَيْعَ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ ( وَهَذَا كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ ) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلُّهُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَهُوَ احْتِرَازٌ عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَعَنْ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ الْعَبْدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا ، وَقَدْ سَمَّى لَهُ ثَمَنَهُمَا وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ( وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُمَا بِأَلْفٍ ) أَيْ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ ( وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ قِيمَتَهُمَا سَوَاءٌ ( فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ جَازَ ) أَيْ جَازَ الشِّرَاءُ وَيَقَعُ عَنْ الْمُوَكِّلِ ( وَإِنْ اشْتَرَى بِأَكْثَرَ ) قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ ( لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرُ ) بَلْ يَقَعُ عَنْ الْوَكِيلِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْآمِرُ ( قَابَلَ الْأَلْفَ بِهِمَا ) أَيْ بِالْعَبْدَيْنِ ( وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَيُقَسَّمُ ) أَيْ الْأَلْفُ ( بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ دَلَالَةً ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الدَّلَالَةُ وَيَعْمَلُ بِهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ فَكَانَ آمِرًا بِشِرَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِخَمْسِمِائَةِ ، ثُمَّ الشِّرَاءُ بِهَا ) أَيْ بِخَمْسِمِائَةِ ( مُوَافَقَةً ) لِأَمْرِ الْآمِرِ ( وَبِأَقَلَّ مِنْهَا ) أَيْ بِالشِّرَاءِ بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ ( مُخَالَفَةً إلَى خَيْرٍ ) فَيَجُوزُ ( وَبِالزِّيَادَةِ إلَى شَرٍّ ) أَيْ الشِّرَاءُ بِالزِّيَادَةِ مُخَالَفَةٌ إلَى شَرٍّ ( قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ فَلَا يَجُوزُ ) قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : احْتَمَلَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا اخْتِلَافَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا قَالَ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ عَلَى الْآمِرِ إذَا زَادَ زِيَادَةً لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا .
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا فِي الَّذِي يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْآمِرُ ، فَإِذَا حُمِلَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ ، وَاحْتُمِلَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا اخْتِلَافٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا زَادَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ قَلِيلَةً انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : إنَّ بَعْضَ مَشَايِخِنَا قَالُوا : لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ كَثِيرَةً بِحَيْثُ لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قَلِيلَةً بِحَيْثُ يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْمِيَةَ فِي حَقِّ هَذَا الْوَاحِدِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا فَاشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ جَازَ كَذَا هَاهُنَا .
ثُمَّ قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفَصَّلَهُ عَلَى قَوْلِهِمَا انْتَهَى .
وَالْمُصَنِّفُ اخْتَارَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ حَيْثُ قَالَ : وَبِالزِّيَادَةِ إلَى شَرٍّ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ أَوْ كَثُرَتْ فَلَا يَجُوزُ ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ
الْبَاقِيَ بِبَقِيَّةِ الْأَلْفِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَصِمَا ) فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ وَيَلْزَمُ الْآمِرُ ( اسْتِحْسَانًا ) قَيَّدَ بِهِ ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْآمِرُ لِثُبُوتِ الْمُخَالَفَةِ ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَوَّلِ قَائِمٌ ) يَعْنِي أَنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ الْأَوَّلِ قَائِمٌ لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ بِالْخُصُومَةِ ( وَقَدْ حَصَلَ غَرَضُهُ الْمُصَرَّحُ بِهِ ) أَيْ وَقَدْ حَصَلَ عِنْدَ اشْتِرَاءِ الْبَاقِي غَرَضُ الْأَوَّلِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ ( وَهُوَ تَحْصِيلُ الْعَبْدَيْنِ بِأَلْفٍ وَمَا ثَبَتَ الِانْقِسَامُ ) أَيْ لَمْ يَثْبُتْ ( إلَّا دَلَالَةً وَالصَّرِيحُ يَفُوقُهَا ) أَيْ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ : يَعْنِي أَنَّ الِانْقِسَامَ بِالسَّوِيَّةِ إنَّمَا كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ، وَإِذَا جَاءَ الصَّرِيحُ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ اشْتَرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْأَلْفِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ وَقَدْ بَقِيَ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ بَقِيَ ( مِنْ الْأَلْفِ مَا يُشْتَرَى بِمِثْلِهِ الْبَاقِي جَازَ ) وَلَزِمَ الْآمِرُ ( لِأَنَّ التَّوْكِيلَ مُطْلَقٌ ) أَيْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ( لَكِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِالْمُتَعَارَفِ وَهُوَ ) أَيْ الْمُتَعَارَفُ ( فِيمَا قُلْنَا ) أَيْ فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ( وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى مِنْ الْأَلْفِ بَاقِيَةٌ يُشْتَرَى بِمِثْلِهَا الْبَاقِي ) مِنْ الْعَبْدَيْنِ ( لِيُمْكِنَهُ ) أَيْ لِيُمْكِنَ الْمَأْمُورُ ( تَحْصِيلَ غَرَضِ الْآمِرِ ) وَهُوَ تَمَلُّكُ الْعَبْدَيْنِ مَعًا
قَالَ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا هَذَا الْعَبْدَ فَاشْتَرَاهُ جَازَ ) ؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ تَعْيِينَ الْبَائِعِ ؛ وَلَوْ عَيَّنَ الْبَائِعَ يَجُوزُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْآمِرُ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ قَبَضَهُ الْآمِرُ فَهُوَ لَهُ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَقَالَا : هُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ إذَا قَبَضَهُ الْمَأْمُورُ ) وَعَلَى هَذَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ مَا عَلَيْهِ أَوْ يَصْرِفَ مَا عَلَيْهِ .
لَهُمَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دَيْنًا كَانَتْ أَوْ عَيْنًا ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ فَصَارَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ سَوَاءً فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ كَيَدِهِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْعَيْنِ مِنْهَا أَوْ بِالدَّيْنِ مِنْهَا ثُمَّ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ أَوْ أَسْقَطَ الدَّيْنَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ كَانَ هَذَا تَمْلِيكُ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ دُونِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَوْ يَكُونُ أَمْرًا بِصَرْفِ مَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا إذَا قَالَ أَعْطِ مَالِي عَلَيْك مَنْ شِئْت ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْبَائِعُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَكِيلًا عَنْهُ فِي الْقَبْضِ ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَالَ لِلَّهِ وَهُوَ مَعْلُومٌ .
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ نَفَذَ الشِّرَاءُ عَلَى الْمَأْمُورِ فَيَهْلِكُ مِنْ مَالِهِ إلَّا إذَا قَبَضَهُ الْآمِرُ مِنْهُ لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ تَعَاطَيَا .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ ) أَيْ الْآخَرُ ( بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ) أَيْ بِتِلْكَ الْأَلْفِ ( هَذَا الْعَبْدَ ) يَعْنِي الْعَبْدَ الْمُعَيَّنَ ( فَاشْتَرَاهُ جَازَ ) وَلَزِمَ الْآمِرَ قَبْضُهُ أَوْ مَاتَ قَبْلَهُ عِنْدَ الْمَأْمُورِ ( لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ تَعْيِينَ الْبَائِعِ ، وَلَوْ عُيِّنَ الْبَائِعُ يَجُوزُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ) يُشِيرُ إلَى مَا سَيَذْكُرُهُ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عُيِّنَ الْبَائِعُ إلَخْ ( وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا ) أَيْ بِالْأَلْفِ الَّتِي عَلَيْهِ ( عَبْدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ فَمَاتَ فِي يَدِهِ ) أَيْ فَمَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ( قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْآمِرُ مَاتَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ) فَالْأَلْفُ عَلَيْهِ ( وَإِنْ قَبَضَهُ الْآمِرُ فَهُوَ ) أَيْ الْعَبْدُ ( لَهُ ) أَيْ لِلْآمِرِ ( وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا ) أَيْ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( هُوَ ) أَيْ الْعَبْدُ ( لَازِمٌ لِلْآمِرِ إذَا قَبَضَهُ الْمَأْمُورُ ) سَوَاءٌ قَبَضَهُ الْآمِرُ أَوْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَأْمُورِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ( إذَا أَمَرَهُ ) أَيْ إذَا أَمَرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ( أَنْ يُسَلِّمَ مَا عَلَيْهِ ) أَيْ يَعْقِدَ عَقْدَ السَّلَمِ ( أَوْ يَصْرِفَ مَا عَلَيْهِ ) أَيْ أَوْ يَعْقِدَ عَقْدَ الصَّرْفِ فَإِنَّ عَيَّنَ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ وَمَنْ يَعْقِدُ بِهِ عَقْدَ الصَّرْفِ صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِلَّا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ .
قَالَ الشُّرَّاحُ : وَإِنَّمَا خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنَّ التَّوْكِيلَ فِيهِمَا لَا يَجُوزُ لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ قَدْ سَبَقَ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْفَصْلِ مَسْأَلَةُ جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مُدَلَّلَةً وَمُفَصَّلَةً مَعَ التَّعَرُّضِ لِأَحْوَالِ الْقَبْضِ مُسْتَوْفًى ، فَكَيْفَ يُتَوَهَّمُ بَعْدَ ذَلِكَ عَدَمُ جَوَازِ التَّوْكِيلِ فِيهِمَا ، وَهَلْ يَلِيقُ بِشَأْنِ
الْمُصَنِّفِ دَفْعُ مِثْلِ ذَلِكَ التَّوَهُّمِ .
فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ تَخْصِيصَهُمَا بِالذِّكْرِ إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ مَا يَتَرَدَّدُ فِي الذِّهْنِ مِنْ أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ هَلْ هُوَ جَارٍ بِعَيْنِهِ فِي بَابَيْ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ أَيْضًا أَمْ لَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَهُمَا شَأْنًا مَخْصُوصًا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، فَقَوْلُهُ هَذَا عَلَى نَهْجِ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ فِي آخِرِ مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَالتَّوْكِيلُ فِي الْإِسْلَامِ بِالطَّعَامِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ ( لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْمُعَاوَضَاتِ دَيْنًا كَانَتْ أَوْ عَيْنًا ) يَعْنِي سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ دَيْنًا ثَابِتًا فِي الذِّمَّةِ أَوْ عَيْنًا غَيْرَ ثَابِتَةٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَنُورُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ( أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنْ لَا دَيْنَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ) وَيَجِبُ مِثْلُ الدَّيْنِ وَكُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَانَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ ( فَصَارَ الْإِطْلَاقُ ) بِأَنْ قَالَ بِأَلْفٍ وَلَمْ يُضِفْهُ إلَى مَا عَلَيْهِ ( وَالتَّقْيِيدُ ) بِأَنْ أَضَافَهُ إلَى مَا عَلَيْهِ ( فِيهِ ) أَيْ فِي الْعَقْدِ الْمَزْبُورِ ( سَوَاءٌ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ وَيَلْزَمُ الْآمِرَ ) أَيْ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ الْآمِرَ ، وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ تَصَدَّقْ بِمَالِي عَلَيْك عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا ) أَيْ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ ( تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : لَكِنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ .
وَأَمَّا قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَلَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ .
وَقَالَ : قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ : رَجُلٌ قَالَ لِغَيْرِهِ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الْأَلْفِ الدِّرْهَمِ جَارِيَةً وَأَرَاهُ الدَّرَاهِمَ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى
الْوَكِيلِ حَتَّى سُرِقَتْ الدَّرَاهِمُ ، ثُمَّ اشْتَرَى الْوَكِيلُ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَزِمَ الْمُوَكِّلُ .
ثُمَّ قَالَ : وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْوَكَالَاتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَاتِ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ فَتُعْتَبَرُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الشِّرَاءِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَذَا فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ .
وَأَمَّا بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ هَلْ تَتَعَيَّنُ ؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ .
بَعْضُهُمْ قَالَ : تَتَعَيَّنُ حَتَّى تَبْطُلَ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَكَالَةَ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ يَتَعَيَّنَانِ فِي الشِّرَاءِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، فَكَذَا فِيمَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ يَدُ أَمَانَةٍ ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ يَتَعَيَّنَانِ فِي الْأَمَانَاتِ .
وَعَامَّتُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ .
وَفَائِدَةُ النَّقْدِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى قَوْلِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا يُؤَقَّتُ بَقَاءَ الْوَكِيلِ بِبَقَاءِ الدَّرَاهِمِ الْمَنْقُودَةِ ، فَإِنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا دَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَى الْوَكِيلِ يُرِيدُ شِرَاءَهُ حَالَ قِيَامِ الدَّرَاهِمِ فِي يَدِ الْوَكِيلِ .
وَالثَّانِي قَطَعَ رُجُوعَ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فِيمَا وَجَبَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ يُوجِبُ دَيْنَيْنِ ، دَيْنًا لِلْبَائِعِ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَدَيْنًا لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي النِّهَايَةِ بِنَوْعِ إجْمَالٍ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَى هَذَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ حَدَّثُوا بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمِائَتَيْ سَنَةٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، فَلَعَلَّ
اعْتِمَادَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ التَّقْيِيدِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ السُّؤَالُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ بَعْضَ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ حَدَّثُوا بَعْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَقُولُوا مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ تَعَيُّنِ النُّقُودِ فِي الْوَكَالَاتِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ بِاجْتِهَادِهِمْ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ بَلْ بِتَخْرِيجِهِمْ إيَّاهُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا هُوَ حَالُ أَصْحَابِ التَّخْرِيجِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِأَصْلِهِ عَلَى تَخْرِيجِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ ، وَأَمْثَالُ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَخَذَ مَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي الزِّيَادَاتِ فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى الْوَكِيلِ .
فَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ هُنَاكَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا ذَكَرَهُ عَلَى قَوْلِ نَفْسِهِ فَقَطْ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا قَالَ بِهِ أَيْضًا ، فَلَوْ عَمِلَ بِمَفْهُومِ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى لِلْوَكِيلِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا سَلَّمَ الْمُوَكِّلُ الدَّرَاهِمَ إلَى الْوَكِيلِ وَقَالَ لَهُ اشْتَرِ لِي بِهَا عَيْنًا فَاشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْآمِرُ مَعَ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ وَقَوْلَ أَبِي يُوسُفَ بِخِلَافِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً ، وَذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ، وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَا يُفَصِّلُ مَا فِي الْكِتَابِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا مَرَّ انْتَهَى .
أَقُولُ : هُوَ مَدْفُوعٌ بِحَمْلِ إطْلَاقِ مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى مَا هُوَ الْمُقَيَّدُ فِي كَلَامِ الثِّقَاتِ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ إذَا وَرَدَا وَاتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالْحَادِثَةُ
يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهَا هُنَا كَذَلِكَ فَتَدَبَّرْ ( أَلَا تَرَى ) تَنْوِيرٌ لِتَعَيُّنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْوَكَالَاتِ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْآمِرُ ( لَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ بِالْعَيْنِ مِنْهَا ) أَيْ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ( أَوْ بِالدَّيْنِ مِنْهَا ثُمَّ اسْتَهْلَكَ ) أَيْ الْآمِرُ أَوْ الْوَكِيلُ ( الْعَيْنَ ) كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتَهْلَكَ عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ ( أَوْ أَسْقَطَ ) أَيْ الْمُوَكِّلُ ( الدَّيْنَ ) بِأَنْ أَبْرَأهُ عَنْ الدَّيْنِ بَعْدَ التَّوْكِيلِ كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَيْضًا .
وَيَجُوزُ فِيهِ أَيْضًا بِنَاءُ الْمَفْعُولِ ( بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ) جَوَابُ لَوْ قَيَّدَ الْوَكَالَةَ .
وَنَقَلَ النَّاطِفِيُّ فِي الْأَجْنَاسِ عَنْ الْأَصْلِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ إذَا قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مِنْ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا طَعَامًا فَاشْتَرَى بِدَنَانِيرَ غَيْرِهَا ثُمَّ نَقَدَ دَنَانِيرَ الْمُوَكِّلِ فَالطَّعَامُ لِلْوَكِيلِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِدَنَانِيرِ الْمُوَكِّلِ .
ثُمَّ قَالَ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ يَتَعَيَّنَانِ فِي الْوَكَالَةِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّمَا قَيَّدَ : يَعْنِي الْمُصَنِّفُ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي السَّلَمِ مِنْ بُيُوعِ فَتَاوَاهُ فَقَالَ : رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمِ لِيَشْتَرِيَ بِهَا ثَوْبًا قَدْ سَمَّاهُ فَأَنْفَقَ الْوَكِيلُ عَلَى نَفْسِهِ دَرَاهِمَ الْمُوَكِّلِ وَاشْتَرَى ثَوْبًا لِلْآمِرِ بِدَرَاهِمِ نَفْسِهِ فَإِنَّ الثَّوْبَ لِلْمُشْتَرِي لَا لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَقَيَّدَتْ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا ، وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا لِلْآمِرِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَمْسَكَ دَرَاهِمَ الْآمِرِ كَانَ الثَّوْبُ لِلْآمِرِ وَتَطِيبُ لَهُ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ اسْتِحْسَانًا ، كَالْوَارِثِ وَالْوَصِيِّ إذَا قَضَى
دَيْنَ الْمَيِّتِ بِمَالِ نَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : دَلَالَةُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْإِمَامِ قَاضِي خَانْ عَلَى أَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ مَمْنُوعَةٌ .
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذَا أَنْفَقَ الْوَكِيلُ عَلَى نَفْسِهِ دَرَاهِمَ الْمُوَكِّلِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ فِيمَا إذَا هَلَكَتْ دَرَاهِمُ الْمُوَكِّلِ بِغَيْرِ صُنْعِ الْوَكِيلِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا وَلَمْ يَقُلْ بِاسْتِهْلَاكِهَا ، وَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ الْفَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَالْهَلَاكِ لَمَا قَالَ كَذَلِكَ .
وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : قَالَ بَعْضُ الشَّارِحِينَ : إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ دُونَ الْهَلَاكِ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَيْثُ قَالُوا : لَوْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُسَلَّمَةُ إلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ .
فَأَقُولُ : كَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى لَا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَكِيلُ الدَّرَاهِمَ الْمُسَلَّمَةَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الدَّرَاهِمَ كَمَا فِي هَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : إنَّمَا قَيَّدَ بِالِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَكَالَةِ مَخْصُوصٌ بِهِ .
وَنُقِلَ عَنْ كُلٍّ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ حَيْثُ قَالُوا : لَوْ هَلَكَتْ الدَّرَاهِمُ الْمُسَلَّمَةُ إلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ، بَلْ إنَّمَا قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَبْطُلُ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَكِيلُ الدَّرَاهِمَ الْمُسَلَّمَةَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ الدَّرَاهِمَ
فَيَقُومُ مِثْلُهَا مَقَامَهَا فَتَصِيرُ كَأَنَّ عَيْنَهَا بَاقِيَةٌ ، فَذَكَرَ الِاسْتِهْلَاكَ لِبَيَانِ تَسَاوِيهِمَا فِي بُطْلَانِ الْوَكَالَةِ بِهِمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خَلَا قَوْلِهِ وَنَقَلَ عَنْ كُلٍّ مِنْ الذَّخِيرَةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَسْأَلَةً تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَمْ نَجِدْ فِي نُسَخِ النِّهَايَةِ هُنَا مَسْأَلَةً مَنْقُولَةً عَنْ الذَّخِيرَةِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ الْمَذْكُورُ فِيهَا هَاهُنَا إنَّمَا هِيَ مَسْأَلَةُ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ كَمَا نَقَلْنَاهُ فِيمَا قَبْلُ ( فَإِذَا تَعَيَّنَتْ ) أَيْ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ ، وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ الدَّلِيلِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَاتِ ، وَإِذَا تَعَيَّنَتْ ( كَانَ هَذَا ) أَيْ التَّوْكِيلُ الْمَذْكُورُ ( تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ ) أَيْ ذَلِكَ الْغَيْرُ ( بِقَبْضِهِ ) أَيْ بِقَبْضِ الدَّيْنِ ( وَذَلِكَ ) أَيْ تَمْلِيكُ الدَّيْنِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَزْبُورِ ( لَا يَجُوزُ ) لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ( كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي ) بِأَنْ كَانَ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو مَثَلًا دَيْنٌ فَاشْتَرَى زَيْدٌ مِنْ آخَرَ شَيْئًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى عَمْرٍو فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، فَكَانَ تَقْدِيرُهُ كَمَا إذَا اشْتَرَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : أَيْ كَمَا إذَا اشْتَرَى هَذَا الْمَأْمُورُ بِدَيْنٍ هُوَ حَقَّ الْآمِرِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْمَأْمُورِ انْتَهَى .
وَوَافَقَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي كَمَا إذْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِدَيْنٍ عَلَى غَيْره كَمَا إذَا أَمَرَهُ زَيْدٌ مَثَلًا أَنْ يَشْتَرِيَ بِدَيْنٍ لِزَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو شَيْئًا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، فَكَذَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ انْتَهَى .
وَبَيْنَ
الْمَعْنَيَيْنِ تَغَايُرٌ لَا يَخْفَى ( أَوْ يَكُونُ أَمْرًا بِصَرْفِ ) أَيْ بِدَفْعِ ( مَا لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَهُ ) أَيْ قَبْلَ الْقَبْضِ مُتَعَلِّقٌ بِصَرْفٍ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ كَانَ هَذَا تَمْلِيكَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَالْمَعْنَى : أَوْ يَكُونُ التَّوْكِيلُ الْمَذْكُورُ أَمْرًا مِنْ رَبِّ الدَّيْنِ لِلْمَدْيُونِ بِدَفْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ رَبُّ الدَّيْنِ إلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَكَانَ مَا أَدَّى الْمَدْيُونُ إلَى الْبَائِعِ أَوْ إلَى رَبِّ الدَّيْنِ مِلْكَ الْمَدْيُونِ وَلَا يَمْلِكُهُ الدَّائِنُ قَبْلَ الْقَبْضِ ( وَذَلِكَ بَاطِلٌ ) أَيْ أَمْرُ الْإِنْسَانِ بِدَفْعِ مَا لَا يَمْلِكُهُ بَاطِلٌ ( كَمَا إذَا قَالَ أَعْطِ مَا لِي عَلَيْك مَنْ شِئْت ) فَإِنَّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِصَرْفِ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْآمِرُ إلَّا بِالْقَبْضِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ الْمَدْيُونُ بِنَفْسِهِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَ الْبَائِعَ ) يَعْنِي بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ عَيَّنَ الْبَائِعَ ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ صَحِيحٌ هُنَاكَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْبَائِعَ ( يَصِيرُ ) أَوَّلًا ( وَكِيلًا عَنْهُ ) أَيْ عَنْ الْمُوَكِّلِ ( فِي الْقَبْضِ ) تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ ( ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ ) أَيْ ثُمَّ يَتَمَلَّكُهُ الْبَائِعُ فَيَصِيرُ قَابِضًا لِرَبِّ الدَّيْنِ أَوَّلًا ثُمَّ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَيْنَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَوَكَّلَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِقَبْضِهِ ، وَكَذَا إذَا عَيَّنَ الْمَبِيعَ ؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَبِيعِ تَعْيِينَ الْبَائِعِ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَيَّنَ الْبَائِعَ ، وَمَتَى أُبْهِمَ الْمَبِيعُ أَوْ الْبَائِعُ يَكُونُ الْبَائِعُ مَجْهُولًا وَالْمَجْهُولُ لَا يَصْلُحُ وَكِيلًا .
قِيلَ : يُشْكِلُ بِمَا لَوْ آجَرَ حَمَّامًا بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَمَرَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْمَرَمَّةِ مِنْ الْأُجْرَةِ أَجَّرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا أَمْرًا بِتَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ وَهُوَ الْأَجِيرُ
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ مَجْهُولٌ وَتَوْكِيلُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ ذَاكَ قَوْلُهُمَا ، وَلَئِنْ كَانَ قَوْلَ الْكُلِّ فَإِنَّمَا جَازَ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَجِدُ الْآجِرَ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَجَعَلْنَا الْحَمَّامَ قَائِمًا مَقَامَ الْآجِرِ فِي الْقَبْضِ ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَغَيْرِهَا .
وَاعْتُرِضَ بِأَنْ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَيْنٍ عَلَى آخَرَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَائِعَ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ أَوَّلًا لِكَوْنِهِ مُعَيَّنًا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ هُنَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِشَرْطٍ وَهُوَ أَدَاءُ الثَّمَنِ عَلَى الْغَيْرِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَبَعْضِ الشُّرَّاحِ .
