كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
قَالَ ( وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ وَلَمْ يَكُنْ رَآهَا فَلَهُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ، وَإِنْ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي شَرَطَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارَانِ كَمَا فِي الشِّرَاءِ ، وَلَا يَسْقُطُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي وَلَا بِرُؤْيَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْهُ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ .
فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ قَالَ ( وَإِنْ اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ عَلَيْهِ عِنْدَ نَقْدِ الْأَقَلِّ وَهُوَ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ فَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَيْهِ شَيْئًا لِتَخَيُّرِهِ بَيْنَ التَّرْكِ وَالْأَخْذِ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا ، فَلَا يَتَحَالَفَانِ .
قَالَ ( وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ لِلشَّفِيعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ) فَصَارَ كَبَيِّنَةِ الْبَائِعِ وَالْوَكِيلِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْمَوْجُودَ بَيْعَانِ ، وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَالَى بَيْنَهُمَا عَقْدَانِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ وَهَاهُنَا الْفَسْخُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَهُوَ التَّخْرِيجُ لِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلِ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ ، كَيْفَ وَأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَأَمَّا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فَقُلْنَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ .
فَلَنَا أَنْ نَمْنَعَ ( وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ : لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ ) ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمَةٍ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِلْزَامِ .
.
( فَصْلٌ فِي الِاخْتِلَافِ ) لَمَّا ذَكَرَ مَسَائِلَ الِاتِّفَاقِ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي شَرَعَ فِي مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدَّمَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الِاتِّفَاقُ ( قَوْلُهُ وَلَا نَصَّ هَاهُنَا فَلَا يَتَحَالَفَانِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمُقَامِ : إنَّمَا النَّصُّ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مَعَ وُجُودِ مَعْنَى الْإِنْكَارِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ هُنَاكَ فَوَجَبَ الْيَمِينُ لِذَلِكَ فِي الطَّرَفَيْنِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِنْكَارُ هُنَا فِي طَرَفِ الشَّفِيعِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ التَّحَالُفُ هُنَا ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ كَمَا هُوَ دَأْبُهُ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ ، وَتَحْرِيرُ صَاحِبِ غَايَةِ الْبَيَانِ أَيْضًا يُشْعِرُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ بَعْدَمَا بَيَّنَ عَدَمَ وُجُوبِ التَّحَالُفِ هُنَا عَلَى نَهْجِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ قَالَ : فَلَمْ يَكُنْ اخْتِلَافُهُمَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } فَلَا جَرَمَ لَمْ يَجِبْ التَّحَالُفُ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَرْحٍ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فِي اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَمَّا إذَا وَقَعَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَمَعْنَى الْإِنْكَارِ هُنَاكَ أَيْضًا إنَّمَا يُوجَدُ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُشْتَرِي ، فَكَانَ التَّحَالُفُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، وَلَكِنَّا عَرَّفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَوْفِيًا فِي بَابِ التَّحَالُفِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى ، فَلَوْ كَانَ الْوَجْهُ فِي عَدَمِ كَوْنِ مَا نَحْنُ فِيهِ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ أَنْ لَا يُوجَدَ مَعْنَى الْإِنْكَارِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ
لَانْتَقَضَ ذَلِكَ قَطْعًا بِصُورَةِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بَعْدَ الْقَبْضِ .
وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ عَدَمِ كَوْنِ مَا نَحْنُ فِيهِ مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ هُوَ أَنَّ الشَّفِيعَ مَعَ الْمُشْتَرِي لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ الْبَيْعِ وَهُوَ التَّرَاضِي فَلَا يَلْحَقَانِ بِهِمَا فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ .
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ بِالتَّحَالُفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَإِنْ وُجِدَ لَكِنْ بِالنَّظَرِ إلَى فَوَاتِ شَرْطِهِ وَهُوَ الرِّضَا لَمْ يُوجَدْ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ ا هـ .
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْكَنْزِ : وَلَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَارَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَى الشَّفِيعِ شَيْئًا فَلَا يَكُونُ الشَّفِيعُ مُنْكِرًا فَلَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ النَّصُّ فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ ا هـ .
أَقُولُ : الْخَلَلُ فِي كَلَامِهِ أَشَدُّ وَأَظْهَرُ .
فَإِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا : لِأَنَّ التَّحَالُفَ عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَارُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عُرِفَ بِالنَّصِّ أَيْضًا فِيمَا لَا إنْكَارَ وَلَا دَعْوَى إلَّا مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً حَتَّى نَفْسَهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، بَلْ الَّذِي عُرِفَ بِالنَّصِّ هَذِهِ الصُّورَةُ ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ فِيمَا إذَا وُجِدَ الْإِنْكَارُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالدَّعْوَى مِنْ الْجَانِبَيْنِ ثَابِتٌ بِالْقِيَاسِ بِدُونِ ذَلِكَ النَّصِّ .
وَقَالَ آخِرًا فَامْتَنَعَ الْقِيَاسُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ امْتِنَاعَ الْقِيَاسِ لَا يَقْتَضِي امْتِنَاعَ الْإِلْحَاقِ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُمُورِ لَا يَجْرِي فِيهِ الْقِيَاسُ وَيَصِحُّ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ
فَبِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِ الْقِيَاسِ هَاهُنَا لَا يَتِمُّ الْمَطْلُوبُ ، فَحَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ لِيَعُمَّ الْقِيَاسَ وَالدَّلَالَةَ ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُسْمَعُ مِنْ الْمُدَّعِي ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عَلَى الشَّفِيعِ شَيْئًا وَلِهَذَا لَا يَتَحَالَفَانِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا مَرَّ آنِفًا ، فَلَزِمَ أَنْ لَا تَصِحَّ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ تُرَجَّحَ عَلَى بَيِّنَةِ الشَّفِيعِ كَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ وَإِنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ لَا مُدَّعِيًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ مُدَّعٍ صُورَةً حَيْثُ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ ، وَمَنْ كَانَ مُدَّعِيًا صُورَةً تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ إذَا أَقَامَهَا ، كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَحِلِّهِ .
وَأَمَّا الْحَلِفُ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَلَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ صُورَةً ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ وَعَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَلِفُ عَلَى الْمُودَعِ لِكَوْنِهِ مُنْكِرَ الضَّمَانِ حَقِيقَةً ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُودِعِ مَعَ كَوْنِهِ فِي صُورَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَيْهِ فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مَجَالُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى خَصْمِهِ الْحَلِفُ أَصْلًا فَرَجَّحَ أَبُو يُوسُفَ بَيِّنَتَهُ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهَا أَكْثَرَ إثْبَاتًا ، وَبِهَذَا التَّفْصِيلِ تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ صَدْرِ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي هَذَا الْمُقَامِ وَحُجَّتُهُمَا مَا ذَكَرْنَا مُؤَيِّدًا بِهِ مَا ذَكَرَهُ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ عِنْدَ نَقْدِ الْأَقَلِّ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ .
وَعَنْ هَذَا
لَمْ يُحْكَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الِاحْتِجَاجُ بِذَلِكَ مَعَ ظُهُورِهِ جِدًّا ، وَإِنَّمَا حُكِيَ عَنْهُ الطَّرِيقَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي إلَخْ ، وَبِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ إلَخْ ، حَكَى أُولَاهُمَا مُحَمَّدٌ وَأَخَذَ بِهَا ، وَحَكَى ثَانِيَتَهُمَا أَبُو يُوسُفَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا كَمَا ذَكَرُوا فِي الشُّرُوحِ .
( قَوْلُهُ وَهُوَ التَّخْرِيجُ لِبَيِّنَةِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلُ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ ) أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أُرِيدَ أَنَّ الْوَكِيلَ كَالْبَائِعِ وَالْمُوَكِّلَ كَالْمُشْتَرِي مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَهُوَ مَمْنُوعٌ لِظُهُورِ الِاخْتِلَافِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْمُوَكِّلَ كَالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنَّ الشَّفِيعَ وَالْمُشْتَرِيَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً فَلَا يَتِمُّ الْفَرْقُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ ( قَوْلُهُ وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ : لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ ) أَقُولُ : يُرَدُّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ هُنَا أَيْضًا ، وَلَا يُفْسَخُ الْأَوَّلُ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَصَوُّرِ بَيْعِ شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، وَيَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْفَسْخِ هُنَا أَيْضًا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَهَاهُنَا الْفَسْخُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ حَيْثُ نَفَى ظُهُورَ الْفَسْخِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَحَقُّقَ الْفَسْخِ فِي نَفْسِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِالْفَسْخِ فِي قَوْلِهِ لَا يَصِحُّ الثَّانِي هُنَالِكَ إلَّا بِفَسْخِ الْأَوَّلِ ، أَمَّا هَاهُنَا فَبِخِلَافِهِ هُوَ الْفَسْخُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ هُنَالِكَ وَالشَّفِيعُ هُنَا لَا الْفَسْخُ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَاَلَّذِي لَزِمَ تَحَقُّقُهُ ضَرُورَةً فِي الْفَصْلَيْنِ مَعًا هُوَ
الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنَّ الْفَسْخَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّانِي هُنَالِكَ كَمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، أَمَّا هُنَا فَبِخِلَافِهِ : أَيْ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الثَّالِثِ .
وَثَمَرَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّ الثَّالِثَ هُنَالِكَ وَهُوَ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ يَأْخُذُ الْعَبْدَ الْمَأْسُورَ مِنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ بِالثَّمَنِ الثَّانِي ، وَأَمَّا الثَّالِثُ هُنَا وَهُوَ الشَّفِيعُ فَيَأْخُذُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَيِّ الثَّمَنَيْنِ شَاءَ .
فَإِنْ قُلْتَ : نَعَمْ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ قَطْعًا ، وَلَكِنْ مَا وَجْهُ ظُهُورِ الْفَسْخِ هُنَالِكَ فِي حَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ هُنَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْتُ : حَقُّ الشَّفِيعِ تَعَلَّقَ بِالدَّارِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ ، وَأَمَّا حَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَبْدِ الْمَأْسُورِ إلَّا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْإِخْرَاجُ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ إلَّا بِالْبَيْعِ الثَّانِي فَافْتَرَقَا ، وَحَلُّ هَذَا الْمَقَامُ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يُهِمُّ ، وَقَدْ أَهْمَلَهُ الشُّرَّاحُ مَعَ الْتِزَامِهِمْ بَيَانَ الظَّوَاهِرِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ .
قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى الْمُشْتَرِي ثَمَنًا وَادَّعَى الْبَائِعُ أَقَلَّ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمَا قَالَهُ الْبَائِعُ وَكَانَ ذَلِكَ حَطًّا عَنْ الْمُشْتَرِي ) ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ إنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْبَائِعُ فَقَدْ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى مَا قَالَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ حَطَّ الْبَائِعُ بَعْضَ الثَّمَنِ ، وَهَذَا الْحَطُّ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ التَّمَلُّكَ عَلَى الْبَائِعِ بِإِيجَابِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ مَا بَقِيَتْ مُطَالَبَتُهُ فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِقَوْلِهِ .
قَالَ ( وَلَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ الْأَكْثَرَ يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ مَا يَقُولُهُ الْآخَرُ فَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ حَلَفَا يَفْسَخُ الْقَاضِي الْبَيْعَ عَلَى مَا عُرِفَ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقَوْلِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الشَّفِيعِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَخَذَ بِمَا قَالَ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوْفَى الثَّمَنَ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَخَرَجَ هُوَ مِنْ الْبَيِّنِ وَصَارَ هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَالشَّفِيعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ كَانَ نَقْدُ الثَّمَنِ غَيْرَ ظَاهِرٍ فَقَالَ الْبَائِعُ بِعْت الدَّارَ بِأَلْفٍ وَقَبَضْت الثَّمَنَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِأَلْفٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَدَأَ بِالْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ تَعَلَّقَتْ الشُّفْعَةُ بِهِ ، فَبِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ قَبَضْتُ الثَّمَنَ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ قَبَضْت الثَّمَنَ وَهُوَ أَلْفٌ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ خَرَجَ مِنْ الْبَيِّنِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ
فَصْلٌ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ قَالَ ( وَإِذَا حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ يَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْ الشَّفِيعِ ) لِأَنَّ حَطَّ الْبَعْضِ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَا بَقِيَ ، وَكَذَا إذَا حَطَّ بَعْدَمَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالثَّمَنِ يَحُطُّ عَنْ الشَّفِيعِ حَتَّى يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، بِخِلَافِ حَطِّ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بِحَالٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ .
( فَصْلٌ فِيمَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الْمَشْفُوعِ وَهُوَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ وَهُوَ الَّذِي يُؤَدِّيهِ الشَّفِيعُ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنٌ وَالثَّمَنُ تَابِعٌ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ
( وَإِنْ زَادَ الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ لَمْ تَلْزَمْ الزِّيَادَةُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ) ؛ لِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ ضَرَرًا بِالشَّفِيعِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْأَخْذَ بِمَا دُونَهَا .
بِخِلَافِ الْحَطِّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لَهُ ، وَنَظِيرُ الزِّيَادَةِ إذَا جَدَّدَ الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لَمْ يَلْزَمْ الشَّفِيعَ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا كَذَا هَذَا .
.
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ ( وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَخَذَهَا بِمِثْلِهِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَهُ فَيُرَاعَى بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَمَا فِي الْإِتْلَافِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
( قَوْلُهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلشَّفِيعِ وِلَايَةَ التَّمَلُّكِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُهُ ) أَقُولُ : كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا بِمِثْلِ الْبَيْعِ الَّذِي يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا إذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَرَضٍ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَرَضِ الَّذِي هُوَ الثَّمَنُ لَا بِقِيمَةِ الدَّارِ الَّتِي هِيَ الْبَيْعُ كَمَا قَالَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ .
وَفِي الْكَافِي : الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا هُوَ الْبَاءُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهَا هَاهُنَا ، لَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْمِثْلُ نَوْعَانِ : كَامِلٌ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَقَاصِرٌ وَهُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى ا هـ
( وَإِنْ بَاعَ عَقَارًا بِعَقَارٍ أَخَذَ الشَّفِيعُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَيَأْخُذُهُ بِقِيمَتِهِ .
قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِثَمَنِ حَالٍّ ، وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ ثُمَّ يَأْخُذُهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا فِي الْحَالِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ) وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مُؤَجَّلًا وَصْفٌ فِي الثَّمَنِ كَالزِّيَافَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهِ فَيَأْخُذُ بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ كَمَا فِي الزُّيُوفِ .
وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ ، وَلَا شَرْطَ فِيمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْبَائِعِ أَوْ الْمُبْتَاعِ ، وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ ، وَلَيْسَ الْأَجَلُ وَصْفَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمُشْتَرِي ؛ وَلَوْ كَانَ وَصْفًا لَهُ لَتَبِعَهُ فَيَكُونُ حَقًّا لِلْبَائِعِ كَالثَّمَنِ وَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ وَلَّاهُ غَيْرَهُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ إلَّا بِالذِّكْرِ كَذَا هَذَا ، ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ فَبَقِيَ مُوجِبُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ وَقَدْ اشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا ، وَإِنْ اخْتَارَ الِانْتِظَارَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ زِيَادَةَ الضَّرَرِ مِنْ حَيْثُ النَّقْدِيَّةُ .
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ مُرَادُهُ الصَّبْرُ عَنْ الْأَخْذِ ، أَمَّا الطَّلَبُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ حَتَّى لَوْ سَكَتَ عَنْهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا
يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ ، وَالْأَخْذُ يَتَرَاخَى عَنْ الطَّلَبِ ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا فَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ .
.
( قَوْلُهُ وَلَيْسَ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ ) .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا دَلِيلٌ آخَرُ تَقْدِيرُهُ لَا بُدَّ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ الرِّضَا لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةً ، وَلَا رِضَا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِهِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي لَيْسَ بِرِضًا فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرُ مَلُؤَ الرَّجُلُ .
وَقَالَ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لَمَّا كَانَ الرِّضَا شَرْطًا وَجَبَ أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِانْتِفَائِهِ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا ، وَحَيْثُ ثَبَتَ بِدُونِهِ جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْأَجَلُ كَذَلِكَ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِدُونِهِ ضَرُورِيٌّ .
وَلَا ضَرُورَةَ فِي ثُبُوتِ الْأَجَلِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَلِيلٍ آخَرَ ، بَلْ إنَّمَا هُوَ تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ السَّابِقِ ذُكِرَ لِدَفْعِ مَا عَسَى يُتَوَهَّمُ أَنْ يُقَالَ شَرْطُ الْأَجَلِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالشَّفِيعِ صَرِيحًا لَكِنْ تَحَقَّقَ بَيْنَهُمَا ضِمْنًا مِنْ حَيْثُ إنَّ الرِّضَا بِالْأَجَلِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي رِضًا بِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ .
وَوَجْهُ الدَّفْعِ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِ وَلِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْمَلَاءَةِ فَلَا احْتِيَاجَ أَصْلًا إلَى مَا ارْتَكَبَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِنْ تَقْرِيرِ مُقَدَّمَاتٍ لِجَعْلِ ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا ، وَإِيرَادُ سُؤَالٍ وَالْتِزَامُ جَوَابٍ بَعِيدٌ عَنْهُ ، بَلْ لَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الشُّفْعَةِ مِنْ الرِّضَا عِنْدَ مَنْ أَحَاطَ بِمَسَائِلِ الشُّفْعَةِ خُبْرًا ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا بِخِلَافِهِ فِي مَوَاضِعَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الشُّفْعَةِ ، سِيَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِمْ وَيَمْلِكُ الشَّفِيعُ الدَّارَ إمَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَيْثُ جَعَلُوا قَضَاءَ الْقَاضِي مُقَابِلًا لِلتَّرَاضِي ، وَاعْتَبَرُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
سَبَبًا مُسْتَقِلًّا لِلْمِلْكِ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَخْ يُوهِمُ أَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ بِبَيْعٍ جَدِيدٍ وَهُوَ مَذْهَبُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ كَمَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، لَكِنْ يَتَحَوَّلُ مَا كَانَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَالْأَجَلُ مُقْتَضَى الشَّرْطِ فَبَقِيَ مَعَ مَنْ ثَبَتَ الشَّرْطُ فِي حَقِّهِ ا هـ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ أَقُولُ : هَذَا خَبْطٌ فَاحِشٌ مِنْهُمَا ، مَدَارُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي ، وَإِذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي أَنَّ الدَّارَ الْمَشْفُوعَةَ هَلْ تَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ أَمْ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا فَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ انْتِقَالَهَا إلَى الشَّفِيعِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ تَحَوُّلِ الصَّفْقَةِ وَلَا مَجَالَ لَهُ أَصْلًا وَإِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ عَقْدٍ جَدِيدٍ بِالْإِجْمَاعِ وَلَقَدْ نَادَى إلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ .
وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ امْتَنَعَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَسْخَ ا هـ .
فَالصَّوَابُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا ثُمَّ إنْ أَخَذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ مِنْ الْبَائِعِ سَقَطَ الثَّمَنُ عَنْ
الْمُشْتَرِي إشَارَةً إلَى صُورَةِ أَخْذِهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْمُشْتَرِي .
وَقَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ إشَارَةً إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ وَالْخُصُومَةِ فِيهَا مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ فِي حَقِّ الْإِضَافَةِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَتَتَحَوَّلُ الصَّفْقَةُ إلَى الشَّفِيعِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي رَجَعَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كَمَا كَانَ إشَارَةً إلَى صُورَةِ أَخْذِهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ قَبَضَهَا .
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ بِأَخْذِ الشَّفِيعِ فَبَقِيَ مُوجِبُهُ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ ، وَقَدْ اشْتَرَاهُ مُؤَجَّلًا ، إشَارَةً إلَى أَنَّ تَمَلُّكَ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ بِقَوْلِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ حَيْثُ تَكُونُ الْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ مِلْكُهُ بِالْقَبْضِ ا هـ .
فَكَانَ كُلٌّ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هُنَا مُطَابِقًا لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْبَابِ الْمَزْبُورِ فَلَا غُبَارَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُمَا أَصْلًا ( قَوْلُهُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا فَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْبَيْعِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ .
وَتَقْرِيرُهُ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْأَخْذُ ، وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِيمَا قَبْلُ لِدَلِيلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ كَمَا تَرَى ، فَالتَّصَدِّي لِلْجَوَابِ عَنْهُ بِمَنْعِ بَعْضِ مُقَدِّمَاتِهِ كَمَا قَرَّرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ بَعِيدٌ جِدًّا ، بَلْ هُوَ
خَارِجٌ عَمَّا عَلَيْهِ دَأْبُ الْمُصَنِّفِ فِي نَظَائِرِهِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا ؛ فَلِأَنَّ مَنْعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ بِهِ الْأَخْذَ كَمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي أَوَّلِ التَّقْرِيرِ مِمَّا لَا يُفْهَمُ مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الدَّلَالَاتِ فَكَيْفَ يَصِحُّ حَمْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ ( وَلَئِنْ كَانَ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَكِّنٍ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بَلْ هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا ) مِمَّا لَا يَكَادُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا عَنْ دَلِيلِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ وَفِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ حَتَّى الْعِنَايَةَ نَفْسَهَا أَنَّ الطَّلَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِعَيْنِهِ بَلْ لِلْأَخْذِ ، وَهُوَ فِي الْحَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ وَهُوَ الْأَخْذُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ أَوْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ فِي الْحَالِ ، فَسُكُوتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ فَائِدَةً لَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَخْذِ انْتَهَى .
وَلَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مَنْعَ عَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِنَاءً عَلَى تَمَكُّنِهِ مِنْهُ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا لَا يُجْدِي طَائِلًا فِي دَفْعِ مَا ذَكَرَ فِي دَلِيلِهِ مِنْ أَنَّهُ فِي الْحَالِّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ ، فَإِنَّ أَدَاءَ الثَّمَنِ حَالًّا لَيْسَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ لَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَخِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ فِيمَا إذَا لَمْ يَخْتَرْ الشَّفِيعُ أَخْذَهَا بِثَمَنٍ حَالٍّ بَلْ اخْتَارَ الِانْتِظَارَ إلَى حُلُولِ الْأَجَلِ فَكَيْفَ يَكُونُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الثَّمَنَ حَالًّا جَوَابًا عَنْ ذَلِكَ ، وَالْحَقُّ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ الْمُصَنَّفِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَخْذِ فِي الْحَالِ إلَخْ عَلَى تَتْمِيمِ دَلِيلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَنْ يُجْعَلَ دَلِيلًا بِحَسْبِ الْمَعْنَى عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَهُ بِالْبَيْعِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرَّاحِ أَخْذًا مِنْ الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالُوا بَعْدَ ذِكْرِ وَجْهِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرِ : وَجْهٌ ظَاهِرٌ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ قَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ بِثَمَنٍ حَالٍّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ مُبْطِلٌ شُفْعَتَهُ .
انْتَهَى تَبَصَّرْ .
قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَى ذِمِّيٌّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ دَارًا وَشَفِيعُهَا ذِمِّيٌّ أَخَذَهَا بِمِثْلِ الْخَمْرِ وَقِيمَةِ الْخِنْزِيرِ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا الْبَيْعَ مَقْضِيٌّ بِالصِّحَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعُمُّ الْمُسْلِمَ وَالذِّمِّيَّ ، وَالْخَمْرُ لَهُمْ كَالْخَلِّ لَنَا وَالْخِنْزِيرُ كَالشَّاةِ ، فَيَأْخُذُ فِي الْأَوَّلِ بِالْمِثْلِ وَالثَّانِي بِالْقِيمَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ) أَمَّا الْخِنْزِيرُ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَا الْخَمْرُ لِامْتِنَاعِ التَّسَلُّمِ وَالتَّسْلِيمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَالْتَحَقَ بِغَيْرِ الْمِثْلِيِّ ، وَإِنْ كَانَ شَفِيعُهَا مُسْلِمًا وَذِمِّيًّا أَخَذَ الْمُسْلِمُ نِصْفَهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ وَالذِّمِّيُّ نِصْفَهَا بِنِصْفِ مِثْلِ الْخَمْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، فَلَوْ أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ أَخَذَهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْخَمْرِ لِعَجْزِهِ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ وَبِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُ لَا أَنْ يَبْطُلَ ، فَصَارَ كَمَا إذَا اشْتَرَاهَا بِكُرٍّ مِنْ رُطَبٍ فَحَضَرَ الشَّفِيعُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ يَأْخُذُ بِقِيمَةِ الرُّطَبِ كَذَا هَذَا .
فَصْلٌ قَالَ ( وَإِذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ قُضِيَ لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ قَلْعَهُ ) وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ وَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، إلَّا أَنَّ عِنْدَهُ لَهُ أَنْ يُقْلِعَ وَيُعْطِي قِيمَةَ الْبِنَاءِ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ مِلْكُهُ ، وَالتَّكْلِيفُ بِالْقَلْعِ مِنْ أَحْكَامِ الْعُدْوَانِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، وَكَمَا إذَا زَرَعَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعَ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارَ إلَيْهِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ بَنَى فِي مَحِلٍّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ مُتَأَكِّدٌ لِلْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَيُنْقَضُ كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي الْمَرْهُونِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَهَذَا يَنْقُضُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ وَغَيْرَهُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ ، وَهَذَا الْحَقُّ يَبْقَى فَلَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالزَّرْعُ يُقْلَعُ قِيَاسًا .
وَإِنَّمَا لَا يُقْلَعُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ لَهُ نِهَايَةً مَعْلُومَةً وَيَبْقَى بِالْأَجْرِ وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ ، وَإِنْ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ مَقْلُوعًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ ( وَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ فَبَنَى فِيهَا أَوْ غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِالثَّمَنِ ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ
الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، لَا عَلَى الْبَائِعِ إنْ أَخَذَهَا مِنْهُ ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَخَذَهَا مِنْهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّهُ مُتَمَلِّكٌ عَلَيْهِ فَنَزَلَا مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي ، وَالْفَرْقُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَمُسَلَّطٌ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا غُرُورَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ قَالَ ( وَإِذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ أَوْ احْتَرَقَ بِنَاؤُهَا أَوْ جَفَّ شَجَرُ الْبُسْتَانِ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَالشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ تَابِعٌ حَتَّى دَخَلَا فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَلَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَصِرْ مَقْصُودًا وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهَا مُرَابَحَةً بِكُلِّ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَرِقَ نِصْفُ الْأَرْضِ حَيْثُ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ لِأَنَّ الْفَائِتَ بَعْضُ الْأَصْلِ قَالَ .
( وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ) لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَمَلُّكِ الدَّارِ بِمَالِهِ قَالَ ( وَإِنْ نَقَضَ الْمُشْتَرِي الْبِنَاءَ قِيلَ لِلشَّفِيعِ إنْ شِئْت فَخُذْ الْعَرْصَةَ بِحِصَّتِهَا ، وَإِنْ شِئْت فَدَعْ ) لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ( وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ النَّقْضَ ) لِأَنَّهُ صَارَ مَفْصُولًا فَلَمْ يَبْقَ تَبَعًا قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا وَعَلَى نَخْلِهَا ثَمَرٌ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِثَمَرِهَا ) وَمَعْنَاهُ إذَا ذُكِرَ الثَّمَرُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَأْخُذُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُتْبَعُ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ فَأَشْبَهَ الْمَتَاعَ فِي الدَّارِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّصَالِ صَارَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ كَالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ، وَمَا كَانَ مُرَكَّبًا فِيهِ
فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ ابْتَاعَهَا وَلَيْسَ فِي النَّخِيلِ ثَمَرٌ فَأَثْمَرَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ) يَعْنِي يَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَبَعًا لِأَنَّ الْبَيْعَ سَرَى إلَيْهِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي وَلَدِ الْمَبِيعِ قَالَ ( فَإِنْ جَدَّهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ لَا يَأْخُذُ الثَّمَرَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ) لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ تَبَعًا لِلْعَقَارِ وَقْتَ الْأَخْذِ حَيْثُ صَارَ مَفْصُولًا عَنْهُ فَلَا يَأْخُذُهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ ( وَإِنْ جَدّه الْمُشْتَرِي سَقَطَ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( وَهَذَا جَوَابُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَقْصُودًا فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ( أَمَّا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَأْخُذُ مَا سِوَى الثَّمَرِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مَبِيعًا إلَّا تَبَعًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( فَصْلٌ ) مَسَائِلُ هَذَا الْفَصْلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى تَغَيُّرِ الْمَشْفُوعِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ أَوْ بِالنُّقْصَانِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ الْغَيْرِ ، فَلَمَّا كَانَ الْمُتَغَيِّرُ فَرْعًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَغَيِّرِ كَانَ جَدِيرًا بِالتَّأْخِيرِ فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ دَفْعَ أَعْلَى الضَّرَرَيْنِ بِتَحَمُّلِ الْأَدْنَى فَيُصَارَ إلَيْهِ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَهَذَا : أَيْ وَهَذَا الْمُدَّعِي الَّذِي قُلْنَا وَهُوَ أَنْ لَا يُكَلَّفَ الْمُشْتَرِي بِقَلْعِ الْبِنَاءِ انْتَهَى وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى فَسَّرَهُ سَائِرُ الشُّرَّاحِ أَيْضًا وَلَكِنْ بِعِبَارَاتٍ شَتَّى فَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : أَيْ مَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ : أَيْ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْمُشْتَرِي قَلْعَ الْبِنَاءِ وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : أَيْ الْقَوْلُ بِعَدَمِ إيجَابِ الْقَلْعِ وَوُجُوبِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ : أَيْ مَا قُلْنَا مِنْ عَدَمِ إيجَابِ الْقَلْعِ وَوُجُوبِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : قَدْ تَلَخَّصَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ : أَيْ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِكَلِمَةِ هَذَا فِي قَوْلِهِ ( وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إلَخْ ) أَصْلُ مُدَّعَى أَبِي يُوسُفَ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ( لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إلَخْ ) دَلِيلًا عَلَيْهِ ، فَيَنْبَغِيَ أَنْ يَقُولَ : وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إلَخْ عَلَى مَا هُوَ الطَّرِيقُ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَدِلَّةِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْمُصَنِّفِ فِي كِتَابِهِ هَذَا أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لَمِّيَّةَ مَسْأَلَةٍ بَعْدَ بَيَانِ إنِّيَّتِهَا سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَكَ إيمَاءً إلَى أَنَّ مُفَادَ الدَّلِيلَيْنِ مُخْتَلِفٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنِّيَّةُ وَاللَّمِّيَّةُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمُدَّعَى وَاحِدًا وَكَأَنَّهُمَا صَارَا دَلِيلَيْنِ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَلِيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْك
فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَارِدِهَا وَقَدْ كُنْت نَبَّهْت عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ أَيْضًا فَلَا تَغْفُلْ ( قَوْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ) أَقُولُ : هُنَا كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ قَبْلَ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِهِ تَمَلَّكَ بِالْأَخْذِ إذَا سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي أَوْ حَكَمَ بِهِمَا حَاكِمٌ ، لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَدْ يَنْتَقِلُ إلَى الشَّفِيعِ إلَّا بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبَيَّنَ ذَاكَ وَمَا قَالَ هُنَا تَدَافَعَ ، فَإِنَّ الْمُتَفَهَّمَ فِيمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ تَقَدُّمُ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ حَيْثُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ أَوَّلًا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَثْبُتُ مِنْهُ إلَى الشَّفِيعِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا صَرِيحٌ فِي تَقَدُّمِ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَمَا التَّوْفِيقُ ؟ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذَكَرَهُ هَاهُنَا تَقَدُّمُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَبِمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ تَقَدُّمُ الْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ فِي الْمِلْكِ ، وَالتَّمَلُّكُ مُغَايِرٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَمُؤَخَّرٌ عَنْهُ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا قَبْلَ بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَنَّ لِلشُّفْعَةِ أَحْوَالًا ثَلَاثَةً : الِاسْتِحْقَاقُ ، وَالِاسْتِقْرَارُ ، وَالتَّمَلُّكُ ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَثْبُتُ بِاتِّصَالِ الْمِلْكِ لِشَرْطِ الْبَيْعِ ، وَالثَّانِيَ بِالْإِشْهَادِ ، وَالثَّالِثَ بِالْأَخْذِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَلَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ إذْ كَوْنُ الشَّفِيعِ أَقْدَمَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُشْتَرِي أَقْدَمَ فِي التَّمَلُّكِ كَمَا لَا يَخْفَى ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : إنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، فَإِنَّ فِيهَا تَسْلِيطًا مِنْ جِهَتِهِ أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ عَلَّلَ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ
بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَثَانِيهِمَا قَوْلُهُ وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ مُتَّصِلًا بِمَا ذَكَرَهُ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحُ لَمَا صَحَّ تَعْلِيلُ الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ بِالْوَجْهِ الثَّانِي لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ عِلَّةُ كَوْنِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفًا وَكَوْنِ التَّسْلِيطِ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَانَ رَاجِعًا إلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِهِ وَجْهًا آخَرَ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عِلَّةُ ذَلِكَ كَوْنَ التَّسْلِيطِ فِيهِمَا مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْخِلَافِ الْمُتَّصِلِ بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْهِبَةِ إلَخْ مُتَّصِلٌ بِمَجْمُوعِ مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْوَجْهِ مُلَابِسٌ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فِي وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَيَكُونُ التَّعْلِيلُ بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ فِيهِمَا ضَعِيفٌ نَاظِرًا إلَى قَوْلِهِ فِيهِ لِأَنَّ حَقَّهُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَتِمُّ التَّعْلِيلَانِ مَعًا بِلَا غُبَارٍ وَقَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : إنَّمَا قَيَّدَ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ عَدَمَ جَوَازِ الِاسْتِرْدَادِ وَالْبَائِعِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ إذَا بَنَى الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَاهُ إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَهُ الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ الْبِنَاءِ كَالشَّفِيعِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا جَازَ عِنْدَهُمَا الِاسْتِرْدَادُ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ أَيْضًا فَكَيْفَ يَتِمُّ قِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ فِي
دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ بِقَوْلِهِ وَصَارَ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، فَإِنَّ جَوَازَ الِاسْتِرْدَادِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ يُنَافِي قِيَاسَ الْمُشْتَرِي فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ هُنَا فَإِنْ قُلْت : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي دَلِيلِهِ الْمَذْكُورِ مُجَرَّدُ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَذْهَبِهِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا : هَذَا احْتِجَاجٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ قُلْت : ذَلِكَ بَعِيدٌ عَنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ جِدًّا لِأَنَّ قِيَاسَهُ الْمَزْبُورُ لَمْ يُذْكَرْ بِصَدَدِ الْجَوَابِ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبَاهُ ، بَلْ ذُكِرَ بِصَدَدِ إثْبَاتِ مُدَّعَاهُ ، فَكَيْفَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ لِمُجَرَّدِ الِاحْتِجَاجِ عَلَى الْخَصْمِ سِيَّمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَقَطْ مِنْ مَذْهَبِهِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ثُمَّ أَقُولُ : الْأَوْجَهُ فِي التَّوْجِيهِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ لِأَبِي يُوسُفَ فِي الْبِنَاءِ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ اسْتِرْدَادِ الْمَبِيعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ .
وَثَانِيهِمَا : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَدْ نَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هُنَاكَ عَنْ الْإِيضَاحِ حَيْثُ قَالَ : وَذَكَرَ فِي الْإِيضَاحِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ هَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ وَقَوْلُهُ آخِرًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ا هـ وَكَذَا لِأَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ الْقَلْعُ إلَخْ ، وَهَذَا مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَثَانِيهِمَا مِثْلُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَ فِي
الْكِتَابِ بِأَنْ قَالَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، وَإِنْ شَاءَ كَلَّفَ الْمُشْتَرِيَ قَلْعَهُ ، وَهَذَا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ وَبِشْرِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَلِيِّ بْنِ الْجَعْدِ وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْهُ ، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهُ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ وَذَكَرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَإِذَا قَدْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِيَاسُ أَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْبِنَاءِ بَعْدَ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا ، وَيَكُونَ تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ قَوْلَهُ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ بِقَوْلِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ احْتِرَازًا عَنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَعَنْ أَحَدِ قَوْلَيْ أَبِي يُوسُفَ فِيهَا وَهُوَ قَوْلُهُ الْأَوَّلُ كَمَا عَرَفْت فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ وَهَذَا الْحَقُّ يَبْقَى ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : هَذَا إيضَاحٌ لِضَعْفِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ، وَلَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ إنَّمَا لَا يَبْقَى عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ ، وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ : هَذَا مَذْهَبُك لَا مَذْهَبِي ، وَعِنْدِي حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الْبِنَاءِ بَاقٍ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ا هـ .
أَقُولُ : نَظَرُهُ سَاقِطٌ جِدًّا ، لِأَنَّ هَذَا الْإِيضَاحَ مِنْ مُتَفَرِّعَاتِ قَوْلِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَبِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ، وَقَوْلُهُ ذَلِكَ جَوَابٌ عَنْ قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ ذَلِكَ النَّاظِرُ وَغَيْرُهُ ، وَقِيَاسُهُ عَلَى
الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ بَقَاءِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ بَعْدَ أَنْ بَنَى الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقِيَاسِهِ الْمَذْكُورِ إثْبَاتَ مُدَّعَاهُ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَةِ الْكِتَابِ عَلَى مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ كَانَ قِيَاسُهُ الْمَذْكُورُ مَبْنِيًّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْدَادِ وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقُولَ هَذَا مَذْهَبُك لَا مَذْهَبِي ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ بِقِيَاسِهِ الْمَذْكُورِ مُجَرَّدَ الِاحْتِجَاجِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ذَلِكَ النَّاظِرُ فِي شَرْحِ ذَاكَ الْمَقَامِ ، فَلَا شَكَّ فِي انْدِفَاعِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْقِ وَالْإِيضَاحِ عَلَى مَذْهَبِهِ ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ ذَلِكَ النَّاظِرِ فَكَيْفَ يُحْتَجُّ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ النَّظَرِ الْمَزْبُورِ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنَّمَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ لَا يَصِحُّ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَبَرْ بِخِلَافِهِمَا ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بِصَدَدِ بَيَانِ وَجْهِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا تَرَى فَلَا مَجَالَ لِحَمْلِ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ الصَّدَدِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الدَّلِيلَ الظَّاهِرَ الَّذِي كَانَ عَدَمُ بَقَاءِ حَقِّ الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ الْبِنَاءِ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ثَابِتًا بِهِ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ ذَلِكَ الشِّرَاءِ بِتَسْلِيطٍ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْبَائِعُ كَمَا فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ الْمَذْكُورُ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ
الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا دَلِيلًا أَوَّلًا فَكَيْفَ يَبْتَنِي عَلَيْهِ تَمَامُ الدَّلِيلِ الثَّانِي الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ ، تَبَصَّرْ تَفْهَمْ ( قَوْلُهُ وَالْفَرْقُ عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ وَمُسَلَّطٌ عَلَيْهِ ، وَلَا تَسْلِيطَ وَلَا غُرُورَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَجْبُورٌ عَلَيْهِ ) أَقُولُ : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ : وَلَا غُرُورَ وَلَا تَسْلِيطَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَا مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ الْمُشْتَرِي .
لِيَعُمَّ مَا أَخَذَ مِنْ الْبَائِعِ وَمَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي وَيُطَابِقُ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَا عَلَى الْبَائِعِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ ، وَلَا عَلَى الْمُشْتَرِي إنْ أَخَذَ مِنْهُ وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْكَافِي : وَلَا غُرُورَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ جَبْرًا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ : وَلَا غُرُورَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَا مِنْ جَانِبِ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ عَنْ صَاحِبِ الْيَدِ جَبْرًا مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَلَا يَرْجِعُ ا هـ .
وَرَدَّ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ التَّعْلِيلَ بِالْأَخْذِ جَبْرًا حَيْثُ قَالَ : إنَّمَا لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ عَلَى أَحَدٍ ، لَا لِأَنَّهُ أُخِذَ جَبْرًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَشَّى فِيمَا أُخِذَ بِالتَّرَاضِي ، بَلْ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَغْرُورٍ ، ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ قَيْدَ الْجَبْرِ مَأْخُوذٌ فِي تَعْرِيفِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ ، حَتَّى أَنَّ ذَلِكَ الرَّادَّ نَفْسَهُ أَيْضًا أَخَذَ ذَاكَ الْقَيْدَ فِي تَعْرِيفِهَا حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ : الشُّفْعَةُ تَمَلُّكُ مَبِيعِ عَقَارٍ جَبْرًا بِمِثْلِ ثَمَنِهِ ، وَفَسَّرَ فِي شَرْحِهِ قُيِّدَ جَبْرًا بِمَعْنَى يَعُمُّ صُورَةَ الْأَخْذِ بِالتَّرَاضِي أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : يَعْنِي لَا يُعْتَبَرُ اخْتِيَارُهُ لَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ عَدَمُ
اخْتِيَارِهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَوْجِيهَهُ هُنَاكَ هُوَ التَّوْجِيهُ هَاهُنَا ، وَلَا يُخِلُّ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الشَّفِيعِ مَعَ خَصْمِهِ لِتَمَامِ ذَلِكَ الْفَرْقِ بِاعْتِبَارِ الِاخْتِيَارِ فِي الْأَوَّلِ وَعَدَمِ اعْتِبَارِهِ فِي الثَّانِي ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاخْتِيَارِ فِي الْأَوَّلِ وَاعْتِبَارِ عَدَمِهِ فِي الثَّانِي تَأَمَّلْ تَقِفْ .
بَقِيَ شَيْءٌ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ وَهُوَ أَنَّهُ نَفَى كَوْنَ مَدَارِ الْفَرْقِ الْجَبْرَ وَالِاخْتِيَارَ وَحَكَمَ بِأَنَّ مَدَارَهُ الْغُرُورُ وَعَدَمُ الْغُرُورِ ، فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ كَانَ سَبَبُ الْغُرُورِ فِي الْمُشْتَرِي وَعَدَمُ الْغُرُورِ فِي الشَّفِيعِ كَوْنَ الْبَائِعِ مُخْتَارًا وَخَصْمِ الشَّفِيعِ مَجْبُورًا كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ يَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَى مَا نَفَاهُ .
وَإِنْ كَانَ سَبَبُهُمَا غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ وَاضِحٍ سِيَّمَا بَيْنَ الشَّفِيعِ الْآخِذِ بِرِضَا خَصْمِهِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنْ يُقَالَ : سَبَبُ غُرُورِ الْمُشْتَرِي الْتِزَامُ الْبَائِعِ لَهُ سَلَامَةَ الْمَبِيعِ كَمَا يُشِيرُ إلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ : إنَّ الْمُشْتَرِيَ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ لِدَفْعِ الْغُرُورِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَائِعَ الْتَزَمَ لِلْمُشْتَرِي السَّلَامَةَ ا هـ وَالظَّاهِرُ أَنَّ خَصْمَ الشَّفِيعِ وَإِنْ رَضِيَ بِأَخْذِهِ لَكِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ لَهُ السَّلَامَةَ فَافْتَرَقَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ قَالَ ( الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَقَارِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا شُفْعَةَ فِيمَا لَا يُقْسَمُ ، لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ دَفْعًا لِمُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يُقْسَمُ وَلَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارٌ أَوْ رَبْعٌ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُمُومَاتِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ سَبَبُهَا الِاتِّصَالُ فِي الْمِلْكِ وَالْحِكْمَةَ دَفْعُ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَأَنَّهُ يَنْتَظِمُ الْقِسْمَيْنِ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ وَهُوَ الْحَمَّامُ وَالرَّحَى وَالْبِئْرُ وَالطَّرِيقُ .
( بَابُ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ ) ذَكَرَ تَفْصِيلَ مَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَمَا لَا تَجِبُ بَعْدَ ذِكْرِ نَفْسِ الْوُجُوبِ مُجْمَلًا ، لِأَنَّ التَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( قَوْلُهُ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَقَارِ ) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ : الْعَقَارُ كُلُّ مَا لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ أَقُولُ : تَفْسِيرُهُمْ الْعَقَارَ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يَأْبَاهُ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْآتِي ذِكْرُهُ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارٌ أَوْ رَبْعٌ } لِأَنَّ الرَّبْعَ هُوَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ هَاهُنَا ، وَقَدْ عَطَفَ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْعَقَارِ ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفَيْنِ فَكَيْفَ يَتَيَسَّرُ إدْرَاجُ الدَّارِ فِي مَعْنَى الْعَقَارِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَبِيلِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } لَكِنَّ النُّكْتَةَ فِيهِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِكَلِمَةٍ أَوْ مِمَّا لَمْ يُسْمَعْ قَطُّ ثُمَّ أَقُولُ : قَالَ الْإِمَامُ الْمُطَرِّزِيُّ فِي الْمُغْرِبِ : وَالْعَقَارُ الضَّيْعَةُ ، وَقِيلَ كُلُّ مَالٍ لَهُ أَصْلٌ مِنْ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ ا هـ فَلَعَلَّ مَا وَقَعَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَارِدٌ عَلَى أَوَّلِ التَّفْسِيرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْمُغْرِبِ لِلْعَقَارِ وَهُوَ التَّفْسِيرُ الْمُخْتَارُ عِنْدَ صَاحِبِ الْمُغْرِبِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَحْرِيرُهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ هَاهُنَا مُطَابِقٌ لِلتَّفْسِيرِ الثَّانِي مِنْهُمَا ، فَكَأَنَّهُمْ اخْتَارُوهُ هَاهُنَا لِكَوْنِهِ الْمُنَاسِبَ لِلْمَقَامِ مِنْ الشُّفْعَةِ كَمَا تَثْبُتُ فِي الضَّيْعَةِ تَثْبُتُ فِي الدَّارِ وَنَحْوِهَا أَيْضًا عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ فِي فَصْلِ الْعَيْنِ مِنْ بَابِ الرَّاءِ :
وَالْعَقَارُ بِالْفَتْحِ الْأَرْضُ وَالضِّيَاعُ وَالنَّخْلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ مَا لَهُ دَارٌ وَلَا عَقَارٌ ا هـ وَقَالَ فِي فَصْلِ الضَّادِ مِنْ بَابِ الْعَيْنِ مِنْ الصِّحَاحِ : وَالضَّيْعَةُ الْعَقَارُ وَالْجَمْعُ ضِيَاعٌ ا هـ أَقُولُ : فِي كَلَامِهِ اخْتِلَالٌ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْعَقَارَ أَوَّلًا بِمَا يَشْمَلُ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ وَهِيَ الْأَرْضُ وَالضِّيَاعُ وَالنَّخْلُ ، ثُمَّ فَسَّرَ الضَّيْعَةَ الَّتِي هِيَ مُفْرَدُ الضِّيَاعِ بِالْعَقَارِ فَلَزِمَ تَفْسِيرُ الْأَخَصِّ بِالْأَعَمِّ كَمَا تَرَى
قَالَ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ } وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي إيجَابِهَا فِي السُّفُنِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ سُوءِ الْجِوَارِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَنْقُولِ لَا يَدُومُ حَسَبَ دَوَامِهِ فِي الْعَقَارِ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبِنَاءِ وَالنَّخْلِ إذَا بِيعَتْ دُونَ الْعَرْصَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ مَذْكُورٌ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ لَا قَرَارَ لَهُ فَكَانَ نَقْلِيًّا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعُلُوِّ حَيْثُ يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَيُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ فِي السُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْعُلُوِّ فِيهِ ، لِأَنَّهُ بِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَارِ الْتَحَقَ بِالْعَقَارِ قَالَ ( وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ ) لِلْعُمُومَاتِ وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي السَّبَبِ وَالْحِكْمَةِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْبَاغِي وَالْعَادِلُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا أَوْ مُكَاتَبًا
( قَوْلُهُ وَلَا شُفْعَةَ فِي الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا شُفْعَةَ إلَّا فِي رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ } ) أَقُولُ : فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَصْرُ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الرَّبْعِ وَالْحَائِطِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى انْتِفَاءِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي غَيْرِهِمَا وَمِنْ غَيْرِهِمَا الْعُرُوض وَالسُّفُنُ ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ الْحَصْرِ أَنْ لَا تَثْبُتَ الشُّفْعَةُ فِي عَقَارٍ غَيْرِ رَبْعٍ وَحَائِطٍ أَيْضًا كَضَيْعَةٍ خَالِيَةٍ مَثَلًا ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَطْعًا فَكَيْفَ يَتِمُّ التَّمَسُّكُ بِهِ ؟ فَإِنْ قُلْت : يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ الْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ دُونَ الْحَقِيقِيِّ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ قَصْرَ ثُبُوتِهَا عَلَى رَبْعٍ وَحَائِطٍ بِالْإِضَافَةِ لِلْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ لَا قَصْرَهُ عَلَيْهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى جَمِيعِ مَا عَدَاهُمَا فَلَا يُرَدُّ الْمَحْذُورُ الْمَزْبُورُ قُلْت : مِنْ أَيْنَ تَفْهَمُ أَنَّ إضَافَةَ ذَلِكَ الْقَصْرِ إلَى الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ لَا إلَى الْعُرُوضِ فَقَطْ دُونَ السُّفُنِ ، وَلَا إلَى مَا يَعُمُّ شَيْئًا مِمَّا سِوَى الْعُرُوضِ وَالسُّفُنِ وَمَا الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ وَيَصِيرَ حُجَّةً عَلَى مَالِكٍ فِي إيجَابِهَا فِي السُّفُنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَإِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي صُورَةً أَوْ قِيمَةً عَلَى مَا مَرَّ قَالَ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ عَلَيْهَا أَوْ يُخَالِعُ الْمَرْأَةَ بِهَا أَوْ يَسْتَأْجِرُ بِهَا دَارًا أَوْ غَيْرَهَا أَوْ يُصَالِحُ بِهَا عَنْ دَمٍ عَمْدٍ أَوْ يَعْتِقُ عَلَيْهَا عَبْدًا ) لِأَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا إنَّمَا تَجِبُ فِي مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَهَذِهِ الْأَعْوَاضُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ ، فَإِيجَابُ الشُّفْعَةِ فِيهَا خِلَافُ الْمَشْرُوعِ وَقَلْبُ الْمَوْضُوعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُ فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهَا إنْ تَعَذَّرَ بِمِثْلِهَا كَمَا فِي الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّهُ لَا عِوَضَ فِيهَا رَأْسًا وَقَوْلُهُ يَتَأَتَّى فِيمَا إذَا جَعَلَ شِقْصًا مِنْ دَارٍ مَهْرًا أَوْ مَا يُضَاهِيهِ لِأَنَّهُ لَا شُفْعَةَ عِنْدَهُ إلَّا فِيهِ وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ تَقَوُّمَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ضَرُورِيٌّ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ ، وَكَذَا الدَّمُ وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِأَنَّ الْقِيمَةَ مَا يَقُومُ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي الْمَعْنَى الْخَاصِّ الْمَطْلُوبِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِمَا ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ مَهْرٍ ثُمَّ فَرَضَ لَهَا الدَّارَ مَهْرًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ فِي كَوْنِهِ مُقَابِلًا بِالْبُضْعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ بِالْمُسَمَّى لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفًا فَلَا شُفْعَةَ فِي جَمِيعِ الدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : تَجِبُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةٌ مَالِيَّةٌ فِي حَقِّهِ .
وَهُوَ يَقُولُ مَعْنَى الْبَيْعِ فِيهِ تَابِعٌ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ وَلَا يَفْسُدُ بِشَرْطِ النِّكَاحِ فِيهِ
، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْأَصْلِ فَكَذَا فِي التَّبَعِ ، وَلِأَنَّ الشُّفْعَةَ شُرِعَتْ فِي الْمُبَادَلَةِ الْمَالِيَّةِ الْمَقْصُودَةِ حَتَّى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا بَاعَ دَارًا وَفِيهَا رِبْحٌ لَا يَسْتَحِقُّ رَبُّ الْمَالِ الشُّفْعَةَ فِي حِصَّةِ الرِّبْحِ لِكَوْنِهِ تَابِعًا فِيهِ قَالَ ( أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا بِإِنْكَارٍ ، فَإِنْ صَالَحَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَكَذَا ذُكِرَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ، وَالصَّحِيحُ أَوْ يُصَالِحُ عَنْهَا بِإِنْكَارٍ مَكَانَ قَوْلِهِ أَوْ يُصَالِحُ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهُ إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِإِنْكَارٍ بَقِيَ الدَّارُ فِي يَدِهِ فَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَمْ تَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ ، وَكَذَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِسُكُوتٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَذَلَ الْمَالَ افْتِدَاءً لِيَمِينِهِ وَقَطْعًا لِشَغَبِ خَصْمِهِ ، كَمَا إذَا أَنْكَرَ صَرِيحًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَ عَنْهَا بِإِقْرَارٍ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي ، وَإِنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالصُّلْحِ فَكَانَ مُبَادَلَةً مَالِيَّةً .
أَمَّا إذَا صَالَحَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارٍ أَوْ سُكُوتٍ أَوْ إنْكَارٍ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا عِوَضًا عَنْ حَقِّهِ فِي زَعْمِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ فَيُعَامَلَ بِزَعْمِهِ قَالَ ( وَلَا شُفْعَةَ فِي هِبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَّا أَنْ تَكُونَ بِعِوَضٍ مَشْرُوطٍ ) لِأَنَّهُ بَيْعٌ انْتِهَاءً ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبْضِ وَأَنْ لَا يَكُونَ الْمَوْهُوبُ وَلَا عِوَضُهُ شَائِعًا لِأَنَّهُ هِبَةٌ ابْتِدَاءً وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فِي الْعَقْدِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةٌ مُطْلَقَةٌ ، إلَّا أَنَّهُ أُثِيبَ مِنْهَا فَامْتَنَعَ الرُّجُوعُ قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ ( فَإِنْ أُسْقِطَ الْخِيَارُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ زَالَ الْمَانِعُ عَنْ الزَّوَالِ وَيُشْتَرَطُ الطَّلَبُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَصِيرُ
سَبَبًا لِزَوَالِ الْمِلْكِ عِنْدَ ذَلِكَ .
( وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَجَبَ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْبَائِعِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالشُّفْعَةُ تُبْتَنَى عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ ، وَإِذَا أَخَذَهَا فِي الثُّلُثِ وَجَبَ الْبَيْعُ لِعَجْزِ الْمُشْتَرِي عَنْ الرَّدِّ ، وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا وَالْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا فَلَهُ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ أَمَّا لِلْبَائِعِ فَظَاهِرٌ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا ، وَكَذَا إذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي وَفِيهِ إشْكَالٌ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَا نُعِيدُهُ ، وَإِذَا أَخَذَهَا كَانَ إجَازَةً مِنْهُ لِلْبَيْعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا وَلَمْ يَرَهَا حَيْثُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ بِأَخْذِ مَا بِيعَ بِجَنْبِهَا بِالشُّفْعَةِ ، لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ لَا يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ فَكَيْفَ بِدَلَالَتِهِ ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ شَفِيعُ الدَّارِ الْأُولَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا دُونَ الثَّانِيَةِ لِانْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي الْأُولَى حِينَ بِيعَتْ الثَّانِيَةُ
قَوْلُهُ وَإِذَا مَلَكَ الْعَقَارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَجَبَتْ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ مُرَاعَاةُ شَرْطِ الشَّرْعِ فِيهِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا تَمَلَّكَ بِهِ الْمُشْتَرِي صُورَةً أَوْ قِيمَةً عَلَى مَا مَرَّ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْعَقَارِ ، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَتَمَلَّكَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ ، لِأَنَّ مُرَاعَاةَ شَرْطِ الشَّرْعِ وَهُوَ التَّمَلُّكُ بِمِثْلِ مَا مَلَكَ الْمُشْتَرِي صُورَةً فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ قِيمَةً فِي ذَوَاتِ الْقِيَمِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ وَاجِبَةٌ ، وَهِيَ إنَّمَا تُمْكِنُ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَالًا ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا بِإِنْشَاءِ سَبَبٍ آخَرَ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ فِي الْمَوْهُوبِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِعِوَضٍ فَكَانَ سَبَبًا غَيْرَ السَّبَبِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ ا هـ أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِلَا عِوَضٍ بِالسَّبَبِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِلَا عِوَضٍ لَا يُقَالُ : لَا يُتَصَوَّرُ الْهِبَةُ بِدُونِ رِضَا الْوَاهِبِ وَالْمُتَمَلِّكُ لَا يَرْضَى بِخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ يَدِهِ بِلَا عِوَضٍ فَلَا يَمْلِكُ الشَّفِيعُ أَخْذَهُ بِلَا عِوَضٍ لِأَنَّا نَقُولُ : مَدَارُ الشُّفْعَةِ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : إنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ مَعْدُولٌ عَنْ سُنَنِ الْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمَالِ عَلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ ، فَلَا تَأْثِيرَ لِحَدِيثِ عَدَمِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ بِخُرُوجِ الْمَوْهُوبِ مِنْ يَدِهِ بِلَا عِوَضٍ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْمَوْهُوبِ ، فَالْوَجْهُ التَّامُّ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ وَأَمْثَالِهِمَا مَا ذُكِرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا تَخْتَصُّ بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ
بِمَالٍ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالْآثَارِ فِي مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا ( قَوْلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْوَاضَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَهُ فَأَمْكَنَ الْأَخْذُ بِقِيمَتِهَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَهِيَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي التَّزْوِيجِ وَالْخُلْعِ وَالْإِجَارَةِ وَقِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ فِي الصُّلْحِ وَالْإِعْتَاقِ ا هـ أَقُولُ : فِي قَوْلِهِ وَقِيمَةُ الدَّارِ نَظَرٌ ، إذْ الْكَلَامُ فِي قِيمَةِ الْأَعْوَاضِ الَّتِي جُعِلَتْ بَدَلًا لِلدَّارِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ لَا فِي قِيمَةِ نَفْسِ الدَّارِ ، وَالْعِوَضُ فِي صُورَةِ الصُّلْحِ هُوَ دَمُ الْعَمْدِ ، فَالْوَاجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ قِيمَةُ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى زَعْمِهِ لَا قِيمَةُ الدَّارِ لَا يُقَالُ : لَمَّا جُعِلَ دَمُ الْعَمْدِ عِوَضًا مِنْ الدَّارِ صَارَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الدَّارِ لِأَنَّا نَقُولُ : لَوْ اقْتَضَى هَذَا الْقَدْرُ أَنْ تَصِيرَ قِيمَةُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ قِيمَةً لِلْآخَرِ لَكَانَ قِيمَةُ الْأَعْوَاضِ الْمَذْكُورَةِ فِي الصُّورَةِ الْمَزْبُورَةِ كُلِّهَا قِيمَةَ الدَّارِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا عِوَضًا مِنْ الدَّارِ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ ، بَلْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ فِي نَفْسِ الْعِنَايَةِ أَيْضًا ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ لَمَّا تَنَبَّهَ لِإِجْمَالِ مَا قُلْنَا قَالَ : كَأَنَّ الْكَلَامَ فِي قِيمَةِ الْأَعْوَاضِ لَا فِي قِيمَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ فَتَأَمَّلْ .
