كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

وهم بالشريف وهو أعلى دار بني نمير فحلف راعي الإبل أنهم وجدوا في أهلهم قول جرير
( فغُضّ الطّرَف إنّكَ من نُمَيْرٍ ... )
يتناشده الناس وأقسم بالله ما بلغه إنسان قط وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير وسبوه وسبوا ابنه فهم إلى الآن يتشاءمون بهم وبولدهم
وأخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني النضر بن عمرو عن أبي عبيدة بمثله أو نحو منه وقال في خبره
أجئت توقر إبلك لنسائك برا وتمرا والله لأحملن إلى أعجازها كلاما يبقى ميسمه عليهن ما بقي الليل والنهار يسوؤك وإياهن استماعه
وقال في خبره أيضا
فلما قال
( فَغُضّ الطّرفَ إنّكَ من نُمَير ... )
وثب وثبة دق رأسه السقف فجاء له صوت هائل وسمعت عجوز كانت ساكنة في علو ذلك الموضع صوته فصاحت يا قوم ضيفكم والله مجنون فجئنا إليه وهو يحبو ويقول غضضته والله أخزيته والله فضحته ورب الكعبة فقلت له ما لك يا أبا حزرة فأنشدنا القصيدة ثم غدا بها عليه

الحجاج يسأل جريرا عمن هجاه من الشعراء
وذكر ابن الكلبي عن النهشلي عن مسحل بن كسيب عن جرير في خبره مع الحجاج لما سأله عمن هجاه من الشعراء قال
قال لي الحجاج ما لك وللراعي فقلت أيها الأمير قدم البصرة وليس بيني وبينه عمل فبلغني أنه قال في قصيدة له
( يا صاَحبيّ دنَا الرّواحُ فَسِيرا ... غَلَب الفرزْدقُ في الهِجاء جرِيرا )
وقال أيضا في كلمة له
( رأيتُ الجَحْشَ جَحْشَ بنِي كُلَيبٍ ... تَيَمّم حَوْض دِجلة ثم هابا )
فأتيته وقلت يا أبا جندل إنك شيخ مضر وقد بلغني تفضيلك الفرزدق علي فإن أنصفتني وفضلتني كنت أحق بذلك لأني مدحت قومك وهجاهم
وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكره من تقدم وقال في خبره
فقلت له إن أهلك بعثوك مائرا وبئس والله المائر أنت وإنما بعثني أهلي لأقعد لهم على قارعة هذا المربد فلا يسبهم أحد إلا سببته فإن علي نذرا إن كحلت عيني بغمض حتى أخزيك فما أصبحت حتى وفيت بيميني قال ثم غدوت عليه فأخذت بعنانه فما فارقني حتى أنشدته إياها فلما بلغت قولي
( أَجَندلُ ما تَقُولُ بَنُو نُميْرٍ ... إذَا ما الأيرُ في اسْتِ أَبيكِ غَابا ؟ )
قال فأرسل يدي ثم قال يقولون شرا والله
جرير يهجوه أمام الفرزدق
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال قال أبو عبيدة

أنشد جرير الراعي هذه القصيدة والفرزدق حاضر فلما بلغ فيها قوله
( بها برَصٌ بأسفل إسكَتَيْها ... )
غطى الفرزدق عنفقته بيده فقال جرير
( كَعَنْفقةِ الفَرَزْدق حينَ شَابا ... )
فقال الفرزدق أخزاك الله والله لقد علمت أنك لا تقول غيرها قال فسمع رجل كان حاضرا أبا عبيدة يحدث بها فحلف يمينا جزما أن الفرزدق لقن جريرا هذا المصراع بتغطية عنفقته ولو لم يفعل لما انتبه لذلك وما كان هذا بيتا قاله متقدما وإنما انتبه لذلك
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو الغراف قال
الذي هاج التهاجي بين جرير والراعي أن الراعي كان يسأل عن جرير والفرزدق
فيقول الفرزدق أكرمهما وأشعرهما فلقيه جرير فاستعذره من نفسه
ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم وزاد فيه
أن الراعي قال لابنه جندل لما ضرب بغلته
( ألم تَر أنّ كلبَ بَني كُليبٍ ... أراد حِياضَ دِجلةَ ثم هابا )
ونفرت البغلة فزحمته حتى سقطت قلنسوة جرير فقال الراعي لابنه أما والله لتكونن فعلة مشؤومة عليك وليهجوني وإياك فليته لا يجاوزنا ولا يذكر نسوتنا
وعلم الراعي أنه قد أساء وندم فتزعم بنو نمير أنه حلف ألا يجيب

