كتاب : فتح القدير
المؤلف : كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي
فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مَا بَسَطَهُ وَإِنْ أَفَادَ فِي الظَّاهِرِ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِ الدَّرَاهِمِ الْكَثِيرَةِ عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْعَشَرَةِ لَكِنْ لَمْ يُفِدْ أَوْلَوِيَّةَ حَمْلِهَا عَلَى الْمِائَتَيْنِ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْمِائَتَيْنِ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُ وُجُوبِ الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ كَمَا أَدْرَجَهُ نَفْسُهُ أَيْضًا فِي تَقْرِيرِ دَلِيلِ الشَّافِعِيِّ ، بَلْ أَفَادَ أَوْلَوِيَّةَ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ مِنْ الْمِائَتَيْنِ هُوَ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ الْكَثْرَةُ حُكْمًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْحَجِّ أَيْضًا مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ ، وَأَمَّا الْمِائَتَانِ فَهُوَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِالنَّظَرِ إلَى حُكْمِ الْحَجِّ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ فَكَانَ نَاقِصًا مِنْ حَيْثُ الْكَثْرَةُ حُكْمًا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ تَأَمَّلْ ( وَلَهُ ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( أَنَّ الْعَشَرَةَ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ ) أَيْ عِنْدَ كَوْنِهِ مُمَيِّزًا لِلْعَدَدِ ( يُقَالُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ثُمَّ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ) يَعْنِي أَنَّ الْعَدَدَ إذَا جَاوَزَ الْعَشَرَةَ يَصِيرُ مُمَيَّزُهُ مُفْرَدًا لَا جَمْعًا ( فَيَكُونُ ) أَيْ الْعَشَرَةُ ( هُوَ الْأَكْثَرُ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ ) أَيْ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ ( فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ ) لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ إذَا كَانَ مُمْكِنًا وَلَمْ يُوجَدْ مَانِعٌ مِنْ الصَّرْفِ إلَيْهِ لَا يُعْدَلُ إلَى غَيْرِهِ ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ .
لَا يُقَالُ : يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْعَشَرَةِ لِأَنَّهُ كَثِيرٌ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : لَمَّا ذَكَرَ الْكَثْرَةَ صَارَ كَذِكْرِ الْجِنْسِ فَيَسْتَغْرِقُ اللَّفْظَ مَا يَصْلُحُ لَهُ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ .
أَقُولُ : بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْعَشَرَةِ أَقْصَى مَا يَنْتَهِي إلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ اقْتِرَانِ
اسْمِ الْجَمْعِ بِالْعَدَدِ بِأَنْ يَكُونَ مُمَيِّزًا لَهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ آنِفًا ، لَا عِنْدَ انْفِرَادِهِ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِجَمْعِ الْكَثْرَةِ حَالَ الِانْفِرَادِ مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْعَارِفِ بِاللُّغَةِ ، وَمَسْأَلَتُنَا مَفْرُوضَةٌ فِي حَالِ انْفِرَادِ الدَّرَاهِمِ عَنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ ، فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ حُكْمٍ خَالٍ الِاقْتِرَانُ فِيهَا أَلْبَتَّةَ ؟ قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ أَقَلُّهُ عَشَرَةٌ .
أَقُولُ : لَيْسَ ذَلِكَ بِصَحِيحٍ .
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ جَمْعَ الْكَثْرَةِ أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ لَا عَشَرَةٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ .
قَالَ الْفَاضِلُ الرَّضِيُّ : قَالُوا مُطْلَقُ الْجَمْعِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : قِلَّةٌ ، وَكَثْرَةٌ ؛ وَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ وَالْحَدَّانِ دَاخِلَانِ وَبِالْكَثِيرِ مَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ انْتَهَى .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ عِلَّةُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَوْنَ أَقَلِّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ عَشَرَةً لَزِمَ أَنْ لَا يُصَدَّقَ أَيْضًا عِنْدَهُ فِي أَقَلِّ مِنْ عَشَرَةٍ فِيمَا إذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ بِدُونِ ذِكْرِ وَصْفِ الْكَثْرَةِ مَعَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ هُنَاكَ فِي ثَلَاثَةٍ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا سَيَأْتِي .
وَالْأَوْلَى فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ قَالَ : وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ نَصًّا ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ ضَرُورَةَ أَنْ لَا تَصِيرَ صِفَةُ الْكَثْرَةِ لَغْوًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِهَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْعُرْفِ مُتَعَذِّرٌ ، وَمَا ثَبَتَ مُقْتَضَى صِحَّةِ الْغَيْرِ يُثْبِتُ أَدْنَى مَا يَصِحُّ بِهِ الْغَيْرُ ، وَأَدْنَى مَا يُثْبِتُ بِهِ الْكَثْرَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَإِنَّ الْقَطْعَ مُتَعَلِّقٌ شَرْعًا بِالْكَثِيرِ مِنْ الْمَالِ لَا بِالْقَلِيلِ عَلَى مَا
رُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ } ، ثُمَّ اعْتَبَرَ النِّصَابَ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ عَشَرَةً فَيَلْزَمُهُ عَشَرَةٌ انْتَهَى .
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَغْدَادِيُّ : وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ قَوْلِهِ : دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : مَالٌ عَظِيمٌ أَنَّ قَوْلَهُ : دَرَاهِمُ كَثِيرَةٌ يُفِيدُ الْعَدَدَ لِأَنَّ الْكَثْرَةَ تَكُونُ بِزِيَادَةِ الْعَدَدِ ، فَاعْتَبَرَ الْكَثْرَةَ الَّتِي تَرْجِعُ إلَى الْعَدَدِ وَقَوْلَهُ : مَالٌ عَظِيمٌ لَا يَتَضَمَّنُ عَدَدًا فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْمُسْتَعْظَمِ لَا مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ ، وَالْعَظِيمُ فِي الشَّرْعِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ فَاعْتَبِرْ ذَلِكَ ( وَلَوْ قَالَ : دَرَاهِمُ فَهِيَ ثَلَاثَةٌ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : يَعْنِي لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَرَاهِمُ وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بِالِاتِّفَاقِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ) يَعْنِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ جَمْعٌ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ ثَلَاثَةٌ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَفْظُ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ : لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ صِفَةَ الْجَمْعِ كَمَا هُوَ مُتَبَادِرٌ مِنْ ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ .
يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَيْسَ بِجَمْعٍ صَحِيحٍ بَلْ هُوَ جَمْعٌ مُكَسَّرٌ فَلَمْ يُطَابِقْ الدَّلِيلَ الْمُدَّعَى ، وَإِنْ كَانَ صِفَةً لِأَقَلَّ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ صَاحِبِ الْكَافِي لِأَنَّهُ أَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ بِخِلَافِ الْمُثَنَّى يُتَّجَهُ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ أَقَلِّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةً إنَّمَا هُوَ فِي جَمْعِ الْقِلَّةِ دُونَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ ، فَإِنَّ أَقَلَّ جَمْعِ الْكَثْرَةِ أَحَدَ عَشَرَ كَمَا مَرَّ بَيَانُهُ آنِفًا وَالدَّرَاهِمُ جَمْعُ كَثْرَةٍ ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ النَّحْوِ أَنَّ جَمِيعَ أَمْثِلَةِ الْجَمْعِ الْمُكَسَّرِ جَمْعُ كَثْرَةٍ
سِوَى الْأَمْثِلَةِ الْأَرْبَعَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ أَفْعَلُ وَأَفْعَالُ وَأَفْعِلَةُ وَفَعَلَةُ عِنْدَ الْكُلِّ ، وَسِوَى فَعَلَةٍ كَأَكَلَةٍ عِنْدَ الْفَرَّاءِ ، وَسِوَى أَفْعِلَاءٍ كَأَصْدِقَاءٍ فِي نَقْلِ التَّبْرِيزِيِّ ، وَلَفْظُ الدَّرَاهِمِ لَيْسَ مِنْ أَحَدِ هَاتِيك الْأَمْثِلَةِ فَكَانَ جَمْعَ كَثْرَةٍ قَطْعًا فَلَمْ يَتِمَّ الْمَطْلُوبُ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ عَلَى اخْتِيَارِ الشِّقِّ الثَّانِي مِنْ التَّرْدِيدِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْفَاضِلَ الرَّضِيَّ صَرَّحَ بِأَنَّ كُلَّ جَمْعِ تَكْسِيرٍ لِلرُّبَاعِيِّ الْأَصْلِ حُرُوفُهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الدَّرَاهِمَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، فَلَمَّا اشْتَرَكَ بَيْنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ كَانَ أَقَلُّهُ الْمُتَيَقَّنُ هُوَ الثَّلَاثَةَ فَتَمَّ الْمَطْلُوبُ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُحَقِّقَ التَّفْتَازَانِيَّ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ فِي أَوَائِلِ مَبَاحِثِ أَلْفَاظِ الْعَامِّ بِصَدَدِ تَحْقِيقِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَأَئِمَّةِ اللُّغَةِ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ الْجَمْعِ ثَلَاثَةٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيْنَ جَمْعَيْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، فَدَلَّ بِظَاهِرِهِ عَلَى أَنَّ التَّفْرِقَةَ بَيْنَهُمَا إنَّمَا هِيَ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ : يَعْنِي أَنَّ جَمْعَ الْقِلَّةِ مُخْتَصٌّ بِالْعَشَرَةِ فَمَا دُونَهَا ، وَجَمْعَ الْكَثْرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ لَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ ، وَهَذَا أَوْفَقُ بِالِاسْتِعْمَالَاتِ وَإِنْ صَرَّحَ بِخِلَافِهِ كَثِيرٌ مِنْ الثِّقَاتِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ عَلَى مَا هُوَ الْأَوْفَقُ بِالِاسْتِعْمَالَاتِ وَتَقْرِيرَاتِ أَهْلِ الْأُصُولِ مِنْ كَوْنِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ جَمْعَيْ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فِي جَانِبِ الزِّيَادَةِ لَا فِي جَانِبِ النُّقْصَانِ فَتَدَبَّرْ ( إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْهَا ) هَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : يَعْنِي إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ الْمُقِرُّ أَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ
مَا بَيَّنَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( لِأَنَّ اللَّفْظَ ) أَيْ لَفْظَ الْجَمْعِ ( يَحْتَمِلُهُ ) أَيْ يَحْتَمِلُ الْأَكْثَرَ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِ لِكَوْنِهِ عَلَيْهِ لَا لَهُ ( وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَزْنِ الْمُعْتَادِ ) أَيْ إلَى الْوَزْنِ الْمُتَعَارَفِ وَهُوَ غَالِبُ نَقْدِ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ مِنْ الْأَلْفَاظِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَمَا مَرَّ فِي الْبُيُوعِ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُرِيدُ الرُّجُوعَ عَمَّا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ .
قَالَ فِي التُّحْفَةِ : وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مُتَعَارَفٌ يُحْمَلُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ فَإِنَّهُ الْوَزْنُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْعِنَايَةِ .
وَقَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي بَلَدٍ يَتَعَامَلُونَ فِيهِ بِدَرَاهِمَ وَزْنُهَا يَنْقُصُ عَنْ وَزْنِ سَبْعٍ يَقَعُ إقْرَارُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى وَزْنًا أَقَلَّ مِنْ وَزْنِ بَلَدِهِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ يَكُونُ رُجُوعًا ، وَلَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْغَالِبُ كَمَا فِي نَقْدِ الْبَلَدِ ، فَإِنْ اسْتَوَتْ يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ الْأَوْزَانِ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا فَلَا تَثْبُتُ مَعَ الشَّكِّ انْتَهَى .
أَقُولُ : بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي التُّحْفَةِ وَالْبَدَائِعِ فِي صُورَةِ التَّسَاوِي تَفَاوُتٌ بَلْ تَخَالُفٌ لَا يَخْفَى ( وَلَوْ قَالَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرً دِرْهَمًا ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ : يَعْنِي لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَلَمْ يُعْتَبَرْ قَوْلُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُقِرَّ ( ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ ) أَيْ ذَكَرَ لَفْظَيْنِ هُمَا كِنَايَتَانِ عَنْ الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ ( لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ ) أَيْ أَقَلُّ مَا كَانَ عَدَدَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ ( مِنْ
الْمُفَسَّرِ ) أَيْ مِنْ الْعَدَدِ الْمُفَسَّرِ : أَيْ الْمُصَرَّحِ بِهِ ( أَحَدَ عَشَرَ ) وَأَكْثَرُهُ تِسْعَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يُقَالُ أَحَدَ عَشَرَ إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ الْمُتَيَقَّنُ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَالزِّيَادَةُ تَقِفُ عَلَى بَيَانِهِ ( وَلَوْ قَالَ : كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ ) هَذَا أَيْضًا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِنْ الْمُفَسَّرِ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ فَيُحْمَلُ كُلُّ وَجْهٍ عَلَى نَظِيرِهِ ) يَعْنِي أَنَّ لَفْظَ كَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ ، وَالْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِهِ اعْتِبَارُهُ بِالْمُفَسَّرِ : أَيْ بِالْعَدَدِ الصَّرِيحِ ، فَمَا لَهُ نَظِيرٌ فِي الْأَعْدَادِ الْمُفَسَّرَةِ يُحْمَلُ عَلَى أَقَلِّ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا فَإِذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَإِذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ( وَلَوْ قَالَ كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ دِرْهَمٌ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ : يَعْنِي لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ دِرْهَمًا فِي قَوْلِهِ كَذَا دِرْهَمًا ( تَفْسِيرٌ لِلْمُبْهَمِ ) أَيْ تَمْيِيزٌ لِلشَّيْءِ الْمُبْهَمِ وَهُوَ كَذَا لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ الْمُبْهَمِ وَأَقَلُّهُ الْمُتَيَقَّنِ وَاحِدٌ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ ، وَذُكِرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي بَعْضِ الْمُعْتَبَرَاتِ كَالذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ عَلَى خِلَافِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ وَالْمُحِيطِ وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ : إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا
يُعَدُّ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعَدُّ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ .
وَقَالَ فِي التَّتِمَّةِ وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ : إذَا قَالَ كَذَا دِينَارًا فَعَلَيْهِ دِينَارَانِ ، لِأَنَّ هَذَا أَقَلُّ مَا يُعَدُّ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يُعَدُّ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ آخَرُ .
وَقَالَ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ : لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا دِينَارًا فَعَلَيْهِ دِينَارَانِ ؛ لِأَنَّ كَذَا كِنَايَةٌ عَنْ الْعَدَدِ وَأَقَلُّ الْعَدَدِ اثْنَانِ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيمَا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ كَوْنِ الْوَاحِدِ مِنْ الْعَدَدِ إنَّمَا هُوَ فِي اصْطِلَاحِ الْحِسَابِ وَأَمَّا فِي الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ فَهُوَ مِنْ الْعَدَدِ قَطْعًا ، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَئِمَّةَ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ قَاطِبَةً جَعَلُوا أُصُولَ الْعَدَدِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ كَلِمَةً وَاحِدٌ إلَى عَشَرَةٍ وَمِائَةٍ وَأَلْفٍ .
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ : الْأَحَدُ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ وَهُوَ أَوَّلُ الْعَدَدِ انْتَهَى .
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ الرَّضِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِيَةِ : لَا خِلَافَ عِنْدَ النُّحَاةِ فِي أَنَّ لَفْظَ وَاحِدٍ وَاثْنَانِ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ ، وَعِنْدَ الْحِسَابِ لَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْ الْعَدَدِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُمْ هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْوَاحِدِ ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الِاثْنَانِ مِنْ الْعَدَدِ انْتَهَى .
وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ كَذَا كِنَايَةً عَنْ الْعَدَدِ لَيْسَ بِمَبْنِيٍّ عَلَى اصْطِلَاحِ الْحِسَابِ ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ جَارٍ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ وَاللُّغَةِ ، فَكَوْنُ أَقَلِّ الْعَدَدِ اثْنَيْنِ عِنْدَ الْحِسَابِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُقِرِّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ دِرْهَمَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى .
قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَدَ عَشَرَ ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ الْعَدَدِ الَّذِي يَقَعُ مُمَيِّزُهُ مَنْصُوبًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي دِرْهَمٍ وَالْقِيَاسُ فِيهِ مَا قَالَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْأَسْرَارِ : إذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ عِشْرُونَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَةً وَفَسَّرَهَا بِدِرْهَمٍ مَنْصُوبٍ ، وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ عِشْرِينَ إلَى تِسْعِينَ فَيَجِبُ الْأَقَلُّ وَهُوَ عِشْرُونَ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا
لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يَجِيءُ مُمَيِّزُهُ مَنْصُوبًا .
قُلْت : الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ فَيَثْبُتُ الْأَدْنَى لِلتَّيَقُّنِ انْتَهَى .
أَقُولُ : جَوَابُهُ لَيْسَ بِتَامٍّ لِأَنَّ كَوْنَ الْأَصْلِ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ إنَّمَا يَقْتَضِي كَوْنَ الثَّابِتِ أَدْنَى مَا يَتَحَمَّلُهُ لَفْظُ الْمُقِرِّ دُونَ الْأَدْنَى مُطْلَقًا كَمَا لَا يَخْفَى .
وَمَعْنَى السُّؤَالِ أَنَّ أَدْنَى مَا يَتَحَمَّلُهُ لَفْظُ الْمُقِرِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا هُوَ أَحَدَ عَشَرَ بِدَلَالَةِ كَوْنِ الْمُمَيِّزِ مَنْصُوبًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَمَا ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ لَا يَدْفَعُهُ قَطْعًا .
ثُمَّ أَقُولُ : الْحَقُّ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ إنَّ قَوْلَهُ كَذَا دِرْهَمًا وَإِنْ كَانَ نَظِيرَ الْأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فِي كَوْنِ الْمُمَيِّزِ مَنْصُوبًا لَكِنْ لَيْسَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي نَفْسِ مَا يُمَيِّزُهُ الْمَنْصُوبُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ عَشَرَ عَدَدٌ مُرَكَّبٌ وَلَفْظُ كَذَا لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ كَذَا نَظِيرًا لِنَفْسِ أَحَدَ عَشَرَ لَمْ يُفِدْ الِاشْتِرَاكَ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِ مُمَيِّزِهِمَا مَنْصُوبًا ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا سُتْرَةَ بِهِ .
قَالَ فِي الِاخْتِيَارِ شَرْحِ الْمُخْتَارِ : وَقِيلَ يَلْزَمُهُ عِشْرُونَ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ كَذَا يُذْكَرُ لِلْعَدَدِ عُرْفًا ، وَأَقَلُّ عَدَدٍ غَيْرِ مُرَكَّبٍ يُذْكَرُ بَعْدَهُ الدِّرْهَمُ بِالنَّصْبِ عِشْرُونَ انْتَهَى .
وَذَكَرَهُ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي الْكَنْزِ نَقْلًا عَنْهُ .
وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَمَا نَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي وَصَاحِبُ الْحِلْيَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ ذَكَرَ إذَا قَالَ كَذَا دِرْهَمًا لَزِمَهُ عِشْرُونَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ الْمَنْصُوبُ خِلَافُ مَا ذَكَرَ فِي الْهِدَايَةِ وَالذَّخِيرَةِ وَالتَّتِمَّةِ وَفَتَاوَى قَاضِي خَانْ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَلَمْ أَجِدْهُ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِنَا ا هـ كَلَامُهُ .
أَقُولُ : كَأَنَّهُ لَمْ يَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي مُخْتَصَرِ الْأَسْرَارِ وَشَرْحِ الْمُخْتَارِ أَوْ لَمْ يَعُدَّهُمَا مِنْ
الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِنَا ، أَوْ أَرَادَ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْهُ مَنْقُولًا عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ لِأَصْحَابِنَا : ثُمَّ إنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْمَنْقُولِ الْمَزْبُورِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ الْمَنْصُوبُ قَاصِرٌ فِي الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ عَدَدٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ الْمَنْصُوبُ إنَّمَا هُوَ أَحَدَ عَشَرَ دُونَ عِشْرِينَ ، فَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَقَلُّ عَدَدٍ غَيْرِ مُرَكَّبٍ يُفَسِّرُهُ الْوَاحِدُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَفْظُهُ مُسَاعِدًا لَهُ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلَوْ ثَلَّثَ كَذَا بِغَيْرِ وَاوٍ ) أَيْ لَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ كَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِغَيْرِ وَاوٍ فَقَالَ كَذَا كَذَا كَذَا دِرْهَمًا ( فَأَحَدَ عَشَرَ ) أَيْ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا لَا غَيْرُ ( لِأَنَّهُ لَا نَظِيرَ لَهُ سِوَاهُ ) أَيْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْأَعْدَادِ الصَّرِيحَةِ سِوَى أَحَدَ عَشَرَ : يَعْنِي سِوَى مَا كَانَ أَقَلُّهُ أَحَدَ عَشَرَ فَيُحْمَلُ الِاثْنَانِ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ لِكَوْنِهِمَا نَظِيرَيْ عَدَدَيْنِ صَرِيحَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ أَحَدَ عَشَرَ ، وَيُحْمَلُ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا عَلَى التَّكْرِيرِ وَالتَّأْكِيدِ ضَرُورَةَ عَدَمِ ثَلَاثِ أَعْدَادٍ مُجْتَمَعَةٍ ذُكِرَتْ بِلَا عَاطِفٍ ، كَذَا قَالُوا : ( وَإِنْ ثَلَّثَ بِالْوَاوِ ) بِأَنْ قَالَ : كَذَا وَكَذَا وَكَذَا ( فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ ) أَيْ فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ هَذَا الْمِقْدَارُ ( وَإِنْ رَبَّعَ ) بِأَنْ قَالَ : كَذَا وَكَذَا وَكَذَا وَكَذَا ( يُزَادُ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى مِائَةٍ وَأَحَدٍ وَعِشْرُونَ ( أَلْفٌ ) فَيَلْزَمُهُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ ( لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ فِي صُورَتَيْ التَّثْلِيثِ وَالتَّرْبِيعِ نَظِيرُ مَا ذَكَرَهُ الْمُقِرُّ فِي تَيْنِك الصُّورَتَيْنِ : أَيْ أَقَلُّ مَا كَانَ نَظِيرًا لَهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ قَوْلُهُ : لِأَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُهُ تَعْلِيلًا لِمَجْمُوعِ الصُّورَتَيْنِ كَمَا هُوَ
الظَّاهِرُ مِنْ عَدَمِ ذِكْرِ التَّعْلِيلِ فِي صُورَةِ التَّثْلِيثِ وَتَأْخِيرِهِ إلَى هُنَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْلِيلًا لِقَرِيبِهِ : أَعْنِي صُورَةَ التَّرْبِيعِ وَيَكُونَ تَعْلِيلُ صُورَةِ التَّثْلِيثِ مَتْرُوكًا لِانْفِهَامِهِ مِمَّا ذَكَرَهُ فِي غَيْرِهَا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ تَحْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَلَوْ قَالَ كَذَا وَكَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَمِائَةٌ وَأَحَدٌ وَعِشْرُونَ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ أَعْدَادٍ مَعَ الْعَاطِفِ ، وَلَوْ رَبَّعَ يُزَادُ عَلَيْهَا الْأَلْفُ لِأَنَّ ذَا نَظِيرُهُ انْتَهَى .
قَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ : وَلَوْ خَمَّسَ بِالْوَاوِ يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَشَرَةُ آلَافٍ ، وَلَوْ سَدَّسَ يُزَادُ مِائَةُ أَلْفٍ ، وَلَوْ سَبَّعَ يُزَادُ أَلْفُ أَلْفٍ ، وَعَلَى هَذَا كُلَّمَا زَادَ عَدَدًا مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ زِيدَ عَلَيْهِ مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى انْتَهَى .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ : هَذَا كُلُّهُ إذَا قَالَ بِالنَّصْبِ فَأَمَّا إذَا قَالَ دِرْهَمٍ بِالْخَفْضِ بِأَنْ قَالَ كَذَا دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ : هَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدًا مُبْهَمًا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَذَكَرَ الدِّرْهَمَ عَقِيبَهُ بِالْخَفْضِ فَيُعْتَبَرُ بِعَدَدٍ وَاحِدٍ مُصَرَّحٍ يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ الدِّرْهَمِ عَقِيبَهُ بِالْخَفْضِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ قَالَ : كَذَا كَذَا دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ ثَلَاثُمِائَةِ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا وَاوَ الْعَطْفِ ، وَذَكَرَ الدَّرَاهِمَ عَقِيبَهُمَا بِالْخَفْضِ ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمُصَرَّحِ ثَلَاثُمِائَةٍ لِأَنَّ ثَلَاثًا عَدَدٌ وَمِائَةً عَدَدٌ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ ، وَيَسْتَقِيمُ ذِكْرُ الدَّرَاهِمِ بِالْخَفْضِ عَقِيبَهُمَا انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ : وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا وَكَذَا كَذَا دِينَارًا فَعَلَيْهِ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَحَدَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَفْرَدَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الذِّكْرِ لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ ، فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَحَدَ عَشَرَ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كَذَا كَذَا دِينَارًا وَدِرْهَمًا كَانَ عَلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَكَيْفَ يُقَسَّمُ ؟ .
الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَخَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مِنْ الدَّنَانِيرِ ، إلَّا أَنَّا نَقُولُ : لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ أَدَّى إلَى الْكَسْرِ ، وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَسْرِ فَيَجْعَلُ سِتَّةً مِنْ الدَّرَاهِمِ وَخَمْسَةً مِنْ الدَّنَانِيرِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا جَعَلْت سِتَّةً مِنْ الدَّنَانِيرِ وَخَمْسَةً مِنْ الدَّرَاهِمِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ أَقَلُّ مَالِيَّةً مِنْ الدَّنَانِيرِ فَصَرَفْنَاهُ إلَيْهَا احْتِيَاطًا ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ .
قَالَ : ( وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ) لِأَنَّ " عَلَيَّ " صِيغَةُ إيجَابٍ ، وَقِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الضَّمَانِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكَفَالَةِ .
( قَالَ ) أَيْ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ : ( وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَقَدْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ) لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْأَصْلِ .
أَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ عَلَيَّ صِيغَةُ إيجَابٍ ) تَقْرِيرُهُ أَنَّ عَلَيَّ كَلِمَةٌ خَاصَّةٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ وَاشْتِقَاقُهَا مِنْ الْعُلُوِّ ، وَإِنَّمَا يَعْلُوهُ وَإِذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَضَائِهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ .
وَتَقْرِيرٌ آخَرُ أَنَّ الدَّيْنَ وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ : لَهُ عَلَيَّ فَقَدْ ذُكِرَ اقْتِضَاءً ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ تُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيجَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وَمَحَلُّ الْإِيجَابِ الذِّمَّةُ ، وَالثَّابِتُ فِي الذِّمَّةِ الدَّيْنُ لَا الْعَيْنُ فَصَارَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ لَا الْعَيْنِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ، وَذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الْإِمَامِ الْمَحْبُوبِيِّ : وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فِي قَوْلِهِ لَهُ قِبَلِي فَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَقِبَلِي يُنْبِئُ عَنْ الضَّمَانِ ) لِأَنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ ، أَلَا يَرَى أَنَّ الصَّكَّ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الدَّيْنِ يُسَمَّى قَبَالَةً وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى قَبِيلًا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ ( عَلَى مَا مَرَّ فِي الْكَفَالَةِ ) مِنْ أَنَّهُ تَنْعَقِدُ الْكَفَالَةُ بِقَوْلِهِ : أَنَا قَبِيلٌ لِأَنَّ الْقَبِيلَ هُوَ الْكَفِيلُ .
أَقُولُ : هَاهُنَا نَظَرٌ ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ الْقَبِيلِ بِمَعْنَى الْكَفِيلِ ، وَتَضْمِينُهُ مَعْنَى الضَّمَانِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ قِبَلِي مُنْبِئًا عَنْ الضَّمَانِ لِأَنَّ كَلِمَةَ قِبَلِ غَيْرُ كَلِمَةِ الْقَبِيلِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ مَجِيءُ الْأُولَى بِمَعْنَى الثَّانِيَةِ قَطُّ ، بَلْ الَّذِي ذَكَرَهُ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي
كُتُبِهِمْ هُوَ أَنَّ قِبَلَ فُلَانٍ بِمَعْنَى عِنْدَهُ ، وَأَنَّ قِبَلًا بِمَعْنَى مُقَابَلَةً وَعِيَانًا ، وَأَنَّهُ يَجِيءُ قِبَلُ بِمَعْنَى طَاقَةٍ فَإِنَّهُمْ قَالُوا رَأَيْته قِبَلًا : أَيْ مُقَابَلَةً وَعِيَانًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ قِبَلًا } أَيْ عِيَانًا وَلِي قِبَلَ فُلَانٍ حَقٌّ أَيْ عِنْدَهُ ، وَمَالِي بِهِ قِبَلٌ أَيْ طَاقَةٌ ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ قِبَلِ فِي مَعْنَى الضَّمَانِ فَلَمْ يُسْمَعْ مِنْهُمْ قَطُّ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُتُبَ اللُّغَةِ غَيْرُ مُسَاعِدَةٍ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي هَاتِيك الْمَسْأَلَةِ فَتَأَمَّلْ .
( وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ هُوَ وَدِيعَةٌ وَوَصَلَ صُدِّقَ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ مَجَازًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَضْمُونُ عَلَيْهِ حِفْظَهُ وَالْمَالُ مَحَلَّهُ فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَفِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ فِي قَوْلِهِ قِبَلِي إنَّهُ إقْرَارٌ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا حَتَّى صَارَ قَوْلُهُ : لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا ، وَالْأَمَانَةُ أَقَلُّهُمَا وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
( وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ وَأَقَلُّهَا وَهُوَ الْأَمَانَةُ .
( وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ ) فِي قَوْلِهِ : عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي ( وَهُوَ وَدِيعَةٌ وَوَصَلَ ) أَيْ وَوَصَلَ قَوْلَهُ : عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي بِقَوْلِهِ هُوَ وَدِيعَةٌ ( صُدِّقَ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ ) أَيْ يَحْتَمِلُ مَا قَالَهُ ( مَجَازًا ) أَيْ مِنْ حَيْثُ الْمَجَازُ ( حَيْثُ يَكُونُ الْمَضْمُونُ عَلَيْهِ حِفْظَهُ ) أَيْ حِفْظَ الْمُودَعِ ، فَإِنَّ الْمُودَعَ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ ( وَالْمَالُ مَحَلُّهُ ) أَيْ مَحَلُّ الْحِفْظِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمَحَلَّ وَهُوَ مَالُ الْوَدِيعَةِ وَأَرَادَ الْحَالَ وَهُوَ حِفْظُهُ فَجَازَ مَجَازًا كَمَا فِي قَوْلِهِمْ : نَهْرٌ جَارٍ لَكِنَّهُ تَغْيِيرٌ عَنْ وَضْعِهِ ( فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا ) لِأَنَّهُ صَارَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ ، وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ يُقْبَلُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ ( قَالَ ) أَيْ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَفِي نُسَخِ الْمُخْتَصَرِ ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ ( فِي قَوْلِهِ قِبَلِي ) أَيْ وَقَعَ فِي قَوْلِ الْمُقِرِّ قِبَلِي ( أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْأَمَانَةِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَنْتَظِمُهُمَا ) أَيْ يَنْتَظِمُ الدَّيْنَ وَالْأَمَانَةَ ( حَتَّى صَارَ قَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْقَائِلِ ( لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا ) نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ حَيْثُ قَالَ : إذَا قَالَ : لَا حَقَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ بَرِئَ فُلَانٌ مِمَّا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : لَا حَقَّ عِنْدَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا أَصْلُهُ الْأَمَانَةُ ، وَإِنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ وَمِمَّا عِنْدَهُ لِأَنَّ مَا عِنْدَهُ قِبَلَهُ وَمَا عَلَيْهِ قِبَلَهُ انْتَهَى ( وَالْأَمَانَةُ أَقَلُّهُمَا ) هَذَا تَتِمَّةُ الدَّلِيلِ : يَعْنِي أَنَّ الْأَمَانَةَ أَقَلُّ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ فَيُحْمَلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا الْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنَ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ) أَيْ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْأَصَحُّ قَالَ فِي الْكَافِي : وَالْأَوَّلُ مَذْكُورٌ فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي
الدُّيُونِ أَغْلَبُ وَأَكْثَرُ فَكَانَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ أَحْرَى وَأَجْدَرَ .
وَقَالَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَالْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ أَصَحُّ ، ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ ، وَعَلَّلَ بِأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي الدَّيْنِ أَغْلَبُ وَأَكْثَرُ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى انْتَهَى .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يُنْتَقَضُ هَذَا التَّعْلِيلُ بِمَا إذَا قَالَ : لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْمَلْ هُنَاكَ عَلَى الدَّيْنِ خَاصَّةً ، بَلْ جُعِلَ إبْرَاءً عَنْ الدَّيْنِ وَالْأَمَانَةِ جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ جَرَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا .
ثُمَّ أَقُولُ : يُمْكِنُ دَفْعُ ذَلِكَ بِإِمْكَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّ إحْدَاهُمَا صُورَةُ الْإِثْبَاتِ ، وَلَمَّا لَمْ يَتَيَسَّرْ جَمْعُ إثْبَاتِ الدَّيْنِ وَإِثْبَاتِ الْأَمَانَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ الْأَرْجَحُ مِنْهُمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَصُورَةُ النَّفْيِ ، وَلَمَّا تَيَسَّرَ جَمْعُ نَفْيِ الدَّيْنِ وَنَفْيِ الْأَمَانَةِ عَنْ شَيْءٍ حُمِلَ عَلَى نَفْيِهِمَا مَعًا فِي تِلْكَ الصُّورَةِ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْفَرْقَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ لِلْأَقَارِبِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ كِتَابِ الْوَصَايَا حَيْثُ قَالَ : وَمَنْ أَوْصَى لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوَالٍ أَعْتَقَهُمْ وَمَوَالٍ أَعْتَقُوهُ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ .
ثُمَّ قَالَ : وَلَنَا أَنَّ الْجِهَةَ مُخْتَلِفَةٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَوْلَى النِّعْمَةِ وَالْآخَرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فَصَارَ مُشْتَرَكًا فَلَمْ يَنْتَظِمْهُمَا لَفْظٌ وَاحِدٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ مَوَالِيَ فُلَانٍ حَيْثُ يَتَنَاوَلُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ مَقَامُ النَّفْيِ وَلَا تَنَافِيَ فِيهِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ قِيَاسُ تَرْتِيبِ وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُذْكَرَ أَوَّلًا مَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ ثُمَّ يُذْكَرَ مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ شَرْحَ الْبِدَايَةِ الَّتِي تَجْمَعُ مَسَائِلَ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَمُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَالزَّوَائِدُ
عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفْرِيعِ ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا رَأَى الْكَلَامَ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ هُوَ الْأَصَحَّ قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي الْبِدَايَةِ غَيْرَ مَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ ( وَلَوْ قَالَ عِنْدِي أَوْ مَعِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ فِي كِيسِي أَوْ فِي صُنْدُوقِي فَهُوَ إقْرَارٌ بِأَمَانَةٍ فِي يَدِهِ ) وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْأَصْلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ ) لَا فِي ذِمَّتِهِ ( وَذَلِكَ ) أَيْ مَا كَانَ فِي يَدِهِ ( يَتَنَوَّعُ إلَى مَضْمُونٍ وَأَمَانَةٍ فَيَثْبُتُ أَقَلُّهُمَا ) وَهُوَ الْأَمَانَةُ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ مَحَلٌّ لِلْعَيْنِ لَا لِلدَّيْنِ ، إذْ الدَّيْنُ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَالْعَيْنُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً وَأَمَانَةً وَالْأَمَانَةُ أَدْنَاهَا فَحُمِلَ عَلَيْهَا لِلتَّيَقُّنِ بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلِمَةَ عِنْدَ لِلْقُرْبِ وَمَعَ لِلْقِرَانِ وَمَا عَدَاهُمَا لِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ فَيَكُونُ مِنْ خَصَائِصِ الْعَيْنِ ، وَلَا يَحْتَمِلُ الدَّيْنَ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ ، فَإِذَا كَانَتْ مِنْ خَصَائِصِ الْعَيْنِ تَعَيَّنَتْ الْأَمَانَةُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمَانَاتِ وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ يُحْمَلُ عَلَى الْعُرْفِ ، كَذَا فِي التَّبْيِينِ .
فَإِنْ قُلْت : يُشْكِلُ هَذَا بِمَا قَالَ : لَهُ قِبَلِي مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنُ وَدِيعَةٍ أَوْ وَدِيعَةُ دَيْنٍ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لَا بِالْأَمَانَةِ مَعَ أَنَّ الْأَمَانَةَ أَقَلُّهُمَا .
قُلْت : تَنَوُّعُ اللَّفْظِ إلَى الضَّمَانِ وَالْأَمَانَةِ فِيمَا فِيهِ نَحْنُ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَفِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ لَفْظَيْنِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ لِلْأَمَانَةِ وَالْآخَرُ لِلدَّيْنِ فَإِذَا جُمِعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ تَرَجَّحَ الدَّيْنُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ هَذَا عَنْ الْمَبْسُوطِ : وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ
اسْتِعَارَةَ اللَّفْظِ الَّذِي يُوجِبُ الدَّيْنَ لِمَا يُوجِبُ الْأَمَانَةَ مُمْكِنٌ لَا عَلَى الْعَكْسِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَلْزَمُ اسْتِعَارَةُ الْأَدْنَى لِلْأَعْلَى ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الطَّلَاقِ لِلْعَتَاقِ ، وَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَكَانَ فِيهِ اسْتِعَارَةُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى وَهُوَ صَحِيحٌ كَاسْتِعَارَةِ الْعِتْقِ لِلطَّلَاقِ ، وَالِاسْتِعَارَةُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي اللَّفْظَيْنِ لَا فِي اللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْمُحْتَمِلِ لِلشَّيْئَيْنِ ، بَلْ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ إلَى مَا هُوَ الْأَعْلَى الْمُحْتَمَلُ وَالْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنُ فَيُحْمَلُ عَلَى الْأَدْنَى الْمُتَيَقَّنِ لِثُبُوتِهِ يَقِينًا انْتَهَى .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ ) لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِنَايَةِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ إلَى الْمَذْكُورِ ، وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ ، وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ كَالْقَضَاءِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ لِي عَلَيْك أَلْفٌ فَقَالَ اتَّزِنْهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ أَجِّلْنِي بِهَا أَوْ قَدْ قَضَيْتُكَهَا فَهُوَ إقْرَارٌ ) هَذَا كُلُّهُ لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ يَعْنِي أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُجِيبُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ جَوَابًا إذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَانَ رَاجِعًا إلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ أَعَادَهُ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ ، فَلَمَّا قَرَنَ كَلَامَهُ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي بِالْكِنَايَةِ رَجَعَ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْهَاءَ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ) أَيْ فِي قَوْلِهِ اتَّزِنْهَا وَفِي قَوْلِهِ انْتَقِدْهَا ( كِنَايَةٌ عَنْ الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى فَكَأَنَّهُ قَالَ ) فِي الْأَوَّلِ ( اتَّزِنْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ ) وَفِي الثَّانِي انْتَقِدْ الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ فَصَارَ كَمَا لَوْ أَجَابَ بِنَعَمْ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ ( حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْكِتَابَةِ ) يَعْنِي الْهَاءَ ( لَا يَكُونُ ) كَلَامُهُ ( إقْرَارًا ) بِالْمُدَّعَى ( لِعَدَمِ انْصِرَافِهِ ) أَيْ لِعَدَمِ انْصِرَافِ كَلَامِهِ ( إلَى الْمَذْكُورِ ) أَيْ إلَى الْمَذْكُورِ فِي الدَّعْوَى لِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : اُقْعُدْ وَزَّانًا لِلنَّاسِ أَوْ نَقَّادًا لَهُمْ دَرَاهِمَهُمْ وَاكْتُبْ الْمَالَ وَلَا تُؤْذِنِي بِالدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ ( وَالتَّأْجِيلُ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ ) هَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ قَوْلِهِ أَجِّلْنِي بِهَا إقْرَارًا ، يَعْنِي أَنَّ التَّأْجِيلَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقٍّ وَاجِبٍ لِأَنَّهُ لِلتَّرْفِيهِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ إقْرَارًا بِحَقٍّ وَاجِبٍ ( وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ ) أَيْ يَتْبَعُ الْوُجُوبَ هَذَا إشَارَةٌ إلَى تَعْلِيلِ كَوْنِ قَوْلِهِ قَدْ قَضَيْتُكَهَا إقْرَارًا : يَعْنِي أَنَّ الْقَضَاءَ يَقْضِي سَبْقَ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ تَسْلِيمُ مِثْلِ الْوَاجِبِ فَلَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ ، فَلَمَّا ادَّعَى
قَضَاءَ الْأَلْفِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا ( وَدَعْوَى الْإِبْرَاءِ ) بِأَنْ قَالَ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا ( كَالْقَضَاءِ ) أَيْ كَدَعْوَى الْقَضَاءِ ( لِمَا بَيَّنَّا ) أَشَارَ بِهِ إلَى قَوْلِهِ وَالْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ : يَعْنِي أَنَّ الْإِبْرَاءَ أَيْضًا يَتْلُو الْوُجُوبَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي مَالٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي .
أَقُولُ : هَاهُنَا إشْكَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لِلْمُدَّعِي : قَدْ قَضَيْتُكَهَا أَوْ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ .
وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ هَذَا : إنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ يَتْلُوهُ .
وَقَدْ صَرَّحُوا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي أَكْثَرِ الْمُعْتَبَرَاتِ وَفِي مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْوِقَايَةِ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي : لَيْسَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ أَوْ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ثُمَّ ادَّعَى قَضَاءَ تِلْكَ الْأَلْفِ لِلْمُدَّعِي ، أَوْ ادَّعَى إبْرَاءَ الْمُدَّعِي إيَّاهُ مِنْ تِلْكَ الْأَلْفِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى ذَلِكَ سُمِعَتْ دَعْوَاهُ وَقُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا سِوَى زُفَرَ ، وَقَالُوا فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ : إنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ غَيْرَ الْحَقِّ قَدْ يُقْضَى وَيُبْرَأُ مِنْهُ دَفْعًا لِلْخُصُومَةِ ، حَتَّى قَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَاكَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ قَضَى بِبَاطِلٍ وَقَدْ يُصَالِحُ عَلَى شَيْءٍ فَيَثْبُتُ ثُمَّ يَقْضِي ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا قَوْلَ زُفَرَ هُنَاكَ الْقَضَاءُ يَتْلُو الْوُجُوبَ ، وَكَذَا الْإِبْرَاءُ ، وَقَدْ أَنْكَرَهُ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا فَكَانَ بَيْنَ كَلَامَيْهِمْ الْمُقَرَّرَيْنِ فِي الْمَقَامَيْنِ تَدَافُعٌ لَا يَخْفَى فَتَدَبَّرْ ( وَكَذَا دَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ) يَعْنِي لَوْ قَالَ : تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَهَبْتهَا لِي كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا إقْرَارًا مِنْهُ ( لِأَنَّ التَّمْلِيكَ يَقْتَضِي سَابِقَةَ الْوُجُوبِ ) يَعْنِي
أَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيكِ ، فَدَعْوَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ دَعْوَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا لَا يَخْفَى ( وَكَذَا لَوْ قَالَ : أَحَلْتُك بِهَا عَلَى فُلَانٍ ) أَيْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ أَيْضًا إقْرَارًا ( لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ ) مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ ، وَذَا لَا يَكُونُ بِدُونِ الْوُجُوبِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْضِيكَهَا الْيَوْمَ أَوْ لَا أَتَّزِنُهَا لَك الْيَوْمَ لِأَنَّهُ نَفَى الْقَضَاءَ وَالْوَزْنَ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْمَالِ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَالْقَضَاءُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا أَبَدًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْكِيدِ نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُنْتَفٍ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَلَوْ قِيلَ لَهُ هَلْ عَلَيْك لِفُلَانٍ كَذَا فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ بِنَعَمْ لَا يَكُونُ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ مِنْ الْأَخْرَسِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْكَلَامِ لَا مِنْ غَيْرِهِ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذَّبَهُ فِي التَّأْجِيلِ لَزِمَهُ الدَّيْنُ حَالًا ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ فِيهِ فَصَارَ كَمَا إذَا أَقَرَّ بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ وَادَّعَى الْإِجَارَةَ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ فِيهِ وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْكَفَالَةِ .
قَالَ ( وَيَسْتَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى الْأَجَلِ ) لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقًّا عَلَيْهِ وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَصَدَّقَهُ الْمُقِرُّ لَهُ فِي الدَّيْنِ وَكَذَّبَهُ فِي التَّأْجِيلِ لَزِمَهُ الدَّيْنُ حَالًا ) هَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَزِمَهُ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى وَقْتٍ فَيَلْزَمُهُ بِالْوَصْفِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقٌّ لِمَنْ عَلَيْهِ الْمَالُ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الدَّائِنِ وَلَكِنَّهُ مُؤَخَّرٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى مُضِيِّهِ ، فَكَانَ دَعْوَاهُ الْأَجَلَ كَدَعْوَاهُ الْإِبْرَاءَ ، كَذَا ذَكَرَ فِي بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْمَبْسُوطِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ قَوْلِ أَصْحَابِنَا ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ ( أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ وَادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ فِيهِ ) أَيْ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَيُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ بِلَا حُجَّةٍ دُونَ الدَّعْوَى ( فَصَارَ ) أَيْ فَصَارَ الْمُقِرُّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ( كَمَا إذَا أَقَرَّ ) لِغَيْرِهِ ( بِعَبْدٍ فِي يَدِهِ ) أَيْ بِعَبْدٍ كَائِنٍ فِي يَدِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ الْغَيْرَ ( وَادَّعَى الْإِجَارَةَ ) أَيْ ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ صَاحِبِهِ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمِلْكِ دُونَ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ هُنَاكَ فِي دَعْوَى الْإِجَارَةِ ، فَكَذَا هَاهُنَا فِي دَعْوَى الْأَجَلِ ( بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ فَصَدَّقَهُ فِي الْمُقَرِّ لَهُ بِالدَّرَاهِمِ دُونَ وَصْفِ السَّوَادِ حَيْثُ يَلْزَمُهُ الدَّرَاهِمُ السُّودُ دُونَ الْبِيضِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ السَّوَادَ ( صِفَةٌ فِيهِ ) أَيْ فِي الدَّرَاهِمِ أَوْ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا ، وَأَمَّا الْأَجَلُ فَلَيْسَ بِصِفَةٍ فِي الدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ بِغَيْرِ عَقْدِ الْكَفَالَةِ كَالْقُرُوضِ وَثَمَنِ الْبِيَاعَاتِ وَالْمَهْرِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ ، بَلْ الْأَجَلُ فِيهَا أَمْرٌ عَارِضٌ
وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِلَا شَرْطٍ ، وَالْقَوْلُ لِمُنْكَرِ الْعَارِضِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَقَدْ مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْكَفَالَةِ ) فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَصْلِ الضَّمَانِ مِنْ كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : لَك عَلَيَّ مِائَةٌ إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ قَالَ : ضَمِنْت لَك عَنْ فُلَانٍ مِائَةً إلَى شَهْرٍ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ حَالَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّامِنِ .
وَقَالَ : وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ثُمَّ ادَّعَى حَقًّا لِنَفْسِهِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ إلَى أَجَلٍ ، وَفِي الْكَفَالَةِ مَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحِ إنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْمُطَالَبَةِ بَعْدَ الشَّهْرِ ، وَلِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الدُّيُونِ عَارِضٌ حَتَّى لَا يَثْبُتَ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الشَّرْطَ كَمَا فِي الْخِيَارِ ، أَمَّا الْأَجَلُ فِي الْكَفَالَةِ نَوْعٌ حَتَّى يَثْبُتَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِأَنْ كَانَ مُؤَجَّلًا عَلَى الْأَصِيلِ انْتَهَى ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَيُسْتَحْلَفُ الْمُقَرُّ لَهُ ) أَيْ يُسْتَحْلَفُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ ( عَلَى الْأَجَلِ ) أَيْ عَلَى إنْكَارِ الْأَجَلِ ( لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ حَقًّا عَلَيْهِ ) فَإِنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّأْجِيلَ وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ ( وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ ) بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَفِي الذَّخِيرَةِ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالْحَلِفِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَنْكَرَ فَاسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَحَلَفَ ثُمَّ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً عَلَى إقْرَارِهِ قَضَى لَهُ بِالْمُقَرِّ بِهِ .
( وَإِنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ كُلُّهَا دَرَاهِمُ .
وَلَوْ قَالَ : مِائَةٌ وَثَوْبٌ لَزِمَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَيْهِ ) وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَوَّلِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ وَالدِّرْهَمَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا تَفْسِيرًا لَهَا فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ عَلَى إبْهَامِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ فِي كُلِّ عَدَدٍ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ .
وَهَذَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَذَلِكَ عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، أَمَّا الثِّيَابُ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا فَبَقِيَ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
( وَكَذَا إذَا قَالَ : مِائَةٌ وَثَوْبَانِ ) لِمَا بَيَّنَّا ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ) لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَأَعْقَبَهَا تَفْسِيرًا إذْ الْأَثْوَابُ لَمْ تُذْكَرُ بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّفْسِيرِ فَكَانَتْ كُلُّهَا ثِيَابًا .
( وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ لَزِمَهُ كُلُّهَا دَرَاهِمُ ) وَكَذَا لَوْ قَالَ مِائَةٌ وَدِرْهَمَانِ أَوْ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ حَيْثُ قَالَ فِي فَتَاوَاهُ : وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِرْهَمَانِ أَوْ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ كَانَ الْكُلُّ دَرَاهِمَ انْتَهَى ( وَلَوْ قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبٌ ) أَيْ وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ ( لَزِمَهُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ ، وَالْمَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمُقِرِّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْأَوَّلِ ) يَعْنِي أَنَّ لُزُومَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ وَالرُّجُوعَ فِي تَفْسِيرِ الْمِائَةِ إلَى الْمُقِرِّ هُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُهُ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ وَنَظَائِرُهُ ( وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ) أَيْ وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا ( لِأَنَّ الْمِائَةَ مُبْهَمَةٌ وَالدِّرْهَمَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا ) أَيْ عَلَى الْمِائَةِ ( بِالْوَاوِ الْعَاطِفَةِ لَا تَفْسِيرَ لَهَا ) لِأَنَّ الْعَطْفَ لَمْ يُوضَعْ لِلْبَيَانِ بَلْ هُوَ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ( فَبَقِيَتْ الْمِائَةُ عَلَى إبْهَامِهَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي ) وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَثَوْبٌ وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى الْبَيَانِ ، وَلَكِنْ ، عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَأَخَذُوا بِالِاسْتِحْسَانِ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَجَعَلُوا الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمَعْطُوفِ فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ وَدِرْهَمٌ أَوْ مِائَةٌ وَدِينَارٌ وَقَفِيزُ حِنْطَةٍ أَوْ مِائَةٌ وَمَنُّ زَعْفَرَانٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ ) بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ( أَنَّهُمْ ) أَيْ أَنَّ النَّاسَ ( اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ فِي كُلِّ عَدَدٍ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ ) أَيْ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً ( عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ ) أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ
أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فَيَكْتَفُونَ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْكُلِّ ( وَهَذَا ) أَيْ اسْتِثْقَالُهُمْ ( فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَذَلِكَ ) أَيْ كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ ( عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَذَلِكَ ) أَيْ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ الْأَسْبَابِ ( فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ) يَعْنِي فِيمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِثُبُوتِهَا فِي الذِّمَّةِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً ، وَيَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا لِعُمُومِ الْبَلْوَى ( أَمَّا الثِّيَابُ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا ) فَإِنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ دَيْنًا إلَّا فِي السَّلَمِ ، وَالشَّاةُ وَنَحْوُهَا لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ أَصْلًا ( فَبَقِيَ ) أَيْ بَقِيَ هَذَا الْقِسْمُ ( عَلَى الْحَقِيقَةِ ) أَيْ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمِلِ لَا إلَى الْمَعْطُوفِ لِعَدَمِ صَلَاحِيَّةِ الْعَطْفِ لِلتَّفْسِيرِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَقَدْ انْعَدَمَتْ هَاهُنَا .
أَقُولُ : فِي تَقْرِيرِ وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ اكْتِفَاءَهُمْ بِذِكْرِ الدِّرْهَمِ مَرَّةً عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ لَا يُجْدِي فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إذْ لَمْ يُذْكَرْ الدِّرْهَمُ فِيهِ عَقِيبَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ ، بَلْ إنَّمَا ذَكَرَهُ عَقِيبَ عَدَدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمِائَةُ ، وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُمْ اكْتَفَوْا بِذِكْرِ مِثْلِ الثَّوْبِ أَيْضًا عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ ؛ أَلَا يَرَى إلَى مَا سَيَأْتِي أَنَّهُ إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ يَكُونُ الْكُلُّ أَثْوَابًا لِانْصِرَافِ التَّفْسِيرِ إلَى مَجْمُوعِ الْعَدَدَيْنِ الْمُبْهَمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُتَمَحَّلَ فِي الْجَوَابِ بِأَنْ يُقَالَ : مُرَادُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُمْ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الْمُمَيِّزِ فِي كُلِّ عَدَدٍ بَلْ اكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ مَرَّةً فِي بَعْضِ الْأَعْدَادِ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ
، أَلَا يَرَى أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا بِذَلِكَ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالِاطِّرَادِ ، وَكَذَلِكَ اكْتَفَوْا بِهِ فِي عَدَدٍ وَاحِدٍ أَيْضًا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ وَدَوَرَانُهُ فِي الْكَلَامِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ .
نَعَمْ الْأَوْلَى هَاهُنَا أَنْ يَطْرَحَ مِنْ الْبَيِّنِ حَدِيثَ الذِّكْرِ عَقِيبَ الْعَدَدَيْنِ ، وَيُقَرِّرَ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى طُرُزِ مَا ذَكَرَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَدِرْهَمٌ بَيَانٌ لِلْمِائَةِ عَادَةً لِأَنَّ النَّاسَ اسْتَثْقَلُوا تَكْرَارَ الدِّرْهَمِ وَنَحْوَهُ وَاكْتَفَوْا بِذِكْرِهِ مَرَّةً ، وَهَذَا فِيمَا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ ، وَذَا عِنْدَ كَثْرَةِ الْوُجُوبِ بِكَثْرَةِ أَسْبَابِهِ وَدَوَرَانِهِ فِي الْكَلَامِ ، وَذَا فِيمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَالْأَثْمَانِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، بِخِلَافِ الثِّيَابِ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَإِنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا وَثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ فَبَقِيَتْ عَلَى الْأَصْلِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ مِائَةٌ وَثَوْبٌ أَنَّ الْكُلَّ مِنْ الثِّيَابِ وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : مِائَةٌ وَشَاةٌ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الثِّيَابَ وَالْغَنَمَ تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، بِخِلَافِ الْعَبِيدِ فَإِنَّهَا لَا تُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، وَمَا يُقَسَّمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً يَتَحَقَّقُ فِي أَعْدَادِهَا الْمُجَانَسَةُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُفَسَّرَ مِنْهُ تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ انْتَهَى .
وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ : رَجُلٌ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَعَبْدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : يُقِرُّ فِي الْأَوَّلِ بِمَا يَشَاءُ ، وَلَوْ قَالَ : أَلْفٌ وَبَعِيرٌ أَوْ أَلْفٌ وَثَوْبٌ أَوْ أَلْفٌ وَفَرَسٌ فَهِيَ ثِيَابٌ وَأَغْنَامٌ وَأَبْعِرَةٌ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا بَنِي آدَمَ لِأَنَّ بَنِي آدَمَ لَا يُقَسَّمُ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَقَالَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ فِي التَّبْيِينِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ : وَهَذَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، فَإِنَّ عِنْدَهُمَا
يُقَسَّمُ الْعَبِيدُ كَالْغَنَمِ ، وَإِنَّمَا لَا يُقَسَّمُونَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى ، فَتَأَمَّلْ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَكَذَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَوْبَانِ ) أَيْ يَرْجِعُ فِي بَيَانِهِ الْمِائَةَ إلَى الْمُقِرِّ ( لِمَا بَيَّنَّا ) مِنْ أَنَّ الثِّيَابَ وَمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ لَا يَكْثُرُ وُجُوبُهَا ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ) حَيْثُ يَكُونُ الْكُلُّ ثِيَابًا بِالِاتِّفَاقِ ( لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَدَدَيْنِ مُبْهَمَيْنِ وَأَعْقَبَهُمَا تَفْسِيرًا إذْ الْأَثْوَابُ لَمْ تُذْكَرْ بِحَرْفِ الْعَطْفِ ) حَتَّى يَدُلَّ عَلَى الْمُغَايَرَةِ ( فَانْصَرَفَ إلَيْهِمَا ) أَيْ فَانْصَرَفَ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ إلَى الْعَدَدَيْنِ جَمِيعًا ( لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحَاجَةِ إلَى التَّفْسِيرِ فَكَانَ كُلُّهَا ) أَيْ كُلُّ الْآحَادِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ ذَيْنِك الْعَدَدَيْنِ ( ثِيَابًا ) لَا يُقَالُ : الْأَثْوَابُ جَمْعُ ثَوْبٍ لَا يَصْلُحُ مُمَيِّزًا لِلْمِائَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِالثَّلَاثَةِ صَارَا كَعَدَدٍ وَاحِدٍ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ لَزِمَهُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ ) وَفَسَّرَهُ فِي الْأَصْلِ بِقَوْلِهِ : غَصَبْت تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَوْصَرَّةَ وِعَاءٌ لَهُ وَظَرْفٌ لَهُ ، وَغَصْبُ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ فَيَلْزَمَانِهِ وَكَذَا الطَّعَامُ فِي السَّفِينَةِ وَالْحِنْطَةُ فِي الْجَوَالِقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلِانْتِزَاعِ فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الْمَنْزُوعِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ لَزِمَهُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ ) الْقَوْصَرَّةُ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيدِ : وِعَاءُ التَّمْرِ يُتَّخَذُ مِنْ قَصَبٍ ، وَقَوْلُهُمْ إنَّمَا تُسَمَّى بِذَلِكَ مَا دَامَ فِيهَا التَّمْرُ ، وَإِلَّا فَهِيَ زِنْبِيلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى عُرْفِهِمْ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
قَالَ صَاحِبُ الْجَمْهَرَةِ : أَمَّا الْقَوْصَرَّةُ فَأَحْسَبُهَا دَخِيلًا .
وَقَدْ رُوِيَ : أَفْلَحَ مَنْ كَانَتْ لَهُ قَوْصَرَّهْ يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّهْ ثُمَّ قَالَ : وَلَا أَدْرِي مَا صِحَّةُ هَذَا الْبَيْتِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَفَسَّرَهُ فِي الْأَصْلِ ) أَيْ فَسَّرَ الْإِقْرَارَ بِتَمْرٍ فِي قَوْصَرَّةٍ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ الْمَبْسُوطُ ( بِقَوْلِهِ ) أَيْ بِقَوْلِ الْمُقِرِّ ( غَصَبْت تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ .
وَوَجْهُهُ ) أَيْ وَجْهُ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ لُزُومُ التَّمْرِ وَالْقَوْصَرَّةِ جَمِيعًا ( أَنَّ الْقَوْصَرَّةَ وِعَاءٌ لَهُ ) أَيْ لِلتَّمْرِ ( وَظَرْفٌ لَهُ ) أَيْ لِلتَّمْرِ ( وَغَصْبُ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَظْرُوفٌ ( لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ فَيَلْزَمَانِهِ ) أَيْ فَيَلْزَمُ التَّمْرُ وَالْقَوْصَرَّةُ الْمُقِرَّ ( وَكَذَا الطَّعَامُ فِي السَّفِينَةِ ) أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَالَ غَصَبْت الطَّعَامَ فِي السَّفِينَةِ ( وَالْحِنْطَةَ فِي الْجَوَالِقِ ) أَيْ وَفِيمَا إذَا قَالَ غَصَبْت الْحِنْطَةَ فِي الْجَوَالِقِ ، وَالْجَوَالِقُ بِالْفَتْحِ جَمْعُ جُوَالِقٍ بِالضَّمِّ ، وَالْجَوَالِيقُ بِزِيَادَةِ الْيَاءِ تَسَامُحٌ ، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ .
وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا كَانَ الثَّانِي ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ وَوِعَاءً لَهُ لَزِمَاهُ نَحْوُ ثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ وَطَعَامٍ فِي سَفِينَةٍ وَحِنْطَةٍ فِي جُوَالِقٍ ، وَمَا كَانَ لِلثَّانِي مِمَّا لَا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ نَحْوُ قَوْلِك : غَصَبْت دِرْهَمًا فِي دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْ الثَّانِي لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا فَلَغَا آخِرُ كَلَامِهِ ، كَذَا فِي
الْمَبْسُوطِ وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ النَّقْضُ بِمَا إذَا أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ فَإِنَّ اللَّازِمَ عَلَى الْمُقِرِّ هُنَاكَ هُوَ الدَّابَّةُ خَاصَّةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّهُ لَا رَيْبَ فِي أَنَّ الثَّانِيَ فِيهِ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّخَلُّفِ لِمَانِعٍ ، وَقَيْدُ عَدَمِ الْمَانِعِ فِي الْأَحْكَامِ الْكُلِّيَّةِ غَيْرُ لَازِمٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا أَوَّلُ كِتَابِ الْوَكَالَةِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ ) يَعْنِي أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي كَلِمَةِ فِي وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي كَلِمَةِ مِنْ فَبِخِلَافِهِ ( لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلِانْتِزَاعِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْمَنْزُوعِ ) يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّ مَبْدَأَ الْغَصْبِ مِنْ الْقَوْصَرَّةِ وَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَخْذًا مِنْ الْكَافِي .