ا هـ أَقُولُ : لَمْ يُصِبْ فِي زِيَادَتِهِ الْعَبْدَ وَإِلْحَاقِهِ بِالدَّارِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَأْخُوذٌ فِي جَانِبِ الْأَعْوَاضِ الْمُقَابِلَةِ لِلدَّارِ كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ عِبَارَةُ الْكِتَابِ ، فَكَوْنُ الْكَلَامِ فِي قِيمَةِ الْأَعْوَاضِ لَا يُنَافِي اعْتِبَارَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي صُورَةِ الْإِعْتَاقِ .
نَعَمْ الْعِوَضُ إعْتَاقُ الْعَبْدِ لَا نَفْسُ الْعَبْدِ ، لَكِنْ مَنْ يَجْعَلُ الْإِعْتَاقَ مُتَقَوِّمًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فِي تَقْوِيمِهِ ، وَالْكَلَامُ هُنَا عَلَى أَصْلِهِ ، وَأَمَّا
التَّحْقِيقُ مِنْ قِبَلِنَا فَسَيَجِيءُ مِنْ بَعْدُ ( قَوْلُهُ وَكَذَا الدَّمُ وَالْعِتْقُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : إنَّمَا أَفْرَدَهُمَا لِأَنَّ تَقَوُّمَهُمَا أَبْعَدُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالَيْنِ فَضْلًا عَنْ التَّقَوُّمِ ا هـ أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ تَمَامَهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ سَائِرِ الْأَعْوَاضِ الْمَذْكُورَةِ مَالًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُتَقَوِّمَةً ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا أَيْضًا لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عِنْدَنَا ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا قَبْلُ وَهَذِهِ الْأَعْوَاضُ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ ، وَقَوْلُهُ فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ عَلَى أَصْلِنَا وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي تَعْلِيلِ أَنَّ تَقَوُّمَهُمَا أَبْعَدُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمُتَقَوِّمَيْنِ أَصْلًا : أَيْ لَا بِالتَّقَوُّمِ الضَّرُورِيِّ وَلَا بِغَيْرِ الضَّرُورِيِّ كَمَا مَرَّ آنِفًا ( قَوْلُهُ وَفِيهِ إشْكَالٌ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ فَلَا نُعِيدُهُ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : هَذِهِ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ الْإِشْكَالِ غَيْرُ رَائِجَةٍ ، بَلْ فِيهِ جَوَابُ الْإِشْكَالِ لَا الْإِشْكَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ ( وَمَنْ اشْتَرَى دَارًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا إلَخْ ) وَقِيلَ إذَا كَانَتْ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ جَوَابِ الْإِشْكَالِ رَائِجَةً كَانَتْ فِي حَقِّ الْإِشْكَالِ كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْجَوَابَ يَتَضَمَّنُ السُّؤَالَ ، وَقِيلَ لَمْ يَقُلْ فِي بُيُوعِ هَذَا الْكِتَابِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَوْضَحَهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا نُعِيدُهُ يَأْبَى عَنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْبُيُوعِ إيضَاحَهُ فِي بُيُوعِ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى ، لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْءٍ فِي كِتَابِهِ هَذَا بَعْد أَنْ ذَكَرَهُ فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى لَا يُعَدُّ إعَادَةً ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ بَلْ جَمِيعُهَا مِنْ قَبِيلِ الْإِعَادَةِ لِكَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي كِفَايَةِ
الْمُنْتَهَى
قَالَ ( وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ) أَمَّا قَبْلَ الْقَبْضِ فَلِعَدَمِ زَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَبَعْدَ الْقَبْضِ لِاحْتِمَالِ الْفَسْخِ ، وَحَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ ، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ صَارَ أَخَصَّ بِهِ تَصَرُّفًا وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ قَالَ ( فَإِنْ سَقَطَ حَقُّ الْفَسْخِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا وَهِيَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِبَقَاءِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهُوَ شَفِيعُهَا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ ) ثُمَّ إنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ كَمَا إذَا بَاعَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَلَّمَ بَعْدَهُ لِأَنَّ بَقَاءَ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَبَقِيَتْ الْمَأْخُوذَةُ بِالشُّفْعَةِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ مِنْ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ بَطَلَتْ لِانْقِطَاعِ مِلْكِهِ عَنْ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنْ اسْتَرَدَّهَا بَعْدَ الْحُكْمِ بَقِيَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى مِلْكِهِ لِمَا بَيَّنَّا
( قَوْلُهُ وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِي قَوْلِهِ وَمَنْ ابْتَاعَ دَارًا شِرَاءً فَاسِدًا تَلْوِيحٌ إلَى أَنَّ عَدَمَ الشُّفْعَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا وَقَعَ فَاسِدًا ابْتِدَاءً ، لِأَنَّ الْفَسَادَ إذَا كَانَ بَعْدَ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا فَحَقُّ الشُّفْعَةِ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ ا هـ وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي بَيَانِ وَجْهِ التَّلْوِيحِ حَيْثُ أَتَى بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْحُدُوثِ لَا الِاسْتِمْرَارِ ا هـ أَقُولُ : هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ عَجِيبٌ ، لِأَنَّ حُدُوثَ الْفَسَادِ كَمَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ يُوجَدُ أَيْضًا فِيمَا إذَا وَقَعَ بَعْدَ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا ، بَلْ الْحُدُوثُ فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ أَظْهَرُ وَأَجْلَى لِأَنَّ الْفَسَادَ يَحْصُلُ فِيهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى فَهُوَ حَاصِلٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ فَفِيهَا اسْتِمْرَارُ الْفَسَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ ، فَمُجَرَّدُ الْإِتْيَانِ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُلَوِّحًا إلَى الثَّانِيَةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُلَوِّحًا إلَى الْأُولَى وَالصَّوَابُ أَنَّ وَجْهَ التَّلْوِيحِ إلَى ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ شِرَاءً فَاسِدًا قَيْدًا لِلِابْتِيَاعِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْعَقْدِ ، فَعُلِمَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْفَسَادُ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا الْفَسَادُ الطَّارِئُ وَهَذَا مِمَّا لَا سُتْرَةَ بِهِ ( قَوْلُهُ وَحَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ ، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ ) وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَثْبُتَ الْمُفْسِدُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ وَإِنْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي كَمَا لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي الَّذِي اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ فَيَسْتَحِقَّهَا بِدُونِ شَرْطِ الْخِيَارِ كَمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ وَلَا خِيَارَ لِلشَّفِيعِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالشَّرْطِ وَهُوَ
لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الْعِوَضِ ، إمَّا بِالشَّرْطِ فِي حَقِّهِ أَوْ لِفَسَادٍ فِي نَفْسِهِ كَجَعْلِ الْخَمْرِ ثَمَنًا ، فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْعِوَضَ لِفَسَادٍ فِيهِ بَقِيَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ انْفِكَاكُ الْبَيْعِ عَنْ مُفْسِدٍ فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ هُنَاكَ وَأَمَّا الْخِيَارُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي لِمَعْنًى خَارِجٍ عَنْ الْعِوَضَيْنِ ، إذْ هُوَ لِلتَّأَمُّلِ وَالتَّرَوِّي ، فَبِإِسْقَاطِهِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ لَا يَلْزَمُ الْفَسَادُ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ يُمْكِنُ وُجُودُهُ بِلَا شَرْطِ خِيَارٍ ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الشُّرُوحِ وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِهِمْ فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْعِوَضَ لِفَسَادٍ فِيهِ بَقِيَ الْبَيْعُ بِلَا ثَمَنٍ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَى إسْقَاطِ الْعِوَضِ ، بَلْ يَكْفِي إسْقَاطُ الشَّرْطِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ وَاعْتِبَارِ قِيمَةِ مِثْلِ الْخَمْرِ فَتَدَبَّرْ ا هـ .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ إسْقَاطِ الشَّرْطِ وَاعْتِبَارِ قِيمَةِ مِثْلِ الْخَمْرِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِدُونِ إسْقَاطِ نَفْسِ الْعِوَضِ مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ إسْقَاطَ الشَّرْطِ الْمُفْسِدِ الرَّاجِعِ إلَى الْعِوَضِ فِي عَقْدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ يَسْتَدْعِي إسْقَاطَ نَفْسِ الْعِوَضِ الْمُعَيَّنِ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمَشْرُوطِ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهِ وَأَمَّا إمْكَانُ عَدَمِ إسْقَاطِ مَا يَصْلُحُ لَأَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي مُطْلَقِ الْبَيْعِ فَغَيْرُ مُفِيدٍ ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ أَخْذَ الْمَشْفُوعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الْمُشْتَرِي لَا بِمُطْلَقِ جِنْسِ الثَّمَنِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ اعْتِبَارَ قِيمَةِ مِثْلِ الْخَمْرِ فِي الْبَيْعِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، لِأَنَّ مِثْلَ الْخَمْرِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لِمَا لَا قِيمَةَ لَهُ
وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْكُفَّارِ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ لَهُ لِكَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا عِنْدَ هُمْ ، لَكِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْبَيْعِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ بَيْعٌ صَحِيحٌ وَالشُّفْعَةُ ثَابِتَةٌ فِيهِ كَمَا مَرَّ فِي فَصْلِ مَا يُؤْخَذُ بِهِ الْمَشْفُوعُ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِيرَادِ الْمَذْكُورِ أَصْلًا
قَالَ ( وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْجَبْرُ ؛ وَالشُّفْعَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا فِي الْمُبَادَلَةِ الْمُطْلَقَةِ قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ثُمَّ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَعَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَالشُّفْعَةُ فِي إنْشَاءِ الْعَقْدِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ ( وَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ فِي حَقِّهِمَا لِوِلَايَتِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَقَدْ قَصَدَا الْفَسْخَ وَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي حَقٍّ ثَالِثٍ لِوُجُودِ حَدِّ الْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ بِالتَّرَاضِي وَالشَّفِيعُ ثَالِثٌ ، وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ قَبْلَهُ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ عَلَى مَا عُرِفَ ؛ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَا شُفْعَةَ فِي قِسْمَةٍ وَلَا خِيَارِ رُؤْيَةٍ ، وَهُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ ، وَمَعْنَاهُ : لَا شُفْعَةَ بِسَبَبِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَلَا تَصِحُّ الرِّوَايَةُ بِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ مَحْفُوظَةٌ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الْقِسْمَةِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لِأَنَّهُمَا يَثْبُتَانِ لِخَلَلٍ فِي الرِّضَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ لُزُومُهُ بِالرِّضَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
( قَوْلُهُ وَإِذَا اقْتَسَمَ الشُّرَكَاءُ الْعَقَارَ فَلَا شُفْعَةَ لِجَارِهِمْ بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهَا الْجَبْرُ ؛ وَالشُّفْعَةُ مَا شُرِعَتْ إلَّا فِي الْمُبَادَلَةِ الْمُطْلَقَةِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ لَوَجَبَتْ لِلْمُقَاسِمِ لِكَوْنِهِ جَارًا بَعْدَ الْإِفْرَازِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ ا هـ أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمُقَاسِمِ جَارًا بَعْدَ الْإِفْرَازِ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَهُ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُقَدَّمًا عَلَى زَوَالِ مِلْكِ الْمَالِكِ عَنْ الْعَقَارِ الْمَشْفُوعِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَهُ وَقَدْ تَأَخَّرَ عَنْهُ هُنَا حَيْثُ حَصَلَ الْجِوَارُ بَعْدَ الْإِفْرَازِ الَّذِي يَزُولُ بِهِ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَسِمِينَ عَنْ الْجُزْءِ الشَّائِعِ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لِلْمُقَاسِمِ لِأَجَلِ مَانِعٍ يَمْنَعُ عَنْهُ وَهُوَ التَّعَذُّرُ الْمَذْكُورُ عَدَمُ وُجُوبِهَا لِلْجَارِ الْآخَرِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ الْمَانِعُ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ؛ وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَلِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ وَجَبَتْ لِلْمُقَاسِمِ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ وَالشَّرِيكُ أَوْلَى مِنْ الْجَارِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَارُ عَلَى الشَّرِيكِ ا هـ أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُقَاسِمَ إنَّمَا كَانَ شَرِيكًا قَبْلَ الِاقْتِسَامِ ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَقَدْ صَارَ جَارًا فَلَا يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَقَدُّمَ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ وَيَبْطُلُ لَوْ ثَبَتَ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّهَا لِمَانِعٍ كَمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَقَدُّمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ فَضْلًا عَنْ بُطْلَانِ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى دَارًا فَسَلَّمَ الشَّرِيكَ الشُّفْعَةَ فِيهَا أَخَذَهَا
الْجَارُ لِسُقُوطِ حَقِّ الشَّرِيكِ كَمَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ أَنْ يُقَدَّمَ الْجَارُ عَلَى الشَّرِيكِ فَمَا ظَنُّك فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَرَدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ : قَالَ الشَّارِحُونَ قَوْلُهُ وَمُرَادُهُ : أَيْ مُرَادُ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ هُنَاكَ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ ا هـ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ كَلَامٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : مُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ كَوْنُ التَّقْيِيدِ بِالْقَضَاءِ لَغْوًا فِي صُورَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ لَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ حَتَّى يُنَاقِضَ مَا سَبَقَ فَيَتِمَّ كَلَامُ الشَّارِحِينَ كَمَا لَا يَخْفَى فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ .
كَلَامُهُ يَعْنِي يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ مِنْ جَانِبِ هَؤُلَاءِ الشَّارِحِينَ إنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ بِحَمْلِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، صِيَانَةُ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ عَنْ اللَّغْوِ ، فَإِنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمَّا كَانَ فَسْخًا مِنْ الْأَصْلِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ أَصْلًا سَوَاءً كَانَ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ هُوَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكَانَ التَّقْيِيدُ بِالْقَضَاءِ لَغْوًا فِي صُورَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ ، وَلَيْسَ مُرَادُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ فِي الْحُكْمِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّدُّ بِالْقَضَاءِ حَتَّى يُنَاقِضَ قَوْلَهُ هُنَا فِيمَا سَبَقَ .
أَقُولُ : الْحَقُّ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، وَأَنَّ مَا ذَكَرَهُ
ذَلِكَ الْبَعْضُ سَاقِطٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ هَؤُلَاءِ الشَّارِحُونَ لَمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ وَمُرَادُهُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فِيمَا بَعْدَ بَيَانِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ وَإِنْ رَدَّهَا بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إلَخْ بَلْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَهُ قَبْلَهُ أَثْنَاءَ بَيَانِ قَوْلِهِ ثُمَّ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ كَلَامِ الثِّقَاتِ سِيَّمَا الْمُصَنِّفُ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ عَدَمَ ظُهُورِهِ فَائِدَةَ التَّقْيِيدِ بِالْقَضَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى صُورَةِ عَدَمِ الْقَبْضِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ التَّقْيِيدِ بِالْقَضَاءِ لَغْوًا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ قَوْلِ الْقُدُورِيِّ أَوْ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ عَامًّا شَامِلًا لِصُورَتَيْ الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ ، لِأَنَّ ظُهُورَ فَائِدَةِ التَّقْيِيدِ بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْكَلَامِ الْعَامِّ كَافٍ فِي كَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ الْمُقَيَّدِ بِذَلِكَ الْقَيْدِ مَصُونًا عَنْ اللَّغْوِ وَغَيْرَ مُخِلٍّ بِعُمُومِهِ فَرْدًا آخَرَ أَيْضًا ، إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَيْدُ مُنَافِيًا لِعُمُومِ ذَلِكَ الْفَرْدِ الْآخَرِ ، وَهَاهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَضَاءَ كَمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ الْقَبْضِ يُتَصَوَّرُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَيْضًا ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ تَأْثِيرَ الْقَضَاءِ فِي عَدَمِ ثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ تَأَمَّلْ تَقِفْ
بَابُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ قَالَ ( وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ بِالْبَيْعِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ) لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ وَهِيَ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ( وَكَذَلِكَ إنْ أَشْهَدَ فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى أَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَلَا عِنْدَ الْعَقَارِ ) وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ قَالَ ( وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ وَرَدَّ الْعِوَضَ ) لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى فَيَبْطُلَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْإِسْقَاطُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ الْقِصَاصِ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُتَقَرِّرٌ ، وَبِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عَنْ مِلْكٍ فِي الْمَحِلِّ وَنَظِيرُهُ إذَا قَالَ لِلْمُخَيَّرَةِ اخْتَارِينِي بِأَلْفٍ أَوْ قَالَ الْعِنِّينُ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي تَرْكَ الْفَسْخِ بِأَلْفٍ فَاخْتَارَتْ سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَا يَثْبُتُ الْعِوَضُ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةٍ ، وَفِي أُخْرَى : لَا تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَقِيلَ هَذِهِ رِوَايَةٌ فِي الشُّفْعَةِ ، وَقِيلَ هِيَ فِي الْكَفَالَةِ خَاصَّةً وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ قَالَ ( وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُورَثُ عَنْهُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَعْنَاهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالشُّفْعَةِ ، أَمَّا إذَا مَاتَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبَضَهُ فَالْبَيْع لَازِمٌ لِوَرَثَتِهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ وَقَدْ مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ دَارِهِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَقِيَامُهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَبَقَاؤُهُ لِلشَّفِيعِ إلَى
وَقْتِ الْقَضَاءِ شَرْطًا فَلَا يَسْتَوْجِبُ الشُّفْعَةَ بِدُونِهِ ( وَإِنْ مَاتَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَبْطُلْ ) لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ سَبَبُ حَقِّهِ ، وَلَا يُبَاعُ فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ ، وَلَوْ بَاعَهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَصِيُّ أَوْ أَوْصَى الْمُشْتَرِي فِيهَا بِوَصِيَّةٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَهُ وَيَأْخُذَ الدَّارَ لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يُنْقَضُ تَصَرُّفُهُ فِي حَيَاتِهِ قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ الشَّفِيعُ مَا يُشْفَعُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالشُّفْعَةِ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ) لِزَوَالِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ قَبْلَ التَّمَلُّكِ وَهُوَ الِاتِّصَالُ بِمِلْكِهِ وَلِهَذَا يَزُولُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِشِرَاءِ الْمَشْفُوعَةِ كَمَا إذَا سَلَّمَ صَرِيحًا أَوْ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الشَّفِيعُ دَارِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الزَّوَالَ فَبَقِيَ الِاتِّصَالُ قَالَ ( وَوَكِيلُ الْبَائِعِ إذَا بَاعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَوَكِيلُ الْمُشْتَرِي إذَا ابْتَاعَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ) وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَمَنْ اشْتَرَى أَوْ اُبْتِيعَ لَهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِأَخْذِ الْمَشْفُوعَةِ يَسْعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يُنْقَضُ شِرَاؤُهُ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ مِثْلُ الشِّرَاءِ ( وَكَذَلِكَ لَوْ ضَمِنَ الدَّرْكَ عَنْ الْبَائِعِ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ) وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِغَيْرِهِ فَأَمْضَى الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ الْبَيْعَ وَهُوَ الشَّفِيعُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمَّ بِإِمْضَائِهِ ، بِخِلَافِ جَانِبِ الْمَشْرُوطِ لَهُ الْخِيَارُ مِنْ جَانِبِ الْمُشْتَرِي
بَابُ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ ) لَمَّا كَانَ بُطْلَانُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي سَابِقَةَ ثُبُوتِهِ ذَكَرَ مَا يَبْطُلُ بِهِ الشُّفْعَةُ بَعْدَ ذِكْرِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الشُّفْعَةُ ( قَوْلُهُ وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ حِينَ عَلِمَ الْبَيْعَ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ ) فَإِنْ قِيلَ : جَعَلَ تَرْكَ الْإِشْهَادِ هَاهُنَا مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ وَذَكَرَ قَبْلَ هَذَا فِي بَابِ طَلَبِ الشُّفْعَةِ أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِلَازِمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْيِ التَّجَاحُدِ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا الْإِشْهَادَ عِنْدَ هَذَا الطَّلَبِ فِي الْكُتُبِ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ ، حَتَّى لَوْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي هَذَا الطَّلَبَ يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ إثْبَاتِهِ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَازِمٌ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْإِشْهَادُ شَرْطًا لَازِمًا لَمْ يَكُنْ تَرْكُهُ مُبْطِلًا لِلشُّفْعَةِ فَمَا وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا : يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْإِشْهَادِ نَفْسَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِشْهَادِ فِي حَقِّ عِلْمِ الْقَاضِي سَمَّى هَذَا الطَّلَبَ إشْهَادًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي حَقِّ تَرْكِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا .
كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَاكْتَفَى تَاجُ الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ بِتَفْسِيرِ الْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ هَاهُنَا بِطَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ حَيْثُ قَالَا : وَإِذَا تَرَكَ الشَّفِيعُ الْإِشْهَادَ : أَيْ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ وَاسْتَغْنَوْا بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ التَّعَرُّضِ لِتَفْصِيلِ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِالْكُلِّيَّةِ وَفَسَّرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا بِمَا فَسَّرَاهُ بِهِ وَلَكِنْ قَالَ بَعْدَهُ : وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يُرَدَّ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، فَإِنَّ تَرْكَ مَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي شَيْءٍ لَا يُبْطِلُهُ وَيُعَضِّدُهُ قَوْلُ
الْمُصَنِّفِ مِنْ قَبْلُ : وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ .
وَقَوْله هَاهُنَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ : فِيهِ خَلَلٌ ، لِأَنَّ جَعْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ عَاضِدًا : أَيْ مُعِينًا لِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالْإِشْهَادِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا نَفْسَ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ، صَحِيحٌ ، إذْ لَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الظَّاهِرِيِّ لَقَالَ فِي تَعْلِيلِ بُطْلَانِ الشُّفْعَةِ بِتَرْكِهِ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْإِشْهَادِ دُونَ أَنْ يُقَالَ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بِقَوْلِهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ فِي حَقِّ تَرْكِ طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّعْلِيلِ هَاهُنَا ا هـ .
وَأَمَّا جَعْلُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ مِنْ قَبْلُ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ عَاضِدًا أَيْضًا لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُنَاكَ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْمُطَالَبَةِ طَلَبُ الْمُوَاثَبَةِ لَا طَلَب التَّقْرِيرِ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِي الْكِتَابِ أَشْهَدَ عَلَى طَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ مَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ طَلَبَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ عَلَى الْمُطَالَبَةِ وَفَسَادُهُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى غَيْرُ خَافٍ عَلَى أَحَدٍ ، وَالْمُفَسَّرُ هَاهُنَا بِطَلَبِ الْمُوَاثَبَةِ نَفْسُ الْإِشْهَادِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا عَاضِدًا لِلْآخَرِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ ، لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، وَلَا
يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى فَيَبْطُلَ الشَّرْطُ وَيَصِحَّ الْإِسْقَاطُ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْح هَذَا الْمَقَامِ : وَإِنْ صَالَحَ مِنْ شُفْعَتِهِ عَلَى عِوَضٍ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ أَمَّا بُطْلَانُ الشُّفْعَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ ، وَمَا لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ لَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَأَمَّا رَدُّ الْعِوَضِ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ : يَعْنِي الشَّرْطَ الْمُلَائِمَ ، وَهُوَ أَنْ يُعَلَّقَ إسْقَاطُهُ بِشَرْطٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَالِ ، مِثْلُ قَوْلِ الشَّفِيعِ لِلْمُشْتَرِي سَلَّمْتُك شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ أَجَرْتَنِيهَا أَوْ أَعَرْتَنِيهَا ، فَبِالْفَاسِدِ وَهُوَ مَا ذُكِرَ فِيهِ الْمَالُ أَوْلَى ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا شَرْحٌ سَقِيمٌ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ ، لِأَنَّهُ وَزَّعَ تَعْلِيلَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ إلَخْ إلَى قَوْلِهِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ وَرَدَّ الْعِوَضَ ، فَجَعَلَ قَوْلَهُ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ إلَخْ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِ وَرَدَّ الْعِوَضَ بِطَرِيقِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمُرَتَّبِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ مُتَأَمِّلٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ أَنَّ حَقَّ التَّوْزِيعِ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا مَعْنَى الْمَقَامِ يُرْشِدُ إلَيْهِ جِدًّا التَّفْرِيعَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي ذَيْلِ الدَّلِيلَيْنِ الْحَاصِلَيْنِ مِنْ التَّوْزِيعِ : أَعْنِي قَوْلَهُ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ فِي الْأَوَّلِ وَقَوْلُهُ فَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْإِسْقَاطُ فِي الثَّانِي تَبَصَّرْ وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يَتَعَلَّقُ
إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا فِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّ إسْقَاطَ حَقِّ الشُّفْعَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ ، أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْتُ شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ كُنْتَ اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِك وَقَدْ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ ، أَوْ قَالَ لِلْبَائِعِ سَلَّمْتهَا لَك إنَّ كُنْتَ بِعْتَهَا لِنَفْسِك وَقَدْ بَاعَهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَلَّقَ التَّسْلِيمَ بِشَرْطٍ ، وَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلِهَذَا لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ، وَمَا كَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَمَا صَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ لَا يُتْرَكُ إلَّا بَعْد وُجُودِ الشَّرْط فَلَا يُتْرَكُ التَّسْلِيمُ ا هـ .
قَالَ الشَّارِح الْعَيْنِيّ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا النَّظَرِ عَنْ صَاحِب الْغَايَة : قُلْت : اسْتِخْرَاج هَذَا النَّظَرِ الْغَيْر الْوَارِد مِنْ قَوْل الشَّيْخِ أَبِي الْمُعَيَّنِ النَّسَفِيِّ فِي شَرْحِ الْجَامِع الْكَبِير حَيْثُ قَالَ فِيهِ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَجِب الْعِوَض يَجِب أَنْ لَا تُبْطَلَ الشُّفْعَةُ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ إنَّمَا أَبْطَلَ حَقّه بِشَرْطِ سَلَامَة الْعِوَض ، فَإِذَا لَمْ يُسْلَم وَجَبَ أَنْ لَا تُبْطَل كَمَا فِي الْكَفَالَة إذَا صَالَحَ الْكَفِيلُ الْمَكْفُولَ لَهُ عَلَى مَال حَتَّى يُبَرِّئهُ مِنْ الْكَفَالَة لِمَا لَمْ يَجِب الْعِوَض لَمْ تَثْبُت الْبَرَاءَة .
قِيلَ لَهُ بِأَنَّ الْمَال لَا يَصْلُح عِوَضًا عَنْ الشُّفْعَة فَصَارَ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِير فِي بَاب الْخُلْع وَالصُّلْح عَنْ دَم الْعَمْد وَثَمَّةَ يَقَع الطَّلَاق وَيَسْقُط الْقِصَاص إذَا وَجَدَ الْقَبُول مِنْ الْمَرْأَة وَالْقَاتِل وَلَمْ يَجِب شَيْء ، كَذَا هُنَا وَأَمَّا الصُّلْح عَنْ الْكَفَالَة بِالنَّفْسِ فَكَذَلِكَ عَلَى مَا ذَكَر مُحَمَّد فِي كِتَاب الشُّفْعَة مِنْ الْمَبْسُوط ، وَكِتَاب الْكَفَالَة وَالْحَوَالَة مِنْ الْمَبْسُوط فِي رِوَايَة أَبِي حَفْص ، وَعَلَى مَا ذَكَر فِي كِتَاب الْحَوَالَة وَالْكَفَالَة مِنْ
الْمَبْسُوط فِي رِوَايَة أَبِي سَلِيمَانِ لَا يَبْرَأ ، وَيَحْتَاج إلَى الْفَرْقِ ، وَالْفَرْقُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيع قَدْ سَقَطَ بِعِوَضٍ مَعْنًى فَإِنَّ الثَّمَن سَلَّمَ لَهُ ، فَإِنَّهُ مَتَى أَخَذَ الدَّار بِالشُّفْعَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ فَمَتَى سَلَّمَ لَهُ الثَّمَن فَقَدْ سَلَّمَ لَهُ نَوْعَ عِوَضٍ بِإِزَاءِ التَّسْلِيم فَلَا بُدّ مِنْ الْقَوْل بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَة فَأَمَّا الْمَكْفُول لَهُ فَلَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ الْكَفِيل بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ عِوَضٌ أَصْلًا فَلَا يَسْقُط حَقّه فِي الْكَفَالَة ا هـ .
