كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
وَالشَّيْءُ فِي نُزُولِهِ غَيْرُ نَازِلٍ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ احْتِيَاطًا فَيَتَعَلَّقُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ ، وَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ لِأَنَّا جَعَلْنَاهُ مُعَلَّقًا حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْكَافِي .
بَابُ الرَّجْعَةِ ( وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي عِدَّتِهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَرْضَ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِدَامَةُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا
بَابُ الرَّجْعَةِ ) وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي إعْقَابِ الطَّلَاقِ بِالرَّجْعَةِ ظَاهِرٌ ، وَالرَّجْعَةُ تَتَعَدَّى وَلَا تَتَعَدَّى ، يُقَالُ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَرَجَعْته إلَى أَهْلِهِ : أَيْ رَدَدْته ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ } وَيُقَالُ فِي مَصْدَرِهِ أَيْضًا رَجْعًا وَرُجُوعًا وَمَرْجِعًا وَالرَّجْعِيُّ وَالرَّجْعَةُ بِكَسْرِ الرَّاءِ ، وَرُبَّمَا قَالُوا إلَى اللَّهِ رُجْعَانُك ( قَوْلُهُ رَجْعِيَّةً ) الرَّجْعِيُّ تَطْلِيقُ الْمَدْخُولِ بِهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ بِلَا مَالٍ ، أَوْ مَا دُونَ الثِّنْتَيْنِ إنْ كَانَتْ أَمَةً بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ غَيْرِ الْمَوْصُوفِ وَالْمُشَبَّهِ أَوْ بِبَعْضِ الْكِنَايَاتِ الْمَخْصُوصَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْكِنَايَاتِ .
وَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ فَلَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِنَايَاتٍ رَجْعِيَّةٍ غَيْرِهَا فَمَا فَقَدَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ فَلَيْسَ بِرَجْعِيٍّ كَالثَّلَاثِ وَغَالِبِ الْكِنَايَاتِ وَلَوْ بِلَا مَالٍ وَكَالْوَاحِدَةِ عَلَى مَالٍ وَقَبْلَ الدُّخُولِ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ لَهَا قَبْلَهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ ، وَالْمَوْصُوفُ وَالْمُشَبَّهُ مُسْتَدْرَكَانِ عَلَى مَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } بَعْدَ قَوْلِهِ { إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ثُمَّ قَوْلِهِ { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } وَالْمُرَادُ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ : أَيْ فَقُرْبُ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنْ لَا رَجْعَةَ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ .
فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْإِمْسَاكَ اسْتِدَامَةُ الْقَائِمِ لَا إعَادَةُ الزَّائِلِ ، وَعَلَى شَرْعِيَّةِ الرَّجْعَةِ شَاءَتْ أَوْ أَبَتْ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ فِي التَّقْدِيرَيْنِ وقَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ تَوَقُّفِ الرَّجْعَةِ عَلَى رِضَاهَا لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ أَحَقَّ مُطْلَقًا : أَيْ هُوَ الَّذِي لَهُ حَقُّ الرَّجْعَةِ وَإِنْ أَبَتْ هِيَ وَأَبُوهَا ، وَحِكْمَتُهُ اسْتِدْرَاكُ الزَّوْجِ
مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ فِي حَقِّهِ مِنْ النِّكَاحِ لَا لِغَيْرِهِ لَا أَنَّهُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَهُوَ أَحَقُّ مِنْهُ ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْعِدَّةِ إذْ لَا يَكُونُ بَعْدَهَا بَعْلًا ، وَهُوَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ أَيْضًا ، وَقَدَّمْنَا فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّ إطْلَاقَ الرَّدِّ لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْبَعْلِ مُجَازًا بِاعْتِبَارِ مَا كَانَ لِأَنَّ الرَّدَّ يَصْدُقُ حَقِيقَةً بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَالَ بَعْدُ .
يُقَالُ رَدَّ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ فِي بَيْعٍ فِيهِ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ كَمَا يُقَالُ بَعْدَ الزَّوَالِ يَجُوزُ رَدُّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ ، وَلَوْ تَعَارَضَا كَانَ حَمْلُ الرَّدِّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُجَازٌ مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ الْبَعْلِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِ الْبَعْلِ مُجَازًا مُحَافَظَةً عَلَى حَقِيقَةِ الرَّدِّ لِتَأَيُّدِ إرَادَةِ حَقِيقَةِ الْبَعْلِ بِجَعْلِ الرَّجْعَةِ إمْسَاكًا فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أَوْ نَقُولُ : يُمْكِنُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَقِيقَتَيْنِ بِكَوْنِ الْمُرَادِ بِالرَّدِّ الرَّدَّ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ كَوْنُهَا بِحَيْثُ لَا تَحْرُمُ بَعْدَ مُضِيِّ الْعِدَّةِ فَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ أَصْلًا ( قَوْلُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ ) إمْسَاكٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ أَوَّلًا وَهُوَ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَزُولُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَا مِلْكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ لِيُسْتَدَامَ ، وَكَأَنَّهُ جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ كَمَا وَقَعَ الْإِطْلَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى رِضَاهَا وَعَدَمِهِ كَذَلِكَ هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى قِيَامِ الْعِدَّةِ وَعَدَمِهَا .
أَجَابَ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ قِيَامِهَا ضَرُورِيٌّ لِمَا قُلْنَا
( وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي ) وَهَذَا صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ قَالَ ( أَوْ يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ) وَهَذَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ حَتَّى يَحْرُمَ وَطْؤُهَا ، وَعِنْدَنَا هُوَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ ، وَالدَّلَالَةُ فِعْلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِهِ خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ ، بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ ، فَلَوْ كَانَ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا .
( قَوْلُهُ وَهَذَا صَرِيحٌ ) أَلْفَاظُ الرَّجْعَةِ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ ، فَالصَّرِيحُ رَاجَعْتُك فِي حَالِ خِطَابِهَا وَرَاجَعْت امْرَأَتِي فِي حَالِ غِيبَتِهَا وَحُضُورِهَا أَيْضًا ، وَمِنْ الصَّرِيحِ ارْتَجَعْتُك وَرَجَعْتُك وَرَدَدْتُك وَأَمْسَكْتُك .
وَفِي الْمُحِيطِ : مَسَكْتُك بِمَنْزِلَةٍ أَمْسَكْتُك وَهُمَا لُغَتَانِ ، فَهَذِهِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا بِهَا بِلَا نِيَّةٍ ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُشْتَرَطُ فِي رَدَدْتُك ذِكْرُ الصِّلَةِ فَيَقُولُ إلَيَّ أَوْ إلَى نِكَاحِي أَوْ إلَى عِصْمَتِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِارْتِجَاعِ وَالْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ حَسَنٌ إذْ مُطْلَقُهُ يُسْتَعْمَلُ لِضِدِّ الْقَبُولِ .
وَالْكِنَايَاتُ أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْت وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا إلَّا بِالنِّيَّةِ .
لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ تَصْدُقُ عَلَى إرَادَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْمِيرَاثِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْإِمْسَاكِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّزَوُّجِ ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ رَجْعَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هُوَ رَجْعَةٌ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ ، قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ : وَبِقَوْلِ مُحَمَّدٍ نَأْخُذُ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ عَلَيْهِ الْفَتْوَى ، وَكَذَا فِي الْقُنْيَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَزَوُّجَ الزَّوْجَةِ مَلْغِيٌّ فَلَا يُعْتَبَرُ مَا فِي ضِمْنِهِ .
قُلْنَا نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُهُ بِاعْتِبَارِ مَا فِي ضِمْنِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ لَفْظِ التَّزَوُّجِ مَجَازًا فِي مَعْنَى الْإِمْسَاكِ .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : لَوْ قَالَ رَاجَعْتُك بِمَهْرِ أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ قَبِلْت صَحَّ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِي الْمَهْرِ فَيُشْتَرَطُ قَبُولُهَا .
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ وَالْحَاوِي قَالَ : رَاجَعْتُك عَلَى أَلْفٍ ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا تَجِبُ الْأَلْفُ وَلَا تَصِيرُ زِيَادَةً فِي الْمَهْرِ كَمَا فِي الْإِقَالَةِ ( قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ ) كَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدَ قَوْلَيْ مَالِكٍ خِلَافًا ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْجَوَاهِرِ فِي حُصُولِ الرَّجْعَةِ بِرَاجَعْتُكِ بِلَا نِيَّةٍ قَوْلَانِ لِمَالِكٍ كَمَا فِي نِكَاحِ الْهَازِلِ ( قَوْلُهُ أَوْ يُقَبِّلُهَا أَوْ
يَلْمِسُهَا بِشَهْوَةٍ ) يُحْتَمَلُ كَوْنُ الشَّهْوَةِ قَيْدًا فِي اللَّمْسِ لَا فِيهِمَا لِأَنَّهُ أَفْرَدَ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ بِقَيْدِ الشَّهْوَةِ ، فَلَوْ كَانَ مِنْ غَرَضِهِ التَّشْرِيكُ فِي الْقَيْدِ لَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِ بَعْدَ الْكُلِّ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ : التَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى دَاخِلِ فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ رَجْعَةٌ ، وَلَمْ يُقَيِّدْ التَّقْبِيلَ فِي الْكِتَابِ .
وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى دُبْرِهَا فَلَيْسَ بِرَجْعَةٍ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَفِي الْبَدَائِعِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ ، وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يُكْرَهُ التَّقْبِيلُ وَاللَّمْسُ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ ، فَدَلَّ أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ رَجْعَةً .
وَفِي الْخُلَاصَةِ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ مَكَّنَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ فَقَيَّدَ الْقُبْلَةَ بِالشَّهْوَةِ ، لَكِنَّ قَوْلَهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ إنَّ الْفِعْلَ يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ وَالدَّلَالَةُ إنَّمَا تَقُومُ بِفِعْلٍ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ : أَيْ يَخْتَصُّ حُكْمُهُ بِهِ يُفِيدُ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا فِي الْقُبْلَةِ لِأَنَّ الْقُبْلَةَ مُطْلَقًا يَخْتَصُّ حُكْمُهَا بِهِ ، بِخِلَافِ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ فَإِنَّهُمَا لَا يَخْتَصَّانِ بِهِ إلَّا إذَا كَانَا عَنْ شَهْوَةٍ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَكُونَانِ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ دَلِيلًا ، وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى غَيْرِ دَاخِلِ الْفَرْجِ مِنْهَا رَجْعَةً .
هَذَا وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ فِي كَوْنِهِ رَجْعَةً إذَا كَانَ مَا صَدَرَ مِنْهَا بِعِلْمِهِ وَلَمْ يَمْنَعْهَا اتِّفَاقًا ، فَإِنْ كَانَ اخْتِلَاسًا مِنْهَا بِأَنْ كَانَ نَائِمًا مَثَلًا لَا بِتَمْكِينِهِ ، أَوْ فَعَلَتْهُ وَهُوَ مُكْرَهٌ أَوْ مَعْتُوهٌ ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ انْتَهَى ، وَعَنْ مُحَمَّد كَقَوْلٍ أَبِي يُوسُفَ .
وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ
الِاعْتِبَارُ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا فَرْقَ فِي ثُبُوتِ حُرْمَتِهَا بَيْنَ كَوْنِ ذَلِكَ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ ، وَكَذَا إذَا أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا وَهُوَ نَائِمٌ أَوْ مَجْنُونٌ كَانَتْ رَجْعَةً اتِّفَاقًا ، كَالْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ إذَا فَعَلَتْ بِالْبَائِعِ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ .
وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ قَدْ يَكُونَانِ بِفِعْلِهَا كَمَا إذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ بِفِعْلِهَا قَطُّ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ فِي الْجَارِيَةِ لَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا ، هَذَا إذَا صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي الشَّهْوَةِ ، فَإِذَا أَنْكَرَ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ ، وَكَذَا إنْ مَاتَ فَصَدَّقَهَا الْوَرَثَةُ ، وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الشَّهْوَةِ لِأَنَّهَا غَيْبٌ ، كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ .
وَلَا تَكُونُ الْخَلْوَة وَلَا الْمُسَافَرَةُ بِهَا رَجْعَةً إلَّا عِنْدَ زُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ ، وَتُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهَا كَكَرَاهَةِ خُرُوجِهَا مِنْ الْمَنْزِلِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُكْرَهُ ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ ( قَوْلُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ ) احْتِرَازٌ عَنْ الْأَخْرَسِ وَمُعْتَقَلِ اللِّسَانِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ إلَخْ ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ هُنَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ سَبَبُ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ أَوْ سَبَبُ اسْتِحْدَاثِ الْحِلِّ الزَّائِلِ .
قُلْنَا بِالْأَوَّلِ وَقَالَ بِالثَّانِي ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي حِلُّ الْوَطْءِ وَحُرْمَتُهُ ، فَعِنْدَنَا يَحِلُّ لِقِيَامِ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَكُونُ الْحِلُّ قَائِمًا قَبْلَ انْقِضَائِهَا ، وَعِنْدَهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ وَاسْتِيفَاءٌ مِنْ وَجْهٍ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ احْتِيَاطًا ، وَعَلَى هَذَا يَنْبَنِي أَنَّ الْإِشْهَادَ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَشَرْطٌ عِنْدَهُ عَلَى قَوْلٍ لَهُ لِأَنَّهُ إنْشَاءُ النِّكَاحِ مِنْ وَجْهٍ كَذَا فِي التُّحْفَةِ ( قَوْلُهُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ) يَعْنِي
قَوْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسَمَّى إمْسَاكًا ( قَوْلُهُ وَسَنُقَرِّرُهُ ) أَيْ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهَا : أَيْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةٌ إلَى آخِرِهِ ، وَهُنَاكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ ( قَوْلُهُ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ ) يَحْصُلُ بِالْفِعْلِ الْمُخْتَصِّ بِالْمِلْكِ كَمَنْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ وَطِئَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ ، فَكَمَا أَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ كَذَلِكَ اسْتِدَامَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بَعْدَ سَبَبِ الزَّوَالِ بَلْ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعَهُ يُزِيلُ الْمِلْكَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَالطَّلَاقُ يُزِيلُهُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ فَكَانَ أَضْعَفَ فِي زَوَالِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ .
وَبِقَوْلِنَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : الْجِمَاعُ رَجْعَةٌ عِنْدَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَابْنِ سِيرِينَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَالزُّهْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَجَابِرٍ وَالشَّعْبِيِّ وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَإِسْحَاقُ : إنْ أَرَادَ بِهِ الرَّجْعَةَ فَهُوَ رَجْعَةٌ ( قَوْلُهُ خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ ) فَإِنَّهُ لَا سَبَبَ لِحِلِّهَا فِيهَا مُطْلَقًا إلَّا النِّكَاحُ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ فِيهَا بِأَمْرَيْنِ ( قَوْلُهُ وَغَيْرِهِمَا ) كَالْخَاتِنَةِ وَالشَّاهِدِ عَلَى الزِّنَا ( قَوْلُهُ فَلَوْ كَانَ ) أَيْ النَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الطَّلَاقُ ، وَهَذَا التَّعْمِيمُ يُفِيدُ أَنَّ النَّظَرَ إلَى دُبْرِهَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً وَبِهِ صَرَّحَ فِي نِكَاحِ الزِّيَادَاتِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَطْءِ فِي الدُّبْرِ أَشَارَ الْقُدُورِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرَجْعَةٍ ، وَالْفَتْوَى عَلَى أَنَّهُ رَجْعَةٌ إذْ هُوَ مَسٌّ بِشَهْوَةٍ وَزِيَادَةٌ لَا تَرْفَعُ الرَّجْعَةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ، وَرَجْعَةُ الْمَجْنُونِ بِالْفِعْلِ وَلَا تَصِحُّ بِالْقَوْلِ ، وَقِيلَ بِالْعَكْسِ .
وَقِيلَ بِهِمَا .
وَلَوْ
طَلَّقَهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ ثُمَّ قَالَ وَطِئْتهَا وَأَنْكَرَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ .
وَلَوْ قَالَ لَمْ أَدْخُلْ بِهَا لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا .
وَتَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِالشَّرْطِ وَإِضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَاطِلٌ كَالنِّكَاحِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنَّهُ يُرَاجِعُ بِالْقَوْلِ .
وَفِي الْيَنَابِيعِ : الرَّجْعَةُ سُنِّيَّةٌ وَبِدْعِيَّةٌ ، فَالسُّنِّيَّةُ بِالْقَوْلِ
قَالَ ( وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا تَصِحُّ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ .
وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ ، وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا فِي الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ ، إلَّا أَنَّهَا تُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ فِيهَا ، وَمَا تَلَاهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْمُفَارَقَةِ وَهُوَ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ ( وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَقَالَ كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ) لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُتَّهَمًا إلَّا أَنَّ بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ ) الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهَا تَصِحُّ بِلَا إشْهَادٍ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَكَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ كَقَوْلِنَا فَكَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رِوَايَةً عَنْهُ ، وَكَذَا الْمَنْسُوبُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلٌ لَهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَسِيطِ وَفِي الْجَدِيدِ لِلشَّافِعِيِّ : الْإِشْهَادُ مُسْتَحَبٌّ ، وَفِي الرَّوْضَةِ لَهُمْ لَيْسَ بِشَرْطٍ عَلَى الْأَظْهَرِ ( قَوْلُهُ وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي الرَّجْعَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْإِشْهَادِ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَقَوْلُهُ { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } وقَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وَقَوْلُهُ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُرْ ابْنَكَ فَلْيُرَاجِعْهَا } وَهَذِهِ النُّصُوصُ سَاكِتَةٌ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ فَاشْتِرَاطُهُ إثْبَاتٌ بِلَا دَلِيلٍ وَمَا تُلِيَ فَلَيْسَ بِدَلِيلٍ عَلَيْهِ إذْ الْأَمْرُ فِيهِ لِلنَّدْبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَ الرَّجْعَةَ بِالْمُفَارِقَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فَقَدْ أَمَرَ بِشَيْئَيْنِ فِي جُمْلَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ كَالْوُجُوبِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ وَالْمَجَازِيُّ كَالنَّدْبِ ، فَإِذَا ثَبَتَ إرَادَةُ أَحَدِهِمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا لَزِمَ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ وَإِلَّا لَزِمَ تَعْمِيمُ اللَّفْظِ فِي الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عِنْدَنَا وَقَدْ ثَبَتَ إرَادَةُ النَّدْبِ بِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُفَارَقَةِ فَلَزِمَ إرَادَتُهُ أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ ، فَيَكُونُ النَّدْبُ الْمُرَادُ
بِهِ شَامِلًا لَهُمَا وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا .
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيُجِيزُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَنْتَهِضُ هَذَا عَلَيْهِ إلَّا بِانْتِهَاضِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ فِيمَا كَتَبْنَاهُ فِي الْأُصُولِ ، وَمَعَ هَذَا التَّقْرِيرِ لَا حَاجَةَ إلَى إيرَادِ أَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ فَكَيْفَ قُلْتُمْ بِهِ هُنَا وَالِاشْتِغَالُ بِجَوَابِهِ لِلْمُتَأَمِّلِ أَصْلًا ؟ ( قَوْلُهُ كَيْ لَا تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ ) قِيلَ عَلَيْهِ لَا مَعْصِيَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا بِالرَّجْعَةِ .
وَدَفَعَ بِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ تَقَعُ فِي الْمَعْصِيَةِ لِتَقْصِيرِهَا فِي الْأَمْرِ .
وَاسْتَشْكَلَ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا إيجَابٌ لِلسُّؤَالِ عَلَيْهَا وَإِثْبَاتُ الْمَعْصِيَةِ بِالْعَمَلِ بِمَا ظَهَرَ عِنْدَهَا ، وَلَيْسَ السُّؤَالُ إلَّا لِدَفْعِ مَا هُوَ مُتَوَهَّمُ الْوُجُودِ بَعْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِهِ فَهُوَ وِزَانُ إعْلَامِهِ إيَّاهَا إذْ هُوَ أَيْضًا لِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَإِذَا كَانَ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَكَذَا سُؤَالُهَا يَكُونُ مُسْتَحَبًّا لِأَنَّهَا فِي النِّكَاحِ كَذَلِكَ ، وَلَوْ رَاجَعَهَا وَلَمْ تَعْلَمْ فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَهِيَ امْرَأَةُ الْأَوَّلِ دَخَلَ بِهَا الْأَوَّلُ أَوْ لَا ( قَوْلُهُ وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ إلَخْ ) هُنَا مَسْأَلَتَانِ : الْأُولَى إذَا لَمْ يُظْهِرْ رَجْعَتَهَا فِي الْعِدَّةِ حَتَّى انْقَضَتْ فَقَالَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِانْقِضَائِهَا كُنْت رَاجَعْتُك فِيهَا .
وَالثَّانِيَةُ قَالَ قَبْلَ الْعِلْمِ رَاجَعْتُك عَلَى سَبِيلِ الْإِنْشَاءِ .
أَمَّا الْأُولَى فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ أَمَةً أَوْ حُرَّةً ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا إمَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ أَوْ تُكَذِّبَهُ ، فَفِي الْحُرَّةِ إنْ صَدَّقَتْهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَثْبُتُ بِتَصَادُقِهِمَا فَالرَّجْعَةُ أَوْلَى ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لَا تَثْبُتُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ وَالْخَبَرُ مُجَرَّدُ دَعْوَى تَمَلُّكِ بُضْعِهَا بَعْدَ ظُهُورِ انْقِطَاعِ مِلْكِهِ ، وَمُجَرَّدُ دَعْوَى مِلْكٍ فِي وَقْتٍ لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِيهِ لَا يَجُوزُ
قَبُولُهَا مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ فِيهِ إنْشَاؤُهُ كَأَنْ يَقُولَ فِي الْعِدَّةِ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ تَثْبُتُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُتَّهَمًا فِيهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يُنْشِئَهُ فِي الْحَالِ أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ إنْشَاءً إنْ كَانَتْ الصِّيغَةُ تَحْتَمِلُهُ ، فَصَارَ كَالْوَكِيلِ إذَا أَخْبَرَ قَبْلَ الْعَزْلِ بِبَيْعِ الْعَيْنِ يُصَدَّقُ لِمِلْكِهِ الْإِنْشَاءَ ، وَبَعْدَ مَا بَلَغَهُ الْعَزْلُ لَوْ أَخْبَرَ بِبَيْعِهِ سَابِقًا وَكَذَّبَهُ الْمَالِكُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ حَيْثُ لَمْ يُخْبِرْ قَبْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ لَا تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ إذَا كَذَّبَتْهُ بَلْ تَذْهَبُ إلَى حَالِهَا بِلَا يَمِينٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهِيَ إحْدَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الَّتِي لَا يَمِينَ فِيهَا عِنْدَهُ وَفِي الْأَمَةِ إذَا كَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ لِلْمَوْلَى .
وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَقَوْلِهِمَا ، وَسَتَأْتِي أَوْجُهُ الْأَقْوَالِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ قَوْلِهِ لِلْحُرَّةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ لِلْأَمَةِ بِالْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهِيَ إذَا قَالَ قَبِلَ الِانْقِضَاءَ فَلْنُوَافِقْهُ فَنَقُولُ : وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ، فَإِنْ قَالَتْ مُجِيبَةً انْقَضَتْ عِدَّتِي مَفْصُولًا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ اتِّفَاقًا لِأَنَّهَا مُتَّهَمَةٌ فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ سُكُوتِهَا وَعَدَمِ جَوَابِهَا عَلَى الْفَوْرِ .
وَلَوْ قِيلَ وَجَبَ إحَالَتُهُ عَلَى أَقْرَبِ حَالِ التَّكَلُّمِ وَذَلِكَ حَالَ سُكُوتِهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ وَهُوَ بَعْدَ ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ أَمْكَنُ ، وَإِنْ قَالَتْهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لَا تَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ الِانْقِضَاءَ ، فَلَوْ لَمْ تَحْتَمِلْهُ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ إلَّا إذَا ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ وَثَبَتَ ذَلِكَ .
وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهُ أَنْشَأَهَا حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ ظَاهِرًا لِبَقَائِهَا ظَاهِرًا مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَائِهَا فَتَثْبُتُ كَمَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ لَوْ قَالَ طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً انْقَضَتْ عِدَّتِي لَحِقَهَا طَلْقَةٌ أُخْرَى ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَمْنَعُ قِيَامَهَا حَالَ كَلَامِهِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ شَرْعًا فَوَجَبَ قَبُولُ إخْبَارِهَا وَأَقْرَبُ زَمَانٍ يُحَالُ عَلَيْهِ خَبَرُهَا زَمَانُ تَكَلُّمِهِ فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُقَارِنَةً لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ ، كَمَا لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي قَوْلِهِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِك ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اتَّفَقَ أَنْ خَرَجَ كَلَامُ الرَّجُلِ مَعَ قَوْلِهَا انْقَضَتْ عِدَّتِي يَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الرَّجْعَةُ ، وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ الْمَقِيسِ لَهُمَا عَلَيْهَا مَمْنُوعَةٌ فَلَا يَقَعُ عِنْدَهُ .
قِيلَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لِأَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْوُقُوعِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا إنْشَاءٌ وَلَيْسَ بِإِخْبَارٍ لِيَكُونَ إقْرَارًا ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ أَنْشَأَ فِي وَقْتٍ لَا يَصِحُّ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ .
نَعَمْ لَوْ عَرَفَ أَنَّ مُقْتَضَى الْفِقْهِ كَوْنُ إيقَاعِهِ وُجِدَ فِي حَالِ الِانْقِضَاءِ فَلَجَّ وَقَالَ لَا أَعْتَبِرُ هَذَا بَلْ وَقَعَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَوْجَهُ فِيمَا إذَا ادَّعَى صِحِّيَّتَهُ إنْ طَلَّقْتُك وَنَحْوَهُ مِنْ أَنْتِ طَالِقٌ ظَاهِرٌ فِي الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ يَحْتَمِلُهُ لِتَقَدُّمِ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ وَرَاجَعْتُك بِالْعَكْسِ .
فَإِنْ لَمْ يَسْلَمْ هَذَا فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْمَنْعِ ، وَتُسْتَحْلَفُ الْمَرْأَةُ هُنَا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهَا كَانَتْ مُنْقَضِيَةً حَالَ إخْبَارِهَا .
وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الرَّجْعَةِ حَيْثُ لَمْ تُسْتَحْلَفْ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَمْ يُرَاجِعْهَا فِي الْعِدَّةِ أَنَّ إلْزَامَ الْيَمِينِ لِفَائِدَةِ النُّكُولِ وَهُوَ بَذْلٌ عِنْدَهُ وَبَذْلُ الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّزَوُّجِ وَالِاحْتِبَاسِ فِي مَنْزِلِ الزَّوْجِ جَائِزٌ ، بِخِلَافِ
الرَّجْعَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ فَإِنْ بَذْلَهَا لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ إذَا نَكَلَتْ هُنَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِنَاءً عَلَى ثُبُوتِ الْعِدَّةِ لِنُكُولِهَا ضَرُورَةً كَثُبُوتِ النَّسَبِ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ بِنَاءً عَلَى شَهَادَتِهَا بِالْوِلَادَةِ .
( وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَقَالَا : تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ الْعِدَّةَ إذْ هِيَ بَاقِيَةٌ ظَاهِرًا إلَى أَنْ تُخْبِرَ وَقَدْ سَبَقَتْهُ الرَّجْعَةُ ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى سَبْقِ الِانْقِضَاءِ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قَوْلِ الزَّوْجِ وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ
( وَإِذْ قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا : قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَا : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ) لِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ لِلزَّوْجِ فَشَابَهُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ ، وَهُوَ يَقُولُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى الْعِدَّةِ وَالْقَوْلُ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا ، فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ، وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِهِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ فِي الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ ( وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ) لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ
( قَوْلُهُ إذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ لَهَا عِنْدَهُ ، وَقَالَا : لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ ) وَهُوَ مَنَافِعُ بُضْعِهَا لِلزَّوْجِ فَيُقْبَلُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ .
وَلَا يَخْفَى قِيَامُ الْفَرْقِ بَيْنَ إقْرَارِهِ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ وَإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الزَّوْجَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِإِنْكَاحِهَا حَالَ غَيْبَتِهَا وَعَدَمِ إذْنِهَا فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَى الْمُرَاجَعَةِ وَهُوَ يَقُولُ إنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ مِنْ الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا يَنْبَنِي عَلَى الْعِدَّةِ مِنْ قِيَامِهَا وَانْقِضَائِهَا وَهِيَ أَمِينَةٌ فِيهَا مُصَدَّقَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِالِانْقِضَاءِ وَالْبَقَاءِ لَا قَوْلَ لِلْمَوْلَى فِيهَا أَصْلًا ، فَكَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا ، وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ لَا مُلَازَمَةَ يَحْكُمُ بِهَا الْعَقْلُ بَيْنَ كَوْنِ الْقَوْلِ قَوْلَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَيْنَ كَوْنِهَا لَهَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا إلَّا إذَا وَقَعَ لَازِمًا لِوُجُودِ قَوْلِهَا فِي الْعِدَّةِ قَوْلًا : أَيْ بِأَنْ تَدَّعِي فِيهَا الثُّبُوتَ أَوْ الِانْقِضَاءَ فَتَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَعَدَمُهَا لَازِمًا لِذَلِكَ ، لِأَنَّ كَوْنَ الْقَوْلِ قَوْلَهَا فِيهَا مَا ثَبَتَ إلَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقَوْلَ لَهَا فِي الْمُسْتَلْزَمِ لَا لِمَعْنَى تَقْتَضِيهِ فِيهَا ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي سَمَاعَ قَوْلِهَا فِي الرَّجْعَةِ ابْتِدَاءً كَمَا هُوَ هُنَا فَإِنَّهَا لَمْ تَدَّعِ فِي الْعِدَّةِ دَعْوَى يُخَالِفُهَا فِيهَا الزَّوْجُ بَلْ اتَّفَقَا عَلَى انْقِضَائِهَا وَوَقْتِ انْقِضَائِهَا ، وَإِنَّمَا ادَّعَى فِي حَالِ كَوْنِهِ لَا مِلْكَ لَهُ عَلَيْهَا أَنَّهُ رَاجَعَهَا قَبْلَ الِانْقِضَاءِ ، وَهِيَ مُنْكِرَةٌ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهَا ( قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ ) بِأَنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى وَصَدَّقَتْهُ فَالْقَوْلُ لِلْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ .
وَقَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ احْتِرَازٌ عَمَّا فِي الْيَنَابِيعِ
أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا .
وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ حَتَّى يَتَّفِقَ الْمَوْلَى وَالْأَمَةُ ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى هَذَا لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ إلَّا إذَا اتَّفَقَا ، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالرَّجْعَةِ وَلَا بِعَدَمِهَا .
وَفِي الْمَبْسُوطِ : لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَقُلْ فِي الصَّحِيحِ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ ، وَيَسْتَلْزِمُ ظُهُورُ مِلْكِ الْمَوْلَى الْمُتْعَةَ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِهِ ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَا إذَا كَذَّبَتْهُ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ بِالتَّصْدِيقِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الرَّجْعَةِ وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهَا ( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ ) دُونَ غَيْرِهَا : أَيْ بِالِانْقِضَاءِ وَلِذَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إنِّي حَائِضٌ حَتَّى لَا يَحِلَّ قُرْبَانُهَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِلسَّيِّدِ .
وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْتُ : يَعْنِي قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي بِالْوِلَادَةِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ قَالَتْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ بَعْضِ الْخَلْقِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَهَا عَلَى أَنَّهَا أَسْقَطَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
.
( وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَعَشْرَةِ أَيَّامٍ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ ، وَإِنْ انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ ) لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الْعَشَرَةِ ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ وَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ ، وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُحْتَمَلُ عَوْدُ الدَّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَضِدَ الِانْقِطَاعُ بِحَقِيقَةِ الِاغْتِسَالِ أَوْ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً لِأَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ زَائِدَةٌ فَاكْتَفَى بِالِانْقِطَاعِ ، وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا تَيَمَّمَتْ انْقَطَعَتْ ، وَهَذَا قِيَاسٌ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالِاغْتِسَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ ، وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ ، ثُمَّ قِيلَ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ عِنْدَهُمَا ، وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ
( قَوْلُهُ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ ) أَيْ بِأَنْ يَخْرُجَ وَقْتُهَا الَّذِي طَهُرَتْ فِيهِ فَتَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا ، فَإِنْ كَانَ الطُّهْرُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَهُوَ ذَلِكَ الزَّمَنُ الْيَسِيرُ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِهِ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا حَتَّى يَخْرُجَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَهُرَتْ فِي وَقْتٍ مُهْمَلٍ كَبَعْدِ الشُّرُوقِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ إلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ .
( قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً ) فَإِنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ زَائِدَةٌ عَلَى مُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّ الْغُسْلَ وَالصَّلَاةَ لَيْسَا وَاجِبَيْنِ عَلَيْهَا ، فَبِمُجَرَّدِ الِانْقِطَاعِ وَإِنْ كَانَ لِمَا دُونَ الْعَشَرَةِ حَلَّ وَطْؤُهَا وَانْقَطَعَتْ رَجْعَتُهَا ( قَوْلُهُ وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ ) أَيْ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ( قَوْلُهُ حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ) بِرَفْعِ ( يَثْبُتُ ) لِأَنَّ حَتَّى هُنَا لَيْسَتْ لِلْغَايَةِ بَلْ لِلتَّعْلِيلِ ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْكَامِ جَوَازُ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ ، وَهَذِهِ أَحْكَامُ الْغُسْلِ فَكَانَ التَّيَمُّمُ مِثْلُهُ ، ثُمَّ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِمَّا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَلِذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَتْ لَمْعَةٌ انْقَطَعَتْ ، وَكَذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَلَمْ تَتَيَمَّمْ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ مَعَ عَدَمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهِ فَانْقِطَاعُهَا بِالتَّيَمُّمِ وَبِهِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ أَوْلَى .
وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ بِآخَرَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ وَإِنْ قَامَ مَقَامَ الْغُسْلِ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ .
وَالِاحْتِيَاطُ فِي التَّزَوُّجِ عَدَمُ جَوَازِهِ مَعَهُ وَفِي الرَّجْعَةِ انْقِطَاعُهَا مَعَهُ حَتَّى لَا يَأْتِيَهَا رَجُلٌ فِي شُبْهَةٍ ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ مُلَوِّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ ) أَيْ حَقِيقَةً لَا
شَرْعًا كَذَا فِي الدِّرَايَةِ .
وَلْنُفَصِّلْ هَذَا الْمَقَامَ لِيَنْدَفِعَ مَا يُخَالُ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ لِلْأَوْهَامِ مُسْتَعِينًا فِيهِ بِالْمَلِكِ الْعَلَّامِ مُصَلِّيًا عَلَى سَيِّدِنَا نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ فَنَقُولُ : هَذَا الْبَحْثُ لَهُ ثَلَاثَةُ مَوَارِد فِي الْفِقْهِ : أَوَّلُهَا بَابُ التَّيَمُّمِ فِي الْبَحْثِ مَعَ الشَّافِعِيِّ فِي جَوَازِ الْفَرَائِضِ الْمُتَعَدِّدَةِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ مُطْلَقَةٌ أَوْ لَا ، فَقَالَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ تُثْبِتُ ضَرُورَةَ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَةِ بِهِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَهَا .
فَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا فِي جَوَابِهِ عَلَى أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ تَعْمَلُ عَمَلَ الْمَاءِ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ .
وَصَرَّحَ فِي النِّهَايَةِ فِي تَقْرِيرِهِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ مُزِيلٌ لِلْحَدَثِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا بَقِيَ شَرْطُهُ وَهُوَ الْعَدَمُ كَالْمَاءِ ، إلَّا أَنَّهُ بِالْمَاءِ مُقَدَّرٌ إلَى وُجُودِ الْحَدَثِ ، وَهُنَا إلَى شَيْئَيْنِ الْحَدَثِ وَالْمَاءِ .
ثَانِيهَا بَابُ الْإِمَامَةِ فِي مَسْأَلَةِ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ فَافْتَرَقُوا فِيهَا ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ : هِيَ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا يَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ ، وَقَالَا : مُطْلَقَةٌ فَيَجُوزُ .
وَثَالِثُهَا هُنَا فَافْتَرَقُوا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ عَكَسُوا كَلِمَتَهُمْ ، فَتَرَاءَى لِمُحَمَّدٍ وَجْهَانِ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ فِي الْإِمَامَةِ ضَرُورِيَّةٌ بَعْدَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فِي جَوَابِ الشَّافِعِيِّ مِنْ أَنَّهَا مُطْلَقَةٌ .
وَالثَّانِي أَنَّ بَعْدَمَا قَالَ فِي الْإِمَامَةِ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ قَالَ هُنَا مُطْلَقَةٌ .
وَلَهُمَا وَجْهٌ مِنْ الْمُنَاقَضَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا هُنَاكَ مُطْلَقَةٌ وَهُنَا ضَرُورِيَّةٌ مُلَوِّثَةٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الشَّارِحِينَ يَأْخُذُ فِي تَقْرِيرِ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا يُزِيلُ الْحَدَثَ بِيَقِينٍ ، وَلِهَذَا عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ إنَّمَا يَصِيرُ حَدَثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ فَقَدْ نَاقَضُوا جَمِيعًا
.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ فِي التَّيَمُّمِ جِهَةَ الْإِطْلَاقِ وَجِهَةَ الضَّرُورَةِ ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ مُلَوَّثٌ فِي نَفْسِهِ مُغَبَّرٌ لَا يُطَهِّرُ : أَيْ لَا يُنَظِّفُ ، فَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ أَنَّهُ يُزِيلُ الْحَدَثَ مُطْلَقًا كَالْمَاءِ إلَى غَايَةِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ وُجُودِ الْحَدَثِ أَوْ الْمَاءِ ، وَمَعْنَى الضَّرُورَةِ أَنَّ شَرْعِيَّتَهُ ضَرُورَةُ أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ وَعَدَمُ تَفْوِيتِهَا وَتَكْثِيرٌ لِلْخَيْرَاتِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ إكْرَامًا لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ ، وَلِذَا كَانَ مِنْ الْخَصَائِصِ ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ الْإِخْلَالَ بِمَعْنَى الْإِطْلَاقِ إذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ بَيَانُ سَبَبِ شَرْعِيَّتِهِ .
وَلَمَّا شُرِعَ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا شُرِعَ كَمَا شُرِعَ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ وَإِنَّمَا يُفِيدُ ضَعْفَهُ وَانْحِطَاطَهُ عَنْ التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُلَوَّثًا وَمُغَبَّرًا فَهُوَ بِسَبَبِ عَدَمِ شَرْعِيَّتِهِ ابْتِدَاءً كَالْمَاءِ حَتَّى يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ابْتِدَاءً ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ شَرْعِيَّةِ الْوُضُوءِ تَحْسِينَ الْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ وَتَنْظِيفَهَا لِلْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا وَالتُّرَابُ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ بَلْ ضِدُّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا لِلضَّرُورَةِ الْمُتَحَقِّقَةِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى الْأَدَاءِ مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ تَكْرِيمًا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَذِكْرُ التَّلْوِيثِ وَعَدَمِ تَطْهِيرِهِ فِي نَفْسِهِ ذِكْرُ سَبَبِ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا لِلْحَاجَةِ الْمَذْكُورَةِ .
إذَا عَلِمْت هَذَا فَقَوْلُهُمْ مَعَ الشَّافِعِيِّ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ : أَيْ تُزِيلُ الْحَدَثَ ، وَيُسْتَبَاحُ بِهِ كُلُّ مَا يُسْتَبَاحُ بِالْمَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُسْتَبَاحُ بِهِ لِيَنْتَفِيَ بِهِ قَصْرُ الصِّحَّةِ بِهِ عَلَى فَرْضٍ وَاحِدٍ لَا يُنَافِي قَوْلَهُمْ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ عَلَى مَا سَمِعْت ، فَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُطْلَقَةٌ فِي مَوْضِعٍ وَقَالَ فِي آخَرَ إنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ لَمْ يَكُنْ
مُنَاقِضًا أَصْلًا .
وَقَوْلُ مَنْ ذَكَرَ فِي تَقْرِيرِهِ إنَّهُ لَا يَرْفَعُ بِيَقِينٍ حَاصِلُهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ فَإِنَّ الْمَاءَ يَرْفَعُهُ بِيَقِينٍ ، وَهَذَا يَرْفَعُهُ ظَنَّا لِلْخِلَافِ فِي أَنَّ الْحَدَثَ أَمْرٌ حَقِيقِيٌّ أَوْ مُجَرَّدُ مَانِعِيَّةٍ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا الْمَاءُ وَحِينَ قِيلَ بِهِ صَارَ مَحِلَّ اجْتِهَادٍ ، غَيْرَ أَنَّ الرَّاجِحَ هُوَ الظَّنُّ .
وَالثَّانِي لِمَا قَدَّمْنَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ مِنْ الْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى إثْبَاتِ أَنَّ الْحَدَث وَصْفٌ حَقِيقِيٌّ قَائِمٌ بِالْأَعْضَاءِ زَائِدٌ عَلَى نَفْسِ الْمَانِعِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَعَلَى هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي ارْتِفَاعِهِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَكَوْنُ الْحَدَثِ يَظْهَرُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَهُ ، إذْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدَثَ اعْتِبَارٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ إلَى غَايَةٍ ثُمَّ يُعِيدُهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ ، وَالدَّلِيلُ الْمُلْجِئُ إلَى هَذَا كَوْنُ رُؤْيَةِ الْمَاءِ لَا يُعْقَلُ وَجْهُ كَوْنِهَا نَفْسَهَا حَدَثًا ثُمَّ النَّظَرُ فِي وَجْهِ تَعْيِينِ كُلٍّ مِنْهُمْ إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بِخُصُوصِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ فِيهِ ، فَأَمَّا وَجْهُ تَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّهُ رَأَى وُجُوبَ الِاحْتِيَاطِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، فَالِاحْتِيَاطُ فِي اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ أَنْ لَا يَصِحَّ ، وَلَا يُعَلَّلُ هَذَا إلَّا بِجِهَةِ الضَّرُورَةِ فَاعْتَبَرَ لَهَا فَيَقُولُ : لَمَّا كَانَتْ ضَرُورِيَّةً حَيْثُ كَانَتْ تُنْتَقَضُ بِوُجُودِ الْمَاءِ وَلَا تَثْبُتُ إلَّا مَعَ عَدَمِهِ كَانَتْ ضَعِيفَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ فَيَكُونُ الِاقْتِدَاءُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بِنَاءَ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ .
وَفِي الرَّجْعَةِ الِاحْتِيَاطُ فِي انْقِطَاعِهَا وَلَا يُعَلَّلُ إلَّا بِجِهَةِ الْإِطْلَاقِ فَاعْتُبِرَ هَاهُنَا ، وَهُمَا لَمَّا عَكَسَا الْحُكْمَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَكْسِ الْمَبْنِيِّ فِيهِمَا بُدٌّ ، وَالْبَاقِي بَعْدَ هَذَا إنَّمَا هُوَ
النَّظَرُ فِي التَّرْجِيحِ فِي الْخِلَافَيْنِ فِي الْحُكْمِ .
وَعِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُمَا فِي الِاقْتِدَاءِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فِي الرَّجْعَةِ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الضَّعْفَ الْكَائِنَ فِي طَهَارَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ لَهُ أَثَرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ عِنْدَنَا ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ شَيْءٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ اقْتِدَاءُ الْمُتَوَضِّئِ بِهِ وَتَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ خُصُوصًا وَالِاحْتِيَاطُ فِي ذَلِكَ وَاجِبٌ .
هَذَا وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ اشْتِرَاطَ الْغُسْلِ بَعْدَ الِانْقِطَاعِ لِتَمَامِ الْعَادَةِ قَبْلَ الْعَشَرَةِ يَرُدُّهُ الدَّلِيلُ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } لِخُلُوِّهِ عَنْ اشْتِرَاطِهِ ، فَاشْتِرَاطُهُ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَرُدُّهُ النَّصُّ .
فَإِنْ أُجِيبَ بِأَنَّ تَعَيُّنَ الِانْقِضَاءِ مُنْتَفٍ لِفَرْضِ أَنَّهُ لَيْسَ أَكْثَرَ الْحَيْضِ وَاحْتِمَالُ عَوْدِ الدَّمِ دُفِعَ بِأَنَّ هَذَا الِاعْتِبَارَ الزَّائِدَ لَا يُجْدِي قَطْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا فِي الْوَاقِعِ وَلَا شَرْعًا ، لِأَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ ثُمَّ عَادَ الدَّمُ وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ كَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ بَعْدَ أَنْ قُلْنَا انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ فَكَانَ الْحَالُ مَوْقُوفًا عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ بَعْدَ الْغُسْلِ كَمَا هُوَ كَذَلِكَ قَبْلَهُ .
وَلَوْ رَاجَعَهَا بَعْدَ هَذَا الْغُسْلِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ بِهِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ثُمَّ عَاوَدَهَا وَلَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ ، وَكَذَا الْكَلَامُ فِي التَّيَمُّمِ فَلَيْسَ جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا مُقَيَّدًا ، هَكَذَا إذَا انْقَطَعَ لِأَقَلِّ مِنْ عَشَرَةٍ وَلَمْ يُعَاوِدْهَا أَوْ عَاوَدَهَا وَتَجَاوَزَهَا ظَهَرَ انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ مِنْ وَقْتِ الِانْقِطَاعِ لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذْ ذَاكَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ قَبْلَ الْغُسْلِ ظَهَرَ صِحَّتُهُ ، وَإِنْ عَاوَدَهَا وَلَمْ يَتَجَاوَزْ فَالْأَحْكَامُ الْمَذْكُورَةُ بِالْعَكْسِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ ) إذْ حِلُّ دُخُولِ الْمَسْجِدِ
وَالْقِرَاءَةِ مِنْ ضَرُورَةِ حِلِّ الصَّلَاةِ وَمُقْتَضَاهُ ، وَكَذَا اللَّمْسُ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى مَسِّ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِنِسْيَانٍ أَوْ غَلَطٍ أَوْ زِيَادَةِ إتْقَانٍ ، وَكَذَا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَقَدْ تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ ( قَوْلُهُ وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ الْحُكْمُ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ ) قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ، فَإِنَّ فَسَادَهَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مُحْتَمَلٌ لِاحْتِمَالِ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِيهَا ، وَلَوْ تَيَمَّمَتْ وَقَرَأَتْ أَوْ مَسَّتْ الْمُصْحَفَ أَوْ دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ ، قَالَ الْكَرْخِيُّ : تَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ ، وَقَالَ الرَّازِيّ : لَا تَنْقَطِعُ بِهِ
( وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ ، فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ .
وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ الْأَكْثَرَ .
وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ تَبْقَى لِأَنَّ حُكْمَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ ، فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا ، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ عَادَةً فَافْتَرَقَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ .
وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ ) وَذَلِكَ كَنَحْوِ الْأُصْبُعِ ، كَذَا فِي الْمُحِيطِ وَالْيَنَابِيعِ ، وَكَذَا بَعْضُ السَّاعِدِ وَالْعَضُدِ وَالْعُضْوِ الْكَامِلِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ( قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ ، إلَى قَوْلِهِ : وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ ) الْحَاصِلُ أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ فِي الْعُضْوِ وَمَا دُونَهُ اسْتِحْسَانٌ ، فَالْقِيَاسُ فِي الْعُضْوِ أَنْ تَنْقَطِعَ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ وَفِي بَعْضِ الْعُضْوِ أَنْ لَا تَنْقَطِعَ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ إلَى حُكْمِ الطَّاهِرَاتِ .
وَلَا يَخْفَى تَأَتِّي كُلٌّ مِنْ الْقِيَاسَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْ الْعُضْوِ وَمَا دُونَهُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَتَعَارَضَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسَانِ : قِيَاسُ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ الرَّجْعَةِ ، وَقِيَاسُ بَقَاءِ الْحَدَثِ بِعَيْنِهِ فَيُوجِبُ عَدَمَ انْقِطَاعِهَا .
وَمَبْنَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيَاسِ الثَّانِي ، إذْ حَاصِلُهُ اعْتِبَارُ ظُهُورِ عَدَمِ إصَابَةِ الْمَاءِ لِشَيْءٍ وَعَدَمُهُ ، فَإِذَا ظَهَرَ عَدَمُهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ ، وَإِذَا ظَهَرَ ثُبُوتُ الْإِصَابَةِ انْقَطَعَتْ غَيْرَ أَنَّ ظُهُورَ التَّرْكِ يَتَحَقَّقُ فِي الْعُضْوِ لَا فِي الْأَقَلِّ .
عَلَى أَنَّ كَوْنَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ قِيَاسًا مَمْنُوعٌ ، بَلْ إنَّمَا يُحْكَمُ بِهِ فِي مَوَاضِعَ خَاصَّةٍ بِخُصُوصِ دَلَائِلَ فِيهَا لَا أَنَّهُ مُطَّرِدٌ شَرْعًا مُمَهِّدٌ .
ثُمَّ وَجْهُ التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ الْجَفَافُ إلَيْهِ بَعْدَ إصَابَةِ الْمَاءِ غَيْرُ بَعِيدٍ ، وَبِتَقْدِيرِهِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ، فَحَكَمَ بِانْقِطَاعِهَا بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا ، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِآخَرَ حَتَّى تَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ احْتِيَاطًا فِي أَمْرِ الْفُرُوجِ ، حَتَّى إنَّهَا لَوْ تَيَقَّنَتْ عَدَمَ إصَابَةِ الْمَاءِ بِأَنْ عَلِمَتْ قَصْدَهَا إلَى إخْلَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَنْ الْإِصَابَةِ .
قُلْنَا : لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ، بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ فَإِنَّ احْتِمَالَ جَفَافِهِ
بَعْدَ الْإِصَابَةِ يَبْعُدُ فِيهِ جِدًّا لِأَنَّ الْغَفْلَةَ عَنْهُ مِمَّنْ هُوَ بِصَدَدِ تَعْمِيمِ جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فَلَمْ تَنْقَطِعْ ( قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ الْعُضْوِ ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ إذْ تَرْكُ كُلٍّ بِانْفِرَادِهِ كَتَرْكِ عُضْوٍ ، وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ كَتَرْكِ مَا دُونَ الْعُضْوِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِمَا ) أَيْ فِي فَرْضِيَّةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِي الْغُسْلِ اخْتِلَافًا فَعَلَى تَقْدِيرِ الِافْتِرَاضِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ السُّنَّةِ تَنْقَطِعُ ، فَقَطَعْنَاهَا مُلَاحَظَةً لِهَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِيَاطًا ، وَلَوْ بَقِيَ أَحَدُ الْمَنْخِرَيْنِ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ
( وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ ) لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } وَذَلِكَ دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكِّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ أَوْلَى .
وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ .
( قَوْلُهُ وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ ) قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ( وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ بَعْدَ الْعَقْدِ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ بِأَنْ تَأْتِيَ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ التَّزَوُّجِ جُعِلَ مِنْهُ شَرْعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } ) وَإِذَا جَعَلَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ فَقَدْ أَنْزَلَهُ وَاطِئًا وَبَطَلَ زَعْمُهُ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِإِقْرَارِهِ بِعَدَمِ حَقِّ الرَّجْعَةِ لَهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ فِي ذَلِكَ حَيْثُ حَكَمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَلَهُ الرَّجْعَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَهَذَا لِعَدَمِ تَعَلُّقِ حَقِّ أَحَدٍ بِسَبَبِ إقْرَارِهِ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ لِإِنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَأُخِذَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ ثُمَّ وَصَلَتْ إلَى يَدِهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا شَرْعًا بِالْحُكْمِ لِلْمُسْتَحِقِّ ثُمَّ بِصِحَّةِ الرُّجُوعِ لَهُ ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ فِي عَبْدِ إنْسَانٍ إنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ أَوْ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ حُكِمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ وَبِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ مَعَ أَنَّ الْحُكْمَ بِصِحَّةِ الشِّرَاءِ فَرْعُ تَكْذِيبِهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَكْذِيبَ الشَّرْعِ إقْرَارَهُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ حَقٍّ لَهُ تَكْذِيبٌ فِي اللَّازِمِ فَيَنْتَفِيَانِ ، وَإِذَا انْتَفَى عَدَمُ الْوَطْءِ وَالرَّجْعَةِ ثَبَتَ وُجُودُهُمَا فَعَادَ حَقُّهُ فِي الرَّجْعَةِ ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّ تَكْذِيبَ الشَّرْعِ يَقْصُرُهُ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَيَبْقَى لَازِمُ الْمُرْتَفَعِ بِالتَّكْذِيبِ كَمَا لَوْ لَمْ يُكَذَّبْ فَلِذَا كُذِّبَ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَثَبَتَ الْحُكْمُ بِهَا ، وَفِي اسْتِحْقَاقِ الْمَقَرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ مَعَ تَكْذِيبِهِ بِالْحُكْمِ لِلْمُسْتَحِقِّ .
فَإِنْ قُلْت
: كَيْفَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ الْمَلْزُومِ مَعَ تَخَلُّفِ اللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ لُزُومًا شَرْعِيًّا لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ يُبْطِلُ اعْتِبَارَ الشَّرْعِ إيَّاهُ لَازِمًا وَقَدْ فَرَضَ اعْتِبَارَهُ لَازِمًا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ فِي اللُّزُومِ الْعَقْلِيِّ .
أَمَّا الشَّرْعِيِّ فَقَدْ يَحْكُمُ الشَّرْعُ بِاللُّزُومِ عَلَى تَقْدِيرٍ فَتَقْتَصِرُ الْمُلَازَمَةُ عَلَيْهِ ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ لِفُلَانٍ ثَبَتَ أَنَّ فُلَانًا أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ بِالْقَضَاءِ بِهِ لِلْمُسْتَحِقِّ فِي إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لِفُلَانٍ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِفُلَانٍ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَقَطْ وَأَنَّهُ لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُقِرِّ فَثَبَتَ اللُّزُومُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( قَوْلُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ ) أَيْ الْوَطْءِ الَّذِي يَثْبُتُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ إيَّاهُ وَالْإِحْصَانُ لَهُ مَدْخَلٌ فِي إيجَابِ الْعُقُوبَةِ فَلَأَنْ تَثْبُتَ بِهِ الرَّجْعَةُ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي الْعُقُوبَةِ أَوْلَى ( قَوْلُهُ وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي مُدَّةٍ تَصْلُحُ بِأَنْ تَلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ يَوْمِ النِّكَاحِ كَمَا قَدَّمْنَا
قَالَ : ( فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ ) لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا ، بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى الْقَبْضِ ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
( قَوْلُهُ وَأَغْلَقَ بَابًا ) الْمُنَاسِبُ أَوْ أَغْلَقَ بِأَوْ كَمَا فَعَلَ فِي أَرْخَى لَا بِالْوَاوِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَفْصِيلٌ لِلْخَلْوَةِ لِاسْتِقْلَالِهِ بِإِثْبَاتِهَا لَا مُبَايِنٌ لَهَا قَوْلُهُ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ ) إذْ بِعَدَمِهِ تَبِينُ بِالطَّلَاقِ لَا إلَى عِدَّةٍ ، وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ الْعِدَّةُ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَصَارَ مُبْطِلًا حَقَّ نَفْسِهِ مِنْ الرَّجْعَةِ ( قَوْله وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا إلَخْ ) جَوَابٌ عَمَّا قَدْ يُقَالُ إنَّهُ هُنَا أَيْضًا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا حَيْثُ لَزِمَهُ تَمَامُ الْمَهْرِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْخَلْوَةِ وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ شَرْعًا إنْزَالًا لَهُ وَاطِئًا شَرْعًا فَمُنِعَ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا أَوْ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُهُ ، بَلْ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى تَمَامِ تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ وَهُوَ بُضْعُهَا بِالتَّخْلِيَةِ الَّتِي هِيَ وُسْعُهَا ، وَلَوْ تَوَقَّفَ لُزُومُ كَمَالِ الْمَهْرِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ هُوَ فِعْلَهَا لَتَضَرَّرَتْ فَلَمْ يَكُنْ مُكَذَّبًا شَرْعًا وَتَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ أَوْ كَذِبِهِمَا وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ فِي إثْبَاتِهَا لِأَنَّ انْقِضَاءَهَا يَسْتَلْزِمُ حِلَّهَا لِلْأَزْوَاجِ فَهِيَ حَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يُصَدَّقَانِ فِي إبْطَالِهَا فَتَصِيرُ الْعِدَّةُ قَائِمَةً شَرْعًا وَلَا رَجْعَةَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقُمْ الْخَلْوَةُ هُنَا مَقَامَ الْوَطْءِ لَمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ .
وَقَوْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ إنَّ الْعِدَّةَ تَسْتَدْعِي سَبَبًا فِي الشُّغْلِ مَرْدُودٌ بِالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ، وَلَوْ قَالَ جَامَعْتهَا كَانَ لَهُ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْوَطْءِ ( قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) يَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا ، وَعَنَى بِهِ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِظُهُورِ الْحَمْلِ حَالَ الطَّلَاقِ أَوْ بِالْوِلَادَةِ قَبْلَ الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ لَهُ فِي قَوْلِهِ لَمْ أُجَامِعْهَا حَيْثُ جَعَلَهُ وَاطِئًا حُكْمًا لِأَنَّ الرَّجْعَةَ تَنْبَنِي عَلَى الدُّخُولِ وَقَدْ ثَبَتَ
لِثُبُوتِ النَّسَبِ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بِلَا مَاءٍ فَتَثْبُتُ
( فَإِنْ رَاجَعَهَا ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ( ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ ) ( صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذْ هِيَ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَأُنْزِلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ
( قَوْلُهُ مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ) أَيْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِاعْتِرَافِهِ بِعَدَمِ الْوَطْءِ ، فَلَوْ جَاءَتْ بَعْدَ هَذِهِ الرَّجْعَةِ بِوَلَدٍ لِأَقَلِّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ صَحَّتْ : أَيْ ظَهَرَ صِحَّتُهَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي ) وَهُوَ إنْزَالُهُ وَاطِئًا بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَحِينَئِذٍ فَالصَّلَفُ فِي الْعِبَارَةِ أَنْ يَقُولَ لِأَنَّ عَلَى الِاعْتِبَارِ الثَّانِي يَحْرُمُ الْوَطْءُ لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ عَلَى زَعْمِهِ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ إذْ الْمُؤَدِّي عَلَى عِبَارَتِهِ هَكَذَا عَلَى اعْتِبَارِ إنْزَالِهِ وَاطِئًا بَعْدَ الطَّلَاقِ يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ ، وَتَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ مِنْ هَذِهِ بِتَكَلُّفٍ بَعْدَ تَوَهُّمِ خَطَئِهَا ( قَوْلُهُ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ ) فَإِنْ قِيلَ : وَالظَّاهِرُ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ ، فَالْجَوَابُ لَا بُدَّ مِنْ أَحَدِ الِاعْتِبَارَيْنِ وَعَلَى الْأَوَّلِ يَلْزَمُ كَذِبُهُ وَعَلَى الثَّانِي يَلْزَمُ الزِّنَا وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ الْكِذْبَةِ
( فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ فَهِيَ رَجْعَةٌ ) مَعْنَاهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ عَلُوقٍ حَادِثٍ مِنْهُ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا
( قَوْلُهُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ) أَنْ فِيهِ لِلْوَصْلِ ، فَأَفَادَ أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَعْنَاهُ : أَيْ فَصَاعِدًا أَقَلُّ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَإِنْ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، لِأَنَّ الثَّانِيَ يُضَافُ إلَى عَلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ امْتِدَادَ الطُّهْرِ لَا غَايَةَ لَهُ إلَّا الْإِيَاسُ وَبِهِ يَصِيرُ مُرَاجِعًا ، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ لَا يَكُونُ رَجْعَةً ، وَفِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ يَكُونُ رَجْعَةً لِاحْتِمَالِ الْعَلُوقِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَإِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ سَقَطَ هُنَا لِأَنَّهُمَا إذَا كَانَا مِنْ بَطْنَيْنِ كَانَ الثَّانِي مِنْ وَطْءٍ حَادِثٍ أَلْبَتَّةَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُمَا حِينَئِذٍ مِنْ بَطْنٍ وَاحِدٍ إذْ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يُوجِبُ الْحُكْمَ بِكَوْنِ الثَّانِي مِنْ وَطْءٍ عَلَى حِدَتِهِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ بِوِلَادَةِ الْأَوَّلِ فَلَمْ تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا بِالْوَطْءِ الْكَائِنِ بَعْدَ الطَّلَاقِ
( وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ طَلَاقٌ وَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ وَكَذَا الثَّالِثُ ) لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَصَارَتْ مُعْتَدَّةً ، وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّانِي بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ ، وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا ذَكَرْنَا ، وَتَقَعُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَةِ الثَّالِثِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا حَائِلٌ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ حِينَ وَقَعَ الطَّلَاقُ
( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ ) وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَهُمَا تَوْءَمَانِ فَيَقَعُ طَلْقَتَانِ بِالْأَوَّلَيْنِ لَا غَيْرَ إذْ بِالثَّالِثِ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلَانِ فِي بَطْنٍ وَالثَّالِثُ فِي بَطْنٍ تَقَعُ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْأَوَّلِ لَا غَيْرُ ، وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالثَّانِي وَلَا يَقَعُ بِالثَّالِثِ شَيْءٌ ، وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ فِي بَطْنٍ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ فِي بَطْنٍ يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَتَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِالثَّالِثِ فَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ ، وَإِذَا كَانُوا فِي بُطُونٍ فَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ ، وَكَذَا الثَّالِثُ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَبِالْوَلَدِ الثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا .
وَقَوْلُهُ وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا مَعْنَاهُ ظَهَرَ بِهِ الرَّجْعَةُ سَابِقًا ثُمَّ يَقَعُ بِالثَّانِي طَلْقَةٌ ثَانِيَةٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِكُلَّمَا الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّكْرَارِ وَدَخَلَتْ فِي الْعِدَّةِ وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ تَظْهَرُ رَجْعَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَتَقَعُ الثَّالِثَةُ بِوِلَادَتِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْوَطْءِ فِي النِّفَاسِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ النِّفَاسَ لَا يَلْزَمُ لَهُ كَمْيَّةٌ خَاصَّةٌ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُمْتَدٌّ وَجَازَ أَنْ لَا تَرَى شَيْئًا أَصْلًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ فَلَمْ يَلْزَمْ الْحُكْمُ بِالْوَطْءِ
( وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ ) لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ الرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَالتَّزَيُّنُ حَامِلٌ لَهُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا ( وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا أَوْ يُسْمِعَهَا خَفْقَ نَعْلَيْهِ ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى مَوْضِعٍ يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا ) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ : لَهُ ذَلِكَ لِقِيَامِ النِّكَاحِ ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا عِنْدَنَا .
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } الْآيَةَ ، وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمَلَ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَلِهَذَا تُحْتَسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ الْإِخْرَاجَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلُ الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الزَّوْجِ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا مَعْنَاهُ الِاسْتِحْبَابُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ
( قَوْلُهُ تَتَشَوَّفُ ) التَّشَوُّفُ خَاصٌّ بِالْوَجْهِ وَالتَّزَيُّنُ عَامٌ مِنْ شُفْت الشَّيْءَ جَلَوْته وَدِينَارٌ مُشَوَّفٌ : أَيْ مَجْلُوٌّ وَهُوَ أَنْ تَجْلُوَ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَهُ ( قَوْلُهُ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ) وَكَذَا جَمِيعُ أَحْكَامِهِ مِنْ التَّوَارُثِ .
وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَتَطْلُقُ سِوَى الْمُسَافَرَةِ بِهَا فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ لِنَصٍّ فِيهَا عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } نَزَلَتْ فِي الرَّجْعِيَّةِ لِسِيَاقِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أَيْ يَبْدُوَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ، وَلِحُرْمَتِهَا بِهَذَا النَّصِّ لَمْ تُجْعَلْ رَجْعَةً لِأَنَّ الرَّجْعَةَ مَنْدُوبَةٌ وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا حَرَامٌ .
قِيلَ وَلَا دَلَالَتُهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ يُصَرِّحُ بِعَدَمِ رَجْعَتِهَا .
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّ التَّقْبِيلَ بِشَهْوَةٍ وَنَحْوَهُ يَكُونُ نَفْسُهُ رَجْعَةً وَإِنْ نَادَى عَلَى نَفْسِهِ بِعَدَمِ الرَّجْعَةِ ، وَجَوَابُهُ الْفَرْقُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَمَا قُلْنَا ، وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ لَا يَحِلُّ الْخُرُوجُ بِهَا إلَى مَا دُونَهُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مَنُوطَةً بِالسَّفَرِ بَلْ بِالْخُرُوجِ ، وَكَمَا يُكْرَهُ السَّفَرُ بِهَا تُكْرَهُ الْخَلْوَةُ إذْ قَدْ يَنْظُرُ نَظَرًا يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا وَهُوَ لَا يُرِيدُ الرَّجْعَةَ فَيُطَلِّقُهَا أُخْرَى فَيُؤَدِّي إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ حَرَامٌ .
وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ : إنَّمَا تُكْرَهُ الْخَلْوَةُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ غَشَيَانَهَا إذْ يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِغَيْرِ إشْهَادٍ وَهُوَ مَكْرُوهٍ ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ إذَا أَمِنَ لَا يُكْرَهُ ، وَأَنَّ كَرَاهَةَ الْخَلْوَةِ حِينَئِذٍ تَنْزِيهِيَّةٌ ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ إلَى التَّعْلِيلِ بِاحْتِمَالِ النَّظَرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا كَأَنَّهُ لِبُعْدِهِ جِدًّا حَيْثُ كَانَ إنَّمَا هُوَ النَّظَرُ إلَى دَاخِلِ الْفَرْجِ ، وَقَلَّ أَنْ يَقَعَ مَعَ الْخَلْوَةِ ،
حَتَّى إنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مَعَ زَوْجَتِهِ الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ سِنِينَ لَا يَقَعُ لَهُ هَذَا النَّظَرُ إلَّا إنْ تَعَمَّدْهُ قَصْدًا حَالَةَ الْجِمَاعِ ، لَكِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ : يَعْنِي الطَّلَاقَ وَعَمَلَهُ قُطِعَ النِّكَاحُ لِحَاجَتِهِ : أَيْ لِحَاجَةِ الزَّوْجِ إلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ : أَيْ الْعِدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الرَّجْعَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمِلَ الْإِبَانَةَ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَأَنَّ مُسَافَرَتَهُ بِهَا كَانَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ كَمَا يَقْتَضِي قَصْرَ كَرَاهَةِ الْمُسَافَرَةِ عَلَى تَقْدِيرِ مَا إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ كَذَلِكَ يَقْتَضِي حُرْمَةَ الْخَلْوَةِ بِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الرَّجْعَةَ ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا ظَهَرَتْ حَاجَتُهُ ، وَأَنَّ الْمُبْطِلَ لَمْ يَعْمَلْ أَصْلًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخَلْوَةَ وَالْمُسَافَرَةَ لَمْ يَكُونَا بِأَجْنَبِيَّةٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ احْتِسَابُ الْأَقْرَاءِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْعِدَّةِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُبْطِلُ مُقْتَصِرًا عَلَى انْقِضَائِهَا لَمْ تُحْتَسَبْ وَاحْتِيجَ إلَى عِدَّةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ .
وَالْأَوْجَهُ تَحْرِيمُ السَّفَرِ مُطْلَقًا لِإِطْلَاقِ النَّصِّ فِي مَنْعِ السَّفَرِ بِهَا دُونَ الْخَلْوَةِ لِعَدَمِ النَّصِّ وَقُصُورِ الْمَعْنَى وَهُوَ لُزُومُ الْمُرَاجَعَةِ بِالنَّصِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلُزُومُ ظُهُورِ أَنَّ الْخَلْوَةَ بِأَجْنَبِيَّةٍ غَيْرُ ضَائِرٍ إذْ حَالَةُ تَحَقُّقِهَا كَانَتْ زَوْجَةً يُبَاحُ مَعَهَا شَرْعًا مَا يُبَاحُ مِنْ الزَّوْجَةِ
( وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ .
وَلَنَا أَنَّهَا قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ اسْتِبْدَادَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً إذْ الدَّلِيلُ يُنَافِيهِ وَالْقَاطِعُ أَخَّرَ عِلْمَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ وَذَلِكَ ) يَعْنِي اسْتِبْدَادَهُ بِهِ ( يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً وَالدَّلِيلُ يُنَافِيهِ ) أَيْ دَلِيلَ الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا يُنَافِيهِ : أَيْ يُنَافِي الْإِنْشَاءَ لِأَنَّ لَوْ كَانَ إنْشَاءً وَلَوْ مِنْ وَجْهٍ لَمْ يَسْتَبِدَّ بِهِ الزَّوْجُ بَلْ احْتَاجَ إلَى رِضَا الْمَرْأَةِ وَإِذْنِهَا وَالشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ عِنْدَ مَنْ يُوجِبُهُ احْتِيَاطًا ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الرَّجْعِيِّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ النُّصُوصِ فَارْجِعْ إلَيْهِ ( قَوْلُهُ وَالْقَاطِعُ إلَخْ ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ الزَّوْجِيَّةُ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ .
قُلْنَا نَعَمْ وُجِدَ ، وَلَكِنْ أَخَّرَ عَمَلَهُ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الرَّجْعَةَ تَثْبُتُ بِلَا رِضَاهَا يُفِيدُ أَنَّ عَمَلَهُ وَهُوَ الْقَطْعُ مُؤَخِّرٌ .
أَوْ نَقُولُ : تَأَخَّرَ عَمَلُهُ نَظَرًا لِلزَّوْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ( وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا ) لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ بَاقٍ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ فَيَنْعَدِمُ قَبْلَهُ ، وَمَنْعُ الْغَيْرِ فِي الْعِدَّةِ لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ
( فَصْلٌ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ) لَمَّا ذَكَرَ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ ذَكَرَ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ غَيْرُهُ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ حِلَّ الْمَحَلِّيَّةِ ) تَرْكِيبٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّ حِلَّ الْمَحِلِّ بَاقٍ أَوْ لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ بَاقِيَةٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَحَلِّيَّةَ هِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ مَحِلًّا وَلَا مَعْنَى لِنِسْبَةِ الْحِلِّ إلَيْهَا إذْ لَا مَعْنَى يَحِلُّ كَوْنُهَا مَحِلًّا ( قَوْلُهُ لِأَنَّ زَوَالَهُ ) مَرْجِعُ الضَّمِيرِ الْحِلُّ وَضَمِيرُ فَيَنْعَدِمُ لِلزَّوَالِ ( قَوْلُهُ وَمَنْعُ الْغَيْرِ ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ مَا فَرْقٌ بَيْنَ الزَّوْجِ وَغَيْرِهِ حَيْثُ جَازَ فِي الْعِدَّةِ لِلزَّوْجِ التَّزَوُّجُ لَا لِغَيْرِهِ فَأَجَابَ بِلُزُومِ اشْتِبَاهِ النَّسَبِ فِي الْأَجْنَبِيِّ دُونَ الزَّوْجِ وَهُوَ سَهْلٌ ، وَقَدْ يُقَرِّرُ هَكَذَا الْمَنْعُ فِي الْعِدَّةِ عَامٌّ بِالنَّصِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } يَعْنِي انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فَكَيْفَ جَازَ لِلزَّوْجِ تَزَوُّجُهَا فِي الْعِدَّةِ ؟ حَاصِلُ هَذَا اسْتِشْكَالُ الْإِطْلَاقِ لِلزَّوْجِ فِي الْعِدَّةِ وَعُمُومُ النَّصِّ يَمْنَعُهُ .
وَالْأَوَّلُ طَلَبُ الْفَرْقِ .
قُلْنَا : عُمُومُهُ فِي ضَمِيرِ تَعْزِمُوا ، وَفِي الْعِدَّةِ خَصَّ مِنْهَا الْعِدَّةَ مِنْ الزَّوْجِ نَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَلْزَمُ تَخْصِيصُهُ مِنْ الْعُمُومِ الْأَوَّلِ .
وَحِكْمَةُ شَرْعِيَّةِ الْعِدَّةِ فِي الْأَصْلِ أَنْ لَا يَشْتَبِهَ النَّسَبُ ( وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ ) أَيْ إطْلَاقَ صَاحِبِ الْعِدَّةِ عَنْ ذَلِكَ الْمَنْعِ لِأَنَّ الْمَاءَ مَاؤُهُ فَلِذَلِكَ جَازَ الْإِجْمَاعُ عَلَى إطْلَاقِهِ وَأَطْلَقَ ، وَلَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانَ عِلَّةِ دَلِيلِ التَّخْصِيصِ : أَعْنِي الْإِجْمَاعَ ، لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْآيِسَةَ لَا اشْتِبَاهَ فِي حَقِّهِمَا مَعَ عَدَمِ إطْلَاقِ الْغَيْرِ فِيهِمَا بَلْ بَيَانُ عَدَمِ الْمَانِعِ مِنْ إطْلَاقِهِ ، وَعَدَمُ الْمَانِعِ لَا يُعَلَّلُ بِهِ ، لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ
مَعَ الْمَانِعِ بَلْ هُوَ مُنْتَفٍ فَجَازَ الْإِجْمَاعُ ، وَبَسَطَهُ أَنَّ الْعِدَّةَ بِعِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الِاشْتِبَاهِ فَوُجُودُ الْحَاجَةِ إلَى الدَّفْعِ مُقْتَضٍ لِثُبُوتِ الْعِدَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّزَوُّجِ ، فَفِي مَحِلٍّ لَا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ الْحَاجَةِ إلَى الدَّفْعِ كَمَا فِي صَاحِبِ الْعِدَّةِ فُقِدَ الْمَانِعُ مِنْ عَدَمِهَا إلَّا أَنَّهُ وُجِدَ الْمُقْتَضِي لِلْعَدَمِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعَكْسِ : يَعْنِي لَيْسَ عَدَمُهَا عِلَّةً لِعَدَمِ الْحُكْمِ وَلِذَلِكَ ثَبَتَ الْحُكْمُ : أَعْنِي وُجُودَ الْعِدَّةِ مَعَ عَدَمِهَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } إمَّا بِعِلَّةٍ أُخْرَى ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إظْهَارُ الْخَطَرِ الْمُحَلِّ إذَا تَأَمَّلْت حَيْثُ مُنِعَ عَنْ وُرُودِ مِلْكِ الِاسْتِمْتَاعِ عَلَيْهِ مُدَّةً لِيَعُزَّ عَلَى الرَّاغِبِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْلَقَ مُطْلَقًا كَمَا أَظْهَرَ خَطَرَهُ مَرَّةً أُخْرَى بِاشْتِرَاطِ جَمْعِ النَّاسِ لِيَشْهَدُوهُ أَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا أَوْ هِيَ فِيهِمَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ ، وَلَمْ يُمْكِنْ إخْرَاجُهُمَا مِنْ حُكْمِ الْعِدَّةِ مَعَ النَّصِّ عَلَيْهِمَا وَفِي غَيْرِهِمَا مُعَلَّلٌ بِمَا قُلْنَا فَلَيْسَتْ الْعِدَّةُ مُطْلَقًا تَعَبُّدِيَّةً
( وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا ) وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَالْمُرَادُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ ، وَالثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ، لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ ثُمَّ الْغَايَةُ نِكَاحُ الزَّوْجِ مُطْلَقًا ، وَالزَّوْجِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ ، وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى الْوَطْءِ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ إذْ الْعَقْدُ اُسْتُفِيدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّوْجِ أَوْ يُزَادَ عَلَى النَّصِّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ } رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ .
وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ ، وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ دُونَ الْإِنْزَالِ لِأَنَّهُ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ وَالْكَمَالُ قَيْدٌ زَائِدٌ
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ إلَخْ ) لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُطَلَّقَةِ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لِصَرِيحِ إطْلَاقِ النَّصِّ ، وَقَدْ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا تَحِلُّ بِلَا زَوْجٍ وَهُوَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ مُصَادِمَةٌ لِلنَّصِّ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ رَآهُ أَنْ يَنْقُلَهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَعْتَبِرَهُ لِأَنَّ فِي نَقْلِهِ إشَاعَتَهُ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْفَتِحُ بَابٌ لِلشَّيْطَانِ فِي تَخْفِيفِ الْأَمْرِ فِيهِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ لِفَوْتِ شَرْطِهِ مِنْ عَدَمِ مُخَالِفَةِ الْكِتَابِ وَالْإِجْمَاعِ ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ .
وَمِمَّا صُرِّحَ فِيهِ بِعَدَمِ الْفَرْقِ مُخْتَارَاتُ النَّوَازِلِ وَالْأَمْرُ فِيهِ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ لَا يَبْعُدُ إكْفَارُ مُخَالِفِهِ ( قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ ) أَيْ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ طَلَّقَهَا ( الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ ) لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا عَقِيبَ الطَّلْقَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ثُمَّ قَالَ فَإِنْ طَلَّقَهَا أَيْ الثَّالِثَةَ هَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّ الثَّالِثَةَ هِيَ قَوْلُهُ { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَإِنَّ { أَبَا رَزِينٍ الْعُقَيْلِيَّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَرَفْتُ الطَّلْقَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ ؟ فَقَالَ : فِي قَوْلِهِ { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } } كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ، وَكَأَنَّ الْمُرَادَ الْخِلَافُ فِي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الثَّالِثَةِ أَنَّهُ وَقَعَ بِلَفْظِ التَّسْرِيحِ أَوْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا } إذْ لَا يُمْكِنُ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ لِأَنَّهُ عَقَّبَهَا بِقَوْلِهِ فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَالْحَقُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّسْرِيحِ الثَّالِثَةُ وَلَا تَكْرَارَ ، فَإِنَّ
الثَّانِيَ ذُكِرَ شَرْطَا لِإِعْطَاءِ حُكْمِ الثَّالِثَةِ ، وَالْأَوَّلُ ذُكِرَ لِبَيَانِ ابْتِدَاءِ شَرْعِيَّةِ الثَّالِثَةِ .
وَحَاصِلُهُ أَنْ يُقَالَ شَرَعَهَا ثَلَاثًا وَرَتَّبَ عَلَى الثَّالِثَةِ حُكْمًا وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } وَبَعْدَ هُمَا إمَّا إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِثَالِثَةٍ بِإِحْسَانٍ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ اخْتِيَارًا لِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ الْجَائِزَيْنِ لَهُ فَحُكْمُهُ أَنْ لَا تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، فَتَحَصَّلَ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُرَادٌ بِهِ الثَّالِثَةُ ( قَوْلُهُ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ ) فِيهِ مَا سَبَقَ ( قَوْلُهُ ثُمَّ الْغَايَةُ ) أَيْ غَايَةَ عَدَمِ الْحِلِّ الثَّابِتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَحِلُّ لَهُ } هُوَ الزَّوْجُ الثَّابِتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَلِذَا قُلْنَا لَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ مَلَكَهَا أَوْ ثَلَاثًا لِحُرَّةٍ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى الدَّارِ فَمَلَكَهَا لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَتَّى يُزَوِّجَهَا فَيَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا ( قَوْلُهُ وَالزَّوْجِيَّةُ ) مُطْلَقًا ، وَكَذَا الزَّوْجُ مُطْلَقًا إنَّمَا يَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ ، أَوْ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الْمُسْتَقْبَلِ دُونَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ بِخِلَافِهِ مُضَافًا إلَى الْمَاضِي ، لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْأَوَّلِ التَّحَصُّنُ وَالْإِعْفَافُ وَهُوَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالصَّحِيحِ ، وَفِي الثَّانِي صِدْقُ الْإِخْبَارِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالتَّزَوُّجِ فَاسِدًا وَلِذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِالْفَاسِدِ لَا فِي حَلِفِهِ لَا يَتَزَوَّجُ ( قَوْلُهُ وَشَرْطُ الدُّخُولِ ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ إلَخْ ) وَلَا يَخْفَى أَنَّ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهِ عَلَى الْوَطْءِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِعِبَارَةِ النَّصِّ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالسَّوْقِ ( قَوْلُهُ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ ) يَعْنِي أَنَّ الْإِعَادَةَ لَازِمٌ عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِ
لَفْظِ تَنْكِحَ عَلَى الْعَقْدِ لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجِ يَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ حِينَئِذٍ مَجَازًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَرْأَةِ إذْ هُوَ حَالَ نِسْبَتِهِ إلَيْهَا يُرَادُ بِهِ التَّمْكِينُ مِنْ حَقِيقَتِهِ لَا حَقِيقَتُهُ ، فَإِنَّ الْمَجَازَ فِي الْكَلَامِ أَكْثَرُ مِنْ الْإِعَادَةِ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى الْعُمُومِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ عَلَى رَأَيْنَا وَهُوَ أَنَّ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْعَقْدِ مُجَازَيْنَ النِّكَاحُ فِي الْعَقْدِ مَجَازٌ فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ وَالزَّوْجُ فِي الْأَجْنَبِيِّ مَجَازٌ بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ ، وَعَلَى الْوَطْءِ مَجَازٌ وَاحِدٌ وَهُوَ النِّكَاحُ فِي التَّمْكِينِ وَالزَّوْجُ حِينَئِذٍ حَقِيقَةٌ ( قَوْلُهُ أَوْ يُزَادَ عَلَى النَّصِّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ ) هَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ إذَا أُرِيدَ بِلَفْظِ تَنْكِحَ فِي النَّصِّ الْعَقْدُ لَا عَلَى إرَادَةِ الْوَطْءِ فِيهِ ( قَوْلُهُ يُرْوَى بِرِوَايَاتٍ ) رَوَى الْجَمَاعَةُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يُوَاقِعَهَا أَتَحِلُّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ ؟ قَالَ : لَا حَتَّى يَذُوقَ الْآخَرُ مِنْ عُسَيْلَتِهَا مَا ذَاقَ الْأَوَّلُ } وَرَوَى الْجَمَاعَةُ إلَّا أَبَا دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ بِفَتْحِ الزَّايِ لَا غَيْرُ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ لَا ، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ : { إنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ } وَفِي
لَفْظِ الْبُخَارِيِّ { كَذَبَتْ وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَنْفُضُهَا نَفْضَ الْأَدِيمِ وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رِفَاعَةَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَحِلِّي لَهُ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ قَالَ وَكَانَ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنُوكَ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا وَأَنْتِ تَزْعُمِينَ مَا تَزْعُمِينَ ، فَوَاَللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ } وَهُوَ فِي الْمُوَطَّإِ هَكَذَا : أَنْبَأْنَا مَالِكٌ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ الزَّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ { أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمِيمَةَ بِنْتَ وَهْبٍ ثَلَاثًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَحَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزَّبِيرِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَمَسَّهَا فَفَارَقَهَا ، فَأَرَادَ رِفَاعَةُ أَنْ يَنْكِحَهَا فَنَهَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : لَا تَحِلُّ لَك حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ } وَوَقَعَ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ عَكْسُ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْظَةَ يُقَالُ لَهَا تَمِيمَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَحْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزَّبِيرِ فَطَلَّقَهَا فَتَزَوَّجَهَا رِفَاعَةُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ثُمَّ فَارَقَهَا الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ يَا تَمِيمَةُ لَا تَرْجِعِي إلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ رَجُلٌ غَيْرُهُ } قَالَ لَمْ يَرْوِهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ إلَّا سَلَمَةُ أَبُو الْفَضْلِ ( قَوْلُهُ وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ ) أَيْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، أَوْ الْمُرَادُ الْخِلَافُ الْعَالِي سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ كَوْنُ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيِّ وَالشِّيعَةِ قَائِلِينَ بِقَوْلِهِ ، وَاسْتُغْرِبَ ذَلِكَ مِنْ سَعِيدٍ حَتَّى قِيلَ لَعَلَّ
الْحَدِيثَ لَمْ يَبْلُغْهُ ( قَوْلُهُ لَا يَنْفُذُ ) لِمُخَالَفَتِهِ الْحَدِيثَ الْمَشْهُورَ .
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ : وَمَنْ أَفْتَى بِهَذَا الْقَوْلِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ انْتَهَى .
وَهَذَا لِأَنَّ شَرْعِيَّةَ ذَلِكَ لِإِغَاظَةِ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَسْرَحَ فِي كَثْرَةِ الطَّلَاقِ عُومِلَ بِمَا يَبْغُضُ حِينَ عَمِلَ أَبْغَضَ مَا يُبَاحُ ( قَوْلُهُ وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ ) بِقَيْدِ كَوْنِهِ عَنْ قُوَّةِ نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَلْفُوفًا بِخِرْقَةٍ إذَا كَانَ يَجِدُ لَذَّةَ حَرَارَةِ الْمَحِلِّ ، فَلَوْ أَوْلَجَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ لَا بِقُوَّتِهِ بَلْ بِمُسَاعِدَةِ الْيَدِ لَا يَحِلُّهَا إلَّا إنْ انْتَعَشَ وَعَمِلَ ، وَالصَّغِيرُ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ لَذَّةً أَصْلًا ، بِخِلَافِ مَنْ فِي آلَتِهِ فُتُورٌ وَأَوْلَجَهَا فِيهَا حَتَّى الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِهِ ، وَخَرَجَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي لَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ يُولَجُ فِي مَحِلِّ الْحِلِّ : أَيْ فِي مَحِلِّ الْخِتَانِ فَلَا يَحِلُّ بِسُحْقِهِ حَتَّى تَحْبَلَ .
وَفِي الْمَبْسُوطِ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ : إنْ كَانَ الْمَجْبُوبُ لَا يُنْزِلُ لَا يَحِلُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا جَفَّ مَاؤُهُ صَارَ كَالصَّبِيِّ أَوْ دُونَهُ وَدَخَلَ الْخَصِيُّ الَّذِي مِثْلُهُ يُجَامِعُ فَيُحِلُّهَا .
وَفِي التَّجْرِيدِ : لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا لَمْ يَحِلَّ ، فَإِنْ حَبِلَتْ وَوَلَدَتْ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَفِي الْخُلَاصَةِ : لَوْ كَانَ مَسْلُولًا وَجَامَعَهَا حَلَّتْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَالْحَسَنِ وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ فِي الْمَحِلِّ بِيَقِينٍ ، حَتَّى لَوْ جَامَعَهَا وَهِيَ مُفْضَاةٌ لَا تَحِلُّ مَا لَمْ تَحْبَلْ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً لَا يُوطَأُ مِثْلُهَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا فَوَطِئَهَا هَذَا الزَّوْجُ فَأَفْضَاهَا لَا يُحِلُّهَا ، وَإِنْ كَانَ يُوطَأُ مِثْلُهَا حَلَّتْ وَإِنْ أَفْضَاهَا ( قَوْلُهُ دُونَ الْإِنْزَالِ ) خِلَافًا لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ لَا تَحِلُّ
عِنْدَهُ حَتَّى يُنْزِلَ الثَّانِي حَمْلًا لِلْعُسَيْلَةِ عَلَيْهِ ، وَمُنِعَ بِأَنَّهَا تَصْدُقُ مَعَهُ وَمَعَ الْإِيلَاجِ وَإِنَّمَا هُوَ كَمَالٌ .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْعُسَيْلَةُ هِيَ الْجِمَاعُ } انْتَهَى .
فَحَيْثُ صَدَقَ مُسَمَّى الْجِمَاعِ تَثْبُتُ فِيهِ إلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ ابْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَكِّيِّ مَجْهُولٌ
( وَالصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فِي التَّحْلِيلِ كَالْبَالِغِ ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ ، وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِيهِ ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ .
وَفَسَّرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ : غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ يُجَامِعُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ وَأَحَلَّهَا عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنْ تَتَحَرَّك آلَتُهُ وَيَشْتَهِي ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا لِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ مَائِهَا وَالْحَاجَةِ إلَى الْإِيجَابِ فِي حَقِّهَا ، أَمَّا لَا غُسْلَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ تَخَلُّقًا قَالَ ( وَوَطْءُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لَا يُحِلُّهَا ) لِأَنَّ الْغَايَةَ نِكَاحُ الزَّوْجِ
( قَوْلُهُ وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ ) فِيهِ نَظَرٌ ، إذْ لَوْ كَانَ هُوَ الشَّرْطُ لَيْسَ غَيْرَهُ حَلَّتْ بِدُخُولِ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ لَكِنَّهَا لَا تَحِلُّ بِهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ الْعُسَيْلَةَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الزَّوْجِ مِمَّنْ يَلْتَذُّ أَيْضًا ، وَسَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لَا بِغَيْرِ إذْنِهِ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا إذَا كَانَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فِي الذِّمِّيَّةِ حَتَّى يُحِلَّهَا لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ .
وَلَوْ تَزَوَّجَتْ عَبْدًا بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَجَازَ السَّيِّدُ النِّكَاحَ فَلَمْ يَطَأْهَا بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى طَلَّقَهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَطَأَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ ، وَتَحِلُّ بِوَطْءِ الزَّوْجِ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْإِحْرَامِ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا .
رَجُلٌ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ فَاشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا لَهُ عَشْرُ سِنِينَ فَزَوَّجَهُ مِنْ مُطَلَّقَتِهِ فَجَامَعَهَا ثُمَّ مَلَّكَهَا إيَّاهُ فَقَبِلَتْ انْفَسَخَ النِّكَاحُ وَحَلَّتْ لِلزَّوْجِ ( قَوْلُهُ وَفَسَّرَهُ ) أَيْ فَسَّرَ الصَّبِيَّ الْمُرَاهِقَ فِي الْجَامِعِ فَقَالَ : غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ يُجَامِعُ ، وَفِي الْمَنَافِعِ : الْمُرَاهِقُ الدَّانِي مِنْ الْبُلُوغِ ، وَقِيلَ الَّذِي تَتَحَرَّكُ آلَتُهُ وَيَشْتَهِي الْجِمَاعَ .
وَفِي فَوَائِدِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ : إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشْرِ سِنِينَ .
وَلَا تَنْسَ مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي بَابِ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَكْفَاءِ مِنْ اشْتِرَاطِ كَوْنِ الزَّوْجِ كُفُؤًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِلْفَتْوَى فِي زَمَانِنَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ زَوَّجَتْ الْحُرَّةُ نَفْسَهَا عَبْدًا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِدُخُولِهِ ( قَوْلُهُ وَوَطْءُ الْمَوْلَى لَا يُحِلُّهَا ) لِزَوْجِهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ غَايَةَ الْحُرْمَةِ نِكَاحُ الزَّوْجِ وَلَيْسَ الْمَوْلَى زَوْجًا
( وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ مَكْرُوهٌ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُهُ ( فَإِنْ طَلَّقَهَا بَعْدَمَا وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُؤَقَّتِ فِيهِ وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ فَيُجَازَى بِمَنْعِ مَقْصُودِهِ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُوَرِّثِ
( قَوْلُهُ بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ ) أَيْ بِأَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُك عَلَى أَنْ أُحِلَّك لَهُ أَوْ تَقُولَ هِيَ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ الْمُنْتَهِضَةِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } أَمَّا لَوْ نَوَيَاهُ وَلَمْ يَقُولَاهُ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ مَأْجُورًا لِقَصْدِهِ الْإِصْلَاحَ .
وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ وَجَابِرٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَالتَّخْرِيجُ عَنْ بَعْضِهِمْ يَكْفِينَا فَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ قَالَ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } .
وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَحَدِيثُ عُقْبَةَ هَكَذَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ ؟ قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : هُوَ الْمُحَلِّلُ ، لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ .
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : إسْنَادُهُ حَسَنٌ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي عِلَلِهِ الْكُبْرَى عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ : مَا أَرَاهُ سَمِعَ مِنْ مِشْرَحِ بْنِ هَاعَانَ وَلَا رُوِيَ عَنْهُ .
وَدُفِعَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْإِسْنَادِ قَالَ لِي أَبُو مُصْعَبٍ مِشْرَحٌ يَرُدُّ ذَلِكَ .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مُعَنْعَنًا عَنْ أَبِي صَالِحٍ كَاتِبِ اللَّيْثِ عَنْ اللَّيْثِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ حَسَّنَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فَإِنَّهُ رَوَاهُ مِنْ جِهَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ ، وَإِلَّا فَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ لِأَنَّ شَيْخَ ابْنِ مَاجَهْ يَحْيَى بْنُ عُثْمَانَ ذَكَرَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي تَارِيخِ الْمِصْرِيِّينَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِعِلْمٍ وَضَبْطٍ ، وَأَبُوهُ عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ ثِقَةٌ ، أَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَمِشْرَحٌ ، وَثَّقَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ أَنَّهُ وَثَّقَهُ .
وَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ
أَبِي حَاتِمٍ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا ابْنُ الْقَطَّانِ وَلَا غَيْرُهُ .
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّخْرِيجِ : الْمُصَنِّفُ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى كَرَاهَةِ النِّكَاحِ الْمَشْرُوطِ بِهِ التَّحْلِيلُ وَظَاهِرُهُ التَّحْرِيمُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ ، لَكِنْ يُقَالُ لَمَّا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا دَلَّ عَلَى صِحَّةِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ هُوَ الْمُثَبِّتُ لِلْحِلِّ فَلَوْ كَانَ فَاسِدًا لَمَا سَمَّاهُ مُحَلِّلًا انْتَهَى .
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ اعْتِرَاضٌ ثُمَّ جَوَابُهُ .
أَمَّا الِاعْتِرَاضُ فَمَنْشَؤُهُ عَدَمُ مَعْرِفَةِ اصْطِلَاحِ أَصْحَابِنَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُطْلِقُونَ اسْمَ الْحَرَامِ إلَّا عَلَى مَنْعٍ ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ ، فَإِذَا ثَبَتَ بِظَنِّيٍّ سَمَّوْهُ مَكْرُوهًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ سَبَبٌ لِلْعِقَابِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ فَكَلَامُهُ فِيهِ يَقْتَضِي تَلَازُمَ الْحُرْمَةِ وَالْفَسَادِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ يُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ مَعَ لُزُومِ الْإِثْمِ فِي الْعِبَادَاتِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا خُصُوصًا عَلَى مَا يُعْطَى كَلَامُهُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَنْعِ الثَّابِتِ بِظَنِّيٍّ حَرَامًا ( قَوْلُهُ وَهَذَا ) أَيْ الْمُحَلِّلَ الشَّارِطَ هُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ لِأَنَّ عُمُومَهُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ مُطْلَقًا غَيْرُ مُرَادٍ إجْمَاعًا وَإِلَّا شَمِلَ الْمُتَزَوِّجَ تَزْوِيجَ رَغْبَةٍ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُوَقِّتِ ) وَالْمُوَقِّتُ فِي مَعْنَى الْمُتْعَةِ ، أَوْ هُوَ الْمُتْعَةُ عَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ فَيَفْسُدُ فَلَا يُحِلُّهَا وَتَسْمِيَتُهُ مُحَلِّلًا لَا يَسْتَلْزِمُ الْحِلَّ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ شَارِطًا أَوْ طَالِبًا لِلْحِلِّ وَلِأَنَّهُ مَلْعُونٌ ، وَعَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ ، وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمْ يُلْعَنْ عَلَيْهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَهَا أَخٌ لَهُ لِيُحِلَّهَا لِأَخِيهِ هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قَالَ : لَا إلَّا نِكَاحَ رَغْبَةٍ ، كُنَّا نَعُدُّ هَذَا سِفَاحًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَحَّحَهُ .
قُلْنَا :
كَوْنُهُ فِي مَعْنَى الْمُوَقِّتِ مَمْنُوعٌ ، إذْ تَعْيِينُ نِهَايَتِهِ الْوَطْءُ لَا يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينَ وَقْتِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ قَدْ يَكُونُ فِي لَيْلَةِ الْخَلْوَةِ أَوْ بَعْدَ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ فَلَا تَوْقِيتَ صَرِيحٌ وَلَا مَعْنَى ، وَحَقِيقَةُ الْمُحَلِّلِ مُثْبِتُ الْحِلِّ لَا مَنْ قَامَ بِهِ مُجَرَّدَ طَلَبِهِ ، وَاللَّعْنَةُ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ مِنْ الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يَرْفَعْهُ حَتَّى يُعَارِضَ هَذَا الْحَدِيثَ .
وَقَوْلُهُ كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَحْكُمُونَ بِحِلِّهَا لِلْأَوَّلِ لِصِدْقِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُفْسِدَ وَهُوَ التَّوْقِيتُ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ ، وَالْغَرَضُ وَهُوَ حِلُّهَا لَهُ يَتَخَلَّفُ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَهُ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ كَقَاتِلِ الْمُوَرِّثِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ مُعَارَضٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } فَالْحِلُّ كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ اعْتَرَضَ عَدَمَهُ مُغَيًّا بِنِكَاحٍ زَوْجٍ غَيْرِهِ ، فَعِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ يَنْتَهِي الْمَنْعُ الْمُغَيَّا فَيَثْبُتُ مَا كَانَ ثَابِتًا أَلْبَتَّةَ ، فَحَيْثُ حُكِمَ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مَعَ الدُّخُولِ لَزِمَ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَلْبَتَّةَ .
وَمِنْ الْحِيَلِ إذَا خَافَتْ أَنْ لَا يُطَلِّقَهَا الْمُحَلِّلُ أَنْ تَقُولَ زَوَّجْتُك نَفْسِي عَلَى أَنَّ أَمْرِي بِيَدِي أُطَلِّقُ نَفْسِي كُلَّمَا أُرِيدُ ، فَإِذَا قِيلَ عَلَى هَذَا جَازَ النِّكَاحُ وَصَارَ الْأَمْرُ بِيَدِهَا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَامَّةُ أَنَّ شَرْطَ التَّحْلِيلِ يَبْطُلُ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ الشَّرْطُ أَيْضًا ، حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الْمُحَلِّلُ مِنْ الطَّلَاقِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ .
وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَوْضَةِ الزندويستي ذَلِكَ ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ يُعْرَفْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ وَلَا يُحْكَمَ بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ كَوْنِهِ ضَعِيفَ الثُّبُوتِ
تَنْبُو عَنْهُ قَوَاعِدُ الْمَذْهَبِ لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهُ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ ، وَالْعُقُودُ فِي مِثْلِهِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا مَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَمِنْهَا مَا يَبْطُلُ فِيهِ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الْأَصْلُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ بَلْ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ هُوَ ، فَيَجِبُ بُطْلَانُ هَذَا وَأَنْ لَا يُجْبَرَ عَلَى الطَّلَاقِ .
نَعَمْ يُكْرَهُ الشَّرْطُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَحْمَلِ الْحَدِيثِ ، وَيَبْقَى مَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَصْدُ التَّحْلِيلِ بِلَا كَرَاهَةٍ .
وَمَا أَوْرَدَهُ السُّرُوجِيُّ مِنْ أَنَّ الثَّابِتَ عَادَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا فِي غَيْرِ مَحِلِّ كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ قَصْدِ الزَّوْجِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ مُتَدَاوَلٌ ، إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ وَصَارَ مَشْهُورًا بِهِ .
وَهُنَا قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ مَأْجُورٌ وَإِنْ شَرَطَ لِقَصْدِ الْإِصْلَاحِ ، وَتَأْوِيلُ اللَّعْنِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ إذَا شَرَطَ الْأَجْرَ عَلَى ذَلِكَ .
