كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
( قَوْلُهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ ) حَتَّى لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي وَرِثَهُ الْآخَرُ ، وَلَوْ زَالَتْ أَهْلِيَّةُ اللِّعَانِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ بِأَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَوْ قَذَفَ أَحَدُهُمَا إنْسَانًا فَحُدَّ لِلْقَذْفِ ، أَوْ وُطِئَتْ هِيَ وَطْئًا حَرَامًا أَوْ خَرِسَ أَحَدُهُمَا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا جُنَّ قَبْلَ التَّفْرِيقِ حَيْثُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ يُرْجَى عَوْدُ الْإِحْصَانِ ، وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا صَحَّ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ غَيْرَ أَنَّ وَطْأَهَا مُحَرَّمٌ كَمَا سَتَعْلَمُ ، وَلَوْ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْتِعَانِهِمَا ثَلَاثًا خَطَأً نَفَذَ تَفْرِيقُهُ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ زُفَرَ وَبَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ لَا يَنْفُذُ ( قَوْلُهُ بِالْحَدِيثِ ) يُشِيرُ بِهِ إلَى حَدِيثِ { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } فَإِنَّهُ يُفِيدُ تَعَلُّقَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِاللِّعَانِ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى مُشْتَقٍّ يُفِيدُ أَنَّ مَبْدَأَ اشْتِقَاقِهِ عِلَّةٌ لَهُ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ تَثْبُتُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا مُسْتَلْزِمًا لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِهِ .
قِيلَ وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا تُلَاعِنَ الْمَرْأَةُ أَصْلًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زَوْجَةً ، وَالتَّمَسُّكُ بِمَرْوِيِّ زُفَرَ إنَّمَا يُفِيدُ حُرْمَتُهَا بِلِعَانِهِمَا لَا بِلِعَانِ أَحَدِهِمَا ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ حَالَ اشْتِغَالِهِمَا بِاللِّعَانِ وَهُوَ لَا يَدْخُلُ فِي الْوُجُودِ جُمْلَةً بَلْ عَلَى التَّعَاقُبِ فَتَعَذَّرَ إرَادَتُهَا ، وَأَقْرَبُ الْأَوْقَاتِ إلَى حَقِيقَةِ مَا يَعْقُبُ فَرَاغَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ فَاعْتَبَرْنَاهُ وَبِهِ نَقُولُ ، وَلَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حُرْمَتِهَا وُقُوعُ الْفُرْقَةِ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُمَا لَا يَأْتَلِفَانِ بَعْدَ اللَّعْنِ فَلَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فِي ذَلِكَ
بَلْ وَلَا ظَاهِرٍ ، بَلْ يَجُوزُ حُدُوثُ الْأُلْفَةِ بَعْدَ غَايَةِ الْعَدَاوَةِ كَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْعَدَاوَةِ ، وَلَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَمْ يَقْتَضِ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بَلْ يُوجِبُ عَلَيْهِ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ ، فَإِنَّهُ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ فَاتَ الْإِمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ ، كَمَا فِيمَا إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ فَإِنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالتَّسْرِيحِ أَوْ التَّكْفِيرِ إلَّا أَنَّ الظُّلْمَ هُنَا لَا يَنْتَهِي بِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ بَلْ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ هُوَ الطَّلَاقُ فَيَنْحَصِرُ أَمْرُهُ فِيهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ مَنَابَهُ لِأَنَّهُ نُصِبَ لِدَفْعِ الظُّلْمِ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِأُمِّهِ } .
وَمَا أَخْرَجَاهُ أَيْضًا فِي حَدِيثِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيُّ { لَمَّا فَرَغَا مِنْ لِعَانِهِمَا قَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا ، فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَهُوَ الَّذِي عَنَى الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْمُلَاعِنِ إلَى آخِرِهِ ، لَكِنَّ الصَّوَابَ مَا عَلِمْت أَنَّ الْقَائِلَ هُوَ الرَّجُلُ نَفْسُهُ وَكَذَبْت بِضَمِّ التَّاءِ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد { وَقَالَ : فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةً } .
{ قَالَ سَهْلٌ : حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ :
قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ عُوَيْمِرًا حِينَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا كَانَ جَاهِلًا بِأَنَّ اللِّعَانَ فُرْقَةٌ فَصَارَ كَمَنْ شَرَطَ الضَّمَانَ فِي السَّلَفِ وَهُوَ يَلْزَمُهُ شُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْرَطْ ، وَتَفْرِيقُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ تَفْرِيقُ حُكْمٍ لَا لِفُرْقَةِ الزَّوْجِ .
وَقَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسَهْلٍ : فَكَانَتْ سُنَّةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ : أَيْ الْفُرْقَةُ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَلِعَانِهِ قَالَ : { وَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا } وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْلِيقَهُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا } إنَّمَا هُوَ إنْكَارُ طَلَبِ مَالِهِ مِنْهَا عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي ، قَالَ : لَا مَالَ لَكَ ، إنْ كُنْت صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا ، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَلِكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا } فَدَلَّ تَفْرِيقُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، فَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ .
وَقَدْ يُقَالُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا يَكُونُ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً لِأَنَّا لَمْ نَدَّعِ فِيهِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ حَتَّى يَكُونَ تَرْكُ الْإِنْكَارِ فِيهِ حُجَّةً عَلَيْنَا ، إنَّمَا ادَّعَيْنَا أَنَّهُ وَقَعَ لَغْوًا فَالسُّكُوتُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَيْهِ .
وَيُجَابُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ مَفْسَدَةً حِينَئِذٍ لِأَنَّ السُّكُوتَ يُفِيدُ تَقْرِيرَهُ وَأَنَّهُ الْوَاقِعُ ، فَلَوْ كَانَ الْوَاقِعُ ، وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَهُ
كَانَ السُّكُوتُ مُفْضِيًا إلَى الْمَفَاسِدِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ تَقْرِيرَ وُقُوعِهِ الْآنَ فَيَسْتَلْزِمُ فِيمَا لَوْ فُرِضَ عَدَمُ طَلَاقِهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ الطَّلَاقَ حَتَّى اعْتَرَضَ مَوْتُ أَحَدِهِمَا أَوْ تَكْذِيبُهُ نَفْسَهُ قَبْلَ طَلَاقِهِ وَطَلَاقِ الْقَاضِي حَتَّى ظَنَّ حِلَّهَا فَيُجَامِعُهَا قَبْلَ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ وَتَوْرِيثِ الْآخَرِ ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ السُّكُوتُ مَعَ الْإِفْضَاءِ إلَى مِثْلِ هَذَا ، فَإِنْ دَفَعَ بِأَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي يُتَوَهَّمُ فِيهَا وُقُوعُ الْمَوْتِ يَسِيرَةٌ جِدًّا إذْ الْفَرْضُ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ عِنْدَنَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَ ، فَإِنْ أَبَى طَلَّقَ هُوَ وَالْمَوْتُ فِي مِثْلِهَا أَنْدَرُ نَادِرٍ .
قُلْنَا : وَلَوْ كَانَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ تَرْكٌ هُوَ عَلَامَةُ حُكْمٍ وَلَيْسَ هُوَ مَشْرُوعًا ، وَأَيْضًا فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَعْنِي أَمْضَى ذَلِكَ الطَّلَاقَ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ قَالَ : إنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ لَا يَقَعُ أَوْ تَقَعُ وَاحِدَةٌ ؛ ثُمَّ هُوَ أَوْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ رَفَضَ إمْضَاءَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطَّلَاقَ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِمَفْهَمِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَوْلُهُ وَهُوَ خَاطِبٌ إلَخْ ) يَعْنِي إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَالتَّفْرِيقِ وَحُدَّ أَوْ لَمْ يُحَدَّ صَارَ خَاطِبَا مِنْ الْخِطْبَةِ يَحِلُّ لَهُ تَزَوُّجُهَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ حَلَّتْ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ عَقْدِ النِّكَاحِ كَذَا فِي الْغَايَةِ .
وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ اللِّعَانِ نَظَرَ ، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا قَبْلَ الْإِكْذَابِ حُدَّ أَيْضًا ، وَإِنْ أَبَانَهَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ لِأَنَّ اللِّعَانَ أَثَرُهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ لَا يَتَأَتَّى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ، وَلَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ قَذْفَهُ وَقَعَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ
فَلَا يَنْقَلِبُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لِأَنَّ الْقَذْفَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ حَدَّيْنِ ، بِخِلَافِ إكْذَابِ نَفْسِهِ بَعْدَ اللِّعَانِ لِأَنَّ حَدَّهُ حِينَئِذٍ لِلْقَذْفِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ لَا الْقَذْفِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أُخِذَ حُكْمُهُ مِنْ اللِّعَانِ ، وَلِذَا يُحَدُّ شُهُودُ الزِّنَا إذَا رَجَعُوا لِتَضَمُّنِ شَهَادَتِهِمْ نِسْبَتَهُ إلَى الزِّنَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ يَا زَانِيَةُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَا اللِّعَانُ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ ثُمَّ بَانَتْ ، وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ حُدَّ ، وَكَمَا تَحِلُّ لَهُ بِإِكْذَابِ نَفْسِهِ بَعْدَ اللِّعَانِ كَذَلِكَ تَحِلُّ لَهُ لَوْ قَذَفَتْ شَخْصًا أَجْنَبِيًّا بَعْدَهُ فَحُدَّتْ أَوْ قَذَفَ هُوَ أَجْنَبِيًّا فَحُدَّ أَوْ زَنَتْ أَوْ ارْتَدَّ أَحَدُهُمَا حَتَّى خَرَجَ بِذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ لِارْتِفَاعِ السَّبَبِ الَّذِي لِأَجْلِهِ افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالُوا أَنَّهُ كَيْ لَا يَتَكَرَّرُ اللِّعَانُ بِأَنْ يَقْذِفَهَا مَرَّةً أُخْرَى وَهُوَ لَمْ يُشَرَّعْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ إلَّا مَرَّةً فِي الْعُمُرِ أَوْ بِخُلُوِّ الْقَذْفِ عَنْ الْمُوجِبِ فِي الدُّنْيَا ، فَبِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَقَعَ الْأَمْنُ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا افْتَرَقَ الْمُتَلَاعِنَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ، فَيَثْبُتُ بَيْنَهُمَا حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ .
وَبِهِ قَالَتْ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ .
وَإِذَا كَانَتْ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ لَا تَكُونُ طَلَاقًا بَلْ فَسْخًا ، وَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ قَبْلَهُ اتِّفَاقًا ، وَكَذَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الزَّوْجِيَّةِ قَائِمَةً مَعَهَا كَمَا تَكُونُ بِالظِّهَارِ أَوْ زَالَتْ ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ مِنْ حِينِ تَثْبُتُ تَثْبُتُ مُؤَبَّدَةً لَمْ يُتَصَوَّرْ تَوَقُّفُهَا عَلَى تَفْرِيقِ الْقَاضِي .
وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ بِسَنَدِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُتَلَاعِنَانِ إذَا افْتَرَقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } وَقَدْ طَعَنَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ فِي ثُبُوتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَكِنْ قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ : إسْنَادُهُ جَيِّدٌ .
وَمَفْهُومُ شَرْطِهِ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ بِمُجَرَّدِ اللِّعَانِ لِلْمُتَأَمِّلِ ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ .
وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا مَوْقُوفًا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ قَالَا : { مَضَتْ السُّنَّةُ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ : { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : وَلَا يَجْتَمِعَانِ مَا دَامَا مُتَلَاعِنَيْنِ ، وَلَمْ يَبْقَ التَّلَاعُنُ وَلَا حُكْمُهُ : يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ بِعَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِشَرْطِ وَصْفِيَّةِ الْمَوْضُوعِ فَهِيَ الْقَضِيَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَشْرُوطَةِ ، وَلَمْ يَبْقَيَا بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ مِنْ اللِّعَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ اللِّعَانُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا بِالْإِكْذَابِ لِنَفْسِهِ لِثُبُوتِ النَّسَبِ إنْ كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَلُزُومِ الْحَدِّ .
وَحُكْمُهُ عَدَمُهُ فَقَدْ انْتَفَتْ اللَّوَازِمُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ مَلْزُومِهَا شَرْعًا فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ عَدَمُ حِلِّ الِاجْتِمَاعِ فَثَبَتَ نَقِيضُهُ وَهُوَ حِلُّ الِاجْتِمَاعِ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَنْ بَيْنَهُمَا تَلَاعُنٌ قَائِمٌ حُكْمًا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ إرَادَتَهُمَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ التَّلَاعُنِ حَقِيقَةً مُتَعَذِّرٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ قِيَامُ التَّلَاعُنِ حُكْمًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ مَنْ وُجِدَ بَيْنَهُمَا تَلَاعُنٌ فِي الْخَارِجِ ، وَعَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ لَا يَجْتَمِعَانِ بَعْدَ الْإِكْذَابِ إذْ ارْتِفَاعُ حُكْمِهِ وَقَطْعِ اعْتِبَارِهِ قَائِمًا شَرْعًا عِنْدَ الْإِكْذَابِ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ كَوْنِهِ قَدْ تَحَقَّقَ لَهُ وُجُودٌ فِي الْخَارِج ، وَلَكِنْ بَقِيَ النَّظَرُ فِي أَيِّ الِاحْتِمَالَيْنِ أَرْجَحُ ، وَأَظُنُّ أَنَّ الثَّانِي أَسْرَعُ إلَى الْفَهْمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا مَا اُسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَهُوَ لُزُومُ الْعَدَاوَةِ وَالضَّغِينَةِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ حُصُولُ الِانْتِظَامِ فَقَدَّمْنَا مَنْعَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ سَبَبُ تَأَبُّدِ الْحُرْمَةِ كَوْنُ أَحَدِهِمَا صَارَ مَلْعُونًا أَوْ مَغْضُوبًا عَلَيْهِ فَمَا أَبْعَدَهُ عَنْ الْفِقْهُ ، إذْ لَا شَكَّ فِي بَقَاءِ إسْلَامِ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ صَنَعَ كَبِيرَةً تَصِحُّ مِنْهَا التَّوْبَةُ بِفَضْلِ ذِي الْفَضْلِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَمْنَعُ التَّنَاكُحَ
( وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ ) وَصُورَةُ اللِّعَانِ أَنْ يَأْمُرَ الْحَاكِمُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ الْوَلَدِ ، وَكَذَا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ ( وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَنَفَى الْوَلَدَ ذَكَرَ فِي اللِّعَانِ الْأَمْرَيْنِ ثُمَّ يَنْفِي الْقَاضِي نَسَبَ الْوَلَدِ وَيُلْحِقُهُ بِأُمِّهِ ) لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَى وَلَدَ امْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ هِلَالٍ وَأَلْحَقَهُ بِهَا } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا اللِّعَانِ نَفْيُ الْوَلَدِ فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ مَقْصُودَهُ ، فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ بِالتَّفْرِيقِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ وَيَقُولُ : قَدْ أَلْزَمْته أُمَّهُ وَأَخْرَجْته مِنْ نَسَبِ الْأَبِ لِأَنَّهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ ( فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ حَدَّهُ الْقَاضِي ) لِإِقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ( وَحَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ) وَهَذَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلِّعَانِ فَارْتَفَعَ حُكْمُهُ الْمَنُوطُ بِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ ( وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا فَحُدَّ بِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ ) لِانْتِفَاءِ أَهْلِيَّةِ اللِّعَانِ مِنْ جَانِبِهَا
( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الْقَذْفُ بِوَلَدٍ نَفَى الْقَاضِي نَسَبَهُ وَأَلْحَقَهُ بِأُمِّهِ ) شَرْطُ هَذَا الْحُكْمِ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ فِي حَالٍ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِيهِ اللِّعَانُ ؛ حَتَّى لَوْ عَلِقَ وَهِيَ كَافِرَةٌ أَوْ أَمَةٌ ثُمَّ عَتَقَتْ وَأَسْلَمَتْ فَنَفْيُ نَسَبِ وَلَدِهَا لَا يَنْتَفِي وَلَا تَلَاعُنَ لِأَنَّ انْتِفَاءَهُ إنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا حُكْمًا لِلِّعَانِ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ، وَلِأَنَّ نَسَبَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ فَلَا يَنْقَطِعُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ لَا يُشْرَعُ اللِّعَانُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي الْمَجْبُوبِ وَالْخَصِيِّ وَمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ يُنْزِلُ بِالسَّحْقِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهِ عَلَى مَا هُوَ الْمُخْتَارُ ، وَلَا لِعَانَ فِي الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ يَجِبُ اللِّعَانُ بِهِ ، وَكَذَا فِي نَفْيِهِ مِنْ وَطِئَ بِشُبْهَةِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فِيهِمَا الْحَدُّ وَاللِّعَانُ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمَا بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : قَذَفَهَا بِنَفْيِ وَلَدِهَا فَلَمْ يَلْتَعِنَا حَتَّى قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ بِهِ فَحَدُّ الْأَجْنَبِيِّ يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا حُدَّ قَاذِفُهَا حُكِمَ بِكَذِبِهِ ( قَوْلُهُ وَصُورَةُ اللِّعَانِ ) أَيْ فِي الْقَذْفِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ ( قَوْلُهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَى نَسَبَ وَلَدِ امْرَأَةِ هِلَالٍ } ) قِيلَ إنَّهُ غَلَطٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِامْرَأَةِ هِلَالٍ وَلَدٌ وَلَا قَذَفَهَا بِنَفْيِ وَلَدٍ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِنَسَبِ وَلَدِهَا الَّذِي أَتَتْ بِهِ فَإِنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ الْوَطْءِ الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبُخَارِيِّ وَأَبِي دَاوُد تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُمَا وَتَتَّفِقُ .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عِشَاءً فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا ، فَرَأَى ذَلِكَ بِعَيْنَيْهِ وَسَمِعَ بِأُذُنَيْهِ فَلَمْ
يَهِجْهُ حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي جِئْتُ أَهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ عِنْدَهُمْ رَجُلًا ، فَرَأَيْت بِعَيْنِي وَسَمِعْتُ بِأُذُنِي ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَنَزَلَتْ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ } الْآيَةَ فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَبْشِرْ يَا هِلَالُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، قَالَ هِلَالٌ : قَدْ كُنْتُ أَرْجُو ذَلِكَ مِنْ رَبِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْسِلُوا إلَيْهَا فَجَاءَتْ ، فَتَلَا عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ وَذَكَّرَهُمَا وَأَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا ، وَقَالَ هِلَالٌ : وَاَللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ كَذَبْتَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَاعِنُوا بَيْنَهُمَا فَشَهِدَ هِلَالٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعِقَابَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُنِي اللَّهُ عَلَيْهَا كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي اللَّهُ عَلَيْهَا فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا ، ثُمَّ قِيلَ لَهَا اشْهَدِي ، فَشَهِدَتْ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ .
فَلَمَّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قِيلَ لَهَا اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَإِنَّ هَذِهِ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكَ الْعِقَابَ ، فَتَلَكَّأَتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ : وَاَللَّهِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي ، فَشَهِدَتْ الْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ
فِيمَا رَمَاهَا بِهِ ، فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ، ، وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا ، وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَقَضَى أَنْ لَا يَثْبُتَ لَهَا عَلَيْهِ سُكْنَى وَلَا قُوتٌ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ جَاءَتْ بِهِ أُصَيْهِبَ أَوْ أُرَيْصِحَ أُثَيْبِجَ نَاتِئَ الْأَلْيَتَيْنِ حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالٍ .
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيًّا خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ فَهُوَ لِلَّذِي رُمِيَتْ بِهِ ، فَجَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ إلَى آخِرِ الْأَوْصَافِ الثَّانِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } .
قَالَ عِكْرِمَةُ : وَكَانَ وَلَدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَمِيرًا عَلَى مِصْرَ وَمَا يُدْعَى لِأَبٍ ، هَذِهِ فِي لَفْظِ أَبِي دَاوُد .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : { سَائِرُ الْيَوْمِ لَا أَفْضَحُ قَوْمِي } .
وَفِي مُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَنَسٍ { أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ .
قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ وَكَانَ أَخَا الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ لِأُمِّهِ ، وَكَانَ أَوَّلَ رَجُلٍ لَاعَنَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُنْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبْطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ .
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، قَالَ : فَأُنْبِئْتُ أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ جَعْدًا حَمْشَ السَّاقَيْنِ } .
فَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا وَقَطَعَ نَسَبَ الْوَلَدِ الَّذِي تَأْتِي بِهِ .
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيّ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ وَكَانَتْ حُبْلَى .
} وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَكَذَا أَيْضًا .
وَقَالَ زَوْجُهَا : مَا قَرُبْتهَا مُنْذُ عِفَارِ النَّخْلِ ، وَعِفَارُ النَّخْلِ أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُسْقَى بَعْدَ الْإِبَارِ بِشَهْرَيْنِ ، { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ بَيِّنِ ، فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَكْرُوهِ } .
وَرَوَى ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ فِي تَرْجَمَةِ عُوَيْمِرٍ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ : شَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَجْلَانِيُّ وَقَدْ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ وَأَنْكَرَ حَمْلَهَا فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَرَأَيْتُهُمَا يَتَلَاعَنَانِ قَائِمَيْنِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ وَلَدَتْ فَأُلْحِقَ الْوَلَدُ بِالْمَرْأَةِ وَجَاءَتْ بِهِ أَشْبَهَ النَّاسِ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ ، وَكَانَ عُوَيْمِرٌ قَدْ لَامَهُ قَوْمُهُ وَقَالُوا امْرَأَةٌ لَا نَعْلَمُ فِيهِ إلَّا خَيْرًا ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّبَهُ بِشَرِيكٍ عَذَرَهُ النَّاسُ ، وَعَاشَ الْمَوْلُودُ سَنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ ، وَعَاشَتْ أُمُّهُ بَعْدَهُ يَسِيرًا ، وَصَارَ شَرِيكٌ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ بِحَالِ سُوءٍ } .
قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَحَدَّثَنِي غَيْرُ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ أَنَّ عُوَيْمِرًا مِنْ فُسَّاقِ الْحَدِيثِ ، إلَى أَنْ قَالَ : وَلَمْ يَحُدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرًا فِي قَذْفِهِ شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ .
وَشَهِدَ عُوَيْمِرُ بْنُ الْحَارِثِ وَشَرِيكُ ابْنُ سَحْمَاءَ أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَفِي هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ عَاشَ سَنَتَيْنِ وَمَاتَ وَنَسَبُهُ مَا نُسِبَ فِي قِصَّةِ هِلَالٍ إلَى شَرِيكٍ إلَيْهِ أَيْضًا فِي قِصَّةِ عُوَيْمِرٍ .
قِيلَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا فِي { قِصَّةِ هِلَالٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وُجِدَ عِنْدَ أَهْلِهِ ، فَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَفِي هَذَا
أَنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ وَفِيمَا تَقَدَّمَ خِلَافُهُ وَهَذَا تَعَارُضٌ ( قَوْلُهُ فَيَتَضَمَّنُهُ الْقَضَاءُ إلَخْ ) أَيْ يَثْبُتُ قَطْعُ النَّسَبِ فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ بِالتَّفْرِيقِ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِي يُفَرِّقُ إلَخْ ) أَيْ لَا يَثْبُتُ قَطْعُ النَّسَبِ ضِمْنًا لِلتَّفْرِيقِ ، لِأَنَّهُ : أَيْ التَّفْرِيقُ بِاللِّعَانِ ( قَوْلُهُ يَنْفَكُّ عَنْهُ ) أَيْ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ وَلَا يَنْقَطِعُ نَسَبُ ذَلِكَ الْوَلَدِ ، وَلَوْ نَفَى نَسَبَ أُمِّ الْوَلَدِ انْتَفَى الْوَلَدُ وَلَا لِعَانَ وَلَا تَفْرِيقَ بِهِ ( قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ ) حَتَّى لَوْ لَمْ يَقُلْهُ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ عَنْهُ .
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : هَذَا صَحِيحٌ ، وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ عَنْ مَالٍ فَادَّعَى الْمُلَاعِنُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَيُحَدُّ ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَرَكَ وَلَدًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ وَوَرِثَهُ الْأَبُ لِاحْتِيَاجِ الْحَيِّ إلَى النَّسَبِ ، وَلَوْ تَرَكَ بِنْتًا وَلَهَا ابْنٌ فَأَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا .
وَقِيلَ الْخِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ .
لَهُ أَنَّ الِابْنَ يُعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أُمِّهِ كَأَبِيهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِهَا ( قَوْلُهُ فَإِنْ عَادَ الزَّوْجُ فَأَكْذَبَ نَفْسَهُ ) أَيْ بَعْدَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ الْوَلَدِ ( قَوْلُهُ وَهَذَا عِنْدَهُمَا ) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا سَبَقَ ( قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَ غَيْرَهَا إلَخْ ) عَلَى وِزَانِ مَا قَدَّمْنَا فِي زَوَالِ الْأَهْلِيَّةِ بَعْدَ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ بِمُجَرَّدِ الزِّنَا ( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا زَنَتْ فَحُدَّتْ ) قِيلَ لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهَا إذَا حُدَّتْ كَانَ حَدُّهَا الرَّجْمَ فَلَا يُتَصَوَّرُ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ بَلْ بِمُجَرَّدِ أَنْ تَزْنِيَ تَخْرُجُ عَنْ الْأَهْلِيَّةِ وَلِذَا أَطْلَقْنَا فِيمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ ضَبَطَهُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ بِمَعْنَى نَسَبَتْ غَيْرَهَا لِلزِّنَا وَهُوَ مَعْنَى
الْقَذْفِ ، فَيَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ تَوَقُّفُ حِلِّهَا لِلْأَوَّلِ عَلَى حَدِّهَا لِأَنَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ وَتَوْجِيهُ تَخْفِيفِهَا أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاللِّعَانُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ زَنَتْ فَحُدَّتْ ، فَإِنَّ حَدَّهَا حِينَئِذٍ الْجَلْدُ لَا الرَّجْمُ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ زَوَالَ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ بِطُرُوِّ الْفِسْقِ مَثَلًا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ مَا حَكَمَ بِهِ الْقَاضِي عَنْهَا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَدَالَةِ فَلَا يَجِبُ بُطْلَانُ ذَلِكَ اللِّعَانِ السَّابِقِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ الْأَهْلِيَّةِ لِيَبْطُلَ أَثَرُهُ مِنْ الْحُرْمَةِ .
( وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهَا لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا ، فَكَذَا لَا يُلَاعِنُ الزَّوْجُ لِقِيَامِهِ مَقَامَهُ ( وَكَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا ) لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ( وَقَذْفُ الْأَخْرَسِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللِّعَانُ ) لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ كَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى عَنْ الشُّبْهَةِ وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِهَا
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ ) قَذْفًا مُقْتَصَرًا ( فَلَا لِعَانَ ) وَكَذَا لَوْ أَسْنَدَ الْقَذْفَ وَهِيَ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهَا فِي الْحَالِ بِأَنْ قَالَ زَنَيْتِ وَأَنْتِ صَبِيَّةٌ أَوْ مَجْنُونَةٌ وَجُنُونُهَا مَعْهُودٌ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي الْحَالِ لِأَنَّ فِعْلَهَا لَا يُوصَفُ بِالزِّنَا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ زَنَيْت وَأَنْتِ ذِمِّيَّةٌ أَوْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَعُمُرُهَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْتَصِرُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ ) أَيْ اللِّعَانُ يَتَعَلَّقُ بِالصَّرِيحِ كَحَدِّ الْقَذْفِ ، وَلِأَنَّهُ شَهَادَةٌ حَتَّى يَخْتَصَّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ، فَلَوْ قَالَ أَحْلِفُ مَكَانَ أَشْهَدُ لَا يَجُوزُ وَلَا شَهَادَةَ لِلْأَخْرَسِ فِي الْأَمْوَالِ فَهَاهُنَا أَوْلَى .
وَكَذَا إذَا كَانَتْ خَرْسَاءَ لَا لِعَانَ لِأَنَّ قَذْفَهَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا تُصَدِّقُهُ ، أَوْ لِتَعَذُّرِ الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ ( قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ ) وَمَالِكٌ وَالظَّاهِرِيَّةُ فَيُلَاعِنُ بِالْإِشَارَةِ عِنْدَهُمْ اعْتَبَرُوهُ بِوُقُوعِ طَلَاقِهِ وَصِحَّةِ بَيْعِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ .
وَقَالُوا : إنَّ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ أَصَمَتَتْ ، فَقِيلَ لَهَا لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَأَشَارَتْ : أَيْ نَعَمْ فَرَأَوْا أَنَّهَا وَصِيَّةٌ .
قُلْنَا : لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، وَلَوْ ثَبَتَ فَتَجْوِيزُ الْوَصِيَّةِ مِمَّنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ بِالْإِشَارَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ جَوَازَ حَدِّهِ بِهَا فَلَا يَجُوزُ اللِّعَانُ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ لَا تَعْرَى عَنْ الشُّبْهَةِ وَالْحَدُّ يَنْدَرِئُ بِهَا ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَهَا
( وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لَيْسَ حَمْلُك مِنِّي فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِقِيَامِ الْحَمْلِ فَلَمْ يَصِرْ قَاذِفًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : اللِّعَانُ يَجِبُ بِنَفْيِ الْحَمْلِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَهُ فَيَتَحَقَّقُ الْقَذْفُ .
قُلْنَا : إذَا لَمْ يَكُنْ قَذْفًا فِي الْحَالِ يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ بِك حَمْلٌ فَلَيْسَ مِنِّي .
وَالْقَذْفُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ ( وَإِنْ قَالَ لَهَا زَنَيْت وَهَذَا الْحَمْلُ مِنْ الزِّنَا تَلَاعَنَا ) لِوُجُودِ الْقَذْفِ حَيْثُ ذَكَرَ الزِّنَا صَرِيحًا ( وَلَمْ يَنْفِ الْقَاضِي الْحَمْلَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَنْفِيه لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَى الْوَلَدَ عَنْ هِلَالٍ وَقَدْ قَذَفَهَا حَامِلًا .
وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِتَمَكُّنِ الِاحْتِمَالِ قَبْلَهُ ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ قِيَامَ الْحَبَلِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ
( قَوْلُهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ ) وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَبِقَوْلِهِمَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا ( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : اللِّعَانُ يَجِبُ إلَخْ ) يَعْنِي وَقْتَ الْوَضْعِ إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْقَذْفِ لِلتَّيَقُّنِ بِقِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْقَذْفِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُلَاعِنُ قَبْلَ الْوِلَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ قَذْفُهَا حَامِلًا عَلَى مَا تُفِيدُهُ الْقِصَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( قَوْلُهُ يَصِيرُ كَالْمُعَلَّقِ ) كَأَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ فَهُوَ مِنْ الزِّنَا ، وَلَوْ قَالَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ فَكَذَا مَا بِمَعْنَاهُ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَةَ الْمُعَلَّقِ إذْ بِالْوِلَادَةِ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ قَذْفًا مُنَجَّزًا لَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ التَّعْلِيقِ إذْ فِي كُلِّ مَوْقُوفٍ شُبْهَةُ التَّعْلِيقِ إذْ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ إلَّا بِعَاقِبَتِهِ فَهُوَ كَالشَّرْطِ فِي حَقِّنَا ، وَشُبْهَةُ التَّعْلِيقِ كَحَقِيقَتِهِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَبِثُبُوتِ الشُّبْهَةِ امْتَنَعَ لِعَانُهَا حَامِلًا عِنْدَنَا لِأَنَّ الْحَمْلَ وَإِنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَحْكَامٌ كَرَدِّ الْمَبِيعَةِ بِهِ وَالْإِرْثِ لَهُ وَالْوَصِيَّةِ بِهِ وَلَهُ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَهِلَالٌ لَمْ يَكُنْ قَذَفَهَا بِنَفْيِ الْحَمْلِ بَلْ بِالزِّنَا ، قَالَ : وَجَدْت شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِهَا يَزْنِي بِهَا .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اُنْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا } إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْنَا فَانْظُرْهُ كَانَ إمَّا لِعِلْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَمْلِهَا مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَوْ لِأَنَّ اللِّعَانَ تَأَخَّرَ حَتَّى ظَهَرَ الْحَمْلُ ، وَكَذَا أَنْكَرَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لِعَانَ هِلَالٍ بِالْحَمْلِ قَالَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، عَلَى أَنَّ كَوْنَ لِعَانِهِمَا
كَانَ قَبْلَ الْوَضْعِ مُعَارَضًا ، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ وَضْعِهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ { فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُمَّ بَيِّنْ ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِاَلَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِهِ ، فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا } فَلَا يُسْتَدَلُّ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ لِأَنَّ التَّعَارُضَ يُوجِبُ التَّوَقُّفَ ( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْحَمْلِ إلَّا بَعْدَ الْوِلَادَةِ لِلِاحْتِمَالِ قَبْلَهَا ، إذْ يُحْتَمَلُ كَوْنُهُ نَفْخًا أَوْ مَاءً .
وَقَدْ أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَهْلِي عَنْ بَعْضِ خَوَاصِّهَا أَنَّهَا ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ وَاسْتَمَرَّ إلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَشْكُكْنَ فِيهِ حَتَّى تَهَيَّأْنَ لَهُ بِتَهْيِئَةِ ثِيَابِ الْمَوْلُودِ ثُمَّ أَصَابَهَا طَلْقٌ وَجَلَسَتْ الدَّايَةُ تَحْتَهَا وَلَمْ تَزَلْ تَعْصِرُ الْعَصْرَةَ بَعْدَ الْعَصْرَةِ وَفِي كُلِّ عَصْرَةٍ تَجِدُ مَاءً حَتَّى قَامَتْ فَارِغَةً مِنْ غَيْرِ وَلَدٍ .
وَأَمَّا تَوْرِيثُهُ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ وَلَهُ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَيَثْبُتَانِ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ .
وَأَمَّا الْعِتْقُ فَإِنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَعِتْقُهُ مُعَلَّقٌ مَعْنًى .
وَأَمَّا رَدُّ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِالْحَمْلِ فَلِأَنَّ الْحَمْلَ ظَاهِرٌ وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبْهَةِ .