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ، فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَوَجْهُهُ أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّبْعِيضِ وَالتَّمْيِيزِ فَيَكُونُ الِانْتِزَاعُ لَازِمَهُمَا ، لَا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ مِنْ مَوْضُوعَةٌ لِلِانْتِزَاعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : الْحَقُّ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْأُولَى لَا مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ : غَصَبْت تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّبْعِيضِ ، إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ التَّمْرُ بَعْضَ الْقَوْصَرَّةِ فَكَيْفَ يُفْهَمُ الِانْتِزَاعُ مِنْ التَّبْعِيضِ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ .
وَأَمَّا انْفِهَامُ الِانْتِزَاعِ مِنْ التَّبْعِيضِ عِنْدَ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ مِنْ فِي مَعْنَى التَّبْعِيضِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا يُجْدِي شَيْئًا هَاهُنَا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ
سَلِيمَةٍ ، بِخِلَافِ مَعْنَى الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ تَحْتَمِلُ الِابْتِدَاءَ قَطْعًا فَيَتِمُّ التَّقْرِيبُ جِدًّا .
وَأَمَّا الْحُكْمُ فِي كَلِمَةِ عَلَى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ غَصَبْت إكَافًا عَلَى حِمَارٍ فَكَانَ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْإِكَافِ خَاصَّةً ، وَالْحِمَارُ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْمَغْصُوبِ حِينَ أَخَذَهُ ، وَغَصْبُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا غَصْبَ الْمَحَلِّ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ .
قَالَ : ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً ) لِأَنَّ الْإِصْطَبْلَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُهُمَا وَمِثْلُهُ الطَّعَامُ فِي الْبَيْتِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَابَّةٍ فِي إصْطَبْلٍ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً ) إنَّمَا قَالَ لَزِمَهُ الدَّابَّةُ خَاصَّةً وَلَمْ يَقُلْ كَانَ إقْرَارًا بِالدَّابَّةِ خَاصَّةً لِمَا أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إقْرَارٌ بِهِمَا جَمِيعًا ، إلَّا أَنَّ اللُّزُومَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فِي الدَّابَّةِ خَاصَّةً ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ : ( لِأَنَّ الْإِصْطَبْلَ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) لِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ عِنْدَهُمَا ، وَالْإِصْطَبْلَ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ عِنْدَهُمَا ( وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُهُمَا ) أَيْ يَضْمَنُ الدَّابَّةَ وَالْإِصْطَبْلَ ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَرَى غَصْبَ الْعَقَارِ فَيَدْخُلَانِ فِي الضَّمَانِ عِنْدَهُ كَمَا يَدْخُلَانِ فِي الْإِقْرَارِ ( وَمِثْلُهُ الطَّعَامُ فِي الْبَيْتِ ) أَيْ وَمِثْلُ الْإِقْرَارِ بِالدَّابَّةِ فِي الْإِصْطَبْلِ الْإِقْرَارُ بِالطَّعَامِ فِي الْبَيْتِ .
قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ : وَلَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْك طَعَامًا فِي بَيْتٍ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : طَعَامًا فِي سَفِينَةٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ قَدْ يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْبَيْتِ وَالطَّعَامِ ، إلَّا أَنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْتَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ ، وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ، وَإِنْ قَالَ : لَمْ أُحَوِّلْ الطَّعَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ تَامٍّ ، وَفِي الطَّعَامِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَكَانَ هُوَ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَنْقُلْهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَمْ يُصَدَّقْ فَكَانَ ضَامِنًا الطَّعَامَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ هُوَ ضَامِنٌ الْبَيْتَ أَيْضًا إلَى هُنَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ .
قَالَ : ( وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلَقَةُ وَالْفَصُّ ) لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ .
( وَمَنْ أَقَرَّ لَهُ بِسَيْفٍ فَلَهُ النَّصْلُ وَالْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ ) لِأَنَّ الِاسْمَ يَنْطَوِي عَلَى الْكُلِّ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَجَلَةٍ فَلَهُ الْعِيدَانُ وَالْكِسْوَةُ ) لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْكُلِّ عُرْفًا .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ لَزِمَهُ الْحَلَقَةُ وَالْفَصُّ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ ) أَيْ يَتَنَاوَلُ الْحَلَقَةَ وَالْفَصَّ جَمِيعًا وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْفَصُّ فِي بَيْعِ الْخَاتَمِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ ، فَإِذَا تَنَاوَلَهُمَا اسْمُ الْخَاتَمِ لَزِمَاهُ جَمِيعًا بِالْإِقْرَارِ بِالْخَاتَمِ .
( وَإِنْ أَقَرَّ لَهُ ) أَيْ لِغَيْرِهِ ( بِسَيْفٍ فَلَهُ النَّصْلُ ) وَهُوَ حَدِيدَةُ السَّيْفِ ( وَالْجَفْنُ ) وَهُوَ الْغِمْدُ ( وَالْحَمَائِلُ ) جَمْعُ حِمَالَةٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَهِيَ عَلَّاقَةُ السَّيْفِ ( لِأَنَّ الِاسْمَ ) يَعْنِي اسْمَ السَّيْفِ ( يَنْطَوِي ) أَيْ يَشْتَمِلُ ( عَلَى الْكُلِّ ) عُرْفًا فَلَهُ الْكُلُّ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَجَلَةٍ ) الْحَجَلَةُ بِفَتْحَتَيْنِ وَاحِدَةُ حِجَالِ الْعَرُوسِ : وَهِيَ بَيْتٌ يُزَيَّنُ بِالثِّيَابِ وَالْأَسِرَّةِ وَالسُّتُورِ ، كَذَا فِي الصَّحَّاحِ ( فَلَهُ ) أَيْ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ ( الْعِيدَانُ ) بِرَفْعِ النُّونِ جَمْعُ عُودٍ وَهُوَ الْخَشَبُ كَالدِّيدَانِ جَمْعُ دُودٍ ( وَالْكِسْوَةُ ) أَيْ وَلَهُ الْكِسْوَةُ أَيْضًا ( لِانْطِلَاقِ الِاسْمِ ) أَيْ اسْمِ الْحَجَلَةِ ( عَلَى الْكُلِّ عُرْفًا ) فَلَهُ الْكُلُّ ، وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِدَارٍ أَوْ أَرْضٍ لِرَجُلٍ دَخَلَ الْبِنَاءُ وَالْأَشْجَارُ إذَا كَانَا فِيهِمَا حَتَّى أَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ وَالْأَشْجَارَ لَهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَلَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ، وَكَذَا لَوْ أَقَامَ الْمُقِرُّ بِالْخَاتَمِ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّ الْفَصَّ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ، وَأَمَّا إذَا قَالَ : الْخَاتَمُ لِي وَفَصُّهُ لَك ، أَوْ هَذَا السَّيْفُ لِي وَحِلْيَتُهُ لَك ، أَوْ هَذِهِ الْجُبَّةُ لِي وَبِطَانَتُهَا لَك وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : الْكُلُّ لِي فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ فَبَعْدَ ذَلِكَ يُنْظَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَزْعِ الْمُقَرِّ بِهِ ضَرَرٌ لِلْمُقِرِّ يُؤْمَرُ الْمُقِرُّ بِالنَّزْعِ وَالدَّفْعِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّزْعِ ضَرَرٌ فَوَاجِبٌ عَلَى الْمُقِرِّ أَنْ يُعْطِيَهُ
قِيمَةَ مَا أَقَرَّ بِهِ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
( وَإِنْ قَالَ غَصَبْتُ ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ لَزِمَاهُ جَمِيعًا ) لِأَنَّهُ ظَرْفٌ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُلَفُّ فِيهِ .
( وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ ) لِأَنَّهُ ظَرْفٌ .
بِخِلَافِ قَوْلِهِ : دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ حَيْثُ يَلْزَمُهُ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ ضَرْبٌ لَا ظَرْفٌ ( وَإِنْ قَالَ : ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا ) لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الثِّيَابِ قَدْ يُلَفُّ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرْفَ " فِي " يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْنِ وَالْوَسَطِ أَيْضًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ بَيْنَ عِبَادِي ، فَوَقَعَ الشَّكُّ وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ ، عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُوعًى وَلَيْسَ بِوِعَاءٍ فَتَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا .
( وَإِنْ قَالَ : غَصَبْت ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ لَزِمَاهُ جَمِيعًا لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمِنْدِيلَ ( ظَرْفٌ ) لِلثَّوْبِ ( لِأَنَّ الثَّوْبَ يُلَفُّ فِيهِ ) وَقَدْ مَرَّ أَنَّ غَصْبَ الشَّيْءِ وَهُوَ مَظْرُوفٌ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الظَّرْفِ ( وَكَذَا ) أَيْ وَكَذَا الْحُكْمُ ( لَوْ قَالَ : عَلَيَّ ثَوْبٌ فِي ثَوْبٍ ) لَزِمَاهُ ( لِأَنَّهُ ظَرْفٌ ) أَيْ لِأَنَّ الثَّوْبَ الثَّانِيَ ظَرْفٌ لِلثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَيَلْزَمُهُ الثَّوْبَانِ جَمِيعًا ( بِخِلَافِ قَوْلِهِ : دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ ( حَيْثُ يَلْزَمُهُ وَاحِدٌ ) أَيْ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي دِرْهَمٍ ( ضَرْبٌ ) أَيْ ضَرْبُ حِسَابٍ ( لَا ظَرْفٌ ) كَمَا لَا يَخْفَى ( وَإِنْ قَالَ ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) وَفِي الْكَافِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي التَّبْيِينِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَوَّلًا ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَلْزَمُهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا لِأَنَّ النَّفِيسَ مِنْ الثِّيَابِ قَدْ يُلَفُّ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَأَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الظَّرْفِ ) يَعْنِي أَنَّ كَلِمَةَ فِي حَقِيقَةٌ فِي الظَّرْفِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ قَدْ يُلَفُّ لِعِزَّتِهِ وَنَفَاسَتِهِ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ فَلَا يُصَارُ إلَى الْمَجَازِ .
قِيلَ هُوَ مَنْقُوضٌ عَلَى أَصْلِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ ؟ قَالَ : غَصَبْته كِرْبَاسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابِ حَرِيرٍ يَلْزَمُهُ الْكُلُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ عَشَرَةَ أَثْوَابِ حَرِيرٍ لَا تُجْعَلُ وِعَاءً لِلْكِرْبَاسِ عَادَةً ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْمَبْسُوطِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَرْفَ فِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْبَيْنِ وَالْوَسَطِ أَيْضًا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ بَيْنَ عِبَادِي فَوَقَعَ الشَّكُّ ) فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِحَرْفِ " فِي " هَاهُنَا مَعْنَى الظَّرْفِ أَوْ مَعْنَى الْبَيْنِ ، وَبِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ (
وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَمِ ) لِأَنَّهَا خُلِقَتْ بَرِيئَةً عَرِيَّةً عَنْ الْحُقُوقِ فَلَا يَجُوزُ شَغْلُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ قَوِيَّةٍ وَلَمْ تُوجَدْ فِيمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ ( عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ مُوعًى وَلَيْسَ بِوِعَاءٍ ) يَعْنِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْعَشَرَةِ لَيْسَ بِوِعَاءٍ لِلْوَاحِدِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُوعًى بِمَا حَوَاهُ ، فَإِنَّهُ إذَا لَفَّ ثَوْبًا فِي أَثْوَابٍ يَكُونُ كُلُّ ثَوْبٍ مُوعًى فِي حَقِّ مَا وَرَاءَهُ ، وَلَا يَكُونُ وِعَاءً إلَّا الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ وِعَاءٌ وَلَيْسَ بِمُوعًى ، فَلَفْظَةُ كُلٍّ هَاهُنَا لِمُجَرَّدِ التَّكْثِيرِ لَا لِلِاسْتِغْرَاقِ كَمَا قَالُوا فِي نَظَائِرِهَا ، فَإِذَا تَحَقَّقَ عَدَمُ كَوْنِ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَمْ يُمْكِنْ حَمْلُ كَلِمَةِ فِي عَلَى الظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ : ثَوْبٌ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ ( فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ) أَيْ الْمَعْنَى الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الْبَيْنُ ( مَحْمَلًا ) بِكَلِمَةِ " فِي " فِي قَوْلِهِ الْمَزْبُورِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : عَلَيَّ ثَوْبٌ بَيْنَ عَشَرَةِ أَثْوَابٍ وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ .
قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حِلِّ هَذَا الْمَقَامِ : فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ كَوْنُ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا وَزَادَ عَلَى هَذَا مِنْ بَيْنِهِمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنْ قَالَ : وَتَعَيَّنَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمَلًا : يَعْنِي أَنْ يَكُونَ فِي بِمَعْنَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْنُ انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا الشَّرْحُ مِنْهُمْ لَا يُطَابِقُ الْمَشْرُوحَ ، إذْ لَا يُسَاعِدُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ جَعْلَ آخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ لَغْوًا ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِآخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ : فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مَحْمَلًا مُتَعَيِّنًا وَهُوَ مَعْنَى الْبَيْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ، فَإِذَا تَيَسَّرَ لِآخِرِ كَلَامِهِ بَلْ تَعَيَّنَ لَهُ مَحْمَلٌ صَحِيحٌ مِنْ الْمَعَانِي الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيهَا كَلِمَةُ فِي لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ ذَلِكَ لَغْوًا مِنْ
الْكَلَامِ ، إذْ يَجِبُ صِيَانَةُ كَلَامِ الْعَاقِلِ عَنْ اللَّغْوِ مَهْمَا أَمْكَنَ .
ثُمَّ مِنْ الْعَجَائِبِ مَا زَادَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَتَعَيَّنَ أَوَّلُ كَلَامِهِ مَحْمَلًا بَعْدَ قَوْلِهِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ مَحْمَلًا عَلَى أَوَّلِ كَلَامِ الْمُقِرِّ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مِمَّا يَأْبَى عَنْهُ جِدًّا قَيْدُ مَحْمَلًا يُنَافِيهِ تَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الْبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَوْنَ فِي بِمَعْنَى الْبَيْنِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي آخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ دُونَ أَوَّلِ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَى ثَوْبٍ إذْ لَا مِسَاسَ لَهُ بِمَعْنَى الْبَيْنِ أَصْلًا ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الزَّاهِدِيَّ قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ : قَدْ اشْتَبَهَ عَلَيَّ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا أَنَّ الْمَظْرُوفَ مُعَيَّنٌ مُشَارٌ إلَيْهِ أَمْ يَسْتَوِي الْمُعَيَّنُ وَالْمُنْكَرُ فِي ذَلِكَ ، إلَى أَنْ ظَفِرْتُ بِالرِّوَايَةِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمِنْهُ أَنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُعَرَّفُ وَالْمُنَكَّرُ وَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ الْمُنَكَّرِ إلَيْهِ وَهُوَ مَا قَالَهُ فِي الْمُحِيطِ ، وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُك ثَوْبًا فِي مِنْدِيلٍ فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِ الثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ وَيُرْجَعُ فِي الْبَيَانِ إلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ دِرْهَمٌ فِي دِرْهَمٍ أَوْ دِرْهَمًا فِي طَعَامٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِرْهَمٌ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ فِي مَتَى دَخَلَتْ عَلَى مَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَيُجْعَلُ ظَرْفًا عَادَةً اقْتَضَى غَصْبَهُمَا ، وَإِلَّا فَغَصْبُ الْأَوَّلِ دُونَ غَيْرِهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
( وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ يُرِيدُ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ ) لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ( وَلَوْ قَالَ أَرَدْت خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ لَزِمَهُ عَشَرَةٌ ) لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ .
( وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ يُرِيدُ الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ لَزِمَهُ خَمْسَةٌ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّ الضَّرْبَ لَا يُكْثِرُ الْمَالَ ) يَعْنِي أَنَّ أَثَرَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْأَجْزَاءِ لِإِزَالَةِ الْكَسْرِ لَا فِي تَكْثِيرِ الْمَالِ وَخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَزْنًا ، وَإِنْ جَعَلَ أَلْفَ جُزْءٍ لَا يُزَادُ فِيهِ وَزْنُ قِيرَاطٍ ، عَلَى أَنَّ حِسَابَ الضَّرْبِ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الْمَوْزُونَاتِ ، كَذَا قَالُوا ، وَلِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً وَالدَّرَاهِمُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدَّرَاهِمِ ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ الظَّرْفِ مَجَازٌ ، وَالْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى مَعَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ مَعَ عِبَادِي ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى عَلَى كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلَزِمَهُ خَمْسَةٌ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَغَا آخِرُهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ .
( وَقَالَ الْحَسَنُ ) يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ زِيَادٍ صَاحِبَ أَبِي حَنِيفَةَ ( يَلْزَمُهُ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ) لِأَنَّهُ الْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ خَمْسَةٍ فِي خَمْسَةٍ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ وَقَدْ مَرَّ جَوَابُهُ آنِفًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ثَمَّةَ صَرِيحًا بَلْ فُهِمَ ذَلِكَ مِنْ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرٍ فِيمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثِنْتَيْنِ فِي ثِنْتَيْنِ وَنَوَى الضَّرْبَ وَالْحِسَابَ ، فَعِنْدَنَا يَقَعُ ثِنْتَانِ وَعِنْدَهُ يَقَعُ ثَلَاثٌ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْإِقْرَارِ صَرِيحًا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ ( وَلَوْ قَالَ : أَرَدْت خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ ) أَيْ لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ : أَرَدْت بِقَوْلِي خَمْسَةٌ فِي خَمْسَةٍ خَمْسَةً مَعَ خَمْسَةٍ ( لَزِمَهُ عَشَرَةٌ لِأَنَّ
اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } قِيلَ مَعَ عِبَادِي ، كَذَا فِي الْكَافِي ، وَلَوْ قَالَ : عَنَيْت خَمْسَةً وَخَمْسَةً لَزِمَهُ عَشَرَةٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَوْ نَوَى بِقَوْلِهِ وَاحِدَةً فِي ثِنْتَيْنِ وَاحِدَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ ، فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْجَمْعِ وَالظَّرْفُ يَجْمَعُ الْمَظْرُوفَ ، وَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً مَعَ ثِنْتَيْنِ يَقَعُ الثَّلَاثُ لِأَنَّ فِي يَأْتِي بِمَعْنَى مَعَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } وَلَوْ نَوَى الظَّرْفَ يَقَعُ وَاحِدَةً لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا فَيَلْغُو ذِكْرُ الثَّانِي ، إلَى هُنَا لَفْظُهُ .
قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْمَبْسُوطِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِفِي مَعْنَى عَلَى مَا حُكْمُهُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ حُكْمَهُ أَيْضًا كَحُكْمِ فِي ، حَتَّى لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ فِي عَشَرَةٍ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ عَلَيَّ عَشَرَةٌ أَوْ قَالَ عَنَيْت بِهِ الضَّرْبَ لَزِمَهُ عَشَرَةٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ا هـ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَلْزَمُهُ الِابْتِدَاءُ وَمَا بَعْدَهُ وَتَسْقُطُ الْغَايَةُ ، وَقَالَا : يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا ) فَتَدْخُلُ الْغَايَتَانِ .
وَقَالَ زُفَرٌ : يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ .
( وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ أَوْ قَالَ مَا بَيْنَ دِرْهَمٍ إلَى عَشَرَةٍ لَزِمَهُ تِسْعَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَلْزَمُهُ الِابْتِدَاءُ وَمَا بَعْدَهُ وَتَسْقُطُ الْغَايَةُ ، وَقَالَا : يَلْزَمُهُ الْعَشَرَةُ كُلُّهَا فَتَدْخُلُ الْغَايَتَانِ ) أَيْ الِابْتِدَاءُ وَالِانْتِهَاءُ ( وَقَالَ زُفَرُ : يَلْزَمُهُ ثَمَانِيَةٌ وَلَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ ، فَإِنَّهُ جَعَلَ الدِّرْهَمَ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ حَدًّا وَلَا يَدْخُلُ الْحَدُّ فِي الْمَحْدُودِ كَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ مِنْ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ أَوْ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَائِطَيْنِ لَا يَدْخُلُ الْحَائِطَانِ فِي الْإِقْرَارِ ، فَكَذَلِكَ هَاهُنَا لَا يَدْخُلُ الْحَدَّانِ .
وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا : هُوَ كَذَلِكَ فِي حَدٍّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ كَمَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ بِقَائِمٍ بِنَفْسِهِ فَلَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ حَدًّا إذَا كَانَ وَاجِبًا فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْأَصْلُ مَا قَالَهُ زُفَرُ مِنْ أَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ ، وَمَا لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ حَدٌّ ذِكْرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، إلَّا أَنَّ الْغَايَةَ الْأُولَى لَا بُدَّ مِنْ إدْخَالِهَا لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَاجِبٌ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الثَّانِي بِدُونِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّ الْكَلَامَ يَسْتَدْعِي ابْتِدَاءً ، فَإِذَا أَخْرَجْنَا الْأَوَّلَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا صَارَ الثَّانِي هُوَ الِابْتِدَاءُ فَيَخْرُجُ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا ثُمَّ الثَّالِثُ وَالرَّابِعُ وَهَكَذَا بَعْدَهُ ، فَلِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ أَدْخَلْنَا فِيهِ الْغَايَةَ الْأُولَى ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي إدْخَالِ الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ فَأَخَذْنَا فِيهَا بِالْقِيَاسِ انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْغَايَةِ الْأُولَى اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْغَايَةِ الثَّانِيَةِ قِيَاسٌ وَمَا قَالَاهُ فِي الْغَايَتَيْنِ اسْتِحْسَانٌ وَمَا قَالَهُ زُفَرُ فِيهِمَا
قِيَاسٌ كَذَا فِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ دَارِي مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَلَهُ مَا بَيْنَهُمَا لَوْ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْحَائِطَيْنِ شَيْءٌ ) وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ فِي الطَّلَاقِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ دَارِي مَا بَيْنَ هَذَا الْحَائِطِ إلَى هَذَا الْحَائِطِ فَلَهُ ) أَيْ لِلْمُقَرِّ لَهُ ( مَا بَيْنَهُمَا ) أَيْ مَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ ( وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الْحَائِطَيْنِ شَيْءٌ ) أَيْ لَا تَدْخُلُ الْغَايَتَانِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالِاتِّفَاقِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ مَرَّتْ الدَّلَائِلُ ) أَيْ دَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ( فِي الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ فَمَنْ شَاءَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهَا فَلْيُرَاجِعْهُ .
( فَصْلٌ ) ( وَمَنْ قَالَ : لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ قَالَ أَوْصَى لَهُ فُلَانٌ أَوْ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبٍ صَالِحٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ( ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَزِمَهُ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ مَيِّتًا فَالْمَالُ لِلْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ حَتَّى يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ) لِأَنَّهُ إقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمَا ، وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ إلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ ( وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ حَيَّيْنِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بَاعَنِي أَوْ أَقْرَضَنِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُسْتَحِيلًا .
قَالَ ( وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَصِحُّ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ فَيَجِبُ إعْمَالُهُ وَقَدْ أَمْكَنَ بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ .
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِهِ .
( فَصْلٌ ) لَمَّا كَانَتْ مَسَائِلُ الْحَمْلِ مُغَايِرَةً لِغَيْرِهَا صُورَةً وَمَعْنًى ذَكَرَهَا فِي فَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ وَأَلْحَقَ بِهَا مَسْأَلَةَ الْخِيَارِ اتِّبَاعًا لِلْمَبْسُوطِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ ( وَمَنْ قَالَ لِحَمْلِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ) فَهُوَ لَا يَخْلُو عَنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا أَوْ لَا يُبَيِّنُ ذَلِكَ ، فَإِنْ بَيَّنَ سَبَبًا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السَّبَبُ صَالِحًا أَوْ غَيْرَ صَالِحٍ ، فَإِنْ كَانَ صَالِحًا وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ قَالَ أَوْصَى بِهَا ) أَيْ بِالْأَلْفِ ( لَهُ ) أَيْ لِلْحَمْلِ وَهُوَ الْجَنِينُ ( فُلَانٌ أَوْ ) قَالَ : ( مَاتَ أَبُوهُ ) أَيْ أَبُو الْحَمْلِ ( فَوَرِثَهُ ) أَيْ وَرِثَ الْحَمْلُ الْأَلْفَ ، أَنَّثَ ضَمِيرَ الْأَلْفِ أَوَّلًا بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ ، وَذَكَّرَهُ ثَانِيًا لِكَوْنِ الْأَلْفِ مُذَكَّرًا فِي الْأَصْلِ .
قَالَ فِي الْقَامُوسِ : الْأَلْفُ مِنْ الْعَدَدِ مُذَكَّرٌ ، وَلَوْ أُنِّثَ بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ جَازَ انْتَهَى ( فَالْإِقْرَارُ ) فِي هَذَا الْوَجْهِ ( صَحِيحٌ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِسَبَبٍ صَالِحٍ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ ) أَيْ لِلْحَمْلِ : يَعْنِي أَنَّهُ بَيَّنَ سَبَبًا صَالِحًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْحَمْلِ ، فَلَوْ عَايَنَّاهُ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَلَمْ يُتَيَقَّنْ بِكَذِبِهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَكَانَ صَحِيحًا كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لِأَنَّ الْجَنِينَ أَهْلٌ لَأَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَالَ بِالْإِرْثِ أَوْ الْوَصِيَّةِ ( ثُمَّ إذَا ) وُجِدَ السَّبَبُ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَهُ ، فَإِنْ ( جَاءَتْ ) أَيْ فُلَانَةُ ( بِهِ ) أَيْ بِالْوَلَدِ ( فِي مُدَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ ) أَيْ الْوَلَدَ ( كَانَ قَائِمًا ) أَيْ مَوْجُودًا ( وَقْتَ الْإِقْرَارِ لَزِمَهُ ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَالْعِلْمُ بِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِطَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ وَالْآخَرُ حُكْمِيٌّ .
فَالْحَقِيقِيُّ مَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَالْحُكْمِيُّ مَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ وَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً ، إذْ حِينَئِذٍ يُحْكَمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مُعْتَدَّةً وَجَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا كَذَا قَالُوا .
ثُمَّ إنَّ الشُّرَّاحَ افْتَرَقُوا هَاهُنَا فِي تَعْيِينِ أَوَّلِ مُدَّةٍ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَئِذٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ حَيْثُ قَالَ بِأَنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ كَمَا قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ أَيْضًا فِي شَرْحِ الْوِقَايَةِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ حَيْثُ قَالَ بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُذْ مَاتَ الْمُورَثُ وَالْمُوصِي كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْكَافِي ، وَذَكَرَ فِي الْمَبْسُوطِ أَيْضًا أَقُولُ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ أَوْفَقَ بِالْمَشْرُوحِ فِي الظَّاهِرِ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ كَوْنَ الْوَلَدِ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ هُوَ الْمُوَافِقُ لِلتَّحْقِيقِ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ لَا إنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً كَمَا تَقَرَّرَ فِي صَدْرِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، فَإِنَّ مُقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَتَقَرَّرَ وُجُودُ الْمُقَرِّ لَهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعْتَبَرَ أَوَّلُ مُدَّةٍ يَعْلَمُ بِهَا وُجُودَ الْحَمْلِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ لِيَتَقَرَّرَ وُجُودُهُ عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ ، فَإِنَّهُ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ فِي مُدَّةٍ هِيَ أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ وَأَكْثَرُ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ لِلْحَمْلِ شَيْءٌ ، أَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فَلِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْجَنِينَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ فَلَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ ، وَلَا يُفِيدُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا عِنْدَ مُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِسَبَبٍ سَابِقٍ لَا إنْشَاءُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ .
وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوَرِّثِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَدَّةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ كَوْنُ الْجَنِينِ مَوْجُودًا عِنْدَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الْمِلْكِ بَلْ يَبْقَى عَلَى مُجَرَّدِ الِاحْتِمَالِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالشَّكِّ فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ لَهُ شَيْءٌ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَمَا إذَا بَيَّنَ سَبَبًا غَيْرَ صَالِحٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي .
لَكِنْ بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَيْضًا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ بِوُجُودِ الْجَنِينِ بِالطَّرِيقِ الْحُكْمِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ وَذَلِكَ بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَى سَنَتَيْنِ وَكَانَتْ مُعْتَدَّةً قَالُوا يُحْكَمُ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الْفِرَاقِ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَوَقْتُ الْفِرَاقِ أَقَلَّ مِنْهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : اُعْتُبِرَ أَوَّلُ الْمُدَّةِ فِي الطَّرِيقِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي مِنْ وَقْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي فَفِي الطَّرِيقِ
الْحُكْمِيِّ أَيْضًا كَذَلِكَ فَلَا يُتَصَوَّرُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَإِلَّا لَا يَكُونُ طَرِيقًا لِلْعِلْمِ بِذَلِكَ أَصْلًا .
قُلْنَا : فَعَلَى ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ رَأْسًا حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ أَوْ الْمُوصِي أَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَوَقْتُ الْفِرَاقِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا فَلَا يَصِحُّ الْحُكْمُ حِينَئِذٍ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَلْيُتَأَمَّلْ ( فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ ) أَيْ إنْ جَاءَتْ فُلَانَةُ بِالْوَلَدِ ( مَيِّتًا فَالْمَالُ لِلْمُوصِي ) فِيمَا إذَا قَالَ أَوْصَى بِهِ لَهُ فُلَانٌ ( وَالْمُوَرِّثِ ) فِيمَا إذَا قَالَ : مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ ( حَتَّى يُقَسَّمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ) أَيْ يُقَسَّمَ الْمَالُ بَيْنَ وَرَثَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ مَا قَالَهُ ( إقْرَارٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَهُمَا ) أَيْ لِلْمُوصِي وَالْمُوَرِّثِ ( وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ ) مِنْهُمَا ( إلَى الْجَنِينِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ ) إلَيْهِ هَاهُنَا لِأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ( وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ حَيَّيْنِ فَالْمَالُ بَيْنَهُمَا ) نِصْفَيْنِ إنْ كَانَا ذَكَرَيْنِ أَوْ أُنْثَيَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذَكَرًا وَالْآخَرُ أُنْثَى فَفِي الْوَصِيَّةِ كَذَلِكَ ، وَفِي الْمِيرَاثِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُونَا مِنْ أَوْلَادِ أُمِّ الْمَيِّتِ لِمَا صَرَّحُوا مِنْ أَنَّ ذُكُورَهُمْ وَإِنَاثَهُمْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْقِسْمَةِ سَوَاءٌ .