جريرا سنة غضبا على ابنه وأنه مات قبل أن تمضي سنة ويقول غير بني نمير إنه كمد لما سمعها فمات كمدا

يعترف بتفوق جرير عليه في الهجاء
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي وأبو الحسن علي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وإبراهيم بن سعدان عن أبي عبيدة وسعدان والمفضل وعمارة بن عقيل وأخبرنا به أبو خليفة عن محمد ابن سلام عن أبي البيداء قالوا جميعا
مر راكب بالراعي وهو يتغنى
( وَعاوٍ عوَى من غير شيءٍ رميتُه ... بقافيةٍ أنفاذُها تقطرُ الدّما )
( خَروجٍ بأفْواهِ الرُّوَاة كأنَّها ... قَرَا هُندُوَانيٍّ إذا هُزّ صمَّما )
فسمعها الراعي فأتبعه رسولا وقال له من يقول هذين البيتين
قال جرير فقال الراعي أألام أن يغلبني هذا والله لو اجتمع الجن والأنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا
قال ابن سلام خاصة في خبره وهذان البيتان لجرير في البعيث وكذلك كان خبره معه اعترضه في غير شيء
أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا محمد بن سلام قال

كان الراعي من رجال العرب ووجوه قومه وكان يقال له في شعره كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل أي أنه لا يحتذي شعر شاعر ولا يعارضه وكان مع ذلك بذيا هجاء لعشيرته فقال له جرير
( وَقَرْضُك في هَوازنَ شرُّ قرضٍ ... تهجِّنُهم وتَمْتدِح الوِطابَا )

نسب بامرأة من بني عبد شمس
أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا محمد بن سلام قال قال أبو الغراف
جاور راعي الإبل بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنسب بامرأة منهم من بني عبد شمس ثم أحد بني وابشي فقال
( بَني وَابِشيٍّ قد هَوِينا جوارَكُم ... وما جَمعتْنا نِيَّةٌ قبلها معا )
( خَلِيطَيْن من حَيّين شتَّى تَجَاورَا ... جَميعاً وكانا بالتّفرّق أمتعَا )
( أَرَى أهلَ ليلَى لا يبالي أميرُهم ... على حالة المحزُون أن يَتَصدّعا )
وقال فيها أيضا
صوت
( تذكَّر هذا القلبُ هِندَ بني سَعْدِ ... سَفاهاً وجَهْلاً ما تَذكَّر منْ هِنْدٍ )
( تذكَّر عَهداً كان بَيْنِي وبَيْنَها ... قَدِيماً وهل أبقت لك الحربُ من عَهدٍ ؟ )
في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالوسطى وذكر الهشامي أنه لنبيه وذكر قمري وذكاء وجه الرزة أنه لبنان
قال ابن سلام
فلما بلغهم شعره أزعجوه وأصابوه بأذى فخرج عنهم وقال فيهم

( أرَى إبلي تكالأ راعِياهَا ... مخافَة جَارِها الدَّنِسِ الذّمِيمِ )
( وقد جاورتُهم فرأيت سُعْداً ... شَعاعَ الأمرِ عازِبةَ الحُلُوم )
( مَغانيم القرى سَرقاً إذا ما ... أجنَّتْ ظُلمةُ اللَّيلِ البَهيم )
( فأُمِّي أرضَ قوْمك إنّ سعْداً ... تحمّلت المخازِيَ عن تَميمِ )
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام عن عبد القاهر بن السري قال
وفد الراعي إلى عبد الملك بن مروان فقال لأهل بيته تروحوا إلى هذا الشيخ فإني أراه منجبا
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال
قدم جندل بن الراعي على بلال بن أبي بردة وقد مدحه وكان يكثر ذكر أبيه ووصفه فقال له بلال
أليس أبوك الذي يقول في بنت عمه وأمها امرأة من قومه
( فلمَّا قضتْ من ذِي الأراك لُبانَةَ ... أرادَتْ إلينا حاجةً لا نُريدُها )
وقد كان بعد هجاء جرير إياه مغلبا فقال له جندل لئن كان جرير غلبه لما أمسك عنه عجزا ولكنه أقسم غضبا علي ألا يجيبه سنة فأين أنت عن قوله في عدي بن الرقاع العاملي