وَفِي الْبَدَائِعِ : لَا يَقْطَعُ نَسَبَ الْحَمْلِ قَبْلَ وَضْعِهِ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْحَابِ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَثْبُتُ لِلْوَلَدِ لَا لِلْحَمْلِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ بِالِانْفِصَالِ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، بِخِلَافِ الرَّدِّ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْحَمْلَ ظَاهِرٌ وَاحْتِمَالُ الرِّيحِ شُبْهَةٌ ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَمْتَنِعُ بِالشُّبْهَةِ ، وَيَمْتَنِعُ اللِّعَانُ بِهَا لِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْحُدُودِ ، وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ
بِالشُّبْهَةِ فَلَا يُقَاسُ عَلَى الْعَيْبِ
( وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ وَلَدَ امْرَأَتِهِ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ أَوْ فِي الْحَالَةِ الَّتِي تَقْبَلُ التَّهْنِئَةَ وَتُبْتَاعُ آلَةُ الْوِلَادَةِ صَحَّ نَفْيُهُ وَلَاعَنَ بِهِ وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَاعَنَ ، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : يَصِحُّ نَفْيُهُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ ) لِأَنَّ النَّفْيَ يَصِحُّ فِي مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ وَلَا يَصِحُّ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ فَفَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِمُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ .
وَلَهُ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلتَّقْدِيرِ لِأَنَّ الزَّمَانَ لِلتَّأَمُّلِ وَأَحْوَالُ النَّاسِ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فَاعْتَبَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُهُ التَّهْنِئَةَ أَوْ سُكُوتُهُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ أَوْ ابْتِيَاعُهُ مَتَاعَ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ مُمْتَنِعٌ عَنْ النَّفْيِ .
وَلَوْ كَانَ غَائِبًا وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ ثُمَّ قَدِمَ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْأَصْلَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ ) الْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيَانُ شَرْطِ اعْتِبَارِ صِحَّةِ نَفْيِ الْوَلَدِ ، وَلَهُ شَرْطَانِ مُتَّفِقٌ وَمُخْتَلِفٌ ، فَالْمُتَّفِقُ أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّهْنِئَةَ أَوْ لَا يَسْكُتَ عِنْدَهَا ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي اُعْتُبِرَ فِيهَا السُّكُوتُ رِضًا ، وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا مَنْظُومَةً فِي كِتَابِ النِّكَاحِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي وَلَدِ الْأَمَةِ إذَا هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ قَبُولًا ، بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ، لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ إلَّا بِالدَّعْوَةِ ، فَالْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ وَالسُّكُوتُ لَيْسَ دَعْوَةً ، وَنَسَبُ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَسُكُوتُهُ يُسْقِطُ حَقَّهُ فِي النَّفْيِ ، وَالْمُخْتَلِفُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ .
أَعْنِي النَّفْيَ فِي زَمَانِ التَّهْنِئَةِ عَادَةً وَابْتِيَاعُ آلَةِ الْوِلَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَوْ وَقَعَ بَعْدَهُ إنْ كَانَ لَمْ يَقْبَلْ تَهْنِئَةً لَا يَنْتَفِي إلَّا إذَا كَانَ غَائِبًا عَلَى مَا سَيُذْكَرُ ، ثُمَّ لَمْ يُعَيَّنْ لَهَا مِقْدَارٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيرَهَا بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْهُ سَبْعَةً لِأَنَّهَا أَيَّامُ التَّهْنِئَةِ .
وَضَعَّفَهُ السَّرَخْسِيُّ بِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ مُتَعَذِّرٌ .
وَعِنْدَهُمَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ لِأَنَّهَا أَثَرُ الْوِلَادَةِ .
وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ النَّفْيُ إلَّا عَلَى فَوْرِ الْوِلَادَةِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ : إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ تَأْخِيرِهِ مُدَّةً يَقَعُ فِيهَا التَّأَمُّلُ لِأَنَّ النَّفْيَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَيْ لَا يَقَعَ فِي نَفْيِ وَلَدِهِ أَوْ اسْتِلْحَاقِ غَيْرِ وَلَدِهِ وَكِلَاهُمَا حَرَامٌ .
{ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلَاعَنَةِ أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَلَيْسَتْ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ وَلَنْ يُدْخِلَهَا اللَّهُ جَنَّتَهُ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ
إلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفَضَحَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّةَ إذَا طَالَتْ لَا يَجُوزُ النَّفْيُ فَجَعَلَا الْقَصِيرَةَ مُدَّةَ النِّفَاسِ لِأَنَّهُ أَثَرُ الْوِلَادَةِ ، وَلِذَا أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ ثَابِتَةٌ فِيهَا مِنْ عَدَمِ حِلِّ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْقُرْبَانِ فَكَأَنَّهُمَا فَوْرَ الْوِلَادَةِ .
وَقَالَ : لَا مَعْنَى لِتَعْيِينِ مُدَّةٍ أَصْلًا لِأَنَّهَا لِلتَّأَمُّلِ ، وَالنَّاسُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَالْأَحْوَالُ أَيْضًا تَخْتَلِفُ فِي إفَادَتِهِ ، فَاعْتَبَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبُولُ التَّهْنِئَةِ وَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ مِثْلَ أَحْسَنَ اللَّهُ بَارَكَ اللَّهُ جَزَاك اللَّهُ رَزَقَك مِثْلَهُ ، أَوْ أَمَّنَ عَلَى دُعَاءِ الْمُهَنِّئِ أَوْ سُكُوتُهُ عِنْدَ تَهْنِئَتِهِ أَوْ ابْتِيَاعُهُ مَتَاعَ الْوِلَادَةِ أَوْ مُضِيُّ ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ اعْتِبَارَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَمَا قَبْلَهُ لِجَوَازِ النَّفْيِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ التَّعْيِينِ فَيُنَافِيه قَوْلُهُ لَا مَعْنَى لِلتَّعْيِينِ أَصْلًا انْتَهَى ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ) مَا تَقَدَّمَ كَانَ إذَا كَانَ حَاضِرًا ، فَلَوْ كَانَ غَائِبًا لَمْ يَعْلَمْ بِالْوِلَادَةِ تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى الْأَصْلَيْنِ بَعْدَ قُدُومِهِ عِنْدَهُمَا قَدْرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ ، وَعِنْدَهُ قَدْرَ مُدَّةِ قَبُولِ التَّهْنِئَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : إنْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ تَمْضِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيه إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ قَدِمَ بَعْدَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيه أَصْلًا ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بَعْدَمَا صَارَ شَيْخًا وَهُوَ قَبِيحٌ ، فَلَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ فَلَهُ نَفْيُهُ إلَى تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَذَكَرَ
فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا بَلَغَهُ الْخَبَرُ لِتَمَامِ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ وَيُلَاعِنُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَوْ نَفَاهُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ بَلَغَهُ يُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا وَيُقْطَعُ نَسَبُهُ
قَالَ ( وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَنَفَى الْأَوَّلَ وَاعْتَرَفَ بِالثَّانِي يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا ) لِأَنَّهُمَا تَوْأَمَانِ خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ( وَحُدَّ الزَّوْجُ ) لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِدَعْوَى الثَّانِي ، وَإِنْ اعْتَرَفَ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِي يَثْبُتُ نَسَبُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَلَاعَنَ لِأَنَّهُ قَادِرٌ بِنَفْيِ الثَّانِي وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ سَابِقٌ عَلَى الْقَذْفِ فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إنَّهَا عَفِيفَةٌ ثُمَّ قَالَ هِيَ زَانِيَةٌ ، وَفِي ذَلِكَ التَّلَاعُنُ كَذَا هَذَا .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُمَا تَوْءَمَانِ ) هُمَا اللَّذَانِ بَيْنَ وِلَادَتِهِمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ( قَوْلُهُ وَحُدَّ الزَّوْجُ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِدَعْوَى الثَّانِي ) وَعَلَى هَذَا فِي أَوْلَادٍ ثَلَاثَةٍ أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَنَفَى الثَّانِي ( قَوْلُهُ وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ ) وَهُوَ مَا يَتَضَمَّنُهُ الِاعْتِرَافُ بِالْأَوَّلِ ( سَابِقٌ عَلَى الْقَذْفِ ) بِنَفْيِ الثَّانِي حَقِيقَةً ( فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هِيَ عَفِيفَةٌ ) ثُمَّ قَذَفَهَا .
لَا يُقَالُ : ثُبُوتُ نَسَبِ الْأَوَّلِ مُعْتَبَرٌ بَاقٍ بَعْدَ نَفْيِ الثَّانِي ، فَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ شَرْعًا يَكُونُ مُكَذِّبًا نَفْسَهُ بَعْدَ نَفْيِ الثَّانِي وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ .
لِأَنَّا نَقُولُ : الْحَقِيقَةُ انْقِطَاعُهُ وَثُبُوتُهُ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ ، وَالْحَدُّ لَا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ هُنَا مُتَعَيِّنًا لَا الْحُكْمِيِّ .
هَذَا وَمِنْ الشَّارِحِينَ مَنْ جَعَلَ قَوْلَهُ فِي الْكِتَابِ وَالْإِقْرَارُ بِالْعِفَّةِ سَابِقٌ إلَخْ هُوَ هَذَا الْجَوَابُ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ مُقَدَّرًا وَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ اللَّفْظِ .
[ فُرُوعٌ ] لَوْ نَفَاهُمَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ قُتِلَ قَبْلَ اللِّعَانِ لَزِمَاهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ نَفْيُ الْمَيِّتِ لِانْتِهَائِهِ بِالْمَوْتِ وَاسْتِغْنَائِهِ عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِي الْحَيُّ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ ، وَيُلَاعَنُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِوُجُودِ الْقَذْفِ ، وَاللِّعَانُ يَنْفَكُّ عَنْ نَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِقَطْعِ الْفِرَاشِ ، وَيَثْبُتُ النَّفْيُ تَبَعًا لَهُ إنْ أَمْكَنَ ، وَلَا يُلَاعِنُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْقَذْفَ أَوْجَبَ لِعَانًا يَقْطَعُ النَّسَبُ عَلَى خِلَافِ مَا وَجَبَ
وَلَوْ وَلَدَتْ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ لَزِمَ الْوَلَدَانِ لِأَنَّ الْقَاطِعَ وَهُوَ اللِّعَانُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الثَّانِي ، وَلَا يَجُوزُ نَفْيُهُ الْآنَ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَنْكُوحَةٍ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْأَوَّلِ وَاللِّعَانُ مَاضٍ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ الْفَصْلَ عَنْ انْتِفَائِهِ .
وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُمَا وَلَدَايَ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ لِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا ، وَلَا يَكُونُ رُجُوعًا لِعَدَمِ إكْذَابِ نَفْسِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لِلتَّصْرِيحِ بِالرُّجُوعِ .
وَلَوْ قَالَا لَيْسَا ابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ وَلَا يُحَدُّ لِأَنَّ الْقَاضِي نَفَى أَحَدَهُمَا وَذَلِكَ نَفْيٌ لِلتَّوْأَمَيْنِ فَلَيْسَا وَلَدَيْهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا مُطْلَقًا بَلْ مِنْ وَجْهٍ .
وَفِي النَّوَادِرِ : ذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي امْرَأَةٍ جَاءَتْ بِثَلَاثَةِ أَوْلَادٍ فَأَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ وَنَفَى الثَّانِي يُلَاعِنُ وَهُمْ بَنُوهُ ، وَلَوْ نَفَى الْأَوَّلَ وَالثَّالِثَ وَأَقَرَّ بِالثَّانِي يُحَدُّ وَهُمْ بَنُوهُ .
وَكَذَا فِي وَلَدٍ وَاحِدٍ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَنَفَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِثُبُوتِ نَسَبِ بَعْضِ الْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْكُلِّ ، كَمَنْ قَالَ يَدُهُ أَوْ رِجْلُهُ مِنِّي .
وَاعْلَمْ أَنَّ وَلَدَ الْمُلَاعَنَةِ إذَا قُطِعَ نَسَبُهُ مِنْ الْأَبِ وَأُلْحِقَ بِالْأُمِّ لَا يُعْمَلُ الْقَطْعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ بَلْ فِي بَعْضِهَا ، فَيَبْقَى النَّسَبُ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الشَّهَادَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْقِصَاصِ وَالنِّكَاحِ وَعَدَمِ اللُّحُوقِ بِالْغَيْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ وَلَا صَرْفُ زَكَاةِ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِهِ .
وَإِنْ كَانَ لِابْنِ الْمُلَاعِنَةِ ابْنٌ وَلِلزَّوْجِ بِنْتٌ مِنْ امْرَأَةٍ أُخْرَى لَا يَجُوزُ لِلِابْنِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِتِلْكَ الْبِنْتِ .
وَلَوْ ادَّعَى إنْسَانٌ هَذَا الْوَلَدُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْوَلَدُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَبْقَى فِي
حَقِّ النَّفَقَةِ وَالْإِرْثِ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
وَهُوَ مُشْكِلٌ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي مِمَّنْ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ وَادَّعَاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلَاعِنِ لِأَنَّهُ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ وَهُوَ مَقْطُوعُ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ ثُبُوتِهِ مِنْ الْمُلَاعِنِ وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ لَا يُنَافِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ ( وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ سَنَةً ، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَإِلَّا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْوَطْءِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ لِعِلَّةٍ مُعْتَرَضَةٍ ، وَيَحْتَمِلُ لِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ، وَقَدَّرْنَاهَا بِالسَّنَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ .
بَابُ الْعِنِّينِ وَغَيْرِهِ ) لَمَّا ذَكَرَ أَحْكَامَ الْأَصِحَّاءِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِمَّنْ بِهِ مَرَضٌ لَهُ نِسْبَةٌ إلَى النِّكَاحِ ، وَالْعِنِّينُ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِ النِّسَاءِ مَعَ قِيَامِ الْآلَةِ ، مِنْ عُنَّ إذَا حُبِسَ فِي الْعُنَّةِ وَهِيَ حَظِيرَةُ الْإِبِلِ ، أَوْ مِنْ عَنَّ إذَا عَرَضَ لِأَنَّ ذَكَرَهُ يَعِنُّ يَمِينًا وَشِمَالًا وَلَا يَقْصِدُهُ لِاسْتِرْخَائِهِ ، وَجَمْعُ الْعِنِّينِ عُنُنٌ ، وَيُقَالُ عِنِّينٌ بَيِّنُ التَّعَنُّنِ وَلَا يُقَالُ بَيِّنُ الْعُنَّةِ ، وَلَوْ كَانَ يَصِلُ إلَى الثَّيِّبِ لَا الْبِكْرِ لِضَعْفِ الْآلَةِ أَوْ إلَى بَعْضِ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ لِسِحْرٍ أَوْ لَكِبَرِ سِنٍّ فَهُوَ عِنِّينٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ لَا يَصِلُ إلَيْهَا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ فِي حَقِّهَا .
وَمَا عَنْ الْهِنْدُوَانِيُّ يُؤْتَى بِطَسْتٍ فِيهِ مَاءٌ بَارِدٌ فَيَجْلِسُ فِيهِ الْعِنِّينُ ، فَإِنْ نَقَصَ ذَكَرُهُ وَانْزَوَى عُلِمَ أَنَّهُ لَا عُنَّةَ بِهِ وَإِلَّا عُلِمَ أَنَّهُ عِنِّينٌ ، لَوْ اُعْتُبِرَ عِلْمٌ فَلَا يُؤَجَّلُ سَنَةً لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ إلَّا لِيُعْرَفَ أَنَّهُ عِنِّينٌ عَلَى مَا قَالُوا وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ إنْ أُجِّلَ مَعَ ذَلِكَ لَكِنَّ التَّأْجِيلَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ حُكْمُهُ .
وَفِي الْمُحِيطِ : آلَتُهُ قَصِيرَةٌ لَا يُمْكِنُ إدْخَالُهَا إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ انْتَهَى .
وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا جِدًّا كَالزِّرِّ فَحُكْمُهُ كَالْمَجْبُوبِ ( قَوْلُهُ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ سَنَةً ) أَيْ مِنْ وَقْتِ الْخُصُومَةِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَأْجِيلُ غَيْرِ الْحَاكِمِ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، وَلَوْ عُزِلَ بَعْدَمَا أَجَّلَهُ بَنَى الْمُتَوَلِّي عَلَى التَّأْجِيلِ الْأَوَّلِ ( قَوْلُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ ) أَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ فَلَهَا طُرُقٌ : فَمِنْهَا طَرِيقُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ : قَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْعِنِّينِ
أَنْ يُؤَجَّلَ سَنَةً ، قَالَ مَعْمَرٌ : وَبَلَغَنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ يَوْمِ يُخَاصِمُ ، وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ يُرْفَعُ إلَيْهِ الْحَدِيثُ .
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِ أَنَّ عُمَرَ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً ، زَادَ فِي لَفْظِ وَقَالَ : إنْ أَتَاهَا وَإِلَّا فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا .
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَصِلُ إلَيْهَا فَأَجَّلَهُ حَوْلًا ، فَلَمَّا انْقَضَى حَوْلٌ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا عُمَرُ وَجَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً .
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْهِمَا ، وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْهُ : يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً ، فَإِنْ جَامَعَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا .
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالدَّارَقُطْنِيّ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً ( قَوْلُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُدَّةِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ) أَيْ مَعْرِفَةٍ لِكَوْنِ الِامْتِنَاعِ لِعِلَّةٍ مُعْتَرِضَةٍ أَوْ آفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَقَدَّرْنَاهَا بِالسَّنَةِ لِأَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ لِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ عِلَّةٍ مُعْتَرِضَةٍ فَلَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهَا مِنْ غَلَبَةِ حَرَارَةٍ أَوْ بُرُودَةٍ أَوْ رُطُوبَةٍ أَوْ يُبُوسَةٍ ، وَالسَّنَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ ، وَكُلُّ فَصْلٍ
بِأَحَدِ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ ، فَالصَّيْفُ حَارٌّ يَابِسٌ ، وَالْخَرِيفُ بَارِدٌ يَابِسٌ وَهُوَ أَرْدَأُ الْفُصُولِ ، وَالشِّتَاءُ بَارِدٌ رَطْبٌ ، وَالرَّبِيعُ حَارٌّ رَطْبٌ ، فَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ عَنْ أَحَدِ هَذِهِ تَمَّ عِلَاجُهُ فِي الْفَصْلِ الْمُضَادِّ لَهُ فِيهِ ، أَوْ مِنْ كَيْفِيَّتَيْنِ فَيَتِمُّ فِي مَجْمُوعِ فَصْلَيْنِ مُضَادَّيْنِ فَكَانَتْ السَّنَةُ تَمَامَ مَا يُتَعَرَّفُ بِهِ الْحَالُ .
فَإِذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُصَلِّ إلَيْهَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَجْزَ بِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فَفَاتَ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا لِأَنَّ التَّفْرِيقَ حَقُّهَا ( وَتِلْكَ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ ) لِأَنَّ فِعْلَ الْقَاضِي أُضِيفَ إلَى الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ فَسْخٌ لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا تَقَعُ بَائِنَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهَا لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ بَائِنَةً تَعُودُ مُعَلَّقَةً بِالْمُرَاجَعَةِ .
( قَوْلُهُ فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ بِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ ) وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ مُوجِبَ التَّفْرِيقِ كَوْنُهُ مِنْ عِلَّةٍ أَصْلِيَّةٍ وَالسَّنَةُ ضُرِبَتْ لِتَعْرِيفِهِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا سَنَةً كَوْنُ ذَلِكَ لِآفَةٍ أَصْلِيَّةٍ فِي الْخِلْقَةِ ، إذْ الْمَرَضُ قَدْ يَمْتَدُّ سَنَةً ، وَأَيْضًا مِمَّا لَهُ حُكْمُ الْعِنِّينِ الْمَسْحُورِ ، وَمُقْتَضَى السِّحْرِ مِمَّا قَدْ يَمْتَدُّ السِّنِينَ وَبِمُضِيِّ السَّنَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَتْ ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْآفَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِغَرَضِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَصِلُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ .
فَالْحَقُّ أَنَّ التَّفْرِيقَ مَنُوطٌ إمَّا بِغَلَبَةِ ظَنِّ عَدَمِ زَوَالِهِ لِزَمَانَتِهِ أَوْ لِلْأَصْلِيَّةِ ، وَمُضِيُّ السَّنَةِ مَعَ عَدَمِ الْوُصُولِ مُوجِبٌ لِذَلِكَ ، أَوْ هُوَ عَدَمُ إيفَاءِ حَقِّهَا فَقَطْ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ ، وَالسَّنَةُ جُعِلَتْ غَايَةً فِي الصَّبْرِ وَإِبْلَاءَ الْعُذْرِ شَرْعًا ، حَتَّى لَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ بَعْدَ انْقِضَائِهَا قُرْبُ زَوَالِهِ وَقَالَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ أَجِّلْنِي يَوْمًا لَا يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهَا ، فَلَوْ رَضِيَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ كَانَ لَهَا ذَلِكَ وَيَبْطُلُ الْأَجَلُ لِأَنَّ السَّنَةَ غَايَةٌ فِي إبْلَاءِ الْعُذْرِ .
وَقَالَ لَبِيدٌ لِابْنَتَيْهِ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ : تَمَنَّى ابْنَتَايَ أَنْ يَعِيشَ أَبُوهُمَا وَهَلْ أَنَا إلَّا مِنْ رَبِيعَةَ أَوْ مُضَرَ فَقُومَا وَقُولَا بِاَلَّذِي قَدْ عَلِمْتُمَا وَلَا تَخْمُشَا وَجْهًا وَلَا تَحْلِقَا الشَّعْرَ إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ ( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِهَا ) هَذَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً غَيْرَ رَتْقَاءَ ، فَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْفُرْقَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَالطَّلَبُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَهَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِسَيِّدِهَا .
وَهُوَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ الْإِذْنِ فِي الْعَزْلِ .
وَقِيلَ مُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ وَقَدْ مَرَّتْ ،
وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي طَلَبِ الْفُرْقَةِ بِتَأْخِيرِ الْمُرَافَعَةِ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ بَعْدَ التَّأْجِيلِ مَهْمَا أُخِّرَتْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ لِلتَّجْرِبَةِ وَتَرَجِّي الْوُصُولِ لَا بِالرِّضَا بِالْمُقَامِ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا بِالشَّكِّ ، وَلَوْ وَجَدَتْ كَبِيرَةٌ زَوْجَهَا الصَّغِيرَ عِنِّينًا يُنْتَظَرُ بُلُوغُهُ لِأَنَّ لِلصِّبَا أَثَرًا فِي عَدَمِ الشَّهْوَةِ .
قَالَ قَاضِي خَانْ : الْغُلَامُ الَّذِي بَلَغَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً إذَا لَمْ يُصَلِّ إلَى امْرَأَتِهِ وَيَصِلُ إلَى غَيْرِهَا يُؤَجَّلُ .
وَلَوْ وَجَدَتْ زَوْجَهَا الْمَجْنُونَ عِنِّينًا فَخَاصَمَ عَنْهُ وَلِيُّهُ يُؤَجَّلُ لِسَنَةٍ لِأَنَّ الْجُنُونَ لَا يُعْدِمُ الشَّهْوَةَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا وَطَلَبَتْ الْفُرْقَةَ مِمَّنْ يُخَاصِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فَإِنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْتِظَارِ بُلُوغِهِ فَيُجْعَلُ وَلِيُّهُ خَصْمًا وَإِلَّا نَصَّبَ الْقَاضِي عَنْهُ خَصْمًا وَفَرَّقَ لِلْحَالِ .
وَلَوْ جَاءَ الْوَلِيُّ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ بِبَيِّنَةٍ عَلَى رِضَاهَا بِعُنَّتِهِ وَجَبِّهِ أَوْ عَلَى عِلْمِهَا بِحَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَزِمَ النِّكَاحُ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ طَلَبَ يَمِينَهَا عَلَى ذَلِكَ تَحْلِفُ ، فَإِنْ نَكَلَتْ لَمْ يُفَرَّقْ وَإِلَّا فُرِّقَ ، وَلَوْ وُكِّلَتْ الْكَبِيرَةُ بِالتَّفْرِيقِ وَغَابَتْ هَلْ يُفَرِّقُ بِطَلَبِ الْوَكِيلِ ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْجَبِّ فَادَّعَتْهُ فَأَنْكَرَهُ يُرِيهِ رَجُلًا ، فَإِنْ أَمْكَنَ عِلْمُهُ بِهِ بِالْجَسِّ مِنْ وَرَاءِ ثَوْبٍ لَا يَكْشِفُ عَوْرَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِذَلِكَ إلَّا بِكَشْفِهَا لِلضَّرُورَةِ .
وَلَوْ جَاءَتْ امْرَأَةُ الْمَجْبُوبِ بِوَلَدٍ بَعْدَ الْفُرْقَةِ إلَى سَنَتَيْنِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَلَا يَبْطُلُ التَّفْرِيقُ ، بِخِلَافِهِ فِي الْعِنِّينِ حَيْثُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَيَبْطُلُ التَّفْرِيقُ .
ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ .
قَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِتَفْرِيقِهِ وَهُوَ بَائِنٌ فَكَيْفَ يَبْطُلُ بَعْدَ
وُقُوعِهِ ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا لَا يَبْطُلُ التَّفْرِيقُ انْتَهَى .
لَكِنَّ وَجْهَ التَّفْرِقَةِ يُبْعِدُ هَذَا الْبَحْثَ ، وَهُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعُنَّةِ وَالْجَبِّ ، وَثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ الْمَجْبُوبِ وَهُوَ مَجْبُوبٌ ، بِخِلَافِ ثُبُوتِهِ مِنْ الْعِنِّينِ فَإِنَّ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ يَثْبُتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِنِّينٍ فَيَظْهَرُ بُطْلَانُ مَعْنَى الْفُرْقَةِ ، بِخِلَافِ إقْرَارِهَا بَعْدَ الْمُدَّةِ بِالْوَطْءِ لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ بَلْ هِيَ بِهِ مُنَاقِضَةٌ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِالْفُرْقَةِ .
وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَةُ الْعِنِّينِ أَوْ الْمَجْبُوبِ صَغِيرَةً لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بَلْ يَنْتَظِرُ بُلُوغَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَرْضَى بِهِ إذَا بَلَغَتْ ، وَإِذَا رَضِيَتْ قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا سَقَطَ حَقُّهَا وَلَيْسَ لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ يُجَامِعُ وَلَا يُنْزِلُ لِجَفَافِ مَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَلَبُ الْفُرْقَةِ ( قَوْلُهُ وَتِلْكَ الْفُرْقَةُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : فُسِخَ لِأَنَّهَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَقَاسَ الْمَاوَرْدِيُّ عَلَى الْفُرْقَةِ بِالْجَبِّ .
قُلْنَا : بَلْ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ حِينَ عَجَزَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ كَانَ ظَالِمًا فَنَابَ الْقَاضِي عَنْهُ فِيهِ فَيُضَافُ فِعْلُهُ إلَيْهِ ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الْجَبِّ مَمْنُوعٌ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِهِ عِنْدَنَا أَيْضًا طَلَاقٌ .
( قَوْلُهُ لَكِنَّ النِّكَاحَ لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا ) أَيْ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ التَّامَّ النَّافِذَ اللَّازِمَ لِأَنَّهُ النِّكَاحُ الْمُطْلَقُ فَخَرَجَ الْفَاسِدُ وَالْمَوْقُوفُ وَالْفَسْخُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَخِيَارُ الْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ فَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِتْمَامِ ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ
لِأَنَّهُ فُرْقَةٌ بَعْدَ التَّمَامِ فَلَا يَقْبَلُهَا كَمَا لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَلَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ لِلْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ ؛ لِأَنَّ خَلْوَةَ الْعِنِّينِ صَحِيحَةٌ ، إذْ لَا وُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْعُنَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْوَطْءِ اخْتِيَارًا تَعَنُّتًا فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَلَامَةِ الْآلَةِ وَلَا يَحِلُّ تَرْكُ وَطْئِهَا ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّهَا رَضِيَتْ حَيْثُ نَكَحَتْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ ؛ وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِهِ أُخْرَى عَالِمَةً بِحَالِهِ فَفِي الْأَصْلِ كَذَلِكَ يَكُونُ رِضًا ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَقِيلَ : لَا يَكُونُ رِضًا لِجَوَازِ تَأْمِيلِهَا بُرْأَهُ .
وَدُفِعَ بِأَنَّهُ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَبْرَأْ فِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ ، فَالظَّاهِرُ لُزُومُهُ وَزَمَانَتُهُ فَتَكُونُ بِالتَّزَوُّجِ بِهِ رَاضِيَةً بِالْعَيْبِ .
( وَلَهَا كَمَالُ مَهْرِهَا إنْ كَانَ خَلَا بِهَا ) فَإِنَّ خَلْوَةَ الْعِنِّينِ صَحِيحَةٌ ( وَيَجِبُ الْعِدَّةُ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ قَبْلِ هَذَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا ( وَلَوْ اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْوُصُولِ إلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِحْقَاقَ حَقِّ الْفُرْقَةِ وَالْأَصْلُ هُوَ السَّلَامَةُ فِي الْجِبِلَّةِ ( ثُمَّ إنْ حَلَفَ بَطَلَ حَقُّهَا ، وَإِنْ نَكَلَ يُؤَجَّلُ سَنَةً ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ أُجِّلَ سَنَةً ) لِظُهُورِ كَذِبِهِ ( وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الزَّوْجُ ، فَإِنْ حَلَفَ لَا حَقَّ لَهَا ، وَإِنْ نَكَلَ يُؤَجَّلُ سَنَةً ، وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ إنْ طَلَبَتْ ) لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْجِيلِ ( وَالْخَصِيُّ يُؤَجَّلُ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ ) لِأَنَّ وَطْأَهُ مَرْجُوٌّ .
( وَإِذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً وَقَالَ قَدْ جَامَعْتُهَا وَأَنْكَرَتْ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ .
فَإِنْ قُلْنَ : هِيَ بِكْرٌ خُيِّرَتْ ) لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَهِيَ الْبَكَارَةُ ( وَإِنْ قُلْنَ : هِيَ ثَيِّبٌ حَلَفَ الزَّوْجُ ، فَإِنْ نَكَلَ خُيِّرَتْ ) لِتَأَيُّدِهَا بِالنُّكُولِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا تُخَيَّرُ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فِي الْأَصْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ ( فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ خِيَارٌ ) لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِبُطْلَانِ حَقِّهَا
( قَوْلُهُ هَذَا ) أَيْ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ بِالْفُرْقَةِ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ سَنَةً ثُمَّ بَعْدَهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إذَا اعْتَرَفَ الزَّوْجُ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا فِي هَذَا النِّكَاحِ ، وَإِنْ تَصَادَفَا أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا فِي نِكَاحٍ قَبْلَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا لِأَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا فِي نِكَاحٍ ثُمَّ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثَانِيًا وَلَمْ يُصَلِّ إلَيْهَا لَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَادَّعَى الْوُصُولَ وَقَالَتْ : لَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ فِي الْكِتَابِ ( قَوْلُهُ وَإِنْ نَكَلَ أُجِّلَ سَنَةً ) سَوَاءٌ جُعِلَ النُّكُولُ إقْرَارًا أَوْ بَذْلًا فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا ) يَعْنِي إذَا نَكَلَ وَكَانَتْ بِكْرًا وَقْتَ النِّكَاحِ لَا يُسْتَحْلَفُ بَلْ تَرَاهَا النِّسَاءُ ، ( فَإِنْ قُلْنَ ) : هِيَ بِكْرٌ أُجِّلَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى الِاسْتِحْلَافِ وَالنُّكُولِ لِتَيَقُّنِ كَذِبِهِ ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ قُلْنَ : خَرَجَ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى مِنْ إرَاءَتِهَا لِامْرَأَتَيْنِ ثُمَّ جَعَلَهُمَا جَمْعًا وَإِلَّا فَالْوَاحِدَةُ الْعَدْلَةُ تَكْفِي نَصَّ عَلَى الْعَدَالَةِ فِي كَافِي الْحَاكِمِ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ .
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ أَنَّهَا بِكْرٌ أَنْ تُدْفَعَ فِي فَرْجِهَا أَصْغَرُ بَيْضَةٍ لِلدَّجَاجِ ، فَإِنْ دَخَلَتْ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ فَهِيَ ثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ ؛ أَوْ تُكْسَرُ وَتُسْكَبُ فِي فَرْجِهَا ، فَإِنْ دَخَلَ فَثَيِّبٌ وَإِلَّا فَبِكْرٌ ، وَقِيلَ إنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَبُولَ عَلَى الْجِدَارِ فَبِكْرٌ وَإِلَّا فَثَيِّبٌ ، وَإِنْ قُلْنَ ثَيِّبٌ تَثْبُتُ الثُّيُوبَةُ وَلَا يَثْبُتُ وُصُولُهُ إلَيْهَا لِأَنَّ الْبَكَارَةَ قَدْ تَزُولُ بِغَيْرِهِ كَوَثْبَةٍ وَنَحْوِهَا ؛ غَيْرَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ لَوْ قَالَتْ زَالَتْ الْبَكَارَةُ بِأُصْبُعِهِ وَنَحْوِهِ فَيُحَلَّفُ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا ، فَإِنْ حَلَفَ تَقَرَّرَ النِّكَاحُ وَإِنْ نَكَلَ أَجَّلَهُ سَنَةً ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا ، ثُمَّ إذَا أُجِّلَ وَمَضَتْ السَّنَةُ فَاخْتَلَفَا فِي
الْوُصُولِ فِي السَّنَةِ فَعَلَى مَا إذَا اخْتَلَفَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ ، إنْ كَانَتْ بِكْرًا نَظَرْنَ إلَيْهَا ، فَإِنْ قُلْنَ : بِكْرٌ خُيِّرَتْ لِلْحَالِ بَيْنَ الْإِقَامَةِ وَالْفُرْقَةِ ، وَإِنْ قُلْنَ : ثَيِّبٌ حُلِّفَ فَإِنْ نَكَلَ خُيِّرَتْ وَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فِي الْأَصْلِ فَاخْتَلَفَا قَبْلَ التَّأْجِيلِ أَوْ بَعْدَهُ فَالْقَوْلُ لَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ اسْتَقَرَّ النِّكَاحُ ، وَلَوْ نَكَلَ أُجِّلَ وَخُيِّرَتْ بَعْدَهُ ، وَفِي مَوْضِعٍ تُخَيَّرُ يُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ كَتَخْيِيرِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا أَوْ أَقَامَهَا أَعْوِنَةُ الْقَاضِي وَلَوْ مُكْرَهَةً لَزِمَ النِّكَاحُ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهَا اخْتِيَارُ نَفْسِهَا قَبْلَ أَنْ تُقَامَ ، وَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُطَلِّقَهَا ، فَإِنْ أَبَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
وَقِيلَ : تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاخْتِيَارِ نَفْسِهَا وَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ كَخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْجِيلِ ) لِأَنَّهُ لِتَوَقُّعِ الْوُقُوعِ وَلَا تَوَقُّعَ لِفَقْدِ الْآلَةِ ، بِخِلَافِ الْخَصِيِّ لِأَنَّ آلَتَهُ قَائِمَةٌ ، وَإِنَّمَا سُلَّتْ خُصْيَتَاهُ أَوْ وُجِئَ ، وَالْمَوْجُوءُ الَّذِي رُضَّ خُصْيَتَاهُ .
قَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْمَاشِيَةِ : إنَّهُ تُمْرَسُ الْخُصْيَتَانِ وَهُوَ صَغِيرٌ مَرْسًا شَدِيدًا ثُمَّ يُحْبَسَانِ إلَى فَوْقٍ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَا إلَى ظَهْرِهِ فَلَا يَعُودَانِ ، وَيَكُونُ نَشِيطًا كَثِيرَ الْجِمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْبِلُ ، فَالتَّوَقُّعُ وَاقِعٌ فَيُؤَجَّلُ كَالْعِنِّينِ ( قَوْلُهُ وَإِذَا أُجِّلَ الْعِنِّينُ سَنَةً فَقَالَ إلَخْ ) قَدْ وَصَلْنَا هَذَا الِاخْتِلَافَ الْكَائِنَ بَعْدَ التَّأْجِيلِ بِالِاخْتِلَافِ قَبْلَهُ فَلَا نُعِيدُهُ .
[ فَرْعٌ ] الْخُنْثَى إذَا كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَهُوَ جَائِزٌ ، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَإِلَّا أُجِّلَ كَالْعِنِّينِ ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ .
وَكُلُّ مَنْ تَزَوَّجَتْ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ : أَعْنِي الْمَجْبُوبَ وَالْخَصِيَّ وَالْعِنِّينَ وَهِيَ عَالِمَةٌ بِحَالِهِ فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَالِمَةً بِهِ فَلَهَا الْمُطَالَبَةُ بِالْفُرْقَةِ .
وَفِي التَّأْجِيلِ تُعْتَبَرُ السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ هُوَ الصَّحِيحُ وَيُحْتَسَبُ بِأَيَّامِ الْحَيْضِ وَبِشَهْرِ رَمَضَانَ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ وَلَا يُحْتَسَبُ بِمَرَضِهِ وَمَرَضِهَا لِأَنَّ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْهُ .
( قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ ) صَحَّحَهُ أَيْضًا صَاحِبُ الْوَاقِعَاتِ احْتِرَازًا عَمَّا اخْتَارَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَقَاضِي خَانَ وَظَهِيرُ الدِّينِ مِنْ اعْتِبَارِهَا شَمْسِيَّةً ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَا ضُرِبَتْ السَّنَةُ إلَّا لِلتَّوَصُّلِ إلَى صَلَاحِ الطَّبْعِ وَرَفْعِ الْمَانِعِ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُوَافِقَ طَبْعُهُ مُدَّةَ زِيَادَةِ السَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ عَلَى الْقَمَرِيَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا .
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ ذَكَرْنَا مَعَهُ اسْمُ السَّنَةِ قَوْلًا وَأَهْلُ الشَّرْعِ إنَّمَا يَتَعَارَفُونَ الْأَشْهُرَ وَالسِّنِينَ بِالْأَهِلَّةِ ، فَإِذَا أُطْلِقَ السَّنَةُ انْصَرَفَ إلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِخِلَافِهِ ، ثُمَّ زِيَادَةُ الشَّمْسِيَّةِ قِيلَ : أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ : السَّنَةُ الشَّمْسِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَجُزْءٌ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ الْيَوْمِ ، وَالْقَمَرِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ كَذَا رَأَيْت فِي نُسْخَةٍ .
وَرَأَيْت فِي أُخْرَى عَنْهُ فِي الشَّمْسِيَّةِ زِيَادَةُ رُبُعِ يَوْمٍ مَعَ مَا ذَكَرْنَا .
وَقِيلَ : الْقَمَرِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا وَخُمُسُ يَوْمٍ وَسُدُسُهُ ، وَالشَّمْسِيَّةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا وَرُبُعُ يَوْمٍ إلَّا جُزْءًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ جُزْءٍ مِنْ يَوْمٍ ، وَفَضَلَ مَا بَيْنَهُمَا عَشْرَةُ أَيَّامٍ وَثُلُثٌ وَرُبُعُ عُشْرِ يَوْمٍ بِالتَّقْرِيبِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُحْدَثٌ .
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ كَتَبَ إلَى شُرَيْحٍ أَنْ يُؤَجِّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً مِنْ يَوْمِ تُرْفَعُ الدَّعْوَى إلَيْهِ ، وَكَذَا قَوْلُ الرَّاوِي عَنْ عُمَرَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَتْ إلَيْهِ فَأَجَّلَهُ حَوْلًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فِي السَّنَةِ ، وَالْحَوْلُ لَمْ يَرِدْ حِينَئِذٍ إلَّا مَا بِالْأَهِلَّةِ هَذَا الَّذِي تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ وَأَهْلُ الشَّرْعِ ، عَلَى أَنَّ الْحَوْلَ لَمْ يُعْرَفْ بِعُرْفٍ آخَرَ بَلْ
اسْمُ السَّنَةِ هُوَ الَّذِي تَوَارَدَ عَلَيْهِ الْعُرْفَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَتُعْتَبَرُ بِأَيَّامِ الْحَيْضِ ) أَيْ تُحْتَسَبُ مِنْ السَّنَةِ لِوُجُودِهَا فِي السَّنَةِ يَقِينًا وَعَادَةً .
( قَوْلُهُ وَلَا تُحْتَسَبُ بِمَرَضِهِ وَمَرَضِهَا ) هَكَذَا مُطْلَقًا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا مَرِضَ أَحَدُهُمَا مَرَضًا لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْجِمَاعَ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ لَمْ يُحْتَسَبْ وَعَوَّضَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْوَطْءِ فِيهِ بِاللَّيْلِ لَا بِالنَّهَارِ وَذَلِكَ نِصْفُهُ ، فَكَذَا النِّصْفُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَهَذَا أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّ مَا فَوْقَ الشَّهْرِ كَذَلِكَ لَا يُحْتَسَبُ بِهِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إنَّ مُدَّةَ الْكَثْرَةِ سَنَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ : أَكْثَرُ السَّنَةِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ : لَوْ مَرِضَ فِي السَّنَةِ يُؤَجَّلُ مِقْدَارَ مَرَضِهِ ، قِيلَ عَلَيْهِ الْفَتْوَى ، فَإِنْ حَجَّ أَوْ غَابَ هُوَ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْعَجْزَ جَاءَ بِفِعْلِهِ وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مَعَهُ أَوْ يُؤَخِّرَ الْحَجَّ وَالْغَيْبَةَ ، وَلَوْ كَانَ مُحْرِمًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : يُؤَجَّلُ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَلَا يَكُونُ عُذْرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَجَّتْ هِيَ أَوْ غَابَتْ لَا يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَجْزَ مِنْ قِبَلِهَا فَكَانَ عُذْرًا فَيُعَوَّضُ ، فَإِنْ حُبِسَ الزَّوْجُ وَلَوْ بِمَهْرِهَا وَامْتَنَعَتْ مِنْ الْمَجِيءِ إلَى السِّجْنِ لَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ وَكَانَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ فِيهِ اُحْتُسِبَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا فِيهِ لَمْ يُحْتَسَبْ ، وَلَوْ رَافَعَتْهُ وَهُوَ مُظَاهِرٌ مِنْهَا تُعْتَبَرُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ الْمُرَافَعَةِ إنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْإِعْتَاقِ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا أَمْهَلَهُ شَهْرَيْ الْكَفَّارَةِ ثُمَّ أَجَّلَهُ فَيَتِمُّ تَأْجِيلُهُ سَنَةً وَشَهْرَيْنِ ، وَلَوْ ظَاهَرَ بَعْدَ التَّأْجِيلِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ
وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الْمُدَّةِ الْمُقَدَّرَةِ .
( وَإِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُرَدُّ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ : الْجُذَامُ وَالْبَرَصُ وَالْجُنُونُ وَالرَّتْقُ وَالْقَرْنُ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ حِسًّا أَوْ طَبْعًا وَالطَّبْعُ مُؤَيَّدٌ بِالشَّرْعِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ } وَلَنَا أَنَّ فَوْتَ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ فَاخْتِلَالُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الثَّمَرَاتِ وَالْمُسْتَحَقُّ هُوَ التَّمَكُّنُ وَهُوَ حَاصِلٌ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا كَانَ بِالزَّوْجَةِ عَيْبٌ ) إلَخْ الْحَاصِلُ أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ خِيَارُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِعَيْبٍ فِي الْآخَرِ كَائِنًا مَنْ كَانَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبِي زِيَادٍ وَأَبِي قِلَابَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَالْخَطَّابِيِّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَأَتْبَاعِهِ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : إنَّهُ مَذْهَبُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ : لَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ بِعَيْبٍ فِي الْمَرْأَةِ وَلَهَا هِيَ الْخِيَارُ بِعَيْبٍ فِيهِ مِنْ الثَّلَاثَةِ : الْجُنُونُ ، وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لِكُلٍّ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ ، وَلِلزَّوْجِ الْفَسْخُ إذَا كَانَتْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ أَيْضًا ، فَلَهُ الْخِيَارُ فِي خَمْسَةِ عُيُوبٍ وَلَهَا فِي ثَلَاثَةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَشُرَيْحٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَتُرَدُّ بِجَمِيعِ الْعُيُوبِ ، وَكَذَا مِنْ الْجُنُونِ الْعَارِضِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْجُنُونِ مَشْهُورَاتٌ ، وَالْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْآخِرِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فَيُقَالُ : جُذِمَ وَجُنَّ إذَا أُصِيبَ بِالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ فَهُوَ مَجْذُومٌ وَمَجْنُونٌ ، وَلَا يُقَالُ أَجْذَمَ وَلَا أَجَنَّ وَلَا مَجَنَ ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَفْعُولِينَ مِنْ أَفْعَلَ جَاءَتْ عَلَى مَفْعُولٍ دُونَ مُفْعَلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ : مَجْنُونٌ وَمَحْزُونٌ مِنْ أَحْزَنَهُ اللَّهُ وَمَحْبُوبٌ مِنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ .
وَجَاءَ عَلَى الْقِيَاسِ فِي الثَّالِثِ فِي قَوْلِ عَنْتَرَةَ : وَلَقَدْ نَزَلْتَ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحِبِّ الْمُكْرِمِ وَالْفِعْلُ مِنْ الْبَرَصِ بَرِصَ فَهُوَ أَبْرَصُ وَأَبْرَصَهُ اللَّهُ .
وَالرَّتْقُ الِالْتِحَامُ ، وَالرَّتْقَاءُ هِيَ الْمُلْتَحِمَةُ .
وَالْقَرْنُ فِي الْفَرْجِ إمَّا غُدَّةٌ غَلِيظَةٌ أَوْ عَظْمٌ يَمْنَعُ سُلُوكَ الذَّكَرِ .
لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ مَعَهُ النَّصُّ فِي
بَعْضِهَا وَقِيَاسَانِ فِي بَعْضِهَا ، وَثَلَاثَةُ أَقْيِسَةٍ فِي بَعْضِهَا .
أَمَّا النَّصُّ فَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّ بِالْعَيْبِ ، قَالَ لِلَّتِي رَأَى بِكَشْحِهَا وَضَحًا أَوْ بَيَاضًا الْحَقِي بِأَهْلِكِ } فَصَارَ الْبَرَصُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُلْحَقُ بِهِ الْجُذَامُ وَالْجُنُونُ بِجَامِعِ أَنَّهُ يَنْفِرُ مِنْهُ الطَّبْعُ ، وَهَذَا الْوَصْفُ وَهُوَ كَوْنُهُ مُنَافِرًا لِلطَّبْعِ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى اعْتِبَارِهِ فِي جِنْسِ الْعِلَلِ وَهُوَ الْمُبَاعَدَةُ وَالْفِرَارُ فَإِنَّهُ جِنْسُ الْفَسْخِ ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ } وَيُجْعَلُ الْجُذَامُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ الْفِرَارَ يَثْبُتُ بِفَسْخِ نِكَاحِهِ .
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ ، وَفِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ } وَيُقَاسُ النِّكَاحُ عَلَى الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ يُفْسَخُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ ، هَكَذَا عُيُوبٌ يُفْسَخُ بِهَا الْبَيْعُ فَيُفْسَخُ بِهَا النِّكَاحُ .
وَقِيَاسًا عَلَى الْمَجْبُوبِ بِجَامِعِ الْمَنَافِعِ الْحِسِّيِّ فِيمَا بِهِ فَوَاتُ مَقْصُودِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ كُلٍّ مِنْهُمَا .
قُلْنَا : أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَمِيلِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْلَمُ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَلَدٌ اسْمُهُ زَيْدٌ ، وَلَوْ سَلِمَ جَازَ أَنْ يَكُونَ طَلَاقًا .
فَإِنَّ لَفْظَ الْحَقِي بِأَهْلِك مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ وَأَمَّا الثَّانِي فَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُرَادٍ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى إبَاحَةِ الْقُرْبِ مِنْهُ وَيُثَابُ بِخِدْمَتِهِ وَتَمْرِيضِهِ وَعَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَتَخَلَّفَ فِيهِ جُزْءُ الْمُقْتَضِي أَوْ شَرْطُهُ ، فَإِنَّ الْمُقْتَضِيَ بِفَسْخِ الْعَيْبِ مَعَ وُقُوعِهِ فِي عَقْدِ مُبَادَلَةٍ تَجْرِي فِيهِ الْمُشَاحَحَةُ وَالْمُضَايَقَةُ بِسَبَبِ كَوْنِ الْمُرَادِ
مِنْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ الْمَالَ وَهَذَا شَرْطُ عَمَلِهِ ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالَ فِيهِ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَإِنَّمَا شُرِعَ إظْهَارًا لِخَطَرِ الْمَحَلِّ ، وَلِهَذَا اخْتَلَفَتْ لَوَازِمُهُمَا حَتَّى أَجَزْنَاهُ عَلَى عَبْدٍ وَفَرَسٍ غَيْرِ مَوْصُوفَيْنِ وَصُحِّحَ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْمَرْأَةِ أَصْلًا ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عِنْدَهُ ، ثُمَّ إذَا رَأَى عِنْدَنَا الْمَبِيعَ يَثْبُتُ لَهُ خِيَارٌ لِلرَّدِّ بِلَا عَيْبٍ ، وَفِي النِّكَاحِ لَوْ شَرَطَ وَصْفًا مَرْغُوبًا فِيهِ كَالْعُذْرَةِ وَالْجَمَالِ وَالرَّشَاقَةِ وَصِغَرِ السِّنِّ فَظَهَرَتْ ثَيِّبًا عَجُوزًا شَوْهَاءَ ذَاتَ شِقٍّ مَائِلٍ وَلُعَابٍ سَائِلٍ وَأَنْفٍ هَائِلٍ وَعَقْلٍ زَائِلٍ لَا خِيَارَ لَهُ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ بِهِ ، وَفِي الْبَيْعِ يُفْسَخُ بِدُونِ ذَلِكَ ، وَلَوْ هَزْلًا بِالْبَيْعِ لَمْ يَنْفُذْ ، وَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالْهَزْلِ بِهِ فَكَذَلِكَ بِالْعِلَّةِ مُقْتَضِيَةٌ .
وَعَنْ الْقِيَاسِ الثَّالِثِ بِمَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ امْتِنَاعُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لِجَوَازِ أَنْ يَطَأَ مَنْ هِيَ كَذَلِكَ وَيَتَوَصَّلَ بِالشَّقِّ وَالْقَطْعِ وَالْكَسْرِ غَايَةَ مَا فِيهِ نَفْرَةٌ طَبِيعِيَّةٌ ، وَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ الْفَسْخَ اتِّفَاقًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِهِ فِي ذَاتِ الْقُرُوحِ الْفَاحِشَةِ وَالْبَخَرِ الزَّائِدِ حِينَئِذٍ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ إنَّ وُجُودَ ذَلِكَ فِيهِ يُعَطِّلُ عَلَيْهَا الْمَقْصُودَ لِلْوَجْهِ الْأَخِيرِ بِخِلَافِهِ هُوَ إذَا وَجَدَهَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالطَّلَاقِ ، وَوَجْهُ دَفْعِهِ وَدَفْعِ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ وَمَنْ مَعَهُ انْتَظَمَهُ دَفْعُ أَقْيِسَةِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ مَعَهُ .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ فَوَاتَ الِاسْتِيفَاءِ أَصْلًا بِالْمَوْتِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الْفَسْخَ ) فَاخْتِلَالُهُ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ الْفَسْخَ ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ النِّكَاحَ مُؤَقَّتٌ بِحَيَاتِهِمَا .
( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ هَذِهِ الْعُيُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ الثَّمَرَاتِ فَلَا تُرَاعَى مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ عَلَى الْكَمَالِ وَالْمُسْتَحَقُّ التَّمَكُّنُ : أَيْ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ وَهُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ لِمَا قُلْنَا .
( وَإِذَا كَانَ بِالزَّوْجِ جُنُونٌ أَوْ بَرَصٌ أَوْ جُذَامٌ فَلَا خِيَارَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهَا الْخِيَارُ ) دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهَا كَمَا فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، بِخِلَافِ جَانِبِهِ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ بِالطَّلَاقِ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْخِيَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الزَّوْجِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْجُبّ وَالْعُنَّةُ لِأَنَّهُمَا يُخِلَّانِ بِالْمَقْصُودِ الْمَشْرُوعِ لَهُ النِّكَاحُ ، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ غَيْرُ مُخِلَّةٍ بِهِ فَافْتَرَقَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُمَا مُخِلَّانِ بِالْمَقْصُودِ ) فَإِنْ قِيلَ : جَعَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا الِاسْتِيفَاءَ لِلْوَطْءِ مِنْ الثَّمَرَاتِ فَلَا يَجِبُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِهِ وَهُنَا جَعَلَهُ الْمَقْصُودَ الْمَشْرُوعَ لَهُ النِّكَاحُ حَتَّى يَتَخَيَّرْنَ فِي الْفَسْخِ بِالْجَبِّ وَهَذَا تَدَافَعَ .
أُجِيبُ بِأَنَّ الْوَطْءَ لَهُ جِهَتَانِ : جِهَةُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ النِّكَاحُ وَهُوَ التَّوَالُدُ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ ، وَجِهَةُ كَوْنِهِ ثَمَرَةً حَيْثُ يَصِحُّ نِكَاحُهُ الرَّضِيعَةَ وَالْآيِسَةَ ، فَلَوْ كَانَ مَقْصُودًا لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ هَؤُلَاءِ كَمَا لَمْ يَجُزْ اسْتِئْجَارُ الْجَحْشِ لِلْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ فَاعْتَبَرْنَا جِهَةَ الثَّمَرَةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعُيُوبُ بِهَا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ جَرْيًا عَلَى الْأَصْلِ مِنْ أَنَّ إزَالَةَ قَيْدِ النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ لَا الْفَسْخِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إزَالَتِهِ بِهِ وَمِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهَا ، وَجِهَةُ الْمَقْصُودِيَّةِ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّلَاقِ وَلَا الِاسْتِمْتَاعِ بِغَيْرِهِ ، وَعَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَلْ هُوَ مُطَّرِدٌ لَا يَخْتَلِفُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ الْعِدَّةِ ( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا أَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَهِيَ حُرَّةٌ مِمَّنْ تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَالْفُرْقَةُ إذَا كَانَتْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَهِيَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَجَبَتْ لِلتَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فِي الْفُرْقَةِ الطَّارِئَةِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا .
( بَابُ الْعِدَّةِ ) لَمَّا تَرَتَّبَتْ الْعِدَّةُ فِي الْوُجُودِ عَلَى فُرْقَةِ النِّكَاحِ شَرْعًا أَوْرَدَهَا عَقِيبَ وُجُوهِ الْفُرْقَةِ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْإِيلَاءِ وَالْخُلْعِ وَاللِّعَانِ وَأَحْكَامِ الْعِنِّينِ .
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ : الْإِحْصَاءُ ، عَدَّدْت الشَّيْءَ عِدَّةً أَحْصَيْته إحْصَاءً ، وَتُقَالُ أَيْضًا عَلَى الْمَعْدُودِ .
وَفِي الشَّرْعِ : تَرَبُّصٌ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ عِنْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ الْمُتَأَكِّدِ بِالدُّخُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ وَالْمَوْتِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ وَشُبْهَتِهِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى النِّكَاحِ ، وَالتَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ : أَيْ انْتِظَارُ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ بِالتَّزَوُّجِ ، فَحَقِيقَتُهُ تَرْكٌ لَزِمَ شَرْعًا لِلتَّزَوُّجِ وَالزِّينَةِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ شَرْعًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ سَبَبَهَا النِّكَاحُ أَوْ شُبْهَتُهُ ، وَزَوَالُ ذَلِكَ شَرْطٌ ، فَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِنَا عِدَّةَ الطَّلَاقِ إلَى الشَّرْطِ ، وَلَمْ يَخُصَّ الزَّوَالَ بِالنِّكَاحِ فَعَمَّ الشُّبْهَةَ .
قَالُوا : وَرُكْنُهَا حُرُمَاتٌ تَثْبُتُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْكَفُّ عَنْهَا ، وَيَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْعِدَّتَيْنِ إذَا وَجَبَتَا مِنْ رَجُلَيْنِ تَتَدَاخَلَانِ وَتَنْقَضِيَانِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي التَّعْرِيفِ : هِيَ لُزُومُ التَّرَبُّصِ لِيَصِحَّ كَوْنُ رُكْنِهَا حُرُمَاتٍ لِأَنَّهَا لُزُومَاتٌ ، وَإِلَّا فَالتَّرَبُّصُ فِعْلُهَا ، وَالْحُرُمَاتُ أَحْكَامُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ نَفْسُهُ فِعْلًا ، وَعَلَى هَذَا فَمَا قِيلَ فِي حُكْمِهَا : إنَّهُ حُرْمَةُ نِكَاحِهَا غَيْرَهُ عَلَيْهَا وَحُرْمَةُ نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٌ سِوَاهَا عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ ، لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ الَّتِي تَثْبُتُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ رُكْنُهَا بِالْفَرْضِ ، وَحُرْمَةَ تَزَوُّجِهَا بِغَيْرِهِ مِنْ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ .
نَعَمْ حُرْمَةُ تَزَوُّجِهِ بِأُخْتِهَا لَا يَكُونُ مِنْ الْعِدَّةِ فَهُوَ حُكْمُ عِدَّتِهَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَعْنَى كَوْنِهِ هُوَ أَيْضًا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعِدَّةِ وُجُوبُ
الِانْتِظَارِ بِالتَّزَوُّجِ إلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي الْعِدَّةِ أَيْضًا ، غَيْرَ أَنَّ اسْمَ الْعِدَّةِ اصْطِلَاحًا خُصَّ بِتَرَبُّصِهَا لَا بِتَرَبُّصِهِ ، وَلَزِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يُقَالَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَسَنُوَضِّحُهُ .
( قَوْلُهُ إذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا ) وَلَيْسَ رَجْعِيًّا فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَشَمَلَ طَلَاقَ الْخُلْعِ وَاللِّعَانِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ .
قِيلَ : هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهَا فَسْخٌ .
وَالْحَقُّ أَنَّهُ ابْتِدَاءٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْخُلْعِ مِنْ الْمَنْقُولِ ، إذْ لَا يُعْقَلُ كَوْنُ الْفَسْخِ مُؤَثِّرًا فِي نُقْصَانِ الْعِدَّةِ وَلِذَا وَجَبَتْ ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ فِي الْفَسْخِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَغَيْرِهِ ، وَخِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : عِدَّةُ الْمُلَاعِنَةِ تِسْعَةُ أَشْهُرٍ ( قَوْلُهُ وَهِيَ حُرَّةٌ مِمَّنْ تَحِيضُ ) يَعْنِي مِمَّنْ تَحَقَّقَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَبْلُغْ الْإِيَاسَ سَوَاءٌ كَانَتْ تَحِيضُ أَوْ لَا ، حَتَّى لَوْ بَلَغَتْ فَرَأَتْ الدَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ انْقَطَعَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ لَمْ تُنْقَضْ عِدَّتُهَا حَتَّى تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ أَوْ تَدْخُلَ الْإِيَاسَ فَتَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ تَرَ شَيْئًا أَوْ رَأَتْ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ .
( قَوْلُهُ أَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ ) مِثْلَ الِانْفِسَاخِ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ وَمِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْآخَرَ وَالرِّدَّةِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَالِافْتِرَاقِ عَنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ .
( قَوْلُهُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ ) مُقْتَضَى مَا ذُكِرَ مِنْ رُكْنِ الْعِدَّةِ كَوْنُ عِدَّتِهَا فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ ؛ لِأَنَّ الْحُرُمَاتِ تَتَعَلَّقُ فِي مُدَّةِ الْأَقْرَاءِ فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يَنْتَصِبَ لِأَنَّهُ ظَرْفُ زَمَانٍ مُعْرَبٌ وَاقِعٌ خَبَرًا عَنْ اسْمِ مَعْنَى نَحْوَ السَّفَرُ غَدًا ، لَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ
الْإِطْلَاقُ الْمَجَازِيُّ : أَعْنِي إطْلَاقَ الْعِدَّةِ عَلَى نَفْسِ الْمُدَّةِ ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ سَبَبَ الْعِدَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْهُ تَأَكُّدُهُ بِالدُّخُولِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنَّمَا تَرَكَهُ الْمُصَنِّفُ لِشُهْرَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا تَجِبُ فِيهِ الْعِدَّةُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } .
( قَوْلُهُ وَالْفُرْقَةُ إذَا كَانَتْ إلَخْ ) لَمَّا جَمَعَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ بِلَا طَلَاقٍ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الطَّلَاقَ أَلْحَقَهُ بِالْجَامِعِ ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَهَا فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ وَجَعَلَهُ ثَابِتًا بِدَلَالَةِ النَّصِّ حَيْثُ قَالَ فِي مَعْنَى الطَّلَاقِ : يَعْنِي يَتَبَادَرُ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ بِوُجُوبِ تَرْكِهَا النِّكَاحَ إلَى أَنْ تَحِيضَ عِنْدَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ أَنَّهُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ كَوْنُهَا تَجِبُ لِلتَّعَرُّفِ لَا يَنْفِي أَنْ تَجِبَ لِغَيْرِهِ أَيْضًا ، وَقَدْ أَفَادَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي أَنَّهَا أَيْضًا تَجِبُ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ بِإِظْهَارِ الْأَسَفِ عَلَيْهِ ، فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي مَوَاضِعِ وُجُوبِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ يَنْفَرِدُ الثَّانِي كَمَا فِي صُوَرِ الْأَشْهُرِ ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُتَأَكِّدِ وَهُوَ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُؤْسَفُ عَلَيْهِ إذْ لَا إلْفَ وَلَا مَوَدَّةَ فِيهِ .
وَالْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَطْهَارُ وَاللَّفْظُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا إذْ هُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ ، كَذَا قَالَهُ ابْنُ السِّكِّيتِ وَلَا يَنْتَظِمُهُمَا جُمْلَةُ لِلِاشْتِرَاكِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى ، إمَّا عَمَلًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْأَطْهَارِ وَالطَّلَاقُ يُوقَعُ فِي طُهْرٍ لَمْ يُبْقِ جَمْعًا ، أَوْ لِأَنَّهُ مُعَرِّفٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ ، أَوْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَعِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ } فَيَلْتَحِقُ بَيَانًا بِهِ
( قَوْلُهُ وَالْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَطْهَارُ ) وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَنُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَوْلُنَا : هُوَ قَوْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْعَبَادِلَةِ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، وَزَادَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مَعْبَدًا الْجُهَنِيَّ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ قَوْلُ الْعَبَادِلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَتَعَارَضَ عَنْهُ النَّقْلُ ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْهُ الطَّحَاوِيُّ ، وَثَبَتَهُ عَنْهُ بَعْضُ الْحُفَّاظِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ ، وَأَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ : عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ ، فَعَارَضَ رِوَايَتَهُمْ عَنْ زَيْدٍ أَيْضًا ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْحَسَنَانِ بْنُ حَيِيٍّ وَالْبَصْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَشَرِيكٌ الْقَاضِي وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَرَبِيعَةُ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَإِسْحَاقُ وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَحْمَدُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي مُوَطَّئِهِ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَبِي عِيسَى الْخَيَّاطُ الْمَدَنِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ قَالَ : الرَّجُلُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى تَغْتَسِلَ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ .
وَهَذَا الْإِطْلَاقُ إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُمْ إذَا كَانَتْ الْحَيْضُ لَا الطُّهْرُ ، إلَّا إذَا كَانَ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ، فَأَمَّا الطُّهْرُ فَيُحْتَسَبُ بِهِ فَيَلْزَمُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالشُّرُوعِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، وَالطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي قَوْلُهُمْ .
( قَوْلُهُ إذْ هُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ ) اسْتِدْلَالٌ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا ، وَهَذَا عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْأُصُولِ
وَالْفِقْهِ مِنْ عَدَمِ التَّجَوُّزِ بِاسْمِ الضِّدِّ فِي الضِّدِّ ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعُقُولِ مِنْ مُعَرِّفَاتِ الِاشْتِرَاكِ كَوْنَ الْمَفْهُومِينَ مُتَضَادَّيْنِ .
وَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ أَهْلِ الْأَدَبِ فَيَجُوزُ لِغَرَضِ تَمْلِيحٍ أَوْ تَهَكُّمٍ كَمَا يُقَالُ لِلْجَبَانِ أَسَدٌ أَوْ تَفَاؤُلٌ كَالْبَصِيرِ عَلَى الْأَعْمَى إلَّا أَنَّهَا بِمَعْزِلٍ مِنْ إفَادَاتِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا .
وَأَمَّا فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَقَامِ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَعَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعَمَّمْ ، إنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَعْيِينِ الْمُرَادِ مِنْ الْمَفْهُومَيْنِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِعَدَمِ الِانْتِظَامِ عَلَى الِاشْتِرَاكِ كَمَا فَعَلَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ ، وَلَوْ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِتَضَادِّ الْمَفْهُومَيْنِ كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا كَانَ أَحْسَنَ .
لَا يُقَالُ : اسْتِدْلَالُهُ عَلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ .
لِأَنَّا نَقُولُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ اللَّفْظِ حَقِيقَةً فِي مُتَعَدِّدٍ اشْتِرَاكُهُ لَفْظًا لِجَوَازِ التَّوَاطُؤِ وَالتَّشْكِيكِ .
لَا يُقَالُ : لَيْسَ مَحَلُّ النِّزَاعِ كَمَا ذَكَرْت لِلتَّضَادِّ .
لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّمَا وَافَقَ مَنْ جَعَلَ تَعْمِيمَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَنْعِ تَعْمِيمِهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ التَّضَادِّ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُرَادَ كُلٌّ مِنْ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَتَعْتَدُّ بِمُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا أُرِيدَ تَحْقِيقُهُمَا فِي زَمَنِ أَحَدِهِمَا .
( قَوْلُهُ وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَيْضِ أَوْلَى ) ادَّعَى الْحَقِيقَةَ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ وَاقْتَصَرَ عَلَى دَلِيلِ نَفْسِهِ كَأَنَّهُ لِعَدَمِ دَلِيلٍ مُعْتَمَدٍ لَهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : الْقُرْءُ بِمَعْنَى الطُّهْرِ هُوَ الَّذِي يُجْمَعُ عَلَى قُرُوءٍ ، وَأَمَّا بِمَعْنَى الْحَيْضِ فَإِنَّمَا يُجْمَعُ عَلَى أَقْرَاءٍ دَعْوَى لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ، وَكَوْنُهُ وَقَعَ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى كَذَلِكَ حَيْثُ قَالَ : أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ
جَاشِمٌ غَزْوَةً تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا مُورِثَةٌ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا أَيْ مِنْ أَطْهَارِهِنَّ لِلشُّغْلِ بِالْغَزْوِ عَنْهُنَّ لَا يُوجِبُ الْقَصْرَ عَلَيْهِ .
وَكَذَا الِاسْتِشْهَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكَ } لَا يُوجِبُهُ .
فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ { فَانْظُرِي فَإِذَا أَتَاكِ قُرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي ، فَإِذَا مَرَّ قُرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي وَصَلِّي } وَقَالَ الرَّاجِزُ : يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ وَضَبٍّ فَارِضٍ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ يُرِيدُ كَحَيْضِ الْحَائِضِ ، فَإِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ عَدَاوَتَهُ تَجْتَمِعَ فَتَهِيجُ كَدَمِ الْحَائِضِ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ فِي بَيْتِ الْأَعْشَى : إنَّ الْمُرَادَ نَفْسَ الزَّمَانِ : أَيْ زَمَانِ الطُّهْرِ ، فَإِنَّ الْقُرْءَ يُقَالُ لِلزَّمَانِ لُغَةً كَثِيرًا ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ { مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيَتْرُكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } يَعْنِي بِالْأَمْرِ قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِيهِ بِمَعْنَى فِي وَهُوَ غَيْرُ مَعْهُودٍ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَيَسْتَلْزِمُ تَقَدُّمُ الْعِدَّةِ عَلَى الطَّلَاقِ أَوْ مُقَارَنَةٌ لَهُ لِاقْتِضَائِهِ وُقُوعَهُ فِي وَقْتِ الْعِدَّةِ وَقِرَاءَةُ لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ تَنْفِيهِ إذْ أَفَادَتْ أَنَّ اللَّامَ فِيهِ مُفِيدَةٌ مَعْنَى اسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِنَّ وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُحَقَّقٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ يُقَالُ فِي التَّارِيخِ بِإِجْمَاعِ الْعَرَبِيَّةِ خَرَجَ لِثَلَاثٍ بَقَيْنَ وَنَحْوُهُ .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا قَالَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاطَبَ ابْنَ عُمَرَ بِذَلِكَ ، وَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحِيَضُ فَلَمْ يُفْهَمْ أَنَّهَا
الْأَطْهَارُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ عَنْهُ مِنْ خِلَافِ مَا نَقَلُوهُ عَنْهُ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَتَمَسُّكُهُمْ بِتَأْنِيثِ الْعَدَدِ فِي قَوْله تَعَالَى { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } وَهُوَ يَقْتَضِي تَذْكِيرَ الْمَعْدُودِ وَالطُّهْرُ هُوَ الْمُذَكَّرُ لَا الْحَيْضُ ، فَلَوْ أُرِيدَ الْحَيْضُ لَقِيلَ : ثَلَاثَ قُرُوءٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الشَّيْءَ إذَا كَانَ لَهُ اسْمَانِ مُذَكَّرٌ كَالْبُرِّ وَالْحِنْطَةِ وَلَا تَأْنِيثَ حَقِيقِيَّ يُؤَنَّثُ عَدَدُهُ إذَا أُضِيفَ إلَى اللَّفْظِ الْمُذَكَّرِ وَيُذَكَّرُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمُؤَنَّثِ ، وَفِي الْعَرَبِيَّةِ إذَا كَانَ الْمَعْدُودُ مُؤَنَّثًا وَاللَّفْظُ مُذَكَّرًا أَوْ بِالْعَكْسِ فَوَجْهَانِ ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ لِلدَّمِ اسْمَيْنِ مُذَكَّرًا وَهُوَ الْقُرْءُ وَمُؤَنَّثًا وَهُوَ الْحَيْضُ فَحِينَ أُضِيفَ إلَى الْمُذَكَّرِ أُنِّثَ ، وَكَذَا عَلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ فَإِنَّ الدَّمَ مُذَكَّرٌ وَالْقُرْءَ مُذَكَّرٌ فَيُؤَنَّثُ عَدَدُهُ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ قَوْلُهُ ( عَمَلًا بِلَفْظِ الْجَمْعِ ) : أَيْ الْعَدَدِ فَإِنَّهُ جَمْعٌ مَعْنًى لَا صِيغَةً ، أَوْ يُرِيدُ الْجَمْعَ الصِّيغِيَّ الْمَقْرُونَ بِالْعَدَدِ تَنْصِيصًا عَلَى الْمُرَادِ بِكَمِّيَّتِهِ : أَعْنِي لَفْظَ قُرُوءٍ الْمُقَيَّدَةَ بِثَلَاثَةٍ فَإِنَّهُ مُنْقَطِعٌ عَنْهُ احْتِمَالُ أَنْ يُرَادَ بِهِ غَيْرَ الْكَمِّيَّةِ الْعَدَدِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ كَانَتْ مِنْ كَمِّيَّاتِ الْجُمُوعِ ، فَكَيْفَ بِالْكَمِّيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ حَقِيقَةَ الْجَمْعِ وَهِيَ اللَّازِمَةُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْأَطْهَارِ حَيْثُ يَصِيرُ طُهْرَيْنِ وَبَعْضَ الثَّالِثِ إذَا وَقَعَ فِي الطُّهْرِ وَإِلَّا لَزِمَ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ ، إذْ كُلُّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الطُّهْرُ قَالَ : تُحْتَسَبُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ نَقْصٌ عَنْ التَّقْدِيرِ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ وَالثُّبُوتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حُمِلَ عَلَى الْحَيْضِ ، فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ لَا يُحْتَسَبُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ فَتَكْمُلُ الثَّلَاثُ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْعَدَدِ وَزِيَادَةٌ
تُثْبِتُ ضَرُورَةَ التَّكْمِيلِ وَهُوَ جَائِزٌ ، إذْ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى حَقِيقَةِ إقَامَةِ الْوَاجِبِ إلَّا بِهَا ، بِخِلَافِ طُهْرَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ حَقِيقَتُهُ أَصْلًا .
لَا يُقَالُ : قَدْ أُرِيدَ بِالْعَدَدِ غَيْرَ كَمِّيَّتِهِ الْمُفَادَةِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } لِأَنَّا نَقُولُ : لَمْ يُرَدْ بِالْعَدَدِ عَدَدٌ آخَرُ مُبَايِنٌ لَهُ بَلْ مُجَرَّدُ التَّكْثِيرِ ، وَأَيْنَ هَذَا مِنْ أَنْ يُرَادَ بِسَبْعِينَ مَثَلًا ثَمَانُونَ أَوْ مِائَةٌ .
الثَّانِي : قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ أَيْ الْحَيْضَ هُوَ الْمُعَرِّفُ بِالذَّاتِ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، بِخِلَافِ الطُّهْرِ لِأَنَّهُ وَإِنْ دَلَّ فَبِوَاسِطَةِ الْحَيْضِ الَّذِي يَسْتَلْزِمُهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُفِيدُ لِعَدَمِ انْسِدَادِ فَمِ الرَّحِمِ بِالْحَبَلِ إذْ لَوْ انْسَدَّ بِهِ لَمْ تَحِضْ عَادَةً ، وَلِذَا نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مُفِيدَ الْبَرَاءَةِ الْحَيْضُ حَيْثُ قَالَ فِي السَّبَايَا { حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ } وَلَمْ يَقُلْ بِطُهْرٍ .
الثَّالِثُ هُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَتَقَدَّمَ فِي بَابِ الطَّلَاقِ تَخْرِيجُهُ .
وَأَسْنَدَ الشَّافِعِيُّ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أَبِي طَلْحَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَنْكِحُ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ وَيُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ حَيْضَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَحِيضُ فَشَهْرَيْنِ أَوْ شَهْرًا وَنِصْفًا .
وَكَذَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا لَا تُخَالِفُ الْحُرَّةَ فِيمَا بِهِ الِاعْتِدَادُ بَلْ فِي الْكَمِّيَّةِ فَيَلْتَحِقُ قَوْله تَعَالَى { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } لِلْإِجْمَالِ الْكَائِنِ بِالِاشْتِرَاكِ بَيَانًا لَهُ .
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الظَّاهِرَةِ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ
أَشْهُرٍ } إذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْرَاءِ أَصْلٌ وَالْأَشْهُرُ خَلَفٌ عَنْهُ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، فَلَمَّا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَصِيرَ إلَيْهِ بِعَدَمِ الْحَيْضِ دَلَّ أَنَّ الْحَيْضَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْآيَةِ وَكَوْنُهُ يَنْعَدِمُ الطُّهْرُ بِعَدَمِ الْحَيْضِ ، فَالتَّعْلِيقُ بِعَدَمِ الْحَيْضِ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ الطُّهْرِ احْتِمَالٌ يُقَابِلُهُ الظُّهُورُ ، إذْ الظَّاهِرُ تَعْلِيقُ الْمَصِيرِ إلَى الْخَلْفِ بِعَدَمِ عَيْنِ مَا شُرِعَ أَصْلًا لَا بِعَدَمِ شَيْءٍ آخَرَ يَسْتَلْزِمُهُ ، فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ : وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْقُرُوءِ ، فَلَمَّا جَاءَ قَوْله تَعَالَى بِلَفْظِ الْحَيْضِ مَكَانَهُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ عُلِمَ أَنَّهُ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ هُوَ .
[ فَرْعٌ ] تَنْقَضِي عِدَّةُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ بِالْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ بِأَنْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ عَالِمًا بِحُرْمَتِهَا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الشُّبْهَةَ أَوْ كَانَ مُنْكِرًا إطْلَاقَهَا فَإِنَّهَا تَسْتَقْبِلُ الْعِدَّةَ ، وَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا حَتَّى لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ هَذِهِ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ لَا يَقَعُ وَيَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أُخْتِهَا .
( وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } الْآيَةَ ( وَكَذَا الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ ) بِآخِرِ الْآيَةِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ ) لِصِغَرٍ بِأَنْ لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ الْحَيْضِ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ، وَأَقَلُّهُ تِسْعٌ عَلَى الْمُخْتَارِ ، أَوْ كِبَرٍ بِأَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْقُرُوءِ قَالُوا : قَدْ عَلِمْنَا عِدَّةَ الَّتِي تَحِيضُ فَاَلَّتِي لَا تَحِيضُ لَا نَدْرِي مَا عِدَّتُهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ .
وَالْمَعْنَى : إنْ ارْتَبْتُمْ فِي عِدَّةِ الَّتِي لَمْ تَحِضْ فَلَمْ تَعْلَمُوهَا فَإِنَّهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ .
وَقِيلَ إنْ ارْتَبْتُمْ فِي الدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ أَهُوَ حَيْضٌ أَوْ فَسَادٌ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ .
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ : وَكَذَا الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ بِآخَرَ الْآيَةَ : يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } يَعْنِي الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ بِالْحَيْضِ بَلْ بِالسِّنِّ بِأَنْ بَلَغَتْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى قَوْلِهِمَا وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَلَمْ تَحِضْ إذَا طَلُقَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ أَيْضًا ، ثُمَّ إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ اعْتَدَّتْ بِأَشْهُرٍ هِلَالِيَّةٍ اتِّفَاقًا ، وَإِنْ وَقَعَ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ اُعْتُبِرَ كُلُّهَا بِالْأَيَّامِ فَلَا تَنْقَضِي إلَّا بِتِسْعِينَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يُكَمَّلُ الْأَوَّلُ ثَلَاثِينَ مِنْ الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالشَّهْرَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ بِالْأَهِلَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ لَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ عَدَمِ التَّحْرِيرِ فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الَّتِي لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فِي الِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ } الْآيَةَ ، ثُمَّ خَصَّ الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ بِآخِرِهَا حَيْثُ قَالَ : وَكَذَلِكَ الَّتِي
بَلَغَتْ بِالسِّنِّ بِآخِرِ الْآيَةِ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ آخِرَهَا : أَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } هُوَ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ الَّتِي لَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ كَمَا أَنَّهُ الْمُفِيدُ لِلِاعْتِدَادِ بِهَا فِي الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ كَانَ طُهْرُهَا أَصْلِيًّا فَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ سَوَاءٌ بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَلَمْ تَحِضْ ، وَإِنْ اسْتَمَرَّتْ لَا تَحِيضُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ أَوْ هِيَ مُرَاهِقَةٌ أَوْ لَمْ تَبْلُغْ إلَى سِنٍّ يُحْكَمُ بِالْبُلُوغِ فِيهِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَنَّهُ تِسْعٌ أَوْ سَبْعٌ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَعَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ مُرَاهِقَةً لَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ بَلْ يُوقَفُ حَالُهَا حَتَّى يَظْهَرَ هَلْ حَبِلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ أَمْ لَا ، فَإِنْ ظَهَرَ حَبَلُهَا اعْتَدَّتْ بِالْوَضْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ فَبِالْأَشْهُرِ .
وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ تُحْتَسَبَ بِالْأَشْهُرِ الَّتِي وَقَفَتْ لِيَظْهَرَ حَبَلُهَا إذَا لَمْ يَظْهَرْ ، فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِعَدَمِ الْحَبَلِ أَنَّ تِلْكَ الْأَشْهُرِ كَانَتْ هِيَ الْعِدَّةُ ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهَا لَمْ تَدْرِ وَجْهَ عِدَّتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ .
وَلَوْ حَاضَتْ الَّتِي بَلَغَتْ بِالسِّنِّ وَالْمُرَاهِقَةُ فِي أَثْنَاءِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ اسْتَأْنَفَتْ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ .
هَذَا وَمِمَّنْ ذَكَرَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي نَسِيَتْ عَادَتَهَا ، وَهُوَ مِمَّا يُلْغِزُ فَيُقَالُ : مُطَلَّقَةٌ شَابَّةٌ تَرَى مَا يَصْلُحُ حَيْضًا فِي كُلِّ شَهْرٍ وَعِدَّتُهَا بِالْأَشْهُرِ ، لَكِنْ فِي التَّحْقِيقِ لَيْسَ عِدَّتُهَا إلَّا بِالْحَيْضِ ، لَكِنْ لَمَّا نَسِيَتْ عَادَتَهَا جَازَ كَوْنُهَا أَوَّلَ كُلِّ شَهْرٍ أَوْ آخِرَهُ ، فَإِذَا قُدِّرَتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بِيَقِينٍ ، بِخِلَافِ الَّتِي لَمْ تَنْسَ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا ، فَجَازَ كَوْنُ عَادَتِهَا أَوَّلَ الشَّهْرِ فَتَخْرُجُ مِنْ الْعِدَّةِ فِي
خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ مِنْ الثَّالِثِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إطْلَاقَهُمْ فِي الِانْقِضَاءِ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ النَّاسِيَةِ لِعَادَتِهَا لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا إذَا طَلَّقَهَا أَوَّلَ الشَّهْرِ ، أَمَّا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ قَدْرُ مَا يَصِحُّ حَيْضَةً يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ غَيْرُ بَاقِي هَذَا الشَّهْرِ وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ .
وَيَجِبُ فِي الَّتِي بَلَغَتْ مُسْتَحَاضَةً مِثْلَ الْمُسْتَحَاضَةِ الَّتِي ضَلَّتْ عَادَتَهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ لَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْوُجُوبِ عَلَى هَذِهِ الصَّغِيرَةِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بَلْ يَقُولُونَ تَعْتَدُّ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا هِيَ لَا تُخَاطَبُ بِالِاعْتِدَادِ ، وَلَكِنَّ الْوَلِيَّ يُخَاطِبُ بِأَنْ لَا يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الْعِدَّةِ مَعَ أَنَّ الْعِدَّةَ مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَثُبُوتُهَا فِي حَقِّهَا لَا يُؤَدِّي إلَى تَوْجِيهِ خِطَابِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ قَوْلُهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَرَاهَا الْحُرُمَاتِ أَوْ التَّرَبُّصَ الْوَاجِبَ .
فَإِنْ قُلْت : وَعَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مُضِيَّ الْمُدَّةِ أَلَيْسَ أَنَّ فِيهَا يَجِبُ أَنْ لَا تَتَزَوَّجَ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَلَّقَ خِطَابُ نَهْيِ التَّزَوُّجِ بِالْوَلِيِّ فَجَعَلَهَا الْمُدَّةَ كَمَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ : لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءُ قَوْلِ الْأَوَّلِ يُخَاطَبُ الْوَلِيُّ بِأَنْ لَا يُزَوِّجَهَا .
فَالْجَوَابُ لَا يَلْزَمُ ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا بِأَنَّهَا الْمُدَّةُ فَالثَّابِتُ فِيهَا عَدَمُ صِحَّةِ التَّزَوُّجِ لَا خِطَابُ أَحَدٍ بَلْ وَضَعَ الشَّارِعُ عَدَمَ الصِّحَّةِ لَوْ فَعَلَ .
( وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ( وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ وَالْحَيْضَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَكُمِّلَتْ فَصَارَتْ حَيْضَتَيْنِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ بِقَوْلِهِ : لَوْ اسْتَطَعْتُ لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا ( وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ ) لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئُ فَأَمْكَنَ تَنْصِيفُهُ عَمَلًا بِالرِّقِّ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا ) يَعْنِي الْمُطَلَّقَةَ فَعِدَّتُهَا بِالْوَضْعِ بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً وَأَطْلَقَ فَيَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ الثَّابِتَ النَّسَبِ وَغَيْرَهُ ، فَلَوْ طَلَّقَ كَبِيرٌ زَوْجَتَهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَقْدِ فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ بِالْحَيْضِ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الصَّغِيرِ .
وَفِي الْمُنْتَقَى : إذَا خَرَجَ مِنْ الْوَلَدِ نِصْفُ الْبَدَنِ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ سِوَى الرِّجْلَيْنِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ سِوَى الرَّأْسِ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَالْبَدَنُ مِنْ الْمَنْكِبَيْنِ إلَى الْأَلْيَتَيْنِ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : كُلُّ مَنْ حَبِلَتْ فِي عِدَّتِهَا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا حَبِلَتْ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ ) أَيْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَغَيْرِهِ وَالْحَيْضَةُ لَا تَتَجَزَّأُ فَكَمُلَتْ وَثُبُوتُ الزِّيَادَةِ لِضَرُورَةِ التَّكْمِيلِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ الْوَاجِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا ( قَوْلُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ ) أَيْ إلَى أَنَّ تَكْمِيلَ الثَّانِيَةِ ضَرُورَةٌ بِقَوْلِهِ لَوْ اسْتَطَعْت إلَى آخِرِهِ .
أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ الثَّقَفِيَّ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَوْ اسْتَطَعْتُ أَنْ أَجْعَلَهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا فَعَلْتُ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : لَوْ جَعَلْتُهَا شَهْرًا وَنِصْفًا فَسَكَتَ عُمَرُ .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِبَاقِي سَنَدِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُ عُمَرَ لِعَدَمِ الِالْتِفَاتِ لِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي ذَاتِ الْأَقْرَاءِ ، وَالْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ أَيِسَ مِنْهَا ، فَمَشُورَةُ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فَأَمْكَنَ تَنْصِيفُهُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ كَالْأَمَةِ .
( وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ( وَعِدَّةُ الْأَمَةِ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ ) لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ .
( قَوْلُهُ وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةُ أَيَّامٍ ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً أَوْ آيِسَةً وَزَوْجُهَا عَبْدٌ أَوْ حُرٌّ حَاضَتْ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ أَوْ لَمْ تَحِضْ وَلَمْ يَظْهَرْ حَبَلُهَا .
وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ عِدَّتُهَا عَزِيمَةُ عَامٍ ، وَرُخْصَةُ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ } الْآيَةَ .
وَالْجُمْهُورُ عَلَى نَسْخِهَا بِآيَةِ الْأَشْهُرِ : أَعْنِي مَا كَانَ مِنْ وُجُوبِ الْإِيصَاءِ وَالْإِيقَافِ إلَى الْحَوْلِ .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ ، فَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ جَازَ أَخْذًا مِنْ تَذْكِيرِ الْعَدَدِ : أَعْنِي الْعَشْرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَيَجِبُ كَوْنُ الْمَعْدُودِ اللَّيَالِيَ وَإِلَّا لَأَنَّثَهُ .
قُلْنَا : الِاسْتِعْمَالُ فِي مِثْلِهِ مِنْ ذِكْرِ عِدَّةِ اللَّيَالِي يُدْخِلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ الْأَيَّامِ عَلَى مَا عُرِفَ بِالتَّارِيخِ حَيْثُ يُكْتَبُ بِاللَّيَالِيِ فَيُقَالُ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مَثَلًا وَيُرَادُ كَوْنُ عِدَّةِ الْأَيَّامِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَشَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ عَلَى وِزَانِ مَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْمَوْتِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مِنْ وَقْتِ عِلْمِهَا ، حَتَّى لَوْ مَاتَ فِي سَفَرٍ فَلَمْ يَبْلُغْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَعِنْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا مِنْ حِينِ عَلِمَتْ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْإِحْدَادَ وَلَا يُمْكِنُهَا إقَامَتُهُ إلَّا بِالْمُعْلَمِ .
قُلْنَا : قُصَارَاهُ أَنْ تَكُونَ
كَالْعَالِمَةِ وَلَمْ تُحِدَّ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ تَخْرُجُ اتِّفَاقًا مِنْ الْعِدَّةِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْهَا عَدَمُ التَّزَوُّجِ وَقَدْ وُجِدَ ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ لِمَا سَيُذْكَرُ وَوُجُوبُهَا عَلَى الْكِتَابِيَّةِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ يُؤَيِّدُهُ .
( وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ) لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَقَالَ عُمَرُ : لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ ) أَيْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً كَالْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَارَكَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ إذَا كَانَتْ حَامِلًا كَذَلِكَ لِإِطْلَاقِ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ الْوَضْعِ وَالْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ قَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } يُوجِبُهَا عَلَيْهَا فَيُجْمَعُ احْتِيَاطًا .
وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ تَنْفَسُ بَعْدَ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ ، فَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ : إذَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَقَدْ حَلَّتْ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : آخِرُ الْأَجَلَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي : يَعْنِي أَبَا سَلَمَةَ ، فَأَرْسَلُوا كُرَيْبًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهَا عَنْ ذَلِكَ ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهَا قَالَتْ : { وَلَدَتْ سُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي مَنْ شِئْتِ } .
وَفِي التِّرْمِذِيِّ : { أَنَّهَا وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ أَوْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا } .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ ، لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى يُرِيدُ بِالْقُصْرَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ وَالطُّولَى الْبَقَرَةُ .
وَالْمُبَاهَلَةُ الْمُلَاعَنَةُ .
كَانُوا إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا بَهْلَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِ مِنَّا .
وَقِيلَ هِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي زَمَانِنَا .
وَقَدْ وَرَدَ بِلَفْظِ الْمُلَاعَنَةِ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ : مَنْ شَاءَ لَاعَنْته لَأُنْزِلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ .
وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ بِلَفْظِ : مَنْ شَاءَ حَالَفْته .
وَأَسْنَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِ أَبِيهِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ؟ فَقَالَ : هِيَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا } وَفِيهِ الْمُثَنَّى بْنُ صَبَاحٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ .
وَقَوْلُ عُمَرَ رَوَاهُ فِي الْمَوْطَأِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَالَ : إذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا فَقَدْ حَلَّتْ ، فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : لَوْ وَضَعَتْ وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ وَلَمْ يُدْفَنْ بَعْدَ حَلَّتْ .
وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَرْقَمِ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ فَسَأَلَهَا عَنْ حَدِيثِهَا ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ .
وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا ، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ حَامِلٌ ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا تَجَمَّلَتْ لَلْخُطَّابِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقَالَ : مَا لِي أَرَاك مُتَجَمِّلَةً لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ ، وَاَللَّهِ مَا أَنْتِ بِنَاكِحَةٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، قَالَتْ : فَلَمَّا قَالَ لِي ذَلِكَ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ،
فَأَفْتَانِي أَنِّي قَدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي ، وَأَمَرَنِي بِالتَّزَوُّجِ إنْ بَدَا لِي } .
وَكُلَّمَا كَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْوَضْعِ لَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ إلَّا بِوَضْعِ الْكُلِّ ، فَلَوْ وَضَعَتْ وَلَدًا وَفِي بَطْنِهَا آخَرُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا وَقَوْلُهَا أَفْتَانِي أَنِّي قَدْ حَلَلْت حِينَ وَضَعْت يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ السَّلَفِ : لَا تَحِلُّ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ نِفَاسِهَا ، كَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِهِ : فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفَاسِهَا قَالَ لَهَا : انْكِحِي مَنْ شِئْت .
رَتَّبَ الْإِحْلَالَ عَلَى التَّعَلِّي فَيَتَرَاءَى تَوَقُّفُهُ عَلَى الطُّهْرِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ ، لَكِنْ مَا ذَكَرْنَا صَرِيحٌ فِي ثُبُوتِ الْحِلِّ بِالْوَضْعِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ الْأَشْهُرِ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْمُدَّةِ ظَهَرَ فَسَادُ النِّكَاحِ وَلَحِقَ بِالْمَيْتِ .
( وَإِذَا وَرِثَتْ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا أَوْ ثَلَاثًا ، أَمَّا إذَا كَانَ رَجْعِيًّا فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بِالْإِجْمَاعِ .
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْمَوْتِ بِالطَّلَاقِ وَلَزِمَتْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ إذَا زَالَ النِّكَاحُ فِي الْوَفَاةِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لَا فِي حَقِّ تَغَيُّرِ الْعِدَّةِ ، بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ يُجْعَلُ بَاقِيًا فِي حَقِّ الْعِدَّةِ احْتِيَاطًا فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا وَرِثَتْ الْمُطَلَّقَةُ فِي الْمَرَضِ ) يَتَعَلَّقُ بِالْمُطَلَّقَةِ : أَيْ وَرِثَتْ الَّتِي طَلُقَتْ فِي الْمَرَضِ بِأَنْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا بِحَيْثُ صَارَ فَارًّا وَمَاتَ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ ( فَعِدَّتُهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ ) أَيْ الْأَبْعَدُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ .
فَلَوْ تَرَبَّصَتْ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَمْ تَسْتَكْمِلْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَسْتَكْمِلَهَا .
وَإِنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَمْ تَمْضِ لَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ بِأَنْ امْتَدَّ طُهْرُهَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَمْضِيَ .
وَإِنْ مَكَثَتْ سِنِينَ مَا لَمْ تَدْخُلْ سِنَّ الْإِيَاسِ فَتَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ .
إذَا عَرَفْتَ هَذَا فَمَنْ فَسَّرَ أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ بِأَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مُقَصِّرٍ ، إذْ لَا يَصْدُقُ إلَّا إذَا كَانَتْ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ أَبْعَدَ مِنْ الثَّلَاثِ حِيَضٍ ، وَحَقِيقَةُ الْحَالِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَرَبَّصَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ ، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي صُوَرٍ إحْدَاهَا : هَذِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : إذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ بَائِنٌ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ الِاعْتِدَادُ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ وَلَوْ بَيَّنَ فِي إحْدَاهُمَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْبَيَانِ .
وَالثَّالِثَةُ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ زَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا وَلَمْ يُدْرَ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَعُلِمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ، وَسَنُفَصِّلُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ، أَمَّا إذَا طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَعِدَّتُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ فِي صِحَّتِهِ وَدَخَلَتْ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَإِنَّهَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَتَرِثُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا بَائِنًا فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَاتَ لَا تَنْتَقِلُ وَلَا
تَرِثُ بِالِاتِّفَاقِ .
( قَوْلُهُ لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْمَوْتِ بِالْبَائِنِ وَلَزِمَهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ حُكْمًا لَهُ ، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ إذَا انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ وَلَيْسَ فَلَيْسَ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِي حَقِّ الْإِرْثِ ) لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رَدًّا لِقَصْدِهِ السَّيِّئِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِبَقَائِهِ فِي حَقِّ الْعِدَّةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِهِ الْعِدَّةُ ، بِخِلَافِ الرَّجْعِيِّ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا انْقَطَعَ بِالْمَوْتِ فَتَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ فِيهِ .
( قَوْلُهُ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا ) أَيْ بَيْنَ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْوَفَاةِ حَقِيقَةً وَبِالْمَوْتِ حُكْمًا ؛ أَمَّا الْأَوَّلُ فَبِفَرْضِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَبَانَهَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَبِاعْتِبَارِهِ يَجِبُ عِدَّةُ الطَّلَاقِ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَاعْتِبَارُ قِيَامِ النِّكَاحِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ تَوْرِيثَهَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ وَلَازِمُهُ لُزُومُ عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَازِمُ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَلْزَمُ تَوْرِيثَهَا الِاعْتِدَادُ بِعِدَّةِ الْوَفَاةِ فَتَجِبُ عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، لَكِنْ بَقِيَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ إنَّ اعْتِبَارَهُ قَائِمًا لِرَدِّ قَصْدِهِ عَدَمَ تَوْرِيثِهَا عَلَيْهِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ الْعِدَّةِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْإِرْثَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالْعِدَّةُ تَثْبُتُ بِهِ ، فَإِذَا بَقِيَ النِّكَاحُ شَرْعًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَلَأَنْ يَبْقَى فِي حَقِّ الْعِدَّةِ أَوْلَى مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِلَازِمِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ احْتِيَاطًا .
وَلَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ حَتَّى وَرِثَتْهُ امْرَأَةٌ فَعِدَّتُهَا عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ .
وَقِيلَ عِدَّتُهَا بِالْحَيْضِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ النِّكَاحَ حِينَئِذٍ مَا اُعْتُبِرَ بَاقِيًا إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَرِثُ مِنْ الْكَافِرِ ( فَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ ) لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ( وَإِنْ أَعْتَقَتْ وَهِيَ مَبْتُوتَةٌ أَوْ مُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ ) لِزَوَالِ النِّكَاحِ بِالْبَيْنُونَةِ أَوْ الْمَوْتِ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ مَقِيسٍ عَلَيْهِ مُقَدَّرٍ لِأَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ ارْتَدَّ زَوْجُ الْمُسْلِمَةِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَرِثُ زَوْجَتُهُ الْمُسْلِمَةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَلْ الْحَيْضُ لِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ كَانَ بِالرِّدَّةِ لَا بِالْوَفَاةِ .
فَكَذَا هُنَا زَوَالُهُ بِالطَّلَاقِ لَا بِالْمَوْتِ فَلَا تَجِبُ عِدَّةُ الْمَوْتِ ، فَأَجَابَ بِمَنْعِ حُكْمِ الْأَصْلِ أَوَّلًا فَقَالَ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ بَلْ تَلْزَمُهَا إلَيْهِ أَشَارَ الْكَرْخِيُّ ، وَمَا ذَكَرْت مِنْ مَذْهَبِك فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ فَيَلْزَمُهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْحِيَضِ فَلَا يَصِحُّ بِهِ الْإِلْزَامُ .
وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ لُزُومَ الْحِيَضِ اتِّفَاقِيٌّ فَالْفَرْقُ أَنَّ تَوْرِيثَهَا وَهُوَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ النِّكَاحُ شَرْعٌ قَائِمًا إلَى الْمَوْتِ ، لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ كَذَلِكَ لَمْ تَرِثْ إذْ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ الْكَافِرُ فَيَلْزَمُ الْعِلْمُ بِاعْتِبَارِ اسْتِنَادِ الْإِرْثِ إلَى وَقْتِ حُدُوثِ الرِّدَّةِ اعْتِبَارًا لِلرِّدَّةِ مَوْتًا حُكْمًا وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا الْمَوْتُ وَهُمَا مُسْلِمَانِ ، غَيْرَ أَنَّهُ زَالَ بِهِ إسْلَامُهُ وَبِذَلِكَ السَّبَبِ لَزِمَهَا الْعِدَّةُ بِالْحِيَضِ فَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ .
( قَوْلُهُ فَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ انْتَقَلَتْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ فَتُكْمِلُ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِقِيَامِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ) أَيْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، فَلَمَّا أَعْتَقَتْ وَالْحَالُ قِيَامُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَمُلَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا ، وَالْعِدَّةُ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا بِعِدَّةِ الْحَرَائِرِ ثَلَاثَ حِيَضٍ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
وَوَضَعَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ لَفْظَ الطَّلَاقِ مَكَانَ لَفْظِ الْعِدَّةِ فَقَالَ : وَالطَّلَاقُ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ يُوجِبُ عِدَّةَ الْحَرَائِرِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَحْدُثْ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ بَلْ طَرَأَ
كَمَالُ الْمِلْكِ بَعْدَهُ بِالْعِتْقِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ لِبَقَائِهِ الْحُكْمِيِّ حُكْمُ ابْتِدَائِهِ وَهُوَ مُمْكِنٌ لَوْ كَانَتْ إجْمَاعِيَّةً لَكِنْ هِيَ خِلَافِيَّةٌ ، وَبِقَوْلِنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَظْهَرِ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا تُكْمِلُ عِدَّتَهَا فِي الرَّجْعِيِّ وَالْبَائِنِ .
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَقَتَادَةَ تُكْمِلُ فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ اعْتِبَارِ بَقَائِهِ كَابْتِدَائِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ بِمُجَرَّدِ الطَّلَاقِ تَمَّ سَبَبُ عِدَّةِ الْإِمَاءِ ، وَشَرْطُهَا وَهُوَ وُرُودُ الطَّلَاقِ عَلَى أَمَةٍ عَقِيبَ نِكَاحٍ مُتَأَكِّدٍ ، فَلَوْ وَجَبَتْ عِدَّةُ الْحَرَائِرِ كَانَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى السَّبَبِ .
وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ مَنَعَ تَأْثِيرَ سَبَبِ الْعِدَّةِ فِي كَمِّيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ ، فَالنِّكَاحُ سَبَبٌ لِلْعِدَّةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَقَطْ لَا بِقَيْدِ كَمِّيَّةٍ خَاصَّةٍ ، إذْ لَا يُعْقَلُ تَأْثِيرُ النِّكَاحِ فِي خُصُوصِ كَمِّيَّةٍ بَلْ فِي مُطْلَقِ التَّرَبُّصِ تَعَرُّفًا وَتَأَسُّفًا ، وَتَقْدِيرُ الْكَمِّيَّةِ لِحِكْمَةٍ أُخْرَى سَنَذْكُرُهَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَحِينَئِذٍ سَلِمَ الْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لِلِانْتِقَالِ عَنْ الْمُعَارِضِ وَقَدْ صَوَّرَ الِانْتِقَالَ إلَى جَمِيعِ كَمِّيَّاتِ الْعِدَّةِ الْبَسِيطَةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ .
صُورَتُهَا : أَمَةٌ صَغِيرَةٌ مَنْكُوحَةٌ طَلُقَتْ رَجْعِيًّا فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ ، فَلَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهَا انْتَقَلَتْ إلَى حَيْضَتَيْنِ .
فَلَوْ أَعْتَقَتْ قَبْلَ مُضِيِّهِمَا صَارَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ ، فَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا قَبْلَ انْقِضَائِهَا انْتَقَلَتْ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ .
( وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَاعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ انْتَقَضَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَأْنِفَ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ ) وَمَعْنَاهُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّ عَوْدَهَا يُبْطِلُ الْإِيَاسَ هُوَ الصَّحِيحُ ، فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَلْفًا وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخَلْفِيَّةِ تَحَقُّقُ الْيَأْسِ وَذَلِكَ بِاسْتِدَامَةِ الْعَجْزِ إلَى الْمَمَاتِ كَالْفِدْيَةِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً فَاعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ) يُمْكِنُ كَوْنُ كَانَ تَامَّةً : يَعْنِي إذَا وُجِدَتْ امْرَأَةٌ آيِسَةٌ فَاعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ .
( قَوْلُهُ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ ) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ أَوْ فِي خِلَالِهَا ( اُنْتُقِضَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا ) وَظَهَرَ فَسَادُ نِكَاحِهَا الْكَائِنِ بَعْدَ تِلْكَ الْعِدَّةِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَبِلَتْ مِنْ الزَّوْجِ الْآخَرِ اُنْتُقِضَتْ عِدَّتُهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَيَنْدَرِجُ فِي إطْلَاقِ الِانْتِقَاضِ وَهُوَ لَازِمٌ لِلتَّعْلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ عَوْدَهَا يُبْطِلُ الْإِيَاسَ هُوَ الصَّحِيحُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ خَلْفًا ) وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ شَرْطُ الْخَلْفِيَّةِ : أَيْ خَلْفِيَّةِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ عَنْ الْحِيَضِ تَحَقَّقَ الْإِيَاسُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ } الْآيَةَ ، وَالْإِيَاسُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِاسْتِدَامَةِ الْعَجْزِ إلَى الْمَمَاتِ كَالْفِدْيَةِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي ، فَإِذَا ظَهَرَ الدَّمُ ظَهَرَ عَدَمُ الْخَلْفِيَّةِ فَظَهَرَ عَدَمُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الدَّمِ حَيْضًا ، وَهَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ مُجَرَّدِ وُجُودِهِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ دَمًا فَاسِدًا فَلِذَا قَيَّدَهُ بِقَوْلِهِ وَمَعْنَاهُ إذَا رَأَتْ الدَّمَ عَلَى الْعَادَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ ذَلِكَ الْمُعْتَادِ ، وَعَوْدُ الْعَادَةِ يُبْطِلُ الْإِيَاسَ ثُمَّ فَسَّرَ بَعْضُهُمْ هَذَا بِأَنْ تَرَاهُ سَائِلًا كَثِيرًا جَعَلَهُ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا رَأَتْ بَلَّةً يَسِيرَةً وَنَحْوَهَا ، وَقَيَّدُوهُ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ أَحْمَرَ أَوْ أَسْوَدَ ، فَلَوْ كَانَ أَصْفَرَ أَوْ أَخْضَرَ أَوْ تَرْبِيَةً لَا يَكُونُ حَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ فَقَالَ مَعْنَاهُ : إذَا رَأَتْهُ عَلَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا قَبْلَ الْإِيَاسِ أَصْفَرَ فَرَأَتْهُ كَذَلِكَ أَوْ عَلَقًا فَرَأَتْهُ كَذَلِكَ كَانَ حَيْضًا مُظْهِرًا عَدَمَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
بِالْأَشْهُرِ ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ انْتِقَاضَ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِئْنَافَ ، فَاقْتَضَى ثُبُوتَ ذَلِكَ سَوَاءٌ قُلْنَا بِتَقْدِيرِ الْإِيَاسِ بِمُدَّةٍ أَوْ لَا .
وَذَكَرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ : فِي رِوَايَةٍ لَا تَقْدِيرَ فِيهِ ، وَإِيَاسُهَا عَلَى هَذِهِ أَنْ تَبْلُغَ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا ، فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْمَبْلَغَ وَانْقَطَعَ الدَّمُ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا ، فَإِنْ رَأَتْ بَعْدُ دَمًا يَكُونُ حَيْضًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَيَبْطُلُ الِاعْتِدَادُ بِتِلْكَ الْأَشْهُرِ وَيَظْهَرُ فَسَادُ النِّكَاحِ .
وَيُمْكِنُ كَوْنُ الْمُرَادِ بِمِثْلِهَا فِيمَا ذُكِرَ الْمُمَاثَلَةَ فِي تَرْكِيبِ الْبَدَنِ وَالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يُقَدَّرُ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ ، وَفِي الْمَنَافِعِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَهُ فِي الرُّومِيَّاتِ بِخَمْسٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ، وَفِي غَيْرِهِنَّ بِسِتِّينَ وَعَنْهُ بِسَبْعِينَ ، وَبِهِ قَالَ الصَّفَّارُ .
وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ : لَوْ حَاضَتْ ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ تَصِيرُ سِتِّينَ سَنَةً وَتَعْتَدُّ ، وَلَوْ كَانَتْ عَادَةُ أُمِّهَا وَأَخَوَاتِهَا انْقِطَاعَهُ قَبْلَ السِّتِّينَ تَأْخُذُ بِعَادَتِهِنَّ وَبَعْدَ السِّتِّينَ لَا تَأْخُذُ بِعَادَتِهِنَّ .
وَقَالَ الْأَقْطَعُ : فَإِذَا رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا كَالدَّمِ الَّذِي تَرَاهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا يَحِيضُ مِثْلُهَا .
وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُفِيدُ أَنَّهُ لَا يُحْتَاجُ إلَى حُكْمِ الْقَاضِي بِالْإِيَاسِ ، وَكَذَا الْعِبَارَةُ الْقَائِلَةُ إذَا بَلَغَتْ الْمُقَدَّرَ : يَعْنِي وَانْقَطَعَ حَيْضُهَا حُكِمَ بِإِيَاسِهَا ، فَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ حَيْضًا إنَّمَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بُلُوغِ الْمُقَدَّرِ مَعَ الِانْقِطَاعِ يُحْكَمُ بِهِ شَرْعًا .
وَقِيلَ يَكُونُ حَيْضًا وَيَبْطُلُ بِهِ الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ وَيَظْهَرُ فَسَادُ النِّكَاحِ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالْإِيَاسِ بَعْدَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ إذَا لَمْ تَرَ الدَّمَ بِالِاجْتِهَادِ
وَالدَّمُ حَيْضٌ بِالنَّصِّ ، فَإِذَا رَأَتْهُ فَقَدْ وُجِدَ النَّصُّ ، بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ فَيَبْطُلُ ، كَذَا نَقَلَهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ يُفِيدُ كَوْنَ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ عَلَى رِوَايَةِ التَّقْدِيرِ ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِهِ فَلَا خِلَافَ فِي الِانْتِقَاضِ .
وَفِي الْغَايَةِ مَعْزِيًّا إلَى الْإِسْبِيجَابِيِّ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ التَّقْدِيرِ .
قَالُوا : وَلَوْ اعْتَدَّتْ بِالْأَشْهُرِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ لَا تُبْطِلُ الْأَشْهُرَ ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ، فَثَبَتَ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ .
وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ مَا يُفِيدُ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَاضِ إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِالْإِيَاسِ ، وَيُقَيَّدُ الِانْتِقَاضُ بِعَدَمِ حُكْمِهِ بِهِ .
فَفِي الْخُلَاصَةِ نَقَلَ مِنْ نَوَادِرِ الصَّلَاةِ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْعَجُوزِ الْكَبِيرَةِ إذَا رَأَتْ الدَّمَ مُدَّةَ الْحَيْضِ فَهُوَ حَيْضٌ .
ثُمَّ نَقَلَ قَوْلَ ابْنِ مُقَاتِلٍ إنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُحْكَمْ بِإِيَاسِهَا ، أَمَّا إذَا انْقَطَعَ وَحُكِمَ بِإِيَاسِهَا وَهِيَ ابْنَةُ سَبْعِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهُ فَرَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا .
وَقَالَ بَعْدَهُ بِخُطُوطٍ : وَطَرِيقُ الْقَضَاءِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فَسَادَ النِّكَاحِ بِسَبَبِ قِيَامِ الْعِدَّةِ فَيَقْضِي الْقَاضِي بِجَوَازِهِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ .
قَالَ : وَكَانَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ يُفْتِي بِأَنَّهَا لَوْ رَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ دَمًا يَكُونُ حَيْضًا ، وَيُفْتِي بِبُطْلَانِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ إنْ كَانَتْ رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ ، وَإِنْ كَانَتْ رَأَتْهُ بَعْدَ تَمَامِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ لَا تَبْطُلُ الْأَنْكِحَةُ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ النِّكَاحِ أَوْ لَمْ يَقْضِ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ صَرِيحًا مَبْنِيًّا عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ أَنَّ الْآيِسَةَ إذَا اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ وَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ يَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا عِنْدَ بَعْضِ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ النِّكَاحِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ النِّكَاحُ
فَاسِدًا .
ثُمَّ قَالَ : وَالْأَصَحُّ أَنَّ النِّكَاحَ يَكُونُ جَائِزًا وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ .
وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ : الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ .
انْتَهَى .
فَتَحَصَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ عَلَى التَّقْدِيرِ وَعَدَمِهِ ، وَهِيَ تُنْتَقَضُ إذَا رَأَتْهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَشْهُرِ وَبَعْدَهَا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ قَدْرَ أَقَلِّ مُدَّةِ الْإِيَاسِ أَوْ لَا حُكِمَ بِالْإِيَاسِ أَوْ لَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ مُخْتَارِ الْمُصَنِّفِ مِنْ التَّصْوِيرِ وَالتَّعْلِيلِ لَا تُنْتَقَضُ مُطْلَقًا ، تُنْتَقَضُ كَذَلِكَ إذَا رَأَتْهُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَشْهُرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا فَلَا يَبْطُلُ فَلَا تُنْتَقَضُ الْأَنْكِحَةُ قَضَى بِالْإِيَاسِ أَوْ لَا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّهِيدِ تُنْتَقَضُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَضَى بِإِيَاسِهَا كَمَا قُلْنَا : لَا تُنْتَقَضُ إنْ كَانَ حَكَمَ بِإِيَاسِهَا ، وَهُوَ بِأَنْ يُدَّعَى فَسَادُ النِّكَاحِ فَيَحْكُمُ بِصِحَّتِهِ وَبِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَتُنْتَقَضُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَكَمَ بِالْإِيَاسِ .
وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمُصَحَّحُ فِي النَّوَازِلِ اُنْتُقِضَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا تَعْتَدُّ إلَّا بِالْحَيْضِ لَا الْمَاضِي ، فَلَا تَفْسُدُ الْأَنْكِحَةُ الْمُبَاشَرَةُ عَنْ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ هُوَ الصَّحِيحُ احْتِرَازٌ عَنْ كُلِّ قَوْلٍ يُخَالِفُ إطْلَاقَ الِانْتِقَاضِ مُطْلَقًا كَانَ أَوْ مُفَصَّلًا ، وَمَبْنَى مُخْتَارِهِ عَلَى اشْتِرَاطِ تَحَقُّقِ الْإِيَاسِ لِخَلْفِيَّةِ الْأَشْهُرِ بِالنَّصِّ ، وَإِنْ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِدَامَةِ الِانْقِطَاعِ إلَى الْمَمَاتِ ، وَلَا شَكَّ فِي الْأَوَّلِ ، لَكِنَّ كَوْنَ تَحَقُّقِهِ مَوْقُوفًا عَلَى اسْتِدَامَةِ الِانْقِطَاعِ لَا أَعْلَمُ فِيهِ دَلِيلًا سِوَى مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ لَفْظِ الْيَأْسِ أَنَّهُ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْيَأْسَ مِنْ مَقُولَةِ الْإِدْرَاكِ فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَّا اعْتِقَادَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَقَعُ أَبَدًا ؛ أَمَّا أَنَّهُ يَسْتَدْعِي كَوْنَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادِ عِلْمًا حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ وُجُودُ خِلَافِ مُتَعَلَّقِهِ فَلَا ، وَلِذَا قَدْ يَتَحَقَّقُ
الْيَأْسُ مِنْ الشَّيْءِ ثُمَّ يُوجَدُ ، وَكَثِيرًا مَا يُقَالُ فِي الْوَقَائِعِ كُنْتُ آيَسْت مِنْ كَذَا ثُمَّ وَجَدْتُهُ .
فَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي سَبَبًا لَهُ ، وَكَوْنُهُ بِأَنْ يَنْعَدِمَ الْحَيْضُ وَيَمْتَدَّ وَيَنْتَفِيَ مَخَايِلُ وُجُودِهِ فِي بَاقِي الْعُمُرِ لِكِبَرِ السِّنِّ كَافٍ فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا إذَا رَأَتْهُ بَعْدَ الْإِيَاسِ لَا يُنْتَقَضُ مَا مَضَى ، وَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ الْمُبَاشِرُ عَنْ اعْتِدَادٍ بِالْأَشْهُرِ لِوُقُوعِهِ مُعْتَبَرًا لِوُجُودِ شَرْطِهِ ، وَيَبْقَى النَّظَرُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَنَّهُ هَلْ يُنْتَقَضُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَلَا تَعْتَدُّ إلَّا بِالْحَيْضِ فَيَكُونُ هَذَا مَا صَحَّحَهُ فِي مَجْمُوعِ النَّوَازِلِ ، أَوْ لَا يُنْتَقَضُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ أَيْضًا كَقَوْلِ الصَّفَّارِ وَغَيْرِهِ ، وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى النَّظَرِ فِيمَا يَتَرَجَّحُ فِي هَذَا الْمَرْئِيِّ بَعْدَ الْإِيَاسِ أَهُوَ حَيْضٌ أَمْ دَمٌ فَاسِدٌ ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقَضَاءِ بِالْإِيَاسِ وَعَدَمِهِ ، إذْ الْقَضَاءُ لَا يَرْفَعُ وُجُودَ الْمَحْسُوسَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَالْوَجْهُ يَقْتَضِي الِاخْتِلَافَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يُنْتَقَضُ مَا مَضَى لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْإِيَاسُ لِوُجُودِ سَبَبِهِ وَهُوَ الِانْقِطَاعُ فِي سِنِّهِ وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ فِيهِ ارْتِفَاعُ الْحَيْضِ وَهُوَ الْخَمْسُ وَالْخَمْسُونَ وَعَدَمُ مَخَايِلِ كَوْنِهِ امْتِدَادًا لِلطُّهْرِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَّا الْحَيْضُ لِتَحَقُّقِ الدَّمِ الْمُعْتَادِ خَارِجًا مِنْ الْفَرْجِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْفَسَادِ بَلْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْإِيَاسَ لَا يُنَافِيهِ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِيَاسُ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْحَيْضُ تَحَقَّقَ حُكْمُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَجْزِ الْمُسْتَدَامِ شَرْطًا فِي الشَّيْخِ الْفَانِي فَلَا يُسْتَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي الْإِيَاسِ إذْ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُمَا تَثْبُتُ شَرْعًا ، وَالْمَسْأَلَةُ نَصِّيَّةٌ لَا قِيَاسِيَّةٌ ، نَصَّ تَعَالَى عَلَى تَعْلِيقِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهُرِ عِنْدَ الْإِيَاسِ وَقَدْ وُجِدَ فَثَبَتَ الِاعْتِدَادُ
بِهَا بِالنَّصِّ ثُمَّ زَالَ الْإِيَاسُ فَثَبَتَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَقْرَاءِ بِالنَّصِّ .
( وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ ) تَحَرُّزًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ .
( قَوْلُهُ : وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ ) بِأَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِيَاسِ عِنْدَ الْحَيْضَتَيْنِ وَانْقَطَعَ ، أَوْ انْقَطَعَ عِنْدَهُمَا فِي سِنٍّ لَمْ تَحِضْ فِيهِ أُمُّهَا وَأَخَوَاتُهَا عَلَى مَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ .
وَقَوْلُهُ ( تَحَرُّزًا عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ ) هَذَا التَّعْلِيلُ هُوَ الْمُفِيدُ لِكَوْنِ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ أَنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مَاءَ يَتَيَمَّمُ وَيَبْنِي ، وَكَذَا لَوْ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاتِهِ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ ثُمَّ عَجَزَ جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ بِالْإِيمَاءِ وَهُمَا بَدَلَانِ .
أُجِيبُ بِالْمَنْعِ فَلَيْسَ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ بَدَلًا مِنْهَا بِالْوُضُوءِ بَلْ التُّرَابُ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ وَالطَّهَارَةُ بِهِ خَلَفٌ عَنْهَا بِالْمَاءِ ، وَالْجَمْعُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ فِي رَفْعِ حَدَثٍ وَاحِدٍ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ كَذَلِكَ بَلْ رَفْعُ الْحَدَثِ الْأَوَّلِ بِالْمَاءِ وَرَفْعُ الثَّانِي بِالتُّرَابِ ، وَلَا الْإِيمَاءُ خَلَفٌ عَنْ الْأَرْكَانِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِيهَا وَزِيَادَةٌ ، وَلَكِنْ سَقَطَ عَنْهُ بَعْضُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِلْعُذْرِ وَبَقِيَ الْبَعْضُ عَلَى حَالِهِ ، وَبَعْضُ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ خَلْفًا عَنْ الْكُلِّ لِوُجُودِهِ مَعَهُ فَيَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ خَلْفًا عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّمَا تَكُونُ الْخَلَفِيَّةُ بِشَيْءٍ آخَرَ .
( وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ عِدَّتُهُمَا الْحَيْضُ فِي الْفُرْقَةِ وَالْمَوْتِ ) لِأَنَّهَا لِلتَّعَرُّفِ عَنْ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ لَا لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ ، وَالْحَيْضُ هُوَ الْمُعَرِّفُ .
( قَوْلُهُ وَالْمَنْكُوحَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا ) وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ بِغَيْرِ شُهُودٍ وَنِكَاحُ امْرَأَةِ الْغَيْرِ وَلَا عِلْمَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي بِأَنَّهَا مُتَزَوِّجَةٌ ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالدُّخُولِ حَتَّى لَا يَحْرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ زِنًا ، وَإِذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ حَلَّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا ، وَبِهِ يُفْتَى ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
وَنِكَاحُ الْمَحَارِمِ مَعَ الْعِلْمِ بِعَدَمِ الْحِلِّ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لَهُمَا ، وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ كَاَلَّتِي زُفَّتْ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَالْمَوْجُودَةُ لَيْلًا عَلَى فِرَاشِهِ إذَا اُدُّعِيَ الِاشْتِبَاهُ .
( قَوْلُهُ عِدَّتُهُمَا الْحَيْضُ فِي الْفُرْقَةِ ) الْكَائِنَةُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي أَوْ عَزَمَ الْوَاطِئُ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا ( وَالْمَوْتِ ) أَيْ مَوْتِ الْوَاطِئِ وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } وَمُطْلَقُ اسْمِ الزَّوْجِ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْمُتَزَوِّجِ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ ، فَالْعِدَّةُ فِي حَقِّهِمَا لِلتَّعْرِيفِ لَا لِإِظْهَارِ خَطَرِ النِّكَاحِ بِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى زَوَالِهِ ، غَيْرَ أَنَّ الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ فَتُعْرَفُ الْبَرَاءَةُ فِيهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ فَلِذَا وَجَبَتْ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَلَمْ يُكْتَفَ بِوَاحِدَةٍ كَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الصَّحِيحِ ثَلَاثًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِيهِ التَّعَرُّفُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ ، وَحَيْضُ الْحَامِلِ مِمَّا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، فَلَا يَقْوَى ظَنُّ الْفَرَاغِ بِمَرَّةٍ لِجَوَازِ كَوْنِهِ حَيْضًا مَعَ الْحَمْلِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ ، أَوْ اسْتِحَاضَةً مَعَهُ عِنْدَنَا ، وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَكَرَّرَ فِي الْأَشْهُرِ فَإِنَّهُ يَضْعُفُ تَجْوِيزُ الْحَمْلِ مَعَهُ لِضَعْفِ تَجْوِيزِ مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ كَثِيرًا بِالْحَيْضِ أَوْ الِاسْتِحَاضَةِ مَعَ الْحَمْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُخَالَفَتِهَا قَلِيلًا وَهُوَ ثُبُوتُ الْحَمْلِ
مَعَ الدَّمِ مَرَّةً ، بِخِلَافِ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّ التَّعَرُّفَ مَقْصُودٌ فِيهِ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ بِاسْتِحْدَاثِ الْمِلْكِ مِنْ الْمَرْأَةِ فَعَرَفْنَا بِذَلِكَ أَنَّ فِيهِ شَائِبَةَ التَّعَبُّدِ .
( وَإِذَا مَاتَ مَوْلَى أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ) لِأَنَّهَا تَجِبُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَشَابَهَتْ الِاسْتِبْرَاءَ .
وَلَنَا أَنَّهَا وَجَبَتْ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَأَشْبَهَ عِدَّةَ النِّكَاحِ ثُمَّ إمَامُنَا فِيهِ عُمَرُ فَإِنَّهُ قَالَ : عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ ثَلَاثُ حِيَضٍ ( وَلَوْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ ) كَمَا فِي النِّكَاحِ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ مَوْلَى أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا أَوْ أَعْتَقَهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ ) فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ : يَعْنِي إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَلَا تَحْتَ زَوْجٍ وَلَا فِي عِدَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي الْأَوَّلِ .
وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ الْمَوْلَى لِعَدَمِ ظُهُورِ فِرَاشِ الْمَوْلَى .
وَلَوْ مَاتَ زَوْجُهَا وَمَوْلَاهَا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَوَّلُ ، فَإِمَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمٍ إلَى شَهْرَيْنِ وَأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ فَصَاعِدًا ، أَوْ لَا يَعْلَمُ كَمْ بَيْنَهُمَا ، فَفِي الْأَوَّلِ تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَوْتُ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَلَا عِدَّةَ مِنْهُ لِأَنَّهَا ذَاتُ بَعْلٍ ، ثُمَّ مَوْتُ الزَّوْجِ بَعْدَهُ وَهِيَ حُرَّةٌ مُوجِبٌ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَإِنْ كَانَ مَوْتُ الزَّوْجِ أَوَّلًا لَزِمَهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ ، ثُمَّ مَوْتُ الْمَوْلَى قَبْلَ تَمَامِ عِدَّتِهَا مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْعِدَّةِ لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَلَا لِتَغَيُّرِهَا لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِفُرْقَةِ الرَّجْعِيِّ فَتَيَقَّنَّا بِعَدَمِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى وَدَارَتْ فِي الزَّوْجِ بَيْنَ كَوْنِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فَوَجَبَ الِاحْتِيَاطُ فَلَزِمَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَفِي الثَّانِي يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بِأَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ : يَعْنِي تَجْمَعُ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَثَلَاثِ حِيَضٍ ، لِأَنَّ السَّيِّدَ إنْ كَانَ مَاتَ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ ، ثُمَّ مَوْتُ السَّيِّدِ بَعْدَهَا يُوجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الزَّوْجِ ، فَعَلَى تَقْدِيرِ عِدَّتِهَا أَرْبَعَةُ
أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَعَلَى تَقْدِيرِ عِدَّتِهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ وَثَلَاثُ حِيَضٍ ، فَلَمَّا لَمْ يَعْلَمْ الْوَاقِعَ كَانَ الِاحْتِيَاطُ بِأَنْ تَعْتَدَّ بِأَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهَا ، وَفِي الثَّالِثِ كَذَلِكَ عِنْدَهُمَا لِاحْتِمَالِ كَوْنِ الْوَاقِعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فَقَطْ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُتَأَخِّرُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْحَيْضُ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِلْمَوْلَى وَهُوَ ظُهُورُ فِرَاشِهِ لَمْ يُوجَدْ ، وَالِاحْتِيَاطُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ لِأَنَّهُ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ) وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، وَقَوْلُهُمْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَمُجَاهِدٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَإِسْحَاقَ أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَقَوْلُنَا قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَطَاءٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ .
وَعِنْدَ الظَّاهِرِيَّةِ لَا اسْتِبْرَاءَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ وَتَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَتْ إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِمْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَعِنْدَ غَيْرِنَا بِمَفْهُومِ الْمُوَافَقَةِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قِيَاسِيَّةٌ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِتْقِهِ كُلٌّ مِنْ أَمْرَيْنِ : زَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَزَوَالِ الْفِرَاشِ .
فَقَاسُوا عَلَى الْأَوَّلِ هَكَذَا تَرَبُّصٌ يَجِبُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَيُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ .
وَقُلْنَا : تَرَبُّصٌ يَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ فَيُقَدَّرُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَالتَّرَبُّصِ فِي الطَّلَاقِ ، وَهَذَا أَرْجَحُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِمَّا يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا ، فَالْقِيَاسُ الْمُوجِبُ لِلْأَكْثَرِ وَاجِبُ الِاعْتِبَارِ عَلَى أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا فِي إيجَابِ
الزَّائِدِ عَلَى الْحَيْضَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفْيَ وُجُوبِ الزَّائِدِ عَلَى الْحَيْضَةِ لَيْسَ مُقْتَضَى قِيَاسِ الِاسْتِبْرَاءِ بَلْ مُقْتَضَى الْقِيَاسِ لَيْسَ إلَّا تَعْدِيَةَ حُكْمِ الْأَصْلِ وَهُوَ وُجُوبُ التَّرَبُّصِ حَيْضَةً فَقَطْ ، وَعَدَمُ وُجُوبِ الزَّائِدِ بِالْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّهُ مُقْتَضَاهُ ، فَإِنَّ أَثَرَ الْعِلَّةِ فِيهِ وَفِي كُلِّ قِيَاسٍ إنَّمَا هُوَ فِي تَعْدِيَةِ حُكْمِ الْأَصْلِ لَا فِي غَيْرِهِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ ذَلِكَ الْغَيْرُ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُقْتَضِي لِوُجُوبِهِ .
فَإِذَا عَلِمْت هَذَا فَإِيجَابُ الزَّائِدِ عَلَى الْحَيْضَةِ يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ الَّذِي عَيَّنَّاهُ ، وَلَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ مَا عَيَّنُوهُ فَيَسْلَمُ إيجَابُهُ عَنْ الْمُعَارِضِ .
وَعَلَى هَذَا التَّحْقِيقِ فَالْمُعَارَضَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَ كُلِّ قِيَاسَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبُ أَحَدِهِمَا بَعْضَ مُوجِبِ الْآخَرِ ، وَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَى الْعِلَّةِ التَّعَرُّضُ لِغَيْرِ حُكْمِ الْأَصْلِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْفَرْعِ جَامِعَانِ بِلَا مَانِعٍ أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي فِيهِ حُكْمًا وُجُودِيًّا وَالْآخَرُ غَيْرَهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ حُكْمِهِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ حُكْمِ الْآخَرِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ وَالتَّعْلِيلُ لِنَفْيِ حُكْمٍ ، فَإِنَّ النَّفْيَ حِينَئِذٍ مُقْتَضَاهُ ، وَفِيهِ كَلَامٌ فِي الْأُصُولِ وَمَنْ اخْتَارَهُ شَرَطَ كَوْنَ الْعِلَّةِ أَمْرًا عَدَمِيًّا .
وَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يُؤْثِرُ شَيْئًا ، وَمَا وَقَعَ فِي الْفِقْهِ بِمَا ظَاهِرُهُ التَّعْلِيلُ بِهِ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ الْخَمْسِ فِي مَوْضِعٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَنَحْوِهِ فَإِنَّمَا حَقِيقَتُهُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ الشَّرْعِ مَا اُعْتُبِرَ مَنُوطًا بِهِ الْخَمْسُ إلَّا ذَلِكَ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ فَيَنْتَفِي
الْخَمْسُ : أَيْ يَبْقَى عَلَى عَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنَّهُ إلْحَاقٌ بِجَامِعٍ مُؤْثِرٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُوجِبُ أَحَدِهِمَا بَعْضَ مُوجِبِ الْآخَرِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ ، فَإِنَّ الْجَامِعَيْنِ مُتَظَافَرَانِ عَلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ الْبَعْضِ ، وَيَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِثْبَاتِ أَمْرٍ آخَرَ لَيْسَ نَفْيُهُ مُقْتَضَى الْآخَرِ .
( قَوْلُهُ وَإِمَامُنَا فِيهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ : أَمَرَ أُمَّ الْوَلَدِ إذَا عَتَقَتْ أَنْ تَعْتَدَّ ثَلَاثَ حِيَضٍ ، وَكَتَبَ إلَيَّ عُمَرَ فَكَتَبَ بِحُسْنِ رَأْيِهِ ، فَأَمَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْوَفَاةِ كَذَلِكَ فَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فِي الْعِتْقِ مِنْ شَخْصٍ قَوْلُهُ بِهِ فِي الْوَفَاةِ ، أَلَا يُرَى إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ بِهَا فِي الْعِتْقِ .
وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمِ وَصَحَّحَهُ عَنْ قَبِيصَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ : لَا تُلَبِّسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا ، عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ .
لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ : وَقَبِيصَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَمْرِو فَهُوَ مُنْقَطِعٌ ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ ضَائِرٍ إذَا كَانَ قَبِيصَةُ ثِقَةً .
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ قَالَا : ثَلَاثٌ حِيَضٍ إذَا مَاتَ عَنْهَا : يَعْنِي أُمَّ الْوَلَدِ .
وَأَخْرَجَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ ، فَعَلَى هَذَا تَعَارَضَ النَّقْلُ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَالْحَارِثُ ضَعِيفٌ ، إلَّا أَنَّ غَالِبَ نَقْلِ الْمَذَاهِبِ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ مِثْلِهِ ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ السَّلَفِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافِ الرَّأْيِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَرْجِيحَ مَا يُوَافِقُ رَأْيَنَا .
( وَإِذَا مَاتَ الصَّغِيرُ عَنْ امْرَأَتِهِ وَبِهَا حَبَلٌ فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ بِثَابِتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَصَارَ كَالْحَادِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَلَهُمَا إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَلِأَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِمُدَّةِ وَضْعِ الْحَمْلِ فِي أُولَاتِ الْأَحْمَالِ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أَوْ طَالَتْ لَا لِلتَّعَرُّفِ عَنْ فَرَاغِ الرَّحِمِ لِشَرْعِهَا بِالْأَشْهُرِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ ، لَكِنْ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَمْلُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْحَادِثِ لِأَنَّهُ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ فَلَا تَتَغَيَّرُ بِحُدُوثِ الْحَمْلِ ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا وَجَبَتْ وَجَبَتْ مُقَدَّرَةً بِمُدَّةِ الْحَمْلِ فَافْتَرَقَا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الصَّبِيُّ عَنْ امْرَأَتِهِ وَبِهَا حَبَلٌ ) احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا مَاتَ وَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ اتِّفَاقًا ثُمَّ مُعَرِّفُ ذَلِكَ أَنْ تَضَعَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَوْتِهِ فِي الْأَصَحِّ ، فَإِذَا وَضَعَتْهُ كَذَلِكَ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ مَوْتِهِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ مَحْكُومًا بِقِيَامِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ بَلْ بِحُدُوثِهِ بَعْدَهُ فَلَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ عِنْدَهُمَا بَلْ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ اتِّفَاقًا .
وَقِيلَ : الْمَحْكُومُ بِحُدُوثِهِ أَنْ تَلِدَهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ مَوْتِهِ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ يَكُونُ الِانْقِضَاءُ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ لِلْحُدُوثِ بِأَكْثَرَ سَنَتَيْنِ أَوْ بِسَنَتَيْنِ كَوَامِلَ لَيْسَ إلَّا لِلِاحْتِيَاطِ فِي ثُبُوتِ النَّسَبِ وَلَا يُمْكِنُ ثُبُوتُهُ فِي الصَّبِيِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَأْخِيرِ الْحُكْمِ بِالْحُدُوثِ إلَى السَّنَتَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : عِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ) وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ إذْ لَمْ يُحْكَ فِي الظَّاهِرِ خِلَافٌ .
وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ وَلَا جَامِعُ كَلَامِهِ الْحَاكِمُ ، وَقَوْلُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ وَهَذَا يَعْنِي الِاعْتِدَادَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ اسْتِحْسَانٌ مِنْ عُلَمَائِنَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ عَنْهُ ، وَكَذَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ عِدَّتَهَا بِالشُّهُورِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ انْتَهَى .
وَإِذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْمُطَلَّقَةِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ مَعَ أَنَّهُ مَنْفِيُّ النَّسَبِ وَمَحْكُومٌ بِحُدُوثِهِ فَكَيْفَ يَقُولُ فِي الْمَحْكُومِ بِقِيَامِهِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ لَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ فَإِنَّمَا هِيَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، ثُمَّ يَجِبُ كَوْنُ ذَلِكَ الصَّغِيرِ غَيْرَ مُرَاهِقٍ .
أَمَّا الْمُرَاهِقُ
فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا إذَا لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ الْعَقْدِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا طَلَّقَ الْكَبِيرُ امْرَأَتَهُ فَأَتَتْ بِوَلَدٍ غَيْرِ سِقْطٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا حَامِلًا مِنْ الزِّنَا وَلَا يَعْلَمُ الْحَالَ ثُمَّ وَضَعَتْهُ كَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَعْتَدُّ بِالْوَضْعِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُمْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَا يَعْلَمُ لِصِحَّةِ كَوْنِهِ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْعَقْدَ عَلَى الْحَامِلِ مِنْ الزِّنَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُصَحِّحْهُ لَكِنْ يَجِبُ مِنْ الْوَطْءِ فِيهِ الْعِدَّةَ لِأَنَّهُ شُبْهَةٌ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهَا بِالْوَضْعِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ .
وَحَاصِلُ مُتَمَسِّكِهِمْ الْقِيَاسُ عَلَى الْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِ الصَّغِيرِ ، هَكَذَا حُمِلَ مَنْفِيُّ النَّسَبِ فَلَا تَعْتَدُّ بِوَضْعِهِ كَالْحَمْلِ الْحَادِثِ بَعْدَ مَوْتِ الصَّغِيرِ ( وَلَهُمَا إطْلَاقُ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ( وَلِأَنَّهَا ) أَيْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ فِي حَقِّ الْحَامِلِ وَقْتَ الْمَوْتِ ( مُقَدَّرَةٌ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فِي أُولَاتِ الْأَحْمَالِ لَا لِلتَّعَرُّفِ عَلَى فَرَاغِ الرَّحِمِ لَشَرَعَهَا ) أَيْ لَشَرَعَ عِدَّةَ الْوَفَاةِ ( بِالْأَشْهُرِ مَعَ وُجُودِ الْأَقْرَاءِ لَكِنْ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ .
وَهَذَا الْمَعْنَى ) وَهُوَ قَضَاءُ حَقِّ النِّكَاحِ ( يَتَحَقَّقُ فِي الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحَمْلُ مِنْهُ ) كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَبِيرِ وَالنَّسَبُ مِنْهُ .