وَمِنْ هَذَا الْجَوَاب يُحَصَّل الْجَوَابُ عَنْ النَّظَر الْمَذْكُور ؛ إلَى هُنَا لَفْظ شَرْحِ الْعَيْنِيّ أَقُول : لَا يَذْهَب عَلَيْك أَنَّهُ لَا يُحَصَّل مِنْ الْجَوَابُ الْمَذْكُور فِي كَلَام الشَّيْخ أَبِي الْمُعَيَّن الْجَوَابُ عَنْ النَّظَر الْمَذْكُورِ ، بَلْ لَا مِسَاس لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ السُّؤَال وَالْجَوَاب فِي كَلَام الشَّيْخ أَبِي الْمُعَيَّن مُتَعَلِّق بِأَصْلِ الْمَسْأَلَة ، وَالنَّظَر الْمَذْكُورُ مُتَعَلِّق بِمُقَدَّمَةِ الدَّلِيل وَهِيَ قَوْله وَلَا يَتَعَلَّق إسْقَاطه بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْط فَأَحَدهمَا بِمَعْزِلِ عَنْ الْآخِر ، كَيْف لَا وَقَدْ ذَكَر صَاحِب الْغَايَة أَوَّلًا كَلَام الشَّيْخ أَبِي الْمُعَيَّن بِتَمَامِهِ نَقْلًا عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : وَأُورِدَ الشَّيْخ أَبُو الْمُعَيَّنِ النَّسَفِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِع سُؤَالًا وَجَوَابًا فِي هَذَا الْمَوْضِع قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : إذَا لَمْ يَجِب الْعِوَض يَجِب أَنْ لَا تُجِبْ شُفْعَته أَيْضًا إلَى آخِر كَلَامه ، ثُمَّ أُورِد نَظَرُهُ الْمَذْكُور فِي حَاشِيَة أُخْرَى ، وَلَمْ يَجِب عَنْهُ ؛ فَبَيْنهمَا بَوْن لَا يَخْفَى ثُمَّ قَالَ صَاحِب الْعِنَايَة : وَقَوْله عَلَى عِوَضٍ إشَارَة إلَى أَنَّ الصُّلْح إذَا كَانَ عَلَى بَعْض الدَّار صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَة لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدهمَا أَنْ يُصَالِحهُ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الدَّار بِنِصْفِ الثَّمَن ، وَفِيهِ الصُّلْح جَائِز لِفَقْدِ الْإِعْرَاض .
وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحهُ عَلَى أَخَذَ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّار بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَن ،
وَالصُّلْح فِيهِ لَا يَجُوز لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ وَلَهُ الشُّفْعَة لِفَقْدِ الْإِعْرَاض ا هـ .
أَقُول : فِيهِ بَحْثُ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّم أَنَّ فِي قَوْله عَلَى عِوَضٍ إشَارَة إلَى أَنَّ الصُّلْح إذَا كَانَ عَلَى بَعْض الدَّار صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَة ، إذْ لَا يُتَصَوَّر إشَارَةُ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَة ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُوم قَوْله عَلَى عِوَضٍ بِطَرِيقِ الْمُخَالَفَة هُوَ مَعْنَى بِلَا عِوَضٍ ، وَهُوَ يَعُمّ بَعْض الدَّار وَكُلّ الدَّار وَمَا لَيْسَ بِدَارِ وَلَا عِوَضَ أَصْلًا ، إذْ لَا يُصْلَح شَيْء مِنْهُمَا لَأَنْ يَكُون عِوَضًا فَيَصِير الصُّلْح فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ بِلَا عِوَضٍ ، وَأَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ فِي جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَرَدَّ الْعِوَضَ يَعُمُّ أَيْضًا مَا صَحَّ الشَّرْطُ وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَمَا لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَةُ وَمَا صَحَّ الشَّرْطُ وَالشُّفْعَةُ أَيْضًا ، فَمِنْ بَيْنِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ كَيْفَ يَحْصُلُ الْإِشَارَةُ إلَى خُصُوصِ أَنَّ الصُّلْحَ إذَا كَانَ عَلَى بَعْضِ الدَّارِ صَحَّ وَلَمْ تَبْطُلْ الشُّفْعَةُ كَمَا فِي الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا .
نَعَمْ الْحُكْمُ فِي الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ كَمَا قَالَهُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي عَدَمِ تَمَامِ إشَارَةِ عِبَارَةِ الْكِتَابِ إلَيْهِ كَمَا ادَّعَاهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ تَعْلِيلَ جَوَازِ الصُّلْحِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا بِفَقْدِ الْإِعْرَاضِ مِمَّا لَا يَكَادُ يَتِمُّ ، لِأَنَّ فَقْدَ الْإِعْرَاضِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْهُمَا أَيْضًا كَمَا صَرَّحَ بِهِ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الصُّلْحِ فِيهِ لِجَهَالَةِ الْحِصَّةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الصُّلْحِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ ، فَالْوَجْهُ فِي تَعْلِيلِ جَوَازِ الصُّلْحِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ يُقَالَ لِكَوْنِ الْحِصَّةِ مَعْلُومَةً تَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ لِمَا بَيَّنَّا )
أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ فِي الْمَحِلِّ ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ حَقِّ التَّمَلُّكِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا بَيَّنَهُ لَا يَفِي بِتَمَامِ الْمُدَّعَى هُنَا ، إذْ لَا إسْقَاطَ فِي الْبَيْعِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُلَاحَظَةِ مُقَدِّمَةٍ أُخْرَى ا هـ .
أَقُولُ : نَعَمْ لَا إسْقَاطَ فِي الْبَيْعِ الْحَقِيقِيِّ ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ بَيْعُ الشُّفْعَةِ بِمَالٍ فَلَيْسَ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً يُعْرَفُ ذَلِكَ مِمَّا بَيَّنَهُ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ مُتَقَرِّرٍ ، إلَى قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ بَيْعًا حَقِيقِيًّا لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ أَيْضًا شَيْئًا مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ أَصْلًا فَلَا جَرَمَ كَانَ إسْقَاطًا فَتَمَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ هُنَا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ كَانَ تَسْلِيمًا ، لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَيَصِيرَ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَبَيْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا ا هـ
قَالَ ( وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لِاسْتِكْثَارِ الثَّمَنِ فِي الْأَوَّلِ وَلِتَعَذُّرِ الْجِنْسِ الَّذِي بَلَغَهُ وَتَيَسُّرِ مَا بِيعَ بِهِ فِي الثَّانِي إذْ الْجِنْسُ مُخْتَلِفٌ ، وَكَذَا كُلُّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِعَرَضٍ ، قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِيمَةُ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ ، وَإِنْ بَانَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِدَنَانِيرَ قِيمَتُهَا أَلْفٌ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ أَكْثَرَ وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ الشُّفْعَةُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلَنَا أَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ فِي حَقِّ الثَّمَنِيَّةِ قَالَ ( وَإِذَا قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ) لِتَفَاوُتِ الْجِوَارِ ( وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ مَعَ غَيْرِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ غَيْرِهِ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ ( وَلَوْ بَلَغَهُ شِرَاءُ النِّصْفِ فَسَلَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ شِرَاءُ الْجَمِيعِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لِضَرَرِ الشَّرِكَةِ وَلَا شَرِكَةَ ، وَفِي عَكْسِهِ لَا شُفْعَةَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِي الْكُلِّ تَسْلِيمٌ فِي أَبْعَاضِهِ
( قَوْلُهُ وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا بِيعَتْ بِأَقَلَّ أَوْ بِحِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ وَلَهُ الشُّفْعَةُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَاطِلًا أَيْضًا ، لِأَنَّ إطْلَاقَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْإِيضَاحِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَكَذَلِكَ لَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ عَبْدٌ أَوْ ثَوْبٌ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ أَنَّ قِيمَةَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ الَّتِي اشْتَرَاهَا بِهِ أَوْ أَكْثَرُ ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيلُهُ دَالٌّ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِيضَاحِ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْلِيلِ دَالٌّ عَلَيْهِ .
وَهَكَذَا أَيْضًا اسْتَدَلَّ فِي الذَّخِيرَةِ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ وَقَالَ : فَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ شَيْءٌ هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْقِيَمِ فَسَلَّمَ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَهُوَ عَلَى الشُّفْعَةِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ثُمَّ قَالَ : فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ لَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَى هُنَا لَفْظُ النِّهَايَةِ ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : قَالَ فِي النِّهَايَةِ : تَقْيِيدُهُ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى مِنْ الدَّرَاهِمِ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَاطِلًا أَيْضًا وَتَكَلَّفَ لِذَلِكَ كَثِيرًا وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْأَوْلَوِيَّةِ ، فَإِنَّ التَّسْلِيمَ إذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ إذَا ظَهَرَ أَقَلَّ أَوْلَى ا هـ .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لَا يَدْفَعُ مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ كَوْنِ
التَّقْيِيدِ الْوَاقِعِ فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ قِيمَتُهَا أَلْفٌ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ غَيْرَ مُخْتَلَفٍ فِيمَا إذَا كَانَ قِيمَتُهَا أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ كَانَ التَّقْيِيدُ بِكَوْنِهَا أَلْفًا ، أَوْ أَكْثَرَ غَيْرَ مُفِيدٍ قَطْعًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُخِلًّا بِنَاءً عَلَى إيهَامِهِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ أَيْضًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ كَوْنِهِ مُسْتَدْرِكًا ، وَإِنْ عَدَّ السُّلُوكَ مَسْلَكَ الدَّلَالَةِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ مَعَ كَوْنِهَا أَمْرًا مُبْهَمًا فِي هَذَا الْمَقَامِ كَفَى أَنْ يُقَالَ قِيمَتُهَا أَكْثَرُ فَإِنَّ التَّسْلِيمَ إذَا لَمْ يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ فِيمَا إذَا ظَهَرَ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ أَوْلَى فَلَا مُخَلِّصَ مِنْ اسْتِدْرَاكِ أَحَدِ الْقَيْدَيْنِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُهُ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِتَفَاوُتِ الْجِوَارِ ) يَعْنِي لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْجِوَارِ ، فَالرِّضَا بِجِوَارِ هَذَا لَا يَكُونُ رِضًا بِجِوَارِ ذَاكَ كَذَا فِي الْكَافِي قَالَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ : لَوْ قَالَ الشَّفِيعُ سَلَّمْت شُفْعَةَ هَذِهِ الدَّارِ إنْ كُنْتَ اشْتَرَيْتَهَا لِنَفْسِك وَقَدْ اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِتَسْلِيمٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّفِيعَ عَلَّقَ التَّسْلِيمَ بِشَرْطٍ ، وَصَحَّ هَذَا التَّعْلِيقُ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ وَلَا يُتْرَكُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهِ ا هـ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا بَعْدَ نَقْلِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ : وَهَذَا كَمَا تَرَى يُنَاقِضُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى ا هـ وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هُنَا خُلَاصَةُ النَّظَرِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ
وَنَقَلْنَاهُ عَنْهُ ، وَذَكَرْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْكَلِمَاتِ هُنَالِكَ .
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ دَفْعَ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ فَرَّقَ مَا بَيْنَ شَرْطٍ وَشَرْطٍ ، فَمَا سَبَقَ كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ الشُّفْعَةِ وَالرِّضَا بِالْجِوَارِ مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ هُنَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَتَيَسَّرْ لِلشَّفِيعِ أَدَاءُ مَا اشْتَرَى بِهِ الدَّارَ لَمْ يَدُلَّ تَسْلِيمُهُ عَلَى الْإِعْرَاضِ ، إذْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِهِ ، وَكَذَا تَسْلِيمُهُ لِزَيْدٍ لَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِجِوَارِ عَمْرٍو فَلْيُتَأَمَّلْ ا هـ كَلَامُهُ أَقُولُ : هَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، لِأَنَّ حَاصِلَهُ حَمْلُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَبَقَ عَلَى الشَّرْطِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ ، وَحَمْلُ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ فِي الْجَامِعِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَخْصُوصِ الْآخَرِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ شَيْئًا مِنْ كَلَامَيْهِمَا لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ أَصْلًا ، أَمَّا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَلِأَنَّهُ قَالَ : وَلَا يَتَعَلَّقُ إسْقَاطُهُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَبِالْفَاسِدِ أَوْلَى ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَوْلَوِيَّةَ عَدَمِ تَعَلُّقِ إسْقَاطِهِ بِالْفَاسِدِ مِنْ عَدَمِ تَعَلُّقِ إسْقَاطِهِ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِالشَّرْطِ الْجَائِزِ جِنْسَ الشَّرْطِ الْجَائِزِ لَا الشَّرْطَ الْجَائِزَ الْمَخْصُوصَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِخُصُوصِهِ حَالَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ التَّعْلِيقِ لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ فِي الْفَاسِدِ ، وَأَمَّا كَلَامُ الْإِمَامِ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّهُ قَالَ : لِأَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَصَحَّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِ تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ إسْقَاطًا مَحْضًا إنَّمَا هُوَ صِحَّةُ تَعْلِيقِهِ بِالشَّرْطِ مُطْلَقًا لَا صِحَّةُ تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ مُعَيَّنٍ ، سِيَّمَا الشَّرْطَ الَّذِي لَا يَدُلُّ عَلَى
الْإِعْرَاضِ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ إسْقَاطًا يَقْتَضِي الْإِعْرَاضَ دُونَ عَدَمِ الْإِعْرَاضِ ، تَأَمَّلْ تَقِفْ
فَصْلٌ قَالَ ( وَإِذَا بَاعَ دَارًا إلَّا مِقْدَارَ ذِرَاعٍ مِنْهَا فِي طُولِ الْحَدِّ الَّذِي يَلِي الشَّفِيعَ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ) لِانْقِطَاعِ الْجِوَارِ ، وَهَذِهِ حِيلَةٌ ، وَكَذَا إذَا وَهَبَ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا ، قَالَ ( وَإِذَا ابْتَاعَ مِنْهَا سَهْمًا بِثَمَنٍ ثُمَّ ابْتَاعَ بَقِيَّتَهَا فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ فِي السَّهْمِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ) لِأَنَّ الشَّفِيعَ جَارٍ فِيهِمَا ، إلَّا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّانِي شَرِيكٌ فَيَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ ابْتَاعَ السَّهْمَ بِالثَّمَنِ إلَّا دِرْهَمًا مَثَلًا وَالْبَاقِي بِالْبَاقِي ، وَإِنْ ابْتَاعَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا عِوَضًا عَنْهُ فَالشُّفْعَةُ بِالثَّمَنِ دُونَ الثَّوْبِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ آخَرُ ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْعِوَضُ عَنْ الدَّارِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذِهِ حِيلَةٌ أُخْرَى تَعُمُّ الْجِوَارَ وَالشَّرِكَةَ فَيُبَاعَ بِأَضْعَافِ قِيمَتِهِ وَيُعْطَى بِهَا ثَوْبٌ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّتْ الْمَشْفُوعَةُ يَبْقَى كُلُّ الثَّمَنِ عَلَى مُشْتَرِي الثَّوْبِ لِقِيَامِ الْبَيْعِ الثَّانِي فَيَتَضَرَّرَ بِهِ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ الثَّمَنُ دِينَارٌ حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارُ لَا غَيْرُ
( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ الشُّفْعَةُ تَسْقُطُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عُلِمَ تِلْكَ الْأَحْوَالُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يُتَأَذَّى بِهِ ، وَفِي اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ يَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْجَارِ فَاحْتِيجَ إلَى بَيَانِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَلَمَّا كَانَ يَتَّجِهُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّ الْبَائِعَ يُخْرِجُ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ وَمِلْكِهِ بِالْبَيْعِ فَيَحْصُلُ بِهِ الْخَلَاصُ لَهُ مِنْ أَذِيَّةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَارِ الْفَاسِقِ فَمَا الِاحْتِيَاجُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْحِيلَةِ لِإِسْقَاطِ شُفْعَتِهِ ؟ تَدَارَكَ دَفْعَ ذَلِكَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ يُتَأَذَّى بِهِ فِي قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْجَارُ فَاسِقًا يُتَأَذَّى بِهِ بِأَنْ قَالَ فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَقَالَ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ لِلْبَائِعِ دَارٌ أُخْرَى وَرَاءَ دَارِهِ الْمَبِيعَةِ فَتَدَبَّرْ ا هـ أَقُولُ : الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ الْمَقْصُودُ مِنْ إسْقَاطِ شُفْعَةِ مِثْلِ ذَلِكَ الْجَارِ الْفَاسِقِ الَّذِي يُتَأَذَّى بِهِ دَفْعُ تَأَذِّي الْجِيرَانِ الْمُلَاصِقِينَ بِالدَّارِ الْمَبِيعَةِ دُونَ دَارِ ذَلِكَ الْجَارِ الْفَاسِقِ ، لَا دَفْعُ مُجَرَّدِ تَأَذِّي نَفْسِ الْبَائِعِ ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ هَذِهِ الْفَائِدَةَ مِمَّا تَتَحَقَّقُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الصُّوَرِ ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَالْأَوْجَهُ أَنْ يُبَاعَ بِالدَّرَاهِمِ الثَّمَنُ دِينَارٌ حَتَّى إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارِ لَا غَيْرُ ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَبَيَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي شُفْعَةِ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ فَقَالَ : وَمِنْ الْحِيلَةِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا بِعِشْرِينَ أَلْفًا ثُمَّ يَقْبِضُ تِسْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ وَيَقْبِضُ بِالْبَاقِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ، فَلَوْ أَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا يَأْخُذُهَا
بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَلَا يَرْغَبُ فِي الشُّفْعَةِ ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَعْطَاهُ لِأَنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الدَّارَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَمَنُ الدَّارِ فَيَبْطُلَ الصَّرْفُ كَمَا لَوْ بَاعَ الدِّينَارَ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ ثُمَّ تَصَادَقَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ ا هـ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا بِذَلِكَ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِيهَا بَلْ جَعَلَهُ شَرْحًا مَحْضًا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ : وَقَوْلُهُ وَالْأَوْجَهُ إلَخْ تَقْرِيرُهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الدَّارَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى فَتَاوَى قَاضِي خَانْ أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَذَا لَيْسَ عَيْنَ مَا ذُكِرَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَفِي الشَّرْحَيْنِ الْمَزْبُورَيْنِ : فَإِنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْ يُبَاعَ بِكُلِّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ دِينَارٌ ، وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَ ثَمَنِهَا وَيُبَاعَ بِالْبَاقِي دَنَانِيرَ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا إذَا اسْتَحَقَّ الْمَشْفُوعُ فَيَجِبَ رَدُّ الدِّينَارِ لَا غَيْرُ ، وَقَالُوا ثَمَّةَ لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِعِشْرِينَ أَلْفًا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِمَا أَعْطَاهُ نَعَمْ كِلَا الْعَيْنَيْنِ مُشْتَرَكَانِ فِي أَنْ يَعُمَّا الْجِوَارَ وَالشَّرِكَةَ وَأَنْ لَا يَتَضَرَّرَ بَائِعُ الدَّارِ فِيهَا لِعَدَمِ لُزُومِ رُجُوعِ مُشْتَرِي الدَّارِ عَلَيْهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ عِنْدَ ظُهُورِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الدَّارَ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا فَصَارَ أَحَدُهُمَا نَظِيرَ الْآخَرِ فِي الْحِيلَةِ لَا عَيْنَهُ ، فَلَا يَصْلُحُ أَحَدُهُمَا لَأَنْ يَكُونَ بَيَانًا وَشَرْحًا لِلْآخَرِ كَمَا لَا يَخْفَى
قَالَ ( وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَتُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ) لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَوْ أَبَحْنَا الْحِيلَةَ مَا دَفَعْنَاهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ مَنَعَ عَنْ إثْبَاتِ الْحَقِّ فَلَا يُعَدُّ ضَرَرًا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الزَّكَاةِ
( قَوْلُهُ وَلَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتُكْرَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : اعْلَمْ أَنَّ الْحِيلَةَ فِي هَذَا الْبَابِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِلرَّفْعِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِدَفْعِهِ ؛ فَالْأَوَّلُ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنَا أُولِيهَا لَك فَلَا حَاجَةَ لَك فِي الْأَخْذِ فَيَقُولَ نَعَمْ تَسْقُطُ بِهِ الشُّفْعَةُ وَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : غَيْرُ مَكْرُوهٍ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَاسَ فَصْلَ الشُّفْعَةِ عَلَى فَصْلِ الزَّكَاةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا تُكْرَهُ الْحِيلَةُ لِمَنْعِ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ انْتَهَى أَقُولُ : فِي هَذَا التَّقْرِيرِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إمَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ فِي قَوْلِهِ ( وَهُوَ مَكْرُوهٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ ) إجْمَاعُ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي نَفْسِ الْمَسْأَلَةِ أَوْ إجْمَاعُ الْمَشَايِخِ وَاخْتِلَافُهُمْ فِي الرِّوَايَةِ .
وَأَيًّا مَّا كَانَ لَا يَخْلُو التَّقْرِيرُ الْمَذْكُورُ عَنْ اضْطِرَابٍ أَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِكَوْنِ الثَّانِي مُخْتَلَفًا فِيهِ لَا يَكُونُ تَامًّا حِينَئِذٍ ، لِأَنَّ اخْتِلَافَ الِاجْتِهَادِ فِي الثَّانِي إنَّمَا كَانَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ مِنْ الرُّوَاةِ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عَدَمِ كَرَاهَةِ الْحِيلَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي فَصْلِ الزَّكَاةِ كَمَا ذَكَرَهُ وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إلَخْ ، فَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِكَوْنِ الْأَوَّلِ مَكْرُوهًا لَا يَصِحُّ حِينَئِذٍ لِأَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيَّ رَوَى عَدَمَ كَرَاهَةِ الِاحْتِيَالِ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ عَلَى
كُلِّ حَالٍ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الشُّفْعَةِ بِالْعُرُوضِ مِنْ الْمَبْسُوطِ بَعْدَ مَا ذَكَرَ وُجُوهَ الْحِيَلِ وَالِاسْتِعْمَالِ بِهَذِهِ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ : لَا بَأْسَ بِهِ ، أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الْإِضْرَارَ بِهِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الدَّفْعُ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ وَلِلْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ انْتَهَى قَالَ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ : الْحِيلَةُ فِي إسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ قَالُوا : عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تُكْرَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تُكْرَهُ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحِيلَةِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَمَنْعِ الِاسْتِبْرَاءِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا تُكْرَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : تُكْرَهُ الْحِيلَةُ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِإِبْطَالِ حَقٍّ وَاجِبٍ ، وَقَبْلَ الْوُجُوبِ إنْ كَانَ الْجَارُ فَاسِقًا يُتَأَذَّى مِنْهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ : لَا بَأْسَ بِالِاحْتِيَالِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فَلَا شَكَّ ؛ كَمَا لَوْ تَرَكَ اكْتِسَابَ الْمَالِ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَبَعْدَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ لَا يُكْرَهُ الِاحْتِيَالُ أَيْضًا لِأَنَّهُ احْتِيَالٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِإِضْرَارٍ بِالْغَيْرِ ، فَظَاهِرُ مَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى هَذَا ، إلَى هُنَا لَفْظُ فَتَاوَى قَاضِي خَانْ
مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى خَمْسَةُ نَفَرٍ دَارًا مِنْ رَجُلٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِهِمْ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ خَمْسَةٍ أَخَذَهَا كُلَّهَا أَوْ تَرَكَهَا ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي بِأَخْذِ الْبَعْضِ تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَتَضَرَّرَ بِهِ زِيَادَةَ الضَّرَرِ ، وَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَقُومُ الشَّفِيعُ مَقَامَ أَحَدِهِمْ فَلَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ مَا إذَا كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ بَعْدَهُ هُوَ الصَّحِيحُ ، إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ إذَا نَقَدَ مَا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَنْقُدْ الْآخَرُ حِصَّتَهُ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَفْرِيقِ الْيَدِ عَلَى الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ يَدُ الْبَائِعِ ، وَسَوَاءً سَمَّى لِكُلِّ بَعْضٍ ثَمَنًا أَوْ كَانَ الثَّمَنُ جُمْلَةً ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي هَذَا لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لَا لِلثَّمَنِ ، وَهَاهُنَا تَفْرِيعَاتٌ ذَكَرْنَاهَا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى
قَالَ ( وَمَنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارِ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَقَاسَمَهُ الْبَائِعُ أَخَذَ الشَّفِيعُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ يَدَعُ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْمِيلِ الِانْتِفَاعِ وَلِهَذَا يَتِمُّ الْقَبْضُ بِالْقِسْمَةِ فِي الْهِبَةِ ، وَالشَّفِيعُ لَا يَنْقُضُ الْقَبْضَ وَإِنْ كَانَ لَهُ نَفْعٌ فِيهِ بِعَوْدِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، فَكَذَا لَا يُنْقَضُ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ الْمُشْتَرِكَةِ وَقَاسَمَ الْمُشْتَرِيَ الَّذِي لَمْ يَبِعْ حَيْثُ يَكُونُ لِلشَّفِيعِ نَقْضُهُ ، لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا وَقَعَ مَعَ الَّذِي قَاسَمَ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ مِنْ تَمَامِ الْقَبْضِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ بَلْ هُوَ تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَنْقُضَهُ الشَّفِيعُ كَمَا يَنْقُضُ بَيْعَهُ وَهِبَتَهُ ، ثُمَّ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ النِّصْفَ الَّذِي صَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي أَيِّ جَانِبٍ كَانَ وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ بِالْقِسْمَةِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ إذَا وَقَعَ فِي جَانِبِ الدَّارِ الَّتِي يُشْفَعُ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى جَارًا فِيمَا يَقَعُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ .
قَالَ ( وَمَنْ بَاعَ دَارًا وَلَهُ عَبْدٌ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الْبَائِعُ فَلِمَوْلَاهُ الشُّفْعَةُ ) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ تَمَلُّكٌ بِالثَّمَنِ فَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الشِّرَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِلْغُرَمَاءِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِأَنَّهُ يَبِيعُهُ لِمَوْلَاهُ ، وَلَا شُفْعَةَ لِمَنْ يَبِيعُ لَهُ
قَالَ ( وَتَسْلِيمُ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ الشُّفْعَةَ عَلَى الصَّغِيرِ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا بَلَغَ ) قَالُوا : وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا بَلَغَهُمَا شِرَاءُ دَارٍ بِجِوَارِ دَارِ الصَّبِيِّ فَلَمْ يَطْلُبَا الشُّفْعَةَ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ تَسْلِيمُ الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ فِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْوِكَالَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكَانِ إبْطَالَهُ كَدِيَتِهِ وَقَوْدِهِ ، وَلِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَكَانَ إبْطَالُهُ إضْرَارًا بِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ فَيَمْلِكَانِ تَرْكَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَوْجَبَ بَيْعًا لِلصَّبِيِّ صَحَّ رَدُّهُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ ، وَلِأَنَّهُ دَائِرٌ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضَّرَرِ ، وَقَدْ يَكُونُ النَّظَرُ فِي تَرْكِهِ لِيَبْقَى الثَّمَنُ عَلَى مِلْكِهِ وَالْوِلَايَةُ نَظَرِيَّةٌ فَيَمْلِكَانِهِ وَسُكُوتُهُمَا كَإِبْطَالِهِمَا لِكَوْنِهِ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ ، وَهَذَا إذَا بِيعَتْ بِمِثْلِ قِيمَتِهَا ، فَإِنْ بِيعَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ قِيلَ جَازَ التَّسْلِيمُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ نَظَرًا وَقِيلَ لَا يَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْأَخْذَ فَلَا يَمْلِكُ التَّسْلِيمَ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ بِيعَتْ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا مُحَابَاةً كَثِيرَةً ، فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّسْلِيمُ مِنْهُمَا أَيْضًا وَلَا رِوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْقِسْمَةِ الْقِسْمَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ مَشْرُوعَةٌ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَاشَرَهَا فِي الْمَغَانِمِ وَالْمَوَارِيثِ ، وَجَرَى التَّوَارُثُ بِهَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، ثُمَّ هِيَ لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، لِأَنَّ مَا يَجْتَمِعُ لِأَحَدِهِمَا بَعْضُهُ كَانَ لَهُ وَبَعْضُهُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُبَادَلَةً وَإِفْرَازًا ، وَالْإِفْرَازُ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ ، حَتَّى كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ حَالَ غَيْبَةِ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لِلتَّفَاوُتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرِ .
وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ يَسْأَلُ الْقَاضِيَ أَنْ يَخُصَّهُ بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ وَيَمْنَعَ الْغَيْرَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ ، فَيَجِبَ عَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَى قِسْمَتِهَا لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ ، وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ قَاسِمًا يَرْزُقُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِيَقْسِمَ بَيْنَ النَّاسِ بِغَيْرِ أَجْرٍ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتِمُّ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَأَشْبَهَ رِزْقَ الْقَاضِي ، وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ نَصْبِ الْقَاسِمِ تَعُمُّ
الْعَامَّةَ فَتَكُونَ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ غُرْمًا بِالْغُنْمِ قَالَ ( فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ نَصَّبَ قَاسِمًا يَقْسِمُ بِالْأَجْرِ ) مَعْنَاهُ بِأَجْرٍ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ ، لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَبِقَدْرِ أَجْرِ مِثْلِهِ كَيْ لَا يَتَحَكَّمَ بِالزِّيَادَةِ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ وَأَبْعَدُ عَنْ التُّهْمَةِ .
( كِتَابُ الْقِسْمَةِ ) مُنَاسَبَةُ الْقِسْمَةِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مِنْ نَتَائِجِ النَّصِيبِ الشَّائِعِ لِمَا أَنَّ أَقْوَى أَسْبَابِ الشُّفْعَةِ الشَّرِكَةُ ، فَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ الِافْتِرَاقَ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَمَعَ عَدَمِ بَقَائِهِ بَاعَ فَوَجَبَ عِنْدَهُ الشُّفْعَةُ ؛ هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ : أَوْ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ نَافِيَةٌ لِلشُّفْعَةِ قَاطِعَةٌ لِوُجُوبِهَا رُجُوعًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } وَالنَّفْيُ يَقْتَضِي سَبْقَ الثُّبُوتِ فَكَانَتْ بَيْنَ الشُّفْعَةِ وَالْقِسْمَةِ مُنَاسَبَةُ الْمُضَادَّةِ ، وَالْمُتَضَادَّانِ يَفْتَرِقَانِ أَبَدًا مَعَ تَقَدُّمِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ كَمَا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقِسْمَةِ نَافِيَةً لِلشُّفْعَةِ قَاطِعَةً لِوُجُوبِهَا رُجُوعًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } إنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجَوِّزْ الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَئِمَّتِنَا فَلَا ، لِأَنَّهُمْ جَوَّزُوا الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ أَيْضًا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأَحَادِيثَ أُخَرَ وَأَجَابُوا عَنْ اسْتِدْلَالِهِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ آخِرَ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ { فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ } لَيْسَ بِثَابِتٍ ، وَلَئِنْ ثَبَتَ فَمَعْنَاهُ نَفْيُ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْقِسْمَةِ الْحَاصِلَةِ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ كَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ أَنْ يُشْكِلَ أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَقُّ بِهَا الشُّفْعَةُ كَالْبَيْعِ ؟ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَدَمَ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ بِهَا ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ بِهَذَا التَّفْصِيلِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الشُّفْعَةِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ حَتَّى النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، فَمَا مَعْنَى بِنَاءِ وَجْهِ الْمُنَاسَبَةِ هَاهُنَا عَلَى مَا هُوَ الْمُزَيَّفُ هُنَاكَ ثُمَّ إنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّفْيَ يَقْتَضِي سَبْقَ الثُّبُوتِ يُنَافِي مَا تَقَرَّرَ فِي الْمَعْقُولَاتِ مِنْ أَنَّ السَّلْبَ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَوْضُوعِ ، وَأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُتَضَادَّيْنِ يَفْتَرِقَانِ أَبَدًا مَعَ تَقَدُّمِ الْمُثْبَتِ عَلَى الْمَنْفِيِّ مَمْنُوعٌ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } وقَوْله تَعَالَى { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } وَنَحْوَ ذَلِكَ كَيْفَ تَقَدَّمَ الْمَنْفِيُّ هُنَاكَ عَلَى الْمُثْبَتِ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَقَدَّمَ الشُّفْعَةَ لِأَنَّ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ أَصْلٌ انْتَهَى أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ فِي الشُّفْعَةِ بَقَاءَ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَيْثُ يَبْقَى فِيهَا الشُّيُوعُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ زَالَ مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ كَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ بَقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ حَيْثُ يَبْقَى فِيهَا مِلْكُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْبَعْضِ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ زَالَ الشُّيُوعُ ، بَلْ هَذَا الْبَقَاءُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ مُنَاسَبَةِ الْقِسْمَةِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا أَرَادَ الِافْتِرَاقَ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِهِ طَلَبَ الْقِسْمَةَ وَمَعَ عَدَمِ بَقَائِهِ بَاعَ فَوَجَبَ عِنْدَهُ الشُّفْعَةُ ، فَكَوْنُ بَقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ أَصْلًا لَا يُرَجِّحُ تَقْدِيمَ الشُّفْعَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ثُمَّ إنَّ الْقِسْمَةَ فِي اللُّغَةِ : اسْمٌ لِلِاقْتِسَامِ كَالْقُدْوَةِ لِلِاقْتِدَاءِ وَالْأُسْوَةِ لِلِائْتِسَاءِ وَفِي الشَّرِيعَةِ : جَمْعُ النَّصِيبِ الشَّائِعِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ وَسَبَبُهَا طَلَبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الِانْتِفَاعَ بِنَصِيبِهِ عَلَى الْخُلُوصِ وَرُكْنُهَا الْفِعْلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِفْرَازُ
وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ النَّصِيبَيْنِ كَالْكَيْلِ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْوَزْنِ فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَالْعَدِّ فِي الْمَعْدُودَاتِ وَشَرْطُهَا أَنْ لَا تَفُوتَ الْمَنْفَعَةُ بِالْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يُقْسَمُ الْحَائِطُ وَالْحَمَّامُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لِلتَّفَاوُتِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا أَخْذُ نَصِيبِهِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْآخَرِ .
وَلَوْ اشْتَرَيَاهُ فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً بَعْدَ الْقِسْمَةِ ) وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمِثْلٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَقُولُ : هُنَا إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ آنِفًا فِي الْكِتَابِ وَالشُّرُوحِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَالْإِفْرَازِ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ ، سَوَاءً كَانَتْ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَوْ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، لِأَنَّهُ مَا مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ إلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّصِيبَيْنِ فَمَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ كَانَ مِلْكَهُ لَمْ يَسْتَفِدْهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَبَعْضُهُ الْآخَرُ كَانَ لِصَاحِبِهِ فَصَارَ لَهُ عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، فَكَانَ الْقِسْمَةُ فِي كُلِّ صُورَةٍ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الَّذِي كَانَ مِلْكَهُ إفْرَازًا وَبِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ مُبَادَلَةً ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَوْنُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ غَيْرُ وَاضِحٍ ، إذْ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضًا عَمَّا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَيْسَ بِمِثْلٍ بِيَقِينٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّهِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَلَمْ يَكُنْ أَخْذُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ حَقِّهِ حُكْمًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ بِالنَّظَرِ
إلَى ذَلِكَ الْبَعْضِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَحَقَّقَ الْإِفْرَازُ فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ حَقِّهِ فِي الْحَقِيقَةِ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَهُ هَذَا الْبَعْضَ إفْرَازٌ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ مُبَادَلَةٌ ، فَقَدْ تَحَقَّقَ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ عَيْنِ حَقِّهِ إفْرَازٌ بِدُونِ الْمُبَادَلَةِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى مَا يَأْخُذُهُ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُبَادَلَةٌ بِدُونِ الْإِفْرَازِ فَكَانَ مَعْنَيَا الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ فِيهِ مُتَسَاوِيَيْنِ ، فَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ ظُهُورُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ كَمَا ادَّعَوْهُ قَاطِبَةً ، بِخِلَافِ مَا قَالُوا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ مِنْ ظُهُورِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهَا فَإِنَّهُ وَاضِحٌ ، لِأَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَا هُوَ عَيْنُ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِهِ إفْرَازٌ بِلَا شُبْهَةٍ ، وَأَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَا هُوَ نَصِيبُ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ حَقِّهِ لِكَوْنِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فِيهَا مِثْلُ حَقِّهِ بِيَقِينٍ .
وَأَخْذُ الْمِثْلِ بِيَقِينٍ يُجْعَلُ كَأَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا كَمَا فِي الْقَرْضِ فَتَحَقَّقَ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ أَيْضًا فَكَانَ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهَا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا : مَعْنَى الْإِفْرَازِ ظَاهِرٌ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَغَيْرُ ظَاهِرٍ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ بَلْ مَعْنَيَا الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ سِيَّانِ فِيهِ لَكَانَ الْأَمْرُ هَيِّنًا ، وَلَمَّا قَالُوا : مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ظَاهِرٌ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ أَشْكَلَ ذَلِكَ كَمَا تَرَى وَذَكَرَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَجْهًا أَبْسَطَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ لِظُهُورِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ نَاقِلًا عَنْ الْمُغْنِي حَيْثُ قَالَ : وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كُلِّهَا ، وَبِهِ صَرَّحَ فِي الْمُغْنِي وَغَيْرِهِ فَقَالَ فِي الْمُغْنِي : وَأَمَّا الْقِسْمَةُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ
الْأَمْثَالِ فَشَبَهُ الْمُبَادَلَةِ فِيهَا رَاجِحٌ لِأَنَّهَا إفْرَازٌ حُكْمًا مِنْ وَجْهٍ ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ هِيَ مُبَادَلَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلٌ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ .
وَأَخْذُ الْمِثْلِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا فَكَانَ إفْرَازًا ، إلَّا أَنَّ مَا يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِمِثْلٍ لِمَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ بِيَقِينٍ ، لِأَنَّ الْمَقْسُومَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لَا تَثْبُتُ الْمُعَادَلَةُ بِيَقِينٍ ، فَالْإِفْرَازُ مَعَ الْمُبَادَلَةِ اسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ ثُمَّ تَرَجَّحَتْ الْمُبَادَلَةُ بِالْحَقِيقَةِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ أَقُولُ : لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الْإِشْكَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ مَعَ زِيَادَةٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ رُجْحَانِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيمَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ لَا عَلَى تَحَقُّقِ رُجْحَانِ ذَلِكَ فِي الْمَقْسُومِ كُلِّهِ ، كَيْفَ وَمَا يَأْخُذُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ لَا يُوجَدُ فِيهِ إلَّا إفْرَازٌ مَحْضٌ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ أَنْ يَقْبِضَ عَيْنَ حَقِّهِ وَأَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ نَفْسِهِ قَبْضٌ لِعَيْنِ حَقِّهِ لَا غَيْرُ وَالْمُدَّعِي رُجْحَانَ الْمُبَادَلَةِ فِي الْقِسْمَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ ، بَلْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى رُجْحَانِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي ذَلِكَ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَخْذَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَيْنَ حَقِّهِ مِنْ نَصِيبِ نَفْسِهِ إفْرَازٌ مَحْضٌ ، وَإِذَا كَانَ أَخْذُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَ صَاحِبِهِ أَخْذًا لِمِثْلِ مَا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَكَانَ أَخْذُ ذَلِكَ الْمِثْلِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ حُكْمًا فَكَانَ إفْرَازًا كَمَا صَرَّحَ
بِهِ فِي الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ كَانَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِي ذَلِكَ ظَاهِرًا رَاجِحًا لِتَحَقُّقِهِ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ وَتَحَقُّقُ الْمُبَادَلَةِ فِي بَعْضِهَا كَمَا تَحَقَّقْته ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْبَرَ الْقَاضِي عَلَى الْقِسْمَةِ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ ) هَذَا جَوَابُ سُؤَالٍ مُقَدَّرٍ يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ بِأَنْ يُقَالَ : لَوْ كَانَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي ذَلِكَ لَمَا أُجْبِرَ الْآبِي عَلَى الْقِسْمَةِ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ أَقُولُ : هَاهُنَا أَيْضًا إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الَّذِي يَأْخُذُهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ لِعَيْنِ حَقِّهِ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ ، إذْ يَبْقَى الْكَلَامُ حِينَئِذٍ فِي الْإِجْبَارِ عَلَى أَخْذِ النَّصِيبِ الْآخَرِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ وَيَظْهَرُ عَلَى مَا قَالُوا ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الَّذِي كَانَ لِصَاحِبِهِ وَيَأْخُذُهُ عِوَضًا عَمَّا تَرَكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ لِتَقَارُبِ الْمَقَاصِدِ فَذَلِكَ يُنَافِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، إذْ لَا شَكَّ فِي تَحَقُّقِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الَّذِي يَأْخُذُهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ لِعَيْنِ حَقِّهِ وَإِذَا تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِيبِ الْآخَرِ أَيْضًا كَانَ مَعْنَى الْإِفْرَازِ فِيهِ ظَاهِرًا جِدًّا ، فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِيهِ فَتَأَمَّلْ ثُمَّ أَقُولُ : لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ لِأَنَّ فِيهِ إمْكَانَ الْمُعَادَلَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ لِأَنَّ
فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لَكَانَ سَالِمًا عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ ، وَكَانَ مُنَاسِبًا لَا مَحَالَةَ لِقَوْلِهِ لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً كَمَا سَيَأْتِي تَبَصَّرْ تَقِفْ ( قَوْلُهُ وَالْمُبَادَلَةُ مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ كَمَا فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّ الْمَدْيُونَ يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالدُّيُونُ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا عَلَى مَا عُرِفَ ، فَصَارَ مَا يُؤَدِّي الْمَدْيُونُ بَدَلًا عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : جَرَيَان الْجَبْرِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ لِكَوْنِ مَا أَخَذَهُ الدَّائِنُ مِنْ الْبَدَلِ مِثْلَ مَا ثَبَتَ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ بِيَقِينٍ ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ أَخْذَ مِثْلِ الْحَقِّ بِيَقِينٍ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ الْعَيْنِ ، وَعَنْ هَذَا جَعَلُوا أَخْذَ الْمِثْلِ فِي الْقَرْضِ كَأَخْذِ الْعَيْنِ فَجَعَلُوا الْقَرْضَ لِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِيهِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ لَيْسَ مِثْلَ مَا تَرَكَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ فَلَمْ يَكُنْ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِ عَيْنِ الْحَقِّ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : إنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ هُوَ الظَّاهِرُ ، فَمِنْ ذَلِكَ نَشَأَ السُّؤَالُ الْمُقَدَّرُ وَاحْتِيجَ إلَى الْجَوَابِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ ، فَكَيْفَ يَتِمُّ قِيَاسُ جَرَيَانِ الْجَبْرِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى جَرَيَانِهِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَحَقُّقِ الْفَرْقِ الْوَاضِحِ بَيْنَهُمَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحِلِّ : وَلَوْ تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ جَازَ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مُبَادَلَةٌ كَالتِّجَارَةِ ، وَالتَّرَاضِي فِي التِّجَارَةِ شَرْطٌ بِالنَّصِّ انْتَهَى أَقُولُ : هَذَا الشَّرْحُ غَيْرُ مُطَابِقٍ
لِلْمَشْرُوحِ ، وَلَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مُبَادَلَةٌ مَحْضَةٌ كَالتِّجَارَةِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، كَيْفَ وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّ الْقِسْمَةَ مُطْلَقًا لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَالْإِفْرَازِ ، إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ هُوَ الظَّاهِرُ فِي غَيْرِهَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُبَادَلَةَ فِي قِسْمَةِ مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ هِيَ الظَّاهِرَةُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، لَكِنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ غَيْرِ مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ مِنْ غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ مَعَ أَنَّ التَّرَاضِيَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا ، عَلَى أَنَّ كَوْنَ التَّرَاضِي شَرْطًا فِي التِّجَارَةِ بِالنَّصِّ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ شَرْطًا فِي قِسْمَةِ مُخْتَلِفِ الْجِنْسِ أَيْضًا لِأَنَّ قِسْمَتَهُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى التِّجَارَةِ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ ، إذْ الْقِسْمَةُ مُطْلَقًا لَا تَعْرَى عَنْ مَعْنَى الْإِفْرَازِ أَلْبَتَّةَ ، بِخِلَافِ التِّجَارَةِ ، فَكَيْفَ تَلْحَقُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا هُوَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهَا جَازَ ، لِأَنَّهُ الْحَقُّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَعَدَمُ الْجَبْرِ عَلَى قِسْمَةِ مُخْتَلِفِ الْأَجْنَاسِ لِخَوْفِ أَنْ يَبْقَى حَقُّ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ لِتَعَذُّرِ الْمُعَادَلَةِ بِاعْتِبَارِ فُحْشِ التَّفَاوُتِ فِي الْمَقَاصِدِ ، وَإِذَا تَرَاضَوْا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسْقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَقَّهُ الْبَاقِيَ عَلَى الْآخَرِ فَصَحَّتْ الْقِسْمَةُ بِلَا رَيْبٍ ، اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَجِيهِ الْوَاضِحِ هَلْ يُشْبِهُ بِمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الشَّارِحُ ( قَوْلُهُ مَعْنَاهُ بِأَجْرٍ عَلَى الْمُتَقَاسِمِينَ لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ ) أَقُولُ : قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّفْعَ لَهُمْ عَلَى الْخُصُوصِ يُنَافِي بِحَسَبِ الظَّاهِرِ قَوْلَهُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ نَصْبِ الْقَاسِمِ تَعُمُّ الْعَامَّةَ فَتَكُونَ كِفَايَتُهُ فِي مَالِهِمْ غُرْمًا بِالْغُنْمِ فَتَأَمَّلْ فِي
التَّوْفِيقِ
( وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ ) لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ عَمَلِ الْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ وَهِيَ بِالْعِلْمِ ، وَمِنْ الِاعْتِمَادِ عَلَى قَوْلِهِ وَهُوَ بِالْأَمَانَةِ ( وَلَا يُجْبِرُ الْقَاضِي النَّاسَ عَلَى قَاسِمٍ وَاحِدٍ ) مَعْنَاهُ لَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ لِأَنَّهُ لَا جَبْرَ عَلَى الْعُقُودِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لَتَحَكَّمَ بِالزِّيَادَةِ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ ( وَلَوْ اصْطَلَحُوا فَاقْتَسَمُوا جَازَ ، إلَّا إذَا كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَمْرِ الْقَاضِي ) لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ ( وَلَا يَتْرُكُ الْقُسَّامَ يَشْتَرِكُونَ ) كَيْ لَا تَصِيرَ الْأُجْرَةُ غَالِيَةً بِتَوَاكُلِهِمْ ، وَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرِكَةِ يَتَبَادَرُ كُلٌّ مِنْهُمْ إلَيْهِ خِيفَةَ الْفَوْتِ فَيُرَخِّصُ الْأَجْرَ قَالَ ( وَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ ) لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْمِلْكِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَأُجْرَةِ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ وَنَفَقَةِ الْمَمْلُوكِ الْمُشْتَرَكِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِالتَّمْيِيزِ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَرُبَّمَا يَصْعُبُ الْحِسَابُ بِالنَّظَرِ إلَى الْقَلِيلِ ، وَقَدْ يَنْعَكِسُ الْأَمْرُ فَيَتَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ فَيَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِأَصْلِ التَّمْيِيز ، بِخِلَافِ حَفْرِ الْبِئْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ مُقَابَلٌ بِنَقْلِ التُّرَابِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ ، وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ إنْ كَانَ لِلْقِسْمَةِ قِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْقِسْمَةِ فَالْأَجْرُ مُقَابَلٌ بِعَمَلِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَهُوَ يَتَفَاوَتُ وَهُوَ الْعُذْرُ لَوْ أُطْلِقَ وَلَا يُفَصَّلُ وَعَنْهُ أَنَّهُ عَلَى الطَّالِبِ دُونَ الْمُمْتَنِعِ لِنَفْعِهِ وَمَضَرَّةِ الْمُمْتَنِعِ قَالَ .
( وَإِذَا حَضَرَ الشُّرَكَاءُ عِنْدَ الْقَاضِي وَفِي أَيْدِيهِمْ دَارٌ أَوْ ضَيْعَةٌ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ وَرِثُوهَا عَنْ فُلَانٍ لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى
مَوْتِهِ وَعَدَدِ وَرَثَتِهِ وَقَالَ صَاحِبَاهُ : يَقْسِمُهَا بِاعْتِرَافِهِمْ ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِقَوْلِهِمْ وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مَا سِوَى الْعَقَارِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مِيرَاثٌ قَسَمَهُ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، وَلَوْ ادَّعَوْا فِي الْعَقَارِ أَنَّهُمْ اشْتَرَوْهُ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ ) لَهُمَا أَنَّ الْيَدَ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْإِقْرَارَ أَمَارَةُ الصِّدْقِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ الْمَوْرُوثِ وَالْعَقَارِ الْمُشْتَرَى ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُنْكِرَ وَلَا بَيِّنَةَ إلَّا عَلَى الْمُنْكِرِ فَلَا يُفِيدُ ، إلَّا أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا بِإِقْرَارِهِمْ لِيَقْتَصِرَ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ وَلَهُ أَنْ يَقْسِمَ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ إذْ التَّرِكَةُ مُبْقَاةٌ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، حَتَّى لَوْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قَبْلَهَا تُنَفَّذُ وَصَايَاهُ فِيهَا وَتُقْضَى دُيُونُهُ مِنْهَا ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ قَضَاءً عَلَى الْمَيِّتِ فَالْإِقْرَارُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُفِيدٌ ، لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمُورِثِ .
وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ كَمَا فِي الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِ ، بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ نَظَرًا لِلْحَاجَةِ إلَى الْحِفْظِ أَمَّا الْعَقَارُ فَمُحْصَنٌ بِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَنْقُولَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي يَدِهِ ، وَلَا كَذَلِكَ الْعَقَارُ عِنْدَهُ ، وَبِخِلَافِ الْمُشْتَرَى لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَقْسِمْ فَلَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً عَلَى الْغَيْرِ قَالَ ( وَإِنْ ادَّعَوْا الْمِلْكَ وَلَمْ يَذْكُرُوا كَيْفَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ قَسَمَهُ بَيْنَهُمْ ) لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَيْرِ ، فَإِنَّهُمْ مَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِمْ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ رِوَايَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ .
S( قَوْلُهُ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : ذِكْرُ الْأَمَانَةِ بَعْدَ الْعَدَالَةِ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ لَوَازِمِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرِ الْأَمَانَةِ انْتَهَى .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ ثُمَّ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ وَرَدَّ هَذَا التَّوْجِيهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْوِقَايَةِ ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْوِقَايَةِ لَمَّا اكْتَفَى بِقَوْلِهِ وَيَجِبُ كَوْنُهُ عَدْلًا عَالِمًا بِهَا قَالَ ذَلِكَ الْبَعْضُ لَمْ يَقُلْ عَدْلًا مَأْمُونًا عَالِمًا بِهَا كَمَا وَقَعَ فِي الْهِدَايَةِ ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ مِنْ لَوَازِمِ الْعَدَالَةِ وَقَالَ : وَالتَّوْجِيهُ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ظَاهِرِ الْأَمَانَةِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكِفَايَةِ لَيْسَ بِتَامٍّ ، لِأَنَّ ظُهُورَ الْعَدَالَةِ يَسْتَلْزِمُ ظُهُورَهَا كَمَا لَا يَخْفَى ا هـ ، أَقُولُ : الْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ نَفْسُ الْعَدَالَةِ لَا ظُهُورُهَا ، فَاسْتِلْزَامُ ظُهُورِهَا ظُهُورَ الْأَمَانَةِ لَا يَقْتَضِي اسْتِدْرَاكَ ذِكْرِ الْأَمَانَةِ الْمُرَادِ بِهَا ظُهُورُهَا فَإِنْ قُلْت : فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْعَدَالَةِ ظُهُورُهَا كَمَا أُرِيدَ فِي الْأَمَانَةِ حَتَّى يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ الْعَدَالَةِ عَنْ ذِكْرِ الْأَمَانَةِ بِالْكُلِّيَّةِ قُلْت : إرَادَةُ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ مِنْ لَفْظِ الْعَدَالَةِ خِلَافُ الظَّاهِرِ لَا تُفْهَمُ مِنْ لَفْظِهَا وَحْدَهُ بِدُونِ الْقَرِينَةِ ، وَأَمَّا إرَادَةُ ظُهُورِ الْأَمَانَةِ مِنْ لَفْظِ الْأَمَانَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْكِتَابِ فَبِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِ الْعَدَالَةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْسِ الْأَمَانَةِ نَعَمْ لَوْ قَالَ فِي الْكِتَابِ ابْتِدَاءً ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ بَدَلَ قَوْلِهِ عَدْلًا لَحَصَلَ الْغِنَى عَنْ ذِكْرِ الْأَمَانَةِ ، لَكِنَّ مُرَادَ هَؤُلَاءِ الشُّرَّاحِ تَوْجِيهُ الْعِبَارَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الْكِتَابِ لَا نَفْيُ مَجَالِ إفَادَةِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ هَاهُنَا بِعِبَارَةٍ أَخَصْرَ مِمَّا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ مُفِيدٌ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمُورِثِ وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ
بِإِقْرَارِهِ كَمَا فِي الْوَارِثِ أَوْ الْوَصِيِّ الْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَعَ إقْرَارِهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّةَ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا وَالْآخَرُ بِكَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَكِلَاهُمَا مَجْهُولٌ ، بِخِلَافِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ لِتَعَيُّنِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُنَاكَ وَجَوَابُهُ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَالَ لَا أَقْسِمُ حَتَّى تُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمَوْتِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ هُمْ يَجْعَلُونَ أَحَدَهُمْ مُدَّعِيًا لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمْ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَا اسْتِشْكَالَهُ شَيْءٌ وَلَا جَوَابَهُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّعْيِينِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْمَقَامِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِهِمْ فَتَرْتَفِعَ الْجَهَالَةُ بِتَعْيِينِهِ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : فَالْقَاضِي يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ وَيَقْسِمُ الدَّارَ وَيَجْعَلُ أَحَدَ الْحَاضِرَيْنِ مُدَّعِيًا وَالْآخَرَ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، عَلَى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ الْحَاضِرِينَ صُلُوحًا لَأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا فِي دَعْوَى حَقِّ نَفْسِهِ عَلَى الْآخَرِ وَمُدَّعًى عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْآخَرِ حَقَّهُ عَلَيْهِ ، فَكُلٌّ مِنْهُمْ يَصِيرُ مُدَّعِيًا وَمُدَّعًى عَلَيْهِ مِنْ حَيْثِيَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ فَلَا تُتَوَهَّمُ الْجَهَالَةُ حِينَئِذٍ أَصْلًا .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنْ يَتَوَقَّفَ اسْتِمَاعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ وَقِسْمَةُ الدَّرَاهِمِ بَيْنَهُمْ عَلَى جَعْلِهِمْ أَحَدَهُمْ عَلَى التَّعْيِينِ مُدَّعِيًا وَلَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ وَلَمْ يُرَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْكُتُبِ ، فَإِنَّهُمْ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَعْنَى الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْلَمُوا مِثْلَ هَذِهِ الدَّقِيقَةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ انْتِصَابِ الْوَرَثَةِ خُصَمَاءَ عَنْ الْمُورِثِ يَقْسِمُ الْقَاضِي الدَّارَ بَيْنَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ
بَعْدَ أَنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِ الْمُورِثِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ بِأَسْرِهَا
( وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَرْضٌ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَرَادَا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُمَا ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا ثُمَّ قِيلَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقِيلَ قَوْلُ الْكُلِّ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحِفْظِ فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِهِ وَلَا مِلْكَ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ قَالَ ( وَإِذَا حَضَرَ وَارِثَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَالدَّارُ فِي أَيْدِيهمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهَا الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحَاضِرِينَ وَيُنَصِّبُ وَكِيلًا يَقْبِضُ نَصِيبَ الْغَائِبِ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَائِبِ صَبِيٌّ يَقْسِمُ وَيُنَصِّبُ وَصِيًّا يَقْبِضُ نَصِيبَهُ ) لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُ أَيْضًا خِلَافًا لَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ ( وَلَوْ كَانُوا مُشْتَرِينَ لَمْ يَقْسِمْ مَعَ غَيْبَةِ أَحَدِهِمْ ) وَالْفَرْقُ أَنْ مِلْكَ الْوَارِثِ مِلْكُ خِلَافَةٍ حَتَّى يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُورِثُ أَوْ بَاعَ وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ الْمُورِثِ فَانْتَصَبَ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَالْآخَرُ عَنْ نَفْسِهِ فَصَارَتْ الْقِسْمَةُ قَضَاءً بِحَضْرَةِ الْمُتَخَاصِمِينَ .