( لو كنتَ من أحدٍ يُهجَى هجْوتُكم ... يا بن الرقاع ولكن لستَ من أحد )
( تأَبى قُضاعةُ لم تعرِف لكم نسباً ... وابنا نِزارٍ وأنتم بيضةُ البَلد )
قال فضحك بلال وقال له أما في هذا فقد صدقت

يترفع عن طلب حاجة لنفسه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن ابن عائشة قال
لما أنشد عبيد بن حصين الراعي عبد الملك بن مروان قوله
( فإنْ رفعتَ بهم رأساً نَعشتَهمُ ... وإن لَقوا مثلَها من قابلٍ فسدُوا )
قال له عبد الملك فتريد ماذا قال ترد عليهم صدقاتهم فتنعشهم فقال عبد الملك هذا كثير قال أنت أكثر منه قال قد فعلت فسلني حاجة تخصك قال قد قضيت حاجتي
قال سل حاجتك لنفسك قال ما كنت لأفسد هذه المكرمة
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا إسماعيل بن يعقوب عن عثمان بن نمير عن أبيه قال
كنت عند العباس بن محمد في يوم شات فدخل عليه موسى بن عبد الله بن حسن فقال له العباس بن محمد يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا فقال له موسى والله إني لأعرق مما كان اليوم قال وما كان يا أبا الحسن فقال ذاك أن أمير المؤمنين أخرج لي وللعباس بن الحسن خمسين ألفا للعباس منها ثلاثون ألفا والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أخو بني العنبر وجاور

هو وراعي الإبل في بني سعد بن زيد مناة فكانوا إذا مدحهم الراعي أخذوا مال العنبري فأعطوه الراعي فقال العنبري في ذلك
( أيُقطَع موْصولٌ ويُوصَل جانب ... أسعدُ بنَ زَيْدٍ عَمرَكِ اللَّه أجملي )
( فإنَّا بأرْضٍ ها هُنا غير طائل ... متَى تَعلفوا بالرّغم والخسْف نأكُلِ )
قال فقال له العباس إنكم نازعتم القوم ثوبهم وكان عباس وأهله أعوانا له على حذية منكم ومع ذلك فعباس الذي يقول لبنت حيدة المحاربية يرثيها
( أتتْ دُونَ الفِراش فأبشَرْتنا ... مصيبتنا بأخت بني حُدادِ )
( كأَنَّ الموت لا يعني سِوانا ... عشيّة نحوها يحدُوه حادِي )
( فإنَّ خليفةَ اللَّهِ المُرَجَّى ... وغيثَ الناس في الإِزَم الشِّدادِ )
( تطاول ليلُهُ فعداك حتَّى ... كأنّك لا تَثوب إلى مَعادِ )
( يظَلّ - وحقَّ ذاك - كأَنَّ شَوْكاً ... عليه العينُ تطْرِف من سُهادِ )
( فليتَ نُفوسَنا حَقًّا فدَتْها ... وكلّ طَرِيف مالٍ أو تِلادِ )
وجندل بن الراعي شاعر وهو القائل وفي شعره هذا صنعة

صوت
( طلبْت الهوى الغَوْرِيّ حتى بلغتُه ... وسيّرت في نجدِّيةِ ما كفانَيا )
( وقلت لِحلمِي لا تنزعنِّي عن الصِّبا ... وللشَّيبِ لا تذْعَر عليّ الغَوانِيَا )
الشعر لجندل بن الراعي والغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو من جامع إسحاق وقال الهشامي وله فيه أيضا ثاني ثقيل وهو لحن مشهور وما وجدناه في جامعه ولعله شذ عنه أو غلط الهشامي في نسبته إليه