هَذَا ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : كُنَّا نَعُدُّهُ سِفَاحًا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ عَنْ وَاقِعَةِ حَالٍ مُفْرَدَةٍ لِشَخْصٍ لَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ مُقْتَضَى اللَّفْظِ أَنَّ تَعَلُّقَ اللَّعْنِ بِهِ إذَا كَثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ بِأَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِهَذَا الْأَمْرِ شَرَطَ أَوْ لَا ، لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ مِنْ فَعَّلَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَهُوَ التَّكْثِيرُ فِي فِعْلِ الْفَاعِلِ أَوْ الْمَفْعُولِ ، فَلَوْ أَرَادَ تَعْلِيقَ اللَّعْنِ بِهِ بِمَرَّةٍ إذَا شَرَطَ لَقَالَ الْمُحِلُّ مِنْ أَحَلَّهَا بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ لَكِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ يَصْرِفُ عَنْ هَذَا فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَطَّعْت اللَّحْمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَكْثِيرٌ
( وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يَهْدِمُ الثَّلَاثَ .
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ الثَّلَاثِ ) لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا ، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ .
وَلَهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثَبِّتُ لِلْحِلِّ
( قَوْلُهُ وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي الطَّلْقَةَ وَالطَّلْقَتَيْنِ ) يَعْنِي إذَا كَانَ دَخَلَ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ لَا يَهْدِمُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَتَقْيِيدُهُ فِي صُورَةِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحُرَّةِ لِوَضْعِهَا فِي هَدْمِ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ وَلَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَمَةِ إلَّا هَدْمُ طَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَا لِأَنَّهُ لَا هَدْمَ فِي الْأَمَةِ أَصْلًا ( قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا يَهْدِمُ ) وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، فَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : كُنْت جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ إذْ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَسَأَلَهُ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ فَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا أَوْ طَلَّقَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَأَرَادَ الْأَوَّلُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى كَمْ هِيَ عِنْدَهُ ؟ فَالْتَفَتَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ : مَا تَقُولُ فِي هَذَا ؟ قَالَ : يَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي الْوَاحِدَةَ وَالثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثَ ، وَاسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ ، قَالَ : فَلَقِيت ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُمَرَ فِي نَحْوِهِ قَالَ : هِيَ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَقِيَ ، وَنَحْوُهُ عَنْ عَلِيٍّ .
وَنُقِلَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ فَأَخَذَ الْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ شُبَّانِ الصَّحَابَةِ وَشُبَّانُ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ مَشَايِخِ الصَّحَابَةِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْوَجْهِ ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ ) أَيْ لِأَنَّ الزَّوْجَ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَلَا تَحِلُّ لَهُ أَيْ مُطْلَقًا لَا بِنِكَاحٍ وَلَا بِمِلْكِ يَمِينٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَكُونَ : أَيْ الزَّوْجَ مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ ، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ : أَيْ ثُبُوتَهَا فَاللَّامُ بَدَلُ الْإِضَافَةِ وَلَا ثُبُوتَ لَهَا إلَّا بَعْدَ الثَّلَاثِ فَلَا
يَكُونُ مَنْهِيًّا قَبْلَهَا ، فَصَارَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ أَوْ قَبْلَ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي حَيْثُ تَعُودُ بِمَا بَقِيَ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ .
قُلْنَا : قَدْ عَمِلْنَا بِالنَّصِّ وَجَعَلْنَاهُ مَنْهِيَّا لِلْحُرْمَةِ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ ، لَكِنْ ثَبَتَ لَهُ وَصْفٌ آخَرُ بِنَصٍّ آخَرَ وَهُوَ إثْبَاتُ الْحِلِّ مُطْلَقًا قُلْنَا بِهِ وَتَرَكْتُمْ أَنْتُمْ الْعَمَلَ بِهِ وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ آنِفًا .
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ سَمَّاهُ مُحَلِّلًا ، وَحَقِيقَتُهُ مُثْبِتُ الْحِلِّ كَالْمُحَرَّمِ وَالْمُسْوَدِّ وَالْمُبْيَضِّ وَغَيْرُهَا مُثْبِتُ الْحُرْمَةِ وَالسَّوَادِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِنْ قُلْت : تَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ مَحْمَلَ الْحَدِيثِ الشَّارِطِ لِلْحِلِّ لِلْعِلْمِ قَطْعًا أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ لَيْسَ مُتَعَلِّقُ اللَّعْنَةِ وَإِلَّا لَتَعَلَّقَتْ بِالْمُتَزَوِّجِ تَزْوِيجَ رَغْبَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مُتَعَلِّقِ اللَّعْنَةِ عَلَى مَا قَالُوا شَارِطَ الْحِلِّ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُثْبِتٌ لِلْحِلِّ الْجَدِيدِ شَرْعًا لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْمُحَلِّلِ مُثْبِتَ الْحِلِّ بَلْ شَارِطَهُ .
قِيلَ : لَا شَكَّ أَنَّ الزَّوْجَ يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ مُثْبِتِ الْحِلِّ ، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ : لَعَنَ اللَّهُ مُثْبِتَ الْحِلِّ إذَا شَرَطَ الْحِلَّ ، فَلَا يَكُونُ شَارِطُ الْحِلِّ مُرَادًا بِلَفْظٍ مِنْ التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ بَلْ كُلُّهُ مُضْمَرٌ ، فَفِيهِ حِينَئِذٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُثْبِتُ الْحِلِّ وَتَعْلِيقُ اللَّعْنَةِ بِهِ إذَا شَرَطَهُ ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا قَدَّمْنَاهُ ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَحْمَلَهُ لَعْنَةُ الْمُحَلِّلِ إذَا شَرَطَهُ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحَلِّلِ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ هُوَ الشَّارِطُ لِلْحِلِّ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُثْبِتًا لَهُ .
نَعَمْ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مُحَلِّلًا فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُهُ فِي غَيْرِهَا .
وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ يُثْبِتُهُ فِيهَا بِدَلَالَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحَلِّلًا فِي الْغَلِيظَةِ فَفِي الْخَفِيفَةِ أَوْلَى .
وَأَيْضًا بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهِ زَوْجًا لِأَنَّ صُورَةَ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ مَحِلٌّ وَالْمَحِلُّ لَا يَدْخُلُ فِي التَّعْلِيلِ ، لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ لَانْسَدَّ بَابُ الْقِيَاسِ لِأَنَّ مَحِلَّ الْأَصْلِ غَيْرُ مَحِلِّ الْفَرْعِ .
وَأُورِدُ عَلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ حَيْثُ يُمْكِنُ وَلَا يُمْكِنُ هُنَا لِأَنَّ الْحِلَّ ثَابِتٌ فِيهِ ، وَتَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ .
أُجِيبُ إنْ لَمْ يَقْبَلُ الْمَحِلُّ أَصْلَ الْحِلِّ يَقْبَلُ ثُبُوتَ وَصْفِ الْكَمَالِ فِيهِ ، بِأَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ يَمْلِكُ تَجْدِيدَهُ بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ ، وَمَا صَلَحَ سَبَبًا لِأَصْلِ الشَّيْءِ صَلَحَ سَبَبًا لِوَصْفِهِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، إذْ غَايَةُ مَا تَحَقَّقَ مِنْ الشَّارِعِ تَسْمِيَتُهُ مُحَلِّلًا ، وَمَفْهُومُهُ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنَّهُ مُثْبِتٌ لِمُجَرَّدِ الْحِلِّ وَهُوَ حَاصِلٌ فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ ، وَكَوْنُ الْحِلِّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَيْسَ مِنْ مَفْهُومِهِ ، وَثُبُوتُهُ كَذَلِكَ فِي صُورَةِ الْحُرْمَةِ الْغَلِيظَةِ لَيْسَ مِنْهُ بَلْ بِاتِّفَاقِ الْحَالِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مَحِلٌّ ابْتَدَأَ فِيهِ الْحِلُّ لِاسْتِيفَاءِ الزَّوْجِ مَالَهُ مِنْ الطَّلْقَاتِ قَبْلَهُ ، وَحَيْثُ ابْتَدَأَ ثُبُوتُ الْحِلِّ كَانَ ثَلَاثًا شَرْعًا ، فَظَهَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَبَاقِي الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَقَدْ صَدَقَ قَوْلُ صَاحِبِ الْأَسْرَارِ : وَمَسْأَلَةٌ يُخَالَفُ فِيهَا كِبَارُ الصَّحَابَةِ يَعُوزُ فِقْهُهَا وَيَصْعُبُ الْخُرُوجُ مِنْهَا ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِحَدِيثِ الْعُسَيْلَةِ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتُرِيدِينَ أَنْ تَعُودِي إلَى رِفَاعَةَ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ } فَغَيَّا عَدَمَ الْعَوْدِ بِالذَّوْقِ .
فَعِنْدَهُ يَنْتَهِي عَدَمُهُ وَيَثْبُتُ هُوَ ، وَالْعَوْدُ هُوَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَهِيَ مَا يَمْلِكُ فِيهَا الزَّوْجُ
ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِصِدْقِ حَقِيقَتِهِ قَبْلَ الزَّوْجِ الثَّانِي لَوْ قَالَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ بِلَا تَحَلُّلِ زَوْجٍ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَعُودِي إلَى فُلَانٍ صَدَقَ حَقِيقَتُهُ وَإِنْ كَانَ الْعَوْدُ لَا إلَى مَا يَمْلِكُ بِهِ ثَلَاثًا .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَوْدَ إلَى عَيْنِ الْحَالَةِ الْأُولَى مُحَالٌ ، فَالْمُرَادُ الْعَوْدُ إلَى شَبَهِهَا وَذَلِكَ يَصْدُقُ بِمُجَرَّدِ مِلْكِ النِّكَاحِ وَالْحِلِّ لِانْتِفَاءِ اشْتِرَاطِ عُمُومِ وَجْهِ التَّشْبِيهِ
( وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَدِّقَهَا إذَا كَانَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ ) .
لِأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ أَوْ أَمْرٌ دِينِيٌّ لِتَعَلُّقِ الْحِلِّ بِهِ ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا مَقْبُولٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَسَنُبَيِّنُهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ .
( قَوْلُهُ فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْتُ وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي ) فِي النِّهَايَةِ : إنَّمَا ذَكَرَ إخْبَارَهَا هَكَذَا مَبْسُوطًا ، لِأَنَّهَا لَوْ قَالَتْ حَلَلْت لَك فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَتْ لَمْ يَكُنْ الثَّانِي دَخَلَ بِي ، إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِشَرَائِطِ الْحِلِّ لَمْ تُصَدَّقْ وَإِلَّا تُصَدَّقُ ، وَفِيمَا ذَكَرَتْهُ مَبْسُوطًا لَا تُصَدَّقُ فِي كُلِّ حَالٍ .
وَعَنْ السَّرَخْسِيِّ : لَا يَحِلُّ لَهُ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُهَا حَتَّى يَسْتَفْسِرَهَا لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَ النَّاسِ فِي حِلِّهَا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ .
وَفِي التَّفَارِيقِ : لَوْ تَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا ثُمَّ قَالَتْ مَا تَزَوَّجْت أَوْ مَا دَخَلَ بِي صَدَقَتْ إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مَنْ جِهَتِهَا .
وَاسْتُشْكِلَ بِأَنَّ إقْدَامَهَا عَلَى النِّكَاحِ اعْتِرَافٌ مِنْهَا بِصِحَّتِهِ فَكَانَتْ مُتَنَاقِضَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ قَالَتْ بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِهَا كُنْت مَجُوسِيَّةً أَوْ مُرْتَدَّةً أَوْ مُعْتَدَّةً أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أَوْ مُحَرَّمًا أَوْ كَانَ الْعَقْدُ بِغَيْرِ شُهُود ، ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهِ ؛ بِخِلَافِ قَوْلِهَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتِي .
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لَهَا ذَلِكَ وَكَذَّبَتْهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا ، وَلِذَا يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى أَوْ كَمَالُهُ إنْ دَخَلَ بِهَا انْتَهَى مِنْ قَائِلِهِ .
ثُمَّ رَأَيْت فِي الْخُلَاصَةِ مَا يُوَافِقُ الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ ، قَالَ فِي الْفَتَاوَى فِي بَابِ الْبَاءِ : لَوْ قَالَتْ بَعْدَمَا تَزَوَّجَهَا الْأَوَّلُ مَا تَزَوَّجْت بِآخَرَ وَقَالَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ تَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِك لَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ انْتَهَى .
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ الثَّانِي النِّكَاحُ وَقَعَ فَاسِدًا لِأَنِّي جَامَعْت أُمَّهَا إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ لَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ تَحِلُّ ، كَذَا أَجَابَ الْقَاضِي الْإِمَامُ .
وَلَوْ قَالَتْ دَخَلَ بِي الثَّانِي وَالثَّانِي مُنْكِرٌ فَالْمُعْتَبَرُ قَوْلُهَا ، وَكَذَا عَلَى الْعَكْسِ .
وَفِي
النِّهَايَةِ وَلَمْ يَمُرَّ بِي : لَوْ قَالَ الْمُحَلِّلُ بَعْدَ الدُّخُولِ كُنْت حَلَفْت بِطَلَاقِهَا إنْ تَزَوَّجْتهَا هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قُلْت : يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى غَالِبِ ظَنِّهَا ، إنْ كَانَ صَادِقًا عِنْدَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا تَحِلُّ .
وَعَنْ الْفَضْلِيِّ : لَوْ قَالَتْ تَزَوَّجْنِي فَإِنِّي تَزَوَّجْت غَيْرَك فَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَتْ مَا تَزَوَّجْت صُدِّقَتْ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَقَرَّتْ بِدُخُولِ الثَّانِي ، كَأَنَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ يَحْمِلُ قَوْلَهَا تَزَوَّجْت عَلَى الْعَقْدِ ، وَقَوْلَهَا مَا تَزَوَّجْت عَلَى مَعْنَى مَا دَخَلَ بِي لَا عَلَى إنْكَارِ مَا اعْتَرَفَتْ بِهِ ، وَلِذَا قَالَ : إلَّا أَنْ تَكُونَ أَقَرَّتْ بِدُخُولِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهَا فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ تَكُونُ مُنَاقَضَةً صَرِيحَةً .
وَسُئِلَ نَجْمُ الدِّينِ النَّسَفِيُّ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَحْنَثْ فَأُفْتِيَتْ الْمَرْأَةُ بِوُقُوعِ الثَّلَاثِ وَخَافَتْ إنْ أَعْلَمَتْهُ بِذَلِكَ أَنْ يُنْكِرَ هَلْ لَهَا أَنْ تَسْتَحِلَّ بَعْدَ مَا يُفَارِقُهَا بِسَفَرٍ وَتَأْمُرَهُ إذَا حَضَرَ بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ ؟ قَالَ : نَعَمْ دِيَانَةً ( قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مُعَامَلَةٌ ) أَنَّثَ الضَّمِيرَ وَإِنْ كَانَ مَرْجِعُهُ وَهُوَ النِّكَاحُ مُذَكَّرًا لِتَأْنِيثِ خَبَرِهِ وَفِي غَيْرِ نُسْخَةٍ لِأَنَّهُ عَلَى الْأَصْلِ ( وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا مَقْبُولٌ ) كَالْوِكَالَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَاتِ ، وَلِذَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ فِي الْهَدِيَّةِ ( قَوْلُهُ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ تَحْتَمِلُهُ ) أَفَادَ أَنَّ تَصْدِيقَهَا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ صِدْقُهَا مَشْرُوطٌ بِاحْتِمَالِ الْمُدَّةِ ذَلِكَ ( قَوْلُهُ وَسَنُبَيِّنُهَا فِي الْعِدَّةِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَوَالَةُ غَيْرُ رَائِجَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا .
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي الْعِدَّةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ فِي
عِدَّةٍ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْ تَسْطِيرَهِ فِي الْأَوْرَاقِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا تَوْفِيقَ إلَّا بِاَللَّهِ ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ بَيَانُهَا فِي الْكِتَابِ تَعَيَّنَ تَعَيُّنُهَا فِي الشَّرْحِ ، وَذِكْرُ نُبْذَةٍ مِنْ الْخِلَافِ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَقَلِّ مَا تُصَدَّقُ إذَا ادَّعَتْ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ بِالْأَقْرَاءِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلِّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا إنْ كَانَتْ حُرَّةً ، وَقَالَا : أَقَلُّهَا تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا .
وَقَالَ شُرَيْحٌ : لَوْ ادَّعَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي شَهْرٍ وَجَاءَتْ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ النِّسَاءِ الْعُدُولِ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا أَنَّهَا رَأَتْ الْحَيْضَ وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، قَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ( قالون ) وَمَعْنَاهُ بِالرُّومِيَّةِ أَحْسَنْت .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ وَلَحْظَتَانِ إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي الطُّهْرِ ، وَسَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ يَوْمًا وَلَحْظَةٌ إنْ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْجَوَاهِرِ : أَرْبَعُونَ .
وَقَالَ إِسْحَاق بْنُ رَاهْوَيْهِ وَأَبُو عُبَيْدٍ : إنْ كَانَ لَهَا أَقْرَاءٌ مَعْلُومَةٌ تَعْرِفُهَا بِطَانَةُ أَهْلِهَا تُصَدَّقُ عَلَى مَا يُشْهَدُ بِهِ ، وَإِلَّا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ .
وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ : تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا إنْ قُلْنَا أَقَلُّ الطُّهْرِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ ، وَإِنْ قُلْنَا خَمْسَةَ عَشَرَ تَزْدَادُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ إِسْحَاقَ وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الشَّهْرَ الْوَاحِدَ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَطُهْرٍ فَتُكَذِّبُهَا الْعَادَةُ إذَا أَخْبَرَتْ بِمَا دُونَهُ ، وَالْمُكَذَّبُ عَادَةً كَالْمُكَذَّبِ حَقِيقَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّ إذَا قَالَ أَنْفَقْتُ عَلَيْهِ مِائَةً فِي يَوْمٍ لَا يَصَّدَّقُ وَإِنْ اُحْتُمِلَ صِدْقُهُ
بِأَنْ تَكَرَّرَ هَلَاكُ الْمُشْتَرَى فِي الْيَوْمِ ، أَوَلَا يَرَى أَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الزَّمَانَ مَقَامَ الْأَقْرَاءِ فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ قَدَّرَ الْعِدَّةَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَقَالَ تَعَالَى وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِخِلَافِ مَا إذَا أَشْهَدَ بِمَا دُونَ الْعَادَةِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ أَنَّ هَذَا مِنْ النَّادِرِ ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي وَجْهِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَأَيْت أَنَّ قَوْلَ إِسْحَاقَ وَمَنْ مَعَهُ أَوْلَى بِهِ ، فَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ بِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْدَلَ عَنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَخْرِيجُهُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقًا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ تَفَادِيًا مِنْ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ بِخَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا كُلُّ طُهْرٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ، وَثَلَاثُ حِيَضٍ بِخَمْسَةَ عَشَرَ كُلُّ حَيْضَةٍ بِخَمْسَةٍ أَخْذًا بِالْوَسَطِ فِيهِ ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقًا فِي آخِرِ الطُّهْرِ تَفَادِيًا مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ فَيَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا اعْتِبَارًا لِلْأَكْثَرِ وَطُهْرَيْنِ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي وَزِيَادَةِ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا طُهْرٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُوَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ وَحَيْضَتَانِ بِعِشْرَيْنِ .
وَعَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ أَقَلُّهُ أَرْبَعُونَ يَوْمًا الطُّهْرُ الَّذِي وَقَعَ الطَّلَاقُ فِي أَوَّلِهِ ، وَالْمُتَخَلِّلُ ثَلَاثُونَ وَحَيْضَتَانِ بِعَشَرَةٍ .
وَتَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنْ يُجْعَلَ مُطْلَقًا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَطُهْرَانِ بِثَلَاثِينَ وَثَلَاثُ حِيَضٍ بِتِسْعَةٍ اعْتِبَارًا لِأَقَلِّهِ ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى مِثْلِهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي وَزِيَادَةِ طُهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَأَقَلُّ مَا تُصَدَّقُ فِيهِ أَحَدٌ
وَعِشْرُونَ يَوْمًا حَيْضَتَانِ بِسِتَّةٍ وَطُهْرٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَمِثْلُهُ لِلثَّانِي وَزِيَادَةُ طُهْرٍ : يَعْنِي إذَا جَاءَتْ بَعْدَ الْمُدَّتَيْنِ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا تُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يُحْتَسَبُ مَعَ الْمُدَّتَيْنِ طُهْرٌ آخَرُ فِي كُلٍّ تَخْرِيجٌ جُعِلَ الزَّوْجُ فِيهِ مُطَلِّقًا فِي آخِرِ الطُّهْرِ ، لِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِي إذَا جُعِلَ مُطَلِّقًا فِي آخِرِهِ وَالْفَرْضُ أَنَّ عِدَّةَ الْأَوَّلِ انْقَضَتْ بِأَوَّلِ الطُّهْرِ لَزِمَ مَا قُلْنَا ، وَلَوْ كَانَ عَلَّقَ طَلَاقَهَا الثَّلَاثَ بِالْوِلَادَةِ فَوَلَدَتْ لَمْ تُصَدَّقْ فِي أَقَلِّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا فِي قَوْلِهِ عَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى تَخْرِيجِ الْحَسَنِ لَمْ تُصَدَّقْ فِي أَقَلِّ مِنْ مِائَةِ يَوْمٍ احْتِسَابًا لِلنِّفَاسِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ طُهْرٌ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَطُهْرَانِ بِسِتِّينَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ فِي مُدَّةِ النِّفَاسِ لَا يَكُونُ حَيْضًا بَلْ بَعْدَهُ ، وَكَوْنُ مَا بَعْدَهُ حَيْضًا مَوْقُوفٌ عَلَى تَقَدُّمِ طُهْرٍ تَامٍّ وَهُوَ مَا قُلْنَا ، هَذَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَحْتَاجُ فِي الثَّانِي إلَى سِتِّينَ عَلَى مَا سَمِعْت عَلَى التَّخْرِيجَيْنِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ فِي خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا لِأَنَّ نِفَاسَهَا يُقَدَّرُ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا عِنْدَهُ لِأَنَّ مُدَّتَهُ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ الْحَيْضِ ؛ فَيُقَدَّرُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَكْثَرِهِ بِيَوْمٍ ثُمَّ بَعْدَ هَذَا بِثَلَاثِ حِيَضٍ وَثَلَاثَةٍ أَطْهَارٍ ، وَيَحْتَاجُ فِي حَقِّ الثَّانِي إلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثَةٍ أَيْضًا .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُصَدَّقُ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَقَلِّ النِّفَاسِ ، فَإِذَا قَالَتْ كَانَ سَاعَةً صُدِّقَتْ ثُمَّ الطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ وَطُهْرَانِ ، وَيَحْتَاجُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ الثَّانِي إلَى أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا ثَلَاثُ حِيَضٍ وَثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْحُرَّةِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَمَةِ فَتَخْرِيجُهُ عَلَى الْمَذَاهِبِ
غَيْرُ خَافٍ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( بَابُ الْإِيلَاءِ ) تَحْرِيمُ الزَّوْجَةِ بِأَرْبَعَةِ طُرُقٍ : الطَّلَاقِ ، وَالْإِيلَاءِ ، وَاللِّعَانِ ، وَالظِّهَارِ .
فَبَدَأَ بِالطَّلَاقِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، وَالْمُبَاحُ فِي وَقْتِهِ .
ثُمَّ أَوْلَاهُ الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ فِي الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَمِينٌ مَشْرُوعٌ لَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الظُّلْمِ لِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ تَحْرِيمَهَا لَيْسَ إلَّا بِالطَّلَاقِ فِي الْحَالِ أَوْ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، غَيْرَ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِأَسْبَابِ الْأَصْلِ وَالْأَشْهَرُ مِنْهَا الِابْتِدَاءُ بِهِ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا فَقُدِّمَ ، ثُمَّ أَوْلَى الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِهِ الْمَعْصِيَةُ ، إذْ قَدْ يَكُونُ بِرِضَاهَا لِخَوْفِ غِيلٍ عَلَى وَلَدٍ وَعَدَمِ مُوَافَقَةِ مِزَاجِهَا وَنَحْوِهِ فَيَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ لِقَطْعِ لِجَاجِ النَّفْسِ ، بِخِلَافِ الظِّهَارِ وَاللَّعَّانِ فَإِنَّهُمَا لَا يَنْفَكَّانِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ، وَلِهَذَا قَدَّمَ عَلَيْهِمَا الْخُلْعَ لِأَنَّهُ أَيْضًا لَا يَسْتَلْزِمُهَا لِجَوَازِ أَنْ تَسْأَلَهُ لَا لِنُشُوزٍ بَلْ لِقَصْدِ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ أَوْ لِعَجْزٍ عَنْ أَدَاءِ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَالْقِيَامِ بِأُمُورِهِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْإِيلَاءَ عَلَيْهِ مَعَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي عَدَمِ اسْتِلْزَامِ الْمَعْصِيَةِ وَالِانْفِكَاكِ عَنْهَا لِاخْتِصَاصِهِ هُوَ بِزِيَادَةِ تَسْمِيَةِ الْمَالِ فَهُوَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْكَبِ مِنْ الْفَرْدِ .
وَالْإِيلَاءُ لُغَةً الْيَمِينُ ، وَالْجَمْعُ الْأَلَايَا .
قَالَ الشَّاعِرُ : قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلْيَةُ بَرَّتْ وَفِعْلُهُ آلَى يُولِي إيلَاءً كَتَصْرِيفِ أَعْطَى .
وَفِي الشَّرْعِ : هُوَ الْيَمِينُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِ الزَّوْجَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا بِاَللَّهِ أَوْ بِتَعْلِيقِ مَا يَسْتَشِقُّهُ عَلَى الْقُرْبَانِ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِ فِي الْكَنْزِ : الْحَلِفُ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَلِفِ يَتَحَقَّقُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ إنْ وَطِئْتُك فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ أَوْ
أَغْزُوَ ، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُولِيًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَشُقُّ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ تَعَلَّقَ إشْقَاقُهُ بِعَارِضٍ ذَمِيمٍ فِي النَّفْسِ مِنْ الْجُبْنِ وَالْكَسَلِ ، بِخِلَافِ إنْ وَطِئْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ صِيَامٌ أَوْ صَدَقَةٌ فَالْمُولِي حِينَئِذٍ مَنْ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمَكْرُوهَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَوْ لُزُومِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهِمْ مَنْ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِ الْمَكْرُوهَيْنِ مِنْ الطَّلَاقِ أَوْ الْكَفَّارَةِ لِقُصُورِ هَذَا عَنْ نَحْوِ إنْ قَرِبْتُك فَعَبْدُهُ حُرٌّ أَوْ فُلَانَةُ طَالِقٌ .
.
وَأَمَّا رُكْنُهُ فَهُوَ الْحَلِفُ الْمَذْكُورُ ،
وَشَرْطُهُ مَحَلِّيَّةُ الْمَرْأَةِ وَأَهْلِيَّةُ الْحَالِفِ وَعَدَمُ النَّقْصِ عَنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَالْأَوَّلُ بِالزَّوْجِيَّةِ وَالثَّانِي بِأَهْلِيَّةِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَهُمَا بِأَهْلِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فَيَصِحُّ إيلَاءُ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ بِمَا فِيهِ كَفَّارَةٌ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ، فَإِنْ قَرِبَهَا لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ ، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ بِلَا قُرْبَانٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهُمَا ، أَمَّا لَوْ آلَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ كَإِنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ صَوْمٌ فَلَا يَصِحُّ اتِّفَاقًا ، وَلَوْ آلَى بِمَا لَا يُلْزِمُ قُرْبَةً كَإِنْ قَرِبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ وَنَحْوُهُ صَحَّ اتِّفَاقًا ،
وَحُكْمُهُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ أَوْ الْجَزَاءِ الْمُعَلَّقِ بِتَقْدِيرِ الْحِنْثِ بِالْقُرْبَانِ ، وَوُقُوعُ طَلْقَةٍ بَائِنَةٍ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ .
وَأَلْفَاظُهُ صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ ؛ فَالصَّرِيحُ نَحْوَ لَا أَقْرَبُك لَا أُجَامِعُك لَا أَطَؤُك لَا أُبَاضِعُك لَا أَغْتَسِلُ مِنْك مِنْ جَنَابَةٍ ، فَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْنِ الْجِمَاعَ لَمْ يُدَيَّنْ فِي الْقَضَاءِ ، وَالْكِنَايَةُ نَحْوَ لَا أَمَسُّك لَا آتِيك لَا أَغْشَاك لَا أَلْمِسُك لَأَغِيظَنَّك لَأَسُوأَنَّكِ لَا أَدْخُلُ عَلَيْك لَا أَجْمَعُ رَأْسِي وَرَأْسَك لَا أُضَاجِعُك لَا أَقْرَبُ فِرَاشَك فَلَا يَكُونُ إيلَاءً بِلَا نِيَّةٍ وَيُدِينُ فِي الْقَضَاءِ .
وَقِيلَ الصَّرِيحُ لَفْظَانِ : لَا أُجَامِعُك ، لَا أَنِيكُك ، وَهَذِهِ كِنَايَاتٌ تَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ، وَالْأَوْلَى الْأَوَّلُ لِأَنَّ الصَّرَاحَةَ مَنُوطَةٌ بِتَبَادُرِ الْمَعْنَى لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا لَا بِالْحَقِيقَةِ ، وَإِلَّا لَوَجَبَ كَوْنُ الصَّرِيحِ لَفْظًا وَاحِدًا وَهُوَ ثَانِي مَا ذَكَرَ .
وَفِي الْبَدَائِعِ : الِافْتِضَاضُ فِي الْبِكْرِ يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ، وَالدُّنُوُّ كِنَايَةٌ ، وَكَذَا لَا أَبِيتُ مَعَك فِي فِرَاشٍ ، وَيُخَالِفُهُ مَا فِي الْمُنْتَقَى لَا أَنَامُ مَعَك إيلَاءً بِلَا نِيَّةٍ ، وَكَذَا لَا يَمَسُّ فَرْجِي فَرْجَك .
فِي الذَّخِيرَةِ : وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ مَا يُخَالِفُهُ قَالَ : لَا يَمَسُّ جِلْدِي جِلْدَك لَا يَصِيرُ مُولِيًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَلُفَّ ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ .
وَفِي الْمَرْغِينَانِيِّ : يَحْنَثُ بِمَسِّ الْفَرْجِ دُونَ الْجِمَاعِ فَلَيْسَ بِمُولٍ ؛ قِيلَ فِيهِ بُعْدٌ وَهُوَ حَقٌّ لِأَنَّ الْفَرْضَ كَوْنُ الْجِمَاعِ هُوَ الْمُرَادُ وَلِذَا كَانَ كِنَايَةً مُفْتَقِرَةً إلَى النِّيَّةِ وَهُوَ فَرْعُ أَنْ يُرَادَ بِهِ ذَلِكَ ، وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُولِيًا .
وَفِي التُّحْفَةِ : لَوْ قَالَ أَنَا مِنْك مُولٍ فَإِنْ عَنَى الْخَبَرَ كَذِبًا فَلَيْسَ بِمُولٍ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَصْدُقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ لِأَنَّ هَذَا إيجَابٌ فِي الشَّرْعِ ، وَإِنْ عَنَى بِهِ الْإِيجَابَ فَهُوَ مُولٍ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْإِيلَاءَ بِهَذَا اللَّفْظِ .
وَلَوْ قَالَ
أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ امْرَأَةِ فُلَانٍ وَقَدْ كَانَ فُلَانٌ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ، فَإِنْ نَوَى الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِهَا فِي الْيَمِينِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْيَمِينَ وَلَا التَّحْرِيمَ لَا يَكُونُ مُولِيًا .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : الْإِيلَاءُ الْحَلِفُ إلَخْ ، وَقَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ أَوْ أَنَا مُولٍ لَيْسَ فِيهِ صِيغَةُ حَلِفٍ إنْشَائِيَّةٍ وَلَا تَعْلِيقِيَّةٍ ، لِأَنَّ مَعْنَى الْحَلِفِ قَوْلُهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَنَحْوَهُ أَوْ إنْ قَرِبْتُك ، وَلَيْسَ قَوْلُهُ أَنْتِ مِثْلُهَا إيَّاهُ وَلَا مُحَقِّقًا لِوُجُودِهِ لِفَرْضِ عَدَمِ وُجُودِهِ سَابِقًا وَلَاحِقًا ، إلَّا أَنَّ هَذَا جَوَابُ الرِّوَايَةِ ، صَرَّحَ بِهِ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فِي مُخْتَصَرِهِ .
وَفِيهِ : لَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى أَشْرَكْتُك فِي إيلَاءِ هَذِهِ كَانَ بَاطِلًا .
وَلَوْ قَالَ : إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَهُوَ مُولٍ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ أَنَا مِنْك مُولٍ مَعْنَاهُ أَنَا مِنْك حَالِفٌ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ أَحْلِفُ فَقَطْ كَمَا يَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ فَيَنْعَقِدُ بِقَوْلِهِ أَنَا حَالِفٌ ، وَكَذَا التَّشْبِيهُ الْمَذْكُورُ يَئُولُ إلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : لَا وَطِئْتُك فِي الدُّبُرِ أَوْ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَصِرْ مُولِيًا ، خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَا جَامَعْتُك إلَّا جِمَاعَ سُوءٍ .
سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْوَطْءَ فِي الدُّبُرِ صَارَ مُولِيًا ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت جِمَاعًا ضَعِيفًا لَا يَزِيدُ عَلَى نَحْوِ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ فَلَيْسَ بِمُولٍ ، وَكَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، وَإِنْ قَالَ أَرَدْت دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مُولٍ
( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } الْآيَةُ ( فَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ) لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ ( وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ ) لِأَنَّ الْيَمِينَ تَرْتَفِعُ بِالْحِنْثِ
( قَوْلُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ) لَيْسَ حُكْمُ الْمُولِي مُطْلَقًا عَلَى تَقْدِيرِ الْحِنْثِ بَلْ حُكْمُ هَذَا الْمُولِي الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ إذَا قَالَ الرَّجُلُ وَاَللَّهِ إلَخْ لِمَا سَتَعْرِفُ أَنَّ الْمُولِيَ قَدْ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ الْكَفَّارَةُ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا كَفَّارَةَ فِي خُصُوصِ هَذَا الْحِنْثِ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ الْمَغْفِرَةَ بِتَقْدِيرِ الْفَيْءِ ، وَالْمُرَادُ الْجِمَاعُ لِأَنَّهُ فِي الْأَصْلِ الرُّجُوعُ ، وَبِالْجِمَاعِ يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ عَنْ ذَلِكَ التَّرْكِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَوْلُهُ الْجَدِيدُ كَقَوْلِنَا لِأَنَّ وَعْدَ الْمَغْفِرَةِ بِسَبَبِ الْفَيْئَةِ الَّتِي هِيَ مِثْلُ التَّوْبَةِ لَا يُنَافِي إلْزَامَ الْكَفَّارَةِ بَلْ ثَبَتَ فِي الشَّرْعِ انْفِكَاكُ التَّلَازُمِ بَيْنَ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ : أَعْنِي الْمَغْفِرَةَ وَسُقُوطَ الْكَفَّارَةِ ، وَثُبُوتُ أَحَدِهِمَا مَعَ نَقِيضِ الْآخَرِ مُسْتَمِرٌّ فِي كُلِّ حَلِفٍ عَلَى مَعْصِيَةٍ إذَا حَنِثَ الْحَالِفُ فِيهَا تَوْبَةٌ ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَثْبُتُ مَعَ عَدَمِ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا إعْمَالًا لِإِطْلَاقِ قَوْله تَعَالَى { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } الْآيَةَ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } وَهُوَ قَوْلُ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ .
قَالَ قَتَادَةُ : خَالَفَ الْحَسَنُ النَّاسَ ( قَوْلُهُ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ ) بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا يَقَعُ طَلَاقٌ آخَرُ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَنْحَلُّ بِالْحِنْثِ
( وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ مِنْهُ بِتَطْلِيقَةٍ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ مَانِعُ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ كَمَا فِي الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ .
وَلَنَا أَنَّهُ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَهُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَالْعَبَادِلَةِ الثَّلَاثَةِ وَزَيْدِ ابْنِ ثَابِتٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةٌ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَحَكَمَ الشَّرْعُ بِتَأْجِيلِهِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ( فَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ سَقَطَتْ الْيَمِينُ ) لِأَنَّهَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِهِ ( وَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى الْأَبَدِ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ ) لِأَنَّهَا مُطْلَقَةً وَلَمْ يُوجَدْ الْحِنْثُ لِتَرْتَفِعَ بِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مَنْعُ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ( فَإِنْ عَادَ فَتَزَوَّجَهَا عَادَ الْإِيلَاءُ ، فَإِنْ وَطِئَهَا وَإِلَّا وَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ تَطْلِيقَةٌ أُخْرَى ) لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ لِإِطْلَاقِهَا ، وَبِالتَّزَوُّجِ ثَبَتَ حَقُّهَا فَيَتَحَقَّقُ الظُّلْمُ وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءُ هَذَا الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ .
( فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ثَالِثًا عَادَ الْإِيلَاءُ وَوَقَعَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا ) لِمَا بَيِّنَاهُ ( فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ لَمْ يَقَعْ بِذَلِكَ الْإِيلَاءِ طَلَاقٌ ) لِتَقَيُّدِهِ بِطَلَاقِ هَذَا الْمِلْكِ وَهِيَ فَرْعُ مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ الْخِلَافِيَّةِ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ ( وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ ) لِإِطْلَاقِهَا وَعَدَمِ الْحِنْثِ ( فَإِنْ وَطِئَهَا كَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ ) لِوُجُودِ الْحِنْثِ
( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تَبِينُ بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي ) لَمْ يَقُلْ الشَّافِعِيُّ تَبِينُ ، بَلْ قَالَ يَقَعُ رَجْعِيًّا سَوَاءٌ طَلَّقَ الزَّوْجُ بِنَفْسِهِ أَوْ الْحَاكِمُ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ .
وَرُجِّحَ بِأَنَّ الْوَاقِعَ طَلَاقٌ وَالطَّلَاقُ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ إلَّا الثَّابِتَ بِالنَّصِّ .
وَالْجَوَابُ مَنْعُ كُلِّيَّةِ الْكُبْرَى ، وَتَقَدَّمَ وَجْهُ دَفْعِهِ فِي الْكِنَايَاتِ ، غَيْرَ أَنَّهُ يَسْتَدْعِي سَبَبًا ، وَالسَّبَبُ هُنَا أَنَّهُ وَقَعَ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ الظُّلْمِ ، وَالرَّجْعِيُّ لَا يُفِيدُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى عِصْمَتِهِ وَيُعِيدَ الْإِيلَاءَ فَتَعَيَّنَ الْبَائِنُ لِتَمْلِكَ نَفْسَهَا وَتَزُولُ سَلْطَنَتُهُ عَلَيْهَا جَزَاءً لِظُلْمِهِ مَعَ وُرُودِ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ كَمَا سَتَقِفُ عَلَى انْتِهَاضِهَا بِإِثْبَاتِهِ .
ثُمَّ الْخِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنَّ الْفَيْءَ عِنْدَهُ يَكُونُ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيَكُونُ بَعْدَهَا وَعِنْدَ مُضِيِّهَا يُوقَفُ إلَى أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلِّقُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا } وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ فَاقْتَضَى جَوَازَ الْفَيْءِ بَعْدَ الْمُدَّةِ .
وَعِنْدَنَا الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ لَا غَيْرُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْفَاءَ لِتَعْقِيبِ الْمَعْنَى فِي الزَّمَانِ فِي عَطْفِ الْمُفْرَدِ كَجَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو ، وَتَدْخُلُ الْجُمَلَ لِتَفْصِيلِ مُجْمَلٍ قَبْلَهَا وَغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ لِلْأَوَّلِ نَحْوَ { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } وَنَحْوَ : تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَمَسَحَ رَأْسَهُ فَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ التَّعْقِيبَ ، بَلْ التَّعْقِيبُ الذِّكْرِيّ بِأَنْ ذَكَرَ التَّفْصِيلَ بَعْدَ الْإِجْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَكَالْأَوَّلِ كَجَاءَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو ، وَكُلٌّ مِنْ التَّعْقِيبَيْنِ جَائِزُ الْإِرَادَةِ فِي الْآيَةِ ؛ الْمَعْنَوِيِّ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْإِيلَاءِ ، { فَإِنْ فَاءُوا } أَيْ بَعْدَ الْإِيلَاءِ ، وَالذِّكْرِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ
تَعَالَى أَنَّ لَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ أَنْ يَتَرَبَّصْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ بَيْنُونَةٍ مَعَ عَدَمِ الْوَطْءِ كَانَ مَوْضِعُ تَفْصِيلِ الْحَالِ فِي الْأَمْرَيْنِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا } إلَى قَوْلِهِ { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وَاقِعٌ بِهَذَا الْمَعْرِضِ فَيَصِحُّ كَوْنُ الْمُرَادِ { فَإِنْ فَاءُوا } : أَيْ رَجَعُوا عَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ فِي الْمُدَّةِ تَعْقِيبًا عَلَى الْإِيلَاءِ التَّعْقِيبُ الذِّكْرِيُّ أَوْ بَعْدَهَا تَعْقِيبًا عَلَى التَّرَبُّصِ { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِمَا حَدَثَ مِنْهُمْ مِنْ الْيَمِينِ عَلَى الظُّلْمِ وَعَقْدِ الْقَلْبِ عَلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ الْفَيْئَةِ الَّتِي هِيَ تَوْبَةٌ ، أَوْ غَفُورٌ لِلْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ إنْ كَانَ بِرِضَاهَا لِغَرَضِ تَحْصِينِ وَلَدٍ عَنْ الْغِيلِ وَنَحْوِهِ رَحِيمٌ بِشَرْعِ الْكَفَّارَةِ كَافِيَةٌ عَنْهُ ، فَنَظَرْنَا فَإِذَا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ { فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ } تَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ وَهُوَ كَوْنُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ ، إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ تَوَافُقُ الْقِرَاءَتَيْنِ شَاذَّتَيْنِ كَانَتَا أَوْ إحْدَاهُمَا شَاذَّةٌ فَتَنْزِلُ تَفْسِيرًا لِلْمُرَادِ بِالْأُخْرَى ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ كَوْنِهِ فِي الْمُدَّةِ إذْ لَا تُعَارِضُ الْقِرَاءَةَ الْمَشْهُورَةَ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهَا فِيهَا أَوْ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ عِنْدَنَا ، وَإِنْ أَبَى الْخَصْمُ وَرَدَّ الْمُخْتَلَفَ إلَى الْمُخْتَلِفِ يَتِمُّ إذَا أَثْبَتَ الْأَصْلَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إنَّمَا يَقْرَؤُهَا الرَّاوِي خَبَرًا عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ قُرْآنًا فَانْتِفَاءُ الْقُرْآنِيَّةِ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وَهُوَ التَّوَاتُرُ انْتِفَاءُ الْأَخَصِّ ، فَإِنَّ الْقُرْآنِيَّةَ أَخَصُّ مِنْ الْخَبَرِيَّةِ ، وَانْتِفَاءَ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ انْتِفَاءَ الْأَعَمِّ ، فَدَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ كَوْنِهَا قُرْآنًا أَوْ خَبَرًا عَنْ صَاحِبِ الْوَحْيِ ، وَذَلِكَ دَوَرَانٌ بَيْنَ الْحُجِّيَّةِ عَلَى وَجْهٍ وَبَيْنَهَا عَلَى وَجْهٍ آخَرَ لَا بَيْنَ الْحُجِّيَّةِ وَعَدَمِهَا .
فَإِنْ قِيلَ :
حَاصِلُ الْمُفَادِ بِهَا جَوَازُ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ .
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَفِيءَ بَعْدَهَا ، وَتَنْحَلُّ يَمِينُهُ إذَا لَمْ يَفِئْ فِيهَا أَوْ لَا بَلْ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْفَيْءِ أَثْبَتْنَاهُ ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَنْفِيهِ .
قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ حُكْمَ الْإِيلَاءِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَفِيءَ فِي الْمُدَّةِ أَوْ يَثْبُتَ الطَّلَاقُ بِتَطْلِيقِهِ أَوْ تَطْلِيقِ الْقَاضِي عَلَى الْخِلَافِ هَذَا هُوَ الْمُفَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا } فِيهِنَّ فَكَذَا { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } فَكَذَا عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ التَّأْوِيلِ لِأَنَّ التَّرْدِيدَ مَأْخُوذٌ فِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْهُ نَقِيضُ الْآخَرِ ، أَيْ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ .
فَلَمْ يَفِيئُوا فِيهَا وَهُوَ لَازِمٌ فَإِنَّهُمْ لَوْ فَاءُوا فِيهِنَّ لَمْ تَبْقَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنْ لَا فَيْءَ إلَّا فِي الْمُدَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ تَقَعُ الْفِرْقَةُ بَيْنَهُمَا طَلَاقًا بَائِنًا وَعِنْدَهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَلَاقِهِ أَوْ بِطَلَاقِ الْقَاضِي لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } فَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يُتَصَوَّرُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ النَّصَّ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ مَسْمُوعٌ وَهُوَ قَوْلُهُ { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَاصِلُهُ إلْحَاقُ الْمُوَلِّي بِالْعِنِّينِ فِي حُكْمٍ هُوَ إلْزَامُهُ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَلَّقَ عَلَيْهِ بِجَامِعِ أَنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِمَعْرُوفٍ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْرِيحِ بِإِحْسَانٍ ، وَإِلَّا كَانَ مَوْقِعًا مِنْ غَيْرِ إيقَاعٍ .
وَالْجَوَابُ : قَوْلُهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْعَزْمُ عَلَيْهِ لَوْ وَقَعَ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ مَمْنُوعٌ ، بَلْ إذَا فَرَضَ وُقُوعَهُ عِنْدَهَا كَانَ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ عَزْمُهُ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّرْكِ حَتَّى يَتِمَّ ، فَمَعْنَى فَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنْ
اسْتَمَرُّوا عَلَى ذَلِكَ التَّرْكِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } بِمَا يُقَارِنُ هَذَا التَّرْكَ وَالِاسْتِمْرَارَ مِنْ الْمُقَاوَلَةِ وَالْمُجَادَلَةِ وَحَدِيثَ النَّفْسِ بِهِ كَمَا يَسْمَعُ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ عَلِيمٌ بِمَا اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ مِنْ الظُّلْمِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الْوَعِيدِ عَلَى ذَلِكَ ، وَانْدَرَجَ فِي هَذَا جَوَابُ الثَّانِي .
وَعَنْ الْأَخِيرِ بِأَنَّ الْعِنِّينَ لَيْسَ بِظَالِمٍ فَنَاسَبَهُ التَّخْفِيفُ عَلَيْهِ وَلِذَا كَانَ أَجَلُهُ أَكْثَرُ ، وَالْمُولِيَ ظَالِمٌ يَمْنَعُ حَقَّهَا فَيُجَازَى بِوُقُوعِهِ بِنَفْسِ الِانْقِضَاءِ ، وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِلَا إيقَاعٍ بَلْ الزَّوْجُ بِالْإِيلَاءِ مُوقِعٌ ، فَقَدْ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَنْجِيزًا فَجَعَلَهُ الشَّارِعُ مُؤَجَّلًا .
أَوْ نَقُولُ : جَازَ أَنْ يَحْكُمَ بِوُقُوعِهِ عِنْدَ اسْتِمْرَارِ ظُلْمِهِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقِيقَةَ الطَّلَاقِ إنَّمَا هِيَ رَفْعُ الْقَيْدِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِالنِّكَاحِ ، وَلَفْظُ أَنْتِ طَالِقٌ الْآلَةُ الَّتِي يَثْبُتُ هُوَ عِنْدَهَا شَرْعًا وَلَمْ يَقْصُرْ الشَّرْعُ ثُبُوتَهُ عَلَى اللَّفْظِ ، أَلَّا يَرَى أَنَّهُ حَكَمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ كِتَابَتِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَيْسَتْ الْكِتَابَةُ لَفْظًا فَلَا بُعْدَ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ عِنْدَ ظُلْمِهِ بِمَنْعِهِ حَقِّهَا هَذِهِ الْمُدَّةِ .
لَا يُقَالُ : كَيْفَ يَكُونُ ظَالِمًا بِذَلِكَ وَهُوَ بِوَطْئِهِ وَاحِدَةً لَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَلَا يُلْزِمُهُ بِغَيْرِهَا فَهُوَ لَيْسَ بِظَالِمٍ .
لِأَنَّا نَقُولُ : ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا فِي الدِّيَانَةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُجَامِعَهَا أَحْيَانًا لِيُعِفَّهَا ، فَإِنْ أَبَى كَانَ عَاصِيًا .
وَالنُّصُوصُ مِنْ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ تُفِيدُ ذَلِكَ ، لَكِنْ بَقِيَ أَنْ يُقَالَ هَذَا كُلُّهُ تَجْوِيزٌ لِوُقُوعِهِ كَذَلِكَ وَنَقُولُ بِجَوَازِهِ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِيمَا هُوَ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى دَلَالَةِ الدَّلِيلِ وَهُوَ مَا قُلْنَا ، فَإِنَّ الْآيَةَ وَإِنْ صَحَّ فِيهَا كَوْنُ الْعَزْمِ عَلَى الطَّلَاقِ بِالْمَعْنَى
الَّذِي قُلْتُمْ لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا مَا قُلْنَا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمَّا أَفَادَتْ أَنْ لَا فَيْءَ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَزِمَ انْتِفَاءُ قَوْلِكُمْ مِنْ إلْزَامِكُمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ الْفَيْءِ أَوْ الطَّلَاقِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا قُلْنَا ، وَإِلَّا لَزِمَ إحْدَاثُ قَوْلٍ ثَالِثٍ وَهُوَ إلْزَامُهُ بَعْدَ الْمُدَّةِ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّلَاقُ ، وَهَذَا التَّقْرِيرُ هُوَ مَحْمَلُ اسْتِدْلَالِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ : وَلَنَا أَنَّهُ ظَلَمَهَا بِمَنْعِ حَقِّهَا فَجَازَاهُ الشَّرْعُ بِزَوَالِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُصَادَرَةٌ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِعَيْنِ مَحِلِّ النِّزَاعِ كَأَنَّهُ قَالَ : فَجَازَاهُ بِذَلِكَ بِالنَّصِّ .
وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْقِرَاءَةَ مُفَسَّرَةٌ بِكَوْنِ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةٍ أُخْرَى إلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا ، وَاحْتَجَّ أَيْضًا بِآثَارِ وَهِيَ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَيْمُونِيِّ قَالَ : ذَكَرْت لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدِيثَ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ عُثْمَانَ يَعْنِي بِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ مِمَّا يُوَافِقُ مَذْهَبَنَا قَالَ : لَا أَدْرِي مَا هُوَ قَدْ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ خِلَافُهُ .
قِيلَ لَهُ مَنْ رَوَاهُ ؟ قَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ عُثْمَانَ ، وَمَا رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ ، فَإِنْ مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ تَوَقَّفَ حَتَّى يُطَلِّقَ أَوْ يَفِيءَ .
وَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدِهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى لَا تَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ الْأَجَلِ إلَّا أَنْ يَمْسِكَ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ يَعْزِمَ بِالطَّلَاقِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ : أَيْ الْبُخَارِيُّ : قَالَ لِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ : إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَوَقَّفَ حَتَّى يُطَلِّقَ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ حَتَّى يُطَلِّقَ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ : أَدْرَكْت بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الصَّحَابَةِ كُلُّهُمْ يَقُولُ يُوقَفُ الْمُولِي .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَأَلْت اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ .
قُلْنَا : الْآثَارُ الْأَرْبَعَةُ الْأُوَلُ مُعَارِضَةٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فِيمَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ حَدَّثَنَا مَعْمَرُ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَا يَقُولَانِ فِي الْإِيلَاءِ : إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ .
وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّ سَنَدَهُ جَيِّدٌ مَوْصُولٌ ، بِخِلَافِ ذَاكَ فَإِنَّ حَالَ رِجَالِهِ لَا يُعْرَفُ إلَى حَبِيبٍ ، وَهُوَ أَيْضًا أَعْضَلُهُ ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ طَاوُسًا أَخَذَ عَنْ عُثْمَانَ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ .
وَأَمَّا الثَّانِي فِيمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنْبَأْنَا مَعْمَرُ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ وَهِيَ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا وَتَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُرْسَلٌ ، فَإِنَّ رِوَايَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُرْسَلَةٌ ، وَكَذَا قَتَادَةُ وَهُمَا مُتَعَاصِرَانِ ، وَتُوُفِّيَ قَتَادَةُ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ أَوْ ثَمَانِي عَشْرَةَ وَمِائَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ ، وَكَذَا تُوُفِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ فِي قَوْلٍ .
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ : سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ ، وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ ،
وَقِيلَ سِتَّ عَشْرَةَ فَاعْتَدَلَا فِي هَذَا الْقَدْرِ .
ثُمَّ الْمُثْبَتُ مِنْ اشْتِهَارِ قَتَادَةَ بِعِظَمِ الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَدَاءِ كَمَا سَمِعَ بِعَيْنِهِ أَكْثَرَ وَأَشْهَرُ مِنْ الْمُثْبَتِ لِمُحَمَّدٍ .
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ : رَأَيْت حَمَامَةً الْتَقَمَتْ لُؤْلُؤَةً فَخَرَجَتْ عَنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا دَخَلَتْ ، وَرَأَيْت حَمَامَةً أُخْرَى الْتَقَمَتْ لُؤْلُؤَةً فَخَرَجَتْ مِنْهَا أَصْغَرُ مِمَّا دَخَلَتْ ، وَرَأَيْت أُخْرَى الْتَقَمَتْ لُؤْلُؤَةً فَخَرَجَتْ كَمَا دَخَلَتْ سَوَاءً .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ سِيرِينَ : أَمَّا الَّتِي خَرَجَتْ أَعْظَمُ مِمَّا دَخَلَتْ فَذَاكَ الْحَسَنُ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ فَيُجَوِّدُهُ بِمَنْطِقِهِ ثُمَّ يَصِلُ فِيهِ مِنْ مَوَاعِظِهِ .
وَأَمَّا الَّتِي خَرَجَتْ أَصْغَرُ فَذَاكَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يُنْتَقَصُ مِنْهُ وَيُسْأَلُ .
وَأَمَّا الَّتِي خَرَجَتْ كَمَا دَخَلَتْ فَهُوَ قَتَادَةُ وَهُوَ أَحْفَظُ النَّاسِ انْتَهَى .
وَفِي تَرَاجِمِهِ الْعَجَائِبُ مِنْ حِفْظِهِ .
وَأَمَّا الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِيمَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا قَالَا : إذَا آلَى فَلَمْ يَفِئْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ .
وَرِجَالُ هَذَا السَّنَدِ كُلُّهُمْ أَخْرَجَ لَهُمْ الشَّيْخَانِ فَهُمْ رِجَالُ الصَّحِيحِ فَيَنْتَهِضُ مُعَارِضًا ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ بِأَنَّ أَصَحَّ الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، ثُمَّ مَا كَانَ عَلَى شَرْطِهِمَا إلَى آخِرِ مَا عُرِفَ ، وَقَدَّمْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ تَحَكُّمٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْغَرَضُ أَنَّ الْمَرْوِيَّ عَلَى نَفْسِ الشَّرْطِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمَا فَلَمْ يَفُتْهُ إلَّا كَوْنُهُ لَمْ يَكْتُبْ فِي خُصُوصِ أَوْرَاقٍ مُعَيَّنَةٍ وَلَا أَثَرَ لِذَلِكَ .
وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ : أَصَحُّ الْأَسَانِيدِ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ لَمْ يُوَافَقْ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ
غَيْرُهُ غَيْرَهُ .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُونَ : إنَّ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ الْحُكْمُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُ بِالنِّسْبَةِ إلَى صَحَابِيٍّ وَبَلَدٍ فَيُقَالُ : أَصَحُّهَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْهُ ، وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ الشَّامِيِّينَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ الصَّحَابَةِ ، وَأَصَحُّ أَسَانِيدِ الْيَمَانِيِّينَ مَعْمَرُ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَيْضًا الْوُقُوفُ عَلَى اقْتِحَامِ هَذِهِ ، فَإِنَّ فِي خُصُوصِ الْوَارِدِ مَا قَدْ يَلْزَمُ الْوُقُوفَ عَنْ ذَلِكَ ، نَعَمْ قَدْ يَكُونُ الرَّاوِي الْمُعَيَّنُ أَكْثَرَ مُلَازَمَةً لِمُعَيَّنٍ مِنْ غَيْرِهِ فَيَصِيرُ أَدْرَى بِحَدِيثِهِ وَأَحْفَظَ لَهُ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى أَكْثَرَ إحَاطَةً بِأَفْرَادِ مُتُونِهِ ، وَأَعْلَمُ بِعَادَتِهِ فِي تَحْدِيثِهِ وَعِنْدَ تَدْلِيسِهِ إنْ كَانَ وَبِقَصْدِهِ عِنْدَ إبْهَامِهِ وَإِرْسَالِهِ مِمَّنْ لَمْ يُلَازِمْهُ تِلْكَ الْمُلَازَمَةَ ، أَمَّا فِي فَرْدٍ مُعَيَّنٍ فَرَضَ أَنَّ غَيْرَهُ مِمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي مَلَكَةِ النَّفْسِ مِنْ الضَّبْطِ أَوْ أَرْفَعْ سَمْعَهُ مِنْهُ فَأَتْقَنَهُ وَحَافَظَ عَلَيْهِ كَمَا يُحَافِظُ عَلَى سَائِرِ مَحْفُوظَاتِهِ يَكُونُ ذَلِكَ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي رِوَايَتِهِ بِمُعَارِضِهِ مَا هُوَ إلَّا مَحْضُ تَحَكُّمٍ ، فَإِنْ بَعُدَ هَذَا الْفَرْضُ لَمْ يَبْقَ زِيَادَةُ الْآخَرِ إلَّا بِالْمُلَازَمَةِ ، وَأَثَرِهَا الَّذِي يَزِيدُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَجْمُوعِ مُتُونِهِ لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى خُصُوصِ مَتْنٍ ، وَحِينَئِذٍ فَنَاهِيَك بِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَقَدْ رَوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَهُ .
وَأَمَّا رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ سُلَيْمَانَ فَحَاصِلُهَا أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ كَذَلِكَ ، وَكَذَا مَا ذَكَرَ عَنْ سُهَيْلٍ ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ مَنْ هُمْ فَيَجُوزُ كَوْنُ بَعْضِهِمْ مِمَّنْ تَعَارَضَتْ عَنْهُ الرِّوَايَاتُ مَعَ اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ فِي عُلُوِّ الْحَالِ وَالْفِقْهِ كَمَا أَسْمَعْنَاك عَمَّنْ
ذَكَرُوا ، وَكَوْنُ مَنْ ذَهَبَ إلَى خِلَافِ الْمَرْوِيِّ عَنْهُمْ أَفْقَهُ وَأَعْلَى مَنْصِبًا ، وَنَحْنُ قَدْ أَخْرَجْنَا مَا قُلْنَاهُ عَنْ الْأَكَابِرِ مِثْلِ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ بِنَاءً عَلَى تَرْجِيحِ مَا عَارَضَنَا بِهِ ، وَكَذَا عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِرِكَابِهِ حِينَ رَكِبَ وَقَالَ : هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا ، وَكَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا قَدَّمْنَا ، وَكَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ بْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ ، وَهُوَ أَمْلَكُ بِرَدِّهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا .
وَابْنُ إِسْحَاقَ صَرَّحَ فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ .
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا مَعْمَرُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ : آلَى النُّعْمَانُ مِنْ امْرَأَتِهِ وَكَانَ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَرَبَ فَخْذَهُ وَقَالَ : إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَاعْتَرِفْ بِتَطْلِيقَةٍ .
وَأَخْرَجَ نَحْوَ مَذْهَبِنَا عَنْ عَطَاءٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَكْحُول .
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ نَحْوَهُ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَسْرُوقٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ وَقَبِيصَةً وَسَالِمٍ وَأَبِي سَلَمَةَ وَهَذَا تَرْجِيحٌ عَامٌّ ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَالَ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْوُقُوعِ بِمُجَرَّدِ الْمُضِيِّ يَتَرَجَّحُ عَلَى قَوْلِ مُخَالِفِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ كَوْنِهِ مَحْمُولًا عَلَى السَّمَاعِ ، لِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ لَفْظِ الْآيَةِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ مَسْمُوعٌ لَهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِهِ عَلَى خِلَافِهِ ، وَمَنْ قَالَ كَقَوْلِهِمْ لَمْ يَظْهَرْ فِي قَوْلِهِمْ مِثْلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مَعَ الْمُتَبَادِرِ مِنْ اللَّفْظِ فَلَا
يَلْزَمُ حَمْلُ قَوْلِهِمْ عَلَى سَمَاعٍ ، وَانْدَرَجَ فِي هَذَا مَنْ رَوَى عَنْهُمْ الشَّافِعِيُّ مِنْ الصَّحَابَةِ وَسُهَيْلٍ ، عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ الْمَرْوِيِّ لِسُهَيْلٍ حُجَّةٌ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ أَصْلًا ( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ حَلَفَ عَلَى الْأَبَدِ ) هُوَ أَنْ يُصَرِّحَ بِلَفْظِ الْأَبَدِ أَوْ يُطَلِّقَ فَيَقُولُ لَا أَقْرَبُك مُقْتَصِرًا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَائِضًا فَلَيْسَ بِمُولٍ أَصْلًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِالْحَيْضِ فَلَا يُضَافُ الْمَنْعُ إلَى الْيَمِينِ ، وَكَذَا لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ يَكُونُ مُولِيًا .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَرَّرُ ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ لَازِمِ قَوْلِهِ فَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فِيمَا يَتَبَادَرُ فَإِنَّهُ يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ أُخْرَى عِنْدَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى إذَا كَانَتْ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بَعْدُ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو سَهْلٍ الشَّرْغِيُّ ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمَرْغِينَانِيُّ وَصَاحِبُ الْمُحِيطِ لِأَنَّ حَاصِلَ الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ أُجَامِعْك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ ، فَكَذَا إذَا صَرَّحَ بِمَلْزُومِهِ ، وَالْمُخْتَارُ قَوْلَ الْكَرْخِيِّ إنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا ، وَعَلَيْهِ مَشَى فِي الْبَدَائِعِ وَتُحْفَةِ الْفُقَهَاءِ وَشَرْحِي الْإِسْبِيجَابِيِّ وَالْجَامِعِ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ جَزَاءُ الظُّلْمِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْأَوَّلِ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا حَالَ قِيَامِ الْعِصْمَةِ فَانْعَقَدَ إيلَاءٌ وَثَبَتَ حُكْمُهُ مِنْ الْوُقُوعِ عِنْدَ مُضِيِّ الْأَشْهُرِ جَزَاءً لِظُلْمِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمُبَانَةِ حَقُّ الْوَطْءِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ ثَانِيًا ابْتِدَاءً فِي حَقِّهَا ، فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُ الْبَرِّ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ آلَى حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ ثُمَّ أَبَانَهَا تَنْجِيزًا ثُمَّ مَضَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ حَيْثُ تَقَعُ الثَّانِيَةُ لِصِحَّةِ الْإِيلَاءِ لِصُدُورِهِ فِي حَالٍ يَتَحَقَّقُ بِهِ ظُلْمُهُ فَيَكُونُ إذَا صَحَّ
بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الْبَائِنِ ، وَالْبَائِنُ الْمُعَلَّقُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ الْمُنْجَزَ فِي الْعِدَّةِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي ذَيْلِ الْكِنَايَاتِ .
وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَتَّضِحُ لَك الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ أَبِي سَهْلٍ : إنَّهُ كَقَوْلِهِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إنَّمَا صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا انْعَقَدَ إيلَاءً شَرْعِيًّا مُسْتَعْقِبًا لِحُكْمِهِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِتَقْدِيرِ الْبَرِّ ، وَانْعِقَادِهِ إيلَاءً إنَّمَا يَكُونُ حَالَ كَوْنِهِ ظَالِمًا لِأَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ هُوَ جَزَاؤُهُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا كَانَ الثَّابِتُ مُجَرَّدَ الْيَمِينِ عَلَى تَرْكِ قُرْبَانِهَا وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْإِيلَاءِ فَلَا يَسْتَلْزِمُهُ فَيَبْقَى يَمِينًا دُونَ إيلَاءٍ فَلَا يَصِيرُ كَقَوْلِهِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيُوَفِّرُ عَلَيْهِ حُكْمَ الْيَمِينِ الْمُجَرَّدَةِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ بِالْوَطْءِ ، كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَبَدًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَا تَطْلُقُ ، وَلَوْ وَطِئَهَا كَفَّرَ لِلْحِنْثِ كَذَا هَذَا ، وَلِذَا قُلْنَا إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِوَاسِطَةِ تَكَرُّرِ النِّكَاحِ فِي الْإِيلَاءِ الْمُطْلَقِ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لَوْ وَطِئَ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ لَوْ مَضَتْ الْمُدَّةُ دُونَ وَطْءٍ .
( قَوْلُهُ وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءُ هَذَا الْإِيلَاءِ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ ) أَطْلَقَ فِي ذَلِكَ وَكَذَا فِي الْكَافِي ، وَقَيَّدَهُ فِي النِّهَايَةِ وَالْغَايَةِ تَبَعًا لِلتُّمُرْتَاشِيِّ والمرغيناني بِمَا إذَا كَانَ التَّزَوُّجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهَا اعْتَبَرَ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ، وَمِثْلُهُ لَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ مُؤَبَّدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ ، فَإِنْ مَضَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ
عَلَيْهَا طَلْقَةٌ وَإِنْ مَضَتْ بَعْدَ انْقِضَائِهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ عَادَ الْإِيلَاءُ ، وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ فَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى قَبْلَهُ ، فَلَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ احْتَسَبَ بِهِ .
قَالَ فِي شَرَحَ الْكَنْزِ : وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّ الطَّلَاقَ يَتَكَرَّرُ قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ انْتَهَى .