أَقُولُ : لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّقْيِيدِ بِالنَّظَرِ إلَى وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ : إنْ قَالَ الْمُقِرُّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ شُرَّاحُ الْكِتَابِ وَصَاحِبُ الْكَافِي وَغَيْرُهُمْ ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى مُطْلَقِ الْإِرْثِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ ، وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ غَيْرَ صَالِحٍ وَهُوَ الَّذِي
ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( وَلَوْ قَالَ الْمُقِرُّ بَاعَنِي أَوْ أَقْرَضَنِي ) أَيْ بَاعَنِي الْحَمْلُ أَوْ أَقْرَضَنِي ( لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَيَّنَ مُسْتَحِيلًا ) أَيْ لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَحِيلًا فِي الْعَادَةِ ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْبَيْعُ وَالْإِقْرَاضُ مِنْ الْجَنِينِ لَا حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَلَا حُكْمًا لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الْجَنِينِ حَتَّى يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْجَنِينِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَإِذَا كَانَ مَا بَيَّنَهُ مِنْ السَّبَبِ مُسْتَحِيلًا صَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا فَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
قُلْنَا : لَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ هُوَ بَيَانُ سَبَبٍ مُحْتَمَلٍ وَقَدْ يُشْتَبَهُ عَلَى الْجَاهِلِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجَنِينَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ كَالْمُنْفَصِلِ فَيُعَامِلُهُ ثُمَّ يُقِرُّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَيُبَيِّنُ سَبَبَهُ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ كَلَامُهُ هَذَا بَيَانًا لَا رُجُوعًا فَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَأَكْثَرِ الشُّرَّاحِ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : أُجِيبَ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِرُجُوعٍ ، بَلْ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ كَمَا لَوْ قَالَ : قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَيَدُ فُلَانٍ صَحِيحَةٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ فَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ السَّبَبِ الْغَيْرِ الصَّالِحِ لَا فِي أَصْلِ إقْرَارِهِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ بَيَانِ السَّبَبِ بِذَلِكَ الْوَجْهِ رُجُوعًا عَنْ أَصْلِ إقْرَارِهِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي إقْرَارِهِ بِأَنْ كَانَ لَهُ سَبَبٌ صَالِحٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَكِنْ قَصَدَ الرُّجُوعَ فَبَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَحِيلًا ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ وَهِيَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ هُنَاكَ فِي أَصْلِ إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ ، فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ مَا ذُكِرَ فِي
الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قُلْت : كَمَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقْرَاضَ لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ الْجَنِينِ كَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرَانِ مِنْ الرَّضِيعِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِهَذَا الصَّبِيِّ الرَّضِيعِ بِسَبَبِ الْبَيْعِ أَوْ الْإِقْرَاضِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ يُؤَاخَذُ بِهِ .
قُلْت : الرَّضِيعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّجِرُ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الدَّيْنَ بِهَذَا السَّبَبِ بِتِجَارَةِ وَلِيِّهِ ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَاضُ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ لَكِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْ نَائِبِهِ وَهُوَ الْقَاضِي أَوْ الْأَبُ بِإِذْنِ الْقَاضِي ، وَإِذَا تُصُوِّرَ ذَلِكَ مِنْ نَائِبِهِ جَازَ لِلْمُقِرِّ إضَافَةُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ لِأَنَّ فِعْلَ النَّائِبِ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَنُوبِ عَنْهُ ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ سَبَبًا أَصْلًا وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( وَإِنْ أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ لَمْ يَصِحَّ ) أَيْ الْإِقْرَارُ ( عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ) قِيلَ وَأَبُو حَنِيفَةَ مَعَهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَصِحُّ ) وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأَصَحِّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْحُجَجِ ) الشَّرْعِيَّةِ ( فَيَجِبُ إعْمَالُهُ ) مَهْمَا أَمْكَنَ ، وَذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ ( وَقَدْ أَمْكَنَ ) إعْمَالُهُ هَاهُنَا ، إذْ لَا نِزَاعَ فِي صُدُورِهِ عَنْ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوضُ وَأَمْكَنَ إضَافَتُهُ إلَى مَحَلِّهِ ( بِالْحَمْلِ عَلَى السَّبَبِ الصَّالِحِ ) وَهُوَ الْمِيرَاثُ أَوْ الْوَصِيَّةُ تَحَرِّيًا لِلْجَوَازِ وَتَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ فَإِنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ احْتَمَلَ الْفَسَادَ بِكَوْنِهِ صَدَاقًا أَوْ دَيْنَ كَفَالَةٍ بِكَوْنِهِ مِنْ التِّجَارَةِ كَانَ جَائِزًا تَصْحِيحًا لِكَلَامِ الْعَاقِلِ ( وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُطْلَقَهُ ) أَيْ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ ( يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَلِهَذَا حُمِلَ إقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ لَهُ
وَأَحَدِ الْمُتَفَاوِضِينَ فِي الشَّرِكَةِ ) ( عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِغَيْرِ سَبَبِ التِّجَارَةِ كَدَيْنِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ حَتَّى يُؤَاخَذُ بِهِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَالشَّرِيكُ الْآخَرُ فِي الْحَالِ ، وَفِي الْإِقْرَارِ بِدَيْنِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ لَا يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَلَا الشَّرِيكُ الْآخَرُ أَبَدًا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ ( فَيَصِيرُ ) أَيْ فَيَصِيرُ الْمُقِرُّ فِيمَا إذَا أُبْهِمَ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ( كَمَا إذَا صُرِّحَ بِهِ ) أَيْ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَلَوْ صُرِّحَ بِهِ كَانَ فَاسِدًا ، فَكَذَا إذَا أُبْهِمَ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ : وَلِأَبِي يُوسُفَ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ، وَالثَّانِي مَا ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ فَقَالَ : إنَّ هَذَا إقْرَارٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ وَقَدْ احْتَمَلَ الْجَوَازَ وَالْفَسَادَ كَمَا قَالَهُ ، إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى الْجَوَازِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الْجَوَازَ لَهُ وَجْهَانِ : الْوَصِيَّةُ ، وَالْمِيرَاثُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُعْتَبَرَ سَبَبًا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَوَازِ فَيُحْكَمُ بِالْفَسَادِ ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قَالُوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مَعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُمَا عَلَى السَّوَاءِ كَانَ الْبَيْعُ فِي الَّذِي اشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فَاسِدًا وَإِنْ احْتَمَلَ الْجَوَازَ لِأَنَّ لِلْجَوَازِ وَجْهَيْنِ ، بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُتَعَذِّرٌ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَذَّرَ الْحَمْلُ عَلَى الْجَوَازِ فَحُكِمَ بِالْفَسَادِ لِهَذَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا أَقَرَّ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ لِلْجَوَازِ جِهَةً وَاحِدَةً وَهِيَ التِّجَارَةُ وَلِلْفَسَادِ جِهَاتٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبًا
يَسْتَقِيمُ بِهِ وُجُوبُ الْمَالِ لِلْجَنِينِ وَصِيَّةً أَوْ مِيرَاثًا حَيْثُ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا لِأَنَّ جِهَةَ الْجَوَازِ مُتَعَيِّنَةٌ ، وَهِيَ مَا صَرَّحَ بِهِ فَكَانَ مَحْكُومًا بِالْجَوَازِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : الْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الذَّخِيرَةِ مَنْظُورٌ فِيهِ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كَوْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَجْهًا صَالِحًا لِجَوَازِ الْإِقْرَارِ لِلْحَمْلِ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَعَدَمُ تَعَيُّنِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صُورَةِ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ لَهُ يَقْتَضِي تَعَذُّرَ الْحَمْلِ عَلَى الْجَوَازِ فَيَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْفَسَادِ لِمَ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْحَمْلِ عَلَى الْجَوَازِ صَلَاحِيَةُ وَجْهٍ مَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ لِلْجَوَازِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ خُصُوصِيَّةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ جَهَالَةَ نَفْسِ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَيْفَ يَمْنَعُهَا جَهَالَةُ سَبَبِ الْمُقَرِّ بِهِ ؟ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ يَلْزَمَ الْمُقِرَّ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ وَجْهٍ مِنْ ذَيْنَك الْوَجْهَيْنِ كَمَا يَلْزَمُهُ بَيَانُ خُصُوصِيَّةِ الْمُقَرِّ بِهِ الْمَجْهُولِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ الْحُكْمُ بِالْفَسَادِ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا قَالَ لِرَجُلٍ : لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ سَبَبَهُ ، فَإِنَّ هَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْفَسَادَ بِأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَيْتَةٍ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ لِجَوَازِ الدَّيْنِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً مُتَعَذِّرَةَ الِاجْتِمَاعِ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ .
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ التَّنْظِيرَ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَيْسَ بِتَامٍّ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي مَسْأَلَةِ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مَعَ عَبْدٍ آخَرَ مِنْ الْبَائِعِ لَيْسَتْ فِي السَّبَبِ بَلْ فِي قَدْرِ ثَمَنِ الْعَبْدِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهُ بِوَجْهَيْنِ بِأَنْ يُصْرَفَ
إلَيْهِ مِثْلُ الثَّمَنِ وَبِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَحَدُ ذَيْنِك الْوَجْهَيْنِ بِخُصُوصِهِ وَقَعَتْ الْجَهَالَةُ فِي ثَمَنِهِ وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدَةٌ بِلَا كَلَامٍ ، بِخِلَافِ جَهَالَةِ السَّبَبِ فِي الْإِقْرَارِ كَمَا تَحَقَّقْته ، عَلَى أَنَّ تَعْلِيلَ فَسَادِ الْبَيْعِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِمَا ذُكِرَ لَيْسَ بِتَامٍّ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ بِصِحَّةِ بَيْعِ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ ، فَإِنَّ لِجَوَازِ بَيْعِهِ أَيْضًا وَجْهَيْنِ : بِأَنْ يُصْرَفَ إلَيْهِ مَا بَقِيَ مِنْ مِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لِلْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ ، أَوْ مَا بَقِيَ مِنْ أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى لَهُمَا يَكُونُ الْبَاقِي مِنْهُ مَصْرُوفًا إلَى الْآخَرِ ضَرُورَةً ، فَتَعَدُّدُ وَجْهِ الْجَوَازِ فِي أَحَدِهِمَا يَقْتَضِي تَعَدُّدَ وَجْهِ الْجَوَازِ فِي الْآخَرِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ بَيْعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَزْبُورَةِ لَيْسَ بِفَاسِدٍ إجْمَاعًا ، وَيُنْتَقَضُ أَيْضًا بِصِحَّةِ بَيْعِ الْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا فِيمَا إذَا بَاعَ الْعَبْدُ الْمُشْتَرَى بِأَلْفٍ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ مِنْ الْبَائِعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَإِنَّ التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ يَجْرِي فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَيْضًا بِعَيْنِهِ بَلْ مَعَ زِيَادَةٍ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ إلَى الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ الصُّورَةِ الْأُولَى فَازْدَادَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَجْهٌ آخَرُ لِلْجَوَازِ مَعَ تَخَلُّفِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ فِيهَا .
وَيُمْكِنُ تَعْلِيلُ فَسَادِ بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى مِنْ الْبَائِعِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى بِوَجْهٍ آخَرَ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مَا مِنْ مَادَّتَيْ النَّقْضِ فَتَأَمَّلْ وَرَاجِعْ مَحَلَّهَا .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ حَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ ) لِأَنَّ لَهُ وَجْهًا صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ حَمْلِ شَاةٍ لِرَجُلٍ صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَزِمَهُ ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ مَا أَقَرَّ بِهِ ( لِأَنَّ لَهُ ) أَيْ لِإِقْرَارِهِ ( وَجْهًا صَحِيحًا وَهُوَ الْوَصِيَّةُ بِهِ ) أَيْ بِالْحَمْلِ ( مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ الْمُقِرِّ بِأَنْ أَوْصَى بِالْحَمْلِ مَالِكُ الْجَارِيَةِ وَمَالِكُ الشَّاةِ لِرَجُلٍ وَمَاتَ فَأَقَرَّ وَارِثُهُ وَهُوَ عَالِمٌ بِوَصِيَّةِ مُوَرِّثِهِ بِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ لِفُلَانٍ ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ الْوَجْهُ وَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( فَحُمِلَ عَلَيْهِ ) قَالَ الشُّرَّاحُ : وَلَا وَجْهَ لِلْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لِأَنَّ مَنْ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَمْلِ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَامِلِ .
أَقُولُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَنْ أَوْصَى بِجَارِيَةٍ إلَّا حَمْلَهَا صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ وَالِاسْتِثْنَاءُ ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا فِي كِتَابِ الْوَصَايَا مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُوصِيَ مَالِكُ الْحَامِلِ بِالْحَامِلِ لِرَجُلٍ وَيَسْتَثْنِيَ حَمْلَهَا وَيَمُوتَ ، فَإِذَنْ تَصِيرُ الْحَامِلُ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْحَمْلُ لِوَارِثِ الْمَيِّتِ ، فَلَوْ أَقَرَّ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ أَنْ قَبَضَ الْحَامِلَ بِاسْتِحْقَاقِهِ إيَّاهَا بِأَنَّ حَمْلَ هَذِهِ الْحَامِلِ لِوَارِثِ الْمَيِّتِ الْمَزْبُورِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَكَانَ لَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ وَهُوَ الْمِيرَاثُ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ لَا وَجْهَ لِلْمِيرَاثِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَلَا لِتَعْلِيلِهِمْ إيَّاهُ بِأَنَّ مَنْ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَمْلِ لَهُ مِيرَاثٌ فِي الْحَامِلِ ، تَأَمَّلْ جِدًّا فَإِنَّ مَا ذَكَرْته وَجْهٌ حَسَنٌ دَقِيقٌ لَمْ يَتَنَبَّهْ لَهُ الْجُمْهُورُ .
ثُمَّ أَقُولُ : يُشْكِلُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْوَجْهُ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَفِي الْمَبْسُوطِ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي صُورَةِ إبْهَامِ الْإِقْرَارِ ، فَإِنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ لَمْ يُصْرَفْ هَاهُنَا إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ بِأَنْ
يَبِيعَ الْحَمْلُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ وَبِنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْغَيْرِ الصَّالِحَةِ فِي حَقِّ الْحَمْلِ بَلْ صُرِفَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ غَيْرِ سَبَبِ التِّجَارَةِ فَلَمْ يَتِمَّ مَا ذَكَرَهُ فِي ذَلِكَ الْوَجْهِ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِقْرَارِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا صَرَّحَ بِهِ فَتَدَبَّرْ ، وَقَدْ رَامَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ بَيَانَ الْفَرْقِ لِأَبِي يُوسُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَالْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ : وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ بَيْنَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ جَوَّزَ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَيْثُ لَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ لِلْحَمْلِ إذَا أُبْهِمَ الْإِقْرَارُ أَنَّ هَاهُنَا طَرِيقَ التَّصْحِيحِ مُتَعَيَّنٌ وَهُوَ الْوَصِيَّةُ ، بِخِلَافِ الْأَوْلَى فَإِنَّ طَرِيقَ التَّصْحِيحِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِازْدِحَامِ الْمِيرَاثِ الْوَصِيَّةَ ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ لِأَبِي يُوسُفَ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً كَيْفَ يُقْسَمُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا ؟ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ الْمِيرَاثِ ، أَمْ نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْوَصِيَّةِ ؟ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ جَوَازَ الْإِقْرَارِ مُتَعَذِّرٌ لِاحْتِمَالِهِ وَجْهَيْنِ إرْثًا وَوَصِيَّةً انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ : قَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ جِهَةُ الْجَوَازِ مُتَعَذِّرَةً لَا يُحْمَلُ عَلَى الْجَوَازِ لِتَزَاحُمِ جِهَاتِ الْجَوَازِ وَلَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا فِي الْحَمْلِ عَلَيْهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، وَأَمَّا إذَا تَعَيَّنَتْ جِهَةُ الْجَوَازِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا فَيَصِحُّ الْإِقْرَارُ بِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ مُزَاحَمَةَ الْمِيرَاثِ الْوَصِيَّةَ فِي حَقِّ الْحَمْلِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْوَارِثَ إذَا كَانَ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْحَمْلِ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ أَيْضًا فِي الْأُمِّ لِشُيُوعِ حَقِّهِ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ .
وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِحَمْلِ جَارِيَةٍ أَوْ بِحَمْلِ شَاةٍ لَا تَكُونُ وَصِيَّةً بِالْأُمِّ فَتَعَيَّنَتْ
الْوَصِيَّةُ جِهَةً لِلْجَوَازِ فَيَجُوزُ ، وَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ فِي صِحَّةِ إقْرَارِهِ مُطْلَقًا بِحَمْلِ جَارِيَةٍ لِإِنْسَانٍ وَعَدَمِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ مُطْلَقًا لِلْحَمْلِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هُنَاكَ لِصِحَّةِ إقْرَارِهِ مُطْلَقًا جِهَتَيْنِ الْمِيرَاثَ وَالْوَصِيَّةَ ، وَلَيْسَ إحْدَاهُمَا أَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَيَبْقَى عَلَى الْبُطْلَانِ انْتَهَى .
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْفَرْقَ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ أَيْضًا .
أَقُولُ : مَدَارُ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْفُرُوقِ عَلَى حَرْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ تَعَدُّدَ جِهَةِ الْجَوَازِ يُنَافِي الْحَمْلَ عَلَى الْجَوَازِ .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ جِهَةَ الْجَوَازِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَقَامَيْنِ فِيمَا مَرَّ آنِفًا .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ ) لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُهُ ( وَلَزِمَهُ الْمَالُ ) لِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ وَلَمْ تَنْعَدِمْ بِهَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِشَرْطِ الْخِيَارِ بَطَلَ الشَّرْطُ ) يَعْنِي وَمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِشَيْءٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي إقْرَارِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ ، أَمَّا بُطْلَانُ الشَّرْطِ وَهُوَ الْأَهَمُّ بِالْبَيَانِ فَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْفَسْخِ ) أَيْ لِأَجْلِ الْفَسْخِ ( وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُهُ ) أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ : يَعْنِي أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْإِخْبَارُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَهُوَ وَاجِبُ الْعَمَلِ بِهِ اخْتَارَهُ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ وَاجِبُ الرَّدِّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِي الْعُقُودِ لِيَتَغَيَّرَ بِهِ صِفَةُ الْعَقْدِ وَيَتَخَيَّرَ بِهِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ ، وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِقْرَارِ الَّتِي حُكْمُهَا لُزُومُ الْمُقَرِّ بِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ( وَلَزِمَهُ الْمَالُ ) أَيْ وَلَزِمَ الْمُقِرَّ الْمَالُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فَلَمَّا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ ( لِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ ) وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَيَّ وَنَحْوُ ذَلِكَ ( وَلَمْ يَنْعَدِمْ ) أَيْ اللُّزُومُ ، وَقِيلَ : أَيْ الْإِخْبَارُ ( بِهَذَا الشَّرْطِ الْبَاطِلِ ) يَعْنِي شَرْطَ الْخِيَارِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلْبَاطِلِ ، وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فِيمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ ، إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ فَيَمْنَعُ كَوْنَ الْكَلَامِ إقْرَارًا وَالْخِيَارُ يَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ ، فَإِذَا لَغَا بَقِيَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَهُوَ اللُّزُومُ ، كَمَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُهُ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ : هَذَا إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ
مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ ، فَأَمَّا إذَا بَيَّنَ السَّبَبَ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ بِعَيْنِهِ أَوْ مُسْتَهْلَكٍ أَوْ وَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ فَالْخِيَارُ بَاطِلٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ بَيَّنَ السَّبَبَ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِيمَا بَيَّنَ مِنْ السَّبَبِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ إنْ كَانَ اسْتِهْلَاكًا فَالِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ قَرْضًا أَوْ غَصْبًا بِعَيْنِهِ أَوْ وَدِيعَةً بِعَيْنِهَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ قَابِلًا لِلْفَسْخِ بِالرَّدِّ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُقِرِّ ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ بِأَنْ يَرُدَّ مَا قَبَضَ فَيَنْفَسِخَ الْقَرْضُ وَالْغَصْبُ فَلَا يَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ ، وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ عَلَى أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْخِيَارِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ فِي جَانِبِ الْمُقِرِّ ، إنَّمَا ذَكَرَهُ فِي جَانِبِ الْمُقَرِّ لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إذَا لَمْ يُصَدِّقْ الْمُقِرَّ فِي الْخِيَارِ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ فِي الْحَاصِلِ يَدَّعِي شِرَاءً بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَقَدْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ الْخِيَارَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَتَى صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي سَبَبِ الْوُجُوبِ وَهُوَ الشِّرَاءُ ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الشِّرَاءِ مُسْتَقِيمٌ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ الْمَالَ مُطْلَقًا وَلَمْ يُبَيِّنْ السَّبَبَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَالَ مَشْرُوطٌ فِي الْإِقْرَارِ ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْإِقْرَارِ لَا يَسْتَقِيمُ ، فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْخِيَارِ فَأَرَادَ هُوَ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً عَلَى الْخِيَارِ لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْفَصْلَ فِي الْأَصْلِ .
قَالُوا : وَيَجِبُ أَنْ لَا تُسْمَعَ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا
تُسْمَعُ إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَدَعْوَى الْخِيَارِ مِنْ الْمُقِرِّ هَاهُنَا لَمْ تَصِحَّ لِمَكَانِ الْمُنَاقَضَةِ ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ .
بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ قَالَ ( وَمَنْ اسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْجُمْلَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ ، ( وَسَوَاءٌ اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ أَوْ الْأَكْثَرَ ، فَإِنْ اسْتَثْنَى الْجَمِيعَ لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ) لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا وَلَا حَاصِلَ بَعْدَهُ فَيَكُونُ رُجُوعًا ، وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الطَّلَاقِ .
( بَابُ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ) لَمَّا ذَكَرَ مُوجَبَ الْإِقْرَارِ بِلَا مُغَيِّرٍ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُوجَبِهِ مَعَ الْمُغَيِّرِ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ فِي كَوْنِهِ مُغَيِّرًا كَالشَّرْطِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ اسْتَثْنَى مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ ) أَيْ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ لَا مَفْصُولًا عَنْهُ ( صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَزِمَهُ الْبَاقِي ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ الْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا ( لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَعَ الْجُمْلَةِ ) أَيْ مَعَ مَصْدَرِ الْكَلَامِ ( عِبَارَةٌ عَنْ الْبَاقِي ) فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلَّا وَاحِدًا مَعْنَى عَلَيَّ تِسْعَةٌ لِمَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ ( وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ الِاتِّصَالِ ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ تَغْيِيرٍ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَوَازُ التَّأْخِيرِ وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْأُصُولِ ( وَسَوَاءٌ اسْتَثْنَى الْأَقَلَّ ) أَيْ الْأَقَلَّ مِنْ الْبَاقِي كَمَا فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا أَرْبَعَمِائَةٍ ( أَوْ الْأَكْثَرَ ) مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا سِتَّمِائَةٍ : يَعْنِي لَا فَصْلَ بَيْنَ كَوْنِ الْمُسْتَثْنَى أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ الْأَكْثَرِ .
وَفِي الْعِنَايَةِ : وَقَالَ الْفَرَّاءُ : اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ .
وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَقَالَ الْفَرَّاءُ : لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِنْ الْأَقَلِّ .
وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُهُ انْتَهَى .
وَفِي الْكَافِي وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالْفَرَّاءِ : إنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ انْتَهَى .
وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَصِحُّ وَيَكُونُ عَلَيْهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ،
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالْفَرَّاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ وَيَلْزَمُهُ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرُ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ انْتَهَى .
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ : وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ عِنْدَنَا قَوْله تَعَالَى { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا .
نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أَقُولُ : فِي كَوْنِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ قَالَ فِي تَفْسِيرِهَا : نِصْفَهُ بَدَلٌ مِنْ اللَّيْلِ ، وَإِلَّا قَلِيلًا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النِّصْفِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : قُمْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ شِئْت جَعَلْت نِصْفَهُ بَدَلًا مِنْ قَلِيلًا ، فَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَكُنْ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ مِنْ قَبِيلِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ، أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ قَدْرًا مُعَيَّنًا مَخْصُوصًا حَتَّى يُحْكَمَ بِأَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ الْبَاقِي .
نَعَمْ يُعْلَمُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ الْبَاقِي أَيْضًا ، وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى يَكُونُ حِينَئِذٍ النِّصْفَ لَا الْأَكْثَرَ ، وَالْمُدَّعَى جَوَازُ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ ، فَالْأَظْهَرُ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ ، وَهُوَ أَنَّ طَرِيقَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ اسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ ، وَعَدَمُ تَكَلُّمِ الْعَرَبِ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لِطَرِيقِهِمْ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْكَسْرِ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَكَانَ صَحِيحًا ، وَيُوَافِقُهُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ : وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا تِسْعَةً
فَجَائِزٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَيَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الْعَشَرَةُ .
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا ، وَهَذَا الْمَعْنَى كَمَا يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْقَلِيلِ مِنْ الْكَثِيرِ يُوجَدُ فِي اسْتِثْنَاءِ الْكَثِيرِ مِنْ الْقَلِيلِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا وَضَعُوا الِاسْتِثْنَاءَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ يَنْدُرُ وُقُوعُهُ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِدْرَاكِهِ لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ فِي الْجُمْلَةِ فَيَصِحُّ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
ثُمَّ إنَّ لِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ الْأَكْثَرِ دَلِيلًا آخَرَ قَوِيًّا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي مُخْتَصَرِهِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلَّا مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْغَاوِينَ } فَإِنَّ الْغَاوِينَ أَكْثَرُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْت بِمُؤْمِنِينَ } ( فَإِنْ اسْتَثْنَى الْجَمِيعَ ) أَيْ الْكُلَّ بِأَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ ( لَزِمَهُ الْإِقْرَارُ ) أَيْ لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ مَا أَقَرَّ بِهِ ( وَبَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ ) أَيْ بَطَلَ مَا ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ ( تَكَلُّمٌ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا ) أَيْ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا ( وَلَا حَاصِلَ بَعْدَهُ ) أَيْ وَلَا بَاقِيَ بَعْدَ اسْتِثْنَاءِ الْجَمِيعِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ ( فَيَكُونُ رُجُوعًا ) أَيْ فَيَكُونُ مَا ذَكَرَهُ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَا مَحَالَةَ لَا اسْتِثْنَاءً حَقِيقِيًّا ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا مَا يَكُونُ فِيهِ مَعْنَى الْبَيَانِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ ،
وَالْإِبْطَالُ لَيْسَ مِنْ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ : وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنْ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ اسْتِثْنَاءُ الْأَلْفِ مِنْ الْأَلْفِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ اسْتِثْنَاءُ الْأَلْفِ وَزِيَادَةً أَوْلَى .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَقَدْ مَرَّ الْوَجْهُ فِي الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ .
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ لَفْظِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ نِسَاءٌ إلَّا هَؤُلَاءِ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، وَلَوْ قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَطُلِّقْنَ كُلُّهُنَّ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَعَتَقُوا كُلُّهُمْ ، وَلَوْ قَالَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ لَهُ عَبِيدٌ غَيْرَ هَؤُلَاءِ لَمْ يُعْتَقْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَمَاتَ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، وَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ إلَّا ثُلُثَ مَالِي كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَالِهِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ، كَذَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ .
وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيْمَانِ الزِّيَادَاتِ حَيْثُ قَالَ : اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ مِنْ الْكُلِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ ، أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَصِحُّ كَمَا إذَا : قَالَ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي لَا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَلَوْ قَالَ إلَّا عَمْرَةَ وَزَيْنَبَ وَسُعَادَ حَتَّى أَتَى عَلَى الْكُلِّ صَحَّ انْتَهَى .
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ هَاهُنَا : وَهَذَا الْفِقْهُ وَهُوَ
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ فَيُبْتَنَى عَلَى صِحَّةِ اللَّفْظِ لَا عَلَى صِحَّةِ الْحُكْمِ ؛ أَلَا يُرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ سِتَّ طَلْقَاتٍ إلَّا أَرْبَعًا يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ حَتَّى يَقَعُ تَطْلِيقَتَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ السِّتُّ لَا صِحَّةَ لَهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الثَّلَاثِ وَمَعَ هَذَا لَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا أَرْبَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ تَتْبَعُ صِحَّةَ اللَّفْظِ دُونَ الْحُكْمِ .
وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْ لِلتَّكَلُّمِ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ كُلًّا ضَرُورَةَ عَدَمِ مِلْكِهِ فِيمَا سِوَاهُ لَا لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ اللَّفْظِ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِهِ غَيْرُ هَذِهِ الْجَوَارِي أَوْ الْعَبِيدِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ بِعَيْنِ ذَلِكَ اللَّفْظِ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ وَلَا لِلتَّكَلُّمِ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ الْفِقْهِ وَالتَّحْقِيقِ بِعَيْنِ تَحْرِيرِهِ وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا وَلَكِنْ بِتَغْيِيرِ أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ .
أَقُولُ : التَّحْقِيقُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ لَفْظُ الْمُصَنِّفِ فِي الزِّيَادَاتِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَتَى وَقَعَ بِغَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَهُوَ يَصْلُحُ لِإِخْرَاجِ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ أَوْ لِلتَّكَلُّمِ بِالْحَاصِلِ بَعْدَ الثَّنِيَّا إنَّمَا يَتَمَشَّى عِنْدَ كَوْنِ غَيْرِ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَخَصَّ مِنْ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ ، وَأَمَّا عِنْدَ كَوْنِهِ مُسَاوِيًا لَهُ بِحَسَبِ الْمَفْهُومِ كَمَا لَوْ قَالَ نِسَائِي كَذَا إلَّا حَلَائِلِي أَوْ إلَّا أَزْوَاجِي ، أَوْ كَوْنِهِ أَعَمَّ مِنْهُ
بِحَسَبِهِ كَمَا لَوْ قَالَ هَؤُلَاءِ طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي فَلَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ قَطْعًا .
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الزِّيَادَاتِ : أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فَيَصِحُّ بِتَنَاوُلِ مَا كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ وَمَا كَانَ أَعَمَّ مِنْهُ أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ ذَلِكَ اللَّفْظِ لَا عَيْنُهُ فَيَقْتَضِي أَنْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِيهِمَا أَيْضًا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ .
قَالَ فِي التَّوْضِيحِ بَعْدَ أَنْ قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُسْتَغْرِقُ بَاطِلٌ .