وقال حبش فيه أيضا لإسحاق خفيف رمل

ملاحاة بينه وبين امرأته
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال قال إسحاق قال أبو عبيدة
كانت لجندل بن الراعي امرأة من بني عقيل وكان بخيلا فنظر إليها يوما وقد هزلت وتخدد لحمها فأنشأ يقول
( عُقَيْليَّة أمَّا أعالي عِظامِها ... فعُوجٌ وأمّا لحمها فقليل )
فقالت مجيبة له عن ذلك
( عُقَيْلِيَّة حَسْناء أزرَى بلَحْمِها ... طعامٌ لديكَ ابنَ الرّعاء قليل )
فجعل جندل يسبها ويضربها وهي تقول قلت فأجبت وكذبت فصدقت فما غضبك
صوت
( أصبح الحبلُ من سَلامةَ ... رَثًّا مُجَذّذَا )
( حَبَّذا أنتِ يا سلامةُ ... ألفيْن حبَّذَا )
( ثم أَلفيْن مُضْعفَيين ... وألْفَيْن هكذا )
( في صميم الأحشاء مِنّي ... وفي القلب قد حَذا )
( حذوَةً من صَبابةٍ ... تركتْه مُفلَّذاً )
الشعر لعمار ذي كبار والغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى عن الهشامي
قال الهشامي وذكر يحيى المكي أنه لسليم الوادي لا لحكم

أخبار عمار ذي كبار ونسبه
هو عمار بن عمرو بن عبد الأكبر يلقب ذا كبار همداني صليبة كوفي وجدت ذلك في كتاب محمد بن عبد الله الحزنبل
وكان لين الشعر ماجنا خميرا معاقرا للشراب وقد حدّ فيه مرات وكان يقول شعرا ظريفا يضحك من أكثره شديد التهافت جم السخف وله أشياء صالحة نذكر أجودها في هذا الموضع من أخباره ومنتخب أشعاره وكان هو وحماد الراوية ومطيع بن إياس يتنادمون ويجتمعون على شأنهم لا يفترقون وكلهم كان متهما بالزندقة
كان أعشى ضعيف النظر
وعمار ممن نشأ في دولة بني أمية ولم أسمع له بخبر في الدولة العباسية ولا كان مع شهوة الناس لشعره واستطابتهم إياه ينتجع أحدا ولا يبرح الكوفة لعشاء بصره وضعف نظره

فأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية ولفظ الرجلين كالمتقارب قال
استقدمني هشام بن عبد الملك في خلافته وأمر لي بصلة سنية وحملان فلما دخلت عليه استنشدني قصيدة الأفوه الأودي
( لنا معاشِرُ لم يَبْنُوا لقومِهِمُ ... وَإن بنَى قومُهُم ما أفسَدُوا عادُوا )
قال فأنشدته إياها ثم استنشدني قول أبي ذؤيب الهذلي
( أمِنَ المَنُونِ ورَيْبها تَتَوجَّعُ ... )
فأنشدته إياها ثم استنشدني قول عدي بن زيد
( أرواحٌ مودِّع أم بُكور ... )
فأنشدته إياها فأمر لي بمنزل وجراية وأقمت عنده شهرا فسألني عن

أشعار العرب وأيامها ومآثرها ومحاسن أخلاقها وأنا أخبره وأنشده ثم أمر لي بجائزة وخلعة وحملان وردني إلى الكوفة فعلمت أن أمره مقبل