فَالْأَوْلَى اعْتِبَارُ الْإِطْلَاقِ كَمَا فِي الْهِدَايَةِ ( قَوْلُهُ لِتَقَيُّدِهِ بِطَلَاقِ هَذَا الْمِلْكِ ) لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ الْمَنْعُ وَذَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِبُطْلَانِ حِلٍّ يُخَافُ بُطْلَانُهُ ، وَلَا يُخَافُ بُطْلَانُ حِلٍّ سَيُوجِدُ جَدِيدًا بَعْدَ التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ غَالِبُ الْعَدَمِ عَلَى وِزَانِ مَا قَدَّمْنَا فِي مَسْأَلَةِ التَّنْجِيزِ ، وَهُوَ مَا إذَا عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِالدُّخُولِ مَثَلًا ثُمَّ نَجَّزَ الثَّلَاثَ فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا فَدَخَلَتْ لَا تَطْلُقُ خِلَافًا لَزُفَرَ فَهَذِهِ فَرْعُ تِلْكَ وَفِيهَا خِلَافُ زُفَرَ كَتِلْكَ ، وَكَذَا لَوْ آلَى مِنْ زَوْجَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ خِلَافًا لَزُفَرَ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فِي الْإِيلَاءِ الْمُؤَبَّدِ لَا يَعُودُ الْإِيلَاءُ خِلَافًا لَهُ ، وَلَوْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَتَزَوَّجَتْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ، وَتَطْلُقُ كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهَا حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثِ ، وَفِيهِ خِلَافُ مُحَمَّدٍ وَهِيَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْهَدْمِ وَقَدْ مَرَّتْ
( فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَلِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ بِلَا مَانِعٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يُثْبِتُ حُكْمَ الطَّلَاقِ فِيهِ ( وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ مُولٍ ) لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِحَرْفِ الْجَمْعِ فَصَارَ كَجَمْعِهِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ ( وَلَوْ مَكَثَ يَوْمًا ثُمَّ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ بَعْدَ الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِأَنَّ الثَّانِيَ إيجَابٌ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ صَارَ مَمْنُوعًا بَعْدَ الْيَمِينِ الْأُولَى شَهْرَيْنِ وَبَعْدَ الثَّانِيَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا مَكَثَ فِيهِ فَلَمْ تَتَكَامَلْ مُدَّةُ الْمَنْعِ .
( قَوْلُهُ فَإِنْ حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) وَقَالَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَتْ الظَّاهِرِيَّةُ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَحَمَّادُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ : يَصِيرُ مُولِيًا فِي قَلِيلِ الْمُدَّةِ وَكَثِيرِهَا ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِطَلْقَةٍ لِإِطْلَاقِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُقَيِّدْ الْإِيلَاءَ بِكَوْنِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا ، بَلْ خَصَّ بِالْأَرْبَعَةِ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ وَأَطْلَقَ الْحَلِفَ .
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يَقُولُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا صَحَّ عِنْدَهُ فَتْوَاهُ بِخِلَافِهِ .
أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَا لَمْ يَبْلُغْ الْحَدَّ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قَالَ : كَانَ إيلَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَوَقَّتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِإِيلَاءٍ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالشُّعَبِيِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ كَقَوْلِ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ إيلَاءٌ ، وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي دَفْعِهِ قَوْلُ الصَّحَابِيِّ وَكِبَارِ التَّابِعِينَ مِمَّنْ ذَكَرْنَا ، فَإِنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِي مِثْلِهِ ظَاهِرٌ فِي السَّمَاعِ لَكِنْ يَبْقَى فِيهِ أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ إذْ هُوَ تَقْيِيدٌ لِإِطْلَاقِ الْحَلِفِ فِي كَوْنِهِ إيلَاءٌ فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَرْعُ كَوْنِ أَقَلِّ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَإِلَّا فَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهِ إذْ قُلْنَا
بِعَدَمِ تَقْيِيدِ الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا بِهَا فَإِثْبَاتُ كَوْنِ الْأَقَلِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِهِ مُصَادَرَةٌ ( قَوْلُهُ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ قُرْبَانِهَا فِي أَكْثَرِ الْمُدَّةِ بِلَا مَانِعٍ إلَخْ ) .
قِيلَ هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ شَهْرًا ، فَإِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْأَصْلِ إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا شَهْرًا وَإِلَّا فَالْأَقَلُّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَ الِامْتِنَاعِ إلَّا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ مُطْلَقًا لَا فِي أَكْثَرِهَا لِجَوَازِ كَوْنِ الْحَلِفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ .
وَقِيلَ لَفْظُ ( أَكْثَرَ ) مُقْحَمٌ وَبَعْدُ ذَلِكَ التَّقْرِيبِ ظَاهِرٌ ، وَقِيلَ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ تَمَامَ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَمَّاهَا أَكْثَرَ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهَا .
وَلَا إشْكَالَ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي جَمِيعِهَا فِي جَمِيعِ صُوَرِ الْحَلِفِ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَاسْتَضْعَفَهُ فِي الْكَافِي .
قَالَ : وَإِنَّمَا يَصِحُّ أَنْ لَوْ قَالَ فِي أَكْثَرِ الْمُدَّتَيْنِ انْتَهَى .
وَوَجْهُهُ أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ يَلْزَمُ فِي إضَافَتِهِ إلَى شَيْءٍ كَوْنُهُ بَعْضَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ وَلِذَا امْتَنَعَ يُوسُفُ أَحْسَنُ إخْوَتِهِ ، وَخَوَاصُّ الْبَشَرِ أَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ ، وَلَيْسَ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ الَّتِي هِيَ الْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ بَعْضَ الْمُدَّةِ الْمُضَافِ إلَيْهَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْأَرْبَعَةِ بَعْضَ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا فَلَزِمَ فِي صِحَّتِهِ أَنْ يَقُولَ أَكْثَرَ الْمُدَّتَيْنِ : يَعْنِي الْمُدَّةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا وَمُدَّةَ الْإِيلَاءِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مُدَّتَانِ وَالثَّانِيَةُ أَكْثَرُهَا .
وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّهُ لَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ كَانَ أَحْسَنَ وَأَسْلَمَ ( قَوْلُهُ وَشَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ ) إلَى آخِرِ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ لَفْظُ بَعْضِ الشَّهْرَيْنِ لَيْسَ قَيْدًا فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بَلْ قَيْدٌ فِي الثَّانِيَةِ فَقَطْ ، وَلَفْظُ يَوْمًا فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ قَيْدًا ، لَا
فَرْقَ بَيْنَ مُكْثِهِ يَوْمًا أَوْ سَاعَةً .
وَقِيلَ تَكْرِيرُ الْيَمِينِ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ وَبَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ تَنْجِيزٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَقَيَّدَ بِمُكْثِهِ يَوْمًا لِتَكُونَ الْمَسْأَلَةُ اتِّفَاقِيَّةً ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ أَثْبَاتَ الْمَذْهَبِ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَمِينَانِ وَلَمْ يُحْكَ فِيهِ خِلَافٌ .
وَإِنَّمَا حُكِيَ فِي قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ فَذَكَرُوا أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ .
وَفِي نَوَادِرِ ابْنِ سِمَاعَةَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَفِي الْمُنْتَقَى جَعْلُ كَوْنِهِمَا يَمِينَيْنِ قِيَاسًا وَكَوْنِهِمَا يَمِينًا وَاحِدَةً اسْتِحْسَانًا .
وَفَرَّعَ فِي الدِّرَايَةِ فِي آخِرِ الْبَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْزُوَهُ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ وَتَطْلُقُ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا قِيَاسًا ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ ، وَوَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَهُوَ خِلَافُ الْأَشْهَرِ .
وَلَوْ قَالَ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ يَوْمٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُولِيًا أَيْضًا ، لَكِنْ لَا لِمَا فِي الْكِتَابِ بَلْ لِتَدَاخُلِ الْمُدَّتَيْنِ فَتَتَأَخَّرُ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ عَنْ الْأُولَى بِيَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ بِسَاعَةٍ بِحَسَبِ مَا فَصَلَ بِهِ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ حِلْفَيْهِ الْحَلِفُ عَلَى شَهْرَيْنِ وَيَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ عَلَى حَسَبِ الْفَاصِلِ .
وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْإِيلَاءَ يُوجِبُ طَلَاقًا فِي الْبَرِّ وَكَفَّارَةً فِي الْحِنْثِ ، وَأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ كَوْنِهِ إيلَاءً وَيَمِينًا كَمَا قَدَّمْنَا ، فَلِذَلِكَ قَدْ يَتَعَدَّدُ الْبَرُّ وَالْحِنْثُ وَقَدْ يَتَّحِدَانِ ، وَقَدْ يَتَعَدَّدُ الْبَرُّ وَيَتَّحِدُ الْحِنْثُ وَقَلْبُهُ ، وَتَعَدُّدُ الْبَرِّ بِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ بِتَعَدُّدِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ بِتَعَدُّدِ الظُّلْمِ وَهُوَ بِتَعَدُّدِ مُدَّةِ الْمَنْعِ ، وَمَا لَمْ يَجِبْ تَعْدُدْهَا مِنْ
اللَّفْظِ كَانَتْ الْمُدَّتَانِ مُتَدَاخِلَتَيْنِ ، وَتَعَدُّدُ الْيَمِينِ بِتَعَدُّدِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ تَكْرَارِ حَرْفِ ( لَا ) دَاخِلَةً عَلَى الْمُدَّةِ ، وَمَنْ زَادَ السُّكُوتَ لَمْ يَحْتَجْ إلَيْهِ لِأَنَّ الِاسْمَ الْكَرِيمَ يَتَكَرَّرُ بَعْدَ السُّكُوتِ ، وَلَوْ كَانَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ الِاسْمِ الْكَرِيمِ لَمْ يَلْزَمْ التَّعَدُّدُ مِنْ تَعَدُّدِهِ .
فِي التَّجْرِيدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ عَلَيْهِ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ وَالْمَجْلِسُ وَالْمَجَالِسُ سَوَاءٌ .
وَلَوْ قَالَ عَنَيْت بِالثَّانِي الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِمْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ حَلَفَ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ يَسْتَقِيمُ .
مِثَالُ تَعَدُّدِهِمَا إذَا جَاءَ غَدٌّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا جَاءَ بَعْدَ غَدٍّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك .
أَمَّا إنَّهُمَا يَمِينَانِ فَلِتَعَدُّدٍ الذِّكْرِ ، وَأَمَّا أَنَّهُمَا إيلَاءَانِ فَلِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بَرَّ فِي الْأُولَى وَبَانَتْ ، فَإِذَا مَضَى يَوْمٌ آخَرُ بَرَّ فِي الثَّانِيَةِ وَطَلُقَتْ أَيْضًا ؛ وَلَوْ قَرِبَهَا بَعْدَ الْغَدِ تَجِبُ كَفَّارَتَانِ وَإِنْ أَطْلَقَ لُزُومَهُمَا فِي الْكَافِي ، وَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْغَدِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الْغَدَّ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَيْهِ إلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَتَعَدُّدُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الْيَمِينِ .
وَنَظِيرُهُ فِي النَّوَازِلِ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ يَوْمًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمْهُ شَهْرًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ سَنَةً ؛ إنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَاعَةٍ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيْمَانٍ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ الْغَدِ فَعَلَيْهِ يَمِينَانِ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ فَعَلَيْهِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَلَّمَهُ بَعْدَ سَنَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَمِنْ تَعَدُّدِهِمَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ ، وَكَذَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ
الْأَشْهُرِ ، إلَّا أَنَّهُ تَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْمُدَّةِ بِلَا تَدَاخُلٍ فَلَا يَتَصَوَّرُ فِي قُرْبَانٍ وَاحِدٍ كَفَّارَتَانِ ، وَهَذِهِ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْهِدَايَةِ فِي عَدَمِ تَدَاخُلِ الْمُدَّتَيْنِ : أَعْنِي قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ ثُمَّ بَعْدَ يَوْمٍ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ بَعْدَ هَذَيْنِ الشَّهْرَيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِيلَاءٍ كَمَا ذَكَرَ ، وَلَكِنْ تَتَدَاخَلُ الْمُدَّتَانِ ، فَلَوْ قَرِبَهَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَا فِي الشَّهْرَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْتَمِعْ عَلَى شَهْرَيْنِ يَمِينَانِ بَلْ عَلَى كُلِّ شَهْرَيْنِ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ تَوَارَدَ شُرُوحُ الْهِدَايَةِ مِنْ النِّهَايَةِ ، وَغَايَةُ الْبَيَانِ عَلَى الْخَطَإِ عِنْدَ كَلَامِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَاحْذَرْهُ ، فَلَوْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُولَى لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَكَذَا فِي الْأَرْبَعَةِ الثَّانِيَةِ ، وَلَوْ كَانَ أَطْلَقَ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ فَصَاعِدًا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ بَعْدَ سَاعَةٍ قَالَ كَذَلِكَ فَقَرِبَهَا بَعْدَ الْيَمِينِ الثَّالِثَةِ لَزِمَهُ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ لِلتَّدَاخُلِ فِي الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّانِيَةِ وَهُوَ سَاعَةٌ بَعْدَهَا تَبِينُ بِأُخْرَى إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَعِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ بِثَالِثَةٍ بِلَا خِلَافٍ ، بِخِلَافِ مَا مَضَى فِي الْكِتَابِ فِي تَأْبِيدِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْإِيلَاءَاتِ هُنَاكَ تَنْزِلُ مُتَعَاقِبَةً بِوَاسِطَةِ تَأْبِيدِ الْيَمِينِ الْوَاحِدَةِ ، فَجَاءَ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ الثَّانِي فِي الْعِدَّةِ أَوْ لَا .
وَمَنْ مَنَعَهُ قَالَ : لَا يُبْتَدَأُ الْإِيلَاءُ إلَّا فِي حَالٍ يَكُونُ بِالْمَنْعِ ظَالِمًا ، أَمَّا هُنَا فَالْإِيلَاءَاتُ الثَّلَاثَةُ صُرِّحَ بِهَا فِي حَالِ الْعِصْمَةِ وَهُوَ حَالُ تَحَقُّقِ ظُلْمِهِ بِهَا فَلَا يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الثَّانِيَةِ عَلَى قِيَامِ النِّكَاحِ ،
وَلَوْ كَانَ قَالَ مَرَّتَيْنِ فَقَطْ لَمْ تَقَعْ الثَّالِثَةُ إلَّا إذَا تَزَوَّجَهَا فَيَقَعُ بِحُكْمِ تَأْبِيدِ الْيَمِينِ إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ التَّزَوُّجِ .
وَمِثَالُ اتِّحَادِهِمَا : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ لَا أَقْرَبُك شَهْرَيْنِ وَشَهْرَيْنِ .
وَفِي الْكَافِي فِي نَظِيرِهِ : كُلَّمَا كَلَّمْت وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَكَلَّمَتْهُمَا مَعًا ، وَلَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ بِذَلِكَ فَائِدَةٌ فَإِنَّ بِتَكْلِيمِهِمَا مَعًا لَمْ تَنْحَلَّ الْيَمِينُ ، بَلْ لَوْ كَلَّمْت أَحَدَهُمَا بَعْدَهُمَا ثَبَتَ الْإِيلَاءُ ، فَالظَّاهِرُ كَوْنُ هَذَا مِنْ صُوَرِ تَعَدُّدِ الْبَرِّ .
فَإِنَّ عِلَّةَ التَّعَدُّدِ فِيمَا بَعْدَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا فِي هَذِهِ .
وَمِثَالُ تَعَدُّدِ الْبَرِّ وَاتِّحَادِ الْيَمِينِ : كُلَّمَا دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَدَخَلَتْهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ فِي يَوْمٍ آخَرَ ثُمَّ فِي يَوْمٍ آخَرَ ، فَإِنْ قَرِبَهَا تَجِبُ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ، فَإِذَا مَضَى يَوْمٌ آخَرُ بَانَتْ بِأُخْرَى ، وَإِذَا مَضَى يَوْمٌ آخَرُ بَانَتْ بِالثَّالِثَةِ ، وَفِي هَذَا الْمِثَالِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ وَقَعَ جَزَاءً لِشَرْطٍ مُتَكَرِّرٍ فَيَلْزَمُ تَكَرُّرُهُ .
وَلَا يَشْكُلُ بِأَنَّهُ لَا حَلِفَ عِنْدَ الشَّرْطِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ لَا حَلِفَ عِنْدَ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَمَعَ ذَلِكَ ثَبَتَ الْحَلِفُ عِنْدَهُ ، وَلَعَلَّهُ اشْتَبَهَ وَاَللَّهِ كُلَّمَا دَخَلْت لَا أَقْرَبُك بِكُلَّمَا دَخَلْت فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ، وَكَذَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ قَرِبْتُك يَتَعَدَّدُ بَرًّا ، وَكُلَّمَا دَخَلْت انْعَقَدَتْ مُدَّةٌ يَقَعُ بِمُضِيِّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ حِنْثُهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَعَذُّرِ وُقُوعِ شَيْءٍ آخَرَ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، وَنَحْوِهِ كُلَّمَا دَخَلْت فَعَبْدِي حُرٌّ إنْ قَرِبْتُك سَوَاءٌ .
وَمِثَالُ
اتِّحَادِ الْإِيلَاءِ وَتَعَدُّدِ الْيَمِينِ : إذَا جَاءَ غَدٌّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ فِي الْمَجْلِسِ إذَا جَاءَ غَدٌّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ إيلَاءٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الْبَرِّ حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ الْغَدِّ طَلُقَتْ ، وَإِنْ قَرِبَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ لِاتِّحَادِ الْمُدَّةِ وَتَعَدُّدِ الِاسْمِ ، وَكَذَا وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزِيدَ لَفْظَ أُخْرَى أَوْ نَحْوَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ خِلَافِيَّةٌ .
وَصُورَتُهَا فِي الْخِلَافِيَّاتِ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فِي ثَلَاثَةِ مَجَالِسَ فَكُلٌّ مِنْ الْيَمِينِ وَالْإِيلَاءِ ثَلَاثَةٌ .
وَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ التَّكْرَارَ فَالْيَمِينُ وَاحِدٌ وَالْإِيلَاءُ وَاحِدٌ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ أَرَادَ التَّشْدِيدَ وَالتَّغْلِيظَ وَهُوَ الِابْتِدَاءُ دُونَ التَّكْرَارِ فَالْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ إجْمَاعًا وَالْإِيلَاءُ ثَلَاثَةٌ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، حَتَّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا تَبِينُ بِطَلْقَةٍ ثُمَّ عَقِيبُهَا تَبِينُ بِأُخْرَى ثُمَّ بِأُخْرَى إلَّا أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ قَرِبَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا الْإِيلَاءُ وَاحِدٌ فَلَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ ، وَيَجِبُ بِالْقُرْبَانِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِأَيْمَانٍ كَثِيرَةٍ ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُدَّةُ مُتَّحِدَةً كَانَ الْمَنْعُ مُتَّحِدًا فَلَا يَتَكَرَّرُ الْإِيلَاءُ
( وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) خِلَافًا لَزُفَرَ ، هُوَ يَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءَ إلَى آخِرِهَا اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ فَتَمَّتْ مُدَّةُ الْمَنْعِ .
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمَ مُنْكَرٌ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْآخِرِ لِتَصْحِيحِهَا فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ مَعَ التَّنْكِيرِ وَلَا كَذَلِكَ الْيَمِينُ ( وَلَوْ قَرِبَهَا فِي يَوْمٍ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ صَارَ مُولِيًا ) لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ .
( قَوْلُهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) أَيْ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا إذَا قَرِبَهَا وَبَقِيَ بَعْدَ يَوْمِ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا إلَى تَمَامِ السَّنَةِ ؛ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْقُرْبَانِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ ( قَوْلُهُ اعْتِبَارًا بِالْإِجَارَةِ ) وَهُوَ مَا إذَا قَالَ أَجَّرْتُك سَنَةً إلَّا يَوْمًا يَنْصَرِفُ الْيَوْمُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ ، وَكَذَا إذَا قَالَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ سَنَةً إلَّا نُقْصَانَ يَوْمٍ يَكُونُ مُولِيًا صَرْفًا لَهُ إلَى الْآخَرِ وَبِمَا إذَا أَجَّلَ الدَّيْنَ ( قَوْلُهُ وَهَاهُنَا يُمْكِنُهُ ) لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَوْمَ مُنْكَرٌ فَيَصْدُقُ عَلَى كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ تِلْكَ السَّنَةِ حَقِيقَةً فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ اعْتِبَارًا لِيَوْمِ الْوَطْءِ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى ، بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُعَيَّنَ لِكَوْنِ الْيَوْمِ الْمُسْتَثْنَى آخِرُ السَّنَةِ لَيْسَ اللَّفْظُ بَلْ تَصْحِيحُ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِالْجَهَالَةِ وَفِي الْحَمْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ شَائِعًا فِي السَّنَةِ لَا تَتَعَيَّنُ مُدَّةَ الْإِجَارَةِ وَالنُّقْصَانِ يَنْصَرِفُ إلَى الْآخَرِ ، وَكَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ تَأْجِيلِ الدَّيْنِ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ فَتَتَعَيَّنُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ .
وَاَلَّذِي يُشْكِلُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا سَنَةً إلَّا يَوْمًا يَنْصَرِفُ إلَى الْيَوْمِ الْأَخِيرِ .
وَجَوَابُ صَاحِبِ النِّهَايَةِ بِأَنَّ الْمُعَيَّنَ الْحَامِلَ وَهُوَ الْمُغَايَظَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِعَدَمِ كَلَامِهِ فِي الْحَالِ مَنْظُورٌ فِيهِ بِأَنَّهُ مُشْتَرَكُ الْإِلْزَامِ إذْ الْإِيلَاءُ أَيْضًا يَكُونُ مِنْ الْمُغَايَظَةِ ( قَوْلُهُ صَارَ مُولِيًا لِسُقُوطِ الِاسْتِثْنَاءِ ) مَعَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ ، وَلَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ لَا أَقْرَبُك إلَّا يَوْمًا لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَهَا ، فَإِذَا قَرِبَهَا صَارَ مُولِيًا .
وَلَوْ قَالَ سَنَةً إلَّا يَوْمًا أَقْرَبُك فِيهِ
لَا يَكُونُ مُولِيًا أَبَدًا لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى كُلَّ يَوْمٍ يَقْرَبُهَا فِيهِ فَلَا يَكُونُ مَمْنُوعًا أَبَدًا ، وَكَذَا لَوْ أَطْلَقَ مَعَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ .
وَإِذَا قَالَ سَنَةً فَمَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا فَوَقَعَتْ طَلْقَةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَمَضَتْ أَرْبَعَةٌ أُخْرَى لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهَا وَقَعَتْ أُخْرَى ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فَمَضَتْ أَرْبَعَةٌ أُخْرَى لَا يَقَعُ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِالضَّرُورَةِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
( وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ الْكُوفَةَ وَامْرَأَتُهُ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَلْزَمُهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُوفَةِ ( قَالَ : وَلَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ بِصَوْمٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مُولٍ ) لِتَحَقُّقِ الْمَنْعِ بِالْيَمِينِ وَهُوَ ذِكْرُ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَهَذِهِ الْأَجْزِيَةُ مَانِعَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ .
وَصُورَةُ الْحَلِفِ بِالْعِتْقِ أَنْ يُعَلِّقَ بِقُرْبَانِهَا عِتْقَ عَبْدِهِ ، وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ : يُمْكِنُهُ الْبَيْعُ ثُمَّ الْقُرْبَانُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهُمَا يَقُولَانِ الْبَيْعُ مَوْهُومٌ فَلَا يَمْنَعُ الْمَانِعِيَّةَ فِيهِ ، وَالْحَلِفُ بِالطَّلَاقِ أَنْ يُعَلِّقَ بِقُرْبَانِهَا طَلَاقَهَا أَوْ طَلَاقَ صَاحِبَتِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مَانِعٌ .
( قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ وَهُوَ بِالْبَصْرَةِ ) إذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا فِي مَكَان مُعَيَّنٍ هِيَ فِيهِ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَهُوَ فِي غَيْرِهِمَا ، إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَدْرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَ مُولِيًا عَلَى مَا فَرَّعَ قَاضِي خَانْ والمرغيناني فَإِنَّهُمَا قَالَا : لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَفَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إمْكَانَ خُرُوجِ كُلٍّ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَلْتَقِيَانِ فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَلَى مَا فِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَزَوْجَتُهُ فِي بَلَدٍ فَحَلَفَ لَا يَدْخُلُهُ وَبَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ لَا يَصِيرُ مُولِيًا لِجَوَازِ أَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ فَيَلْتَقِيَانِ فِي أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَيَقْرَبُهَا ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَإِنَّهُ يَكُونُ مُولِيًا ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ مُولِيًا عَلَى قَوْلِ كُلِّ مَنْ قَدَّمْنَا عِنْدَ انْعِقَادِ الْإِيلَاءِ إذَا حَلَفَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَغَيْرُهُ .
وَكَذَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إلَّا فِي الْمُحَرَّمِ وَهُوَ فِي شَوَّالٍ أَوْ حَتَّى تَفْطِمِي وَلَدَك وَإِلَى مُدَّةِ الْفِطَامِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَالْوَجْهُ الْمَذْكُورُ لِلْجُمْهُورِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ الْمُولِيَ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ ، وَقَدْ بَحَثْنَا هُنَاكَ أَنَّ هَذَا فَرْعُ كَوْنِ أَقَلِّ مُدَّةٍ يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ بِالْحَلِفِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَبِالضَّرُورَةِ إنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَجْعَلَ هَذَا أَصْلًا مُمَهَّدًا فِي مَذْهَبِ الْمَانِعِينَ بَعْدَ ثُبُوتِ عَدَمِ انْعِقَادِهِ لِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِدَلِيلِهِ
مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَتُعَلَّلُ بِهِ الْأَحْكَامُ الْمَذْهَبِيَّةُ لَا عِنْدَ قَصْدِ الْإِثْبَاتِ عَلَى الْمُخَالِفِ .
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَإِنَّهُ مُولٍ ، فَإِذَا تَرَكَهُنَّ فِي الْمُدَّةِ طُلِّقْنَ ، وَلَوْ قَرِبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَثَبَتَ أَنَّ إمْكَانَ الْقُرْبَانِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِيلَاءِ .
أُجِيبَ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْإِيلَاءَ مُتَعَلِّقٌ بِمَنْعِ الْحَقِّ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ وُجِدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ ، وَعَدَمُ لُزُومِ شَيْءٍ لِعَدَمِ الْحِنْثِ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِقُرْبَانِهِنَّ ، وَالْمَوْجُودُ قُرْبَانُ بَعْضِهِنَّ .
وَحَاصِلُ هَذَا تَخْصِيصُ اطِّرَادِ الْأَصْلِ بِمَا إذَا حَلَفَ عَلَى وَاحِدَةٍ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ ( قَوْلُهُ وَلَوْ حَلَفَ بِحَجٍّ إلَخْ ) بِأَنْ يَقُولَ إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ أَوْ صِيَامٌ أَوْ هَدْيٌ أَوْ اعْتِكَافٌ أَوْ يَمِينٌ أَوْ كَفَّارَةُ يَمِينٍ أَوْ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ هَذِهِ لِزَوْجَةٍ أُخْرَى أَوْ فَعَبْدِي حُرٌّ أَوْ فَعَلَيَّ عِتْقٌ لِعَبْدٍ مُبْهَمٍ فَهُوَ مُولٍ .
أَمَّا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ مَثَلًا فَلَيْسَ بِمُولٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَرْكُ الْقُرْبَانِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ ذَلِكَ ثُمَّ يَطَؤُهَا بِلَا شَيْءٍ يَلْزَمُهُ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ .
وَلَوْ قَالَ فَعَلَيَّ اتِّبَاعُ جِنَازَةٍ أَوْ سَجْدَةُ تِلَاوَةٍ أَوْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَوْ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ تَسْبِيحَةٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ .
وَنُقِلَ فِي الصَّلَاةِ خِلَافُ مُحَمَّدٍ ، فَعِنْدَهُ يَكُونُ مُولِيًا لِأَنَّهَا مِمَّا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ .
وَتَقَدَّمَ أَوَّلَ الْبَابِ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْهُ .
وَيَجِبُ صِحَّةُ الْإِيلَاءِ فِيمَا لَوْ قَالَ فَعَلَيَّ مِائَةُ رَكْعَةٍ وَنَحْوُهُ مِمَّا يَشُقُّ عَادَةً ، وَكَذَا خِلَافُهُ ثَابِتٌ فِي مَسْأَلَةِ الْغَزْوِ الْمَذْكُورَةِ أَوَّلَ الْبَابِ .
فَإِنْ قُلْت : يَنْبَغِي فِي الصَّلَاةِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ
يَكُونَ مُولِيًا اتِّفَاقًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ كَالْحَجِّ .
قُلْنَا : نَعَمْ لَوْ لَزِمَ مَنْ نَذَرَ الصَّلَاةَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَنْ لَا يَسْقُطَ إلَّا بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، لَكِنْ الْمَذْهَبُ أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ وَيَسْقُطُ النَّذْرُ بِهِ عَلَى مَا عُرِفَ .
وَلَوْ قَالَ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَى هَذَا الْمِسْكَيْنِ بِهَذَا الدِّرْهَمِ أَوْ مَالِي هِبَةً فِي الْمَسَاكِينِ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّصَدُّقَ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ حُرٌّ صَارَ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُمَا ، وَكَذَا لَوْ قَالَ فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ يَصِيرُ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ .
وَلَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ يَصِيرُ مُولِيًا .
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ حَتَّى أُطَلِّقَ فُلَانَةَ أَوْ حَتَّى أُطَلِّقَك يَصِيرُ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْقُرْبَانُ بِلَا شَيْءٍ بِأَنْ لَا يَشْتَرِيَ عَبْدًا وَلَا يَتَزَوَّجَ وَبِتَقْدِيمِ الْغَايَةِ .
قُلْنَا لَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا بِضَرَرٍ لَازِمٍ إذْ اللُّزُومُ لِأَجْلِ قُرْبَانِهَا كَاللُّزُومِ بِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ مَتَى جَعَلَ لِيَمِينِهِ غَايَةً لَا تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أَوْ يَنْزِلَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ الدَّابَّةُ فَهُوَ مُولٍ اسْتِحْسَانًا بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ وَإِنْ احْتَمَلَ الْقُرْبُ وَقْتَ التَّكَلُّمِ بِهِ ، وَكَذَا إذَا كَانَتْ الْغَايَةُ لَا تَتَصَوَّرُ مَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ كَقَوْلِهِ حَتَّى أَمُوتَ أَوْ تَمُوتِي أَوْ أَقْتُلَك أَوْ تَقْتُلِينِي أَوْ أَبِينَك وَإِنْ كَانَتْ تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ لَكِنَّهَا تُصْلِحُ جَزَاءً نَحْوَ حَتَّى أَعْتِقَ عَبْدِي أَوْ أُطَلِّقَ فُلَانَةَ كَانَ مُولِيًا عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَقَدْ
عَرَفْت الْوَجْهَ ( قَوْلُهُ وَفِيهِ خِلَافُ أَبِي يُوسُفَ ) أَيْ فِي ثُبُوتِ الْإِيلَاءِ بِالْحَلِفِ بِعِتْقِ عَبْدِهِ الْمُعَيَّنِ ، فَإِنَّ ضَمِيرَ فِيهِ لِعِتْقِ عَبْدِهِ وَهُوَ الْمُعَيَّنُ لَا الْمُبْهَمُ ، فَإِنَّ تَعْلِيلَهُ لَا يَتِمُّ فِيهِ ( قَوْلُهُ الْبَيْعُ مَوْهُومٌ ) أَيْ غَيْرُ مَقْدُورٍ لَهُ بِنَفْسِهِ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ ، وَقَدْ لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا فِي الْمُدَّةِ فَتَمْضِي قَبْلَ وُجُودِهِ ، بِخِلَافِ الْإِخْرَاجِ مِنْ الْكُوفَةِ لِأَنَّهُ مَقْدُورٌ لَهُ وَهُوَ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى امْتِثَالِهَا أَيْضًا لَكِنَّ امْتِثَالَهَا وَاجِبٌ وَالْوُجُوبُ طَرِيقُ الْوُجُودِ ، بِخِلَافِ امْتِثَالِ الْمُشْتَرِي ، وَإِذَا كَانَ مَوْهُومًا فَلَا يُمْنَعُ الْمَانِعِيَّةُ الْكَائِنَةُ فِي الْجَزَاءِ وَهُوَ عِتْقُ الْعَبْدِ بِالْقُرْبَانِ .
وَلَوْ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يُمْكِنُهُ قُرْبَانُهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ .
وَلَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبِ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ عَادَ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الْمِلْكِ إنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَهَا قَبْلَهُ ، فَإِنْ كَانَ وَطِئَهَا قَبْلُ تَجَدُّدِ الْمِلْكِ لَمْ يَعُدْ لِسُقُوطِ الْيَمِينِ .
وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْبَيْعِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَطْءِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَوْتُ الْمَرْأَةِ الْمُعَلَّقِ طَلَاقُهَا أَوْ إبَانَتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
( وَإِنْ آلَى مِنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَانَ مُولِيًا ، وَإِنْ آلَى مِنْ الْبَائِنَةِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ) لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ فِي الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ ، وَمَحَلُّ الْإِيلَاءِ مَنْ تَكُونُ مِنْ نِسَائِنَا بِالنَّصِّ ، فَلَوْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّيَّةِ
( قَوْلُهُ وَإِنْ آلَى مِنْ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ كَانَ مُولِيًا ) بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِهِ مِنْ الْبَائِنَةِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلِاحْتِمَالِ امْتِدَادِ طُهْرِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ فَلِاحْتِمَالِ رَجْعَتِهَا فَيَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ مُمْتَدًّا إلَى مَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْهَا حَتَّى مَضَى شَهْرٌ مِنْ الرَّجْعَةِ بَانَتْ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى زَوَالَ الزَّوْجِيَّةِ بِالطَّلْقَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَحُرْمَةَ الْوَطْءِ كَالْبَائِنَةِ ، وَعَلَى قَوْلِنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ بِالْمَنْعِ ظَالِمًا .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعِبْرَةَ مِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لَعَيْنِ النَّصِّ لَا لِمَعْنَى النَّصِّ ، وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ مِنْ نِسَائِنَا بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } وَالْبَعْلُ الزَّوْجُ حَقِيقَةً عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ فِي أَوَّلِ بَابِ الرَّجْعَةِ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ فَيَشْمَلُهَا نَصُّ الْإِيلَاءِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ الْإِيلَاءُ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ لِخَوْفِ الْغِيلِ عَلَى وَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَعُلِمَ أَنَّ التَّعَلُّلَ بِالظُّلْمِ بِاعْتِبَارِ بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الْغَالِبِ ، بِخِلَافِ الْبَائِنِ لِانْتِفَاءِ اسْمِ الزَّوْجِ حَقِيقَةً فَيَنْتَفِي كَوْنُهَا مِنْ نِسَائِنَا .