وَأَصْحَابُنَا قَيَّدُوهُ بِلَفْظِهِ أَوْ بِمَا يُسَاوِيهِ نَحْوُ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا عَبِيدِي أَوْ إلَّا مَمَالِيكِي لَكِنْ إذَا اسْتَثْنَى بِلَفْظٍ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْهُ فِي الْمَفْهُومِ لَكِنْ فِي الْوُجُودِ يُسَاوِيهِ يَصِحُّ نَحْوَ عَبِيدِي أَحْرَارٌ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَا عَبِيدَ لَهُ سِوَاهُمْ انْتَهَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ فِي أُصُولِهِ بَعْدَ أَنْ قَالَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ : وَقَالَ مَشَايِخُنَا : هَذَا إذَا كَانَ بِلَفْظِهِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا نِسَائِي ، أَوْ بِمَا يُسَاوِيهِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا حَلَائِلِي أَوْ بِأَعَمَّ مِنْهُ ، وَإِنْ اسْتَثْنَى بِلَفْظٍ يَكُونُ أَخَصَّ مِنْهُ فِي الْمَفْهُومِ يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ يُسَاوِيهِ فِي الْوُجُودِ نَحْوُ نِسَائِي طَوَالِقُ إلَّا زَيْنَبَ وَهِنْدَ وَبَكْرَةَ وَعَمْرَةَ أَوْ إلَّا هَؤُلَاءِ وَلَا نِسَاءَ لَهُ سِوَاهُنَّ حَتَّى لَا تَطْلُقَ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ غَايَةِ الْبَيَانِ عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ : أَيْ أَعَمَّ مِنْهُ .
( وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوْ الْقَفِيزِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَصِحُّ فِيهِمَا ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ فِيهِمَا .
وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا اتَّحَدَا جِنْسًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ .
وَلَهُمَا أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ، وَهَذَا فِي الدِّينَارِ ظَاهِرٌ .
وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ أَوْصَافُهَا أَثْمَانٌ ؛ أَمَّا الثَّوْبُ فَلَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَمَا يَكُونُ ثَمَنًا صَلَحَ مُقَدِّرًا بِالدَّرَاهِمِ فَصَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا أَوْ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيمَةَ الدِّينَارِ أَوْ الْقَفِيزِ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ يَعْنِي يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيُطْرَحُ مِنْ الْمِائَةِ قِيمَةُ الدِّينَارِ أَوْ قِيمَةُ الْحِنْطَةِ .
قَالَ الْمُصَنَّفُ ( وَهَذَا ) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ) اسْتِحْسَانًا ( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ ) أَيْ مِائَةُ دِرْهَمٍ ( إلَّا ثَوْبًا لَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ ) قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا ( وَقَالَ مُحَمَّدٌ : لَا يَصِحُّ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ وَأَحْمَدُ ( وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ( لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ ) يَعْنِي أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي اللَّفْظِ وَهُوَ إخْرَاجُ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ لَكَانَ الْمُسْتَثْنَى دَاخِلًا تَحْتَ صَدْرِ الْكَلَامِ ( وَهَذَا ) الْمَعْنَى ( لَا يَتَحَقَّقُ فِي خِلَافِ الْجِنْسِ ) أَيْ فِي اسْتِثْنَاءِ خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْمُنْقَطِعِ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ( وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا ) أَيْ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ ( اتَّحَدَا جِنْسًا مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ) يَعْنِي أَنَّ الشَّرْطَ اتِّحَادُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَوْجُودٌ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ فَانْتَفَى الْمَانِعُ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضَيْ وَهُوَ التَّصَرُّفُ اللَّفْظِيُّ .
قَالَ فِي الْكَافِي : وَالْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ عَمَلِ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَعِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ الْحُكْمَ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ : أَيْ إنَّمَا امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي الْمُسْتَثْنَى لِدَلِيلٍ مُعَارِضٍ كَدَلِيلِ الْخُصُوصِ فِي الْعَامِّ ، فَتَقْدِيرُ قَوْلِهِ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيَّ ، فَعَدَمُ لُزُومِ الدِّرْهَمِ
لِلدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ لَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِالِاسْتِثْنَاءِ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ أَطْبَقُوا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ وَمِنْ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ ، وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْهُمْ أَنَّ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمًا يُعَارَضُ بِهِ حُكْمُ الصَّدْرِ ، وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ كَلِمَةُ تَوْحِيدٍ بِالِاتِّفَاقِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلِاسْتِثْنَاءِ حُكْمٌ يُضَادُّ حُكْمَ الصَّدْرِ لَكَانَ هَذَا نَفْيًا لِلشَّرِكَةِ لَا تَوْحِيدًا ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَقَالَ : الْعَمَلُ بِدَلِيلِ الْمُعَارِضِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَقَدْ أَمْكَنَ هُنَا لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ .
وَعِنْدَنَا الِاسْتِثْنَاءُ يَمْنَعُ التَّكَلُّمَ بِحُكْمِهِ بِقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى فَيَصِيرُ كَالتَّكَلُّمِ بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، وَيَخْرُجُ كَلَامُهُ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ إيجَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } وَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ يَكُونُ فِي الْإِيجَابِ لَا فِي الْإِخْبَارِ ، وَقَدْ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ قَاطِبَةً : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثَّنِيَّا فَنَجْمَعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ وَنَقُولُ : إنَّهُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بِوَضْعِهِ وَإِثْبَاتٌ وَنَفْيٌ بِإِشَارَتِهِ ، وَاخْتِيرَ الْإِثْبَاتُ فِي كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ إشَارَةً وَالنَّفْيُ قَصْدًا لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ ، إذْ الْكُفَّارُ يُقِرُّونَ بِهِ إلَّا أَنَّهُمْ يُشْرِكُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ فَنَقُولُ إلَخْ .
وَسَلَكَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَذَا الْمَسْلَكَ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي أَثْنَاءِ تَقْرِيرِ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ بَعْدَ قَوْلِهِ يَجِبُ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ الْمُعَارِضِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ
فِي الْعَيْنِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِقَدْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَيَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى ، وَقَدْ اقْتَفَى أَثَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَمَا تَرَى يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ شَرْطٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا وَهُوَ الْحَقُّ ، وَقَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالْإِخْرَاجِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّدْرَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُسْتَثْنَى فَهُوَ أَحْوَجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُجَانَسَةِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ مِنَّا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الشَّارِحِينَ بِأَنَّ الْمُجَانَسَةَ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سِوَى صَاحِبِ الْغَايَةِ فَإِنَّهُ قَالَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ كَلَامٌ آخَرُ يُعَارِضُ الصَّدْرَ بِحُكْمِهِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ الْمُجَانَسَةُ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسٌ إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ قَدْ اسْتَثْنَى مِنْ خِلَافِ الْجِنْسِ انْتَهَى .
وَأَمَّا مَا قَالَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَلَيْسَ بِدَالٍّ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِمْ إنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ فِي الْعَيْنِ مَا هُوَ جِنْسٌ صُورَةً وَمَعْنًى لَا مُطْلَقُ الْجِنْسِ الشَّامِلِ لِمَا هُوَ جِنْسٌ مَعْنًى فَقَطْ وَإِلَّا لَمْ يَتِمَّ قَوْلُهُمْ كَانَ الدَّلِيلُ الْمُعَارِضُ
فِي الْعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ ، فَكَانَ الْمُرَادُ بِالْجِنْسِ فِي قَوْلِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِهِ مَا هُوَ جِنْسٌ صُورَةً وَمَعْنًى أَيْضًا فَالْمَفْهُومُ مِنْهُ انْتِفَاءُ الْمُجَانَسَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي بَعْضِ مَوَادِّ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَهَذَا لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُجَانَسَةِ فِي الْجُمْلَةِ شَرْطًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي جَمِيعِ مَوَادِّ الِاسْتِثْنَاءِ كَمَا بَيْنَ الدِّرْهَمِ وَالثَّوْبِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةُ ، فَقَوْلُ الشَّارِحِ الْأَكْمَلِ : قَرَّرَ الشَّارِحُونَ كَلَامَهُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لَيْسَ بِتَامٍّ ( وَلَهُمَا ) أَيْ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ( أَنَّ الْمُجَانَسَةَ فِي الْأَوَّلِ ) أَيْ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا دِينَارًا وَإِلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ ( ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ ) يَعْنِي أَنَّ شَرْطَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ الْمُجَانَسَةُ وَهِيَ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ثَابِتَةٌ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ دُونَ الْوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَّا ثَوْبًا .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ غَيْرَهَا لَفْظًا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِهَا إيَّاهُ حُكْمًا ، فَقُلْنَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ عَلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ وَهُوَ الدَّنَانِيرُ وَالْمُقَدَّرَاتُ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ ( أَمَّا الدِّينَارُ فَظَاهِرٌ ) يَعْنِي أَمَّا ثُبُوتُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ فِي صُورَةِ اسْتِثْنَاءِ الدِّينَارِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ بِلَا اشْتِبَاهٍ ( وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ أَوْصَافُهُمَا أَثْمَانٌ ) يَعْنِي وَأَمَّا ثُبُوتُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ فِي صُورَةِ اسْتِثْنَاءِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ أَوْصَافُهَا أَثْمَانٌ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ أَثْمَانٌ
بِأَوْصَافِهِمَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ ، حَتَّى لَوْ عُيِّنَتْ فِي الْعَقْدِ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا إلَّا أَنَّهَا إذَا وُصِفَتْ ثَبَتَتْ فِي الذِّمَّةِ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَيَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ بِهَا فَكَانَتْ فِي حُكْمِ الثُّبُوتِ فِي الذِّمَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ مَعْنًى وَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا صُورَةً وَالِاسْتِثْنَاءُ اسْتِخْرَاجٌ وَتَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي مَعْنًى لَا صُورَةً ؛ لِأَنَّهُ تَكَلُّمٌ بِالْمِائَةِ صُورَةٍ ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ ( أَمَّا الثَّوْبُ ) فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ( فَلَيْسَ بِثَمَنٍ أَصْلًا ) أَيْ لَا ذَاتًا وَلَا وَصْفًا ( وَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ) بَلْ يَثْبُتُ سَلَمًا أَوْ مَا هُوَ بِمَعْنَى السَّلَمِ كَالْبَيْعِ بِثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ مُؤَجَّلًا فَلَمْ يَكُنْ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ اسْتِخْرَاجًا صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَكَانَ بَاطِلًا ( وَمَا يَكُونُ ثَمَنًا صَلُحَ مُقَدِّرًا ) بِكَسْرِ الدَّالِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ( لِلدَّرَاهِمِ ) أَيْ لِمَا دَخَلَ تَحْتَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ لِحُصُولِ الْمُجَانَسَةِ بَيْنَهُمَا بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَخَصِّ الْأَوْصَافِ ( فَصَارَ بِقَدْرِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ الدَّرَاهِمِ ) بِقِيمَتِهِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ لَهُ عَلَيَّ مِائَةٌ إلَّا قَدْرَ قِيمَةِ الْمُسْتَثْنَى .
وَفِي الذَّخِيرَةِ : إذَا صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ يُطْرَحُ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى عَنْ الْمُقَرِّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْمُسْتَثْنَى تَسْتَغْرِقُ مَا أَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُ شَيْءٌ ( وَمَا لَا يَكُونُ ثَمَنًا لَا يَصْلُحُ مُقَدِّرًا ) لِلدَّرَاهِمِ لِعَدَمِ الْمُجَانَسَةِ ( فَبَقِيَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : فَبَقِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا ( فَلَا يَصِحُّ ) أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ فَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ وَلَا يَمْتَنِعُ بِهِ صِحَّةُ الْإِقْرَارِ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ، وَلَكِنَّ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُسْتَثْنَى تُورِثُ
جَهَالَةً فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَبَقِيَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولًا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ : وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : مَا لَيْسَ بِثَمَنٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّرًا مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْمُقَدِّرَاتِ تُقَدِّرُ الدَّرَاهِمَ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ التَّقْدِيرَ الِاسْتِثْنَائِيَّ يَقْتَضِي حَقِيقَةَ التَّجَانُسِ أَوْ مَعْنَاهُ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ حَيْثُ أَخَصُّ الْأَوْصَافِ اسْتِحْسَانًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ التَّجَانُسِ ، ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمُقَدِّرَاتِ انْتَهَى أَقُولُ بَقِيَ هَاهُنَا كَلَامٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ مَا يَكُونُ ثَمَنًا بِوَصْفِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ إنَّمَا يَكُونُ ثَمَنًا وَاجِبًا فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ الْوَصْفِ كَالْحِنْطَةِ الرَّبِيعِيَّةِ وَالْخَرِيفِيَّةِ لَا بِسَبَبِ الذَّاتِ وَالْعَيْنِ ، حَتَّى لَوْ عُيِّنَ يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ بَيْعَ مُقَايَضَةٍ وَلَا يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَوْ وُصِفَ وَلَمْ يُعَيَّنْ صَارَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ الدِّينَارِ فَيَجِبُ فِي الذِّمَّةِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا إنَّمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّرًا لِلدَّرَاهِمِ إذَا كَانَ مَوْصُولًا لَا مُطْلَقًا ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ لَمْ يُوصَفْ قَفِيزُ حِنْطَةٍ بِشَيْءٍ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُقَدِّرًا لِلدَّرَاهِمِ فَيَبْقَى الْمُسْتَثْنَى مِنْ الدَّرَاهِمِ مَجْهُولًا فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا ) بِإِقْرَارِهِ ( لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ ) لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ ؛ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ فَقَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إذَا مِتُّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا أَفْطَرَ النَّاسُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فَيَكُونُ تَأْجِيلًا لَا تَعْلِيقًا ، حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجْلِ يَكُونُ الْمَالُ حَالًّا .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مُتَّصِلًا بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ ) قَالَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إقْرَارِ الْمَبْسُوطِ : وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الشَّرْطِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ دُونَ الْإِخْبَارَاتِ ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً لَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ : { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنِيَّاهُ } وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا بِكَلَامٍ هُوَ عَزِيمَةٌ ، لَكِنْ إنَّمَا يَعْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا إذَا كَانَ مَفْصُولًا عَنْهُ ، فَإِنَّ الْمَفْصُولَ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ ، وَالْمُقِرُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إقْرَارِهِ فَكَذَا لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَفْصُولَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا لِأَنَّ رُجُوعَهُ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ فَكَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُ ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا .
أَمَّا هَذَا فَبَيَانُ تَغْيِيرٍ وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ انْتَهَى مَا فِي الْمَبْسُوطِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ ( لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ ( أَوْ تَعْلِيقٌ ) كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي
طَلَاقِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى الْعَكْسِ كَمَا ذَكَرَ فِي طَلَاقِ الْفَتَاوَى الصُّغْرَى وَالتَّتِمَّةِ وَاخْتَارَهُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ كَمَا فِيمَا إذَا قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ فَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ إبْطَالٌ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَعِنْدَ مَنْ قَالَ إنَّهُ تَعْلِيقٌ يَقَعُ لِأَنَّهُ إذَا قَدَّمَ بِشَرْطٍ وَلَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْجَزَاءِ لَمْ يَتَعَلَّقْ وَبَقِيَ الطَّلَاقُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَقَعُ ، وَكَيْفَمَا كَانَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِقْرَارُ كَمَا بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ ( فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ) وَهُوَ الْإِبْطَالُ ( فَقَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي ) وَهُوَ التَّعْلِيقُ ( فَكَذَلِكَ ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ) لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عَمَّا سَبَقَ وَالتَّعْلِيقُ إنَّمَا يَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ وَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَا يَصِيرُ كَذِبًا بِفَوَاتِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ صِدْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَغَا تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ ( أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ ) أَيْ لَا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ وُقُوعَ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّا لَا يَكَادُ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَالتَّعْلِيقُ بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ إعْدَامًا مِنْ الْأَصْلِ ( كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ ) أَيْ فِي فَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَقَالَ فُلَانٌ قَدْ شِئْت فَهَذَا إقْرَارٌ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فِي وُجُودِهِ خَطَرٌ ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالْخَطَرِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا فِيهِ خَطَرٌ يَمِينٌ وَالْإِقْرَارُ لَا يُحْلَفُ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، فَإِنْ كَانَ صِدْقًا لَا يَصِيرُ كَذِبًا بِفَوَاتِ
الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَا يَصِيرُ صِدْقًا بِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَلِيقُ التَّعْلِيقُ بِهِ أَصْلًا ، إنَّمَا التَّعْلِيقُ فِيمَا هُوَ إيجَابٌ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِيقَاعٍ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ إقْرَارٍ عُلِّقَ بِالشَّرْطِ أَوْ الْخَطَرِ نَحْوُ قَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ أَوْ إنْ مَطَرَتْ السَّمَاءُ أَوْ إنْ هَبَّتْ الرِّيحُ أَوْ إنْ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَوْ إنْ أَرَادَهُ أَوْ رَضِيَهُ أَوْ أَحَبَّهُ أَوْ قَدَّرَهُ أَوْ يَسَّرَهُ أَوْ إنْ بُشِّرْت بِوَلَدٍ أَوْ إنْ أَصَبْت مَالًا أَوْ إنْ كَانَ كَذَلِكَ أَوْ إنْ كَانَ حَقًّا فَهَذَا كُلُّهُ مُبْطِلٌ لِلْإِقْرَارِ إذَا وَصَلَهُ بِالْكَلَامِ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ ، وَفِي غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إذَا مِتُّ أَوْ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوْ إذَا أَفْطَرَ النَّاسُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى بَيَانِ الْمُدَّةِ ) وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ لِأَنَّ النَّاسَ يَعْتَادُونَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مَحَلَّ الْأَجَلِ فَحَسْبُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ يَصِيرُ حَالًّا بِالْمَوْتِ وَمَجِيءِ رَأْسِ الشَّهْرِ وَالْفِطْرُ مِنْ آجَالِ النَّاسِ فَتُرِكَتْ الْحَقِيقَةُ لِلْعُرْفِ ( فَيَكُونُ تَأْجِيلًا ) أَيْ فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْهُ تَأْجِيلًا : أَيْ دَعْوَى الْأَجَلِ إلَى الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ ( لَا تَعْلِيقًا ) أَيْ لَا يَكُونُ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ ( حَتَّى لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْأَجَلِ يَكُونُ الْمَالُ حَالًّا ) لِأَنَّ دَعْوَى الْأَجَلِ مِنْ الْمُقِرِّ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ ) لِأَنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنًى لَا لَفْظًا ، وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ ، وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْبُسْتَانِ نَظِيرُ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ تَبَعًا لَا لَفْظًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا ثُلُثَهَا أَوْ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ لَفْظًا ( وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذَا الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ ) لِأَنَّ الْعَرْصَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبُقْعَةِ دُونَ الْبِنَاءِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ بَيَاضُ هَذِهِ الْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ لِفُلَانٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَكَانُ الْعَرْصَةِ أَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّارِ .
( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَمَنْ أَقَرَّ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ ) بِأَنْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا بِنَاءَهَا ( فَلِلْمُقَرِّ لَهُ الدَّارُ وَالْبِنَاءُ لِأَنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ مَعْنًى ) أَيْ تَبَعًا ( لَا لَفْظًا ) أَيْ لَا مَقْصُودًا بِاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ فِي الدَّارِ وَالْوَصْفُ يَدْخُلُ تَبَعًا لَا قَصْدًا ، وَلِهَذَا لَوْ اُسْتُحِقَّ الْبِنَاءُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي بَيْعِ الدَّارِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهِ بَلْ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي ( وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ ) يَجْعَلُ الْمَلْفُوظَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، فَمَا لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّارِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ عَمَلُ الِاسْتِثْنَاءِ ، كَذَا قَالُوا .
أَقُولُ : هَذَا وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْبِنَاءُ وَصْفٌ فِيهَا إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ .
وَقَالَ فِي الْقَامُوسِ : الدَّارُ الْمَحَلُّ الَّذِي يَجْمَعُ الْبِنَاءَ وَالْعَرْصَةَ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادَرَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ اسْمًا لِمَجْمُوعِ الْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ لَا اسْمًا لِلْعَرْصَةِ وَحْدَهَا فَتَأَمَّلْ .
قَالَ صَدْرُ الشَّرِيعَةِ : فَإِنْ قُلْت : يُشْكِلُ مَا ذُكِرَ بِمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا قَفِيزَ حِنْطَةٍ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ دَخَلَتْ فِي الدَّرَاهِمِ مَعْنًى لَا لَفْظًا حَتَّى صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ .
قُلْت : الدَّرَاهِمُ تَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى فَيَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَلَا كَذَلِكَ الدَّارُ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِاسْمٍ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءِ حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ الدَّارِ ذِكْرًا لِلْبِنَاءِ بِطَرِيقِ التَّنَاوُلِ قَصْدًا ، بَلْ الدَّارُ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ وَالْبِنَاءُ صِفَةٌ لَهُ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا ، وَالْوَصْفُ يَدْخُلُ تَبَعًا لَا قَصْدًا فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْوَصْفِ فَافْتَرَقَا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ .
أَقُولُ : التَّعَرُّضُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ جِدًّا وَقَدْ أَهْمَلَهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ ، وَلَكِنَّ الْمَرْتَبَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ لَا تَقْطَعُ الْكَلَامَ هَاهُنَا ، إذْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنْ أُرِيدَ بِتَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ الْحِنْطَةَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى تَنَاوُلُهَا إيَّاهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى الْوَضْعِيُّ لِلَفْظِ الدَّرَاهِمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ جِدًّا ، أَلَا يَرَى إلَى مَا مَرَّ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِ الدَّرَاهِمِ غَيْرَهَا لَفْظًا لَا يَرْتَابُ فِيهِ أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَنَاوُلِهَا إيَّاهُ حُكْمًا فَقُلْنَا بِتَنَاوُلِ مَا كَانَ عَلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِذَلِكَ تَنَاوُلُهَا إيَّاهَا مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَهُوَ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَا يُجْدِي نَفْعًا ، إذْ الْمُصَنِّفُ مُصَرِّحٌ هَاهُنَا بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ فَتَنَاوُلُ لَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْحِنْطَةَ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ ، كَيْفَ وَلَوْ كَفَى تَنَاوُلُ لَفْظِ الدَّرَاهِمِ الْحِنْطَةَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَقَطْ فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْحِنْطَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ لَكَفَى تَنَاوُلُ اسْمِ الدَّارِ الْبِنَاءَ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَقَطْ أَيْضًا فِي صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ مِنْ الدَّارِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ بَيْعِ الدَّارِ وَفِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّارِ وَنَحْوِهِمَا حَتَّى يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي وَالْمُقَرُّ لَهُ الْبِنَاءَ أَيْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةِ إيضَاحٍ وَتَقْرِيرٍ فَنَقُولُ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ هُوَ التَّنَاوُلُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لَكِنْ قَصْدًا لَا تَبَعًا ، وَالدَّرَاهِمُ تَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا عَلَى أَخَصِّ أَوْصَافِهَا الَّذِي هُوَ الثَّمَنِيَّةُ تَنَاوُلًا قَصْدِيًّا لَا تَبَعِيًّا ، فَإِنَّ مَا
يَتَحَقَّقُ فِيهِ الثَّمَنِيَّةُ كَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ مِنْ قَبِيلِ الذَّوَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا مِنْ الدَّرَاهِمِ لِمُشَارَكَتِهِ إيَّاهَا فِي أَخَصِّ أَوْصَافِهَا وَهُوَ الثَّمَنِيَّةُ وَكَوْنِهِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَلَا كَذَلِكَ الدَّارُ مَعَ الْبِنَاءِ فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ لِلدَّارِ فَلَا يَدْخُلُ فِي حُكْمِهَا إلَّا تَبَعًا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَرْقٌ بَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ اللَّفْظُ حُكْمًا وَبَيْنَ مَا يَتْبَعُ مُتَنَاوَلُهُ فِي الْحُكْمِ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَدْلُولٌ حُكْمِيٌّ لِلَّفْظِ مَقْصُودٌ مِنْهُ أَصَالَةً فَيَكُونُ اسْتِثْنَاؤُهُ تَصَرُّفًا فِي الْمَلْفُوظِ : أَيْ فِي مَدْلُولِ اللَّفْظِ حُكْمًا فَيَصِحُّ ، وَالثَّانِي خَارِجٌ عَنْ مَدْلُولِ اللَّفْظِ وَضْعًا وَحُكْمًا غَيْرُ مَقْصُودٍ مِنْهُ أَصْلًا لَكِنَّهُ تَابِعٌ لِمَدْلُولِهِ فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ لَهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِثْنَاؤُهُ تَصَرُّفًا فِي الْمَلْفُوظِ فَلَا يَصِحُّ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ وَالنَّخْلَةُ فِي الْبُسْتَانِ نَظِيرُ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ) يَعْنِي لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْفَصِّ فِي الْإِقْرَارِ بِالْخَاتَمِ وَلَا اسْتِثْنَاءُ النَّخْلَةِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْبُسْتَانِ ، كَمَا لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّارِ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَصِّ وَالنَّخْلَةِ ( يَدْخُلُ فِيهِ ) أَيْ يَدْخُلُ فِي الصَّدْرِ ( تَبَعًا لَا لَفْظًا ) وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَلْفُوظِ كَمَا مَرَّ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا إنَّ الْفَصَّ يَدْخُلُ تَبَعًا لَا لَفْظًا يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا مَرَّ أَنَّ اسْمَ الْخَاتَمِ يَشْمَلُ الْكُلَّ .
أَقُولُ : يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ مُرَادَهُ بِشُمُولِ اسْمِ الْخَاتَمِ الْكُلَّ فِي قَوْلِهِ السَّابِقِ أَعَمُّ مِنْ الشُّمُولِ الْقَصْدِيِّ وَالتَّبَعِيِّ ، وَمُرَادُهُ بِنَفْيِ دُخُولِ الْفَصِّ فِي الْخَاتَمِ فِي قَوْلِهِ اللَّاحِقِ نَفْيُ الدُّخُولِ الْقَصْدِيِّ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا .
قَالَ فِي الْبَدَائِعِ : وَلَوْ أَقَرَّ
لِإِنْسَانٍ بِدَارٍ وَاسْتَثْنَى بِنَاءَهَا لِنَفْسِهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعَرْصَةِ فِي اللُّغَةِ ، وَإِنَّمَا الْبِنَاءُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ فَلَمْ يَكُنْ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكُونُ الدَّارُ مَعَ الْبِنَاءِ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اسْمًا عَامًّا لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ كَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِخَاتَمٍ كَانَ لَهُ الْحَلْقَةُ وَالْفَصُّ لَا لِأَنَّهُ اسْمٌ عَامٌّ ، بَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْحَلْقَةِ وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً بَلْ وُضِعَ دَلَالَةً عَلَى الْعَرْصَةِ مِمَّا لَا يُسَاعِدُهُ كُتُبُ اللُّغَةِ ، أَلَا يَرَى إلَى مَا قَالَ فِي الْمُغْرِبِ : الدَّارُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْبِنَاءِ وَالْعَرْصَةِ ، وَإِلَى مَا قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ : الدَّارُ الْمَحَلُّ يَجْمَعُ الْبِنَاءَ وَالْعَرْصَةَ .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ لَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ جُزْءٌ مِنْ مَعْنَى اسْمِ الدَّارِ ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُخَالِفًا لِمَا قَالَهُ أَوَّلًا مِنْ أَنَّ اسْمَ الدَّارِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبِنَاءَ لُغَةً يَقْتَضِي صِحَّةَ اسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ لِنَفْسِهِ لِلْقَطْعِ بِصِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ الْجُزْءِ مِنْ الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إلَّا وَاحِدًا .
لَا يُقَالُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِالتَّضْمِينِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا الْجُزْئِيَّةِ فَيَئُولُ إلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : مَعَ إبَاءِ قَوْلِهِ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ عَنْ ذَلِكَ التَّوْجِيهِ جِدًّا يَمْنَعُهُ قَوْلُهُ فِي تَنْظِيرِهِ بِمَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْخَاتَمِ بَلْ هُوَ اسْمٌ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ مِنْ الْحَلْقَةِ
وَالْفَصِّ وَلَكِنَّهُ يَتَنَاوَلُهُ بِطَرِيقِ التَّضْمِينِ ، فَإِنَّهُ نَصٌّ فِي دُخُولِ الْفَصِّ كَالْحَلْقَةِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ دُونَ التَّبَعِيَّةِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَسَائِرُ الثِّقَاتِ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا ثُلُثَهَا ) أَيْ إذَا قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِفُلَانٍ إلَّا ثُلُثَهَا ( أَوْ إلَّا بَيْتًا مِنْهَا ) حَيْثُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ وَيَكُونُ لِلْمُقَرِّ لَهُ مَا عَدَا ثُلُثَ الدَّارِ وَمَا عَدَا الْبَيْتَ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثُّلُثِ وَالْبَيْتِ ( دَاخِلٌ فِيهِ ) أَيْ فِي الصَّدْرِ الَّذِي هُوَ الدَّارُ ( لَفْظًا ) وَمَقْصُودًا حَتَّى لَوْ اُسْتُحِقَّ الْبَيْتُ فِي بَيْعِ الدَّارِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ كَذَا قَالُوا .
أَقُولُ : كَوْنُ الْبَيْتِ دَاخِلًا فِي الدَّارِ لَفْظًا وَمَقْصُودًا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَمَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ حَنِثَ ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ دَاخِلًا فِي الدَّارِ لَفْظًا وَمَقْصُودًا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ مَدْلُولِ لَفْظِ الدَّارِ فَلَا يَكُونُ الدَّارُ حِينَئِذٍ اسْمًا لِلْعَرْصَةِ فَقَطْ بَلْ لِمَجْمُوعِ الْعَرْصَةِ وَالْبُيُوتِ ، فَإِذَا انْهَدَمَتْ وَصَارَتْ صَحْرَاءَ لَزِمَ أَنْ تَنْعَدِمَ بِانْعِدَامِ بَعْضِ أَجْزَائِهَا فَلَمْ يَظْهَرْ وَجْهُ الْحِنْثِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْعَجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْبَدَائِعِ أَنَّهُ قَالَ هَاهُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَثْنَى رُبْعَ الدَّارِ أَوْ ثُلُثَهَا أَوْ بَيْتًا مِنْهَا أَنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْنَاءُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِلْعَرْصَةِ فَكَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَصَحَّ انْتَهَى .