الوليد بن يزيد يجيزه على قصيدته
ثم استقدمني الوليد بن يزيد بعده فما سألني عن شيء من الجد إلا مرة واحدة ثم جعلت أنشده بعدها في ذلك النحو فلا يلتفت إليه ولا يهش إلى شيء منه حتى جرى ذكر عمار بن ذي كبار فتشوقه وسأل عنه وما ظننت أن شعر عمار شيء يراد أو يعبأ به
ثم قال لي هل عندك شيء من شعره فقلت نعم أنا أحفظ قصيدة له وكنت لكثرة عبثي به قد حفظتها فأنشدته قصيدته التي يقول فيها
( حَبّذا أنتِ يا سلامة ... ألفين حَبّذَا )
( أشتَهِي مِنْك مِنْك ... مكاناً مُجَنْبَذَا )
( مُفعَماً في قُبالَةٍ ... بين رُكْنين رَبَّذَا )
( مُدغماً ذا مناكب ... حسنَ القَدِّ مُحْتذى )
( رَابِياً ذا مَجَسّةٍ ... أخْنساً قد تَقَنْفَذَا )
( لم ترَ العينُ مِثلَه ... في منامٍ ولا كَذَا )
( تامِكاً كالسّنام إذْ ... بُذَّ عنه مُقَذَّذا )
( مِلء كَفّيْ ضَجِيعِها ... نال منها تَفَخُّذَا )
( لو تأَمّلتَه دُهِشْتَ ... وعايَنْتَ جِهْبِذَا )
( طيّب العَرف والمَجسَّة ... واللّمسِ هِرْبِذَا )

( فأَجَا فِيه فيه فيه ... بأيرٍ كمِثْل ذَا )
( ليتَ أَيرِي ولَيْت حِرك ... جَمِيعاً تَآخَذَا )
( فأخذَ ذَا بِشعْر ذَا ... وأخذ ذا بقَعْر ذَا )
قال فضحك الوليد حتى سقط على قفاه وصفق بيديه ورجليه وأمر بالشراب فأحضر وأمرني بالإنشاد فجعلت أنشده هذه الأبيات وأكررها عليه وهو يشرب ويصفق حتى سكر وأمر لي بحلتين وثلاثين ألف درهم فقبضتها ثم قال لي ما فعل عمار فقلت حي كميت قد عشي بصره وضعف جسمه ولا حراك به
فأمر له بعشرة آلاف درهم فقلت له ألا أخبر أمير المؤمنين بشيء يفعله لا ضرر عليه فيه وهو أحب إلى عمار من الدنيا بحذافيرها لو سيقت إليه فقال وما ذاك قلت إنه لا يزال ينصرف من الحانات وهو سكران فترفعه الشرط فيضرب الحد فقد قطع بالسياط وهو لا يدع الشراب ولا يكف عنه
فتكتب بألا يعرض له فكتب إلى عامله بالعراق ألا يرفع إليه أحد من الحرس عمارا في سكر ولا غيره إلا ضرب الرافع له حدين وأطلق عمارا
فأخذت المال وجئته به وقلت له ما ظننت أن الله يكسب أحدا بشعرك نقيرا ولا يسأل عنه عاقل حتى كسبت بأوضع شيء قلته ثلاثين ألفا قال عز علي فذلك لقلة شكرك يا بن الزانية فهات نصيبي منها فقلت لقد استغنيت عن ذلك بما خصصت به ودفعت إليه العشرة آلاف درهم
فقال وصلك الله يا أخي وجزاك الله خيرا ولكنها سبب هلاكي وقتلي لأني أشرب بها ما دام معي منها درهم وأضرب أبدا حتى أموت فقلت له لقد كفيتك ذلك وهذا عهد أمير المؤمنين ألا تضرب وأن يضرب كل من يرفعك حدين

فقال والله لأنا أشد فرحا بهذا من فرحي بالمال فجزيت خيرا من أخ وصديق وقبض المال فلم يزل يشرب حتى مات وبقيته عنده

خبره مع امرأته
نسخت من كتاب الحزنبل المشتمل على شعر عمار وأخباره
أن عمارا ذا كبار كانت له امرأة يقال لها دومة بنت رباح وكان يكنيها أم عمار وكانت قد تخلقت بخلقه في شرب الشراب والمجون والسفه حتى صارت تدخل الرجال عليها وتجمعهم على الفواحش ثم حجت في إمارة يوسف بن عمر فقال لها عمار
( اتقِي اللَّهَ قد حَجَجْتِ وتُوبي ... لا يكونَنّ ما صَنَعْتِ خَبَالا )
( ويكِ يا دُومُ لا تَدُومي على الخَمْرِ ... ولا تُدْخِلِي عليكِ الرِّجالا )
( إنَّ بالمِصْر يوسُفاً فاحذَرِيه ... لا تَصِيري للعالمين نَكالا )
( وثَقِيفٌ إن تَثْقَفَنْك بحدٍّ ... لم يُساوِ الإِهابُ منك قِبالاَ )
( قد مضَى ما مَضَى وقد كان ما كان ... وأَودَى الشَّبابُ منكِ فَزالا )
طلق امرأته واشترى جارية حسناء
قال فضربته دومة وخرقت ثيابه ونتفت لحيته وقالت أتجعلني غرضا لشعرك فطلقها واشترى جارية حسناء فزادت في أذاه وضربه غيرة عليه فشكاها إلى يوسف بن عمر فوجه إليها بخدم من خدمه وأمرهم بضربها وكسر نبيذها وإغرامها ثياب عمار ففعلوا ذلك وبلغوا منها الرضا لعمار فقال في ذلك عمار
( إنَّ عِرسي لا هَدَاها ... اللَّه بنتٌ لِرَباحِ )