أَقُولُ : فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَوْ جَعَلَ هُنَا وَكِيلًا بِالْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ بَيْعًا بِشَرْطِ أَدَاءِ الثَّمَنِ عَلَى الْغَيْرِ ، بَلْ يَكُونُ أَدَاءُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِيَدِ وَكِيلِهِ كَمَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ عَيَّنَ الْبَائِعَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ النُّقُودَ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لَمْ يَلْزَمْ الِاشْتِرَاطُ الْمَذْكُورُ هُنَا أَصْلًا .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَدَمُ الْجَوَازِ هُنَا لِكَوْنِهِ بَيْعًا بِشَرْطٍ لَا لِكَوْنِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوَكِّلَهُ بِقَبْضِهِ لَمَا كَانَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي ارْتِبَاطٌ بِمَا قَبْلَهُ ، وَلَمَا كَانَ لِقَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِذَلِكَ مَعْنَى ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِحَمْلِ مُرَادِهِ بِقَوْلِهِ كَمَا إذَا اشْتَرَى بِدَيْنٍ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشُّرَّاحِ دُونَ الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ كَمَا عَرَفْته فِيمَا قَبْلُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَكْثَرُ فَتَأَمَّلْ
.
وَأُجِيبُ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ بِوَجْهٍ آخَرَ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ صَارَ وَكِيلًا فَإِنَّمَا يَصِيرُ وَكِيلًا فِي ضِمْنِ الْمُبَايَعَةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الْمُتَضَمِّنُ لِيَثْبُتَ الْمُتَضَمَّنُ ، وَالْمُبَايَعَةُ لَمْ تَثْبُتْ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنِ فَلَا يَثْبُتُ الْمُتَضَمَّنُ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْقَبْضِ يَثْبُتُ فِيهِ بِأَمْرِ الْآمِرِ ، وَأَنَّهُ يَسْبِقُ الشِّرَاءُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ الدَّيْنَ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ حَيْثُ تَصِحُّ الْهِبَةُ وَيَثْبُتُ الْأَمْرُ مِنْ الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ فِي ضِمْنِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَتَوَقَّفُ إلَى زَمَانِ الْقَبْضِ فَيَكُونُ التَّوْكِيلُ بِالْقَبْضِ سَابِقًا عَلَى التَّمْلِيكِ مَعْنَى ( وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالتَّصَدُّقِ ) جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِهِمَا عَلَى الْآمِرِ بِالتَّصَدُّقِ وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سِيَاقِ دَلِيلِهِمَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْآمِرَ بِالتَّصَدُّقِ ( جَعَلَ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى ) وَنَصَبَ الْفَقِيرَ وَكِيلًا عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَبْضِ حَقِّهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ( وَهُوَ مَعْلُومٌ ) أَيْ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْلُومٌ فَكَانَ كَتَعْيِينِ الْبَائِعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّصَادُقِ فِي الشِّرَاءِ بِأَنْ لَا دَيْنَ لَهُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الشِّرَاءِ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَلَكِنْ يَتَعَيَّنَانِ فِي الْوَكَالَاتِ ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنَا فِي الشِّرَاءِ لَمْ يَبْطُلْ الشِّرَاءُ بِبُطْلَانِ الدَّيْنِ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْمَرْغِينَانِيُّ وَالْمَحْبُوبِيُّ وَقَاضِي خَانْ ( وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ ) رُجُوعٌ إلَى أَوَّلِ الْبَحْثِ : يَعْنِي لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءِ عَبْدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يُعْلَمْ بَائِعُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ( نَفَذَ الشِّرَاءُ عَلَى الْمَأْمُورِ فَهَلَكَ مِنْ مَالِهِ ) يَعْنِي إذَا
هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمَأْمُورِ ( إلَّا إذَا قَبَضَهُ الْآمِرُ مِنْهُ ) فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ حِينَئِذٍ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ ( لِانْعِقَادِ الْبَيْعِ ) بَيْنَهُمَا ( تَعَاطِيًا ) فَكَانَ هَالِكًا فِي مِلْكِ الْآمِرِ .
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ : وَذَكَرَ فِي النِّهَايَةِ أَنَّ النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْوَكَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَذَا بَعْدَهُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ وَسِيلَةٌ إلَى الشِّرَاءِ فَتُعْتَبَرُ بِالشِّرَاءِ ، وَعَزَاهُ إلَى الزِّيَادَاتِ وَالذَّخِيرَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَلْزَمُهُمَا مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالتَّعْلِيلُ الصَّحِيحُ لَهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَا التَّوْكِيلُ بِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ فِي الْمُعَيَّنِ لِكَوْنِهِ أَمْرًا لَهُ بِالْقَبْضِ ثُمَّ بِالتَّمْلِيكِ لَا تَوْكِيلًا لِلْمَدِينِ بِالتَّمْلِيكِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ لِلْمَجْهُولِ فَكَانَ تَوْكِيلًا لِلْمَدِينِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْإِسْلَامِ وَالشِّرَاءِ وَالصَّرْفِ وَلَا يَجُوزُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا يَلْزَمُهُمَا التَّعْلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَيْضًا ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مِنْ قِبَلِهِمَا إنَّ عَدَمَ جَوَازِ تَمْلِيكِ الدَّيْنِ مَنْ غَيْرَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ تَتَعَيَّنْ النُّقُودُ فِي الْوَكَالَاتِ لَمْ يَكُنْ لِتَعْيِينِ الْآمِرِ الْأَلْفَ الَّتِي عَلَى الْمَأْمُورِ تَأْثِيرٌ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ اشْتِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ ، بَلْ صَحَّ اشْتِرَاءُ الْمَأْمُورِ عَبْدًا لَهُ بِأَيَّةِ أَلْفٍ كَانَتْ ، فَكَانَ ذِكْرُ تِلْكَ الْأَلْفِ فِي التَّوْكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ لَهُ وَعَدَمُ ذِكْرِهَا فِيهِ سَوَاءٌ فَصَحَّ التَّوْكِيلُ .
وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ دَلِيلِهِمَا حَيْثُ قَالَ : فَكَانَ الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ فَيَصِحُّ التَّوْكِيلُ ، وَلَا بُدَّ فِي تَمَامِ التَّعْلِيلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ
الْمَصِيرِ إلَى تَعْيِينِ النُّقُودِ فِي الْوَكَالَاتِ وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ كَمَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَلِلَّهِ دَرُّهُ فِي تَدْقِيقِهِ وَتَحْقِيقِهِ
قَالَ ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ .
وَقَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ ) وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ وَقَدْ ادَّعَى الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ وَالْآمِرُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ خَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَإِنْ كَانَتْ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ حَيْثُ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَالْأَمْرُ تَنَاوَلَ مَا يُسَاوِي أَلْفًا فَيَضْمَنُ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ) أَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا خَمْسَمِائَةٍ فَلِلْمُخَالَفَةِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَالْوَكِيلَ فِي هَذَا يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ .
ثُمَّ يُفْسَخُ الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَتَلْزَمُ الْجَارِيَةُ الْمَأْمُورَ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَمَنْ دَفَعَ إلَى آخَرَ أَلْفًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا جَارِيَةً فَاشْتَرَاهَا فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتهَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتُهَا بِأَلْفٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمُرَادُهُ ) أَيْ مُرَادُ مُحَمَّدٍ ( إذَا كَانَتْ ) أَيْ الْجَارِيَةُ ( تُسَاوِي أَلْفًا ) يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ كَوْنُ الْقَوْلِ قَوْلَ الْمَأْمُورِ فِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَلْفًا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمَأْمُورَ ( أَمِينٌ فِيهِ ) أَيْ فِي الْخُصُوصِ الْمَزْبُورِ ( وَقَدْ ادَّعَى الْخُرُوجَ عَنْ عُهْدَةِ الْأَمَانَةِ وَالْآمِرُ يَدَّعِيْ عَلَيْهِ ضَمَانَ خَمْسِمِائَةٍ وَهُوَ ) أَيْ الْمَأْمُورُ ( يُنْكِرُ ) وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ( فَإِنْ كَانَتْ ) أَيْ الْجَارِيَةُ ( تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْوَكِيلُ ( خَالَفَ ) أَيْ خَالَفَ الْآمِرَ إلَى شَرٍّ ( حَيْثُ اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَالْأَمْرُ يَتَنَاوَلُ مَا يُسَاوِي أَلْفًا ) وَأَيْضًا فِيهِ غَبْنٌ فَاحِشٌ ( فَيَضْمَنُ ) أَيْ الْمَأْمُورُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُخَالِفَ الْآمِرَ إلَى شَرٍّ وَلَا أَنْ يَشْتَرِيَ بِغَبَنٍ فَاحِشٍ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ الْأَلْفَ ) وَاخْتَلَفَا ( فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ، أَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا ) أَيْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ ( خَمْسَمِائَةٍ فَلِلْمُخَالَفَةِ ) وَلِتَحْقِيقِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ( وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا أَلْفًا ، فَمَعْنَاهُ ) أَيْ فَمَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ ( أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ) وَيَنْدَفِعُ بِهِ مَا قِيلَ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إنَّ الْجَارِيَةَ إذَا كَانَتْ تُسَاوِي أَلْفًا وَجَبَ أَنْ تَلْزَمَ الْآمِرَ سَوَاءٌ قَالَ الْمَأْمُورُ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ كَانَ مُوَافِقًا لِلْآمِرِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ مِنْهَا
كَانَ مُخَالِفًا إلَى خَيْرٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَلْزَمُ الْآمِرَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا .
أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ وَالتَّحَالُفُ يُخَالِفُهُ فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا مَعْنَى ذَاكَ ؟ وَالْجَوَابُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ بِقَوْلِهِ وَقَدْ ذَكَرَ مُعْظَمَ يَمِينِ التَّحَالُفِ وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ لَا يَتَمَشَّى هُنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَالْوَكِيلَ فِي هَذَا ) أَيْ فِي هَذَا الْفَصْلِ ( يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ) لِلْمُبَادَلَةِ الْحُكْمِيَّةِ بَيْنَهُمَا ( وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ ثُمَّ يُفْسَخُ ) يَعْنِي فَإِذَا تَحَالَفَا يُفْسَخُ ( الْعَقْدُ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ وَهُوَ الْعَقْدُ الْحُكْمِيُّ ( فَتَلْزَمُ الْجَارِيَةُ الْمَأْمُورَ ) قِيلَ هُنَا مُطَالَبَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْأَمَانَةُ ، وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُبَادَلَةُ فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ ؟ وَأُجِيبُ بِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ سَبَقَتْ الْأَمَانَةُ الْمُبَادَلَةَ ، وَالسَّبَقُ مِنْ أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّانِي
قَالَ ( وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ هَذَا الْعَبْدَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَاهُ فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْته بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ بِأَلْفٍ وَصَدَّقَ الْبَائِعُ الْمَأْمُورَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ ) قِيلَ لَا تَحَالُفَ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ ، إذْ هُوَ حَاضِرٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ غَائِبٌ ، فَاعْتُبِرَ الِاخْتِلَافُ ، وَقِيلَ يَتَحَالَفَانِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَقَدْ ذَكَرَ مُعْظَمَ يَمِينِ التَّحَالُفِ وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ وَالْبَائِعُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا وَقَبْلَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوَكِّلِ إذْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ فَيَبْقَى الْخِلَافُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَظْهَرُ .
( قَالَ ) أَيْ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ هَذَا الْعَبْدَ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ ثَمَنًا فَاشْتَرَاهُ ) وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ ( فَقَالَ الْآمِرُ اشْتَرَيْتَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَقَالَ الْمَأْمُورُ ) اشْتَرَيْتُهُ ( بِأَلْفٍ وَصَدَّقَ الْبَائِعُ ) أَيْ بَائِعُ الْعَبْدِ ( الْمَأْمُورَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( قِيلَ لَا تَحَالُفَ هَاهُنَا ) وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ ( لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ إذْ هُوَ ) أَيْ الْبَائِعُ ( حَاضِرٌ ) فَيَجْعَلُ تَصَادُقَهُمَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدُ لَزِمَ الْآمِرُ فَكَذَا هَاهُنَا ( وَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى هُوَ ) أَيْ الْبَائِعُ ( غَائِبٌ فَاعْتُبِرَ الِاخْتِلَافُ ) لِعَدَمِ مَا يَرْفَعُهُ وَوَجَبَ التَّحَالُفُ ( وَقِيلَ يَتَحَالَفَانِ ) فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ ( كَمَا ذَكَرْنَا ) أَيْ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّهُمَا يَنْزِلَانِ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الثَّمَنِ وَمُوجِبُهُ التَّحَالُفُ ، وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ أَنْ يُقَالَ كَيْفَ قِيلَ إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَقَدْ نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ وَالتَّحَالُفَ مُخَالَفَةٌ أَجَابَ بِقَوْلِهِ ( وَقَدْ ذَكَرَ مُعْظَمَ يَمِينِ التَّحَالُفِ وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ ) يَعْنِي أَنَّ مُحَمَّدًا اكْتَفَى بِذِكْرِ مُعْظَمِ الْيَمِينِ مِنْ يَمِينَيْ التَّحَالُفِ .
وَهُوَ يَمِينُ الْبَائِعِ : أَيْ الْمَأْمُورِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآمِرِ حُكْمًا ، وَإِنَّمَا قَالَ إنَّ يَمِينَ الْبَائِعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ مُعْظَمُ يَمِينَيْ التَّحَالُفِ ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ هَاهُنَا وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي إلَّا فِي صُورَةِ التَّحَالُفِ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي وَهُوَ الْآمِرُ فَمُنْكِرٌ ، وَعَلَى
الْمُنْكِرِ الْيَمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ ، فَلَمَّا كَانَ يَمِينُ الْمَأْمُورِ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّحَالُفِ كَانَتْ أَعْظَمَ الْيَمِينَيْنِ ، ثُمَّ إذَا وَجَبَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَأْمُورِ وَهُوَ الْمُدَّعِي فَلَأَنْ تَجِبَ عَلَى الْآمِرِ وَهُوَ الْمُنْكِرُ أَوْلَى ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَمَا بَيَّنَ الْمَقَامَ عَلَى هَذَا النَّمَطِ : هَكَذَا ذَكَرَ الْمَشَايِخُ إلَّا أَنَّ فِيهِ إشْكَالًا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَكِنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَأْمُورِ مَعَ يَمِينِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ يُصَدَّقُ فِيمَا قَالَهُ ، وَفِي التَّحَالُفِ لَا يُصَدَّقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ التَّحَالُفَ لَمَا قَالَ ذَلِكَ انْتَهَى كَلَامُهُ فَتَأَمَّلْ ( وَالْبَائِعُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ تَعْلِيلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِتَصْدِيقِ الْبَائِعِ إذْ هُوَ حَاضِرٌ : يَعْنِي أَنَّ بَائِعَ الْعَبْدِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَالْوَكِيلِ مَعًا ( وَقَبْلَهُ ) أَيْ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ( أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْمُوَكِّلِ إذْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلِ ( بَيْعٌ ) فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ مُعْتَبَرًا ( فَلَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُوَكِّلِ ( فَبَقِيَ الْخِلَافُ ) بَيْنَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ فَلَزِمَ التَّحَالُفُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ الْقَوْلُ بِالتَّحَالُفِ ( قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي مَنْصُورٍ وَهُوَ أَظْهَرُ ) وَقَالَ صَاحِبُ الْكَافِي : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَلَكِنْ جَعَلَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ أَصَحَّ .
قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَعْدَ هَذَا : هَذَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى الثَّمَنِ عِنْدَ التَّوَكُّلِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَكِيلُ أَمَرْتنِي بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ وَقَالَ الْمُوَكِّلُ لَا بَلْ