وَقِيلَ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ الْبَائِنَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ تَعْلِيقُ طَلَاقٍ بَائِنٍ عَلَى مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِلَا قُرْبَانٍ ، وَالْمُطَلَّقَةُ الْبَائِنَةُ لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ بَائِنٌ مُنْجَزٌ وَلَا مُعَلَّقٌ : يَعْنِي إذَا كَانَ التَّعْلِيقُ بَعْدَ الْإِبَانَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ قَبْلَهَا فَوَجَدَ الشَّرْطَ فِي عِدَّتِهَا مِنْ الْبَائِنِ يَلْحَقُ ، وَهَذَا الْحَصْرُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْلَا هَذَا صَحَّ الْإِيلَاءُ مِنْهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ وَنِسَائِنَا .
وَالْحَقُّ أَنَّ مَبْنَى عَدَمِ لُحُوقِ الْبَائِنَةِ هُوَ مَبْنَى عَدَمِ الْإِيلَاءِ
مِنْهَا وَهُوَ عَدَمُ الزَّوْجِيَّةِ فَالْإِسْنَادُ إلَيْهِ أَوْلَى ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ تَخَلُّفَ الْعِلَّةِ فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ نَقْضٌ إلَّا لِمَانِعٍ ، فَالْحَقُّ أَنَّ الظُّلْمَ حِكْمَةٌ وَنَفْسُ الْإِيلَاءِ هُوَ الْعِلَّةُ فَلَا يَلْزَمُ وُجُودُهُ دَائِمًا
( وَلَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَلَا مُظَاهِرًا ) لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِهِ وَقَعَ بَاطِلًا لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ ( وَإِنْ قَرِبَهَا كَفَّرَ ) لِتَحَقُّقِ الْحِنْثِ إذْ الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِ
( قَوْلُهُ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَخْرَجِهِ وَقَعَ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ ) وَهِيَ كَوْنُهَا مِنْ نِسَائِنَا فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ، قَالَ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهَا مَحِلًّا وَقْتَ التَّكَلُّمِ بِالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ أَوْ وَقْتَ وُجُودِ شَرْطِهِمَا لَمَا عُرِفَ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ بِالطَّلَاقِ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحَةٌ ، وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ ، فَإِذَا قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَقَعَ صَحِيحًا ، وَكَذَا إنَّ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ الْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ إلَّا عَقِيبَ التَّزَوُّجِ بِهَا لِأَنَّهَا إذْ ذَاكَ تَصِيرُ مِحْلَالًا قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّ الظِّهَارَ لَمَّا كَانَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ اسْتَدْعَى انْعِقَادُهُ قِيَامَ حِلِّ وَطْئِهَا ( قَوْلُهُ إذَا الْيَمِينُ مُنْعَقِدَةٌ فِي حَقِّهِ ) أَيْ فِي حَقِّ الْوَطْءِ لِأَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ يَعْتَمِدُ التَّصَوُّرَ حِسًّا لَا شَرْعًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ عَلَى مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ
( وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ ) لِأَنَّ هَذِهِ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ أَجَلًا لِلْبَيْنُونَةِ فَتَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ .
( قَوْلُهُ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ ) أَيْ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ .
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَسْتَوِي مُدَّةُ إيلَاءِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ .
وَالْقِيَاسُ عَلَى مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِجَامِعِ كَوْنِهَا تَرَبَّصُ هُوَ أَجَلٌ لِلْبَيْنُونَةِ كَالْعِدَّةِ مَدْفُوعٌ ، فَإِنَّ الْبَيْنُونَةَ لَا تَحْصُلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ ، وَأَيْضًا تَرَبَّصُ الْعِدَّةِ لِلْخَطَرِ وَتَعَرُّفُ الْفَرَاغِ وَهُوَ الْمُؤَثِّرُ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي تَرَبُّصِ الْإِيلَاءِ .
وَالْأَوْجَهُ الِاسْتِوَاءُ لِعُمُومِ نَصِّ الْإِيلَاءِ ، لِأَنَّ الْأَمَةَ مِنْ نِسَائِنَا ، وَلِأَنَّ ضَرْبَهَا إيلَاءٌ لِعُذْرِ الزَّوْجِ وَرِفْقًا جَرْيًا عَلَى عَادَتِهِ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ الْمُعَاجَلَةِ بِالْعُقُوبَةِ ، فَأُخِّرَتْ عُقُوبَتُهُ الدُّنْيَوِيَّةُ بِظُلْمِهِ إلَى انْقِضَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ
( وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ أَوْ كَانَتْ مَرِيضَةً أَوْ رَتْقَاءَ أَوْ صَغِيرَةً لَا تُجَامَعُ أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَفَيْؤُهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ فِئْت إلَيْهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ سَقَطَ الْإِيلَاءُ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا .
وَلَنَا أَنَّهُ آذَاهَا بِذِكْرِ الْمَنْعِ فَيَكُونُ إرْضَاؤُهَا بِالْوَعْدِ بِاللِّسَانِ ، وَإِذَا ارْتَفَعَ الظُّلْمُ لَا يُجَازَى بِالطَّلَاقِ ( وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ بَطَلَ ذَلِكَ الْفَيْءُ وَصَارَ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ ) لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْحَلِفِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمُولِي مَرِيضًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ ) لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ عَدَمِ الْعُذْرِ لِلْمَرَضِ أَوْ لِلْجُبِّ ، كَمَا أَنَّهُ فِي حَقِّهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَانِعِ مَرْضَهَا أَوْ الرَّتْقَ أَوْ الْقَرْنَ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ مَنَعَ إيلَاءَ الْمَجْبُوبِ ، وَمِنْ الرَّتْقَاءِ وَالْقَرْنَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِمَاعُ فَلَا ظُلْمَ .
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا فِي الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ، وَلِأَنَّ هَذَا تَعْلِيلٌ فِيهِ إبْطَالُ حُكْمِ النَّصِّ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ : لَوْ عَجَزَ عَنْ جِمَاعِهَا لِرَتْقِهَا أَوْ قَرَنِهَا أَوْ صِغَرِهَا أَوْ بِالْجُبِّ أَوْ الْعُنَّةِ أَوْ كَانَ أَسِيرًا فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ لِكَوْنِهَا مُمْتَنِعَةً أَوْ كَانَتْ فِي مَكَان لَا يَعْرِفُهُ وَهِيَ نَاشِزَةٌ أَوْ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ حَالَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا لِشَهَادَةِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فَفَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ بِأَنْ يَقُولَ فِئْت إلَيْهَا أَوْ رَجَعْت عَمَّا قُلْت أَوْ رَاجَعْتهَا أَوْ ارْتَجَعْتهَا أَوْ أَبْطَلَتْ إيلَاءَهَا .
وَاخْتُلِفَ فِي الْحَبْسِ صُحِّحَ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ بِسَبَبِهِ فِي الْبَدَائِعِ .
وَفِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ : لَوْ آلَى وَهِيَ مَجْنُونَةٌ أَوْ وَهُوَ مَحْبُوسٌ أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ إلَّا أَنَّ السُّلْطَانَ يَمْنَعُهُ أَوْ الْعَدُوُّ لَا يَكُونُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ ، وَهُوَ جَوَابُ الرِّوَايَةِ نَصَّ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي الْكَافِي .
وَوَفَّقَ بِحَمْلِ مَا فِي الْكَافِي وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى السِّجْنِ بِأَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ فَيُجَامِعُهَا وَمَنْعُ السُّلْطَانِ وَالْعَدُوِّ نَادِرٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ وَالْحَبْسِ بِحَقٍّ لَا يَعْتَبِرُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ وَبِظُلْمٍ يَعْتَبِرُ ، وَهَلْ يَكْفِي الرِّضَا بِالْقَلْبِ مِنْ الْمَرِيضِ ؟ قِيلَ نَعَمْ حَتَّى إنَّ صَدَّقَتْهُ كَانَ فَيْئًا ، وَقِيلَ لَا وَهُوَ أَوْجَهُ .
ثُمَّ هَذَا إنْ كَانَ عَاجِزًا مِنْ وَقْتِ الْإِيلَاءِ إلَى أَنْ تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حَتَّى لَوْ آلَى مِنْهَا وَهُوَ قَادِرٌ فَمَكَثَ قَدْرَ
مَا يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا ثُمَّ عَرَضَ لَهُ الْعَجْزُ بِمَرَضٍ أَوْ بُعْدِ مَسَافَةٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ جُبٍّ أَوْ أَسْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، أَوْ كَانَ عَاجِزًا حِينَ آلَى وَزَالَ الْعَجْزُ فِي الْمُدَّةِ لَمْ يَصِحَّ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ خِلَافًا لَزُفَرَ فِي غَيْرِ الْأَخِيرَةِ فَإِنَّ الْعَجْزَ ثَابِتٌ وَهُوَ الْمَدَارُ .
قُلْنَا لَمَّا تَمَكَّنَ وَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الْإِضْرَارُ فَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِإِيفَاءِ حَقِّهَا بِالْجِمَاعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْعَبَ الْعَجْزُ الْمُدَّةَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ فِيهَا فَكَانَ ظُلْمُهُ فِي الْإِيلَاءِ بِأَذَى اللِّسَانِ فَفَيْؤُهُ الَّذِي هُوَ تَوْبَتُهُ بِتَطْيِيبِ قَلْبِهَا بِهِ لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ ، وَلَوْ آلَى إيلَاءً مُؤَبَّدًا وَهُوَ مَرِيضٌ فَبَانَتْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ثُمَّ صَحَّ وَتَزَوَّجَهَا وَهُوَ مَرِيضٌ فَفَاءَ بِلِسَانِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَصَحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى مَا قَالُوا لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وُجِدَ مِنْهُ وَهُوَ مَرِيضٌ وَعَادَ حُكْمُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ، وَفِي زَمَانِ الصِّحَّةِ هِيَ مُبَانَةٌ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ فَلَا يَعُودُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِيهِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ إنَّ ذَلِكَ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَا تَبِينُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَانِعُ شَرْعِيًّا بِأَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَإِلَى وَقْتِ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فَالْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ .
وَعِنْدَ زُفَرَ بِاللِّسَانِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مَانِعٌ مِنْ الْجِمَاعِ شَرْعًا فَثَبَتَ الْعَجْزُ فَكَانَ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ وَهُمْ اعْتَبَرُوا الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ وَهُوَ مُنْتَفٍ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ الْمُتَسَبِّبُ بِاخْتِيَارِهِ بِطَرِيقٍ مَحْظُورٍ فِيمَا لَزِمَهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ تَخْفِيفًا ( قَوْلُهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا فَيْءَ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا ) وَضَعْفُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ شِمَّةٌ
لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْجِمَاعِ فَكَيْفَ يَحْنَثُ بِفِعْلِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ حِنْثًا لِأَنَّ الْفَيْءَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْجِمَاعِ ، فَلَوْ كَانَ فَيْئًا لَكَانَ بِالْجِمَاعِ فَكَانَ حِنْثًا لَزِمَ صَرِيحُ الْمُصَادَرَةِ وَالنَّصُّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا } لَا يُوجِبُ تَعَيُّنَ كَوْنِ الْفَيْءِ لَا الْجِمَاعَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ فَإِنْ رَجَعُوا عَنْ عَزْمِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الظُّلْمِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِرْضَائِهَا بِالْجِمَاعِ وَبِإِرْضَائِهَا بِالْقَوْلِ ، وَوَعَدَ الْجِمَاعَ عِنْدَ عَجْزِهِ وَهِيَ مُشَاهِدَةٌ لِعَجْزِهِ ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ مَا قَالَاهُ .
وَالْحَقُّ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ كَقَوْلِنَا : وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَزِمَهُ كَفَّارَةٌ لِتَحَقُّقِ الْحِنْثِ لِأَنَّ يَمِينَهُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّ الْحِنْثِ وَإِنْ بَطَلَتْ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ ( قَوْلُهُ وَصَارَ فَيْؤُهُ بِالْجِمَاعِ ) حَتَّى لَوْ لَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عِنْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ ، وَهَذَا فَرْعُ تَمَامِهَا وَلَمْ تَتِمَّ حَتَّى قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْجِمَاعُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْبَدَلِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْخَلَفِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا رَأَى الْمَاءَ
( وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ ) ، فَإِنْ قَالَ أَرَدْت الْكَذِبَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الطَّلَاقَ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ ) وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِنَايَاتِ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَيْسَ بِظِهَارٍ لِانْعِدَامِ التَّشْبِيهِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَهُوَ الرُّكْنُ فِيهِ .
وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ وَفِي الظِّهَارِ نَوْعُ حُرْمَةٍ وَالْمُطْلَقُ يَحْتَمِلُ الْمُقَيَّدَ ( وَإِنْ قَالَ أَرَدْت التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا ) لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ إنَّمَا هُوَ يَمِينٌ عِنْدَنَا وَسَنَذْكُرُهُ فِي الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ يَصْرِفُ لَفَظَّةَ التَّحْرِيمِ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ بِحُكْمِ الْعُرْفِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَوْلُهُ سُئِلَ عَنْ نِيَّتِهِ ) هَذَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ جَوَابُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ بَيَانَ الْمُجْمَلِ عَلَى الْمُجْمَلِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَعَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ .
وَعَنْ عَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ أَنَّ الْحَرَامَ ثَلَاثَةٌ ، إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ يَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولَةِ .
وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ التَّوَقُّفُ ، وَفِيهِ نَحْوَ أَحَدَ عَشَرَ مَذْهَبًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ( قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ) إذْ حَقِيقَتُهُ وَصْفُهَا بِالْحُرْمَةِ وَهِيَ مَوْصُوفَةٌ بِالْحِلِّ فَكَانَ كَذِبًا ، وَعَنْ هَذَا قَالَ مَسْرُوقُ وَالشُّعَبِيُّ فِي التَّحْرِيمِ إنَّهُ كَتَحْرِيمِ قَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ .
وَأَوْرَدَ لَوْ كَانَ حَقِيقَةَ كَلَامِهِ لَانْصَرَفَ إلَيْهِ بِلَا نِيَّةٍ لَكِنَّكُمْ تَقُولُونَ عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْيَمِينِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ أُولَى فَلَا تُنَالُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَالْيَمِينُ الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ الثَّابِتَةُ بِوَاسِطَةِ الِاشْتِهَارِ .
وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ، قَالَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ ، بَلْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَمِينٌ ظَاهِرًا ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لَمْ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } إلَى أَنْ قَالَ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي نِيَّتِهِ خِلَافَ الظَّاهِرِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَمَلُ وَالْفَتْوَى كَمَا سَنَذْكُرُ ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَلْوَانِيِّ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ لَكِنَّ الْفَتْوَى عَلَى الْعُرْفِ الْحَادِثِ .
( قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الثَّلَاثَ ) وَلَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثِّنْتَيْنِ إلَّا فِي الْأَمَةِ خِلَافًا لَزُفَرَ
وَالزُّهْرِيِّ ، وَمَرَّ فِي الْكِنَايَاتِ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِ الْحَالَةِ حَالَةُ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ أَوْ لَا .
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً ثُمَّ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى ثِنْتَيْنِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ، وَلَوْ نَوَى الثَّلَاثَ وَقَعَتْ ثِنْتَانِ فَكَمُلَتْ الثَّلَاثُ ( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ أَرَدْت الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ، وَلَيْسَ مَذْكُورًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي مُخْتَصَرِهِ وَلَا الطَّحَاوِيُّ ، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ عَنْهُمَا مِنْ النَّوَادِرِ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الظِّهَارَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحْرِمَةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
وَفِي جَوَامِعِ الْفِقْهِ نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ظِهَارٌ إذَا نَوَى بِهِ الظِّهَارَ عَلَى مَا عُرِفَ النَّقْلُ بِهِ عَنْهُ ( قَوْلُهُ وَلَهُمَا أَنَّهُ أَطْلَقَ الْحُرْمَةَ إلَخْ ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْحُرْمَةَ أَعَمُّ مِنْ الْحُرْمَةِ الَّتِي هِيَ ظِهَارٌ أَوْ لَا ، وَالْأَعَمُّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصِيَّاتُ ، فَنِيَّةُ الظِّهَارِ نِيَّةُ مُحْتَمَلِ كَلَامِهِ لَا نِيَّةَ خِلَافِ ظَاهِرِهِ فَيُصَدَّقُ قَضَاءً ( قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ أَرَدْت التَّحْرِيمَ أَوْ لَمْ أُرِدْ بِهِ شَيْئًا فَهُوَ يَمِينٌ يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا ) وَنَصَّ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ خِلَافُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ حَيْثُ قَالَ فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا كَانَ يَمِينًا وَيَنْصَرِفُ إلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ : وَمِنْ مَشَايِخِ بَلْخٍ مَنْ قَالَ : تَدْخُلُ امْرَأَتُهُ بِلَا نِيَّةٍ فَتَبَيَّنَ وَصَحَّحَ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَسُئِلَ نَجْمُ الدِّينِ عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا حَلَالُ اللَّهِ عَلَيْك حَرَامٌ فَقَالَ نَعَمْ تَحْرُمُ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا ؟ قَالَ نَعَمْ وَكَذَلِكَ حَلَالُ الْمُسْلِمِينَ .
ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا نَوَى امْرَأَتَهُ حَتَّى دَخَلَتْ لَا يَخْرُجُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَنْ الْيَمِينِ
فَيَحْنَثُ بِأَيِّ ذَلِكَ وُجِدَ ، فَإِذَا تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ حَنِثَ وَانْقَضَى حُكْمُ يَمِينِهِ حَتَّى لَوْ قَرِبَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَنَاوَلَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الطَّعَامَ وَهُوَ مِمَّا يَسْتَوْفِيهِ وَاحِدٌ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ جَمِيعَهُ ، وَكَذَا لَا يَدْخُلُ اللِّبَاسُ إلَّا بِالنِّيَّةِ .
وَإِذَا دَخَلَ لَا يَخْرُجُ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ ، وَلَوْ نَوَى الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَهُوَ كَمَا نَوَى ، وَلَوْ نَوَى الطَّلَاقَ فِي نِسَائِهِ وَالْيَمِينَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ طَلَاقٌ وَيَمِينٌ ( قَوْلُهُ وَمِنْ الْمَشَايِخِ ) هُمْ الْمُتَأَخِّرُونَ لِمَا ظَهَرَ مِنْ الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَتَزَوَّجَهَا تَطْلُقُ ، وَلِهَذَا لَا يَحْلِفُ بِهِ إلَّا الرِّجَالُ ، وَلَوْ قَالَتْ هِيَ أَنَا عَلَيْك حَرَامٌ كَانَ يَمِينًا وَإِنْ لَمْ تَنْوِ ، فَلَوْ مَكَّنَتْهُ حَنِثَتْ وَكَفَّرَتْ وَصَارَ كَمَا إذَا تَلَفَّظَ بِطَلَاقِهَا غَيْرُ نَاوٍ تَطْلُقُ لِلصَّرَاحَةِ وَالْعُرْفُ هُوَ الْمُوجِبُ لِثُبُوتِ الصَّرَاحَةِ ، وَعَنْ هَذَا قَالُوا : لَوْ نَوَى غَيْرَ الطَّلَاقِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ بَلْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ الْأُسْتَاذُ ظَهِيرُ الدِّينِ الْمَرْغِينَانِيِّ : لَا أَقُولُ لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ لَكِنْ يُجْعَلُ نَاوِيًا عُرْفًا ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُك عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيَّ أَوْ أَنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَيَّ أَوْ أَنَا عَلَيْكِ حَرَامٌ أَوْ مُحَرَّمٌ أَوْ حَرَّمْت نَفْسِي عَلَيْك .
وَيُشْتَرَطُ قَوْلُهُ عَلَيْك فِي تَحْرِيمِ نَفْسِهِ ، فَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ لَا تَطْلُقُ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ ، بِخِلَافِ نَفْسِهَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ مَعِي فِي الْحَرَامِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ .
وَفِي الْفَتَاوَى : لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَهُوَ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَمَّا إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ أَرْبَعٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ : إنْ كَانَ لَهُ وَاحِدَةٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَرْبَعٌ طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ تَطْلِيقَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَعَلَى فَتْوَى الْأُوزْجَنْدِيِّ وَالْإِمَامِ مَسْعُودٍ الْكَشَانِيِّ يَقَعُ وَاحِدَةٌ وَعَلَيْهِ الْبَيَانُ .
قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْخُلَاصَةُ : هُوَ الْأَشْبَهُ .
وَعِنْدِي أَنَّ الْأَشْبَهَ مَا فِي الْفَتَاوَى لِأَنَّ قَوْلَهُ حَلَالُ اللَّهِ أَوْ حَلَالُ الْمُسْلِمِينَ يَعُمُّ كُلَّ زَوْجَةٍ ، فَإِذَا كَانَ فِيهِ عُرْفٌ فِي الطَّلَاقِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ هُنَّ طَوَالِقُ لِأَنَّ حَلَالَ اللَّهِ شَمِلَهُنَّ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ، وَحَيْثُ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَعَ بَائِنًا .
وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ ثُمَّ قَالَ لِامْرِئٍ آخَرَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَحَلَالُ اللَّهِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَفَعَلَ أَحَدُهُمَا حَتَّى وَقَعَ طَلَاقٌ بَائِنٌ ثُمَّ فَعَلَ الْآخَرُ .
قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ الدِّينِ : يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ كَمَا لَوْ قَالَ مُعَلِّقًا دُونَ الْأَوَّلِ .
[ فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْإِيلَاءِ ] لَوْ قَالَ لَا قَرِبْتُك مَا دُمْت امْرَأَتِي فَأَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِرْ مُولِيًا وَيَقْرَبُهَا بِلَا حِنْثٍ .
وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَعَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي صَحَّ الْإِيلَاءُ خِلَافًا لَزُفَرَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُ بِنَذْرِ ذَبْحِ الْوَلَدِ ذَبْحُ شَاةٍ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يَلْزَمُ فِيهِ شَيْءٌ عِنْدَ زُفَرَ .
وَمَالِكٌ يُوجِبُ فِيهِ نَحْرَ جَزُورٍ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ الْأَوْجُهُ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ .
وَلَوْ جُنَّ الْمُولِي وَوَطِئَهَا انْحَلَّتْ وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ .
وَلَوْ قَالَ لِنِسَائِهِ الْأَرْبَعِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُنَّ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّهِنَّ ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بِنَّ جَمِيعًا ، قَالَ زُفَرُ : لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَطَأْ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ ، لِأَنَّ الْحِنْثَ إنَّمَا يَقَعُ إذَا وَطِئَ الْكُلَّ ، فَقُرْبَانُ الثَّلَاثِ يُمْكِنُهُ بِغَيْرِ حِنْثٍ فَلَا يَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ بَلْ مِنْ الرَّابِعَةِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ قَرِبْت ثَلَاثًا مِنْكُنَّ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ .
قُلْنَا : قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهُنَّ ، فَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ وَطْءُ جَمِيعِهِنَّ لَا يَتَحَقَّقُ الْحِنْثُ ، وَإِذَا وُجِدَ يُضَافُ الْحِنْثُ إلَى وَطْءِ كُلِّهِنَّ لَا إلَى الرَّابِعَةِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا قَاسَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَمِينٌ مُعَلَّقَةٌ فَلَا تَنْعَقِدُ مَا لَمْ يُوجَدْ شَرْطُهَا .
وَلَوْ قَالَ لَهُنَّ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُنَّ جَعَلْنَاهُ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ .
وَقَالَ زُفَرُ : مُولٍ مِنْ الْأَرْبَعِ ، حَتَّى لَوْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَقْرَبْ إحْدَاهُنَّ بَانَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعَيِّنَهَا ، وَعِنْدَهُ بِنَّ كُلُّهُنَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ إحْدَاكُنَّ وَوَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ سَوَاءٌ .
وَلَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ يَصِيرُ مُولِيًا مِنْهُنَّ جَمِيعًا فَكَذَا هَذَا .
قُلْنَا إحْدَاكُنَّ لَا تَعُمُّ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةً ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ
لِكُلِّ إحْدَاهُنَّ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، وَأَمَّا وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَنَكِرَةٌ مَنْفِيَّةٌ فَتَعُمُّ ، وَلِذَا صَحَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ .
وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُمَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ وَاحِدَةٌ وَإِلَيْهِ الْبَيَانُ ، وَلَوْ بَيَّنَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَوْ عَلَّقَ طَلَاقَ إحْدَاهُنَّ بِمَجِيءِ الْغَدِ وَبَيَّنَ قَبْلَ الْغَدِ ، وَإِذَا بَيَّنَ بَعْدَ الْمُدَّةِ وَتَعَيَّنَتْ الْمُبَانَةُ ثُمَّ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أُخْرَى ؛ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَبِينُ الْأُخْرَى ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ، وَقَالَا : تَبِينُ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ مَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَمَّا زَالَتْ مُزَاحَمَةُ الْأُولَى بِالْبَيَانِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى بِالْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا .
وَلَهُ أَنَّهُ آلَى مِنْ إحْدَاهُمَا لَا مِنْهُمَا ، وَإِحْدَى هُنَا لَيْسَتْ نَكِرَةً حَتَّى تَعُمَّ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ وَتَعَيَّنَتْ فَلَا تَبِينُ الْأُخْرَى .
وَفِي الْمُحِيطِ : لَوْ قَالَ أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَيَحْنَثُ بِوَطْئِهَا .
وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا لَا يَحْنَثُ إلَّا بِوَطْئِهِمَا ، وَالْفَرْقُ أَنَّ هَتْكَ حُرْمَةِ اسْمِهِ تَعَالَى لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِوَطْئِهِمَا .
وَفِي قَوْلِهِ أَنْتُمَا عَلَيَّ حَرَامٌ صَارَ إيلَاءً بِاعْتِبَارِ مَعْنَى التَّحْرِيمِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَوْ آلَى ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا يَكُونُ مُولِيًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ إيلَاؤُهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْفَيْءِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ لَهُ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَيْءَ ، وَبَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ لَهَا لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفَيْءَ فِي حَالَةٍ لَا يَمْلِكُهُ فِيهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ .
( بَابُ الْخُلْعِ ) ( وَإِذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ وَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ يَخْلَعُهَا بِهِ ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ( فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ } وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ حَتَّى صَارَ مِنْ الْكِنَايَاتِ ، وَالْوَاقِعُ بِالْكِنَايَةِ بَائِنٌ إلَّا أَنْ ذِكْرَ الْمَالِ أَغْنَى عَنْ النِّيَّةِ هُنَا ، وَلِأَنَّهَا لَا تُسْلِمُ الْمَالَ إلَّا لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا وَذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ .
( بَابُ الْخُلْعِ ) هُوَ لُغَةً : النَّزْعُ خَلَعَ ثَوْبَهُ وَنَعْلَهُ ، وَمِنْهُ خَالَعَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا إذَا افْتَدَتْ مِنْهُ بِمَالٍ ، وَخَالَعَهَا وَتَخَالَعَا صِيغَ مِنْهَا الْمُفَاعَلَةُ مُلَاحَظَةً لِمُلَابَسَةِ كُلٍّ الْآخَرَ كَالثَّوْبِ ، قَالَ تَعَالَى { هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ } وَفِي الشَّرْعِ : أَخْذُهُ الْمَالِ بِإِزَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ ، وَالْأَوْلَى قَوْلُ بَعْضِهِمْ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْخُلْعِ لِاتِّحَادِ جِنْسِهِ مَعَ الْمَفْهُومِ - اللُّغَوِيِّ .
وَالْفَرْقُ بِخُصُوصِ الْمُتَعَلِّقِ وَالْقَيْدِ الزَّائِدِ وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ هُوَ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ قَوْلِنَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ فِيهِ وَبِبَدَلٍ فِيمَا يَلِيهِ ، فَالصَّحِيحُ إزَالَةُ مِلْكِ النِّكَاحِ بِبَدَلٍ بِلَفْظِ الْخُلْعِ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ عَلَى مَالٍ لَيْسَ هُوَ الْخُلْعُ بَلْ فِي حُكْمِهِ مِنْ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ لَا مُطْلَقًا وَإِلَّا لَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ فَسْخٌ وَفِي سُقُوطِ الْمَهْرِ لَوْ كَانَ الْمَالُ الْمُسَمَّى غَيْرَهُ وَهُوَ مُنْتَفٍ .
وَلَوْ قِيلَ إنَّهُ بِالْمَفْهُومِ الشَّرْعِيِّ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ لِأَنَّ النَّزْعَ مُطْلَقًا أَعَمُّ مِنْ كَوْنِ مُتَعَلَّقِهِ أَمْرًا حِسِّيًّا أَوْ مَعْنَوِيًّا كَقَيْدِ النِّكَاحِ بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ أَوَّلًا لَمْ يُبْعِدْ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ النَّقْلُ كَمَا غَلَطَ مَنْ جَعَلَ أُصُولَ الْفِقْهِ غَيْرَ مَنْقُولٍ لِانْدِرَاجِ حَقِيقَتِهِ فِي مُطْلَقِ مُسَمَّى الْأُصُولِ لُغَةً لِأَنَّ تَخْصِيصَ الِاسْمِ بِالْأَخَصِّ بَعْدَ كَوْنِهِ لِلْأَعَمِّ الصَّادِقِ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ نَقْلٌ بِلَا شَكٍّ .
وَشَرْطُهُ شَرْطُ الطَّلَاقِ .
وَحُكْمُهُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ عِنْدَنَا .
وَصِفَتُهُ أَنَّهُ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ مُعَاوَضَةٌ مِنْ جَانِبِهَا فَتُرَاعَى أَحْكَامُ الْيَمِينِ مِنْ جَانِبِهِ وَأَحْكَامُ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ جَانِبِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ يَمِينٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَسَتَأْتِي ثَمَرَةُ الْخِلَافِ ( قَوْلُهُ إذَا تَشَاقَّ الزَّوْجَانِ ) أَيْ
تَخَاصَمَا ( وَخَافَا ) أَيْ عَلِمَا كَقَوْلِهِ : وَلَا تَدْفِنُنِي فِي الْفَلَاةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إذَا مَا مِتَّ أَنْ لَا أَذُوقَهَا أَيْ أَعْلَمُ .
وَحُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى مَا حَدَّدَهُ مِنْ الْمَوَاجِبِ الَّتِي أَمَرَ أَنْ لَا تَتَجَاوَزَ ، وَهَذَا الشَّرْطُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ إذْ الْبَاعِثُ عَلَى الِاخْتِلَاعِ غَالِبًا ذَلِكَ ، لَا أَنَّهُ شَرْطٌ مُعْتَبَرُ الْمَفْهُومِ وَهُوَ مُشَاقَّتُهُمَا كَذَا قِيلَ .
وَقَدْ يُقَالُ : جَوَابُ الْمَسْأَلَةِ فِي كَلَامِ الْقُدُورِيِّ الْإِبَاحَةُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَالٍ : وَإِبَاحَةُ الْأَخْذِ مِنْهَا مَشْرُوطَةٌ بِمُشَاقَّتِهَا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ شَرْطًا فِي ذَلِكَ ( قَوْلُهُ فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَقَعَ بِالْخُلْعِ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ) هَذَا حُكْمُ الْخُلْعِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأَئِمَّةِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ ، وَذَهَبَ الْمَزْنِيُّ إلَى أَنَّ الْخُلْعَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ أَصْلًا ، وَقِيدَتْ الظَّاهِرِيَّةُ صِحَّتَهُ بِمَا إذَا كَرِهَتْهُ وَخَافَ أَنْ لَا يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا أَوْ أَنْ لَا تُوَفِّيَهُ حَقَّهُ وَمَنَعَتْهُ إذَا كَرِهَهَا هُوَ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ ، رُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ .
وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ : لَا يَقَعُ بِالْخُلْعِ طَلَاقٌ بَلْ هُوَ فَسْخٌ بِشَرْطِ عَدَمِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لَا يَنْقُصُ عَدَدَ الطَّلَاقِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَقَعُ وَيَكُونُ رَجْعِيًّا ، فَإِنْ رَاجَعَهَا رَدَّ الْبَدَلَ الَّذِي أَخَذَهُ ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، قَالَ : فَكَانَ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ ذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِ الْمَزْنِيِّ إنَّ قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } نُسِخَ حُكْمُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى الْعِلْمِ بِتَأَخُّرِ هَذِهِ وَعَدَمِ إمْكَانِ الْجَمْعِ ، وَالْأَوَّلُ مُنْتَفٍ ، وَكَذَا الثَّانِي ،
وَلِأَنَّ هَذَا النَّهْيَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا إذَا أَرَادَ الزَّوْجُ اسْتِبْدَالَ غَيْرِهَا مَكَانَهَا ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ فَكَيْفَ تَكُونُ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لَهَا مُطْلَقًا ؟ نَعَمْ لَوْ أَرَادَ بِالنَّسْخِ تَقَدُّمَ حُكْمِهَا عَلَى الْمُطْلَقَةِ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ : أَعْنِي صُورَةَ إرَادَةِ الزَّوْجِ الِاسْتِبْدَالَ بِهَا مِنْ غَيْرِ نُشُوزٍ مِنْهَا كَانَ حَسَنًا .