وَتَلْخِيصُ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ قِيَاسُ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ الْحَامِلِ وَقْتَ مَوْتِهِ بِغَيْرِ ثَابِتِ النَّسَبِ عَلَى زَوْجَةِ الْكَبِيرِ الْحَامِلِ وَقْتَ مَوْتِهِ بِثَابِتِ النَّسَبِ فِي حُكْمٍ هُوَ الِاعْتِدَادُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ بِجَامِعِ أَنَّهُ لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ إظْهَارًا
لِخَطَرِهِ مُتَعَرِّضًا فِيهِ لِإِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَهُوَ وَصْفُ ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ وَعَدَمِهِ ، وَدَلِيلُ الْإِلْغَاءِ شَرْعُ الْأَشْهُرِ مَعَ تَحَقُّقِ الْأَقْرَاءِ ، وَبِهِ يَظْهَرُ فَسَادُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ صُورَةِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ لَيْسَ إلَّا نَفْيَ الْحُكْمِ لِنَفْيِ الْعِلَّةِ الْمُسَاوِيَةِ وَهِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ الْمُعْتَبَرُ عِلَّةً مُسَاوِيَةً لِلِاعْتِدَادِ بِالْوَضْعِ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْخِلَافِيَّةِ فَيَنْتَفِي الِاعْتِدَادُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ كَمَا انْتَفَى فِي الْحَامِلِ بِحَادِثٍ بَعْدَ مَوْتِ الصَّبِيِّ وَنَحْنُ مَنَعْنَا عِلِّيَّتَهُ فَضْلًا عَنْ مُسَاوَاتِهِ ، لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ كَوْنَ الِاعْتِدَادِ بِالْوَضْعِ لَيْسَ إلَّا لِقَضَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ مَمْنُوعٌ بَلْ لِذَلِكَ وَلْيَثْبُتْ الْفَرَاغُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ النِّكَاحِ .
وَقَدَّمْنَا أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ فَقَدْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ ، فَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّعَرُّضِ لِلنَّفْيِ وَيَكْفِي كَوْنُ الْعِدَّةِ مُطْلَقًا لِلْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَمْرٌ لِلْأَعَمِّ ثَبَتَ لِكُلِّ خُصُوصِيَّاتِهِ فَيَثْبُتُ كَوْنُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِلنَّفْيِ أَيْضًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اسْتَبْعَدْنَا بِهَا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ : أَعْنِي الْمُطَلَّقَةَ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَلِي الْوَضْعَ فَيَرْجِعُ بِنَفَقَتِهَا إنْ كَانَتْ تَعَجَّلَتْهَا إضَافَةً لِلْحَادِثِ وَهُوَ الْحَمْلُ الْحَادِثُ إلَى أَقْرَبِ زَمَانِهِ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْحَادِثِ ) شَرَعَ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ فِي الصُّورَةِ وَبَيْنَ مَحَلِّ الْخِلَافِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا شَرَعَ الْعِدَّةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَ الْحَمْلُ ثَابِتًا حَالَ الْمَوْتِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ مُطْلَقًا يَخُصُّ بِالْعَقْلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ حَالَ الْمَوْتِ حَالُ زَوَالِ النِّكَاحِ وَعِنْدَهُ يَتِمُّ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَثْبُتَ
الْعِدَّةُ إذْ ذَاكَ .
وَالْفَرْضُ أَنْ لَا حَمْلَ حِينَئِذٍ لِيَثْبُتَ بِالْوَضْعِ فَكَانَ اعْتِبَارُ قِيَامِ الْحَمْلِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعَدَمِهِ لِلِاعْتِدَادِ بِالْوَضْعِ أَوْ بِالْأَشْهُرِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْعَقْلِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ فَعِنْدَ عَدَمِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ الْعِدَّةَ تَثْبُتُ لَا يَتَوَقَّفُ فَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالْأَشْهُرِ ، وَبِهَذَا لَزِمَ أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ بِأُولَاتِ الْأَحْمَالِ الْأَحْمَالُ حَالَةَ الْفُرْقَةِ .
وَلَا يَلْزَمُ امْرَأَةُ الْكَبِيرِ إذَا حَدَثَ لَهَا الْحَبَلُ بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْهُ فَكَانَ كَالْقَائِمِ عِنْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا ( وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا مَاءَ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْعُلُوقُ ، وَالنِّكَاحُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي مَوْضِعِ التَّصَوُّرِ .
( قَوْلُهُ وَلَا يَلْزَمُ امْرَأَةُ الْكَبِيرِ إذَا حَدَثَ بِهَا حَبَلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ ) بِأَنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مَعَ حُدُوثِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ حَيْثُ تَعْتَدُّ بِالْوَضْعِ لَا بِالْأَشْهُرِ مَعَ فَرْضِ حُدُوثِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ .
وَأَجَابَ بِمَنْعِ الْحُكْمِ بِحُدُوثِهِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ شَرْعًا وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْحُكْمَ بِقِيَامِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَالْأَصْلُ التَّوَافُقُ بَيْنَ الْحُكْمِيِّ وَالْوَاقِعُ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ خِلَافُهُ ، فَوَجَبَ كَوْنُهُ قَائِمًا عِنْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا حَتَّى لَوْ وَلَدَتْهُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ بِحُدُوثِهِ كَانَ الْحُكْمُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالْأَشْهُرِ ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا مَعْنَى لِلْإِيرَادِ الْمُجَابِ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ أَصْلًا .
( قَوْلُهُ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ فِي الْوَجْهَيْنِ ) أَيْ فِي الْحَادِثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا مَاءَ لَهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْعُلُوقُ .
وَقَوْلُهُ وَالنِّكَاحُ يَقُومُ مَقَامَهُ : أَيْ مَقَامَ الْعُلُوقِ فِي مَوْضِعِ التَّصَوُّرِ لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا إذَا أَمْكَنَ تَصَوُّرُهُ تَحْقِيقًا .
( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَمْ تَعْتَدَّ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ ) لِأَنَّ الْعِدَّةَ مُقَدَّرَةٌ ، بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ فَلَا يَنْقُصُ عَنْهَا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَمْ يُحْتَسَبْ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ ثَلَاثُ حِيَضٍ كَوَامِلَ ) لِأَنَّهُ مُسَمَّى الِاسْمِ فِي ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ }
( وَإِذَا وُطِئَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى وَتَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ ، وَيَكُونُ مَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ مِنْ الْحَيْضِ مُحْتَسَبًا مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ الْأُولَى وَلَمْ تُكْمِلْ الثَّانِيَةَ فَعَلَيْهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ ) وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَتَدَاخَلَانِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِبَادَةُ فَإِنَّهَا عِبَادَةُ كَفٍّ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالْخُرُوجِ فَلَا تَتَدَاخَلَانِ كَالصَّوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعَرُّفُ عَنْ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَقَدْ حَصَلَ بِالْوَاحِدَةِ فَتَتَدَاخَلَانِ ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَنْقَضِي بِدُونِ عِلْمِهَا وَمَعَ تَرْكِهَا الْكَفَّ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا وُطِئَتْ الْمُعْتَدَّةُ بِشُبْهَةٍ ) مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَوْ مِنْ الزَّوْجِ ، وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَاطِئُ الْمُطَلِّقُ وَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ يَتَحَقَّقُ بِصُوَرٍ .
مِنْهَا الَّتِي زُفَّتْ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا ، وَالْمَوْطُوءَةُ لِلزَّوْجِ بَعْدَ الثَّلَاثِ فِي الْعِدَّةِ بِنِكَاحٍ قَبْلَ نِكَاحِ زَوْجٍ آخَرَ أَوْ فِي الْعِدَّةِ إذَا قَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ، وَاَلَّتِي طَلَّقَهَا بِالْكِنَايَةِ ثُمَّ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ ، أَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ فَوَطِئَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ ، أَوْ فِي عِصْمَةٍ فَوَطِئَهَا آخَرُ بِشُبْهَةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ، فَفِي هَذِهِ تَجِبُ عِدَّتَانِ وَيَتَدَاخَلَانِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ، وَعَدَمُهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَمَا فِي الْغَايَةِ مِنْ أَنَّ الشُّبْهَةَ فِي الْمُطَلَّقَةِ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي الْفِعْلِ وَالشُّبْهَةُ فِي الْفِعْلِ لَا يُثْبِتُ النَّسَبَ بِالْوَطْءِ ، وَإِنْ قَالَ ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ لَا تَجِبُ بِهِ الْعِدَّةُ سَيَأْتِي دَفْعُهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ مَعْنَى التَّدَاخُلِ جَعْلُ الْمَرْئِيِّ عَنْهُمَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ وُطِئَتْ بَعْدَ حَيْضَةٍ مِنْ الْعِدَّةِ الْأُولَى فَعَلَيْهَا حَيْضَتَانِ تَمَامُهَا وَتُحْتَسَبُ بِهِمَا مِنْ عِدَّةِ الثَّانِي ، وَلِلْآخَرِ أَنْ يَخْطُبَهَا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ وَلَا يَخْطُبُهَا غَيْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ طَلَّقَهَا رَجْعِيًّا فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا إذَا شَاءَ لَا يُقِرُّ بِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا بَائِنًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا بَعْدَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْهُ ، وَكَذَا إنْ كَانَتْ الْعِدَّتَانِ بِالشُّهُورِ ، قَالُوا : وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ رُكْنَ الْعِدَّةِ مَاذَا ؟ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ كَفُّ النَّفْسِ عَنْ الْحُرُمَاتِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِذَا وَجَبَ كَفٌّ عَنْهَا فِي مُدَّةٍ بِسَبَبٍ
وَكَفٌّ عَنْهَا كَذَلِكَ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَتَدَاخَلَانِ ، لِأَنَّ هَذَا الْكَفَّ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَتَدَاخَلُ ، إنَّمَا التَّدَاخُلُ لَائِقٌ بِالْعُقُوبَاتِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْ الشَّهْوَتَيْنِ فِي يَوْمٍ بِسَبَبٍ ثُمَّ وَجَبَ مِثْلُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَاحِدٍ .
وَعِنْدَنَا أَنَّ الرُّكْنَ نَفْسَ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ الْكَائِنَةِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ .
وَيُمْكِنُ اجْتِمَاعُ حُرُمَاتٍ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ كَالْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ كَحُرْمَةِ الْخَمْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَى عَدَمِ شُرْبِهَا نَهَارًا لِلصَّائِمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تَنْقَضِي بِدُونِ عِلْمِهَا وَمَعَ تَرْكِهَا الْكَفَّ ، وَنَحْنُ نَسْتَأْنِفُ الْكَلَامَ وَنَقُولُ : لَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَامِ سَبَبِ الْعِدَّةِ أُمُورٌ : هِيَ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَحُرْمَةُ الزِّينَةِ وَحُرْمَةُ التَّزَوُّجِ فِي مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ تَنْتَهِي هَذِهِ الْحُرُمَاتُ بِانْتِهَائِهَا ، وَوُجُوبُ التَّرَبُّصِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَيْضًا الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } مَعَ أَنَّ هَذَا الْوُجُوبَ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ لَازِمًا لِلْحُرْمَةِ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ وَمُتَعَلِّقُ الْوُجُوبِ لَيْسَ إلَّا فِعْلَ الْمُكَلَّفِ ، وَالتَّرَبُّصُ وَإِنْ كَانَ الِانْتِظَارُ فَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ النَّفْسِ ، فَإِنْ أَرَدْنَا تَعْيِينَهُ لَمْ نَرَ أَنْسَبَ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ تَرَكَ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَتَرْكُ الشَّيْءِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِ كَفِّ النَّفْسِ عَنْهُ أَوْ حَبْسِهَا .
فَمَنْ ظَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْكَفِّ وَالتَّرْكِ بَعُدَ عَنْ التَّحْقِيقِ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حَاصِلُ { يَتَرَبَّصْنَ } نَهْيًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْكَفَّ عَنْهَا كَمَا جَعَلُوا قَوْله تَعَالَى { وَذَرُوا الْبَيْعَ } نَهْيًا عَنْهُ فَالثَّابِتُ تَحْرِيمُ هَذِهِ الْأُمُورِ ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ لُزُومَ الْكَفِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَرْأَةِ
إلَّا عِنْدَ عِلْمِهَا بِالسَّبَبِ ، إذْ التَّكْلِيفُ بِالْمَقْدُورِ وَلَا قُدْرَةَ بِدُونِ الْعِلْمِ فَيُحْكَمُ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَهِيَ أَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِ بِالسَّبَبِ .
وَالْمُقَدِّمَةُ الْقَائِلَةُ : إنَّ الْحُكْمَ الْمُقَيَّدَ بِمُدَّةٍ يَنْتَهِي بِانْتِهَائِهَا لَزِمَ أَنَّهَا إذَا لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلَاقِ حَتَّى تَمَّتْ الْعِدَّةُ خَرَجَتْ عَنْ الْعِدَّةِ غَيْرَ آثِمَةٍ لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّهَا لَمْ يَكُنْ حُكْمَ الْخِطَابِ ، بَلْ غَايَتُهُ أَصْلُ الْوُجُوبِ الثَّابِتِ بِالسَّبَبِ وَلَا طَلَبَ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ عَلَى مَا عُرِفَ ، أَوْ عَلِمْت ثُمَّ لَمْ تَكُفَّ : أَيْ لَمْ تَتَرَبَّصْ عَنْ الْخُرُوجِ وَالنِّكَاحِ حَتَّى انْتَهَتْ إلَى حَدِّ الزِّنَا إلَى أَنْ تَمَّتْ الْمُدَّةُ خَرَجَتْ عَنْ الْعِدَّةِ آثِمَةً فَلَا يَكُونُ انْقِضَاؤُهَا بِلَا عِلْمِهَا وَمَعَ تَرْكِهَا الْكَفَّ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ، بَلْ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ تَحَقُّقُهَا فِي حَقِّ مَنْ لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ مِنْهُ وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحَقُّقَ الْعِدَّةِ فِي الشَّرْعِ بِالْأَصَالَةِ إنَّمَا هُوَ لِتَعَرُّفِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَلِإِظْهَارِ خَطَرِ النِّكَاحِ وَالْبُضْعِ فَقَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا فِي ذَاتِ الْأَقْرَاءِ وَقَدْ لَا كَمَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ وَهُوَ كَفُّ الْقَادِرَةِ الْمُخْتَارَةِ نَفْسَهَا عَنْ مُتَعَلِّقَاتِ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِدَّةَ تُطْلَقُ عَلَى كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ ، أَمَّا عَلَى التَّرَبُّصِ فَفِي قَوْلِنَا وَجَبَتْ الْعِدَّةُ وَنَحْوِهِ وَأَمَّا عَلَى نَفْسِ الْمُدَّةِ فَفِي نَحْوِ قَوْلِنَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَمَا سَنَذْكُرُ أَيْضًا ، وَأَمَّا عَلَى نَفْسِ الْحُرُمَاتِ فَبِفَرْضِ دَعْوَانَا أَنَّهَا الرُّكْنُ ، لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي بَيَانِ أَنَّ مُسَمَّى لَفْظِ الْعِدَّةِ فِي الشَّرْعِ مَاذَا ؟ فَاَلَّذِي يُفِيدُهُ حَقِيقَةُ نَظْمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَعِدَّتُهُنَّ
ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } أَنَّهُ نَفْسُ الْمُدَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي تَعَلَّقَتْ الْحُرُمَاتُ فِيهَا وَتَقَيَّدَتْ بِهَا لَا الْحُرُمَاتُ الثَّابِتَةُ فِيهَا وَلَا وُجُوبُ الْكَفِّ وَلَا التَّرَبُّصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ } إنَّمَا يُفِيدُ لُزُومَ التَّرَبُّصِ لَا أَنَّهُ مُسَمَّى لَفْظِ الْعِدَّةِ ، وَقَدْ قُلْنَا : إنَّ كُلًّا مِنْ الْأُمُورِ ثَابِتٌ عِنْدَ تَمَامِ السَّبَبِ وَالْكَلَامُ الْآنَ لَيْسَ فِيهِ ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } { حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } فَالْأَجَلُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ الْمُدَّةِ لِتَأْخِيرِ مَا ثَبَتَ عِنْدَ مُضِيِّهِ كَالْمُطَالَبَةِ فِي الدَّيْنِ ، ثُمَّ الثَّابِتُ بِمُضِيِّ هَذَا الْأَجَلِ حِلُّ النِّكَاحِ وَالْخُرُوجِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ قَبْلَهُ حُرْمَتُهُمَا ، وَلَا دَلِيلَ فِيهِ أَيْضًا إلَّا عَلَى مُجَرَّدِ الثُّبُوتِ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ الرُّكْنَ كَمَا قُلْنَا فِي التَّرَبُّصِ ، وَأَمَّا وَصْفُ الْعِدَّةِ بِالْوُجُوبِ فِي قَوْلِنَا الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ وَوَجَبَتْ فَإِنَّمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فِعْلٌ كَالتَّرَبُّصِ وَالْكَفِّ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ الْمَفْهُومَ الْحَقِيقِيَّ إلَّا ظَاهِرًا ، وَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ .
فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجِبُ كَوْنُ مُسَمَّى الْعِدَّةِ الْمُدَّةَ الْخَاصَّةَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ فِيهَا الْحُرُمَاتُ عِنْدَ الْكُلِّ .
وَحِينَئِذٍ نَقُولُ : لَا يَلْزَمُ بِنَاءُ الْخِلَافِ فِي تَدَاخُلِ الْعِدَّتَيْنِ عَلَى كَوْنِ رُكْنِ الْعِدَّةِ الْكَفَّ أَوْ الْحُرُمَاتِ ، بَلْ يَصِحُّ ثُبُوتُهُ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهَا الْمُدَّةُ حَقِيقَةً ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حِينَئِذٍ تَعَلَّقَتْ فِيهَا حُرُمَاتٌ يَجِبُ لَهَا كَفُّ النَّفْسِ عَنْ مُتَعَلِّقَاتِهَا .
فَتَدَاخُلُ الْعِدَّتَيْنِ يَسْتَلْزِمُ تَدَاخُلَ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ فِيمَا لَا أَنَّ تَدَاخُلَهَا تَدَاخُلُهَا وَاللَّازِمُ مُتَّحِدٌ حِينَئِذٍ وَهُوَ امْتِنَاعُ تَدَاخُلِ الْعِبَادَاتِ سَوَاءٌ جَاءَ لَازِمًا لِتَدَاخُلِ الْعِدَّةِ أَوْ كَانَ عَيْنَ تَدَاخُلِهَا
فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَنْ كَوْنِ الْمَبْنِيِّ مَا هُوَ .
وَالدَّفْعُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنَّ الْكَفَّ الْوَاجِبَ لَمْ يَجِبْ تَحَقُّقُهُ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ بَلْ مُطْلَقًا ، إذْ لَا دَلِيلَ يُوجِبُ كَوْنَهُ وَجَبَ إيجَادَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ بَلْ الدَّلِيلُ قَامَ عَلَى عَدَمِهِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ لَوْ وَقَعَ الْكَفُّ مِنْهَا بِغَيْرِ نِيَّةٍ بَلْ اتِّفَاقًا أَوْ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ لَمْ يُحْكَمْ بِكَوْنِهَا آثِمَةً مَعَ أَنَّهُ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْعِبَادَةُ لِعَدَمِ نِيَّةِ الِاحْتِسَابِ لِلَّهِ تَعَالَى فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى أَنَّهُ عِبَادَةٌ .
نَعَمْ هُوَ لَهُ عَرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ عِبَادَةً ، فَإِنَّ الْبَالِغَةَ الْعَاقِلَةَ إذَا كَفَّتْ نَفْسَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَغَيْرِهِ مَعَ فُرُوغِ النَّفْسِ لِذَلِكَ احْتِسَابًا لِلَّهِ وَقَصْدًا لِطَاعَتِهِ وَقَعَ ذَلِكَ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا أَنَّهُ يَجِبُ إيقَاعُهُ كَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا .
( وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ وَتَحْتَسِبُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ الْحَيْضِ فِيهَا ) تَحْقِيقًا لِلتَّدَاخُلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ .
( قَوْلُهُ وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةٍ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ وَتَحْتَسِبُ بِمَا تَرَاهُ مِنْ الْحَيْضِ فِيهَا ) فَلَوْ لَمْ تَرَ فِيهَا دَمًا يَجِبُ أَنْ تَعْتَدَّ بَعْدَ الْأَشْهُرِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ .
( وَابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ وَفِي الْوَفَاةِ عَقِيبَ الْوَفَاةِ ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْوَفَاةِ حَتَّى مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ) لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ أَوْ الْوَفَاةُ فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ ، وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ .
( قَوْلُهُ وَابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ فِي الطَّلَاقِ عَقِيبَ الطَّلَاقِ ) لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ الطَّلَاقُ تَسَاهُلٌ ، فَقَدْ قَدَّمُوا أَنَّ سَبَبَهَا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ شَرْطٌ وَأَنَّ الْإِضَافَةَ فِي قَوْلِنَا عِدَّةُ الطَّلَاقِ إلَى الشَّرْطِ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لِأَنَّ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَالْمَوْتِ يَتِمُّ السَّبَبُ فَيَسْتَعْقِبُهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَيَكُونُ مَبْدَأُ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِالضَّرُورَةِ .
( قَوْلُهُ وَمَشَايِخُنَا يُفْتُونَ فِي الطَّلَاقِ أَنَّ ابْتِدَاءَهَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ ) بِأَنْ يَتَوَاضَعَا عَلَى الطَّلَاقِ وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِيَصِحَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لَهَا بِالدَّيْنِ أَوْ يَتَوَاضَعَا عَلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا .
وَإِذَا كَانَ مُخَالَفَةُ هَذَا الْحُكْمِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى بِهِ مَحَلَّ التُّهْمَةِ وَالنَّاسُ الَّذِينَ هُمْ مَظَانُّهَا ، وَلِذَا فَصَّلَ السُّغْدِيُّ حَيْثُ قَالَ : مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ : يَعْنِي مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي أُسْنِدَ الطَّلَاقُ إلَيْهِ ، أَمَّا إذَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ فَالْكَذِبُ فِي كَلَامِهِمَا ظَاهِرٌ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي الْإِسْنَادِ .
قَالَ مُحَمَّدٌ : وَعَلَى هَذَا إذَا فَارَقَهَا زَمَانًا ثُمَّ قَالَ لَهَا كُنْتُ طَلَّقْتُك مُنْذُ كَذَا وَهِيَ لَا تَعْلَمُ بِذَلِكَ يُصَدَّقُ وَتُعْتَبَرُ عِدَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى لِاعْتِرَافِهَا بِالسُّقُوطِ ، وَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحِلَّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا ، وَعُرِفَ أَنَّ تَقْيِيدَهُ بِالْإِقْرَارِ يُفِيدُ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُتَقَدِّمَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ قَامَتْ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِالْبَيِّنَةِ لَا بِالْإِقْرَارِ ، وَأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ
وَالسُّكْنَى عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ إنَّمَا هُوَ إذَا صَدَّقَتْهُ ، أَمَّا إذَا كَذَّبَتْهُ فِي الْإِسْنَادِ فَلَا ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ لَا أَدْرِي ، فَالْحُكْمُ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَوْلِ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَمَشَايِخُنَا مَشَايِخُ بُخَارَى وَسَمَرْقَنْدَ وَاقْتِصَارُ النِّهَايَةِ وَالدِّرَايَةِ عَلَى قَوْلِهِ مِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ غَيْرُ جَيِّدٍ ثُمَّ فِيهِ تَرْكٌ لِشَرْحِ الْكِتَابِ ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَأَتَاهَا مَوْتُهُ أَوْ طَلَاقُهُ لِمُدَّةٍ تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ فَلَا عِدَّةَ وَإِذَا شَكَّتْ فِي الْعِدَّةِ اعْتَدَّتْ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَيْقِنُ فِيهِ بِمَوْتِهِ .
وَلَوْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا إنْ ضَرَبَهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا فَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الضَّرْبَ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ أَوْ مِنْ وَقْتِ الضَّرْبِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِنْ وَقْتِ الضَّرْبِ .
وَلَوْ طَلَّقَهَا وَأَنْكَرَ فَأُقِيمَتْ الْبَيِّنَةُ فَقُضِيَ بِالطَّلَاقِ فَالْعِدَّةُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ لَا الْقَضَاءِ .
( وَالْعِدَّةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ عَقِيبَ التَّفْرِيقِ أَوْ عَزْمِ الْوَاطِئِ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا ) وَقَالَ زُفَرُ : مِنْ آخِرِ الْوَطَآتِ لِأَنَّ الْوَطْءَ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ .
وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ وُجِدَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ لِاسْتِنَادِ الْكُلِّ إلَى حُكْمِ عَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَلِهَذَا يُكْتَفَى فِي الْكُلِّ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ ، فَقِيلَ : الْمُتَارَكَةُ أَوْ الْعَزْمُ لَا تُثْبِتُ الْعِدَّةَ مَعَ جَوَازِ وُجُودِ غَيْرِهِ وَلِأَنَّ التَّمَكُّنَ عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِخَفَائِهِ وَمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ .
( قَوْلُهُ أَوْ عَزْمِ الْوَاطِئِ ) بِأَنْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ تَرَكَ الْوَطْءَ فَإِنَّ الْإِخْبَارَ أَمْرٌ ظَاهِرٌ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، أَمَّا آخِرُ الْوَطَآتِ لَا يُعْلَمُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ آخَرَ بَعْدَهُ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : وَالنِّصَابُ الْمُتَارَكَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَرَكْتُكِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَتَرَكْتُهَا وَخَلَّيْتُ سَبِيلَهَا أَمَّا عَدَمُ الْمَجِيءِ فَلَا إذْ الْغَيْبَةُ لَا تَكُونُ مُتَارَكَةً لِأَنَّهُ لَوْ عَادَ يَعُودُ وَلَوْ أَنْكَرَ نِكَاحَهَا لَا يَكُونُ مُتَارَكَةً .
( قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ وُجِدَ فِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَجْرِي مَجْرَى الْوَطْأَةِ الْوَاحِدَةِ ) لِاسْتِنَادِ الْكُلِّ أَيْ كُلِّ الْوَطَآتِ ( إلَى حُكْمِ عَقْدٍ وَاحِدٍ ) وَهُوَ شُبْهَةُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَلِهَذَا أَيْ لِاعْتِبَارِ الْكُلِّ وَاحِدًا يُكْتَفَى بِمَهْرٍ وَاحِدٍ فَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ تَعَدَّدَتْ الْمُهُورُ بِتَعَدُّدِ الْوَطْءِ لِمَا عُرِفَ فَقَبْلَ الْمُتَارَكَةِ أَوْ الْعَزْمِ لَا تَثْبُتُ كُلُّ الْوَطَآتِ لِجَوَازِ غَيْرِهِ فَلَا تَثْبُتُ الْعِدَّةُ لَكِنَّ حَقِيقَةَ كَلَامِ زُفَرَ أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ أَيَّ وَطْءٍ كَانَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ ثَلَاثَ حِيَضٍ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَحَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ ظَهَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ آخِرَ الْوَطَآتِ وَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
عَادَ هَذَا التَّقْدِيرُ فَنَقُولُ : إنْ تَرَكَهَا حَتَّى حَاضَتْ ثَلَاثًا إلَخْ وَلَوْ حَاضَتْ حَيْضَةً بَعْدَ وَطْئِهِ ثُمَّ قَالَ : عَزَمْتُ عَلَى تَرْكِهِ اُحْتُسِبَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ عِنْدَهُ مِنْ الْعِدَّةِ فَتَتَزَوَّجُ بَعْدَ حَيْضَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ وَعِنْدَنَا لَا تُحْتَسَبُ بِهَا ( وَلِأَنَّ التَّمَكُّنَ ) مِنْ الْوَطْءِ ( عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ ) بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ ( أُقِيمَ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لِخَفَاءِ الْوَطْءِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ) أَيْ فِي غَيْرِ الْوَاطِئِ وَهُوَ حِلُّهَا لِلْأَزْوَاجِ وَالْخَفِيُّ لَا يَعْرِفُ الْحُكْمَ وَإِذَا أُقِيمَ مَقَامَ
حَقِيقَةِ الْوَطْءِ لَا تَثْبُتُ الْعِدَّةُ مَا دَامَ التَّمَكُّنُ عَلَى وَجْهِ الشُّبْهَةِ قَائِمًا وَلَا يَنْقَطِعُ التَّمَكُّنُ كَذَلِكَ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ أَوْ الْمُتَارَكَةِ صَرِيحًا فَلَا تَثْبُتُ الْعِدَّةُ إلَّا عِنْدَهُمَا وَاخْتَارَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ قَوْلَ زُفَرَ .
وَمُقْتَضَى مَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ الْمَهْرِ مِنْ قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَهُوَ الْوَجْهُ أَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ عَالِمَةً بِأَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ بَعْدَ وَطْئِهِ كَانَ صَحِيحًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا اشْتِرَاطُ كَوْنِهَا بَعْدَ التَّرْكِ فِي الْقَضَاءِ
( وَإِذَا قَالَتْ الْمُعْتَدَّةُ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ الْيَمِينِ ) لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ وَقَدْ اُتُّهِمَتْ بِالْكَذِبِ فَتَحْلِفُ كَالْمُودِعِ .
( قَوْلُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ الْيَمِينِ ) لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ هَذَا مَا إذَا كَذَّبَهَا مَعَ كَوْنِ الْمُدَّةِ تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَهَا عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ شَهْرَانِ عِنْدَهُ وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ تَحْتَمِلْهُ الْمُدَّةُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا أَصْلًا .
( قَوْلُهُ كَالْمُودَعِ ) إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْهَلَاكَ وَأَنْكَرَ الْمُودَعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الرَّدِّ مَعَ أَنَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ إذَا كَذَّبَهُ .
وَعَكْسُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ الزَّوْجُ : أَخْبَرَتْنِي بِأَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ فَإِنْ كَانَ فِي مُدَّةٍ لَا تَنْقَضِي فِي مِثْلِهَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَلَا قَوْلُهَا إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ مِنْ إسْقَاطِ سِقْطٍ مُسْتَبِينِ الْخَلْقِ فَحِينَئِذٍ يُقْبَلُ قَوْلُهَا ، وَلَوْ كَانَ فِي مُدَّةٍ تَحْتَمِلُهُ فَكَذَّبَتْهُ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا لِأَنَّهُ أَمْرٌ دِينِيٌّ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ .
( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَعَلَيْهِ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَعَلَيْهِ إتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى ) لِأَنَّ هَذَا طَلَاقٌ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا يُوجِبُ كَمَالَ الْمَهْرِ وَلَا اسْتِئْنَافَ الْعِدَّةِ ، وَإِكْمَالُ الْعِدَّةِ الْأُولَى إنَّمَا يَجِبُ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حَالَ التَّزَوُّجِ الثَّانِي ، فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي ظَهَرَ حُكْمُهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا .
وَلَهُمَا أَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى وَبَقِيَ أَثَرُهُ وَهُوَ الْعِدَّةُ ، فَإِذَا جَدَّدَ النِّكَاحَ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ نَابَ ذَلِكَ الْقَبْضُ عَنْ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ فِي هَذَا النِّكَاحِ كَالْغَاصِبِ يَشْتَرِي الْمَغْصُوبَ الَّذِي فِي يَدِهِ يَصِيرُ قَابِضًا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، فَوَضَحَ بِهَذَا أَنَّهُ طَلَاقٌ بَعْدَ الدُّخُولِ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْأُولَى قَدْ سَقَطَتْ بِالتَّزَوُّجِ فَلَا تَعُودُ ، وَالثَّانِيَةُ لَمْ تَجِبْ وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا .
( قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ) الْمَدْخُولَ بِهَا ( طَلَاقًا بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) وَقَالَ زُفَرُ نِصْفُ الْمَهْرِ أَوْ الْمُتْعَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ سُمِّيَ فِيهِ شَيْءٌ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ وَلَا تُكْمِلُ الْعِدَّةَ الْأُولَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَهَا نِصْفُهُ أَوْ الْمُتْعَةُ وَعَلَيْهَا إتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى .
لِزُفَرِ أَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى بَطَلَتْ بِالتَّزَوُّجِ وَلَا تَجِبُ عِدَّةٌ بِالطَّلَاقِ الثَّانِي وَلَا كَمَالُ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ كَذَلِكَ غَيْرَ أَنَّ إكْمَالَ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَجَبَ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُهُ حَالَ التَّزَوُّجِ الثَّانِي فَإِذَا ارْتَفَعَ بِالطَّلَاقِ ظَهَرَ حُكْمُهُ .
( قَوْلُهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدِهِ ) أَيْ زَوْجَتَهُ الَّتِي هِيَ أُمُّ وَلَدِهِ إذَا كَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ بِالشِّرَاءِ وَلَمْ تَظْهَرْ الْعِدَّةُ حَتَّى حَلَّ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ثُمَّ بِالْعِتْقِ تَظْهَرُ غَيْرَ أَنَّ هُنَا تَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ أَعْتَقَتْ وَتَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْإِحْدَادُ إلَى أَنْ تَذْهَبَ عِدَّةُ النِّكَاحِ وَهِيَ حَيْضَتَانِ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهَا عِدَّةُ النِّكَاحِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْحَيْضَةِ الْأُخْرَى لِأَنَّهَا عِدَّةُ أُمِّ وَلَدٍ أَعْتَقَتْ ، وَكَذَا لَوْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً بَائِنَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَلَهَا وَلَدٌ مِنْهُ أَوْ لَا وَلَدَ لَهَا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ تَبْطُلُ فِي حَقِّهِ بِالشِّرَاءِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ وَطْؤُهَا فَإِذَا زَالَ بِالْعِتْقِ تَظْهَرُ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا بِالطَّلَاقِ السَّابِقِ ، وَمَا قَالَهُ زُفَرُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ إبْطَالَ الْمَقْصُودِ مِنْ
شَرْعِهِمَا وَهُوَ عَدَمُ اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا مِنْ يَوْمِهِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ مِنْ غَيْرِ عِدَّةٍ مِنْ الطَّلَاقِ ، وَفِي ذَلِكَ اشْتِبَاهُ النَّسَبِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَطْءَ قَبْضٌ وَهِيَ مَقْبُوضَةٌ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً بِالْوَطْأَةِ الْأُولَى ، وَبَقِيَ أَثَرُ هَذَا الْقَبْضِ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ إذْ هِيَ أَثَرُهُ ، فَإِذَا جُدِّدَ النِّكَاحُ وَالْحَالُ قِيَامُ قَبْضِهَا نَابَ قَبْضُهَا الْقَائِمِ مَقَامَ اسْتِحْدَاثِ قَبْضٍ آخَرَ فَكَانَ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَابِضًا كَالْغَاصِبِ إذَا اشْتَرَى الْمَغْصُوبَ وَهُوَ فِي يَدِهِ بِالْغَصْبِ نَابَ ذَلِكَ الْقَبْضُ عَنْ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَأْنَفِ وَلَا يُقَالُ : وَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَمْلِكَ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الصَّرِيحَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
لِأَنَّا نَقُولُ : نَحْنُ مَا جَعَلْنَا النِّكَاحَ الثَّانِيَ قَائِمًا مَقَامَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، بَلْ فِي حَقِّ تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ اسْتِئْنَافِ الْعِدَّةِ لِلِاحْتِيَاطِ ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ إقَامَتُهُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِلَّا كَانَ إقَامَةً فِي حَقِّ تَرْكِ الِاحْتِيَاطِ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لَا يُثْبِتُهَا مَعَ أَنَّ الْخَلْوَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي تَكْمِيلِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ ؛ فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ إقَامَةِ النِّكَاحِ مَقَامَ الدُّخُولِ فِي ذَيْنِك الْحُكْمَيْنِ إقَامَتُهُ مَقَامَهُ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ ، وَهَذِهِ إحْدَى الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ : وَهُوَ أَنَّ الدُّخُولَ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ دُخُولٌ فِي الثَّانِي أَوَّلًا .