فَإِنَّ كَوْنَ الدَّارِ اسْمًا لِلْعَرْصَةِ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي صُورَةِ اسْتِثْنَاءِ الْبَيْتِ مِنْ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَرْصَةِ إذْ الْبَيْتُ اسْمٌ لِبِنَاءٍ مُسْقَفٍ لَهُ حَوَائِطُ أَرْبَعَةٌ عَلَى قَوْلٍ أَوْ
ثَلَاثَةٌ عَلَى قَوْلٍ آخَرَ كَمَا عُرِفَ فِي الْأَيْمَانِ فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ صُفَّةً ، وَالْعَرْصَةُ هِيَ الْبُقْعَةُ كَمَا سَيَأْتِي فَأَنَّى هَذِهِ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَمَا ذَكَرَهُ يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ لَا لَهُ فِي هَاتِيكَ الصُّورَةِ ( وَلَوْ قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ ) وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ أَيْضًا فِي مُخْتَصَرِهِ : يَعْنِي يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقِرِّ وَالْعَرْصَةُ لِفُلَانٍ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّ الْعَرْصَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْبُقْعَةِ دُونَ الْبِنَاءِ ) يَعْنِي أَنَّ الْعَرْصَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةُ عَنْ بُقْعَةٍ لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ ، فَلَمَّا اُعْتُبِرَ فِي مَعْنَاهَا الْخُلُوُّ عَنْ الْبِنَاءِ لَمْ يَتْبَعْهَا الْبِنَاءُ فِي الْحُكْمِ ( فَكَأَنَّهُ قَالَ : بَيَاضُ هَذِهِ الْأَرْضِ دُونَ الْبِنَاءِ لِفُلَانٍ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَكَانَ الْعَرْصَةِ أَرْضًا ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَالْأَرْضُ لِفُلَانٍ ( حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ) مَعَ الْأَرْضِ ( لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ ) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ تَبَعٌ ، وَالْإِقْرَارَ إقْرَارٌ بِالتَّبَعِ ( كَالْإِقْرَارِ بِالدَّارِ ) حَيْثُ يَكُونُ الْبِنَاءُ أَيْضًا لِلْمُقَرِّ لَهُ هُنَاكَ وَإِنْ اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ كَمَا مَرَّ .
فَإِنْ قُلْت : يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا لَوْ قَالَ الْبِنَاءُ لِفُلَانٍ وَالْأَرْضُ لِآخَرَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ حَتَّى يَكُونُ الْبِنَاءُ لِلْأَوَّلِ وَالْأَرْضُ لِلثَّانِي ، وَلَمْ يَقُلْ هُنَاكَ الْإِقْرَارُ بِالْأَرْضِ إقْرَارٌ بِالْبِنَاءِ فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْت : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ فِيمَا أَوْرَدْت إقْرَارٌ مُعْتَبَرٌ بِالْبِنَاءِ لِلْأَوَّلِ فَهَبْ أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ لَكِنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لِغَيْرِهِ لَا يَصِحُّ فَكَانَ لِلثَّانِي الْأَرْضُ خَاصَّةً ، وَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَآخِرُ كَلَامِهِ
إقْرَارٌ بِالْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ وَهُمَا جَمِيعًا مِلْكُهُ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ : بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ فَبَقِيَ قَوْلُهُ وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَصْلِ يُوجِبُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي التَّبَعِ .
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبِنَاءَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لَمَّا صَارَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ حُكْمًا فَإِقْرَارُهُ بِالْأَرْضِ لِلثَّانِي بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبِنَاءِ ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْبِنَاءُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمُقِرِّ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، فَإِقْرَارُهُ بِالْأَرْضِ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ تَبَعًا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ .
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجِنْسَ خَمْسُ مَسَائِلَ وَتَخْرِيجُهَا عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ دُونَ الْعَكْسِ .
وَالثَّانِي أَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِ .
إذَا عَرَفْت هَذَا فَنَقُولُ : إذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِي وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ كَانَتْ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِفُلَانٍ ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ : الْبِنَاءُ لِي ادَّعَى الْبِنَاءَ وَبِقَوْلِهِ : الْأَرْضُ لِفُلَانٍ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالْبِنَاءِ تَبَعًا لِلْإِقْرَارِ بِالْأَرْضِ ، وَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ .
وَإِذَا قَالَ أَرْضُهَا لِي وَبِنَاؤُهَا لِفُلَانٍ فَهُوَ عَلَى مَا أَقَرَّ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَرْضُهَا لِي ادَّعَى الْبِنَاءَ لِنَفْسِهِ تَبَعًا وَبِقَوْلِهِ : وَالْبِنَاءُ لِفُلَانٍ أَقَرَّ بِالْبِنَاءِ لِفُلَانٍ ، وَالْإِقْرَارُ بَعْدَ الدَّعْوَى صَحِيحٌ ، وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِنَقْلِ الْبِنَاءِ مِنْ أَرْضِهِ .
وَإِذَا قَالَ أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَبِنَاؤُهَا لِي فَالْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ : أَرْضُهَا لِفُلَانٍ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالْبِنَاءِ تَبَعًا وَبِقَوْلِهِ وَبِنَاؤُهَا لِي ادَّعَى الْبِنَاءَ لِنَفْسِهِ ، وَالدَّعْوَى
بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَا تَصِحُّ وَإِذَا قَالَ : أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَبِنَاؤُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ فَالْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ : أَرْضُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ صَارَ مُقِرًّا لِفُلَانٍ بِالْبِنَاءِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَبِقَوْلِهِ وَبِنَاؤُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ كَانَ مُقِرًّا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ .
وَإِذَا قَالَ بِنَاءُ هَذِهِ الدَّارِ لِفُلَانٍ وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ فَهُوَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أَوَّلًا بِنَاءُ هَذَا الدَّارِ لِفُلَانٍ صَارَ مُقِرًّا بِالْبِنَاءِ لَهُ وَبِقَوْلِهِ وَأَرْضُهَا لِفُلَانٍ آخَرَ صَارَ مُقِرًّا عَلَى الْأَوَّلِ بِالْبِنَاءِ لِلثَّانِي ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْغَيْرِ بَاطِلٌ ، كَذَا فِي الذَّخِيرَةِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْته مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ ، فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك ) قَالَ : وَهَذَا عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا هَذَا وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيُسَلِّمَ الْعَبْدَ ، وَجَوَابُهُ مَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .
وَالثَّانِي أَنْ يَقُولَ الْمُقَرُّ لَهُ : الْعَبْدُ عَبْدُك مَا بِعْتُكَهُ وَإِنَّمَا بِعْتُك عَبْدًا غَيْرَ هَذَا وَفِيهِ الْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِهِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ سَلَّمَ فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ .
وَالثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ عَبْدِي مَا بِعْتُك .
وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقِرَّ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْمَالِ إلَّا عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ دُونَهُ ، وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّمَا بِعْتُك غَيْرَهُ يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي تَسْلِيمَ مَنْ عَيَّنَهُ وَالْآخَرَ يُنْكِرُ وَالْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَلْفَ بِبَيْعِ غَيْرِهِ وَالْآخَرَ يُنْكِرُهُ ، وَإِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ الْمَالُ ، هَذَا إذَا ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ ( وَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِ مَا قَبَضْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ ، وَإِنْكَارُهُ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُقَارِنَةً كَانَتْ أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ نَسِيَاهُ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِأَمْثَالِهِ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رُجُوعًا فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا أَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ
، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَبَيَّنَ سَبَبًا وَهُوَ الْبَيْعُ ، فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي السَّبَبِ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُقِرِّ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا وَآخِرُهُ يَحْتَمِلُ انْتِفَاءَهُ عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْقَبْضِ وَالْمُغَيِّرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
( وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ ، فَإِنْ ذَكَرَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ : إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك ) إلَى هُنَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( قَالَ ) أَيْ قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( هَذَا ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسْأَلَةِ ( عَلَى وُجُوهٍ : أَحَدُهَا هَذَا ) أَيْ هَذَا الْوَجْهُ ( وَهُوَ أَنْ يُصَدِّقَهُ ) أَيْ أَنْ يُصَدِّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ ( وَيُسَلِّمَ الْعَبْدَ ، وَجَوَابُهُ ) أَيْ جَوَابُ هَذَا الْوَجْهِ ( مَا ذُكِرَ ) مِنْ قَوْلِهِ قِيلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ : فِيهِ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْعَبْدَ كَيْفَ يُقَالُ لَهُ : إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ إلَخْ .
أَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ إنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ لَوْ كَانَ لَفْظُ يُسَلِّمُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَيُسَلِّمُ الْعَبْدَ مَنْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ سَلَّمَهُ لَهُ : أَيْ جَعَلَهُ سَالِمًا لَهُ فَلَا ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْعَبْدِ لِلْمُقِرِّ إنَّمَا تَحْصُلُ بِاعْتِرَافِ الْمُقَرِّ لَهُ بِأَنَّهُ عَبْدُك لَا عَبْدِي ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ هَذَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ إلَى الْمُقِرِّ فَلَا يُنَافِي أَنْ يُقَالَ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ إلَخْ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ سَلَّمَهُ لَهُ مُرَادًا بِهِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ .
وَهَذَا وَمَا سَيَأْتِي فِي فَصْلِ الدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ بَابِ الصُّلْحِ فِي الدَّيْنِ حَيْثُ قَالَ : فَلَوْ سَلَّمَ لَهُ مَا قَبَضَ ثُمَّ تَوَى مَا عَلَى الْغَرِيمِ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ لِيُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَلَمْ يُسَلِّمْ انْتَهَى .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ يُسَلِّمُ هَاهُنَا ثُلَاثِيًّا مِنْ السَّلَامَةِ لَا مِنْ التَّسْلِيمِ وَيَكُونَ الْعَبْدُ فَاعِلًا لَا مَفْعُولًا فَحِينَئِذٍ لَا يُتَوَهَّمُ الْمُنَافَاةُ أَصْلًا .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ جَوَابِ الْوَجْهِ
الْمَذْكُورِ ( لِأَنَّ الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ) يَعْنِي أَنَّهُمَا تَصَادَقَا فِي هَذَا الْوَجْهِ ، وَالثَّابِتُ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .
وَلَوْ عَايَنَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وَالْعَبْدُ فِي يَدِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَذَا هَاهُنَا .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا وَثَبَتَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَالْحُكْمُ الْأَمْرُ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ ثُمَّ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ مَا إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَلَيْسَ مَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ ، فَإِنْ حَكَمْنَا بِذَلِكَ كَانَ حُكْمًا بِمَا لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ .
وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي جَوَابِهِ بِأَنْ قَالَ : وَلَيْتَ شِعْرِي أَنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمُ أَيَّةِ مَسْأَلَةٍ انْتَهَى .
أَقُولُ : مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ ، فَإِنَّ نَفْسَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصَادُقِ لَا يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا الْحُكْمَ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ الْمَذْكُورِينَ مُقْتَضَى الدَّعْوَى وَلَا دَعْوَى فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ، بَلْ فِيهِ إقْرَارٌ مَحْضٌ ، وَحُكْمُهُ لُزُومُ الْأَلْفِ عَلَى الْمُقِرِّ إنْ سَلَّمَ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا إنْ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ بِأَنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي ثُبُوتِ الْبَيْعِ مُعَايَنَةً ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ .
قِيلَ : لِلْمُقَرَّ لَهُ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَخُذْ الْأَلْفَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَك ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ إنْ شِئْت فَسَلِّمْ الْعَبْدَ تَخْيِيرَ الْمُقَرِّ لَهُ بَيْنَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ وَعَدَمِ تَسْلِيمِهِ ، إذْ لَا يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى عَدَمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ أَنْ صَحَّ الْبَيْعُ وَتَمَّ ، بَلْ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ
لُزُومَ الْأَلْفِ عَلَى الْمُقِرِّ مَشْرُوطٌ بِتَسْلِيمِك الْعَبْدَ إلَيْهِ ، فَإِنْ أَرَدْت الْوُصُولَ إلَى حَقِّك فَسَلِّمْ الْعَبْدَ وَلَا تُضَيِّعْهُ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : وَخُذْ الْأَلْفَ خُذْ الْأَلْفَ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ ، إذْ لَا دَلَالَةَ عَلَى التَّعْقِيبِ فِي الْوَاوِ بَلْ هِيَ لِلْجَمْعِ مُطْلَقًا فَلَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ فِي الْبُيُوعِ مِنْ أَنَّ اللَّازِمَ فِي بَيْعِ سِلْعَةٍ بِثَمَنٍ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا ، فَخُلَاصَةُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ هَاهُنَا مَا قَالَ فِي الْوِقَايَةِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُقَرُّ لَهُ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَإِلَّا لَا ( وَالثَّانِي ) أَيْ الْوَجْهُ الثَّانِي ( أَيْ يَقُولُ الْمُقَرُّ لَهُ : الْعَبْدُ عَبْدُك ) أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي عَيَّنْته عَبْدُك ( مَا بِعْتُكَهُ وَإِنَّمَا بِعْتُك عَبْدًا غَيْرَ هَذَا ) وَسَلَّمْته إلَيْك ( وَفِيهِ ) أَيْ فِي هَذَا الْوَجْهِ ( الْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ لِإِقْرَارِهِ بِهِ ) أَيْ بِالْمَالِ ( عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ لَهُ وَقَدْ سُلِّمَ ) أَيْ وَقَدْ سُلِّمَ الْعَبْدُ لَهُ حِينَ اعْتَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ ( فَلَا يُبَالَى بِاخْتِلَافِ السَّبَبِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ) كَمَا لَوْ قَالَ : لَك عَلَيَّ أَلْفٌ غَصَبْته مِنْك وَقَالَ : لَا بَلْ اسْتَقْرَضْت مِنِّي لِأَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ ، وَلَا تَفَاوُتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ ، كَذَا قَالُوا ( وَالثَّالِثُ ) أَيْ الْوَجْهُ الثَّالِثُ ( أَنْ يَقُولَ ) أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ ( الْعَبْدُ عَبْدِي ) أَيْ الْعَبْدُ الَّذِي عَيَّنْته عَبْدِي ( مَا بِعْتُك وَحُكْمُهُ ) أَيْ حُكْمُ هَذَا الْوَجْهِ ( أَنْ لَا يَلْزَمَ الْمُقِرَّ شَيْءٌ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْمَالِ إلَّا عِوَضًا عَنْ الْعَبْدِ فَلَا يَلْزَمُهُ دُونَهُ ) أَيْ فَلَا يَلْزَمُ الْمَالُ دُونَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعَبْدَ لَا يُسَلِّمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَدَلَهُ ، وَلَا
تَفَاوُتَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ أَوْ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ يَأْخُذُ الْمُقَرُّ لَهُ الْعَبْدَ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُ الْمُقِرَّ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، كَذَا قَالُوا .
( وَلَوْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ ) أَيْ وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ مَعَ إنْكَارِ الْعَبْدِ الْمُقَرِّ بِهِ : ( إنَّمَا بِعْتُك غَيْرَهُ ) أَيْ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَبْدِ ( يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَدَّعِي تَسْلِيمَ مَنْ عَيَّنَهُ ) أَيْ وُجُوبَ تَسْلِيمِهِ ( وَالْآخَرُ يُنْكِرُ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ ( الْأَلْفَ ) أَيْ لُزُومَ الْأَلْفِ ( بِبَيْعِ غَيْرِهِ ) أَيْ غَيْرِ مَنْ عَيَّنَهُ ( وَالْآخَرُ يُنْكِرُ ) فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا وَمُنْكِرًا ذَلِكَ وَحُكْمُ ذَلِكَ التَّحَالُفِ ( وَإِذَا تَحَالَفَا بَطَلَ الْمَالُ ) أَيْ بَطَلَ الْمَالُ عَنْ الْمُقِرِّ وَالْعَبْدُ سَالِمٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ ( هَذَا ) أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الْوُجُوهِ ( إذَا ذَكَرَ ) أَيْ الْمُقِرُّ ( عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ) يَعْنِي إنْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ( اشْتَرَيْتُهُ ) مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ ( وَلَمْ يُعَيِّنْهُ ) أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ الْمُقِرُّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى ( لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِهِ مَا قَبَضْت عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) أَيْ سَوَاءٌ وَصَلَ قَوْلَهُ مَا قَبَضْت الْعَبْدَ الْمُشْتَرَى بِكَلَامِهِ السَّابِقِ أَوْ فَصَلَ عَنْهُ ( لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا قَبَضْت ( رُجُوعٌ ) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ( فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ ) أَيْ نَظَرًا إلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا أَوَّلًا فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إذْ هِيَ لِلْإِيجَابِ ( وَإِنْكَارُهُ الْقَبْضَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا ) أَيْ بِالْكُلِّيَّةِ ( لِأَنَّ الْجَهَالَةَ ) أَيْ جَهَالَةَ الْمَبِيعِ ( مُقَارِنَةً كَانَتْ ) كَالْجَهَالَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ ( أَوْ طَارِئَةً بِأَنْ اشْتَرَى عَبْدًا
ثُمَّ نَسِيَاهُ ) أَيْ نَسِيَ الْمُتَعَاقِدَانِ ذَلِكَ الْعَبْدَ ( عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ بِأَمْثَالِهِ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ ) خَبَرُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ : يَعْنِي أَنَّ الْجَهَالَةَ تُوجِبُ هَلَاكَ الْمَبِيعِ : أَيْ تَجْعَلُ الْمَبِيعَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَجْهُولِ ( فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ ) لِأَنَّ نَقْدَ الثَّمَنِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْمَبِيعِ وَقَدْ امْتَنَعَ إحْضَارُهُ بِالْجَهَالَةِ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ نَقْدِ الثَّمَنِ أَيْضًا ( وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ رُجُوعًا ) فَإِنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ وَآخِرَهُ يُوجِبُ سُقُوطَهُ ، وَذَلِكَ رُجُوعٌ ( فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا ) لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : يُشْكِلُ التَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ لَمْ يُلْزِمْ الْمُقِرَّ هُنَاكَ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ مَعَ جَرَيَانِ خُلَاصَةِ هَذَا التَّعْلِيلِ هُنَاكَ أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ : إنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ رُجُوعًا إلَى كَلِمَةِ عَلَيَّ ، وَآخِرَهُ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَصِحَّ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَيَأْتِي فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِقَوْلِهِ قُلْنَا ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ ، وَسَنَذْكُرُ تَتِمَّةَ الْكَلَامِ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ الْمَزْبُورِ كَلَامًا آخَرَ ، وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : فِي تَمَامِ التَّقْرِيبِ كَلَامٌ ، فَإِنَّ ارْتِفَاعَ الْجَهَالَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِالْقَبْضِ بَلْ بِاعْتِرَافِ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ هَذَا وَإِحْضَارِ الْبَائِعِ فَلْيُتَأَمَّلْ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الظَّاهِرُ هُوَ عَدَمُ الِاعْتِرَافِ فَيَبْقَى عَلَى الْجَهَالَةِ انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا الْإِيرَادُ بِشَيْءٍ وَلَا الْجَوَابُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُقِرَّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ الْعَبْدَ فَصَارَ مَجْهُولًا لَمْ يُكَلَّفْ الْمُقَرُّ لَهُ بِإِحْضَارِ ذَلِكَ أَصْلًا ، بَلْ لَمْ يُمْكِنْ لَهُ إحْضَارُهُ لِتَعَذُّرِ إحْضَارِ الْمَجْهُولِ فَأَنَّى يُتَصَوَّرُ إحْضَارُ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ هَاهُنَا حَتَّى يَعْتَرِفَ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهُ هَذَا ، وَإِنْ أَحْضَرَ الْمُقَرُّ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ تَكْلِيفٍ وَاعْتَرَفَ الْمُقِرُّ بِأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ هَذَا الْعَبْدُ فَقَدْ صَارَتْ الْمَسْأَلَةُ مِنْ قَبِيلِ مَا إذَا ذَكَرَ الْمُقِرُّ عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ بِمَعْزِلٍ عَنْهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : الظَّاهِرُ هُوَ عَدَمُ الِاعْتِرَافِ وَقَدْ لَزِمَهُ الْأَلْفُ بِلَا عِوَضٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُحْضِرْ الْبَائِعُ شَيْئًا ، فَهَلْ يُؤْثِرُ الْعَاقِلُ إعْطَاءَ الْأَلْفِ بِلَا عِوَضٍ عَلَى إعْطَائِهِ بِمُقَابَلَةِ مَا أَحْضَرَهُ الْبَائِعُ ، فَالظَّاهِرُ هُوَ الِاعْتِرَافُ عِنْدَ إحْضَارِهِ بِلَا رِيَبٍ ( وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَلَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ) وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ إذَا أَنْكَرَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ) أَيْ إذَا كَذَّبَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي الْجِهَةِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَلْفُ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ ( وَإِنْ أَقَرَّ ) أَيْ إنْ أَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْمُقَرَّ لَهُ ( بَاعَهُ ) أَيْ بَاعَ الْمُقِرَّ ( مَتَاعًا ) يَعْنِي إنْ صَدَّقَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمُقِرَّ فِي الْجِهَةِ بِأَنْ قَالَ : إنَّهُ بَاعَهُ مَتَاعًا وَهُوَ الْعَبْدُ كَمَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ ، وَلَكِنْ كَذَّبَهُ فِي إنْكَارِهِ قَبْضَ الْمَبِيعِ ( فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ ) سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ .
وَإِنَّمَا عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا عَنْ الْمَبِيعِ بِالْمَتَاعِ حَيْثُ قَالَ : وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ
مَتَاعًا وَقَدْ كَانَ وَضَعَ مَسْأَلَةَ الْكِتَابِ فِي الْعَبْدِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَتَاعِ مُطْلَقًا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْعَبْدِ ( وَوَجْهُ ذَلِكَ ) أَيْ وَجْهُ مَا قَالَهُ الْإِمَامَانِ ( أَنَّهُ ) أَيْ الْمُقِرَّ ( أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ( وَبَيَّنَ سَبَبًا ) لَهُ ( وَهُوَ الْبَيْعُ ) حَيْثُ قَالَ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ ( فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ ) يَعْنِي الْمُقَرَّ لَهُ ( فِي السَّبَبِ ) وَهُوَ الْبَيْعُ ( وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ ) أَيْ وَبِمُجَرَّدِ وُجُودِ السَّبَبِ وَهُوَ الْبَيْعُ لَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ قَبْلَ قَبْضِ الْمَبِيعِ فِي حَيِّزِ التَّزَلْزُلِ ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَهْلِكُ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي الْقَبْضَ ( وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ ) أَيْ لِلْمُنْكِرِ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِي عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ شَرْطٌ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَابٍ ، وَقَوْلُهُ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَيَكُونُ لِوُجُودِ الْفَاءِ وَلِعَدَمِ الرَّبْطِ ، فَإِنَّك لَوْ قَدَّرْت كَلَامَهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ التَّعْلِيلِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْعَارٌ بِذَلِكَ وَقَالَ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ جَزَاؤُهُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ لَا يَتَأَكَّدُ لَكِنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ كَانَ الطَّالِبُ مُدَّعِيًا لِلْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : النَّظَرُ الْمَزْبُورُ سَاقِطٌ جِدًّا ، فَإِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ صَالِحٌ لَأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْمَذْكُورِ قَطْعًا ، وَوُجُودُ
الْفَاءِ فِيهِ لَيْسَ بِمَانِعٍ عَنْهُ أَصْلًا ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ الْجَزَاءَ إذَا كَانَ مُضَارِعًا مُثْبَتًا أَوْ مَنْفِيًّا بِلَا فَفِيهِ الْوَجْهَانِ : دُخُولُ الْفَاءِ عَلَيْهِ وَعَدَمُ دُخُولِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَعَدَمُ الرَّبْطِ فِيهِ مَمْنُوعٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ وَبِهِ لَا يَتَأَكَّدُ الْوُجُوبُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ وَقَعَ قَيْدًا لِلشَّرْطِ الْمَزْبُورِ فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ فَإِنْ وَافَقَهُ الطَّالِبُ فِي السَّبَبِ ، وَالْحَالُ أَنَّهُ بِمُجَرَّدِ السَّبَبِ لَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُ الْقَبْضَ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ .
وَلَا يَخْفَى عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَرْبُوطًا بِالشَّرْطِ الْمَزْبُورِ مُقَيَّدًا بِالْقَيْدِ الْمَذْكُورِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَرْبُوطًا بِهِ عَارِيًّا عَنْ ذَلِكَ الْقَيْدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ جَزَاءٍ مَحْذُوفٍ كَمَا تَمَحَّلَهُ ذَلِكَ الشَّارِحُ ( وَإِنْ كَذَّبَهُ ) أَيْ وَإِنْ كَذَّبَ الطَّالِبُ الْمُقِرَّ ( فِي السَّبَبِ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُقِرِّ بَيَانًا مُغَيِّرًا لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ( لِلْوُجُوبِ مُطْلَقًا ) رُجُوعًا عَنْ كَلِمَةِ عَلَيَّ ( وَآخِرُهُ ) أَيْ آخِرُ كَلَامِهِ ( يَحْتَمِلُ انْتِفَاءَهُ ) أَيْ انْتِفَاءَ الْوُجُوبِ ( عَلَى اعْتِبَارِ عَدَمِ الْقَبْضِ ) فَصَارَ مُغَيِّرًا لِمُقْتَضَى أَوَّلِ كَلَامِهِ ( وَالْمُغَيِّرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا ) كَالِاسْتِثْنَاءِ .
( وَلَوْ قَالَ ابْتَعْتُ مِنْهُ بَيْعًا إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ الْقَبْضُ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ .
قَالَ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ) وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ( لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) لِأَنَّهُ رُجُوعٌ لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا وَأَوَّلُ كَلَامِهِ لِلْوُجُوبِ ( وَقَالَا : إذَا وَصَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ) لِأَنَّهُ بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
قُلْنَا : ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ .
( وَلَوْ قَالَ ابْتَعْت مِنْهُ بَيْعًا ) أَيْ مَبِيعًا ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ : عَيْنًا ( إلَّا أَنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) أَيْ قَوْلُ الْمُقِرِّ ( بِالْإِجْمَاعِ ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا عَلَى مَسْأَلَةِ الْقُدُورِيِّ وَقَالَ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ الْقَبْضُ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقِرَّ هَاهُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ ، إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْبَيْعِ قَبْضُ الْمَبِيعِ حَتَّى يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي ( بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ ) فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَبْضَ .
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : هَذَا مَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ أَنْ لَوْ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَوَّلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبُيُوعِ انْتَهَى .
أَقُولُ : وَهَذَا النَّظَرُ أَيْضًا سَاقِطٌ ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا هُوَ الْإِقْرَارُ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ الْغَيْرِ الْمُعَيَّنِ ، إذْ هُوَ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْمُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ إنْكَارَ الْقَبْضِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يُنَافِي الْوُجُوبَ أَصْلًا ، فَلَا بُدَّ فِي نَفَاذِ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ الْغَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْ قَبْضِهِ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَبْضُ ( قَالَ ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ ( وَكَذَا لَوْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ ) أَيْ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْقُدُورِيُّ ( إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَزِمَهُ الْأَلْفُ وَلَمْ يُقْبَلْ تَفْسِيرُهُ ) يَعْنِي قَوْلَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ( عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّهُ ) أَيْ لِأَنَّ تَفْسِيرَهُ رُجُوعٌ عَنْ إقْرَارِهِ ( لِأَنَّ ثَمَنَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا ) عَلَى الْمُسْلِمِ ( وَأَوَّلُ كَلَامِهِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ الْأَلْفُ (
لِلْوُجُوبِ ) وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ ( وَقَالَا ) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( إذَا وَصَلَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ ) أَيْ الْمُقِرَّ ( بَيَّنَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ ) أَيْ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ ( الْإِيجَابَ ) لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ بَنَى إقْرَارَهُ عَلَى عَادَةِ الْفَسَقَةِ ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ وَقَدْ اعْتَادَ الْفَسَقَةُ شِرَاءَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ .
أَقُولُ : هَذَا لَا يَتَمَشَّى فِيمَا إذَا قَالَ مِنْ ثَمَنِ خِنْزِيرٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ أَنْ يَبْنِيَ إقْرَارَهُ عَلَى عَادَةِ الْفَسَقَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي صُورَةِ أَنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، إذْ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ شِرَاءُ الْخِنْزِيرِ وَلَا أَدَاءُ ثَمَنِهِ أَصْلًا فَضْلًا عَنْ اعْتِيَادِهِمْ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا عَادَةُ الْكُفَّارِ فَلَا تَصْلُحُ لَأَنْ تُجْعَلَ مَبْنَى الْكَلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُسْلِمِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَالدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا مِنْ قَبْلِهِمَا مَسُوقٌ لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ ( وَصَارَ ) أَيْ صَارَ آخِرُ كَلَامِهِ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ( كَمَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ) فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ هُنَاكَ إذَا وَصَلَ فَكَذَا هَاهُنَا .
أَجَابَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذَا الْقِيَاسِ بِقَوْلِهِ ( قُلْنَا ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ مِنْ بَابِ بَيَانِ التَّغْيِيرِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ إبْطَالٌ وَالْإِبْطَالُ لَا يَكُونُ بَيَانًا فَلَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا .
أَقُولُ : فِيهِ كَلَامٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ إمَّا إبْطَالٌ أَوْ تَعْلِيقٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ
الْمُعْتَبَرَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَذْهَبُ أَبِي يُوسُفَ وَالثَّانِيَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْعَكْسِ ، فَأَيَّا مَا كَانَ لَا يَكُونُ هَذَا الْجَوَابُ حُجَّةً عَلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ ذَاكَ أَيْضًا إبْطَالًا .
وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ هُنَاكَ : فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ : يَعْنِي الْإِبْطَالَ فَقَدْ بَطَلَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي : يَعْنِي التَّعْلِيقَ فَكَذَلِكَ ، إمَّا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، أَوْ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الطَّلَاقِ فَحَصَلَ مِنْهُ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ تَعْلِيقًا فِي أَصْلِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ بَلْ هُوَ إبْطَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَيْفَ يَتِمُّ قَوْلُهُ هَاهُنَا ذَاكَ تَعْلِيقٌ وَهَذَا إبْطَالٌ .
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ هَاهُنَا مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَصِيرُ إلْزَامِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ قَالَ مِنْهُمَا يَكُونُ ذَلِكَ إبْطَالًا ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ إلْزَامِيًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ تَعْلِيقًا حَقِيقَةً ، إلَّا أَنَّهُ فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي قَدْحِ قِيَاسِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَسْأَلَةِ مَا إذَا قَالَ فِي آخِرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ بِتَعْلِيقٍ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى ، وَإِنَّمَا هِيَ إبْطَالٌ مَحْضٌ ، وَأَمَّا تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ فَتَعْلِيقٌ صُورَةً وَإِنْ كَانَتْ إبْطَالًا مَعْنًى فَافْتَرَقَتَا ، تَأَمَّلْ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقُدُورِيَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي مُخْتَصَرِهِ خِلَافًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْكَافِي فَأَخَذَ الْمُصَنِّفُ مِنْهُ .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ فِيمَا إذَا كَذَّبَهُ الطَّالِبُ ، وَأَمَّا إذَا صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِهِ جَمِيعًا لِأَنَّ
الثَّابِتَ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِيمَا إذَا قَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ ، صَرَّحَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ جِيَادٌ لَزِمَهُ الْجِيَادُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا : إنْ قَالَ مَوْصُولًا يُصَدَّقُ ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا لَا يُصَدَّقُ ) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ إلَّا إنَّهَا زُيُوفٌ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ .
لَهُمَا أَنَّهُ بَيَانٌ مُغَيِّرٌ فَيَصِحُّ بِشَرْطِ الْوَصْلِ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ .
وَهَذَا لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ وَالسَّتُّوقَةُ بِمَجَازِهِ ، إلَّا أَنَّ مُطْلَقَهُ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ ، وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ وَدَعْوَى الْعَيْبِ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ بِعْتُكَهُ مَعِيبًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهِ سَلِيمًا فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا ، وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَى الثَّمَنِ فَكَانَ رُجُوعًا .
وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءً لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ ، فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا .
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُوجِبُ رَدَّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ ، وَقَدْ يَكُونُ زَيْفًا كَمَا فِي الْغَصْبِ .
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْجِيَادِ فَانْصَرَفَ مُطْلَقُهُ إلَيْهَا .
( وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ
دِرْهَمٍ زُيُوفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ قِيلَ يُصَدَّقُ ) بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا ( وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ ) لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعُقُودِ لِتَعَيُّنِهَا مَشْرُوعَةً لَا إلَى الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ .
( وَلَوْ قَالَ اغْتَصَبْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ قَالَ أَوْدَعَنِي ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَيُودِعُ مَا يَمْلِكُ فَلَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ وَلَا تَعَامُلَ فَيَكُونُ بَيَانَ النَّوْعِ فَيَصِحُّ وَإِنْ فَصَلَ ، وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ رَادُّ الْمَغْصُوبِ الْوَدِيعَةِ بِالْمَعِيبِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ مَفْصُولًا اعْتِبَارًا بِالْقَرْضِ إذْ الْقَبْضُ فِيهِمَا هُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ .
وَلَوْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَوَصَلَ صُدِّقَ ، وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ السَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ لَكِنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهَا مَجَازًا فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْوَصْلِ ( وَإِنْ قَالَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَلْفًا ثُمَّ قَالَ إلَّا أَنَّهُ يَنْقُصُ كَذَا لَمْ يُصَدَّقْ وَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ ) لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْمِقْدَارِ وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِحُّ مَوْصُولًا ، بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّهَا وَصْفٌ وَاسْتِثْنَاءُ الْأَوْصَافِ لَا يَصِحُّ ، وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْمِقْدَارَ دُونَ الْوَصْفِ وَهُوَ تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَ الْفَصْلُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ فَهُوَ وَاصِلٌ لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ .
( وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ ) أَيْ أَلْفُ دِرْهَمٍ ( مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ أَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ ) جَمْعُ زَيْفٍ وَهُوَ مَا يَقْبَلُهُ التُّجَّارُ وَيَرُدُّهُ بَيْتُ الْمَالِ ( أَوْ نَبَهْرَجَةٌ ) وَهِيَ دُونَ الزُّيُوفِ فَإِنَّهَا مِمَّا يَرُدُّهُ التُّجَّارُ أَيْضًا ( وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ جِيَادٌ لَزِمَهُ الْجِيَادُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَا ) أَيْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ( إنْ قَالَا مَوْصُولًا ) أَيْ إنْ ذَكَرَ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ السَّابِقِ ( يُصَدَّقُ ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا ) أَيْ إنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مَفْصُولًا عَنْهُ ( لَا يُصَدَّقُ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
أَقُولُ : تَحْرِيرُهَا عَلَى النَّمَطِ الْمَذْكُورِ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ قُصُورٍ ، فَإِنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَلْزَمَهُ الْجِيَادُ سَوَاءٌ وَصَلَ قَوْلَهُ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ أَمْ فَصَلَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَيَقْتَضِيهِ بَيَانُ الْخِلَافِ ، إلَّا أَنَّ كَلِمَةَ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ قَالَ : هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ يَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ كَمَا لَا يَخْفَى فَتُوُهِّمَ اخْتِصَاصُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِصُورَةِ الْفَصْلِ وَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ صَاحِبَيْهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنْ يَذْكُرَ الْوَاوَ بَدَلَ ثُمَّ كَمَا وَقَعَ فِي كَلَامِ الْحَاكِمِ الشَّهِيدِ فِي الْكَافِي حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الْقَرَارِ بِالزُّيُوفِ : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ مَبِيعٍ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : وَإِنْ وَصَلَ يُصَدَّقْ ، وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقْ .
وَهَكَذَا ذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ وَشَيْخُ الْإِسْلَامِ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي ، وَعَلَى هَذَا نَصَّ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ هِيَ ) أَيْ الْأَلْفُ ( سَتُّوقَةٌ ) وَهِيَ أَرْدَأُ مِنْ
النَّبَهْرَجَةِ ( أَوْ رَصَاصٌ ) أَيْ أَوْ قَالَ هِيَ رَصَاصٌ فَلَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ وَيُصَدَّقُ عِنْدَهُمَا إنْ وَصَلَ ، وَلَكِنْ هَذَا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ لَا يُصَدَّقُ هَاهُنَا وَإِنْ وَصَلَ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
كَذَا فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لِلْإِمَامِ قَاضِي خَانْ وَالْإِمَامِ التُّمُرْتَاشِيِّ ( وَعَلَى هَذَا ) أَيْ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ( إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ ) بِكَلِمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ( وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ ) بِالْجَرِّ ، وَتَجْرِي الصِّفَةُ عَلَى الْمَجْرُورِ الْمَعْدُودِ دُونَ الْعَدَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } كَذَا فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ .
أَقُولُ : فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْجِيهِ وَصْفِ الْمُفْرَدِ بِالْجَمْعِ فَتَأَمَّلْ ( مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ ) هَذَا تَتِمَّةُ كَلَامِ الْمُقِرِّ ( لَهُمَا ) أَيْ لِأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْخِلَافِيَّةِ ( أَنَّهُ ) أَيْ مَا قَالَهُ الْمُقِرُّ آخِرًا ( بَيَانٌ مُغَيِّرٌ ) لِمَا قَالَهُ أَوَّلًا ( فَيَصِحُّ مَوْصُولًا ) أَيْ بِشَرْطِ الْوَصْلِ ( كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ) فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا لِكَوْنِهِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ ( وَهَذَا ) أَيْ كَوْنُ آخِرِ كَلَامِ الْمُقِرِّ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ بَيَانًا مُغَيِّرًا ( لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ ) فَإِنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِيفَاءُ فِي الصَّرْفِ أَوْ السَّلَمِ وَلَا يَصِيرُ اسْتِبْدَالًا ( وَالسَّتُّوقَةَ بِمَجَازِهِ ) أَيْ وَيَحْتَمِلُ السَّتُّوقَةَ بِمَجَازِهِ لِأَنَّهَا تُسَمَّى دَرَاهِمَ مَجَازًا فَأَمْكَنَ أَنْ يَتَوَقَّفَ صَدْرُ الْكَلَامِ عَلَى عَجُزِهِ ( إلَّا أَنَّ مُطْلَقَهُ ) أَيْ مُطْلَقَ اسْمِ الدَّرَاهِمِ ( يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ ) لِأَنَّ بِيَاعَاتِ النَّاسِ تَكُونُ بِالْجِيَادِ عَادَةً ( فَكَانَ ) أَيْ فَكَانَ ذِكْرُ الزُّيُوفِ أَوْ السَّتُّوقَةِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ ( بَيَانًا مُغَيِّرًا ) لِمَا
اقْتَضَاهُ أَوَّلُ الْكَلَامِ ( مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ) أَيْ مِنْ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ كَانَ بَيَانًا مِنْ جِهَةِ الِاحْتِمَالِ وَمُغَيِّرًا مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَةِ الْعَادَةِ فَصَحَّ مَوْصُولًا ( وَصَارَ ) أَيْ صَارَ حُكْمُ هَذَا ( كَمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ ) أَوْ سِتَّةٍ وَنَقْدُ بَلَدِهِمْ وَزْنُ سَبْعَةٍ صُدِّقَ إنْ كَانَ مَوْصُولًا وَلَمْ يُصَدَّقْ إنْ كَانَ مَفْصُولًا .
أَقُولُ : لَوْ تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ فِي أَثْنَاءِ التَّعْلِيلِ لِذِكْرِ النَّبَهْرَجَةِ أَيْضًا لَكَانَ أَوْجَهَ لِأَنَّهَا مَذْكُورَةٌ أَيْضًا فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ .
فَإِنْ قُلْت : النَّبَهْرَجَةُ كَالزُّيُوفِ فِي كَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ كَمَا صُرِّحَ بِهِ فِي مَسَائِلَ شَتَّى مِنْ كِتَابِ الْقَضَاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يُكْتَفَى فِي التَّعْلِيلِ بِذِكْرِ حَالِ الزُّيُوفِ .
قُلْت : رَدَاءَةُ النَّبَهْرَجَةِ دُونَ رَدَاءَةِ الزُّيُوفِ كَمَا نُبِّهَ عَلَيْهِ هُنَاكَ أَيْضًا ، فَكَانَ الْأَوْلَى الِاكْتِفَاءَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَدْنَى لِيُعْلَمَ بِهِ حَالُ مَا فَوْقِهِ بِالْأَوْلَوِيَّةِ .
ثُمَّ أَقُولُ : إنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَحْتَمِلُ الزُّيُوفَ بِحَقِيقَتِهِ وَالسَّتُّوقَةَ بِمَجَازِهِ لَا يُسَاعِدُهُ مَا ذُكِرَ فِي مُعْتَبَرَاتِ كُتُبِ اللُّغَةِ كَالصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا دِرْهَمٌ سَتُّوقٌ وَتُسْتُوقٌ : أَيْ زَيْفٌ نَبَهْرَجٌ فَكَيْفَ يَكُونُ اسْمُ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً فِي الْمُفَسَّرِ مَجَازًا فِي الْمُفَسِّرِ فَتَأَمَّلْ ( وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذَا ) أَيْ مَا قَالَهُ الْمُقِرُّ آخَرُ ( رُجُوعٌ ) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا وَدَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يُقْبَلُ وَإِنْ وَصَلَ وَذَلِكَ ( لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وَصْفَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ ) لِأَنَّ مُوجِبَهُ سَلَامَةُ الْبَدَلِ الْمُسْتَحَقِّ بِهِ عَنْ الْعَيْبِ ( وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ ) فِي الدَّرَاهِمِ ( وَدَعْوَى الْعَيْبِ رُجُوعٌ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِهِ ) أَيْ عَنْ بَعْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ ، فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ فَقَدْ أَرَادَ إبْطَالَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَلَا يُصَدَّقُ ،
وَإِنْ وَصَلَ ( وَصَارَ ) حُكْمُ هَذَا ( كَمَا إذَا قَالَ ) الْبَائِعُ ( بِعْتُكَهُ مَعِيبًا وَقَالَ الْمُشْتَرِي بِعْتَنِيهِ سَلِيمًا فَالْقَوْلُ ) هُنَاكَ ( لِلْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا ) أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ ، فَكَذَا هَاهُنَا ، فَحَاصِلُ اخْتِلَافِهِمْ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ الزُّيُوفَ هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ أَمْ لَا .
فَأَبُو حَنِيفَةَ رَجَّحَ جَانِبَ الْعَيْبِ فِيهَا فَلَمْ يُدْخِلْهَا تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى كَانَ دَعْوَى الزِّيَافَةِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ أَوَّلًا بِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ ، وَهُمَا أَدْخَلَاهَا تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ ، حَتَّى كَانَ دَعْوَى الزِّيَافَةِ بَعْدَ ذِكْرِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ بَيَانَ تَغْيِيرٍ كَمَا فِي الشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ ، كَذَا فِي الْأَسْرَارِ وَغَيْرِهِ ( وَالسَّتُّوقَةُ لَيْسَتْ مِنْ الْأَثْمَانِ ) أَيْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ ( وَالْبَيْعُ يُرَدُّ عَلَى الثَّمَنِ ) فَلَمْ تَكُنْ السَّتُّوقَةُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْعَقْدِ ( فَكَانَ ) أَيْ فَكَانَ قَوْلُهُ الْآخَرُ ( رُجُوعًا ) عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا : أَيْ فَكَانَ دَعْوَى السَّتُّوقَةِ بِتَأْوِيلِ الِادِّعَاءِ رُجُوعًا مِنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَصِحَّ مَفْصُولًا وَلَا مَوْصُولًا ( وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءً ) هَذَا جَوَابٌ عَمَّا اسْتَشْهَدَا بِهِ .
تَقْرِيرُهُ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ اسْتِثْنَاءً ( لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ ) وَاسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْمِقْدَارِ صَحِيحٌ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ يَتَنَاوَلُ الْقَدْرَ فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْمَلْفُوظِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ ( بِخِلَافِ الْجَوْدَةِ ) أَيْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ ، فَإِنَّ فِي قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ اسْتِثْنَاءً لِلدَّرَاهِمِ الْجَيِّدَةِ عَنْ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ وَالْجَوْدَةُ وَصْفٌ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهَا ( لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ ) لِعَدَمِ تَنَاوُلِ صَدْرِ الْكَلَامِ إيَّاهُ قَصْدًا بَلْ تَبَعًا ( كَاسْتِثْنَاءِ
الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ ) عَلَى مَا مَرَّ بَيَانُهُ .
قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : اسْتِثْنَاءُ الْوَصْفِ لَا يَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَيْفَ صَحَّحَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ اسْتِثْنَاءَ الزِّيَافَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ؟ قُلْنَا : صَحَّحَا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَالزِّيَافَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَيْنٌ لَا وَصْفٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا نَقْدُ بَلَدِ كَذَا وَنَقْدُ ذَلِكَ الْبَلَدِ زُيُوفٌ ، وَهُنَاكَ صَحَّ هَذَا الْبَيَانُ مَوْصُولًا بِالْإِجْمَاعِ ، وَهَذَا فِي مَعْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ فَصَارَ ذَلِكَ نَوْعًا لِلدَّرَاهِمِ لَا وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْحِنْطَةِ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ ، إلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَسْرَارِ وَالْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ انْتَهَى .
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ عَنْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَهَاهُنَا بَحْثٌ ، إذْ حِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْبَلَ إذَا فَصَلَ فَتَأَمَّلْ .
أَقُولُ : بَحْثُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ هَذَا الْبَيَانَ وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمَا بَيَانُ نَوْعِ الدَّرَاهِمِ إلَّا أَنَّهُ بَيَانُ تَغْيِيرٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ وَالْجَوْدَةَ عُرْفًا ، فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ نَوْعِ الزُّيُوفِ مِنْ الدَّرَاهِمِ تَغْيِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ بَيَانَ تَغْيِيرٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَمَا مَرَّ ، وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ الْفَاضِلُ فِي الْغَلَطِ مِنْ قَوْلِ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : فَصَارَ ذَلِكَ نَوْعًا لِلدَّرَاهِمِ لَا وَصْفًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْحِنْطَةِ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ يُقْبَلُ ، وَإِنْ فَصَلَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ إلَّا أَنَّ مُرَادَهُمَا أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فِي الْحِنْطَةِ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ فِي مُجَرَّدِ كَوْنِهِ نَوْعًا لَا وَصْفًا لَا فِي الِاتِّحَادِ فِي جِهَةِ الْبَيَانِ ، كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحُوا
بِأَنَّ هَذَا بَيَانُ تَغْيِيرٍ وَذَاكَ بَيَانُ التَّفْسِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ ( بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ ) أَيْ مُنَوَّعَةٌ ( لَا عَيْبٌ ) لِأَنَّ الْعَيْبَ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ وَالْحِنْطَةُ قَدْ تَكُونُ رَدِيئَةً فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَكَانَتْ الرَّدِيئَةُ نَوْعًا مِنْهَا وَلِهَذَا قَالُوا : لَوْ اشْتَرَى حِنْطَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَوَجَدَهَا رَدِيئَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ( فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا ) أَيْ عَنْ الرَّدَاءَةِ ، إذْ لَيْسَ لِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مُقْتَضًى فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِالْحِنْطَةِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيئَةٌ فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَغْيِيرُ مُوجَبِ أَوَّلِ كَلَامِهِ فَصَحَّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ .
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يُسْتَثْنَى الْوَصْفُ كَمَا إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ ضِدُّ الْجَوْدَةِ فَهُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى مَوْضُوعٍ وَاحِدٍ .
أَجَابَ بِقَوْلِهِ : لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ .
فَإِنْ قِيلَ : فَالْجَوْدَةُ كَذَلِكَ لِمَا مَرَّ أَنَّهُمَا ضِدَّانِ دَفْعًا لِلتَّحَكُّمِ .
أُجِيبَ بِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ مُنَوَّعَةٌ لَا عَيْبٌ وَفِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ انْتَهَى .
أَقُولُ : فِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّ مُفَادَ الْجَوَابِ الثَّانِي أَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ وَفِي الْحِنْطَةِ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ لَا أَنَّهَا فِي الدَّرَاهِمِ وَصْفٌ وَفِي الْحِنْطَةِ لَيْسَتْ بِوَصْفٍ ، فَلَا يَنْدَفِعُ بِهِ أَصْلُ السُّؤَالِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ نَقْضُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ بِجَوَازِ اسْتِثْنَاءِ وَصْفِ الرَّدَاءَةِ فِي الْحِنْطَةِ .
عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْدَفِعُ بِهِ السُّؤَالُ الثَّانِي أَيْضًا لِأَنَّ حَاصِلَهُ طَلَبُ الْفَرْقِ بَيْنَ رَدَاءَةِ
الْحِنْطَةِ وَجَوْدَةِ الدَّرَاهِمِ .
وَمُفَادُ الْجَوَابِ عَنْهُ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ رَدَاءَةِ الْحِنْطَةِ وَرَدَاءَةِ الدَّرَاهِمِ .
ثُمَّ أَقُولُ : الْبَاعِثُ عَلَى شَرْحِهِ الْمَقَامَ بِالْوَجْهِ الْمَزْبُورِ هُوَ أَنَّهُ حَسِبَ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ : بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ إلَخْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي قُبَيْلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْوَصْفِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِثْنَاءِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ ، وَلَكِنْ لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ أَنَّ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا ذَكَرَهُ فِي أَوَائِلِ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُهُ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ ، وَالزِّيَافَةُ عَيْبٌ يُرْشَدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ هَاهُنَا فَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْهَا بَعْدَ قَوْلِهِ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ .
ثُمَّ أَقُولُ : وَأَمَّا السُّؤَالُ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ بِقَوْلِهِ : فَإِنْ قِيلَ يُسْتَثْنَى الْوَصْفُ كَمَا إذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ .
فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ : لَيْسَ هُنَاكَ اسْتِثْنَاءٌ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ بَيَانٌ وَتَفْسِيرٌ لِلْحِنْطَةِ فِي قَوْلِهِ عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ فِي صُورَةِ الِاسْتِثْنَاءِ ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي قَالَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ كُرُّ بُرٍّ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ قَرْضٍ ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ، لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فِي الْبُرِّ انْتَهَى حَيْثُ بَدَّلَ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ بِقَوْلِهِ هُوَ رَدِيءٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مَطْمَحُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ إنَّ الرَّدَاءَةَ فِي مِثْلِ الْبُرِّ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ ، فَظَهَرَ أَنَّ جَعْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ نَوْعٌ لَا عَيْبٌ جَوَابًا عَنْ
السُّؤَالِ الْمَزْبُورِ مِنْ ضِيقِ الْعَطَنِ .
فَإِنْ قُلْت : لِلسُّؤَالِ الْمَزْبُورِ جَوَابٌ آخَرُ أَظْهَرُ مِمَّا ذَكَرْته ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : إلَّا أَنَّهَا رَدِيئَةٌ لَيْسَ لِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْفِ وَهُوَ الرَّدَاءَةُ بَلْ لِاسْتِثْنَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ الرَّدِيئَةُ ، فَالْمُرَادُ اسْتِثْنَاءُ نَوْعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ وَهُوَ صَحِيحٌ بِلَا رَيْبٍ فَلِمَ تَرَكْت هَذَا الْجَوَابَ ؟ قُلْت : لِأَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَا إذَا قَالَ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ عِنْدَهُ مَعَ جَرَيَانِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَيْسَ لِاسْتِثْنَاءِ الْوَصْفِ وَهُوَ الزِّيَافَةُ بَلْ لِاسْتِثْنَاءِ الْعَيْنِ وَهُوَ الدَّرَاهِمُ الزُّيُوفُ ، وَنَحْنُ الْآنَ بِصَدَدِ تَتْمِيمِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا مَجَالَ لِلتَّشَبُّثِ بِذَلِكَ الْجَوَابِ هَاهُنَا فَتَدَبَّرْ ( وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ ) الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ الْجَامِعَانِ وَالزِّيَادَاتُ وَالْمَبْسُوطُ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَعَنْ الْأَمَالِي وَالنَّوَادِرِ وَالرُّقَيَّاتِ وَالْهَارُونِيَّاتِ والْكَيْسانِيَّاتِ بِغَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ ) يَعْنِي فِي الْقَرْضِ ، كَذَا وَقَعَ فِي النِّهَايَةِ .
وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهَذَا الْقَيْدِ فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِأَنْ قَالَ : وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ فِي الْقَرْضِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الزُّيُوفِ إذَا وَصَلَ يَعْنِي إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ هِيَ زُيُوفٌ يُصَدَّقُ عِنْدَهُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ إذَا وَصَلَ قَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ بِقَوْلِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ ، أَمَّا إذَا قَطَعَ كَلَامَهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ هِيَ زُيُوفٌ لَا يُصَدَّقُ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ ( لِأَنَّ الْقَرْضَ يُوجِبُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَقْرَضَ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالْقَبْضِ فَالْقَرْضُ يُوجِبُ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ ( وَقَدْ يَكُونُ ) الْمَقْبُوضُ فِي الْقَرْضِ ( زَيْفًا كَمَا فِي الْغَصْبِ ) فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ
الزَّيْفُ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُقْضَى بِالْمِثْلِ كَالْغَصْبِ فَيُصَدَّقُ فِيهِ كَمَا يُصَدَّقُ فِي الْغَصْبِ .
أَقُولُ : لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي أَنْ يُصَدَّقَ فِي الزُّيُوفِ فِي الْقَرْضِ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ كَمَا فِي الْغَصْبِ عَلَى مَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي صُورَةِ الْقَرْضِ إذَا فَصَلَ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ( وَوَجْهُ الظَّاهِرِ ) أَيْ وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ( أَنَّ التَّعَامُلَ بِالْجِيَادِ ) يَعْنِي أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي التَّعَامُلِ هُوَ الْجِيَادُ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ( فَانْصَرَفَ مُطْلَقُهُ ) أَيْ مُطْلَقُ الْقَرْضِ ( إلَيْهَا ) أَيْ إلَى الْجِيَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْجِيَادُ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ دَعْوَى الزِّيَافَةِ لِأَنَّهَا رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ .
( وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ ) أَيْ وَلَوْ أَرْسَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ وَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ ( قِيلَ يُصَدَّقُ بِالْإِجْمَاعِ ) يَعْنِي إذَا وَصَلَ ( لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا ) أَيْ يَتَنَاوَلُ الزُّيُوفَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَصْرِفُهَا إلَى الْجِيَادِ ( وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ ) قَائِلُ هَذَا هُوَ الْكَرْخِيُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : أَيْ لَا يُصَدَّقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ وَلَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ ، فَحَصَلَ الْمَعْنَى : وَقِيلَ هُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ السَّابِقِ أَيْضًا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ( لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ ) بِالدَّيْنِ ( يَنْصَرِفُ إلَى الْعُقُودِ ) أَيْ إلَى الْإِلْزَامِ بِسَبَبِ الْعُقُودِ ( لِتَعَيُّنِهَا مَشْرُوعَةً ) أَيْ لِكَوْنِهَا هِيَ الْمَشْرُوعَةَ ( لَا إلَى الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ ) أَيْ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْإِلْزَامِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ الْمُحَرَّمِ ، إذْ لَا يَجُوزُ حَمْلُ أَمْرِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحَرَامِ مَا أَمْكَنَ ، فَصَارَ هَذَا وَمَا بَيْنَ سَبَبِ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ .
قَالَ فِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى : وَلَوْ أَرْسَلَ وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجِهَةَ ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ : لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأُصُولِ .
فَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ هُوَ هَذَا الِاخْتِلَافُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَاهُنَا يُصَدَّقُ إجْمَاعًا لِأَنَّ الْجَوْدَةَ تَجِبُ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَا تَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ انْتَهَى .
( وَلَوْ قَالَ اغْتَصَبْت مِنْهُ أَلْفًا أَوْ قَالَ أَوْدَعَنِي ) أَيْ أَوْدَعَنِي أَلْفًا ( ثُمَّ قَالَ هِيَ زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ صُدِّقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَيُودِعُ مَا يَمْلِكُ فَلَا مُقْتَضَى لَهُ ) أَيْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغَصْبِ وَالْإِيدَاعِ ( وَلَا تَعَامُلَ ) بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ
يَقْتَضِيهَا فِي الْجِيَادِ : أَيْ وَلَا تَعَامُلَ فِي غَصْبِ الْجِيَادِ وَلَا فِي إيدَاعِهَا ، بِخِلَافِ الْقَرْضِ فَإِنَّ التَّعَامُلَ فِيهِ بِالْجِيَادِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ هِيَ زُيُوفٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِغَصْبِ الْأَلْفِ أَوْ إيدَاعِهَا تَغْيِيرًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ ( فَيَكُونُ بَيَانَ النَّوْعِ فَيَصِحُّ وَإِنْ فَصَلَ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَفِيهِ نَظَرٌ .
لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ فَيَكُونُ ذِكْرُ الزَّيْفِ رُجُوعًا فَلَا يُقْبَلُ أَصْلًا ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا مُغَيِّرًا فَلَا يُقْبَلُ مَفْصُولًا انْتَهَى .
أَقُولُ : هَذَا النَّظَرُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الزِّيَافَةِ عَيْبًا فِي الدَّرَاهِمِ كَوْنُ ذِكْرِ الزُّيُوفِ رُجُوعًا أَوْ بَيَانًا مُغَيِّرًا إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ أَوَّلُ كَلَامِ الْمُقِرِّ الْمَعْيُوبَ وَغَيْرَ الْمَعْيُوبِ عَلَى السَّوَاءِ ، بَلْ كَانَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْمَعْيُوبِ وَهُوَ الْجِيَادُ ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ تَحَقُّقِ الْمُقْتَضَى كَمَا فِي الْبَيْعِ أَوْ التَّعَامُلِ كَمَا فِي الْقَرْضِ .
وَإِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ عَدَمُ تَحَقُّقِ مُقْتَضَى الْجِيَادِ وَلَا التَّعَامُلُ بِهَا فِي الْغَصْبِ وَالْإِيدَاعِ تَعَيَّنَ تَنَاوُلُ أَوَّلِ كَلَامِ الْمُقِرِّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ عَلَى السَّوَاءِ فَلَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الزُّيُوفِ فِي آخِرِ كَلَامِهِ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَصْلًا وَلَا بَيَانًا مُغَيِّرًا فِي شَيْءٍ بَلْ كَانَ بَيَانَ النَّوْعِ قَطْعًا ، وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ : وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا صِفَةٌ وَالْمَوْصُوفُ بِهَا قَدْ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ فَيَكُونُ مُنَوَّعًا لَيْسَ إلَّا كَمَا فِي الْحِنْطَةِ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنَوَّعًا وَعَيْبًا .
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُنْظَرَ فِي الْجِهَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا ، فَإِنْ اقْتَضَتْ السَّلَامَةَ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا وَإِلَّا كَانَتْ نَوْعًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَمَّا اقْتَضَتْهَا تَقَيَّدَتْ
بِهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الزِّيَافَةُ نَوْعًا مِنْهَا لِتَبَايُنِهَا لَكِنَّهَا تُنَافِيهَا تَنَافِيَ التَّضَادِّ فَكَانَتْ عَيْبًا ، لِأَنَّ ضِدَّ السَّلَامَةِ عَيْبٌ .
وَإِذَا لَمْ تَقْتَضِهَا كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ لِاحْتِمَالِهِ إيَّاهُمَا لِاحْتِمَالِ الْجِنْسِ الْأَنْوَاعَ هَذَا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
أَقُولُ : هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ مِمَّا لَا يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ أَصْلًا إذْ هِيَ أَمْرٌ عَارِضٌ لِلدَّرَاهِمِ تَخْلُو عَنْهَا الدَّرَاهِمُ فِي أَصْلِ خِلْقَتِهَا ، وَإِنَّمَا الَّتِي قَدْ يَكُونُ الْمَوْصُوفُ بِهَا مُتَّصِفًا بِهَا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ هِيَ الرَّدَاءَةُ فِي الْحِنْطَةِ كَمَا مَرَّ وَهِيَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا نَحْنُ فِيهِ وَلَا مَعْنَى لِخَلْطِ ذَلِكَ هَاهُنَا .