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذَا الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ وَهُوَ حِينَئِذٍ وَجْهُ مَذْهَبِ الظَّاهِرِيَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَقْدِيمِ الْخَاصِّ مُطْلَقًا .
فَالْجَوَابُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مِمَّا يَجِبُ فِيهِ تَقْدِيمُ الْخَاصِّ عِنْدَنَا .
لِأَنَّا إذَا قُلْنَا : يَتَعَارَضَانِ كَانَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ حِينَئِذٍ وُجُوبُ التَّرْجِيحِ إذَا أَمْكَنَ ، وَالتَّرْجِيحُ يَثْبُتُ لِلْمُحَرَّمِ عَلَى الْمُبِيحِ لِأَنَّ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَهُوَ هُنَا فِي تَقْدِيمِ الْخَاصِّ فَيَجِبُ أَنْ يُقَدَّمَ هَذَا الْخَاصُّ هُنَا بِحُكْمِ الْمُعَارَضَةِ لَا بِحُكْمِ التَّخْصِيصِ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ قَدَّمْنَا فِيهِ الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا فِي ذَلِكَ الْفَرْدِ كَانَ لِثُبُوتِ الِاحْتِيَاطِ بِسَبَبِ كَوْنِ حُكْمِ الْعَامِّ مَنْعًا وَالْخَاصُّ يَخْرُجُ مِنْهُ بَعْضُ الْأَفْرَادِ كَمَا فِي { لَا صَلَاةَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَالْعَصْرِ } مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } وَإِيجَابًا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } مَعَ قَوْلِهِ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَإِلَّا فَنَفْسُ كَوْنِهِ عَامًّا لَا يَقْتَضِي التَّقَدُّمَ لَعَيْنِ مَفْهُومِهِ ، بَلْ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ ، بَلْ الْجَوَابُ الْقَوْلُ بِمُوجِبِهَا وَهُوَ عَدَمُ حَلِّ الْأَخْذِ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلَهُ ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ : يَعْنِي كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ الْمُنْتَهِضَةِ سَبَبًا لِلْعِقَابِ .
وَإِنْ
قَالَ الْإِمَامُ الْمَحْبُوبِيُّ فِي جَوَابِهِمْ : تَأْوِيلُ الْآيَةِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَا فِي مَنْعِ وُجُوبِ الْمَالِ وَتَمَلُّكِهِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ مَعَ مُعَارَضَةِ مُوجِبِهَا ، فَإِنَّ الْمُعَارَضَةَ تَنْفِي الْقَطْعِيَّةَ لِتَطَرُّقِ احْتِمَالِ نَسْخِهَا بِالْمُعَارِضِ ، لَكِنَّهُ أَرَادَ مَا ذَكَرْنَا ، وَسَيَأْتِي مَا هُوَ الْحَقُّ فِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجْهُ قَوْلِ الْحَنَابِلَةِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مَا رَوَى عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْخُلْعُ فُرْقَةٌ وَلَيْسَتْ بِطَلَاقٍ .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ .
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ : لَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا ، قَالُوا : ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَفِي آخِرِهَا وَالْخُلْعُ بَيْنَهُمَا .
وَرَوَى نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ ابْنِ عَفْرَاءَ تُخْبِرُ ابْنَ عُمَرَ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَجَاءَ عَمُّهَا إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ إنَّ ابْنَةَ مُعَوِّذٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا الْيَوْمَ أَفَتَنْتَقِلُ ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ : لِتَنْتَقِلْ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا لَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ بِهَا حَبَلٌ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : عُثْمَانُ خَيْرُنَا وَأَعْلَمُنَا ، فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّ رُبَيِّعَ وَعَمَّهَا صَحَابِيَّانِ ، قَالُوا بِذَلِكَ ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِالْآيَةِ ، قَالَ تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } إلَى أَنْ قَالَ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ طَلَّقَهَا : يَعْنِي الثَّالِثَةَ الْمُفَادَ شَرْعِيَّتُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ مِنْ التَّقْرِيرِ فِي فَصْلٍ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ فَيَكُونُ الِافْتِدَاءُ غَيْرَ طَلَاقٍ ، وَإِلَّا كَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا
وَالثَّانِي مُنْتَفٍ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ يَقْبَلُ الْفَسْخَ .
وَقَدْ تَحَقَّقَ فَسْخُهُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهِ كَذَلِكَ فِي الِافْتِدَاءِ .
قُلْنَا : أَمَّا هَذَا الْأَخِيرُ فَحَاصِلُهُ أَنَّهُ وَجْهٌ مُجَوَّزٌ لِكَوْنِهِ فَسْخًا لَا يُوجِبُ كَوْنَ الْوَاقِعِ فِي الْوَاقِعِ أَحَدُ الْجَائِزَيْنِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ فَلَا يُفِيدُ .
وَأَمَّا الْآيَةُ فَبِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ التَّرْكِيبِ يُفِيدُ بُعْدَ غَايَةِ التَّنَزُّلِ أَنَّ الِافْتِدَاءَ فُرْقَةٌ لَيْسَ غَيْرُ .
فَإِنَّ حَاصِلَ الثَّابِتِ بِهِ كَوْنُهُ تَعَالَى بَعْدَ مَا أَفَادَ شَرْعِيَّةَ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ نَصَّ عَلَى حُكْمٍ آخَرَ هُوَ جَوَازُ دَفْعِهَا الْبَدَلِ تَخَلُّصًا مِنْ قَيْدِ النِّكَاحِ وَأَخَذَهُ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِكَوْنِهِ غَيْرُ طَلَاقٍ أَوْ طَلَاقًا هُوَ الثَّالِثَةُ أَوَّلًا فَتَعَيَّنَ أَخْذُهَا مِنْ خَارِجٍ أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا أَوْجُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ بَيَّنَ الثَّالِثَةَ بَعُوضٍ وَبِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ الْجَوَابَ إلَيْهِ كَمَا سَمِعْت ، وَلِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْرَعَ الْخُلْعُ إلَّا بَعْدَ ثِنْتَيْنِ ، بَلْ إنَّمَا نَصَّ عَلَى شَرْعِيَّةِ الثَّلَاثِ وَبَيَّنَ حُكْمًا آخَرَ هُوَ جَوَازُ الِافْتِدَاءِ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَا ذَكَرُوهُ عَنْ عُثْمَانَ فَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ لَيْسَ فِيهِ سِوَى أَنَّهُ قَالَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا تُنْكَحُ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً .
وَأَصْلُ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ } فَسَمَّى الْحَيْضَةَ عِدَّةً .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
ثُمَّ رَأَيْنَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكَمَ فِي خُلْعِ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بِأَنَّهَا طَلْقَةٌ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ { اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } فَقَوْلُ عُثْمَانَ : لَا
عِدَّةَ عَلَيْهَا : يَعْنِي الْعِدَّةَ الْمَعْهُودَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ ، وَلِلشَّارِعِ وِلَايَةُ الْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ ، فَهَذَا يُفِيدُك بِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ عَدَمَ التَّلَازُمِ بَيْنَ عَدَمِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِهِ فَسْخًا ، عَلَى أَنَّ الَّذِي تَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ هَذَا هُوَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رُبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذٍ جَاءَتْ هِيَ وَعَمُّهَا إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فِي زَمَانِ عُثْمَانَ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُثْمَانَ فَلَمْ يُنْكِرْهُ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : عِدَّتُهَا أَوْ عِدَّتُكِ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ .
وَقَالَ : بَلَغَنَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسُلَيْمَانَ بْن يَسَارٍ وَابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ : عِدَّةُ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ .
وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ قَوْلُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَنْ اتَّصَفَ بِاسْمِ الصَّحَابِيِّ يَتَّبِعُ أَقْضِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآيَ الْأَحْكَامِ وَعِلْمَ الْمُتَأَخِّرِ وَالْمُتَقَدِّمِ وَصَارَ أَهْلًا لِلِاجْتِهَادِ بَلْ يُقَلِّدُ بَعْضَهُمْ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ ، وَظَاهِرُ حَالِ رُبَيِّعَ وَعَمِّهَا ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمَا قَدْ اسْتَفْتَيَا عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُمَا مَا قَالَ فَاعْتَقَدَاهُ ، فَلَيْسَ فِي الْمَعْنَى إلَّا قَوْلُ صَحَابِيِّينَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَوْلُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ ، وَهَذَا لَوْ ثَبَتَ التَّلَازُمُ بَيْنَ نَفْيِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِهِ فَسْخًا وَهُوَ مُنْتَفٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَذَلِكَ مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ أُمِّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَارْتَفَعَا إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ ذَلِكَ وَقَالَ : هِيَ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونِي سَمَّيْت شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا سَمَّيْت .
وَلَا نَعْرِفُهُ فِيهِ إلَّا أَنَّ جُمْهَانَ لَمْ يَعْرِفْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فَرَدَّ الْحَدِيثَ لِذَلِكَ ، وَهُوَ جُمْهَانُ أَبُو يَعْلَى ، وَأَبُو يَعْلَى مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّينَ ،
وَيُقَالُ مَوْلَى يَعْقُوبَ الْقِبْطِيِّ يُعَدُّ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَابِعِيًّا .
رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأُمِّ بَكْرَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ .
وَرَوَى عَنْهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَمُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ : هُوَ جَدُّ جَدَّةِ عَلِيِّ بْن الْمَدِينِيِّ فَهِيَ ابْنَةُ عَبَّاسِ بْنِ جُمْهَانَ ، رَوَى لَهُ ابْنُ مَاجَهْ حَدِيثًا وَاحِدًا فِي الصَّوْمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { لِكُلِّ شَيْءٍ زَكَاةٌ ، وَزَكَاةُ الْجَسَدِ الصَّوْمُ ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ } فَلِهَذَا صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِنَقْلِ مَذْهَبِنَا عَنْ عُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قَوْلُ غَيْرِهِ ، بَلْ وَالْمَرْوِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسْنَدَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ هَاشِمٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا تَكُونُ طَلْقَةً بَائِنَةً إلَّا فِي فِدْيَةٍ أَوْ إيلَاءٍ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا وَتَقَدَّمَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ عُثْمَانَ ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً } وَمَرَاسِيلُ سَعِيدٍ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ ، وَكِبَارُ التَّابِعِينَ قَلَّ أَنْ يُرْسِلُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ وَإِنْ اتَّفَقَ غَيْرُهُ نَادِرًا فَعَنْ ثِقَةٍ ، هَكَذَا تَتَبَّعْت مَرَاسِيلَهُ ، وَبِهِ يَقْوَى ظَنُّ حُجِّيَّةِ مَا رَوَاهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخُلْعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ } وَكَذَا مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَعَلَّهُ بِعَبَّادِ بْنِ كَثِيرِ الثَّقَفِيِّ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ جَعَلَ الْخُلْعَ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً } وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ عَلَى طَرِيقِ أَهْلِ الشَّأْنِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِالضَّعْفِ إنَّمَا هُوَ ظَاهِرٌ مَعَ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَجَازَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلُ الصِّحَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ الضَّعْفِ فِي الظَّاهِرِ .
وَهَاهُنَا نَظَرٌ عَلَى أُصُولِنَا ، وَهُوَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَوَى حَدِيثَ امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ عَلَى مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ لَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً } ثُمَّ إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ بِأَنَّهُ فَسْخٌ ، وَعَمَلُ الرَّاوِي عِنْدَنَا بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ رُجُوعُهُ كَمَا قَالُوا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنَّ ثَابِتًا طَلَّقَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَبْقَى مِنْ مَحِلِّ النِّزَاعِ وَهُوَ الْخُلْعُ ، بَلْ يَصِيرُ طَلَاقًا عَلَى مَالٍ ، فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ ذَلِكَ : الْخُلْعُ فَسْخُ كَلَامٍ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى فَحِينَئِذٍ مَا يَأْتِي مِنْ تَسْمِيَةِ الرَّاوِي لَهُ خُلْعًا حَيْثُ قَالَ : وَكَانَ أَوَّلُ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ يَعْنِي أَوَّلَ طَلَاقٍ بِمَالٍ ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلِّقْهَا امْتَثَلَ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَّقَ ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ الْخُلْعُ عَلَى الطَّلَاقِ بِمَالٍ .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الصَّحَابَةِ مَا قُلْنَاهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَرْفُوعِ الصَّرِيحِ الَّذِي لَا يُقَاوِمُهُ النَّقْلُ التَّقْدِيرِيُّ ، وَلَوْ
تَرَكْنَا الْكُلَّ يَتَعَارَضُ وَرَجَعْنَا إلَى النَّظَرِ فِي الْمَعْنَى أَفَادَ مَا قُلْنَاهُ فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ ( وَلِأَنَّهُ ) أَيْ الْخُلْعُ ( مِنْ الْكِنَايَاتِ ) حَتَّى لَوْ قَالَ خَلَعْتُك يَنْوِي الطَّلَاقَ وَقَعَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ عِنْدَنَا ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْخُلْعِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْكِنَايَاتِ أَنَّهَا عَوَامِلُ بِحَقَائِقِهَا وَالنِّكَاحُ قَائِمٌ بِالرُّجْعَى فَلَمْ يَنْخَلِعْ ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِذِكْرِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ حَالِهِ ، وَأَيْضًا هَذِهِ فُرْقَةٌ بَعْدَ تَمَامِ النِّكَاحِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ كَوْنِهَا طَلَاقًا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَعْهُودُ وَالْحَمْلُ عَلَى مَا عَهِدَ وَاجِبٌ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى خِلَافِهِ دَلِيلٌ وَلَمْ يَثْبُتْ كَمَا أَرَيْنَاك .
وَالْفُرْقَةُ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ قَبْلَ تَمَامِهِ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ خِيَارٌ إذَا بَلَغَتْ وَعَتَقَتْ وَخِيَارُ الْمُولِي فَكَانَ ذَلِكَ امْتِنَاعًا عَنْ إتْمَامِهِ مَعْنًى ، وَأَيْضًا مِلْكُ النِّكَاحِ ضَرُورِيٌّ لِأَنَّهُ وَارِدٌ عَلَى الْحُرَّةِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبِضْعِ فَيَنْتَفِي هَذَا الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْفَسْخِ ، وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَمْ أَرَهُ ، وَيَظْهَرُ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } فَإِنَّهُ تَعَالَى شَرَعَهُ مَشْرُوطًا لِخَوْفِ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ إذْ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَإِنْ خِفْتُمْ وَهَذَا فَرْعُ التَّرَافُعِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ خِطَابُ ( فَلَا تَأْخُذُوا ) لِلْأَزْوَاجِ فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَغْرَبٍ فِي الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ خِطَابَانِ يَتْلُو أَحَدُهُمَا الْآخَرَ وَالْمُخَاطَبُونَ بِأَحَدِهِمَا غَيْرُهُمْ بِالْآخِرِ .
وَالْجَوَابُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ مِنْ الْمُوَطَّإِ يُفِيدُ أَنَّ الْخُلْعَ وَقَعَ دُونَ عِلْمِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ ، وَكَذَا ابْنُ
عُمَرَ حِينَ سَمِعَ بِهِ فَأَفَادَ عَدَمُ فَهْمِهِمَا ذَلِكَ .
فَيَكُونُ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ إذْنَ الْأَئِمَّةِ مِنْ تَمْكِينِهِمْ مِنْ الْخُلْعِ إذَا خَافُوا عَلَيْهِمَا عَدَمَ الْقِيَامِ بِالْمَوَاجِبِ فِيمَا إذَا ارْتَفَعُوا إلَيْهِمْ لَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّرَافُعِ إلَيْهِمْ ، وَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا الْمَفْهُومِ يَمْنَعُونَهُمْ عِنْدَ عَدَمِ هَذَا الْخَوْفِ بِالْقَوْلِ وَالْفَتْوَى ، وَتَبَيَّنَ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَيْسَ مُبَاحًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُخْتَلِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَفِيهِ وَفِي أَبِي دَاوُد عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسَ بِهِ لَمْ تَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ } لَا بِالْحُكْمِ بَعْدَ النَّفَاذِ وَالصِّحَّةِ إذَا وَقَعَ .
وَأَمَّا وَجْهُ مَنْ قَالَ إنَّهُ رَجْعِيٌّ فَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِيهِ مَا لَا حَاصِلَ لَهُ ، وَلَا غُبَارَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ فِيهِ وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا بَذَلَتْ الْمَالَ لِتَسْلَمَ لَهَا نَفْسُهَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَعَ الِافْتِدَاءَ لِذَلِكَ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ رَجْعِيًّا لَمْ يَحْصُلْ الْغَرَضُ الَّذِي شُرِعَ لِأَجَلِهِ وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ ، وَالزَّوْجُ قَدْ مَلَكَ الْمَالَ حُكْمًا لِصِحَّةِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَمْلِكَ نَفْسَهَا حُكْمًا لَهَا تَحْقِيقًا لَهَا كَمَا فِي جَانِبِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ ( قَوْلُهُ إلَّا أَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ ) اسْتِدْرَاكٌ مِمَّا يُتَوَهَّمُ لُزُومُهُ عَلَى قَوْلِهِ إنَّهُ كِنَايَةٌ مِنْ افْتِقَارِهِ إلَى النِّيَّةِ ، وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ إذَا أَنْكَرَهَا يَصْدُقُ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، قَالُوا : لَا يَصْدُقُ فِي لَفْظِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْمُبَارَأَةِ وَالْبَيْعِ فِي عَدَمِ النِّيَّةِ عِنْدَ ذِكْرِ الْمَالِ بِأَنْ يَقُولَ بَارَأْتُك عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِعْت نَفْسَك أَوْ طَلَاقَك عَلَى أَلْفٍ وَعِنْدَ عَدَمِهِ يَصْدُقُ فِي إنْكَارِهَا قَضَاءً فِي الْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ لَا فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ وَالْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا صَرِيحَانِ ذَكَرَهُ فِي
الْكَافِي .
فَأَجَابَ بِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ يُغْنِي عَنْهَا إذْ هُوَ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ : عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ إذْ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِسَبَبِهِ
( وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا عِوَضًا ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } إلَى أَنْ قَالَ { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } وَلِأَنَّهُ أَوْحَشَهَا بِالِاسْتِبْدَالِ فَلَا يَزِيدُ فِي وَحْشَتِهَا بِأَخْذِ الْمَالِ ( وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا كَرِهْنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا ) وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَابَ الْفَضْلُ أَيْضًا لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا .
وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شِمَاسٍ { أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا } وَقَدْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا ( وَلَوْ أَخَذَ الزِّيَادَةَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ ) وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ وَالنُّشُوزُ مِنْهُ لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَا شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا وَالْإِبَاحَةُ ، وَقَدْ تُرِكَ الْعَمَلُ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ فَبَقِيَ مَعْمُولًا فِي الْبَاقِي .
( قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ ) كَرِهَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } نَهَى عَنْ الْأَخْذِ مِنْهَا عِنْدَ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَكَوْنِهِ مِنْهُ .
وَتَقَدَّمَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ الْكَرَاهَةِ دُونَ التَّحْرِيمِ لِلْمُعَارِضَةِ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا مُعَارَضَةَ فِي التَّحْرِيمِ ، فَإِنَّ إطْلَاقَ نَفْيِ الْجُنَاحِ فِي آيَةِ الْمُطَلَّقَةِ مُقَيَّدًا بِالْمُشَاقَّةِ فَإِنَّ الْآيَةَ هَكَذَا ( وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لَا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) وَالنَّهْيُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُقَيَّدٌ بِانْفِرَادِهِ بِالنُّشُوزِ فَلَا يَتَلَاقَيَانِ فَلَا تَعَارَضَ فِي حُرْمَةِ الْأَخْذِ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَا كَانَ التَّحْرِيمُ ثَابِتًا بِالْعُمُومَاتِ الْقَطْعِيَّةِ ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَفِي إمْسَاكِهَا لَا لِرَغْبَةٍ بَلْ إضْرَارًا وَتَضْيِيقًا لِيَقْتَطِعَ مَالَهَا فِي مُقَابِلَةِ خَلَاصِهَا مِنْ الشِّدَّةِ الَّتِي هِيَ فِيهَا مَعَهُ ذَلِكَ وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } فَهَذَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى حُرْمَةِ أَخْذِ مَالِهَا كَذَلِكَ فَيَكُونُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ جَازَ فِي الْحُكْمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرًا : أَيْ يَحْكُمُ بِصِحَّةِ التَّمَلُّكِ وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ .
وَعَلَّلَهُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ مُقْتَضَى مَا تَلَوْنَاهُ ) يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } ( شَيْئَانِ الْجَوَازُ حُكْمًا ) يَعْنِي الصِّحَّةَ وَالنَّفَاذَ فِي الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ مُشَبَّهًا بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ قَالَ فِيهَا جَازَ فِي الْقَضَاءِ ( وَالْإِبَاحَةُ وَقَدْ تَرَكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ ) وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ } الْآيَةُ فَبَقِيَ
مَعْمُولًا بِهِ فِي الْبَاقِي : أَيْ الْجَوَازِ فِي الْقَضَاءِ .
لَا يُقَالُ : الْجَوَازُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَيَتَلَازَمَانِ وُجُودًا وَعَدَمًا .
لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ اسْتِوَاءُ الطَّرَفَيْنِ فَلَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ ، وَمَعْنَى الْجَوَازِ مِنْ جَازَ : أَيْ مَرَّ .
وَبَعُدَ فَهُوَ النَّافِذُ شَرْعًا : أَيْ الصَّحِيحُ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ سَبَبًا لِتَرَتُّبِ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مَعَ الْحِلِّ أَوْ الْحُرْمَةِ كَمَا فِي كُلِّ نَهْيٍ عَنْ أَمْرٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَقُمْ فِيهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لِعَيْنِهِ كَالْبَيْعِ وَقْتِ النِّدَاءِ وَالْبَيْعِ بِالْخَمْرِ فَلَا تَلَازُمَ ، وَهُنَا كَذَلِكَ فَالْأَخْذُ حَرَامٌ فِي حَالِ عَدَمِ نُشُوزِهَا وَإِنْ كَانَ بِرِضَاهَا ، وَلَوْ فَعَلَ كَانَ أَخْذُهُ سَبَبًا لِلتَّمَلُّكِ كَمَا فِي الْبَيْعِ فِيمَا قُلْنَا حَيْثُ يَمْلِكُ بِسَبَبٍ مَمْنُوعٍ .
لَا يُقَالُ : النَّهْيُ هُنَا عَنْ أَمْرٍ حِسِّيٍّ فَيُعْدَمُ وُجُودُهُ شَرْعًا فَيُخْرِجُهُ عَنْ انْتِهَاضِهِ سَبَبًا مُفِيدًا لِحُكْمِ الْمِلْكِ كَالنَّهْيِ عَنْ الزِّنَا ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدُلَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِغَيْرِهِ لَا لَعَيْنِهِ وَهُنَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لِزِيَادَةِ الْإِيحَاشِ .
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إذَا تُرِكَ فِي حَقِّ الْإِبَاحَةِ لِمُعَارِضٍ يَلْزَمُ انْتِفَاءُ النَّفَاذِ شَرْعًا وَذَلِكَ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى النَّفَاذِ لَيْسَ إلَّا دَلَالَةٌ الْتِزَامِيَّةٌ لِلْإِبَاحَةِ لِأَنَّ دَلَالَتَهُ الْمُطَابِقِيَّةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، إذْ هِيَ الْمَعْنَى الْمُطَابِقِيِّ لِنَفْيِ الْجُنَاحِ ، وَيَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْإِبَاحَةِ النَّفَاذُ ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الْإِبَاحَةُ ارْتَفَعَتْ بِلَازِمِهَا إلَّا أَنْ يَدُلَّ دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ آخَرُ عَلَى ثُبُوتِ النَّفَاذِ شَرْعًا وَهُوَ مَعْدُومٌ ، وَعَلَى هَذَا يَظْهَرُ قَوْلُ الظَّاهِرِيَّةِ ( قَوْلُهُ لِإِطْلَاقِ مَا تَلَوْنَا بَدْءًا ) أَيْ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } يَعْنِي بِطَرِيقِ دَلَالَتِهِ لَا عِبَارَتِهِ ، فَإِنَّ عِبَارَتَهُ رَفْعُ الْجُنَاحِ
عِنْدَ مُشَاقَّتِهِمَا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُشَاقَّتِهِمَا مُشَاقَّتَهُ ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا افْتَدَتْ بِهِ مُطْلَقًا فِيمَا فِيهِ مُشَاقَّةٌ مِنْهُ فَأَخْذُهُ ذَلِكَ فِيمَا لَا مُشَاقَّةَ مِنْهُ فِيهِ أَوْلَى ( قَوْلُهُ وَوَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي امْرَأَةِ ثَابِتٍ إلَخْ ) تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ ، وَقَدْ رُوِيَتْ مُرْسَلَةٌ وَمُسْنَدَةٌ .
فَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي مَرَاسِيلِهِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ كُلُّهُمْ عَنْ عَطَاءٍ ، وَأَقْرَبُ الْأَسَانِيدِ سَنَدُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ { جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو زَوْجَهَا ، فَقَالَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَصْدَقَكِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ وَزِيَادَةً ، قَالَ : أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا } وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ كَذَلِكَ ، وَقَالَ : وَقَدْ أَسْنَدَهُ الْوَلِيدُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُرْسَلُ أَصَحُّ .
وَأَخْرَجَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ { أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ كَانَتْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ وَكَانَ أَصْدَقَهَا حَدِيقَةً فَكَرِهَتْهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ وَزِيَادَةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتُهُ ، قَالَتْ نَعَمْ ، فَأَخَذَهَا وَخَلَّى سَبِيلَهَا } ا هـ .
قَالَ سَمِعَهُ أَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، ثُمَّ أَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ الْمُخْتَلِعَةِ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا } وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ جَمِيلَةَ بِنْتَ سَلُولَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : وَاَللَّهِ مَا أَعْتِبُ عَلَى ثَابِتٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ وَلَكِنِّي
أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لَا أُطِيقُهُ بُغْضًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ نَعَمْ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَدِيقَتَهُ وَلَا يَزْدَادُ } وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ وَسَمَّاهَا فِيهِ حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ ، وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَسَمَّاهَا حَبِيبَةَ بِنْتَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّةَ ، وَزَادَ فِيهِ : وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ خُلْعٍ فِي الْإِسْلَامِ ، فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا بِانْفِرَادِهِ ، وَعِنْدَ غَيْرِنَا إذَا اُعْتُضِدَ بِمُرْسَلٍ آخَرَ يُرْسِلُهُ مَنْ رَوَى عَنْ غَيْرِ رِجَالِ الْأَوَّلِ أَوْ بِمُسْنَدٍ كَانَ حُجَّةً .
وَقَدْ اُعْتُضِدَ هُنَا بِهِمَا جَمِيعًا وَظَهَرَ لَك الْخِلَافُ فِي اسْمِ الْمَرْأَةِ جَمِيلَةَ أَوْ حَبِيبَةَ أَوْ زَيْنَبَ ، وَفِي اسْمِ أَبِيهَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ أَوْ سَلُولَ أَوْ سَهْلٍ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .
فَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ نُفَيْلٍ : أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ عِقَاصِ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ .
وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَهَا وَمِنْ كُلِّ ثَوْبٍ حَتَّى نَقَبَتْهَا .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُفِعَتْ إلَيْهِ امْرَأَةٌ نَشَزَتْ عَلَى زَوْجِهَا فَقَالَ اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا .
ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ .
وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا .
وَرَوَاهُ
وَكِيعٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ عِمْرَانَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا .
وَقَالَ طَاوُسٌ : لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا .
وَأَوْرَدَ أَنَّ شَرْطَ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَنْ لَا يُعَارِضَ الْكِتَابَ وَهَذَا مُعَارِضٌ قَوْلَهُ { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } أُجِيبَ إذَا خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ أَوْ عُورِضَ بِنَصٍّ آخَرَ مِثْلِهِ خَرَجَ عَنْ الْقَطْعِيَّةِ فِي الْحُكْمِ فَيَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ إنْ كَانَ مُعَارِضًا لِنَصٍّ فَهُوَ مُوَافِقٌ لِآخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَكَانَ فِي الْحَقِيقَةِ مُعَارَضَةَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ فَجَازَ التَّمَسُّكُ بِهِ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِأَحَدِ النَّصَّيْنِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْأَخْذِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُقَيَّدٌ بِنُشُوزِهِ وَحْدِهِ وَإِطْلَاقُ الْأَخْذِ مِنْهَا قُيِّدَ بِنُشُوزِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَا تَعَارُضَ فَلَا تَخْصِيصَ ، لِأَنَّ مَوْرِدَ الْعَامِ غَيْرُ صَادِقٍ عَلَى مَوْرِدِ الْخَاصِّ لِيَكُونَ خِلَافَ حُكْمِهِ فِي بَعْضِ مُتَنَاوِلَاتِهِ تَخْصِيصًا .
لَا يُقَالُ : أَخْذُ الزِّيَادَةِ أَيْضًا غَيْرُ مُتَنَاوِلٍ الْمُطَلَّقَةَ لِأَنَّهَا فِي نُشُوزِهِمَا وَنُشُوزُهَا وَحْدَهَا لَيْسَ نُشُوزَهُمَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : تَثْبُتُ إبَاحَةُ أَخْذِ الزِّيَادَةِ فِي نُشُوزِهَا وَحْدَهَا بِطَرِيقٍ أَوْلَى كَمَا بَيَّنَّا ، وَعَلَى هَذَا فَيَظْهَرُ كَوْنُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَوْجَهَ .
نَعَمْ يَكُونُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ خِلَافَ الْأَوْلَى ، وَيَكُونُ مَحْمَلُ مَنْعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتًا مِنْ أَنْ يَزْدَادَ الْحَمْلُ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى وَطَرِيقُ الْقُرْبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَالٍ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ ) لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا ، وَالْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الْتِزَامَ الْمَالِ لِوِلَايَتِهَا عَلَى نَفْسِهَا ، وَمِلْكِ النِّكَاحِ مِمَّا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالْقِصَاصِ ( وَكَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ) لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّهُ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالنَّفْسِ وَقَدْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ فَتَمْلِكُ هِيَ الْآخَرَ وَهِيَ النَّفْسُ تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ .
( قَوْلُهُ وَإِنْ طَلَّقَهَا إلَخْ ) صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفٍ أَوْ بِأَلْفٍ ، أَمَّا لَوْ قَالَ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَقَبِلَتْ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا وَسَيَأْتِي ، وَقَوْلُهُ فَقَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ : أَيْ غَيْرُ مُتَوَقِّفٍ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَزِمَهَا الْمَالُ فَيُطَالِبُهَا بِهِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا حَتَّى تُبَاعَ فِيهِ ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا تُطَالَبُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى جَعْلِ عَلَى لِلشَّرْطِ وَاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ الْقَبُولَ لَا الْأَدَاءَ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِقَبُولِهَا وَالْمُعَيَّنُ لِذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي مَقَامِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ لَا الْأَدَاءِ ، وَإِلَى هُنَا يَتِمُّ التَّقْرِيرُ ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْقَبُولِ فِي الْمَجْلِسِ .
وَزَادَ فِي النِّهَايَةِ قَوْلَهُ : وَلَوْ قُلْنَا بِتَعْلِيقَةِ بِالْأَدَاءِ كَانَتْ كَلِمَةُ ( عَلَى ) لِلشَّرْطِ الْمَحْضِ ، وَهِيَ إنَّمَا كَانَتْ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تَدْخُلِي الدَّارَ : يَعْنِي أَنَّ تَعْلِيقَهُ بِالْأَدَاءِ يَخْرُجُ إلَى أَنَّ الْمَعْنَى إنْ أَدَّيْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهُوَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ وَهُوَ مُضِرٌّ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِاسْتِلْزَامِهِ تَعْلِيقَ الْبَيْعِ عَلَى أَدَاءِ الثَّمَنِ وَنَحْوِهِ .
وَقَدْ يُقَالُ : إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَحْضَةِ أَمَّا الْخُلْعُ فَلَيْسَ مَحْضُ مُعَاوَضَةٍ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّهُ يَمِينٌ مِنْ جَانِبِهِ أَوْ الْجَانِبَيْنِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مُحْتَاجًا إلَيْهَا فِي التَّقْرِيرِ لِاسْتِغْنَاءِ الدَّلِيلِ عَنْ ذَلِكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَعْلِيقَ الْوُقُوعِ بِقَبُولِهَا بِحَيْثُ يَنْزِلُ بِمُجَرَّدٍ هُوَ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ التَّحْقِيقُ أَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ فَلَا ، فَلِذَا اُخْتُلِفَ فِيمَا إذَا قَالَ خَلَعْت نَفْسَك مِنِّي بِكَذَا فَقَالَتْ قَبِلْت قِيلَ يَصِحُّ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