أَمَّا الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِالشِّرَاءِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ وَلِهَذَا لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ بَائِعِهِ فَلَا يَصْلُحُ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَوَضَحَ الْفَرْقُ ( وَإِنْ كَانَ الْعَقَارُ فِي يَدِ الْوَارِثِ الْغَائِبِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ لَمْ يُقْسَمْ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ مُودِعِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ فِي يَدِ الصَّغِيرِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِاسْتِحْقَاقِ يَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا ، وَأَمِينُ الْخَصْمِ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِيمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ، وَالْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِ الْخَصْمِ لَا
يَجُوزُ .
وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا الْفَصْلِ بَيْنَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَعَدَمِهَا هُوَ الصَّحِيحُ كَمَا أُطْلِقَ فِي الْكِتَابِ قَالَ ( وَإِنْ حَضَرَ وَارِثٌ وَاحِدٌ لَمْ يَقْسِمْ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ) لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ خَصْمَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْلُحُ مُخَاصِمًا وَمُخَاصَمًا ، وَكَذَا مُقَاسِمًا وَمُقَاسَمًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ( وَلَوْ كَانَ الْحَاضِرُ كَبِيرًا وَصَغِيرًا نَصَبَ الْقَاضِي عَنْ الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَقَسَمَ إذَا أُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ ، وَكَذَا إذَا حَضَرَ وَارِثٌ كَبِيرٌ وَمُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ فِيهَا وَطَلَبَا الْقِسْمَةَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ يَقْسِمُهُ ) لِاجْتِمَاعِ الْخَصْمَيْنِ الْكَبِيرِ عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُوصَى لَهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَكَذَا الْوَصِيُّ عَنْ الصَّبِيِّ كَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ
( قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَرْضٌ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَرَادَا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُمَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِهِمَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : أَعَادَ لَفْظَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ حَتَّى يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا مِلْكًا لِغَيْرِهِمَا ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرَا السَّبَبَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا فَيَكُونَ مِلْكًا لِلْغَيْرِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى فَيَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مَالِكِهَا فَلَا يَقْسِمُ احْتِيَاطًا انْتَهَى أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مَالِكِهَا غَيْرَ مُفِيدٍ هَاهُنَا ، بَلْ هُوَ مُخِلٌّ بِالْمَقَامِ لِأَنَّ ذَاكَ الْأَصْلَ : أَعْنِي كَوْنَ الْأَمْلَاكِ فِي يَدِ مَالِكِهَا يُرَجِّحُ كَوْنَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا مِلْكًا لَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ بِدُونِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، مَعَ أَنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنْ لَا يَقْسِمَ بِدُونِهَا كَمَا تَرَى ، فَالصَّوَابُ أَنْ يَتْرُكَ تِلْكَ الْمُقَدَّمَةَ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي بَيَانِ وَجْهِ رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ كَمَا مَرَّتْ مِنْ قَبْلُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فَإِنَّهُمَا لَمَّا لَمْ يَذْكُرَا السَّبَبَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا إلَى آخِرِهِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، بَلْ الْمُحْتَمَلُ هُنَا أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا لَا إرْثًا وَلَا شِرَاءً ، كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لَهُمَا لَتَعَرَّضَا لَهُ ، وَبِهِ يَظْهَرُ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَإِنَّ فِي الْأُولَى ادَّعَوْا الْمِلْكَ انْتَهَى .
أَقُولُ : يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْمُحْتَمَلَ هُنَا أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا أَصْلًا لَا غَيْرُ فَهُوَ مَمْنُوعٌ وَقَوْلُهُ
كَيْفَ وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لَهُمَا لَتَعَرَّضَا لَهُ غَيْرُ تَامٍّ ، فَإِنَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِشَيْءٍ لَا يُنَافِي احْتِمَالَهُ فِي الْوَاقِعِ ، وَإِنَّمَا يُنَافِي تَقَرُّرَهُ وَتَعَيُّنَهُ كَيْفَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمِلْكِ لَهُمَا احْتِمَالٌ أَصْلًا لَمَا جَازَ اسْتِمَاعُ الْبَيِّنَةِ لَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ هُنَا فَهُوَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصِحَّةِ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا وَأَنْ يَكُونَ مُشْتَرًى يَكْفِي فِي أَنْ لَا يَقْسِمَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ احْتِيَاطًا ثُمَّ إنَّ هَذَا كُلَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِدْرَاكِ قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَكُونَ الْأَمْلَاكُ فِي يَدِ مَالِكِهَا لِإِخْلَالِهِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا .
وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ اعْتِبَارِهِ فِي تَعْلِيلِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ كَمَا فَعَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فَيَسْقُطَ جِدًّا مَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ مِنْ احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مِلْكًا لَهُمَا أَصْلًا لِدَلَالَةِ ثُبُوتِ أَيْدِيهِمَا عَلَى أَنَّ مَا فِيهَا مِلْكٌ لَهُمَا ، وَيَكُونُ سَبَبُ عَدَمِ تَعَرُّضِهِمَا لِكَوْنِهِ مِلْكًا لَهُمَا هُوَ الِاعْتِمَادُ عَلَى دَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَتَدَبَّرْ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ قَوْلُ الْكُلِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ ، لِأَنَّ قِسْمَةَ الْحِفْظِ فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَقِسْمَةَ الْمَلِكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِهِ وَلَا مِلْكَ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ ) يَعْنِي أَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ : قِسْمَةٌ لِحَقِّ الْمِلْكِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَقِسْمَةٌ لِحَقِّ الْيَدِ لِأَجْلِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ ، وَالثَّانِي فِي الْعَقَارِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَتَعَيَّنَ قِسْمَةُ الْمِلْكِ وَقِسْمَةُ الْمِلْكِ تَفْتَقِرُ إلَى قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ فَامْتَنَعَ الْجَوَازُ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ فِيمَا إذَا
ادَّعَوْا الشِّرَاءَ أَيْضًا فِي الْعَقَارِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِيهِ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَيَقْتَضِي أَيْضًا أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا فِيمَا إذَا ادَّعَوْا الْإِرْثَ فِي الْعَقَارِ وَمَعَ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَيْضًا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ بِجَوَازِهَا فِيهِ بِمُجَرَّدِ اعْتِرَافِهِمْ ثُمَّ أَقُولُ : يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ وَلَا مِلْكَ مَا حَمَلَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا مِلْكَ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ لِانْتِقَاضِهِ بِصُورَةِ ادِّعَائِهِمْ الشِّرَاءَ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ ، وَبِصُورَةِ ادِّعَائِهِمْ الْإِرْثَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِهِمَا كَمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا مِلْكَ فِي دَعْوَاهُمَا : أَيْ لَمْ يَدَّعِيَا الْمِلْكَ وَلَمْ يَتَعَرَّضَا لَهُ أَصْلًا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، بَلْ إنَّمَا ادَّعَيَا أَنَّهَا فِي أَيْدِيهِمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا مَرَّ مِنْ رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا هُنَاكَ صَرِيحَ الْمِلْكِ فَافْتَرَقَتَا فَحِينَئِذٍ لَا انْتِقَاضَ بِالصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لِأَنَّهُمْ ادَّعَوْا فِيهِمَا سَبَبَ الْمِلْكِ مِنْ الْإِرْثِ أَوْ الشِّرَاءِ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ حَيْثُ قَالَ : قِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ فَمَوْضُوعُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ ابْتِدَاءً وَمَوْضُوعُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِيمَا إذَا ادَّعَيَا الْيَدَ ابْتِدَاءً ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا ادَّعَيَا الْمِلْكَ ابْتِدَاءً وَالْيَدُ ثَابِتَةٌ وَمَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ مَا لَمْ يُنَازِعْهُ غَيْرُهُ ، إذْ الْأَصْلُ أَنَّ الْأَمْلَاكَ فِي يَدِ الْمُلَّاكِ فَيُعْتَبَرُ هَذَا الظَّاهِرُ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مِلْكَ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ احْتِمَالٌ بِلَا دَلِيلٍ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ، أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الْيَدَ
وَأَعْرَضَا عَنْ ذِكْرِ الْمِلْكِ مَعَ حَاجَتِهِمَا إلَى بَيَانِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُمَا طَلَبَا الْقِسْمَةَ مِنْ الْقَاضِي وَالْقِسْمَةُ فِي الْعَقَارِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْمِلْكِ ، فَلَمَّا سَكَتُوا عَنْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَيْسَ لَهُمَا فَتَأَكَّدَ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ السَّابِقُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِيَزُولَ هَذَا الِاحْتِمَالُ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِمَا ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ فَتَبَصَّرْ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ بِاسْتِحْقَاقِ يَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا ) يَعْنِي أَنَّ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ عَنْهُمَا ، كَذَا التَّقْرِيرُ فِي الْكَافِي وَالْمَبْسُوطِ أَقُولُ : فِي هَذَا التَّعْلِيلِ شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الْعَقَارُ كُلُّهُ فِي يَدِ الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ ، أَوْ كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ زَائِدٌ قَدْرُهُ عَلَى حِصَّةِ الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ مِنْ الْمِيرَاثِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا كَانَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا مِنْ الْعَقَارِ شَيْءٌ يُسَاوِي قَدْرُهُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ الْمِيرَاثِ أَوْ يَصِيرُ أَقَلَّ مِنْهَا فَلَا يَتَمَشَّى فِيهَا ذَلِكَ التَّعْلِيلُ ، إذْ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ أَوْ الصَّغِيرِ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ عَنْ يَدِهِ بَلْ يَلْزَمُ إبْقَاءُ مَا كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى يَدِهِ فِي صُورَةِ التَّسَاوِي وَزِيَادَةُ شَيْءٍ عَلَيْهِ مِمَّا فِي يَدِ الْحَاضِرِينَ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي عَدَمِ وُقُوعِ ذِكْرٍ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ ، فَإِنَّ هَذَا الْقَيْدَ فِي وَضْعِهَا مِنْ زِيَادَةِ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ فَتَأَمَّلْ
فَصْلٌ فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ قَالَ ( وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ قَسَمَ بِطَلَبِ أَحَدِهِمْ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ حَقٌّ لَازِمٌ فِيمَا يَحْتَمِلُهَا عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ ( وَإِنْ كَانَ يَنْتَفِعُ أَحَدُهُمْ وَيَسْتَضِرُّ بِهِ الْآخَرُ لِقِلَّةِ نَصِيبِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْكَثِيرِ قَسَمَ ، وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ لَمْ يَقْسِمْ ) لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْتَفِعُ بِهِ فَيُعْتَبَرَ طَلَبُهُ ، وَالثَّانِي مُتَعَنِّتٌ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ عَلَى قَلْبِ هَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ يُرِيدُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ وَالْآخَرُ يَرْضَى بِضَرَرِ نَفْسِهِ وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ أَيَّهمَا طَلَبَ الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي ، وَالْوَجْهُ انْدَرَجَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَالْأَصَحُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْأَوَّلُ ( وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَضِرُّ لِصِغَرِهِ لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ) لِأَنَّ الْجَبْرَ عَلَى الْقِسْمَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ ، وَفِي هَذَا تَفْوِيتُهَا ، وَتَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَهُمَا أَعْرَفُ بِشَأْنِهِمَا .
أَمَّا الْقَاضِي فَيَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ قَالَ ( وَيُقْسَمُ الْعُرُوض إذَا كَانَتْ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ) لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَتَّحِدُ الْمَقْصُودُ فَيَحْصُلَ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَالتَّكْمِيلُ فِي الْمَنْفَعَةِ ( وَلَا يَقْسِمُ الْجِنْسَيْنِ بَعْضَهُمَا فِي بَعْضٍ ) لِأَنَّهُ لَا اخْتِلَاطَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ فَلَا تَقَعُ الْقِسْمَةُ تَمْيِيزًا بَلْ تَقَعُ مُعَاوَضَةً ، وَسَبِيلُهَا التَّرَاضِي دُونَ جَبْرِ الْقَاضِي ( وَيَقْسِمُ كُلَّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالْإِبِلِ بِانْفِرَادِهَا وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَلَا يَقْسِمُ شَاةً وَبَعِيرًا وَبِرْذَوْنًا وَحِمَارًا وَلَا يَقْسِمُ الْأَوَانِيَ ) لِأَنَّهَا بِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ الْتَحَقَتْ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ (
وَيَقْسِمُ الثِّيَابَ الْهَرَوِيَّةَ ) لِاتِّحَادِ الصِّنْفِ ( وَلَا يَقْسِمُ ثَوْبًا وَاحِدًا ) لِاشْتِمَالِ الْقِسْمَةِ عَلَى الضَّرَرِ إذْ هِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْقَطْعِ ( وَلَا ثَوْبَيْنِ إذَا اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهُمَا ) لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ إذَا جُعِلَ ثَوْبٌ بِثَوْبَيْنِ أَوْ ثَوْبٌ وَرُبْعُ ثَوْبٍ بِثَوْبٍ وَثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ ثَوْبٍ لِأَنَّهُ قِسْمَةُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ جَائِزٌ .
( وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَقْسِمُ الرَّقِيقَ وَالْجَوَاهِرَ ) لِتَفَاوُتِهِمَا ( وَقَالَا : يَقْسِمُ الرَّقِيقَ ) لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَرَقِيقِ الْمَغْنَمِ وَلَهُ أَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْآدَمِيِّ فَاحِشٌ لِتَفَاوُتِ الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ فَصَارَ كَالْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَقِلُّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ وَمِنْ الْحَيَوَانَاتِ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ الْمَغَانِمِ لِأَنَّ حَقَّ الْغَانِمِينَ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ بَيْعُهَا وَقِسْمَةُ ثَمَنِهَا وَهُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ جَمِيعًا فَافْتَرَقَا وَأَمَّا الْجَوَاهِرُ فَقَدْ قِيلَ إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ لَا يَقْسِمُ كَاللَّآلِئِ وَالْيَوَاقِيتِ وَقِيلَ لَا يَقْسِمُ الْكِبَارَ مِنْهَا لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ ، وَيَقْسِمُ الصِّغَارَ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ .
وَقِيلَ يَجْرِي الْجَوَابُ عَلَى إطْلَاقِهِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجَوَاهِرِ أَفْحَشُ مِنْ جَهَالَةِ الرَّقِيقِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى لُؤْلُؤَةٍ أَوْ يَاقُوتَةٍ أَوْ خَالَعَ عَلَيْهَا لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ ، وَيَصِحُّ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ فَأَوْلَى أَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الْقِسْمَةِ .
فَصْلٌ فِيمَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ ) لَمَّا تَنَوَّعَتْ مَسَائِلُ الْقِسْمَةِ إلَى مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ شَرَعَ فِي بَيَانِهِمَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ ( قَوْلُهُ وَالْأَصَحُّ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ الْأَوَّلُ ) لِأَنَّ رِضَا صَاحِبِ الْقَلِيلِ بِالْتِزَامِ الضَّرَرِ لَا يُلْزِمُ الْقَاضِيَ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا الْمُلْزَمُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ مِنْ الْقَاضِي وَإِيصَالُهُ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ طَلَبِهِ الْقَلِيلَ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ ، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الذَّخِيرَةِ ، وَزَادَ عَلَيْهِ فِي النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ أَنْ يُقَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا جَمِيعًا الْقِسْمَةَ لَمْ يَقْسِمْهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الطَّالِبُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ انْتَهَى أَقُولُ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ تُخَالِفُ مَا سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَضِرُّ لِصِغَرِهِ لَمْ يَقْسِمْهَا إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُهَا عِنْدَ تَرَاضِي الشَّرِيكَيْنِ وَطَلَبِهِمَا الْقِسْمَةَ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ حَيْثُ قَالَ : وَيَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَهُمَا أَعْرَفُ بِشَأْنِهِمَا ، أَمَّا الْقَاضِي يَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ انْتَهَى ثُمَّ إنَّك لَوْ تَأَمَّلْت حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْت نَوْعًا مِنْ التَّدَافُعِ بَيْنَ أَصْلِ مَا ذَكَرُوا فِي وَجْهِ أَصَحِّيَّةِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ أَوَّلًا وَبَيْنَ ذَاكَ التَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا إلَى قَوْلِهِ أَمَّا الْقَاضِي يَعْتَمِدُ الظَّاهِرَ فَتَأَمَّلْ
قَالَ ( وَلَا يُقْسَمُ حَمَّامٌ وَلَا بِئْرٌ ، وَلَا رَحًى إلَّا بِتَرَاضِي الشُّرَكَاءِ ، وَكَذَا الْحَائِطُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ ) لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ فِي الطَّرَفَيْنِ ، إذْ لَا يَبْقَى كُلُّ نَصِيبٍ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعًا مَقْصُودًا فَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي بِخِلَافِ التَّرَاضِي لِمَا بَيَّنَّا قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ دُورٌ مُشْتَرَكَةً فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ قَسَمَ كُلَّ دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ قِسْمَةَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ قَسَمَهَا ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْأَقْرِحَةُ الْمُتَفَرِّقَةُ الْمُشْتَرِكَةُ لَهُمَا أَنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اسْمًا وَصُورَةً ، وَنَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى أَجْنَاسٌ مَعْنًى نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ ، وَوُجُوهِ السُّكْنَى فَيُفَوَّضُ التَّرْجِيحُ إلَى الْقَاضِي وَلَهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعْنَى وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالْجِيرَانِ وَالْقُرْبِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَاءِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ دَارٍ ، وَكَذَا لَوْ تَزَوَّجَ عَلَى دَارٍ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيهِمَا فِي الثَّوْبِ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ إذَا اخْتَلَفَتْ بُيُوتُهَا ، لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ كُلِّ بَيْتٍ عَلَى حِدَةٍ ضَرَرًا فَقُسِمَتْ الدَّارُ قِسْمَةً وَاحِدَةً قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَقْيِيدُ الْوَضْعِ فِي الْكِتَابِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الدَّارَيْنِ إذَا كَانَتَا فِي مِصْرَيْنِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي الْقِسْمَةِ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِلَالٍ عَنْهُمَا وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُقْسَمُ إحْدَاهُمَا فِي الْأُخْرَى وَالْبُيُوتُ فِي مُحَلَّةٍ أَوْ مَحَالٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيمَا بَيْنَهَا يَسِيرٌ ، وَالْمَنَازِلُ الْمُتَلَازِقَةُ كَالْبُيُوتِ وَالْمُتَبَايِنَةُ كَالدُّورِ لِأَنَّهُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْبَيْتِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَأَخَذَ شَبِيهًا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ قُسِمَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ ) لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : جَعَلَ الدَّارَ وَالْحَانُوتَ جِنْسَيْنِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ وَقَالَ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ : إنَّ إجَارَةَ مَنَافِعِ الدَّارِ بِالْحَانُوتِ لَا تَجُوزُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَيُجْعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ
قَوْلُهُ وَلَا يُقْسَمُ حَمَّامٌ وَلَا بِئْرٌ وَلَا رَحًى إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ الْجَبْرَ فِي الْقِسْمَةِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْتِفَاءِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا بِأَنْ يَبْقَى نَصِيبُ كُلٍّ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ مُنْتَفَعًا بِهِ انْتِفَاعَ ذَلِكَ الْجِنْسِ وَفِي قِسْمَةِ الْحَمَّامِ وَالْبِئْرِ وَالرَّحَى ضَرَرٌ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يُقْسَمُ إلَّا بِالتَّرَاضِي انْتَهَى أَقُولُ : تَقْرِيرُ الْأَصْلِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ إذَا كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ يَنْتَفِعُ بِنَصِيبِهِ وَالْآخَرُ يَسْتَضِرُّ بِنَصِيبِهِ لِقِلَّتِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْسِمُ بِطَلَبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ فَقَطْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَصَحِّ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ ، وَبِطَلَبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ فَقَطْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَلَى الْجَصَّاصُ ، وَبِطَلَبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ يُنْتَقَضُ ذَلِكَ التَّقْرِيرُ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ فَالصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الضَّرَرِ فِي الطَّرَفَيْنِ إلَخْ أَنْ يُقْتَصَرَ فِي بَيَانِ أَصْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى لُزُومِ الضَّرَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ ، وَيُجْعَلَ ذَلِكَ مَدَارًا لِعَدَمِ الْجَبْرِ فِي الْقِسْمَةِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ قُسِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ : جَعَلَ الدَّارَ وَالْحَانُوتَ جِنْسَيْنِ ، وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ .
وَقَالَ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ : إنَّ إجَارَةَ مَنَافِعِ الدَّارِ بِالْحَانُوتِ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَيُجْعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ .
وَاسْتَشْكَلَ التَّوْجِيهَ الثَّانِيَ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَقِيلَ هُمَا مُخْتَلِفَانِ جِنْسًا
رِوَايَةً وَاحِدَةً ، وَالْفَسَادُ ثَمَّةَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ بِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ مَنْفَعَتِهِمَا وَهُوَ السُّكْنَى ، كَذَا ذَكَرَهُ فِي الْهِدَايَةِ ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ النَّازِلَةِ عَنْهَا .
وَقَدْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ ، إلَى هُنَا كَلَامُ صَاحِبِ الْكَافِي وَأَوْضَحَ إشْكَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ثُمَّ أَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : وَاسْتَشْكَلَ كَلَامُهُ هَذَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ إذَا اتَّحَدَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُبَادَلَةِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً ، وَبِالْجِنْسِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ عِنْدَنَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي ذَلِكَ شُبْهَةُ الرِّبَا ، فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ شُبْهَةُ الْجِنْسِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ الشُّبْهَةُ دُونَ النَّازِلِ عَنْهَا وَقَدْ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيُّ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَوْ يَكُونَ مِنْ مُشْكِلَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : لَا إشْكَالَ فِيهِ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةُ الثَّابِتَةُ بِهَا لِأَنَّهُ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ يَقُولُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ خَلَلٌ ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةَ الثَّابِتَةَ بِنَفْسِ الْمُجَانَسَةِ لَمَا تَمَّ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مَسْأَلَتِنَا وَمَسْأَلَةِ إجَارَاتِ الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ أَوْ تُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا هُنَالِكَ عَلَى شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ ، إذْ يَصِيرُ مَدَارُ مَسْأَلَةِ إجَارَاتِ الْأَصْلِ حِينَئِذٍ عَلَى اتِّحَادِ الدَّارِ وَالْحَانُوتِ فِي الْجِنْسِ وَمَدَارُ مَسْأَلَتِنَا عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي الْجِنْسِ قَطْعًا ، فَتَتَنَاقَضَانِ ، وَالْمُصَنِّفُ قَصَدَ التَّوْفِيقَ بِذَلِكَ فَنَشَأَ مِنْهُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ
فَكَيْفَ يَقُولُ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ ، إذْ لَمْ يَقَعْ التَّصْرِيحُ فِي إجَارَاتِ الْأَصْلِ بِأَنْ قَالَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَلَوْ وَقَعَ كَانَ الْمُرَادُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ بِحَذْفِ أَدَاةِ التَّشْبِيهِ عَلَى مَا عُرِفَ فَلَا يُنَافِي الْقَوْلَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ كَمَا لَا يَخْفَى ؛ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِشُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ الشُّبْهَةُ الثَّابِتَةُ بِهَا : يَعْنِي أَنَّهُمَا مُتَّحِدَا الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى فَتُبْنَى حُرْمَةُ الرِّبَا عَلَيْهِ وَمُخْتَلِفَاهُ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَقِيمٍ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ مَعَ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَفَادٍ مِنْ عِبَارَةِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ أَصْلًا لَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ هَاهُنَا أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ ، إذْ حَاصِلُهُ أَنَّ اتِّحَادَهُمَا فِي الْجِنْسِ غَيْرُ مُقَرَّرٍ ، بَلْ هُنَاكَ شَبَّهَا الِاتِّحَادَ وَالِاخْتِلَافَ فِي الْجِنْسِ مِنْ جِهَتَيْنِ فَكَانَ فِي الْجِنْسِيَّةِ شُبْهَةٌ فَيَئُولَ بِنَاءُ حُرْمَةِ الرِّبَا عَلَى ذَلِكَ إلَى اعْتِبَارِ شُبْهَةِ الشُّبْهَةِ كَمَا عَرَفْت فِيمَا مَرَّ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ اتِّحَادِ الْجِنْسِ نَظَرًا إلَى أَصْلِ السُّكْنَى وَاخْتِلَافِهِ نَظَرًا إلَى اخْتِلَافِ الْمَقَاصِدِ مُتَحَقِّقٌ فِي الدُّورِ الْمُشْتَرَكَةِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ أَيْضًا ، فَبِنَاءً عَلَى أَصْلِ ذَلِكَ خَالَفَ أَبَا حَنِيفَةَ صَاحِبَاهُ هُنَاكَ فَقَالَا : إنْ كَانَ الْأَصْلَحُ لَهُمْ قِسْمَةَ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ قَسَمَهَا الْقَاضِي كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ فِي مَسْأَلَتِنَا مَا ذُكِرَ لَمَا وَافَقَ الْإِمَامَانِ أَبَا حَنِيفَةَ هَاهُنَا فِي وُجُوبِ قِسْمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَاتِّفَاقُهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ كَوْنِهِ مُتَفَهِّمًا مِنْ عَدَمِ بَيَانِ الْخِلَافِ فِيهَا فِي الْكِتَابِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي
الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : أَمَّا دَارٌ وَضِيعَةٌ أَوْ دَارٌ وَحَانُوتٌ فَلَا يُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ يُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ انْتَهَى
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ قَالَ ( وَيَنْبَغِي لِلْقَاسِمِ أَنْ يُصَوِّرَ مَا يَقْسِمُهُ ) لِيُمْكِنَهُ حِفْظُهُ ( وَيَعْدِلَهُ ) يَعْنِي يُسَوِّيَهُ عَلَى سِهَامِ الْقِسْمَةِ وَيُرْوَى يَعْزِلَهُ : أَيْ يَقْطَعَهُ بِالْقِسْمَةِ عَنْ غَيْرِهِ ( وَيَذْرَعَهُ ) لِيَعْرِفَ قَدْرَهُ ( وَيُقَوِّمَ الْبِنَاءَ ) لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ ( وَيَفْرِزَ كُلَّ نَصِيبٍ عَنْ الْبَاقِي بِطَرِيقِهِ وَشُرْبِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِنَصِيبِ بَعْضِهِمْ بِنَصِيبِ الْآخَرِ تَعَلُّقٌ ) فَتَنْقَطِعَ الْمُنَازَعَةُ وَيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقِسْمَةِ عَلَى التَّمَامِ ( ثُمَّ يُلَقِّبَ نَصِيبًا بِالْأَوَّلِ ، وَاَلَّذِي يَلِيهِ بِالثَّانِي وَالثَّالِثُ عَلَى هَذَا ثُمَّ يُخْرِجَ الْقُرْعَةَ ، فَمَنْ خَرَجَ اسْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ ، وَمَنْ خَرَجَ ثَانِيًا فَلَهُ السَّهْمُ الثَّانِي ) وَالْأَصْلُ أَنْ يَنْظُرَ فِي ذَلِكَ إلَى أَقَلِّ الْأَنْصِبَاءِ ، حَتَّى إذَا كَانَ الْأَقَلُّ ثُلُثًا جَعَلَهَا أَثْلَاثًا ، وَإِنْ كَانَ سُدُسًا جَعَلَهَا أَسْدَاسًا لِتَمَكُّنِ الْقِسْمَةِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ مُشَبَّعًا فِي كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ : وَيَفْرِزَ كُلَّ نَصِيبٍ بِطَرِيقِهِ وَشُرْبِهِ بَيَانُ الْأَفْضَلِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ جَازَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بِتَفْصِيلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمِيلِ ، حَتَّى لَوْ عَيَّنَ لِكُلٍّ مِنْهُمْ نَصِيبًا مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ جَازَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقَضَاءِ فَيَمْلِكَ الْإِلْزَامَ .
قَالَ ( وَلَا يَدْخُلُ فِي الْقِسْمَةِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالْقِسْمَةُ مِنْ حُقُوقِ الِاشْتِرَاكِ ) ، وَلِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ التَّعْدِيلُ فِي الْقِسْمَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَصِلُ إلَى عَيْنِ الْعَقَارِ وَدَرَاهِمُ الْآخَرِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَعَلَّهَا لَا تُسَلَّمُ لَهُ ( وَإِذَا كَانَ أَرْضٌ وَبِنَاءٌ ؛ فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقْسِمُ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ
الْمُعَادَلَةِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْأَرْضَ بِالْمَسَّاحَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمَمْسُوحَاتِ ، ثُمَّ يَرُدُّ مَنْ وَقَعَ الْبِنَاءُ فِي نَصِيبِهِ أَوْ مَنْ كَانَ نَصِيبُهُ أَجْوَدَ دَرَاهِمَ عَلَى الْآخَرِ حَتَّى يُسَاوِيَهُ فَتَدْخُلَ الدَّرَاهِمُ فِي الْقِسْمَةِ ضَرُورَةً كَالْأَخِ لَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الْمَالِ ، ثُمَّ يَمْلِكُ تَسْمِيَةَ الصَّدَاقِ ضَرُورَةَ التَّزْوِيجِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى شَرِيكِهِ بِمُقَابَلَةِ الْبِنَاءِ مَا يُسَاوِيهِ مِنْ الْعَرْصَةِ ، وَإِذَا بَقِيَ فَضْلٌ وَلَمْ يُمْكِنْ تَحْقِيقُ التَّسْوِيَةِ بِأَنْ كَانَ لَا تَفِي الْعَرْصَةُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَحِينَئِذٍ يُرَدُّ لِلْفَضْلِ دَرَاهِمُ ، لِأَنَّ الضَّرُورَةَ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ إلَّا بِهَا .