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الضَّابِطِ مِنْ أَنَّ الْجِهَةَ الْمُوجِبَةَ لِلدَّرَاهِمِ إنْ اقْتَضَتْ السَّلَامَةَ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا ، وَإِلَّا كَانَتْ نَوْعًا بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبًا أَمْرٌ مُقَرَّرٌ غَيْرُ تَابِعٍ لِاقْتِضَاءِ الْجِهَةِ الْمُوجِبَةِ لَهَا السَّلَامَةَ ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ اقْتِضَائِهَا السَّلَامَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إخْرَاجِ الدَّرَاهِمِ الْمَوْصُوفَةِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ عَنْ مُطْلَقِ اسْمِ الدَّرَاهِمِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ لَا فِي جَعْلِهَا مَعْيُوبَةً ، وَكَذَلِكَ فِي كَوْنِ الزِّيَافَةِ نَوْعًا : أَيْ مُنَوَّعَةً لَيْسَ بِتَابِعٍ لِعَدَمِ اقْتِضَاءِ الْجِهَةِ السَّلَامَةَ ، بَلْ الزِّيَافَةُ كَالْجَوْدَةِ مُنَوَّعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَإِنَّ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ نَوْعَانِ مِنْ مُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ قَطْعًا سَوَاءٌ اقْتَضَتْ الْجِهَةُ السَّلَامَةَ أَمْ لَا ، وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ : وَإِذَا لَمْ تَقْتَضِهَا كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ وَلَمْ تَكُنْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ
الزِّيَافَةُ عَيْبٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَكَوْنُهَا نَوْعًا لَا يُنَافِي كَوْنَهَا عَيْبًا ، فَإِنَّ كَوْنَ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ مَعْيُوبًا بِالنِّسْبَةِ إلَى بَعْضِ الْآخَرِ لَيْسَ بِعَزِيزٍ ، وَإِنَّمَا لَا تَكُونُ عَيْبًا لَوْ كَانَتْ فِي أَصْلِ خِلْقَةِ الدَّرَاهِمِ وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا حِينَئِذٍ كَانَتَا نَوْعَيْنِ لِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَافَةُ عَيْبًا أَيْضًا فَلَا يَحْصُلُ الْجَوَابُ عَنْ النَّظَرِ الْمَذْكُورِ بِمَا ذَكَرَهُ أَصْلًا كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَلِهَذَا ) أَيْ وَلِأَجْلِ أَنْ لَا مُقْتَضَى لَهُ فِي الْجِيَادِ وَلَا تَعَامُلَ ( لَوْ جَاءَ رَادُّ الْمَغْصُوبِ ) وَهُوَ الْغَاصِبُ ( الْوَدِيعَةِ ) أَيْ وَرَادُّ الْوَدِيعَةِ وَهُوَ الْمُودِعُ ( بِالْمَعِيبِ ) مُتَعَلِّقٌ بِجَاءَ : أَيْ لَوْ جَاءَ رَادُّهُمَا بِالْمَعِيبِ ( كَانَ الْقَوْلُ لَهُ ) أَيْ لِلرَّادِّ فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمَقْبُوضِ كَانَ الْقَوْلُ لِلْقَابِضِ ضَمِينًا كَانَ أَوْ أَمِينًا ( وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِيهِ ) أَيْ فِي الْغَصْبِ لَا فِي الْوَدِيعَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ( مَفْصُولًا ) أَيْ إذَا ادَّعَى الزِّيَافَةَ مَفْصُولًا ( اعْتِبَارًا بِالْقَرْضِ ) أَيْ قِيَاسًا عَلَيْهِ ( إذْ الْقَبْضُ فِيهِمَا ) أَيْ فِي الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ ( هُوَ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ ) يَعْنِي أَنَّ الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا كَوْنُ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ هُوَ الْقَبْضَ ، وَجَوَابُهُ يُفْهَمُ مِمَّا تَقَرَّرَ تَدَبَّرْ ( وَلَوْ قَالَ : هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ بَعْدَمَا أَقَرَّ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَوَصَلَ صُدِّقَ وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِمَّا ذَكَرُوهُ فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ تَفْرِيعًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ .
قَالَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي لِلْحَاكِمِ الشَّهِيدِ : وَإِنْ قَالَ هِيَ سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ صُدِّقَ إنْ وَصَلَ وَلَمْ يُصَدَّقْ إذَا فَصَلَ : يَعْنِي فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَتْ
مِنْ جِنْسِهَا صُورَةً ، فَصَارَ إرَادَتُهَا بِاسْمِ الدَّرَاهِمِ كَإِرَادَةِ الْمَجَازِ بِاسْمِ الْحَقِيقَةِ ، وَإِذَا بَيَّنَ أَنَّهُ أَرَادَ بِاللَّفْظِ الْمَجَازَ مَوْصُولًا قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا انْتَهَى .
وَعَلَّلَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِمَا عَلَّلَ بِهِ الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فَقَالَ ( لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ ) أَيْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّجَوُّزُ بِهَا فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ ( لَكِنَّ الِاسْمَ ) أَيْ اسْمَ الدَّرَاهِمِ ( يَتَنَاوَلُهَا ) أَيْ يَتَنَاوَلُ السَّتُّوقَةَ ( مَجَازًا ) لِلْمُشَابَهَةِ بَيْنَ السَّتُّوقَةِ وَالدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ( فَكَانَ بَيَانًا مُغَيِّرًا ) لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ صُورَةً وَحَقِيقَةً ، وَبِآخِرِ كَلَامِهِ بَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ الدَّرَاهِمُ صُورَةً لَا حَقِيقَةً ( فَلَا بُدَّ مِنْ الْوَصْلِ ) لِأَنَّ بَيَانَ التَّغْيِيرِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ الزُّيُوفَ وَالنَّبَهْرَجَةَ دَرَاهِمُ صُورَةً وَحَقِيقَةً فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَغْيِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَصَحَّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا ( وَإِنْ قَالَ فِي هَذَا كُلِّهِ ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالْإِيدَاعِ ( أَلْفًا ثُمَّ قَالَ : إلَّا أَنَّهُ يَنْقُصُ كَذَا لَمْ يُصَدَّقْ ، وَإِنْ وَصَلَ صُدِّقَ ) هَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهَا ( لِأَنَّ هَذَا اسْتِثْنَاءُ الْمِقْدَارِ ) أَيْ اسْتِثْنَاءٌ لِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمِقْدَارِ ( وَالِاسْتِثْنَاءُ يَصِحُّ مَوْصُولًا ) لَا مَفْصُولًا فَيَصِيرُ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ( بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ) أَيْ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ وَصْفٌ ذَكَّرَ الضَّمِيرَ بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ ( وَاللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْمِقْدَارَ دُونَ الْوَصْفِ ، وَهُوَ ) أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ ( تَصَرُّفٌ لَفْظِيٌّ كَمَا بَيَّنَّا ) فِيمَا مَرَّ فَيَصِحُّ فِي مُتَنَاوَلِ اللَّفْظِ دُونَ غَيْرِهِ ( وَلَوْ كَانَ الْفَصْلُ
ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ ) أَيْ لِضَرُورَةِ انْقِطَاعِ الْكَلَامِ بِسَبَبِ انْقِطَاعِ النَّفَسِ أَوْ أَخْذِ السُّعَالِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ( فَهُوَ وَاصِلٌ ) أَيْ هُوَ فِي حُكْمِ الْوَاصِلِ حَتَّى يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ ( لِعَدَمِ إمْكَانِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ وَيَذْكُرُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي آخِرِهِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ فَكَانَ عَفْوًا .
قَالَ فَخْرُ الدِّينِ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَلَوْ فَصَلَ بَيْنَهُمَا يَفْصِلُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ انْقَطَعَ عَنْهُ الْكَلَامُ ثُمَّ وَصَلَ ، فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ مَعَ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ بِنَفَسٍ وَاحِدٍ فَجُعِلَ ذَلِكَ عَفْوًا ، انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَالَ الْكَاكِيُّ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ : وَبِهِ قَالَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ ؛ يَعْنِي مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ ثَوْبٍ ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مَعِيبٍ فَالْقَوْلُ لَهُ ) لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ .
( وَمَنْ أَقَرَّ بِغَصْبِ ثَوْبٍ ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مَعِيبٍ فَالْقَوْلُ لَهُ ) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ ( لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّلِيمِ ) فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَعِيبِ وَالْجَيِّدِ وَالزَّيْفِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا غَصَبَ سَوَاءٌ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ .
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ لَا بَلْ أَخَذْتهَا غَصْبًا فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَإِنْ قَالَ أَعْطَيْتَنِيهَا وَدِيعَةً فَقَالَ لَا بَلْ غَصَبْتَنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ ) وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُبْرِئُهُ وَهُوَ الْإِذْنُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ .
وَفِي الثَّانِي أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى غَيْرِهِ وَذَاكَ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ فَكَانَ الْقَوْلُ لِمُنْكِرِهِ مَعَ الْيَمِينِ وَالْقَبْضُ فِي هَذَا كَالْأَخْذِ وَالدَّفْعُ كَالْإِعْطَاءِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إعْطَاؤُهُ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ ، فَنَقُولُ : قَدْ يَكُونُ بِالتَّخْلِيَةِ وَالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَوْ اقْتَضَى ذَلِكَ فَالْمُقْتَضَى ثَابِتٌ ضَرُورَةً فَلَا يَظْهَرُ فِي انْعِقَادِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ قَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا هُنَالِكَ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِالْإِذْنِ إلَّا أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْقَرْضُ وَالْآخَرُ يُنْكِرُ فَافْتَرَقَا .
( وَمَنْ قَالَ لِآخَرَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ فَقَالَ ) أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ ( بَلْ أَخَذْتهَا غَصْبًا فَهُوَ ) أَيْ الْمُقِرُّ ( ضَامِنٌ ) يَعْنِي كَانَ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ إلَّا أَنْ يَنْكُلَ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ الْيَمِينِ ( وَإِنْ قَالَ : أَعْطَيْتنِيهَا وَدِيعَةً فَقَالَ ) أَيْ الْمُقَرُّ لَهُ ( لَا بَلْ غَصَبْتنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ ) أَيْ لَمْ يَضْمَنْ الْمُقِرُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بَلْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ مِنْ مَسَائِلِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْفَرْقُ ) بَيْنَهُمَا ( أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ) وَهُوَ قَوْلُهُ : أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ( أَقَرَّ بِسَبَبِ الضَّمَانِ وَهُوَ الْأَخْذُ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ رَدَّ الْعَيْنِ حَالَ بَقَائِهَا وَرَدَّ الْمِثْلِ حَالَ زَوَالِهَا لِكَوْنِ الْمِثْلِ قَائِمًا مَقَامَ الْأَصْلِ ( ثُمَّ ادَّعَى ) أَيْ ثُمَّ ادَّعَى الْمُقِرُّ بِقَوْلِهِ وَدِيعَةً ( مَا يُبْرِئُهُ ) عَنْ الضَّمَانِ ( وَهُوَ الْإِذْنُ ) بِالْأَخْذِ ( وَالْآخَرُ ) وَهُوَ الْمُقَرُّ لَهُ ( يُنْكِرُهُ ) أَيْ يُنْكِرُ الْإِذْنَ ( فَيَكُونُ الْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ ) هَذَا مَا قَالُوا .
أَقُولُ : فِيهِ بَحْثٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ أَرَادُوا أَنَّ الْأَخْذَ مُطْلَقًا سَبَبُ الضَّمَانِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ ، بَلْ الْأَخْذُ إذَا كَانَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ كَأَخْذِ الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ الْمُودِعِ فَلَيْسَ بِسَبَبِ الضَّمَانِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ } كَمَا اسْتَدَلُّوا بِهِ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ .
عَلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ إذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ ، فَيَكُونُ مَا أَخَذَتْهُ الْيَدُ بِهَذَا الطَّرِيقِ مَخْصُوصًا عَنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَإِنْ
أَرَادُوا أَنَّ الْأَخْذَ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ سَبَبُ الضَّمَانِ فَهُوَ مُسَلَّمٌ ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ بِغَيْرِ إذْنٍ ، بَلْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ الْمُقَيَّدِ بِكَوْنِهِ وَدِيعَةً وَهُوَ الْأَخْذُ بِالْإِذْنِ فَتَأَمَّلْ فِي الْجَوَابِ .
قَالَ فِي الْكِفَايَةِ : فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ الْمُقِرُّ وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ : وَدِيعَةً بَيَانُ تَغْيِيرٍ كَمَا لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ وَدِيعَةٌ .
قُلْنَا : صَدْرُ الْكَلَامِ هُنَا مُوجِبُهُ الْغَصْبُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْوَدِيعَةَ ، فَقَوْلُهُ : وَدِيعَةً يَكُونُ دَعْوَى مُبْتَدَأَةً لَا بَيَانَ مَا احْتَمَلَهُ صَدْرُ الْكَلَامِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ يَحْتَمِلُ الْوَدِيعَةَ : يَعْنِي عَلَى حِفْظِهِ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ وَدِيعَةٌ بَيَانَ تَغْيِيرٍ فَيُصَدَّقُ مَوْصُولًا انْتَهَى .
أَقُولُ : فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ هُنَا مُوجِبُهُ الْغَصْبُ ، كَيْفَ وَسَيَجِيءُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْغَصْبَ فِي اللُّغَةِ : أَخْذُ الشَّيْءِ مِنْ الْغَيْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَلُّبِ ؟ وَفِي الشَّرِيعَةِ : أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ صَدْرَ الْكَلَامِ هَاهُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ أَعَمُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْ الْغَصْبِ ، وَمِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ الْعَامَّ لَا يَدُلُّ عَلَى الْخَاصِّ بِإِحْدَى الدَّلَالَاتِ الثَّلَاثِ ، فَأَنَّى يَكُونُ مُوجِبُهُ الْغَصْبَ ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ تَنَبَّهَ لِمَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكِفَايَةِ مِنْ السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .
كَذَا قِيلَ وَفِيهِ نَوْعُ تَأَمُّلٍ ( وَفِي الثَّانِي ) أَيْ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُهُ أَعْطَيْتنِيهَا وَدِيعَةً ( أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى غَيْرِهِ ) وَهُوَ الْمُقَرُّ لَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُقِرًّا بِسَبَبِ الضَّمَانِ ( وَذَاكَ ) أَيْ ذَاكَ الْغَيْرُ ( يَدَّعِي عَلَيْهِ ) أَيْ عَلَى الْمُقِرِّ ( سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ الْغَصْبُ ) وَالْمُقِرُّ يُنْكِرُهُ (
فَكَانَ الْقَوْلُ لِمُنْكِرِهِ مَعَ الْيَمِينِ ) قَالَ الْمُصَنِّفُ ( وَالْقَبْضُ فِي هَذَا ) أَيْ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ ( كَالْأَخْذِ ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ : قَبَضْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ غَصَبْتنِيهَا كَانَ ضَامِنًا ، كَمَا لَوْ قَالَ أَخَذْت مِنْك أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً ( وَالدَّفْعُ كَالْإِعْطَاءِ ) يَعْنِي لَوْ قَالَ الْمُقِرُّ دَفَعْت إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ غَصَبْتنِيهَا لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ قَالَ أَعْطَيْتنِيهَا ( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْإِعْطَاءُ وَالدَّفْعُ إلَيْهِ ) أَيْ إلَى الْمُقِرِّ ( لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ ) فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِالْإِعْطَاءِ وَالدَّفْعِ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ ، وَإِذَا أَقَرَّ بِالْقَبْضِ يَضْمَنُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ إذَا أَقَرَّ بِالْإِعْطَاءِ وَالدَّفْعِ أَيْضًا ( فَنَقُولُ ) فِي الْجَوَابِ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِعْطَاءَ وَالدَّفْعَ إلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِقَبْضِهِ بَلْ ( قَدْ يَكُونُ ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِعْطَاءِ وَالدَّفْعِ ( بِالتَّخْلِيَةِ وَالْوَضْعِ بَيْنَ يَدَيْهِ ) بِدُونِ قَبْضِهِ فَلَمْ يَقْتَضِ الْإِقْرَارُ بِهِمَا الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ ( وَلَوْ اقْتَضَى ذَلِكَ ) أَيْ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ اقْتَضَى ذَلِكَ ( فَالْمُقْتَضَى ثَابِتٌ ضَرُورَةً ) وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَثْبُتُ بِأَدْنَى مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرُورَةُ ( فَلَا يَظْهَرُ فِي انْعِقَادِ سَبَبِ الضَّمَانِ ) لِعَدَمِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
قَالَ الْمُصَنِّفُ : ( وَهَذَا ) أَيْ وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا مِنْ ضَمَانِ الْمُقِرِّ بِالْأَخْذِ وَدِيعَةً إذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَخَذْتَهَا غَصْبًا ( بِخِلَافِ مَا ) أَيْ مُلَابِسٍ ، بِخِلَافِ مَا ( إذَا قَالَ ) أَيْ الْمُقِرُّ ( أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ قَرْضًا حَيْثُ يَكُونُ الْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ لِأَنَّهُمَا تَوَافَقَا هُنَالِكَ ) أَيْ فِيمَا إذَا قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَخَذْتَهَا قَرْضًا ( عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ كَانَ بِالْإِذْنِ ) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالْقَرْضِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِذْنِ كَمَا سَمِعْت فِيمَا مَرَّ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ غَايَةِ الْبَيَانِ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِمَا وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَا هُوَ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي أَيْدِي الشَّرِيكَيْنِ كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْآخَرِ ، فَكَذَا هُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُودَعِ .
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْجَوَابِ عَنْهُ : وَالْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمَا لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا كَانَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ نَقُولُ : لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ مِنْ الْمُودَعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ إذَا أَخَذَ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ جِنْسَ حَقِّهِ جَازَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الرَّدِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ حَقَّهُ مِنْ مُودَعِ الْغَرِيمِ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ لِغَيْرِهِ فَلِغَرِيمِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الشَّارِحِ .
أَقُولُ : فَعَلَى هَذَا الِاسْتِخْرَاجِ يَتَمَشَّى هَذَا الْجَوَابُ عَلَى كِلْتَا الرِّوَايَتَيْنِ ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ تَقْرِيرَ الْمُصَنِّفِ لَا يُسَاعِدُ ذَلِكَ جِدًّا .
تَبَصَّرْ
قَالَ ( وَإِنْ أَوْدَعَ رَجُلٌ عِنْدَ رَجُلَيْنِ شَيْئًا مِمَّا يُقْسَمُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَهُ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ وَلَكِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهِ فَيَحْفَظُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ جَازَ أَنْ يَحْفَظَ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ الْآخَرِ ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عَنْهُ عِنْدَهُ فِي الْمُرْتَهِنَيْنِ وَالْوَكِيلَيْنِ بِالشِّرَاءِ إذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ .
وَقَالَا : لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَحْفَظَ بِإِذْنِ الْآخَرِ فِي الْوَجْهَيْنِ .
لَهُمَا أَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ إلَى الْآخَرِ وَلَا يَضْمَنُهُ كَمَا فِيمَا لَا يُقْسَمُ .
وَلَهُ أَنَّهُ رَضِيَ بِحِفْظِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا كُلِّهِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَتَى أُضِيفَ إلَى مَا يَقْبَلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي تَنَاوَلَ الْبَعْضَ دُونَ الْكُلَّ فَوَقَعَ التَّسْلِيمُ إلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ فَيَضْمَنُ الدَّافِعُ وَلَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ لِأَنَّ مُودِعَ الْمُودَعَ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يُقْسَمُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا وَلَا يُمْكِنُهُمَا الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَمْكَنَهُمَا الْمُهَايَأَةُ كَانَ الْمَالِكُ رَاضِيًا بِدَفْعِ الْكُلِّ إلَى أَحَدِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ .
قَالَ ( وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ لَا تُسَلِّمُهُ إلَى زَوْجَتِك فَسَلَّمَهَا إلَيْهَا لَا يَضْمَنُ .
وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : إذَا نَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى أَحَدٍ مِنْ عِيَالِهِ فَدَفَعَهَا إلَى مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ لَا يَضْمَنُ ) كَمَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ دَابَّةً فَنَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَى غُلَامِهِ ، وَكَمَا إذَا كَانَتْ شَيْئًا يُحْفَظُ فِي يَدِ النِّسَاءِ فَنَهَاهُ عَنْ الدَّفْعِ إلَى امْرَأَتِهِ وَهُوَ مَحْمَلُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْعَمَلِ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ مُفِيدًا فَيَلْغُو ( وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ضَمِنَ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ مُفِيدٌ لِأَنَّ مِنْ الْعِيَالِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ وَقَدْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ مُرَاعَاةِ هَذَا الشَّرْطِ فَاعْتُبِرَ ( وَإِنْ قَالَ احْفَظْهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ فَحَفِظَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ مِنْ الدَّارِ لَمْ يَضْمَنْ ) لِأَنَّ الشَّرْطَ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّ الْبَيْتَيْنِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ ( وَإِنْ حَفِظَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى ضَمِنَ ) لِأَنَّ الدَّارَيْنِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ فَكَانَ مُفِيدًا فَيَصِحُّ التَّقْيِيدُ ، وَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْبَيْتَيْنِ ظَاهِرًا بِأَنْ كَانَتْ الدَّارُ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتَانِ عَظِيمَةً وَالْبَيْتُ الَّذِي نَهَاهُ عَنْ الْحِفْظِ فِيهِ عَوْرَةً ظَاهِرَةً صَحَّ الشَّرْطُ .
قَالَ ( وَمَنْ أَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَأَوْدَعَهَا آخَرَ فَهَلَكَتْ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْأَوَّلَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الثَّانِيَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَا : لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْآخَرَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ ) لَهُمَا أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ ضَمِينٍ فَيُضَمِّنُهُ كَمُودَعِ الْغَاصِبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمْ يَرْضَ بِأَمَانَةِ غَيْرِهِ ، فَيَكُونُ الْأَوَّلُ مُتَعَدِّيًا بِالتَّسْلِيمِ وَالثَّانِي بِالْقَبْضِ فَيُخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الثَّانِيَ رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَلَهُ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ يَدِ أَمِينٍ لِأَنَّهُ بِالدَّفْعِ لَا يَضْمَنُ مَا لَمْ يُفَارِقْهُ لِحُضُورِ رَأْيِهِ فَلَا تَعَدِّيَ مِنْهُمَا فَإِذَا فَارَقَهُ فَقَدْ تَرَكَ الْحِفْظَ الْمُلْتَزَمَ فَيَضْمَنُهُ بِذَلِكَ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمُسْتَمِرٌّ عَلَى الْحَالَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ فَلَا يَضْمَنُهُ كَالرِّيحِ إذَا أَلْقَتْ فِي حِجْرِهِ ثَوْبَ غَيْرِهِ .
قَالَ ( وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ أَلْفٌ فَادَّعَاهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَيْنَهُمَا ) وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ فَيَسْتَحِقُّ الْحَلِفَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ ، وَبِأَيِّهِمَا بَدَأَ الْقَاضِي جَازَ لِتَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ .
وَلَوْ تَشَاحَّا أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا تَطْيِيبًا لِقَلْبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ ، ثُمَّ إنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي ، فَإِنْ حَلَفَ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْحُجَّةِ ، وَإِنْ نَكَلَ أَعْنِي لِلثَّانِي يَقْضِي لَهُ لِوُجُودِ الْحُجَّةِ ، وَإِنْ نَكَلَ لِلْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَلَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهِ فَيَقْضِي بِهِ ، أَمَّا النُّكُولُ إنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي فَيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْقَضَاءِ ، وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ كَمَا إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَيَغْرَمُ أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَذْلِهِ أَوْ بِإِقْرَارِهِ وَذَلِكَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ ، وَبِالصَّرْفِ إلَيْهِمَا صَارَ قَاضِيًا نِصْفَ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ حَقِّ الْآخَرِ فَيَغْرَمُهُ ، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ حِينَ نَكَلَ ذَكَرَ الْإِمَامُ عَلِيٌّ الْبَزْدَوِيُّ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَحْلِفُ لِلثَّانِي وَإِذَا نَكَلَ يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي لِأَنَّهُ يُقَدِّمُهُ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْقُرْعَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الثَّانِي .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ ، وَوَضَعَ
الْمَسْأَلَةَ فِي الْعَبْدِ وَإِنَّمَا نَفَذَ لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ يَقْضِي لِلْأَوَّلِ وَلَا يَنْتَظِرُ لِكَوْنِهِ إقْرَارَ دَلَالَةٍ ثُمَّ لَا يَحْلِفُ لِلثَّانِي مَا هَذَا الْعَبْدُ لِي لِأَنَّ نُكُولَهُ لَا يُفِيدُ بَعْدَمَا صَارَ لِلْأَوَّلِ ، وَهَلْ يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيْك هَذَا الْعَبْدُ وَلَا قِيمَتُهُ وَهُوَ كَذَا وَكَذَا وَلَا أَقَلَّ مِنْهُ .
قَالَ : يَنْبَغِي أَنْ يُحَلِّفَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُودَعَ إذَا أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ وَدَفَعَ بِالْقَضَاءِ إلَى غَيْرِهِ يَضْمَنُهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ خِلَافًا لَهُ وَهَذِهِ فُرَيْعَةُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ بَعْضُ الْإِطْنَابِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَوْلُهُ وَشَرْحُ ذَلِكَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ صَحِيحَةٌ ) أَيْ عَلَى سَبِيلِ الِانْفِرَادِ دُونَ الِاجْتِمَاعِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ الْوَاحِدُ مُودَعًا عِنْدَ اثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ ، كَذَا فِي الْكِفَايَةِ وَشَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ الْحَقُّ عِنْدِي فِي مَعْنَى الْمَقَامِ ، فَيَتِمُّ التَّعْلِيلُ حِينَئِذٍ بِقَوْلِهِ لِاحْتِمَالِهَا الصِّدْقَ بِلَا كُلْفَةٍ أَصْلًا .
وَأَمَّا بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فَقَدْ قَصَدَ تَوْجِيهَ الْمَقَامِ بِالْحَمْلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُمَا عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِهِ : بِأَنْ يُودِعَهُ أَحَدُهُمَا فَيَشْتَرِيَ الْمُودَعُ بِهِ سِلْعَةً مِنْ الْآخَرِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ فَيَقْبِضَهُ ثُمَّ يُودِعَهُ أَيْضًا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ ، لِأَنَّ مَا ذُكِرَ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ فَادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَى أَنَّهَا مِلْكٌ لَهُ فِي الْحَالِ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا لِاثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مُودَعًا مِنْ اثْنَيْنِ بِكَمَالِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفِي الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ذَلِكَ الْقَائِلُ قَدْ زَالَ إيدَاعُ أَحَدِهِمَا الْأَلْفِ مِمَّنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهَا أَيْضًا بِاشْتِرَائِهِ بِهَا سِلْعَةً مِنْ الْآخَرِ وَتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ ، فَكَيْفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَصْدُقَا مَعًا فِي دَعْوَاهُمَا الْمَزْبُورَةِ .
( قَوْلُهُ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ تَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ : لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَلْفًا .
أَقُولُ : يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَدَّعِي أَلْفًا مُعَيَّنًا وَهُوَ مَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَضْعِ الْمَسْأَلَةِ ، وَالنُّقُودُ تَتَعَيَّنُ فِي الْوَدَائِعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ وَنَصَّ
عَلَيْهِ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّبْيِينِ ، فَمِنْ أَيْنَ يَدُلُّ هَذَا عَلَى تَغَايُرِ الْحَقَّيْنِ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَيَّنَ مُغَايَرَةَ الْحَقَّيْنِ بِنَهْجٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَغَايُرَ الْحَقِّ لِتَغَايُرِ الْمُسْتَحِقِّ فَلِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الدَّعْوَى مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَك يَمِينُهُ } انْتَهَى .
أَقُولُ : لَيْسَ هَذَا بِمُفِيدٍ هَاهُنَا ، لِأَنَّ مَا يَقْتَضِيهِ أَنْ يَكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ إنَّمَا هُوَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ لِتَحْلِيفِهِ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ تَحْلِيفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ هَاهُنَا ، بَلْ يَحْصُلُ بِتَحْلِيفِهِ لَهُمَا مَعًا ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِي تَحْلِيفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ أَمْرٌ وَرَاءَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَاحِدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الشُّيُوعِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي يَمِينِهِ قَطْعًا مَعَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ هُنَاكَ تَحْلِيفُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ .
وَالْأَظْهَرُ فِي تَعْلِيلِهِ أَنْ يَحْلِفَ هَاهُنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكَافِي حَيْثُ قَالَ : وَإِنَّمَا يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَاهُ بِانْفِرَادِهِ انْتَهَى ، تَدَبَّرْ .
( أَمَّا النُّكُولُ إنَّمَا يَصِيرُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَضَاءِ فَجَازَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِيَحْلِفَ لِلثَّانِي فَيَنْكَشِفَ وَجْهُ الْقَضَاءِ ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ وَجْهِ الْقَضَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ بِالْأَلْفِ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلثَّانِي أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا ، لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لِلثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالْأَلْفُ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ ، وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا انْتَهَى .
أَقُولُ : لَا صِحَّةَ لِقَوْلِهِ أَوْ لِلثَّانِي إذْ
لَا احْتِمَالَ لِلْقَضَاءِ بِالْأَلْفِ بَعْدَ نُكُولِ ذِي الْيَدِ الْأَوَّلِ وَالْكَلَامُ فِيهِ ، فَالْمُحْتَمَلُ هُنَا وَجْهَانِ لَا غَيْرُ ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ لِأَنَّهُ لَوْ حَلَفَ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَالْأَلْفُ كُلُّهُ لِلْأَوَّلِ .
وَلَوْ نَكَلَ لِلثَّانِي أَيْضًا كَانَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا قَطْعِيٌّ فِي أَنَّ الْمُحْتَمَلَ هُنَا وَجْهَانِ لَا غَيْرُ ، وَكَانَ مَنْشَأُ زَلَّتِهِ هُوَ أَنَّ سَائِرَ الشُّرَّاحِ قَالُوا فِي بَيَانِ وَجْهِ الْقَضَاءِ بِأَنْ يَقْضِيَ بِالْأَلْفِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا ، فَتَوَهَّمَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورَ أَنَّ قَوْلَهُمْ أَوْ لِأَحَدِهِمَا يَعُمُّ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ فَوَقَعَ فِيمَا وَقَعَ مَعَ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِهِ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِهِ وَهُوَ الْأَوَّلُ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْعَارِيَّةِ قَالَ : ( الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ ) ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ وَقَدْ { اسْتَعَارَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُرُوعًا مِنْ صَفْوَانَ } ( وَهِيَ تُمْلِيك الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ) وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هُوَ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ ، لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ضَرْبُ الْمُدَّةِ ، وَمَعَ الْجَهَالَةِ لَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ وَلِذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهَا النَّهْيُ ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ التَّمْلِيكِ ، فَإِنَّ الْعَارِيَّةَ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةِ وَلِهَذَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ ، وَالْمَنَافِعُ قَابِلَةٌ لِلْمِلْكِ كَالْأَعْيَانِ .
وَالتَّمْلِيكُ نَوْعَانِ : بِعِوَضٍ ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ .
ثُمَّ الْأَعْيَانُ تَقْبَلُ النَّوْعَيْنِ ، فَكَذَا الْمَنَافِعُ ، وَالْجَامِعُ دَفْعُ الْحَاجَةِ ، وَلَفْظَةُ الْإِبَاحَةِ اُسْتُعِيرَتْ لِلتَّمْلِيكِ ، كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ، فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الْإِبَاحَةِ ، وَهِيَ تَمْلِيكٌ .
وَالْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِعَدَمِ اللُّزُومِ فَلَا تَكُونُ ضَائِرَةً .
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ .
وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ ، وَالنَّهْيُ مَنَعَ عَنْ التَّحْصِيلِ فَلَا يَتَحَصَّلُ الْمَنَافِعَ عَلَى مِلْكِهِ .
وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِدَفْعِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ ( وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك ) ؛ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِيهِ ( وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِيهِ ( وَمَنَحَتْك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ ) ؛ لِأَنَّهُمَا لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ إرَادَتِهِ الْهِبَةَ تُحْمَلُ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ تَجَوُّزًا .
قَالَ ( وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ ( وَدَارِي لَك سُكْنَى ) ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ سُكْنَاهَا لَك (