وَثَانِيهَا لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا صَحِيحًا وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ عَنْ ذَلِكَ الْفَاسِدِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ كَامِلٌ وَعَلَيْهَا
عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عِنْدَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا صَحِيحًا أَوَّلًا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَاسِدًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَلَا عَلَيْهَا اسْتِقْبَالُ الْعِدَّةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا تَمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ .
وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْوَطْءِ فِي الْفَاسِدِ فَلَا يُجْعَلُ وَاطِئًا حُكْمًا لِعَدَمِ الْإِمْكَانِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ وَاطِئًا بِالْخَلْوَةِ فِي الْفَاسِدِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِهَا وَلَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ .
وَثَالِثُهَا لَوْ دَخَلَ بِهَا فِي الصِّحَّةِ وَطَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْمَرَضِ فِي عِدَّتِهَا وَطَلَّقَهَا بَائِنًا قَبْلَ الدُّخُولِ هَلْ يَكُونُ فَارًّا أَمْ لَا .
وَرَابِعُهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ كُفُؤٍ وَدَخَلَ بِهَا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِطَلَبِ الْوَلِيِّ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا هَذَا الرَّجُلُ فِي الْعِدَّةِ بِمَهْرٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ الثَّانِي كَامِلًا وَعِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ عِنْدَهُمَا اسْتِحْسَانًا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ نِصْفُ الْمَهْرِ الثَّانِي وَعَلَيْهَا إتْمَامُ الْعِدَّةِ الْأُولَى .
وَخَامِسُهَا تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَبَلَغَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَسَادِسُهَا تَزَوَّجَهَا صَغِيرَةً فَدَخَلَ بِهَا فَبَلَغَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَسَابِعُهَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا .
وَثَامِنُهَا تَزَوَّجَهَا وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا .
وَتَاسِعُهَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَعَاشِرُهَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ
بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَأَعْتَقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
.
قَالَ ( وَإِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَكَذَا إذَا خَرَجَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً ، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ جَازَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : عَلَيْهَا وَعَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةُ ) أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَالِاخْتِلَافُ فِيهَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي نِكَاحِهِمْ مَحَارِمَهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا كَانَ مُعْتَقَدُهُمْ أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ لَوْ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَكَذَا بِسَبَبِ التَّبَايُنِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا هَاجَرَ الرَّجُلُ وَتَرَكَهَا لِعَدَمِ التَّبْلِيغِ .
وَلَهُ قَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ حَيْثُ وَجَبَتْ كَانَ فِيهَا حَقُّ بَنِي آدَمَ وَالْحَرْبِيُّ مُلْحَقٌ بِالْجَمَادِ حَتَّى كَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا وَلَا يَطَؤُهَا كَالْحُبْلَى مِنْ الزِّنَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( قَوْلُهُ وَإِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيُّ الذِّمِّيَّةَ ) أَوْ مَاتَ عَنْهَا ( فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ) فَلَوْ تَزَوَّجَهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فِي فَوْرِ طَلَاقِهَا جَازَ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ لَا تَجِبُ فِي مُعْتَقَدِهِمْ ، بِخِلَافِ مَا إذَا طَلَّقَهَا الْمُسْلِمُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا حَقُّهُ وَمُعْتَقَدُهُ .
( قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا خَرَجَتْ الْحَرْبِيَّةُ إلَيْنَا مُسْلِمَةً ) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ الْمُعْتَبَرُ أَنْ تَصِيرَ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ مِنْ الْعَوْدِ إمَّا بِخُرُوجِهَا مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ مُسْتَأْمَنَةً ثُمَّ أَسْلَمَتْ أَوْ صَارَتْ ذِمِّيَّةً لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فَإِنْ تَزَوَّجَتْ جَازَ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا ) وَعَنْهُ لَا يَطَؤُهَا الزَّوْجُ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ ، وَعَنْهُ لَا يَتَزَوَّجُهَا إلَّا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ( وَقَالَا عَلَيْهَا ) أَيْ الْحَرْبِيَّةِ الَّتِي خَرَجَتْ مُهَاجِرَةً الْعِدَّةُ ( وَعَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةُ .
أَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَالْخِلَافُ فِيهَا نَظِيرُ الِاخْتِلَافِ فِي نِكَاحِهِمْ مَحَارِمَهُمْ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ ) أَيْ الِاخْتِلَافِ الْمُشْبِهِ وَهُوَ عَيْنُ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ : وَإِذَا تَزَوَّجَ الْكَافِرُ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي عِدَّةِ كَافِرٍ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ جَائِزٌ إلَى آخِرِهِ ، أَوْ الْمُرَادُ كُلًّا مِنْ الِاخْتِلَافَيْنِ ( وَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ ) لِمُسْلِمَةٍ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ( لَوْ وَقَعَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ ) غَيْرِ التَّبَايُنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمُطَاوَعَةِ وَالْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ .
( وَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَكَذَا بِسَبَبِ التَّبَايُنِ ) وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْمُسْلِمَةِ لِيُتَّجَهَ خُصُوصُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَيْهِ فَهُوَ دَلِيلٌ يَخُصُّ الْخَارِجَةَ مُسْلِمَةً ، وَلَوْ لَمْ يَخُصَّ بِهَا لَمْ تَظْهَرْ الْمُلَازَمَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِلٌ بِعَدَمِ الْعِدَّةِ عَنْ طَلَاقِ الذِّمِّيِّ ذِمِّيَّةً إذَا كَانُوا يَدِينُونَ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا هَاجَرَ
الزَّوْجُ ) مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا ثُمَّ صَارَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا ( وَتَرَكَهَا ) فَإِنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا هُنَاكَ إجْمَاعًا حَتَّى جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ( لِعَدَمِ تَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ ) لَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالْعِدَّةِ لِمَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ نِكَاحِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّهَا حَقُّ الْآدَمِيِّ فَتُخَاطَبُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ ( وَلَهُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } ) بَعْدَ قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ لَا تَجُوزُ بِالظَّنِّيِّ وقَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } فِي الْمُطَلَّقَاتِ ، فَإِلْحَاقُ التَّبَايُنِ بِالطَّلَاقِ قِيَاسًا يُقَيِّدُهُ بِمَا بَعْدَ الْعِدَّةِ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ بِالْقِيَاسِ ، هَذَا وَالْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ تَعْتَدُّ كَالْمُسْلِمَةِ ، وَالْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تَجِبُ مَعَهَا الْعِدَّةُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ كَمَا لَا يَجِبُ مَعَهَا الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَا يَجُوزُ لَهَا فَلَا تُقَامُ الْخَلْوَةُ مَقَامَ الْوَطْءِ ، وَلَا إشْكَالَ فِي وُجُوبِهَا بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
وَأَمَّا الْخَلْوَةُ الْفَاسِدَةُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الْوَطْءُ مَعَ الْمَانِعِ كَالْحَيْضِ وَالْإِحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَجِبُ الْعِدَّةُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ كَمَالُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ اعْتَرَفَا بِعَدَمِ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا حَقُّ الشَّرْعِ وَالْوَلَدِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي حَقِّ إبْطَالِ حَقِّ غَيْرِهِمَا ، وَتَقَدَّمَتْ هَذِهِ فِي بَابِ الْمَهْرِ وَأَنَّ هَذَا قَوْلُ الْقُدُورِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ ، وَمُخْتَارُ غَيْرِهِمْ وُجُوبُ الْعِدَّةِ فِي كُلِّ صُوَرِ الْخَلْوَةِ ، وَعِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ كَغَيْرِهَا لِأَنَّهَا تُرَدُّ إلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا ، فَإِنْ نَسِيَتْ عَادَتَهَا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَكَذَا الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَطُّ وَحَيْثُ وَجَبَ
الِاعْتِدَادُ بِالْأَشْهُرِ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّلَاقُ أَوْ الْمَوْتُ فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ .
فَفِي الْأَوَّلِ يُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي الطَّلَاقِ أَوْ أَرْبَعَةٌ فِي الْوَفَاةِ بِالْأَهِلَّةِ ، وَفِي الثَّانِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُعْتَبَرُ الْأَيَّامُ تِسْعِينَ فِي الطَّلَاقِ وَمِائَةً وَعِشْرِينَ فِي الْوَفَاةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : تَعْتَدُّ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ ثُمَّ تَعْتَدُّ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ وَتُكْمِلُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ مِنْ الشَّهْرِ الثَّالِثِ بِالْأَيَّامِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ كَالْقَوْلَيْنِ آخِرُهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( فَصْلٌ ) قَالَ ( وَعَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ بَالِغَةً مُسْلِمَةً الْحِدَادُ ) أَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَمَذْهَبُنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا حِدَادَ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ وَجَبَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ زَوْجٍ وَفِي بُعْدِهَا إلَى مَمَاتِهِ وَقَدْ أَوْحَشَهَا بِالْإِبَانَةِ فَلَا تَأْسَفْ بِفَوْتِهِ .
وَلَنَا مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ } .
وَقَالَ { الْحِنَّاءُ طِيبٌ } وَلِأَنَّهُ يَجِبُ إظْهَارًا لِلتَّأَسُّفِ عَلَى فَوْتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةُ مُؤَنِهَا ، وَالْإِبَانَةُ أَقْطَعُ لَهَا مِنْ الْمَوْتِ حَتَّى كَانَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ مَيِّتًا قَبْلَ الْإِبَانَةِ لَا بَعْدَهَا ( وَالْحِدَادُ ) وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ وَهُمَا لُغَتَانِ ( أَنْ تَتْرُكَ الطِّيبَ وَالزِّينَةَ وَالْكُحْلَ وَالدُّهْنَ الْمُطَيَّبَ وَغَيْرَ الْمُطَيَّبِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَّا مِنْ وَجَعٍ ) وَالْمُعْتَدُّ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ دَوَاعِي الرَّغْبَةِ فِيهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ النِّكَاحِ فَتَجْتَنِبُهَا كَيْ لَا تَصِيرَ ذَرِيعَةً إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي الِاكْتِحَالِ .
وَالدُّهْنُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ وَفِيهِ زِينَةُ الشَّعْرِ ، وَلِهَذَا يُمْنَعُ الْمُحْرِمُ عَنْهُ قَالَ : إلَّا مِنْ عُذْرٍ لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً ، وَالْمُرَادُ الدَّوَاءُ .
لَا الزِّينَةُ .
وَلَوْ اعْتَادَتْ الدُّهْنَ فَخَافَتْ وَجَعًا ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا يُبَاحُ لَهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ كَالْوَاقِعِ ، وَكَذَا لَيْسَ
الْحَرِيرُ إذَا احْتَاجَتْ إلَيْهِ لِعُذْرٍ لَا بَأْسَ بِهِ .
( فَصْلٌ ) لَمَّا ذَكَرَ نَفْسَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ وَكَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا أَخَذَ يَذْكُرُ مَا يَجِبُ فِيهَا عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ أَصْلِ وُجُوبِهَا .
( قَوْلُهُ وَعَلَى الْمَبْتُوتَةِ ) يَعْنِي وَيَجِبُ بِسَبَبِ التَّزَوُّجِ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ وَأَصْلُهُ الْمَبْتُوتُ طَلَاقُهَا ، تَرَكَ ذَلِكَ لِلْعِلْمِ بِهِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهِيَ الْمُخْتَلِعَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ابْتِدَاءً ، وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي عَدَمِ وُجُوبِهِ عَلَى الزَّوْجَةِ بِسَبَبِ غَيْرِ الزَّوْجِ مِنْ الْأَقَارِبِ وَهَلْ يُبَاحُ ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ : لَا يَحِلُّ الْإِحْدَادُ لِمَنْ مَاتَ أَبُوهَا أَوْ أُمُّهَا أَوْ ابْنُهَا أَوْ أَخُوهَا وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزَّوْجِ خَاصَّةً ، قِيلَ : أَرَادَ بِذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ إبَاحَتِهِ لِلْمُسْلِمَاتِ عَلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَبْتُوتَاتِ يُفِيدُ نَفْيَ وُجُوبِهِ عَلَى الرَّجْعِيَّةِ ، وَيَنْبَغِي أَنَّهَا لَوْ أَرَادَتْ أَنْ تُحِدَّ عَلَى قَرَابَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَهَا زَوْجٌ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا ، لِأَنَّ الزِّينَةَ حَقُّهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا عَلَى تَرْكِهَا إذَا امْتَنَعَتْ وَهُوَ يُرِيدُهَا .
وَهَذَا الْإِحْدَادُ مُبَاحٌ لَهَا لَا وَاجِبٌ عَلَيْهَا وَبِهِ يَفُوتُ حَقُّهُ .
( قَوْلُهُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَخْ ) فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ : { تُوُفِّيَ حَمِيمٌ لِأُمِّ حَبِيبَةَ فَدَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَمَسَحَتْهُ بِذِرَاعَيْهَا وَقَالَتْ : إنَّمَا أَصْنَعُ هَذَا لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَالْحَمِيمُ الْقَرِيبُ .
وَقَدْ رُوِيَ بِلَفْظٍ آخَرَ وَوَقَعَ فِيهِ مُفَسَّرًا هَكَذَا : لَمَّا تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ .
وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ { فَوْقَ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إيجَابِ الْإِحْدَادِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ نَفْيِ الْحِلِّ فَيُفِيدُ ثُبُوتَ الْحِلِّ وَلَا كَلَامَ فِيهِ .
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ نَفْيُ الْإِحْدَادِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ نَفْيِهِ وَهُوَ إثْبَاتُهُ فَيَصِيرُ حَاصِلُهُ لَا إحْدَادَ إلَّا مِنْ زَوْجٍ فَإِنَّهَا تُحِدُّ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يُفِيدُهُ عَلَى مَا عُرِفَ ، وَمِنْ أَنَّ نَفْيَ حِلِّ الْإِحْدَادِ إيجَابُ الزِّينَةِ فَاسْتِثْنَاؤُهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْإِيجَابِ فَيَكُونُ إيجَابًا ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ غَيْرَ لَازِمٍ ، إذْ يَمْنَعُ كَوْنَ نَفْيِ حِلِّ الشَّيْءِ الْحِسِّيِّ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْوُجُوبِ لُغَةً أَوْ شَرْعًا لِيَتَضَمَّنَ الِاسْتِثْنَاءُ الْإِخْبَارَ بِوُجُودِهِ بَلْ نَفْيٌ لَهُ عَنْ الْحِلِّ ، وَلَوْ سَلِمَ فَوُجُودُ الشَّيْءِ فِي الشَّرْعِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوُجُوبَ لِتَحَقُّقِهِ بِالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَلَا وُجُوبَ .
وَأَيْضًا اسْتِثْنَاءُ الْإِحْدَادِ مِنْ إيجَابِ الزِّينَةِ حَاصِلُهُ نَفْيُ وُجُوبِ الزِّينَةِ وَهُوَ مَعْنَى حِلِّ الْإِحْدَادِ ، وَاتِّحَادُ الْجِنْسِ حَاصِلٌ مَعَ هَذَا ، فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْإِحْدَادُ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ اتِّحَادُ الْجِنْسِ عَلَى صِفَةِ الْوُجُودِ فِيهِمَا فَهُوَ كَالْأَوَّلِ ، فَلِذَا قَالَ ظَهِيرُ الدِّينِ : وَمَا فَاهُوا بِهِ بِمَا فِيهِ ثَلْجُ الْفُؤَادِ .
وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ وَلَكِنْ يَحِلُّ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ، وَعَلَى مَنْ سِوَاهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ } .
وَالْحَقُّ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِنَحْوِ حَدِيثِ حَفْصَةَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا عَلَى زَوْجِهَا فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَإِنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِالْإِخْبَارِ ، وَيَكُونُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لِلْمُصَنِّفِ مَحْكُومًا بِإِرَادَةِ الْإِخْبَارِ بِوُجُودِ فِعْلِهَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْحَمْلِ لِظُهُورِ إرَادَتِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ ، وَلَمْ يَخْفَ أَنَّ الْإِخْبَارَ الْمُوجِبَ لِلْوُجُوبِ الْإِخْبَارُ بِصُدُورِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُكَلَّفِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثُبُوتِهِ شَرْعًا مَثَلًا إذَا قَالَ الْحِدَادُ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ أَفَادَ الْوُجُوبَ لَا إذَا قَالَ الْحِدَادُ ثَابِتٌ شَرْعًا فَإِنَّهُ أَعَمُّ .
وَمِنْ الْأَدِلَّةِ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ عَطِيَّةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ ، وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا ظَهَرَتْ نُبْذَةٌ مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ } فَصَرَّحَ بِالنَّهْيِ فِي تَفْصِيلِ مَعْنَى تَرْكِ الْإِحْدَادِ ، وَالنُّبْذَةُ بِضَمِّ النُّونِ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ ، وَالْقُسْطُ وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ ، رَخَّصَ فِيهِ فِي الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ فِي تَطْيِيبِ الْمَحَلِّ وَإِزَالَةِ كَرَاهَتِهِ .
وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا قَالَتْ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدْ اشْتَكَتْ عَيْنَهَا أَفَنَكْحُلُهَا - بِضَمِّ الْحَاءِ - ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ : لَا ، ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُرْمَى بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ } قَالَتْ زَيْنَبُ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا دَخَلَتْ حِفْشًا وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا وَلَمْ تَمَسَّ طِيبًا وَلَا شَيْئًا
حَتَّى تَمُرَّ بِهَا سَنَةٌ ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّةٍ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَائِرٍ فَتَفْتَضُّ بِهِ فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بِشَيْءٍ إلَّا مَاتَ ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً فَتَرْمِي بِهَا ، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْدَ مَا شَاءَتْ مِنْ طِيبٍ أَوْ غَيْرِهِ .
الْحِفْشُ بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ فَاءٍ ثُمَّ شِينٍ مُعْجَمَةٍ : الْبَيْتُ الصَّغِيرُ قَرِيبُ السَّقْفِ حَقِيرٌ وَتَفْتَضُّ بِفَاءٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مِنْ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ قِيلَ : أَيْ تَكْسِرُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْعِدَّةِ بِطَائِرٍ أَوْ نَحْوِهِ تَمْسَحُ بِهِ قُبُلَهَا وَتَنْبِذُهُ ، فَلَا يَكَادُ يَعِيشُ مَا تَفْتَضُّ بِهِ ، فَهُوَ مِنْ فَضَّ اللَّهُ فَاهُ وَلَا فَضَّ اللَّهُ فَاك .
وَقِيلَ : الِافْتِضَاضُ الْإِنْقَاءُ بِالْغُسْلِ لِيَصِيرَ كَالْفِضَّةِ فَهُوَ مِنْهُ ، وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا إحْدَادَ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى الْمَبْتُوتَةِ لِأَنَّهُ لِإِظْهَارِ التَّأَسُّفِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ لِصَبْرِهِ عَلَى صُحْبَتِهَا إلَى الْمَوْتِ ، بِخِلَافِ ابْتِدَائِهِ لِطَلَاقِهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ مُوحِشُهَا وَخُلْعِهِ لِأَنَّهَا رَاغِبَةٌ فِيهِ لِمَكَانِ سُؤَالِهَا .
قُلْنَا : فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ نَصٌّ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ : الْحِنَّاءُ طِيبٌ } ذَكَرَهُ السُّرُوجِيُّ حَدِيثًا وَاحِدًا وَعَزَاهُ لِلنَّسَائِيِّ هَكَذَا ، وَلَفْظُهُ : { نَهَى الْمُعْتَدَّةَ عَنْ الْكُحْلِ وَالدُّهْنِ وَالْخِضَابِ بِالْحِنَّاءِ وَقَالَ الْحِنَّاءُ طِيبٌ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .
وَيَجُوزُ كَوْنُهُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ .
وَأَمَّا جَعْلُهُ حَدِيثَيْنِ حَدِيثَ { الْحِنَّاءُ طِيبٌ } الْمُتَقَدِّمَ ، وَحَدِيثَ أَبِي دَاوُد عَنْ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أُسَيْدٍ عَنْ أُمِّهَا عَنْ مَوْلَاةٍ لَهَا { عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي عِدَّتِي مِنْ وَفَاةِ أَبِي سَلَمَةَ : لَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ ، قُلْتُ : فَبِأَيِّ شَيْءٍ أَمْتَشِطُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ : بِالسِّدْرِ تُغَلِّفِينَ بِهِ رَأْسَكِ } فَمَعَ الطَّعْنِ فِي إسْنَادِهِ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَإِنَّهُ فِي مُعْتَدَّةٍ عَنْ وَفَاةٍ .
وَلَوْ سَلِمَ ثَبَتَ الْمَطْلُوبُ بِالْقِيَاسِ عَلَى عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِجَامِعِ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ ، وَبِتَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَنَّ مَا عَيَّنَّهُ الشَّافِعِيُّ مُنَاسِبٌ مُعْتَبَرٌ فِي مَحَلِّ النَّصِّ وَهُوَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَكِنَّهُ لَيْسَ هُوَ الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ عَلَى الْحَصْرِ بَلْ فِي الْمَحَلِّ أَيْضًا إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ فِي الْمَعَادِ وَالدُّنْيَا فَإِنَّهُ ضَابِطٌ لِلْحِكْمَةِ الْمَقْصُودَةِ لِفَوَاتِ الزَّوْجِ ، وَكَوْنُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ مِنْ مُهَيِّجَاتِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ النِّكَاحِ شَرْعًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَتَمْتَنِعُ دَوَاعِيهِ دَفْعًا لِمَا يُدَافِعُ عَنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ إلَى آخِرِهِ ، لَكِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ ذَكَرَ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ أُخْرَى ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِكْمَةٌ لِأَنَّ الْمُنْضَبِطَ فَوَاتُ مَا قُلْنَاهُ ، بِخِلَافِ مَا هُوَ دَوَاعِيهِ ، وَكُلٌّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ يَسْتَقِلُّ بِالْحُكْمِ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي مَحَلٍّ ثَبَتَ مَعَهُ ذَلِكَ الْحُكْمُ ، فَفِي الْمَبْتُوتَةِ إنْ فُقِدَ التَّأَسُّفُ عَلَى الزَّوْجِ فَالْآخَرُ وَهُوَ إظْهَارُ التَّأَسُّفِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ مَوْجُودٌ ، وَلَوْ تَمَّ مَا ذُكِرَ مِنْ إظْهَارِ التَّأَسُّفِ مُطْلَقًا لَيْسَ عِلَّةً ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ } فَلَا يَكُونُ الْإِحْدَادُ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مَنُوطٌ بِهِ لَزِمَ كَوْنُ وُجُوبِهِ تَبَعًا لِلْعِدَّةِ بِالنَّصِّ أَوْ مَعْلُولًا بِالْآخَرِ فَقَطْ ، لَكِنْ مُنِعَ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِكَيْلَا تَأْسَوْا } الْآيَةَ ، الْأَسَى مَعَ الصِّيَاحِ وَالْفَرَحُ مَعَ الصِّيَاحِ ، نُقِلَ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا ( قَوْلُهُ وَالْحِدَادُ وَيُقَالُ الْإِحْدَادُ ) فَمِنْ الْأَوَّلِ يُقَالُ حَدَّتْ الْمَرْأَةُ تَحُدُّ مِنْ بَابِ نَصَرَ وَمِنْ بَابِ ضَرَبَ أَيْضًا حِدَادٌ فَهِيَ حَادٌّ ، وَمِنْ الثَّانِي يُقَالُ : أَحَدَّتْ تُحِدُّ إحْدَادًا فَهِيَ مُحِدٌّ .
( قَوْلُهُ أَنْ تَتْرُكَ الطِّيبَ ) وَلَا تَحْضُرَ عَمَلَهُ وَلَا تَتَّجِرَ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا كَسْبٌ إلَّا فِيهِ ( قَوْلُهُ وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) تَقَدَّمَ ( قَوْلُهُ وَالدُّهْنُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ ) إمَّا فِي ذَاتِهِ أَوْ فِي الْمُدْهَنِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ طِيبِ نَفْسِهِ بِهِ وَزِينَتِهِ ، وَقَدْ وَقَعَ لِلزَّيْلَعِيِّ مُخْرِجُ الْأَحَادِيثِ هُنَا وَهْمٌ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ جَعَلَ لَفْظَةَ الدُّهْنِ عَطْفًا عَلَى الِاكْتِحَالِ فَقَالَ عَنْ الْمُصَنِّفِ : إنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْذَنْ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي الِاكْتِحَالِ وَالدُّهْنِ ، فَخَرَّجَ حَدِيثَ مَنْعِهِ الِاكْتِحَالَ ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا الدُّهْنُ فَقَرِيبٌ وَهُوَ سَهْوٌ ، فَإِنَّ الدُّهْنَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ لَا يَعْرَى عَنْ نَوْعِ طِيبٍ فَأَلْحَقَهُ إلْحَاقًا .
( قَوْلُهُ قَالَ : إلَّا مِنْ عُذْرٍ ) لِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً هَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ ، وَذَهَبَتْ الظَّاهِرِيَّةُ إلَى أَنَّهَا لَا تَكْتَحِلُ وَلَوْ مِنْ وَجَعٍ وَعُذْرٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حَيْثُ نَهَى نَهْيًا مُؤَكَّدًا عَنْ الْكُحْلِ الَّتِي اشْتَكَتْ عَيْنَهَا ، وَالْجُمْهُورُ حَمَلُوهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْخَوْفُ عَلَى عَيْنِهَا ، وَكَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا يُبَاحُ لَهَا ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُمُومَاتِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ أُمِّ حَكِيمٍ بِنْتِ أُسَيْدٍ عَنْ أُمِّهَا أَنَّ زَوْجَهَا تُوُفِّيَ وَكَانَتْ تَشْتَكِي عَيْنَهَا فَتَكْتَحِلُ بِكُحْلِ الْجَلَاءِ فَأَرْسَلَتْ مَوْلَاةً لَهَا إلَى أُمِّ سَلَمَةَ فَسَأَلَتْهَا عَنْ كُحْلِ الْجَلَاءِ فَقَالَتْ : لَا تَكْتَحِلْ مِنْهُ إلَّا مِنْ أَمْرٍ لَا بُدَّ مِنْهُ يَشْتَدُّ
عَلَيْك فَتَكْتَحِلِي بِاللَّيْلِ وَتَمْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ ثُمَّ قَالَتْ : عِنْدَ ذَلِكَ { دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَيَّ صَبْرًا ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ ؟ فَقُلْتُ : إنَّمَا هِيَ صَبْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : إنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إلَّا بِاللَّيْلِ وَانْزِعِيهِ بِالنَّهَارِ ، وَلَا تَمْتَشِطِي بِالطِّيبِ وَلَا بِالْحِنَّاءِ فَإِنَّهُ خِضَابٌ } الْحَدِيثُ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ ، لَكِنَّ أُمَّهَا مَجْهُولَةٌ ، وَتَمْتَشِطُ بِأَسْنَانِ الْمِشْطِ الْوَاسِعَةِ لَا الضَّيِّقَةِ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَأَطْلَقَهُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مُطْلَقًا ، وَكَوْنُهُ بِالضَّيِّقَةِ يَحْصُلُ مَعْنَى الزِّينَةِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْهَا ، وَبِالْوَاسِعَةِ يَحْصُلُ دَفْعُ الضَّرَرِ مَمْنُوعٌ بَلْ قَدْ تَحْتَاجُ لِإِخْرَاجِ الْهَوَامِّ إلَى الضَّيِّقَةِ .
نَعَمْ كُلُّ مَا أَرَادَتْ بِهِ مَعْنَى الزِّينَةِ لَمْ يَحِلَّ .
وَأَجْمَعُوا عَلَى مَنْعِ الْأَدْهَانِ الْمُطَيِّبَةِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمُطَيِّبَةِ كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ الْبَحْتَيْنِ وَالسَّمْنِ فَمَنَعْنَاهُ نَحْنُ وَالشَّافِعِيُّ إلَّا لِضَرُورَةٍ لِحُصُولِ الزِّينَةِ بِهِ ، وَأَجَازَهُ الْإِمَامَانِ وَالظَّاهِرِيَّةُ .
( قَوْلُهُ لِعُذْرٍ ) كَالْحَكَّةِ وَالْقَمْلِ وَالْمَرَضِ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُبَاحُ لَهَا الْحَرِيرُ الْأَسْوَدُ وَالْحُلِيُّ ، وَالْمَعْنَى الْمَعْقُولُ مِنْ النَّصِّ فِي مَنْعِ الْمَصْبُوغِ يَنْفِيهِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمَنْعِ الْحُلِيِّ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ الْمَصْبُوغِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ إلَّا الْعَصْبَ فَشَمَلَ مَنْعَ الْأَسْوَدِ .
( وَلَا تَخْتَضِبْ بِالْحِنَّاءِ ) لَمَا رَوَيْنَا ( وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِعُصْفُرٍ وَلَا بَزَعْفَرَانٍ ) لِأَنَّهُ يَفُوحُ مِنْهُ رَائِحَةُ الطِّيبِ .
قَالَ ( وَلَا حِدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ ) لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ ( وَلَا عَلَى صَغِيرَةٍ ) لِأَنَّ الْخِطَابَ مَوْضُوعٌ عَنْهَا ( وَعَلَى الْأَمَةِ الْإِحْدَادُ ) لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ لِحَاجَتِهِ .
( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ يَفُوحُ إلَخْ ) يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ خَلِقًا لَا رَائِحَةَ لَهُ يَجُوزُ .
وَفِي الْكَافِي قَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ثَوْبٌ إلَّا الْمَصْبُوغَ فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ لِضَرُورَةِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ لَكِنْ لَا تَقْصِدُ الزِّينَةَ ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِقَدْرِ مَا تَسْتَحْدِثُ ثَوْبًا غَيْرَهُ إمَّا بِبَيْعِهِ وَالِاسْتِخْلَافِ بِثَمَنِهِ أَوْ مِنْ مَالِهَا إنْ كَانَ لَهَا .
وَرَوَى مَالِكٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ : { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْبَسُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الْمُعَصْفَرَ مِنْ الثِّيَابِ وَلَا الْمُمَشَّقَةَ وَلَا الْحُلِيَّ ، وَلَا تَخْتَضِبُ وَلَا تَكْتَحِلُ } هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُد .
وَالْمَشْقُ الْمَغْرَةُ ، وَلَا تَلْبَسُ الْعَصْبَ عِنْدَنَا .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيُّ رَقِيقَهُ وَغَلِيظَهُ ، وَمَنَعَ مَالِكٌ رَقِيقَهُ دُونَ غَلِيظِهِ .
وَاخْتَلَفَ الْحَنَابِلَةُ فِيهِ وَفِي تَفْسِيرِهِ ، فِي الصِّحَاحِ : الْعَصْبُ ضَرْبٌ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ يُنْسَجُ أَبْيَضَ ثُمَّ يُصْبَغُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَفِي الْمُغْنِي : الصَّحِيحُ أَنَّهُ نَبْتٌ يُصْبَغُ بِهِ الثِّيَابُ ، وَفُسِّرَتْ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهَا ثِيَابٌ مِنْ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ ، وَيُبَاحُ لَهَا لُبْسُ الْأَسْوَدِ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَجَعَلَهُ الظَّاهِرِيَّةُ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَخْضَرِ .
( قَوْلُهُ وَلَا حِدَادَ عَلَى كَافِرَةٍ ) لَا حِدَادَ عِنْدَنَا عَلَى كَافِرَةٍ وَلَا صَغِيرَةٍ وَلَا مَجْنُونَةٍ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ لِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَوْتِ الزَّوْجِ فَيَعُمُّ النِّسَاءَ كَالْعِدَّةِ .
قُلْنَا : يَجِبُ الْحِدَادُ عِنْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَمَرَهَا الزَّوْجُ بِتَرْكِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا تَرْكُهُ فَلَا يُخَاطَبُ هَؤُلَاءِ بِهِ ، وَلِذَا شَرَطَ الْإِيمَانَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْحَدِيثَ .
قَوْلُهُمْ كَمَا تَعُمُّ الْعِدَّةُ عَلَيْهِنَّ .
قُلْنَا : الْعِدَّةُ قَدْ تُقَالُ عَلَى كَفِّ
النَّفْسِ عَنْ الْحُرُمَاتِ الْخَاصَّةِ وَعَلَى نَفْسِ الْحُرُمَاتِ وَعَلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ بِتَحْقِيقِهِ ، وَالْعِدَّةُ اللَّازِمَةُ لَهُنَّ بِكُلٍّ مِنْ الْمَفْهُومَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالْمَوْتِ وَالطَّلَاقِ يَثْبُتُ شَرْعًا عَدَمُ صِحَّةِ نِكَاحِهِنَّ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ، فَإِذَا بَاشَرَهُ وَلِيُّ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَبْلَهَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا ، وَلَا خِطَابَ لِلْعِبَادِ فِيهِ تَكْلِيفِيٌّ بَلْ هُوَ مِنْ رَبْطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ ، بِخِلَافِ مَنْعِهَا عَنْ اللُّبْسِ وَالطِّيبِ فَإِنَّهُ فِعْلُهَا الْحِسِّيِّ مَحْكُومٌ بِحُرْمَتِهِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى خِطَابِ التَّكْلِيفِ ، فَلَوْ اكْتَحَلْنَ أَوْ لَبِسْنَ الْمُزَعْفَرَ أَوْ اخْتَضَبْنَ لَا يَأْثَمْنَ لِعَدَمِ التَّكْلِيفِ بِهِ .
نَعَمْ قَدْ ثَبَتَ عَلَى الْكَافِرَةِ فِي الْعِدَّةِ خِطَابُ عَدَمِ التَّزَوُّجِ لِحَقِّ الزَّوْجِ ، فَإِنَّ فِي الْعِدَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى جِهَتَيْنِ .