وَهَذَا يُوَافِقُ رِوَايَةَ الْأَصْلِ قَالَ ( فَإِنْ قَسَمَ بَيْنَهُمْ وَلِأَحَدِهِمْ مَسِيلٌ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَوْ طَرِيقٌ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقِسْمَةِ ) ، فَإِنْ أَمْكَنَ صَرْفُ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَطْرِقَ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ( وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فُسِخَتْ الْقِسْمَةُ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مُخْتَلَّةٌ لِبَقَاءِ الِاخْتِلَاطِ فَتُسْتَأْنَفَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ حَيْثُ لَا يَفْسُدُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَمَلُّكُ الْعَيْنِ ، وَأَنَّهُ يُجَامَعُ تَعَذُّرُ الِانْتِفَاعِ فِي الْحَالِ ، أَمَّا الْقِسْمَةُ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّرِيقِ ، وَلَوْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ الْإِفْرَازُ وَالتَّمْيِيزُ ، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ تَعَلُّقٌ بِنَصِيبِ الْآخَرِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَحْقِيقُهُ بِصَرْفِ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فَيُصَارَ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ الْحُقُوقُ حَيْثُ يَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَ لَهُ مِنْ الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ ، لِأَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْبَيْعِ وَهُوَ
التَّمْلِيكُ مَعَ بَقَاءِ هَذَا التَّعَلُّقِ بِمِلْكِ غَيْرِهِ وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَدْخُلُ فِيهَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فَيَدْخُلَ عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَفِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَذَلِكَ بِانْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، فَبِاعْتِبَارِهِ لَا يَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ حَيْثُ يَدْخُلُ فِيهَا بِدُونِ التَّنْصِيصِ ، لِأَنَّ كُلَّ الْمَقْصُودِ الِانْتِفَاعُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِدْخَالِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ فَيَدْخُلَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ( وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي رَفْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ فِي الْقِسْمَةِ ، إنْ كَانَ يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ طَرِيقٌ يَفْتَحُهُ فِي نَصِيبِهِ قَسَمَ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ يُرْفَعُ لِجَمَاعَتِهِمْ ) لِتَحَقُّقِ الْإِفْرَازِ بِالْكُلِّيَّةِ دُونَهُ .
( وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ رَفَعَ طَرِيقًا بَيْنَ جَمَاعَتِهِمْ ) لِيَتَحَقَّقَ تَكْمِيلُ الْمَنْفَعَةِ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ ( وَلَوْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ جُعِلَ عَلَى عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ ) لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَنْدَفِعُ بِهِ ( وَالطَّرِيقُ عَلَى سِهَامِهِمْ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِيمَا وَرَاءَ الطَّرِيقِ لَا فِيهِ ( وَلَوْ شَرَطُوا أَنْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا جَازَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الدَّارِ نِصْفَيْنِ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى التَّفَاضُلِ جَائِزَةٌ بِالتَّرَاضِي .
( فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا يُقْسَمُ ، لِأَنَّ الْكَيْفِيَّةَ صِفَةٌ فَتَتْبَعْ جَوَازَ أَصْلِ الْقِسْمَةِ الَّذِي هُوَ الْمَوْصُوفُ ( قَوْلُهُ وَالْقُرْعَةُ لِتَطْيِيبِ الْقُلُوبِ وَإِزَاحَةِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : هَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهَا لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ وَالْقِمَارُ حَرَامٌ ، وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ عُلَمَاؤُنَا اسْتِعْمَالَهَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ وَتَعْيِينِ الْعِتْقِ أَوْ الْمُطَلَّقَةِ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ هَاهُنَا بِالسُّنَّةِ وَالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى الْقِمَارِ ، لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْقِمَارِ يَتَعَلَّقُ بِمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَتَعَلَّقُ أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ ، لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَوْ قَالَ أَنَا عَدَلْت فِي الْقِسْمَةِ فَخُذْ أَنْتَ هَذَا الْجَانِبَ وَأَنْتَ ذَاكَ الْجَانِبَ ، كَانَ مُسْتَقِيمًا إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يُتَّهَمُ فِي ذَلِكَ فَيَسْتَعْمِلَ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ، أَلَا يَرَى أَنَّ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَلَكِنْ لَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ رُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ فَاسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ مَعَ الْأَحْبَارِ فِي ضَمِّ مَرْيَمَ إلَى نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمْ لِكَوْنِ خَالَتِهَا عِنْدَهُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى { إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِعُ بَيْنَ نِسَائِهِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ } ، انْتَهَى كَلَامُهُمْ وَعَزَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَذَا التَّفْصِيلَ إلَى الْمَبْسُوطِ أَقُولُ : بَيْنَ أَوَّلِ كَلَامِهِمْ هَذَا وَآخِرِهِ تَدَافُعٌ ، لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا أَوَّلًا بِأَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ هَاهُنَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ .
وَقَالُوا آخِرًا إنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ ، وَبَيَّنُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِمَارِ ، وَذَكَرُوا وُرُودَ نَظَائِرَ لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَقَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ أَصْلًا بَلْ هُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ أَيْضًا فَتَدَافَعَا
قَالَ ( وَإِذَا كَانَ سُفْلٌ لَا عُلُوَّ عَلَيْهِ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ وَسُفْلٌ لَهُ عُلُوٌّ قُوِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهِ وَقُسِمَ بِالْقِيمَةِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يُقْسَمُ بِالذَّرْعِ ؛ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ مِنْ اتِّخَاذِهِ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ سِرْدَابًا أَوْ إصْطَبْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْقِسْمَةَ بِالذَّرْعِ هِيَ الْأَصْلُ ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمَذْرُوعِ لَا فِي الْقِيمَةِ فَيُصَارَ إلَيْهِ مَا أَمْكَنَ ، وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذِرَاعٌ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ قِيلَ أَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى .
وَقِيلَ هُوَ اخْتِلَافُ مَعْنًى وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْفَعَةَ السُّفْلِ تَرْبُو عَلَى مَنْفَعَةِ الْعُلُوِّ بِضَعْفِهِ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْعُلُوِّ ، وَمَنْفَعَةُ الْعُلُوِّ لَا تَبْقَى بَعْدَ فِنَاءِ السُّفْلِ ، وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى ، وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ إذْ لَا يُمْكِنُهُ الْبِنَاءُ عَلَى عُلُوِّهِ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ ، فَيُعْتَبَرَ ذِرَاعَانِ مِنْهُ بِذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَصْلُ السُّكْنَى وَهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ ، وَالْمَنْفَعَتَانِ مُتَمَاثِلَتَانِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ عَلَى أَصْلِهِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ
بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ، وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَوْلُهُ لَا يَفْتَقِرُ إلَى التَّفْسِيرِ ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْلِ فَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ مِنْ السُّفْلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ وَمَعَهُ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ تُسَاوِي مِائَةً مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ، وَيُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا ذِرَاعٍ ، لِأَنَّ عُلُوَّهُ مِثْلُ نِصْفِ سُفْلِهِ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ ضَعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ وَتَفْسِيرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ يُجْعَلَ بِإِزَاءِ خَمْسِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ مِائَةُ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ ، وَمِائَةُ ذِرَاعٍ مِنْ الْعُلُوِّ الْمُجَرَّدِ ، لِأَنَّ السُّفْلَ وَالْعُلُوَّ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، فَخَمْسُونَ ذِرَاعًا مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ خَمْسُونَ مِنْهَا سُفْلٌ وَخَمْسُونَ مِنْهَا عُلُوٌّ قَالَ ( وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَقَاسِمُونَ وَشَهِدَ الْقَاسِمَانِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا تُقْبَلُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ أَوَّلًا ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِهِمَا وَقَاسَمَا الْقَاضِيَ وَغَيْرَهُمَا سَوَاءٌ ، لِمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ ، كَمَنْ عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ فَشَهِدَ ذَلِكَ الْغَيْرُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَهُمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى
فِعْلِ غَيْرِهِمَا وَهُوَ الِاسْتِيفَاءُ وَالْقَبْضُ لَا عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا ، لِأَنَّ فِعْلَهُمَا التَّمْيِيزُ وَلَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ مَشْهُودًا بِهِ لِمَا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ فَتُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : إذَا قَسَمَا بِأَجْرٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَإِلَيْهِ مَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ لِأَنَّهُمَا يَدَّعِيَانِ إيفَاءَ عَمَلٍ اُسْتُؤْجِرَا عَلَيْهِ فَكَانَتْ شَهَادَةً صُورَةً وَدَعْوَى مَعْنًى فَلَا تُقْبَلُ إلَّا أَنَّا نَقُولُ : هُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا لِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ عَلَى إيفَائِهِمَا الْعَمَلَ الْمُسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ التَّمْيِيزُ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ ( وَلَوْ شَهِدَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ لَا تُقْبَلُ ) لِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عَلَى الْغَيْرِ ، وَلَوْ أَمَرَ الْقَاضِي أَمِينَهُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى آخَرَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يُقْبَلُ فِي إلْزَامِ الْآخَرِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلَهُ وَإِذَا كَانَ سُفْلٌ لَا عُلُوَّ لَهُ وَعُلُوٌّ لَا سُفْلَ لَهُ وَسُفْلٌ لَهُ عُلُوٌّ إلَى آخِرِهِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ عُلُوٌّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَسُفْلُهُ لِآخَرَ وَسُفْلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ وَبَيْتٌ كَامِلٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَالْكُلُّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي دَارَيْنِ لَكِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ وَطَلَبَا مِنْ الْقَاضِي الْقِسْمَةَ وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِذَلِكَ لِئَلَّا يُقَالَ تَقْسِيمُ الْعُلُوِّ مَعَ السُّفْلِ قِسْمَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الْبُيُوتُ مُتَفَرِّقَةً لَا يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى وَقَدْ أَخَذَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ مِمَّا ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ بِأَنْ يُقَالَ : فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُقْسَمُ الْعُلُوُّ مَعَ السُّفْلِ قِسْمَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمُتَفَرِّقَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَكُنْ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ؟ قُلْنَا : مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا كَانَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْبَيْتَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ ، وَلَئِنْ كَانَا فِي دَارَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ ، وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي الْمُعَادَلَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَجُوزُ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَالَةَ الرِّضَا انْتَهَى وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا ، فَهِيَ الْمَأْخَذُ الْأَصْلِيُّ أَقُولُ : فِيهِ إشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ وَالدِّرَايَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْيِيدَ مُخَالِفٌ لِرِوَايَاتِ عَامَّةِ الْكُتُبِ ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ : وَالْبُيُوتُ فِي مَحِلٍّ أَوْ مَحَالَّ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِيهَا يَسِيرٌ انْتَهَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحَلَّةَ فَوْقَ الدَّارِ ، فَإِذَا قُسِمَتْ الْبُيُوتُ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ
قِسْمَةً وَاحِدَةً بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَأَنْ قُسِمَتْ فِي دُورٍ مُتَعَدِّدَةٍ قِسْمَةً وَاحِدَةً بِالْإِجْمَاعِ أَوْلَى كَمَا لَا يَخْفَى وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ حَيْثُ قَالَ : ثُمَّ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : الدُّورُ ، وَالْبُيُوتُ ، وَالْمَنَازِلُ فَالدُّورُ لَا تُقْسَمُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً إلَّا بِرِضَا الشُّرَكَاءِ سَوَاءً كَانَتْ مُتَبَايِنَةً أَوْ مُتَلَازِقَةً ، وَالْبُيُوتُ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً سَوَاءً كَانَتْ مُتَبَايِنَةً أَوْ مُتَلَازِقَةً ، لِأَنَّهَا لَا تَتَفَاوَتُ فِي مَعْنَى السُّكْنَى وَلِهَذَا تُؤَجَّرُ بِأُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ مَحِلَّةٍ ، وَالْمَنَازِلُ الْمُتَلَازِقَةُ كَالْبُيُوتِ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، وَالْمُتَبَايِنَةُ كَالدُّورِ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فَوْقَ الْبَيْتِ وَدُونَ الدَّارِ ، فَأُلْحِقَتْ الْمَنَازِلُ بِالْبُيُوتِ إذَا كَانَتْ مُتَلَازِقَةً ، وَبِالدُّورِ إذَا كَانَتْ مُتَبَايِنَةً .
وَقَالَا فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا : يَنْظُرُ الْقَاضِي إلَى أَعْدَلِ الْوُجُوهِ لِيُمْضِيَ الْقِسْمَةَ عَلَى ذَلِكَ انْتَهَى وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ حَتَّى قَالَ فِي الْعِنَايَةِ هُنَاكَ : وَالْبُيُوتُ تُقْسَمُ مُطْلَقًا لِتَقَارُبِهَا فِي مَعْنَى السُّكْنَى وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ بَيْتَانِ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَنْزِلَانِ إنْ كَانَ مُنْفَصِلَيْنِ فَهُمَا كَالدَّارَيْنِ لَا يُجْمَعُ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّهُ يُقْسَمُ كُلُّ مَنْزِلٍ قِسْمَةً عَلَى حِدَةٍ ، وَلَوْ كَانَا مُتَّصِلَيْنِ فَهُمَا كَالْبَيْتَيْنِ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ صَاحِبَاهُ : الدَّارُ وَالْبَيْتُ سَوَاءٌ وَالرَّأْيُ فِيهِ لِلْقَاضِي انْتَهَى وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا
الْبَيْتَانِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ بِالْإِجْمَاعِ مُتَّصِلَيْنِ كَانَا أَوْ مُنْفَصِلَيْنِ .
ا هـ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعْتَبَرَاتِ وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْنَةٍ أَنَّ مَدْلُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُقْسَمَ الْبَيْتَانِ أَوْ الْبُيُوتُ عِنْدَهُ قِسْمَةً وَاحِدَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالتَّرَاضِي فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي دَارَيْنِ لَكِنْ تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ تَرَاضِيَهُمَا فِيمَا بَيْنَهُمَا عَلَى قِسْمَةٍ مُعَيَّنَةٍ لَزِمَ أَنْ لَا يَسْتَقِيمَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُفَصَّلِ فِي الْكِتَابِ ، إذْ يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ حِينَئِذٍ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقِسْمَةُ عَلَى وَفْقِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ كَيْفَمَا كَانَ بِلَا خِلَافٍ مِنْ أَحَدٍ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الدُّورَ مُطْلَقًا لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ تَرَاضِي الشُّرَكَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْقِسْمَةِ تُقْسَمُ بِهَا عِنْدَهُ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ قَاطِبَةً ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالتَّرَاضِي الْمَذْكُورِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى مُجَرَّدِ الْقِسْمَةِ بِدُونِ تَعْيِينِ شَيْءٍ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ عِبَارَةِ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالذَّخِيرَةِ وَهِيَ قَوْلُهُمْ : وَلَئِنْ كَانَا فِي دَارَيْنِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ وَلَكِنْ طَلَبُوا مِنْ الْقَاضِي الْمُعَادَلَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لَمْ يُفِدْ التَّقْيِيدُ بِذَلِكَ شَيْئًا لِأَنَّهُمَا إنَّمَا تَرَاضَيَا حِينَئِذٍ عَلَى الْقِسْمَةِ الْعَادِلَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبُيُوتَ الْمُتَفَرِّقَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَهُ عَدَمُ إمْكَانِ التَّعْدِيلِ فِي قِسْمَتِهَا قِسْمَةً وَاحِدَةً كَمَا قَالَ فِي الدُّورِ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ فِيهَا فَكَيْفَ تَجُوزُ بِمُجَرَّدِ تَرَاضِيهِمَا عَلَى الْقِسْمَةِ مَعَ طَلَبِ الْمُعَادَلَةِ فِيهَا وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُرَى مَعْنًى فِقْهِيٌّ فَارَقَ بَيْنَ صُدُورِ التَّصْرِيحِ
بِالتَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْهُمَا وَعَدَمِ صُدُورِهِ ، فَمَا مَعْنَى اخْتِلَافِ جَوَابِ الْمَسْأَلَةِ فِي الصُّورَتَيْنِ فَتَأَمَّلْ ( قَوْلَهُ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ مِنْ اتِّخَاذِهِ بِئْرَ مَاءٍ أَوْ سِرْدَابًا أَوْ إصْطَبْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ ) أَقُولُ : كَانَ الظَّاهِرُ فِي التَّعْلِيلِ مِنْ قِبَلِ مُحَمَّدٍ أَنْ يُزَادَ عَلَى قَوْلِهِ إنَّ السُّفْلَ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ ، وَإِنَّ الْعُلُوَّ يَصْلُحُ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ السُّفْلُ كَدَفْعِ ضَرَرِ النَّدَى فِي مَوْضِعٍ يَكْثُرُ فِيهِ النَّدَى وَاسْتِنْشَاقُ الْهَوَاءِ الْمُلَائِمِ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ صَلَاحِيَّةِ السُّفْلِ لِمَا لَا يَصْلُحُ لَهُ الْعُلُوُّ بِدُونِ الْعَكْسِ تَقْتَضِي تَفْضِيلَ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَلَا يُنَافِي تَقْسِيمُ ذِرَاعٍ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ ، بِخِلَافِ تَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَتَفْضِيلِ الْعُلُوِّ أُخْرَى فَإِنَّهُ يُنَافِي الْقِسْمَةَ بِالذَّرْعِ أَصْلًا وَيَقْتَضِي الْمَصِيرَ إلَى الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِيَتَحَقَّقَ التَّعْدِيلُ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِيمَا سَيَأْتِي : وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا ، فَلَا يُمْكِنُ التَّعْدِيلُ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَقَالَ : وَالْفَتْوَى الْيَوْمَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ( قَوْلُهُ قِيلَ أَجَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ عَصْرِهِ أَوْ أَهْلِ بَلَدِهِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى وَقِيلَ هُوَ اخْتِلَافُ مَعْنًى ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ بِأَنَّ مَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتِلَافُ عَادَةِ أَهْلِ الْعَصْرِ وَالْبُلْدَانِ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ أَوْ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ اسْتِوَاؤُهُمَا ، أَوْ هُوَ مَعْنًى فِقْهِيٌّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَجَابَ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ
أَهْلِ عَصْرِهِ أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي اخْتِيَارِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ .
وَأَبُو يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى .
وَمُحَمَّدٌ بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِي الْبُلْدَانِ مِنْ تَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى انْتَهَى أَقُولُ : فِي أَوَائِلِ تَحْرِيرِهِ خَلَلٌ حَيْثُ قَالَ أَوْ الْعَكْسُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَكْسَ تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ تَفْضِيلُ الْعُلُوِّ عَلَى السُّفْلِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ لَيْسَ بِمَذْهَبِ أَحَدٍ فِي الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنَّمَا الْمَذْهَبُ فِيهِ تَفْضِيلُ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ مُطْلَقًا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَاسْتِوَاؤُهُمَا كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ ، وَتَفْضِيلُ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى كَمَا قَالَ بِهِ مُحَمَّدٌ ، وَلَيْسَ الثَّالِثُ بِعَكْسِ الْأَوَّلِ كَمَا لَا يَخْفَى وَلِلَّهِ دَرُّ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ فِي حُسْنِ تَحْرِيرِهِ وَإِصَابَتِهِ حَيْثُ قَالَ فِي تَفْضِيلِ السُّفْلِ عَلَى الْعُلُوِّ وَاسْتِوَائِهِمَا وَتَفْضِيلِ السُّفْلِ مَرَّةً وَالْعُلُوِّ أُخْرَى : فَأَصَابَ الْمُحَزَّ فِي إفَادَةِ عَيْنِ الْمَذَاهِبِ الثَّلَاثَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : هَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا الْمَرَافِقُ ، إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ا هـ أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ أَنَّ الْمُرَاعَى فِي نَفْسِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ ، إذْ الِاتِّحَادُ فِي الْجِنْسِ يَحْصُلُ
بِالِاتِّحَادِ فِي مَنْفَعَةِ السُّكْنَى بِدُونِ الِاحْتِيَاجِ إلَى الِاتِّحَادِ فِي الْمَرَافِقِ ، فَيُصَارَ إلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ عِنْدَ الِاتِّحَادِ فِي الْجِنْسِ مِنْ قِسْمَةِ الْعَيْنِ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَمُرَادُهُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ وَالسُّكْنَى وَفِي الْعُلُوِّ السُّكْنَى لَا غَيْرُ بَيَانُ مُرَاعَاةِ مَنْفَعَةِ غَيْرِ السُّكْنَى أَيْضًا فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ ذِرَاعٌ مِنْ سُفْلٍ بِذِرَاعَيْنِ مِنْ عُلُوٍّ ، وَلَا يُعَدُّ فِي أَنْ يُرَاعَى فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ مَا لَا يُرَاعَى فِي نَفْسِ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ ، فَإِنَّ نَفْسَ الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ قَدْ تَتَحَقَّقُ مُنْفَكَّةً عَنْ تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ كَمَا فِي قِسْمَةِ الْبَيْتِ السُّفْلِيِّ فَقَطْ أَوْ الْعُلْوِيِّ فَقَطْ فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ وَالْمُرَاعَى التَّسْوِيَةُ فِي السُّكْنَى لَا فِي الْمَرَافِقِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْمَذْكُورُ هَاهُنَا بِقَوْلِهِ وَكَذَا السُّفْلُ فِيهِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى إلَى آخِرِهِ إنَّمَا هُوَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ بِمَعْزِلٍ عَنْ ذَيْنِك الْقَوْلَيْنِ مَعًا فَلَا تَأْثِيرَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ ، وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي دَفْعِ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا ادَّعَاهَا ، عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا شَكَّ فِي ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا تَرَى ( قَوْلُهُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَصْلُ السُّكْنَى ) أَقُولُ : حَقُّ التَّحْرِيرِ أَنْ يُقَالَ : إنَّ أَصْلَ الْمَقْصُودِ هُوَ السُّكْنَى ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَلْفَطِنِ الْمُتَدَبِّرِ فِي الْمَقَامِ ( قَوْلُهُ وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ
ضَعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : قَوْلُهُ وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ إلَى آخِرِهِ مُسْتَدْرَكٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى انْتَهَى أَقُولُ : دَعْوَى اسْتِدْرَاكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ خُرُوجٌ عَنْ دَائِرَةِ الْإِنْصَافِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلُ لِأَنَّ الْعُلُوَّ مِثْلُ نِصْفِ السُّفْل لَيْسَ بِبَيَانٍ كَامِلٍ لِقَوْلِهِ وَيُجْعَلُ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ مِنْ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَا ذِرَاعٍ ، وَإِنَّمَا يَكْمُلُ الْبَيَانُ بِقَوْلِهِ وَالسُّفْلُ الْمُجَرَّدُ : أَيْ سُفْلُ الْبَيْتِ الْكَامِلِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ لِأَنَّهُ ضِعْفُ الْعُلُوِّ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ : أَيْ بِمُقَابِلَةِ مِثْلِهِ مِنْ السُّفْلِ الْمُجَرَّدِ الَّذِي لَا عُلُوَّ عَلَيْهِ أَصْلًا نَعَمْ حَقُّ الْبَيَانِ أَنْ يُؤَخَّرَ قَوْلُهُ فَبَلَغَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ كَمَا ذَكَرْنَا عَلَى قَوْلِهِ فَيُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ مِثْلِهِ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ
بَاب دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا قَالَ ( وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ الْغَلَطَ وَزَعَمَ أَنَّ مِمَّا أَصَابَهُ شَيْئًا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَقَدْ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الشُّرَكَاءَ فَمَنْ نَكَلَ مِنْهُمْ جُمِعَ بَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ وَالْمُدَّعِي فَيُقْسَمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا ) ، لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً فَيُعَامَلَانِ عَلَى زَعْمِهِمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا لِتَنَاقُضِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مَنْ بَعْدُ ( وَإِنْ قَالَ قَدْ اسْتَوْفَيْتُ حَقِّي وَأَخَذْتُ بَعْضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْغَصْبَ وَهُوَ مُنْكِرٌ ( وَإِنْ قَالَ أَصَابَنِي إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيَّ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَكَذَّبَهُ شَرِيكُهُ تَحَالَفَا وَفُسِخَتْ الْقِسْمَةُ ) لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ فِيمَا تَقَدَّمَ ( وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّقْوِيمِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ ) لِأَنَّهُ دَعْوَى الْغَبْنِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ لِوُجُودِ التَّرَاضِي ، إلَّا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْغَبْنُ فَاحِشٌ ( لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُقَيَّدٌ بِالْعَدْلِ )
( بَابُ دَعْوَى الْغَلَطِ فِي الْقِسْمَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا ) لَمَّا كَانَ دَعْوَى الْغَلَطِ وَالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْعَوَارِضِ الَّتِي عَسَى أَنْ تَقَعَ وَأَنْ لَا تَقَعَ أُخَرُ ذَكَرَهَا ؛ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ غَايَةِ الْبَيَانِ : وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ بِالْقِسْمَةِ أَوْ فِي أَمْرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ تَحَالَفَا وَتُفْسَخُ الْقِسْمَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي دَعْوَاهُ مُتَنَاقِضًا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَحُكْمُهُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ا هـ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّهُمْ إذَا اخْتَلَفُوا فِي التَّقْوِيمِ وَالْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْغَبْنُ يَسِيرٌ لَا تَحَالُفَ فِيهِ وَلَا بَيِّنَةَ وَلَا يَمِينَ كَمَا يَجِيءُ انْتَهَى أَقُولُ : ذَلِكَ مُنْدَفِعٌ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُقْسِمَ فِي الْأَصْلِ الْمَزْبُورِ هُوَ الِاخْتِلَافُ الْمُلْتَفَتُ إلَيْهِ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ ، وَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُعْتَرِضُ مِنْ الصُّورَتَيْنِ وَهُمَا الِاخْتِلَافُ فِي التَّقْوِيمِ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَكِنَّ الْغَبْنَ يَسِيرٌ خَارِجٌ عَنْ الْمُقْسِمِ الْمَذْكُورِ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ كَمَا سَيَجِيءُ ، فَلَا يُرَدُّ بِهِ النَّقْضُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْقِسْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْأَصْلِ الْمَزْبُورِ ( قَوْلُهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الشُّرَكَاءَ ) لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا لَزِمَهُمْ ، فَإِذَا أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : لَوْ صَحَّ هَذَا لَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَحْلِيفِ الْمُقَرِّ لَهُ إذَا ادَّعَى الْمُقِرُّ أَنَّهُ كَذَبَ فِي إقْرَارِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَحْلِيفَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِوَارِدٍ إذْ قَدْ
تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَنَّ حُكْمَ الْإِقْرَارِ ظُهُورُ الْمُقَرِّ بِهِ بِلَا تَصْدِيقٍ مِنْ الْمُقِرِّ لَهُ إلَّا فِي نَسَبِ الْوِلَادِ وَنَحْوِهِ ، وَلَكِنْ يُرَدُّ الْإِقْرَارُ بِرَدِّ الْمُقِرِّ لَهُ ، إلَّا بَعْدَ تَصْدِيقِهِ فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ حِينَئِذٍ أَصْلًا فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَادَّعَاهُ الْمُقِرُّ أَنَّهُ كَذَبَ فِي إقْرَارِهِ إنْ كَانَ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ فِي إقْرَارِهِ لَا يَدُلُّ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا عَلَى وُجُوبِ تَحْلِيفِ الْمُقَرِّ لَهُ هُنَاكَ إذْ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ أَنْ يُقَالَ لَوْ أَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ إيَّاهُ فِي إقْرَارِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ لَمَّا لَمْ يُرَدَّ بَعْدَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْمُقَرَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ بِإِقْرَارِهِ بِكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ ، وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ يُرَدَّ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الِادِّعَاءُ قَبْلَ تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي إقْرَارِهِ فَلَا يَدُلُّ مَا ذَكَرُوا هَاهُنَا أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَتَمَشَّى فِيهِ أَنْ يُقَالَ : لَوْ أَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ بِكَذِبِ الْمُقِرِّ فِي إقْرَارِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ .
وَلَكِنْ لَا يَتَمَشَّى فِيهِ أَنْ يُقَالَ فَإِذَا أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ كَمَا قَالُوا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، لِأَنَّهُ إذَا أَنْكَرَ ذَلِكَ كَانَ مُصَدِّقًا لَهُ فِي إقْرَارِهِ ، لِأَنَّ إنْكَارَ كَذِبِهِ فِي إقْرَارِهِ يَقْتَضِي تَصْدِيقَهُ فِي إقْرَارِهِ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُ الْإِقْرَارُ الرَّدَّ فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ تَحْلِيفُ الْمُقَرِّ لَهُ هُنَاكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، تَأَمَّلْ فِيمَا قُلْنَا فَلَعَلَّ فِيهِ دِقَّةً .
ثُمَّ أَقُولُ : لَكِنْ بَقِيَ فِيمَا ذَكَرُوا شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُمْ لِرَجَاءِ النُّكُولِ فِي قَوْلِهِمْ فَإِذَا أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ إنَّمَا يَرْتَبِطُ بِمَا قَبْلَهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ
النُّكُولَ إقْرَارٌ ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهُ بَذْلٌ لَا إقْرَارَ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى مَا مَرَّ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى مُفَصَّلًا فَلَا فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا لَا يَلْزَمُ مِنْ لُزُومِ إقْرَارِهِمْ لَوْ أَقَرُّوا وُجُوبَ اسْتِحْلَافِهِمْ إذَا أَنْكَرُوا لِرَجَاءِ النُّكُولِ فَلَا يَرْتَبِطُ آخِرُ كَلَامِهِمْ بِأَوَّلِهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ ( قَوْلُهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ دَعْوَاهُ أَصْلًا لِتَنَاقُضِهِ ) قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْهِدَايَةِ : وَفِي الْمَبْسُوطِ وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا ، وَقَالَ : وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَتْنِ أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى فِعْلِ الْقَاسِمِ فِي إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَائِهِ حَقَّهُ ، ثُمَّ لَمَّا تَأَمَّلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ ظَهَرَ الْغَلَطُ فِي فِعْلِهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ عِنْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ : وَفِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِقْرَارِ إنْ كَانَ مَانِعًا عَنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ لِابْتِنَائِهِ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَالَفَا .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْ صِحَّةِ الدَّعْوَى ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَالَفَا بِنَاءً عَلَى مَا حَقَّقَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا دَعْوَى الْغَلَطِ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ فَنَوْعَانِ : نَوْعٌ يُوجِبُ التَّحَالُفَ ، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ .
وَاَلَّذِي يُوجِبُ التَّحَالُفَ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ غَلَطًا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا الْغَصْبَ بِدَعْوَى الْغَلَطِ وَاَلَّذِي لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ أَنْ يَدَّعِيَ الْغَلَطَ فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُدَّعِيًا الْغَصْبَ بِدَعْوَى الْغَلَطِ وَقَالَ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ : وَإِنَّمَا وَجَبَ التَّحَالُفُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي
مَعْنَى الْبَيْعِ ، وَفِي الْبَيْعِ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ يَتَحَالَفَانِ إذَا كَانَ قَائِمًا هَكَذَا فِي الْقِسْمَةِ وَقَالَ : هَذَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُمَا إقْرَارٌ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَأَمَّا إذَا سَبَقَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْغَلَطِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْغَصْبُ وَقَالَ فِي النَّوْعِ الثَّانِي : إذَا كَانَ يَجِبُ التَّحَالُفُ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الْوَاجِبِ بِالْقِسْمَةِ كَمَا فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ ، فَبِاعْتِبَارِ دَعْوَى الْغَصْبِ لَا يَجِبُ التَّحَالُفُ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَالتَّحَالُفُ أَمْرٌ عُرِفَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِذَا وَجَبَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَجِبُ انْتَهَى فَتَلَخَّصَ مِنْهُ وَجْهُ عَدَمِ وُجُوبِ التَّحَالُفِ فِيمَا إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مَعَ اسْتِمَاعِ دَعْوَاهُ كَمَا وَقَعَ فِي مَتْنِ الْكِتَابِ فَحَصَلَ بِهِ الْجَوَابُ عَنْ بَحْثِ ذَلِكَ الْقَائِلِ قَطْعًا ، بَلْ حَصَلَ بِهِ الْجَوَابُ عَمَّا قَالَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّكَلُّفِ الَّذِي ذَكَرَهُ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ ، لِأَنَّ دَعْوَى الْغَلَطِ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ دَعْوَى الْغَصْبِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ كَمَا هُوَ النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ النَّوْعَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الذَّخِيرَةِ لَا يُنَاقِضُ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ قَبْلُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا حَصَلَ لَهُ بِالْقِسْمَةِ فَصَارَ نَظِيرَ الِاخْتِلَافِ فِي مِقْدَارِ الْمَبِيعِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ التَّحَالُفِ فِيمَا تَقَدَّمَ ) أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّحَالُفِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى هُوَ أَنَّ التَّحَالُفَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ ، لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَالْآخَرَ يُنْكِرُهَا ، وَإِنَّ الْآخَرَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْبَدَلِ بِمَا قَالَهُ وَأَحَدَهُمَا يُنْكِرُهُ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرًا فَيَحْلِفَ ، وَأَمَّا
بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُمَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا حَتَّى يُنْكِرَهُ الْآخَرُ فَيَحْلِفَ عَلَيْهِ ، لَكِنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ فِيهِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ قَابِضٌ نَصِيبَهُ فَإِنَّهُ ذُو الْيَدِ وَلَا يَدَّعِي عَلَى الْآخَرِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْآخَرُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا فِي يَدِهِ فَكَانَ التَّحَالُفُ فِيهِ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، وَلَا مَجَالَ لِإِجْرَاءِ النَّصِّ الْمَزْبُورِ هُنَا لَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ ذَلِكَ النَّصَّ كَانَ وَارِدًا فِي الْبَيْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ مَا يَرِدُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَوْرِدِهِ وَلَا بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ فِيهَا مَعْنَى الْإِفْرَازِ وَالْمُبَادَلَةِ مَعًا كَمَا مَرَّ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ ، وَالْبَيْعُ مُبَادَلَةٌ مَحْضَةٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْإِفْرَازِ ، وَلَا بُدَّ فِي الْإِلْحَاقِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ مِنْ الْأَوْلَوِيَّةِ أَوْ التَّسَاوِي عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْهُمَا هُنَا فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الدَّفْعِ
( وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ طَائِفَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمْ بَيْتًا فِي يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِمَّا أَصَابَهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ) لِمَا قُلْنَا ( وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ) لِأَنَّهُ خَارِجٌ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ ( وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْحُدُودِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ بِالْجُزْءِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ قُضِيَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا تَحَالَفَا ) كَمَا فِي الْبَيْعِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ طَائِفَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا فِي يَدِ الْآخَرِ أَنَّهُ مِمَّا أَصَابَهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِمَا قُلْنَا ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : قَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا انْتَهَى .
وَاسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ حَيْثُ قَالَ : فَسْخُ الْقِسْمَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، فَإِنَّ الْمُدَّعَى شَيْءٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْبَيْتُ ، فَإِذَا نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ يُحْكَمُ بِالْبَيْتِ لِلْمُدَّعِي انْتَهَى أَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِفَسْخِ الْقِسْمَةِ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي فَسْخَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا فَسْخُ الْقِسْمَةِ الْمُعَايِنَةِ حَالَ الْخُصُومَةِ الدَّالَّةِ فِي الظَّاهِرِ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْبَيْتِ فِي نَصِيبِ ذِي الْيَدِ لَا فَسْخُ الْقِسْمَةِ عَنْ أَصْلُهَا وَالِاسْتِئْنَافُ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى حَتَّى يُنَافِيَ مَا سَيَجِيءُ فِي الْفَصْلِ الْآتِي مِنْ أَنَّهُ إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضُ مُعَيَّنٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ فِي الصَّحِيحِ وَتَحَقَّقَ فَسْخُ الْقِسْمَةِ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذَا نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى
فَصْلٌ قَالَ ( وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَمْ تُفْسَخْ الْقِسْمَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَرَجَعَ بِحِصَّةِ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْأَسْرَارِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، فَأَمَّا فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ لَا تُفْسَخُ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ تُفْسَخُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ .
وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ مُحَمَّدٍ ، وَذَكَرَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبُو حَفْصٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ لَهُمَا ، وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ ، كَمَا إذَا اُسْتُحِقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي النَّصِيبَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْإِفْرَازُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الرُّجُوعَ بِحِصَّتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ شَائِعًا ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ .
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْإِفْرَازِ لَا يَنْعَدِمُ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ شَائِعٍ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَلِهَذَا جَازَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ كَانَ النِّصْفُ الْمُقَدَّمُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ثَالِثٍ وَالنِّصْفُ الْمُؤَخَّرُ بَيْنَهُمَا لَا شَرِكَةَ لِغَيْرِهِمَا فِيهِ فَاقْتَسَمَا عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مَا لَهُمَا مِنْ الْمُقَدَّمِ وَرُبُعِ الْمُؤَخَّرِ يَجُوزُ فَكَذَا فِي الِانْتِهَاءِ وَصَارَ كَاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ ، بِخِلَافِ الشَّائِعِ فِي النَّصِيبَيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْقِسْمَةُ لَتَضَرَّرَ الثَّالِثُ بِتَفَرُّقِ نَصِيبِهِ فِي النَّصِيبَيْنِ ، أَمَّا هَاهُنَا لَا ضَرَرَ بِالْمُسْتَحِقِّ فَافْتَرَقَا ، وَصُوَرُ الْمَسْأَلَةِ : إذَا أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ الْمُقَدَّمَ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ ثُمَّ
اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْمُقَدَّمِ ، فَعِنْدَهُمَا إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ دَفْعًا لِعَيْبِ التَّشْقِيصِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمُؤَخَّرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ الْمُقَدَّمِ رَجَعَ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ رَجَعَ بِنِصْفِ النِّصْفِ وَهُوَ الرُّبُعُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ ، وَلَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ نِصْفَهُ ثُمَّ اسْتَحَقَّ النِّصْفَ الْبَاقِي شَائِعًا رَجَعَ بِرُبُعِ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَسَقَطَ خِيَارُهُ بِبَيْعِ الْبَعْضِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَيَضْمَنُ قِيمَةَ نِصْفِ مَا بَاعَ لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَنْقَلِبُ فَاسِدَةً عِنْدَهُ ، وَالْمَقْبُوضُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَمْلُوكٌ فَنَفَذَ الْبَيْعُ فِيهِ وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
قَالَ ( وَلَوْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ ثُمَّ ظَهَرَ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ مُحِيطٌ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ ) لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ ، وَكَذَا إذَا كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِالتَّرِكَةِ ، إلَّا إذَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ وَرَاءَ مَا قَسَمَ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ فِي إيفَاءِ حَقِّهِمْ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَوْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ وَالدَّيْنُ مُحِيطٌ أَوْ غَيْرُ مُحِيطٍ جَازَتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ .
وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ صَحَّ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ ، إذْ الدَّيْنُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُ الصُّورَةَ ، وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ لَمْ يُسْمَعْ لِلتَّنَاقُضِ ، إذْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقِسْمَةِ اعْتِرَافٌ بِكَوْنِ الْمَقْسُومِ مُشْتَرَكًا .
( فَصْلٌ ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْغَلَطِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الِاسْتِحْقَاقِ ( قَوْلُهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ : ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ مُعَيَّنٍ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، وَهَكَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي الْأَسْرَارِ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَصِفَةُ الْحَوَالَةِ هَذِهِ إلَى الْأَسْرَارِ وَقَعَتْ سَهْوًا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِي الْأَسْرَارِ فِي الشَّائِعِ وَضْعًا وَتَعْلِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَتَكْرَارًا بِلَفْظِ الشَّائِعِ غَيْرَ مَرَّةٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَتَعْدِيَةُ الْحَوَالَةِ بِكَلِمَةِ إلَى فِي قَوْلِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ وَصِفَةُ الْحَوَالَةِ هَذِهِ إلَى الْأَسْرَارِ وَقَعَتْ سَهْوًا أَيْضًا ، وَالْمُطَابِقُ لِلُّغَةِ تَعْدِيَتُهَا بِكَلِمَةِ عَلَى .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ كَلَامِ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِعَيْنِ عِبَارَتِهِ : وَأَقُولُ : وَفِي قَوْلِهِ ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ بِعَيْنِهِ أَيْضًا نَظَرٌ .
فَإِنَّ قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لَيْسَ بِنَصٍّ فِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِنَصِيبِ أَحَدِهِمَا لَا بِبَعْضٍ فَيَكُونُ تَقْرِيرُ كَلَامِهِ ؛ وَإِذَا اسْتَحَقَّ بَعْضٌ شَائِعٌ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الِاخْتِلَافُ فِي الشَّائِعِ لَا فِي الْمُعَيَّنِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ إنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِيمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فَهُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ فُحُولِ الْعُلَمَاءِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ بِعَيْنِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضٍ كَانَ الْبَعْضُ الْمَذْكُورُ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ مُبْهَمًا فَلَا يُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَعْضُ الْمُعَيَّنُ أَوْ الشَّائِعُ فَيَخْتَلُّ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ .
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ قَوْلُهُ
بِعَيْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ بَلْ صَارَ بِمَنْزِلَةِ اللَّغْوِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِبَعْضٍ يَكُونُ تَأْسِيسًا مُفِيدًا لِلْمُرَادِ مُزِيلًا لِلْإِبْهَامِ فَأَنَّى هَذَا مِنْ ذَلِكَ .
عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَمْثَالِ هَذَا التَّرْكِيبِ تَعَلُّقُ الْقَيْدِ بِالْمُضَافِ دُونَ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَمَا بَيَّنَ فِي مَحَلِّهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَ الْقُدُورِيِّ ظَاهِرٌ فِيمَا حَمَلَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الظَّاهِرَ يُوجِبُ الْحُكْمَ قَطْعًا كَالنَّصِّ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْ الْقَطْعِيِّ وَهُوَ مَا يَقْطَعُ الِاحْتِمَالَ النَّاشِئَ عَنْ دَلِيلٍ ، إلَّا أَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا : أَيْ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالنَّصِّ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَيُقَدَّمُ النَّصُّ عَلَى الظَّاهِرِ عِنْدَهُ وَلَمْ يُعَارِضْ الظَّاهِرَ هُنَا نَصٌّ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِمُوجِبِهِ ( قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ إنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضٍ شَائِعٍ ظَهَرَ شَرِيكٌ ثَالِثٌ لَهُمَا وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْقِسْمَةُ بِدُونِ رِضَاهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرَاضِي انْتَهَى .
وَمَأْخَذُ تَعْلِيلِهِ هَذَا مَا نَقَلَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ عَنْ الْإِمَامِ عَلَاءِ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيِّ حَيْثُ قَالَ : وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي : وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ وَالْقِسْمَةُ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا عَنْ تَرَاضٍ انْتَهَى .
وَأَوْرَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَلَى قَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ حَيْثُ قَالَ : لَا حَاجَةَ إلَى الْقَوْلِ بِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فِي صُورَةِ التَّرَاضِي ، فَإِنَّهَا إذَا كَانَتْ
بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَبْطُلُ إذَا لَمْ يَرْضَ الْغَائِبُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَوْ أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ انْتَهَى أَقُولُ : لَيْسَ ذَاكَ بِصَحِيحٍ ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تَبْطُلُ بِعَدَمِ رِضَا الْغَائِبِ ، أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ مِنْ قَوْلِهِ وَإِذَا حَضَرَ وَارِثَانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَفَاةِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ وَالدَّارُ فِي أَيْدِيهِمْ وَمَعَهُمْ وَارِثٌ غَائِبٌ قَسَمَهَا الْقَاضِي بِطَلَبِ الْحَاضِرِينَ وَيُنَصِّبُ لِلْغَائِبِ وَكِيلًا بِقَبْضِ نَصِيبِهِ انْتَهَى .
وَلَوْ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ بِعَدَمِ رِضَا الْغَائِبِ لَمَا سَاغَ لِلْقَاضِي الْقِسْمَةُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْحَاضِرِينَ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ عَلَى مَا يَجِيءُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ وَلَوْ أَبْرَأَ الْغُرَمَاءُ لَيْسَ بِحَوَالَةٍ رَابِحَةٍ إذْ لَا شَيْءَ فِي شَرْحِ ذَلِكَ مَا يُوهِمُ بُطْلَانَهَا سِوَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ وَارِثٌ أَوْ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَقَالَتْ الْوَرَثَةُ : نَحْنُ نَقْضِي حَقَّهُمَا فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تُنْقَضُ إنْ لَمْ يَرْضَ الْوَارِثُ أَوْ الْمُوصَى لَهُ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي عَيْنُ التَّرِكَةِ فَلَا يُنْقَلُ إلَى مَالٍ آخَرَ إلَّا بِرِضَاهُمَا انْتَهَى لَكِنَّ الْمُرَادَ بِانْتِقَاضِ الْقِسْمَةِ فِي صُورَةِ ظُهُورِ الْوَارِثِ أَوْ الْمُوصَى لَهُ انْتِقَاضُهَا فِي قَدْرِ حَقِّهِمَا مِنْ عَيْنِ التَّرِكَةِ لَا انْتِقَاضَهَا فِي مَجْمُوعِ التَّرِكَةِ بِالْكُلِّيَّةِ بِحَيْثُ يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِئْنَافِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، أَوْ الْمُرَادُ انْتِقَاضُهَا بِالْكُلِّيَّةِ أَيْضًا لَكِنْ فِي صُورَةِ الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي دُونَ الْقِسْمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، إذْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ بِالْكُلِّيَّةِ فِيمَا إذَا ظَهَرَ وَارِثٌ أَوْ الْمُوصَى لَهُ إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ : مُوجِبُ نَقْضِ الْقِسْمَةِ بَعْدَ
وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ : مِنْهَا ظُهُورُ دَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا طَلَبَ الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِ أَنْفُسِهِمْ ثُمَّ قَالَ : وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ مِنْ التَّرِكَةِ شَيْءٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَهَلَكَ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ جَمِيعًا وَالْبَاقِي عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ غَائِبٌ تُنْقَضُ فَكَذَا هَذَا .
وَقَالَ : وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ وَإِنْ كَانَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ قِسْمَتُهُ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ .
ثُمَّ قَالَ : وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَارِثِ ، حَتَّى لَوْ اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ وَارِثًا آخَرَ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ ، وَلَوْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ لِمَا ذَكَرْنَا ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ ، ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ أَوْرَدَ أَيْضًا عَلَى قَوْلِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ فِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّرَاضِي حَيْثُ قَالَ : فِيهِ بَحْثٌ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَيْضًا بَلْ اعْتِبَارُهَا فِيهِ آكَدُ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ تُفْسَخُ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْقِسْمَةَ بِالْقِيمَةِ لَا تَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَصْلًا إلَّا عَنْ تَرَاضٍ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ بِصَدَدِ بَيَانِ وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ظَاهِرٌ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الْكِتَابِ ، فَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ كَمَا يَقْتَضِيه تَصْوِيرُهَا الْمَذْكُورُ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ حَتَّى فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَضْعَهَا فِيمَا إذَا تَرَاضَيَا عَلَى الْقِسْمَةِ لَا فِيمَا إذَا كَانَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ؛ فَقَوْلُهُ فَإِنَّ الْقِيمَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَيْضًا إنْ أَرَادَ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ أَيْضًا فَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهَا مُعْتَبَرَةٌ فِي صُورَةِ الْقَضَاءِ أَيْضًا عِنْدَ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا ، فَإِنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَافٍ فِي تَمَامِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةُ .
وَقَوْلُهُ بَلْ اعْتِبَارُهَا فِيهَا آكَدُ فِي عَدَمِ الْإِصَابَةِ ، لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يَنْحَصِرُ فِي أَنْ يَكُونَ قِيمَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْآخَرِ ، بَلْ قَدْ يَتَحَقَّقُ الْغَبْنُ بِكَوْنِ عَيْنِ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ عَيْنِ الْآخَرِ مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ أَوْ الْكَيْلِ أَوْ الذَّرْعِ أَوْ الْعَدَدِ مِمَّا يَلِيقُ بِجِنْسِ الْمَقْسُومِ ؛ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ فِي غَبْنِ الْقِسْمَةِ بِالْقَضَاءِ التَّفَاوُتَ فِي الْعَيْنِ بِإِحْدَى الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ دُونَ التَّفَاوُتِ فِي الْقِيمَةِ ، وَمَا مَرَّ فِي الْفَصْلِ السَّابِقِ مِنْ مَسْأَلَةِ فَسْخِ الْقِيمَةِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْغَبْنِ مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ قَدْ ذُكِرَ هُنَاكَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ لِلْغَبْنِ مِثَالٌ هُوَ صَرِيحٌ فِي التَّفَاوُتِ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ يُقَالَ وَإِنْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا خَمْسٌ وَخَمْسُونَ شَاةً وَأَصَابَ الْآخَرَ خَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ شَاةً فَادَّعَى صَاحِبُ الْأَكْثَرِ الْغَبْنَ إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ ( قَوْلُهُ وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْمُتَقَاسِمَيْنِ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ صَحَّ دَعْوَاهُ ، لِأَنَّهُ لَا تَنَاقُضَ ، إذْ الدَّيْنُ
يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى وَالْقِسْمَةُ تُصَادِفُ الصُّورَةَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ لَمْ تَكُنْ دَعْوَاهُ بَاطِلَةً لِعَدَمِ التَّنَاقُضِ فَلْتَكُنْ بَاطِلَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا إذَا صَحَّتْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ ، وَذَلِكَ سَعَى فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ تَامَّةً فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ انْتَهَى أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الدَّيْنُ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْقِسْمَةُ تَامَّةً مِنْ حَيْثُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ فَقَدْ كَانَتْ تَامَّةً مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ رَضِيَ بِهَا أَوَّلًا فَلَزِمَ السَّعْيُ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ وَمَدَارُ السُّؤَالِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ السَّعْيَ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلَى قَاعِدَةِ الشَّرْعِ كَمَا عُرِفَ فِي نَظَائِرِهِ .
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : أَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَبَيُّنِ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا عَلَى الْعَكْسِ ، وَهَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِاسْتِلْزَامِهَا السَّعْيَ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ فَكَيْفَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِمَنْعِ اسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ الْجَوَازَ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ أَوْ يُؤَدِّيَهُ سَائِرُ الْوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِمْ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى كَلَامُهُ أَقُولُ : وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَ اسْتِمَاعِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ تَبَيُّنِ صِحَّةِ الدَّعْوَى لَا عَلَى الْعَكْسِ غَيْرُ مُفِيدٍ هَاهُنَا ، فَإِنَّ الْمُجِيبَ لَا يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ صِحَّتَهَا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَلْ يَقُولُ : إنَّهَا صَحِيحَةٌ فِي الِابْتِدَاءِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَقَرُّرِ تَمَامِ الْقِسْمَةِ ، بَلْ احْتِمَالُ ثُبُوتِ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَمَآلُ جَوَابِه مَنْعُ اسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ ، فَالْقَاطِعُ لِعِرْقِ ذَلِكَ الْجَوَابِ مَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْ أَنَّ لُزُومَ السَّعْيِ فِي نَقْضِ مَا تَمَّ مِنْ جِهَتِهِ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ لَا مَرَدَّ لَهُ بِثُبُوتِ الدَّيْنِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَلْزَمُ تَمَامُ الْقِسْمَةِ مِنْ حَيْثُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَذَلِكَ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَزْبُورَ .
ثُمَّ إنَّ قَوْلَ ذَلِكَ الْبَعْضِ : وَالْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِمَنْعِ اسْتِلْزَامِهَا ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ مَالٌ آخَرُ أَوْ يُؤَدِّيَهُ سَائِرُ الْوَرَثَةِ مِنْ مَالِهِمْ ، فَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَوَّهَ بِهِ الْعَاقِلُ فَضْلًا عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ آخَرُ وَلَمْ يُؤَدِّهِ سَائِرُ الْوَرَثَةِ إذْ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا بَقِيَ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ مَا يَفِي بِالدَّيْنِ أَوْ أَدَّاهُ الْوَرَثَةُ مِنْ مَالِهِمْ قَدْ مَرَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مُفَصَّلًا ،
فَصْلٌ فِي الْمُهَايَأَةِ الْمُهَايَأَةُ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، إذْ قَدْ يَتَعَذَّرُ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الِانْتِفَاعِ فَأَشْبَهَ الْقِسْمَةَ .
وَلِهَذَا يَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي كَمَا يَجْرِي فِي الْقِسْمَةِ ، إلَّا أَنَّ الْقِسْمَةَ أَقْوَى مِنْهُ فِي اسْتِكْمَالِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ جَمْعُ الْمَنَافِعِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، وَالتَّهَايُؤُ جَمْعٌ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْقِسْمَةَ وَالْآخَرُ الْمُهَايَأَةَ يَقْسِمُ الْقَاضِي لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّكْمِيلِ .
وَلَوْ وَقَعَتْ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ يَقْسِمُ وَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ ، وَلَا يَبْطُلُ التَّهَايُؤُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَا بِمَوْتِهِمَا لِأَنَّهُ لَوْ انْتَقَضَ لَاسْتَأْنَفَهُ الْحَاكِمُ فَلَا فَائِدَةَ فِي النَّقْضِ ثُمَّ الِاسْتِئْنَافِ ( وَلَوْ تَهَايَأَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا طَائِفَةٌ وَهَذَا طَائِفَةٌ أَوْ هَذَا عُلُوَّهَا وَهَذَا سُفْلَهَا جَازَ ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ ، وَالتَّهَايُؤُ فِي هَذَا الْوَجْهِ إفْرَازٌ لِجَمِيعِ الْأَنْصِبَاءِ لَا مُبَادَلَةٌ وَلِهَذِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْقِيتُ ( وَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَسْتَغِلَّ مَا أَصَابَهُ بِالْمُهَايَأَةِ شُرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ ) لِحُدُوثِ الْمَنَافِعِ عَلَى مِلْكِهِ ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِي عَبْدٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا يَوْمًا وَهَذَا يَوْمًا جَازَ ) ، وَكَذَا هَذَا فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ ( لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الزَّمَانِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ ) وَالْأَوَّلُ مُتَعَيِّنٌ هَاهُنَا ( وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي التَّهَايُؤِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانُ فِي مَحَلٍّ يَحْتَمِلُهُمَا يَأْمُرُهُمَا الْقَاضِي بِأَنْ يَتَّفِقَا ) لِأَنَّ التَّهَايُؤَ فِي الْمَكَانِ أَعْدَلُ وَفِي الزَّمَانِ أَكْمَلُ ، فَلَمَّا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّفَاقِ ( فَإِنْ اخْتَارَاهُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ يُقْرَعُ فِي الْبِدَايَةِ ) نَفْيًا
لِلتُّهَمَةِ ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِي الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا هَذَا الْعَبْدُ وَالْآخَرَ الْآخَرُ جَازَ عِنْدَهُمَا ) لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ جَائِزَةٌ عِنْدَهُمَا جَبْرًا مِنْ الْقَاضِي وَبِالتَّرَاضِي فَكَذَا الْمُهَايَأَةُ .
وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْسِمُ الْقَاضِي .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الْجَبْرُ عِنْدَهُ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقْسِمُ الْقَاضِي عِنْدَهُ أَيْضًا ، لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مِنْ حَيْثُ الْخِدْمَةِ قَلَّمَا تَتَفَاوَتُ ، بِخِلَافِ أَعْيَانِ الرَّقِيقِ لِأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا فَاحِشًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِيهِمَا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ كُلِّ عَبْدٍ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ جَازَ ) اسْتِحْسَانًا لِلْمُسَامَحَةِ فِي إطْعَامِ الْمَمَالِيكِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْكِسْوَةِ لَا يُسَامَحُ فِيهَا ( وَلَوْ تَهَايَئَا فِي دَارَيْنِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا جَازَ وَيُجْبِرُ الْقَاضِي عَلَيْهِ ) وَهَذَا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ ، لِأَنَّ الدَّارَيْنِ عِنْدَهُمَا كَدَارٍ وَاحِدَةٍ .
وَقَدْ قِيلَ لَا يُجْبِرُ عِنْدَهُ اعْتِبَارًا بِالْقِسْمَةِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ فِيهِمَا أَصْلًا بِالْجَبْرِ لِمَا قُلْنَا ، وَبِالتَّرَاضِي لِأَنَّهُ بَيْعُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ رَقَبَتِهِمَا لِأَنَّ بَيْعَ بَعْضُ أَحَدِهِمَا بِبَعْضِ الْآخَرِ جَائِزٌ .
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي الْمَنَافِعِ فَيَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَيَجْرِي فِيهِ جَبْرُ الْقَاضِي وَيُعْتَبَرُ إفْرَازًا أَمَّا يَكْثُرُ التَّفَاوُتُ فِي أَعْيَانِهِمَا فَاعْتُبِرَ مُبَادَلَةً ( وَفِي الدَّابَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ التَّهَايُؤُ عَلَى الرُّكُوبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ ) اعْتِبَارًا بِقِسْمَةِ الْأَعْيَانِ .
وَلَهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الرَّاكِبِينَ فَإِنَّهُمْ بَيْنَ حَاذِقٍ وَأَخْرَقَ .
وَالتَّهَايُؤُ فِي الرُّكُوبِ فِي دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِمَا قُلْنَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَخْدُمُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَتَحَمَّلُ زِيَادَةً عَلَى طَاقَتِهِ