( قَوْلُهُ وَعَلَى الْأَمَةِ الْحِدَادُ ) يَعْنِي إذَا كَانَتْ مَنْكُوحَةً فِي الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ الْبَائِنِ ، وَكَذَا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُسْتَسْعَاةُ لِثُبُوتِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ بِحُقُوقِهِ تَعَالَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى ، وَلَيْسَ فِي الْإِحْدَادِ فَوَاتُ حَقِّهِ فِي الِاسْتِخْدَامِ ، بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ لَوْ لَزِمَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ ، فَقُلْنَا : لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي عِدَّتِهَا كَيْ لَا يَفُوتَ حَقُّهُ فِي اسْتِخْدَامِهَا ، وَحَقُّ الْعَبْدِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الشَّرْعِ بِإِذْنِهِ لِفِنَاهُ ، قَالَ تَعَالَى { إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } فَإِنْ قِيلَ : لَوْ وَجَبَ الْحِدَادُ لِعِلَّةِ فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ لَوَجَبَ بَعْدَ شِرَاءِ الْمَنْكُوحَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهَا لَمْ تَفُتْ لِقِيَامِ الْحِلِّ وَالْكِفَايَةِ ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى
وَجْهٍ أَحَطَّ مِنْ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِالْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ بِلَا دَعْوَةٍ فِي الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ ، وَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْأَحَطِّيَّةِ فَإِنَّ نِعْمَةَ النِّكَاحِ لَيْسَ فَوَاتُهَا مُؤَثِّرًا بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْخُصُوصِيَّةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ مَا فِيهَا مِنْ أَنَّهَا سَبَبٌ لِصَوْنِهَا وَكِفَايَةِ مَئُونَتِهَا ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَمْ يَفُتْ فَلَا مُوجِبَ لِلْحِدَادِ ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَنْدَفِعُ إشْكَالُ أَنَّهُ لَا يَنُوبُ الْأَدْنَى وَهُوَ هَذَا الْحِلُّ عَنْ الْأَعْلَى وَالتَّقَصِّي عَنْهُ بِالْتِزَامِ وُجُوبِ الْحِدَادِ عَلَى الزَّوْجَةِ الْمُشْتَرَاةِ ، إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِكَوْنِهَا حَلَالًا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا ظَهَرَ فَإِنَّهُ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ عَلَيْهَا بَلْ دَلِيلُ نَفْيِهَا أَنَّهُ وُجُوبٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّ لَهَا الزِّينَةَ وَالتَّطَيُّبَ بَعْدَ شِرَائِهَا وَالْوُجُوبُ يَسْتَتْبِعُ الْفَائِدَةَ .
قَالَ ( وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ وَلَا فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إحْدَادٌ ) لِأَنَّهَا مَا فَاتَهَا نِعْمَةُ النِّكَاحِ لِتُظْهِرَ التَّأَسُّفَ ، وَالْإِبَاحَةُ أَصْلٌ .
( قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا أَوْ إعْتَاقِهَا حِدَادٌ ) وَكَذَا الْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ وَالْمَنْكُوحَةُ فَاسِدًا لِأَنَّهُنَّ مَا فَاتَهُنَّ نِعْمَةُ النِّكَاحِ ( وَالْأَصْلُ الْإِبَاحَةُ ) أَيْ إبَاحَةُ الزِّينَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزُولُ الرِّقُّ الَّذِي هُوَ أَثَرُ الْكُفْرِ فَهُوَ مَوْضِعُ السُّرُورِ لَا الْأَسَفِ ، وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ وَالْمَوْطُوءَةُ بِشُبْهَةٍ ظَاهِرٌ .
وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَوَاتُ عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ ، وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ لِلْإِحْدَادِ عِلَّةً أُخْرَى وَهُوَ كَوْنُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ دَوَاعِيَ الرَّغْبَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَقِلُّ وَهَذِهِ مَوْجُودَةٌ هُنَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْحِدَادُ .
وَأُجِيبُ بِأَنَّ كَوْنَهُمَا مَمْنُوعَتَيْنِ عَنْ النِّكَاحِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحِدَادِ لَا عِلَّتُهُ .
بَلْ عِلَّتُهُ فَوَاتُ نِعْمَةِ النِّكَاحِ وَهُوَ يَدُورُ مَعَهَا وُجُودًا وَعَدَمًا ، كَذَا قِيلَ وَهُوَ بِالضَّعِيفِ جَدِيرٌ .
وَفِي النِّهَايَةِ : تِلْكَ حِكْمَةٌ لَا عِلَّةٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَوَرَانِ وُجُوبِ الْإِحْدَادِ بِفَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ ، وَالْحُكْمُ يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ لَا الْحِكْمَةِ لِمَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِبْرَاءِ .
( وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُخْطَبَ الْمُعْتَدَّةُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْخِطْبَةِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } إلَى أَنْ قَالَ { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { السِّرُّ النِّكَاحُ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : التَّعْرِيضُ أَنْ يَقُولَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ : إنِّي فِيكِ لَرَاغِبٌ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ نَجْتَمِعَ .
( قَوْلُهُ وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ فِي الْخِطْبَةِ ) أَرَادَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، إذْ التَّعْرِيضُ لَا يَجُوزُ فِي الْمُطَلَّقَةِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ مِنْ مَنْزِلِهَا أَصْلًا فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّعْرِيضِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ ، وَلِإِفْضَائِهِ إلَى عَدَاوَةِ الْمُطَلِّقِ وَالتَّعْرِيضُ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئًا يَدُلُّ بِهِ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَذْكُرْهُ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ قَالَ : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ } يَقُولُ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ أَوْ وَدِدْت أَنْ يَتَيَسَّرَ لِي امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ ، وَقَالَ الْقَاسِمُ يَقُولُ : إنَّك عَلَيَّ كَرِيمَةٌ وَإِنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَائِقٌ إلَيْكِ خَيْرًا أَوْ نَحْوَ هَذَا .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } قَالَ يَقُولُ إنِّي فِيك لَرَاغِبٌ وَإِنَى لَأَرْجُو أَنْ نَجْتَمِعَ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِالتَّزَوُّجِ وَالنِّكَاحِ ، وَنَحْوَهُ إنَّك لَجَمِيلَةٌ أَوْ صَالِحَةٌ ، وَلَا يُصَرِّحُ بِنِكَاحِهَا فَلَا يَقُولُ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَنْكِحَك أَوْ أَتَزَوَّجَك .
وَسَبْكُ الْآيَةِ { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ } أَيْ فِيمَا ذَكَرْتُمْ لَهُنَّ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِإِرَادَةِ نِكَاحِهِنَّ { أَوْ أَكْنَنْتُمْ } أَيْ أَضْمَرْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فَلَمْ تَنْطِقُوا بِهِ تَعْرِيضًا وَلَا تَصْرِيحًا { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } فَاذْكُرُونَهُنَّ { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } أَيْ نِكَاحًا فَلَا تَقُولُوا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَك وَسُمِّيَ النِّكَاحُ سِرًّا لِأَنَّهُ سَبَبُ السِّرِّ الَّذِي هُوَ الْوَطْءُ فَإِنَّهُ مِمَّا يُسَرُّ ، وَحَدِيثُ { السِّرُّ النِّكَاحُ } الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ غَرِيبٌ { إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } وَالِاسْتِثْنَاءُ يَتَعَلَّقُ بِلَا تُوَاعِدُوهُنَّ ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَعْرُوفَ لَيْسَ دَاخِلًا فِي السِّرِّ وَالِاسْتِدْرَاكُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْذُوفِ الَّذِي أَبْرَزْنَا
صُورَتَهُ وَهُوَ فَاذْكُرُوهُنَّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( وَلَا يَجُوزُ لِلْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْمَبْتُوتَةِ الْخُرُوجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَخْرُجُ نَهَارًا وَبَعْضَ اللَّيْلِ وَلَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا ) أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قِيلَ الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ ، وَقِيلَ الزِّنَا ، وَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ ، وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ نَهَارًا لِطَلَبِ الْمَعَاشِ ، وَقَدْ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَهْجُمَ اللَّيْلُ ، وَلَا كَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ دَارَةٌ عَلَيْهَا مِنْ مَالِ زَوْجِهَا ، حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا قِيلَ : إنَّهَا تَخْرُجُ نَهَارًا ، وَقِيلَ لَا تَخْرُجُ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حَقٌّ عَلَيْهَا .
.
( قَوْلُهُ وَبَعْضَ اللَّيْلِ ) يَخُصُّهُ مِنْ التَّعْلِيلِ قَوْلُهُ وَقَدْ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ يَهْجُمَ اللَّيْلُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا لَا بَأْسَ أَنْ تَغِيبَ عَنْ بَيْتِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ .
قَالَ الْحَلْوَانِيُّ : هَذِهِ الرِّوَايَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهَا الْبَيْتُوتَةُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا ، وَالْبَيْتُوتَةُ هِيَ الْكَيْنُونَةُ فِي جَمِيعِ اللَّيْلِ نَقَلَهُ فِي الْكَافِي ، وَقَدْ مَرَّ قَبْلَهُ مَا يَنْفِي اخْتِيَارَ صِحَّتِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهَا وَعَسَى لَا تَجِدُ مَنْ يَكْفِيهَا مَئُونَتَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِنَفَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّ أَمْرَ الْمَعَاشِ يَكُونُ بِالنَّهَارِ عَادَةً دُونَ اللَّيَالِي فَأُبِيحَ الْخُرُوجُ لَهَا بِالنَّهَارِ دُونَ اللَّيَالِي انْتَهَى .
وَيُعْرَفُ مِنْ التَّعْلِيلِ أَيْضًا أَنَّهَا إذَا كَانَ لَهَا قَدْرُ كِفَايَتِهَا صَارَتْ كَالْمُطَلَّقَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِزِيَارَةٍ وَنَحْوِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَدَارَ الْحَلِّ كَوْنُ غَيْبَتِهَا بِسَبَبِ قِيَامِ شُغْلِ الْمَعِيشَةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، فَمَتَى انْقَضَتْ حَاجَتُهَا لَا يَحِلُّ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ صَرْفُ الزَّمَانِ خَارِجَ بَيْتِهَا .
( قَوْلُهُ أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } الْآيَةَ ) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَهْيِ الْأَزْوَاجِ عَنْ إخْرَاجِهِنَّ غَضَبًا عَلَيْهِنَّ وَكَرَاهَةً لِمُسَاكَنَتِهِنَّ أَوْ لِحَاجَتِهِمْ إلَى الْمَسَاكِنِ ، وَعَلَى نَهْيِ الْمُطَلَّقَاتِ عَنْ الْخُرُوجِ وَنَهْيُهُنَّ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ أُوْقِعَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ { إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قِيلَ : الْفَاحِشَةُ نَفْسُ الْخُرُوجِ ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ الزِّنَا ، فَيَخْرُجْنَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِنَّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْفَاحِشَةُ نُشُوزُهَا وَأَنْ تَكُونَ بَذِيَّةَ اللِّسَانِ عَلَى أَحْمَائِهَا .
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ
وَضْعِ اللَّفْظِ لِأَنَّ إلَّا أَنَّ غَايَةٌ ، وَالشَّيْءُ لَا يَكُونُ غَايَةً لِنَفْسِهِ وَمَا قَالَهُ النَّخَعِيُّ أَبْدَعُ وَأَعْذَبُ فِي الْكَلَامِ ، كَمَا يُقَالُ فِي الْخَطَّابِيَّاتِ لَا تَزْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ فَاسِقًا ، وَلَا تَشْتُمْ أُمَّك إلَّا أَنْ تَكُونَ قَاطِعَ رَحِمٍ وَنَحْوَهُ ، وَهُوَ بَدِيعٌ بَلِيغٌ جِدًّا يَخْرُجُ إظْهَارُ عُذُوبَتِهِ عَنْ غَرَضِنَا .
( قَوْلُهُ حَتَّى لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى نَفَقَةِ عِدَّتِهَا قِيلَ : تَخْرُجُ نَهَارًا ) لِأَنَّهَا قَدْ تَحْتَاجُ كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا .
وَقِيلَ : لَا يُبَاحُ لَهَا الْخُرُوجُ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَبْطَلَتْ النَّفَقَةَ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الِاخْتِيَارُ فِي إبْطَالِ حَقٍّ عَلَيْهَا ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي الصَّدْرُ الشَّهِيدُ ، وَصَحَّحَهُ فِي جَامِعِ قَاضِي خَانْ ، وَهَذَا كَمَا لَوْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ لَا سُكْنَى لَهَا فَإِنَّ مَئُونَةَ السُّكْنَى تَبْطُلُ عَنْ الزَّوْجِ وَيَلْزَمُهَا أَنْ تَكْتَرِيَ بَيْتَ الزَّوْجِ ، وَأَمَّا أَنْ يَحِلَّ لَهَا الْخُرُوجُ فَلَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَنْظُرَ فِي خُصُوصِ الْوَقَائِعِ ، فَإِنْ عَلِمَ فِي وَاقِعَةٍ عَجْزَ هَذِهِ الْمُخْتَلِعَةِ عَنْ الْمَعِيشَةِ إنْ لَمْ تَخْرُجْ أَفْتَاهَا بِالْحِلِّ وَإِنْ عَلِمَ قُدْرَتَهَا أَفْتَاهَا بِالْحُرْمَةِ .
( وَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يُضَافُ إلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَالَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَالْمَوْتِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إلَيْهَا هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ ، وَلِهَذَا لَوْ زَارَتْ أَهْلَهَا وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا فَتَعْتَدَّ فِيهِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّتِي قُتِلَ زَوْجُهَا { اُسْكُنِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } ( وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ دَارِ الْمَيِّتِ لَا يَكْفِيهَا فَأَخْرَجَهَا الْوَرَثَةُ مِنْ نَصِيبِهِمْ ) انْتَقَلَتْ ، لِأَنَّ هَذَا انْتِقَالٌ بِعُذْرٍ ، وَالْعِبَادَاتُ تُؤَثِّرُ فِيهَا الْأَعْذَارُ فَصَارَ كَمَا إذَا خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا أَوْ خَافَتْ سُقُوطَ الْمَنْزِلِ أَوْ كَانَتْ فِيمَا بِأَجْرٍ وَلَا تَجِدُ مَا تُؤَدِّيهِ .
( قَوْلُهُ وَلِهَذَا ) أَيْ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُضَافَ إلَيْهَا هُوَ الَّذِي تَسْكُنُهُ لَوْ زَارَتْ أَهْلَهَا وَالزَّوْجُ مَعَهَا أَوْ لَا فَطَلَّقَهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهَا ذَلِكَ فَتَعْتَدَّ .
( قَوْلُهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) تَأْيِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ بِالْكِتَابِ بِأَنَّ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ثَبَتَ عَلَى وَفْقِ مَا قُلْنَا : إنَّهُ مَدْلُولُ الْكِتَابِ ، وَهُوَ مَا أَخْرَجَ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ { عَنْ ذَرِيعَةَ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهَا جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ وَأَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لَحِقَهُمْ فَقَتَلُوهُ ، قَالَتْ : فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْ لِي مَسْكَنًا يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةً ، فَقَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ قَالَتْ : فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ نَادَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ أَمَرَ بِي فَنُودِيتُ لَهُ فَقَالَ : كَيْفَ قُلْتِ ؟ قَالَتْ : فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ لَهُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي ، قَالَ : اُمْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ، قَالَتْ فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، قَالَتْ : فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ } انْتَهَى .
وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِهِ .
قَالَ الْحَاكِمُ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ الْإِسْنَادِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ .
قَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَحْفُوظٌ .
وَهُمَا اثْنَانِ : سَعِيدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَهُوَ أَشْهُرُهُمَا وَإِسْحَاقُ بْنُ سَعْدِ بْنِ كَعْبٍ ، وَقَدْ رَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ ، وَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُمَا الْجَهَالَةُ انْتَهَى .
وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبٍ مَجْهُولَةٌ لَمْ يَرْوِ حَدِيثَهَا غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ دَفَعَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ إِسْحَاقَ ثِقَةٌ وَمِمَّنْ وَثَّقَهُ النَّسَائِيّ وَزَيْنَبُ كَذَلِكَ ثِقَةٌ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي تَصْحِيحِهِ تَوْثِيقُهُمَا ، وَلَا يَضُرُّ الثِّقَةُ أَنْ لَا يَرْوِيَ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إنَّهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَأَمَّا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَعْتَدَّ حَيْثُ شَاءَتْ } فَقَالَ فِيهِ : لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ أَبِي مَالِكٍ النَّخَعِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَمَحْبُوبُ بْنُ مُحْرِزٍ أَيْضًا ضَعِيفٌ وَعَطَاءُ بْنُ الْمُسَيِّبِ مُخْتَلِطٌ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ أَضْعَفُهُمْ ، فَلِذَلِكَ أَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِهِ .
وَذِكْرُ الْجَمْعِ أَصْوَبُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ مِنْ غَيْرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
( قَوْلُهُ وَصَارَ كَمَا إذَا خَافَتْ عَلَى مَتَاعِهَا اللُّصُوصَ إلَخْ ) أَيْ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ .
وَإِذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلٍ لِلْعُذْرِ صَارَ الثَّانِي كَالْأَوَّلِ فَلَا تَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا لِعُذْرٍ وَتَعْيِينُ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إلَيْهِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ إلَى الزَّوْجِ وَفِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مُسْتَبِدَّةٌ فِي أَمْرِ السُّكْنَى حَتَّى أَنَّ أُجْرَةَ الْمَنْزِلِ إنْ كَانَ بِأَجْرٍ عَلَيْهَا وَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ فِيهِ إلَّا أَنْ لَا تَجِدَ الْكِرَاءَ وَتَجِدَ مَا هُوَ بِلَا كِرَاءٍ فَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ إلَيْهِ ، وَكَذَا فِي الزَّوْجِ
الْغَائِبِ ، وَلَا تَخْرُجُ الْمُعْتَدَّةُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا مَنَازِلُ الْأَجَانِبِ لِأَنَّهُ كَالْخُرُوجِ إلَى السِّكَّةِ ، وَلِهَذَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِإِخْرَاجِ الْمَتَاعِ إلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدَّارِ مَنَازِلُ بَلْ بُيُوتٌ جَازَ لَهَا الْخُرُوجُ إلَى صَحْنِهَا وَلَا تَصِيرُ بِهِ خَارِجَةً عَنْ الدَّارِ وَتَبِيتُ فِي أَيِّ بَيْتٍ شَاءَتْ مِنْهَا .
( ثُمَّ إنْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا بَأْسَ بِهِ ) لِأَنَّهُ مُعْتَرَفٌ بِالْحُرْمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ، وَلَا تَخْرُجُ عَمَّا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَيَتْرُكَهَا ( وَإِنْ جَعَلَا بَيْنَهُمَا امْرَأَةً ثِقَةً تَقْدِرُ عَلَى الْحَيْلُولَةِ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ ضَاقَ عَلَيْهِمَا الْمَنْزِلُ فَلْتَخْرُجْ ، وَالْأَوْلَى خُرُوجُهُ ) .
( قَوْلُهُ ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ سُتْرَةٍ بَيْنَهُمَا ) يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ كَيْ لَا تَقَعَ الْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ ، وَكَذَا هَذَا فِي الْوَفَاةِ إذَا كَانَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا .
ثُمَّ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاكَنَةِ بَعْدَ اتِّخَاذِ الْحِجَابِ اكْتِفَاءً بِالْحَائِلِ ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِهِ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فَلَا يَقْدَمُ عَلَى الْمُحَرَّمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فَحِينَئِذٍ تَخْرُجُ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ ، وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَحَقَّقُ عُذْرٌ يُبِيحُ الْخُرُوجَ ، الْأَوْلَى أَنْ يَخْرُجَ هُوَ ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَرْجَحُ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِهِ ، كَمَا يُقَالُ إذَا تَعَارَضَ مُحَرِّمٌ وَمُبِيحٌ تَرَجَّحَ الْمُحَرِّمُ أَوْ فَالْمُحَرِّمُ أَوْلَى ، وَيُرَادُ مَا قُلْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ عَلَّلُوا أَوْلَوِيَّةَ خُرُوجِهِ بِأَنَّ مُكْثَهَا وَاجِبٌ لَا مُكْثَهُ ، وَمَتَى انْتَقَلَتْ فَتَعْيِينُ الْمَكَانِ إلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
( وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا إلَى مَكَّةَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِي غَيْرِ مِصْرٍ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ رَجَعَتْ إلَى مِصْرِهَا ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِابْتِدَاءِ الْخُرُوجِ مَعْنًى بَلْ هُوَ بِنَاءٌ ( وَإِنْ كَانَتْ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا وَلِيٌّ أَوْ لَمْ يَكُنْ ) مَعْنَاهُ إذَا كَانَ إلَى الْمَقْصِدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُكْثَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَخْوَفُ عَلَيْهَا مِنْ الْخُرُوجِ ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ .
قَالَ ( إلَّا أَنْ يَكُونَ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا زَوْجُهَا فِي مِصْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَخْرُجُ حَتَّى تَعْتَدَّ ثُمَّ تَخْرُجَ إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ تَعْتَدَّ ) لَهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْخُرُوجِ مُبَاحٌ دَفْعًا لِأَذَى الْغُرْبَةِ وَوَحْشَةِ الْوَحْدَةِ فَهَذَا عُذْرٌ ، وَإِنَّمَا الْحُرْمَةُ لِلسَّفَرِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ بِالْمُحْرِمِ .
وَلَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ أَمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ عَدَمِ الْمُحْرِمِ ، فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِغَيْرِ مُحْرِمٍ وَلَيْسَ لِلْمُعْتَدَّةِ ذَلِكَ ، فَلَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ إلَى السَّفَرِ بِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فَفِي الْعِدَّةِ أَوْلَى .
قَوْلُهُ وَإِذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا إلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا ) الْمَقْصُودُ إذَا سَافَرَ بِهَا فَطَلَّقَهَا فَإِمَّا رَجْعِيًّا أَوْ بَائِنًا ؛ فَفِي الرَّجْعِيِّ تَتْبَعُ زَوْجَهَا حَيْثُ مَضَى لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ ، وَإِنْ كَانَ بَائِنًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلٍّ مِنْ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ السَّفَرِ ، فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ إلَى الْمَقْصِدِ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ لَا مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ إنْشَاءُ سَفَرٍ .
وَخُرُوجُ الْمُطَلَّقَةِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مَا دُونَ السَّفَرِ مُبَاحٌ إذَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ بِمُحَرَّمٍ وَبِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ أَوْلَى لِيَكُونَ الِاعْتِدَادُ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ ، كَذَا فِي الدِّرَايَةِ .
وَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ السَّفَرِ رَجَعَتْ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا سَفَرٌ أَوْ دُونَهُ .
أَمَّا إنْ كَانَ مُدَّةُ سَفَرٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُضِيَّ إلَى مَقْصِدِ سَفَرٍ وَالرُّجُوعَ لَيْسَ بِسَفَرٍ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا دُونَهَا فَتَرْجِعُ أَيْضًا لِأَنَّهَا كَمَا رَجَعَتْ تَصِيرُ مُقِيمَةً ، وَإِذَا مَضَتْ تَكُونُ مُسَافِرَةً مَا لَمْ تَصِلْ إلَى الْمَقْصِدِ ، فَإِذَا قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ اسْتِدَامَةِ السَّفَرِ فِي الْعِدَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَهُوَ أَوْجُهٌ .
( قَوْلُهُ وَمَعْنَاهُ إذَا كَانَ إلَى الْمَقْصِدِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ) فَصَاعِدًا ، فَإِذَا كَانَ دُونَهَا إلَى الْمَقْصِدِ لَا تَتَخَيَّرُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا الذَّهَابُ إلَى الْمَقْصِدِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ : إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ وَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ : أَيْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فِي مِصْرٍ فَإِنَّهَا لَا تَتَخَيَّرُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَا .
وَحَاصِلُ وُجُوهِ الْمَسْأَلَةِ : إمَّا أَنْ
يَكُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مِصْرِهَا وَمَقْصِدِهَا أَقَلُّ مِنْ السَّفَرِ فَتَتَخَيَّرُ وَالْأَوْلَى الرُّجُوعُ عَلَى مَا فِي الْكَافِي .
وَعَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَفَرًا وَالْآخَرُ دُونَهُ فَتَخْتَارُ مَا دُونَهُ لِأَنَّهَا بِاخْتِيَارِ مُقَابِلِهِ مُنْشِئَةً سَفَرًا دُونَ اخْتِيَارِهِ ، فَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا سَفَرًا فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ مِصْرٍ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَفَازَةٍ فَإِنْ شَاءَتْ مَضَتْ وَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ بِمَحْرَمٍ أَوْ لَا ، لِأَنَّ مَا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ أَشَدُّ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي الْخُرُوجِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ تَخْتَارَ الرُّجُوعَ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مِصْرٍ لَمْ تَخْرُجْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّ مَا يُخَافُ فِي السَّفَرِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ أَعْظَمُ مِمَّا يُخَافُ عَلَيْهَا فِي الْمِصْرِ فَكَانَ الْمُكْثُ فِي الْمِصْرِ أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ لَمْ تَخْرُجْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْعِدَّةِ وَقَالَا : تَخْرُجُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا .
وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَظْهَرُ .
لَهُمَا أَنَّهَا فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِمَحْرَمٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الْخُرُوجِ مُطْلَقٌ لَهَا إجْمَاعًا لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ ضَرَرِ الْغُرْبَةِ وَوَحْشَةِ الِانْفِرَادِ .
وَمَتَى قُلْنَا : لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى مَا دُونَ السَّفَرِ بِلَا مَحْرَمٍ فَإِذَا بَطَلَ مَعْنَى السَّفَرِ بِالْمَحْرَمِ بَقِيَ مُجَرَّدُ الْخُرُوجِ وَهُوَ مُطْلَقٌ لِمَكَانِ الْغُرْبَةِ ، إذْ الْغَرِيبُ يُؤْذَى وَيُهَانُ فَأَشْبَهَ الْمَفَازَةَ .
وَلَهُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ ، فَالْعِدَّةُ أَوْلَى ، وَمَا دُونَ السَّفَرِ إنَّمَا أُبِيحَ مَعَ قِيَامِ الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخُرُوجٍ لِأَنَّهُ بِنَاءً عَلَى الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ لَا لِأَنَّ أَصْلَ الْخُرُوجِ مُبَاحٌ وَهِيَ هُنَا مُنْشِئَةٌ لِلْخُرُوجِ بِاعْتِبَارِ
السَّفَرِ فَيَتَنَاوَلُهُ التَّحْرِيمُ ، وَإِذَا تَنَاوَلَهُ لَمْ يَسْقُطْ بِالْمَحْرَمِ لِأَنَّهُ لَا يَرْتَفِعُ بِهِ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ .
وَفِي الْبَدَائِعِ : لَوْ كَانَتْ الْجِهَتَانِ مُدَّةَ سَفَرٍ فَمَضَتْ أَوْ رَجَعَتْ وَبَلَغَتْ أَدْنَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْإِقَامَةِ أَقَامَتْ فِيهِ وَاعْتَدَّتْ إنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَا إنْ وَجَدَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمِثْلُهُ فِي الْمُحِيطِ ، وَفِيهِ : الْبَدَوِيُّ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَرَادَ نَقْلَهَا إلَى مَكَان آخَرَ ، فِي الْكَلَأِ وَالْمَاءِ ، فَإِنْ لَمْ تَتَضَرَّرْ بِتَرْكِهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ ، وَإِنْ تَضَرَّرَتْ فَلَهُ ذَلِكَ إذْ الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ ثُبُوتِ النَّسَبِ ( وَمَنْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ) أَمَّا النَّسَبُ فَلِأَنَّهَا فِرَاشُهُ ، لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ فَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْهَا مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَكَانَ الْعُلُوقُ قَبْلَهُ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ وَالتَّصَوُّرُ ثَابِتٌ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُخَالِطُهَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ وَالنَّسَبُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهِ ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَلِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا حُكْمًا فَتَأَكَّدَ الْمَهْرُ بِهِ ( وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ) لِاحْتِمَالِ الْعُلُوقِ فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ لِجَوَازِ أَنَّهَا تَكُونُ مُمْتَدَّةَ الطُّهْرِ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ) وَثَبَتَ نَسَبُهُ لِوُجُودِ الْعُلُوقِ فِي النِّكَاحِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُلُوقَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَيَحْتَمِلُ بَعْدَهُ فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِالشَّكِّ ( وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ كَانَتْ رَجْعَةً ) لِأَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْهُ لِانْتِفَاءِ الزِّنَا مِنْهَا فَيَصِيرُ بِالْوَطْءِ مُرَاجِعًا .
( بَابُ ثُبُوتِ النَّسَبِ ) أَعْقَبَهُ الْعِدَّةَ لِأَنَّهُ مِمَّا وَجَبَتْ لَهُ الْعِدَّةُ تَعَرُّفُ حَالِ الرَّحِمِ مِنْ الْحَمْلِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ وَتَثْبُتُ مَوَاجِبُهُ وَعَدَمُهُ فَيَنْصَرِفُ كُلٌّ عَنْ الْآخَرِ فِي الْحَالِ : أَيْ فِي حَالِ مَعْرِفَةِ عَدَمِ الْحَمْلِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ وَذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ الْعِدَّةِ ( قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ : إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ أَوْ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا ) لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ ( فَهُوَ ابْنُهُ وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ ) يُرِيدُ مِنْ وَقْتِ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ قَرَنَ الْيَوْمَ بِفِعْلٍ لَا يَمْتَدُّ ، وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى هَذِهِ الْإِرَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّلَ ثُبُوتَ نَسَبِهِ بِأَنَّهَا فِرَاشُهُ قَالَ فِي إثْبَاتِ كَوْنِهَا فِرَاشًا لِأَنَّهَا لَمَّا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ فَأَفَادَ أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الْيَوْمِ الْوَقْتُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ جَزَاءُ الشَّرْطِ فَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ لَا بِزَمَانٍ وَإِنْ لَطَفَ كَمَا قِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهُمَا آنٌ خَالٍ بَلْ أَوَّلُ آنَاتٍ تَعْقُبُ وُجُودَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ فِيهِ الْجَزَاءُ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى تَحَقُّقِ زَمَانٍ يَسَعُ التَّلَفُّظَ بِأَنْتِ طَالِقٍ كَمَا حَقَّقْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ ثُبُوتٌ حُكْمِيٌّ ، وَإِذَنْ فَيَكُونُ الْعُلُوقُ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَتَصَوُّرُ الْعُلُوقِ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ ثَابِتٌ بِأَنْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يُخَالِطُهَا وَطْئًا وَسَمِعَ النَّاسُ كَلَامَهُمَا فَوَافَقَ الْإِنْزَالُ النِّكَاحَ ، وَالْأَحْسَنُ تَجْوِيزُ أَنَّهُمَا وُكِّلَا بِهِ فَبَاشَرَ الْوَكِيلُ وَهُمَا كَذَلِكَ فَوَافَقَ عَقْدُهُ الْإِنْزَالَ .
وَحَاصِلُهُ أَنَّ الثُّبُوتَ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْفِرَاشِ وَهُوَ يَثْبُتُ مُقَارِنًا لِلنِّكَاحِ الْمُقَارِنِ لِلْعُلُوقِ فَتَعَلَّقَ وَهِيَ فِرَاشٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ ، وَقَدْ يُقَالُ الْفِرَاشِيَّةُ أَثَرُ النِّكَاحِ : أَعْنِي الْعَقْدَ فَيَتَعَقَّبُهُ فَيَلْزَمُ سَبْقُ
الْعُلُوقِ عَلَى الْفِرَاشِ .
نَعَمْ إذَا فُسِّرَ الْفِرَاشُ بِالْعَقْدِ كَمَا عَنْ الْكَرْخِيِّ وَهُوَ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ السَّابِقَ لَهُ فِي فَصْلِ الْمُحَرَّمَاتِ بِكَوْنِ الْمَرْأَةِ بِحَيْثُ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ ، فَإِنَّ هَذَا الْكَوْنَ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، إلَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْمَعْلُولِ فِي الْخَارِجِ وَكَلَامُهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِ .
وَتَقْرِيرُ قَاضِي خَانْ أَنَّ الْعُلُوقَ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ مُقَارِنًا لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ حَاصِلًا قَبْلَ زَوَالِ الْفِرَاشِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ : يَعْنِي أَنَّ زَوَالَ الْفِرَاشِ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مَعَهُ ، لِأَنَّ زَوَالَهُ أَثَرُهُ .
لَا يُقَالُ مُقْتَضَاهُ أَنْ تَكُونَ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، وَقَدْ عَيَّنُوا الثُّبُوتَ نَسَبُهُ أَنْ لَا يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ وَلَا أَقَلَّ .
لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّمَا لَمْ يُثْبِتُوهُ فِي الْأَقَلِّ لِأَنَّ الْعُلُوقَ حِينَئِذٍ مِنْ زَوْجٍ آخَرَ قَبْلَ النِّكَاحِ .
وَأَمَّا فِي الزِّيَادَةِ فَلِاحْتِمَالِ حُدُوثِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ مُنْتَفٍ هُنَا لِأَنَّهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِمَا يَسَعُ وَطْئًا بِالْفَرْضِ فَيَجِبُ اسْتِثْنَاءُ هَذَا الْقَدْرِ وَيَجِبُ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ نَفْيَهُمْ النَّسَبَ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَهُوَ سَنَتَانِ ، وَلَا مُوجِبَ لِلصَّرْفِ عَنْهُ يُنَافِي الِاحْتِيَاطَ فِي إثْبَاتِهِ وَاحْتِمَالِ كَوْنِهِ حَدَثَ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِيمَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَيَوْمٍ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ ، فَإِنَّ الْعَادَةَ الْمُسْتَمِرَّةَ كَوْنُ الْحَمْلِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا ، وَرُبَّمَا تَمْضِي دُهُورٌ لَمْ يُسْمَعْ فِيهَا وِلَادَةٌ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَكَانَ الظَّاهِرُ عَدَمُ حُدُوثِهِ وَحُدُوثُهُ احْتِمَالٌ ، فَأَيُّ احْتِيَاطٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إذَا نَفَيْنَاهُ