( كلّ يوم تُفزع الجُلاّس ... منها بالصِّياح )
( وربُوخٌ حين تُؤْتى ... وتَهَيّا للنِّكاح )
( كلبُ دَبَّاغٍ عَقُورٌ ... هرَّ من بعد نُباحِ )
( ولها لونٌ كدَاجِي اللّيل ... من غير صَباحِ )
( ولسانٌ صارِمٌ كالسّيف ... مَشحوذ النَّواحِي )
( يقطَع الصّخرَ ويَفْرِيه ... كما تَفْرِي المَساحِي )
( عجَّل اللَّهُ خلاصي ... من يديها وسَراحِي )
( تُتعِبُ الصّاحِبَ والجارَ ... وَتبغِي مَنْ تُلاحِي )
( زَعمتْ أَنِّي بَخيلٌ ... وقدَ أخنَى بي سَماحِي )
( ورأَت كَفِّيَ صِفْراً ... من تِلادِي ولِقاحِي )
( كذبَت بِنتُ رَباح ... حين هَمَّت باطِّراحِي )
( حاتمٌ لو كانَ حَيًّا ... عاش في ظِلِّ جَناحي )
( ولقد أهلكتُ مالِي ... في ارْتياحِي وسَمَاحي )
( ثم ما أبقيتُ شَيئاً ... غيرَ زادِي وسِلاحي )
( وكُمَيْتٍ بين أشطانِ ... جَوادٍ ذي مِراحِ )
( يسبِقُ الخيلَ بتَقْريبٍ ... وشَدٍّ كالرّياح )
( ثم غارَتْ وَتَجَنَّت ... وأجدَّت في الصِّياح )
( لابْتِياعي أملَحَ النِّسوان ... من فَيْءِ الرّماح )

( دُميةُ المِحْرابِ حُسْناً ... وحَكَت بَيضَ الأداحِي )
( هِيَ أشهَى لصَدّى ... الظَّمآن من برد القَرَاح )
( قلتُ : يا دُومَةُ بِينِي ... إنَّ في البَيْنِ صَلاحِي )
( فأنا اليوم طَلِيق ... من إسارِي ذُو ارتِياح )
( لستُ عمَّن ظَفِرت كَفِّي ... بها اليوم بِصَاحِ )
( أنا مَجْنون بِرِيمٍ ... مُخْطَفِ الخصر رَدَاح )
( مُشبَع الدُّملُجِ والخَلْخال ... جَوَّالِ الوِشاح )
( إنّ عَمّارَ بنَ عَمْرٍو ... ذا كُبارٍ ذو امْتداح )
( وهِجاءٍ سارَ في النَّاس ... لا يَمحُوه ماحي )
( أبداً ما عاش ذُو رُوحٍ ... ونُودِي بالفَلاح )
قال وكان لعمار جار يبيع الرؤوس يقال له غلام أبي داود فطرق عمارا قوم كانوا يعاشرونه ويدعونه فقالوا أطعمنا واسقنا ولم يكن عنده شيء يومئذ فبعث إلى صاحب الرؤوس يسأله أن يوجه إليه بثلاثة أرؤس ليعطيه ثمنها إذا جاءه شيء فلم يفعل فباع قميصا له واشترى للقوم ما يصلحهم وشربوا عنده فلما أصبح القوم خرج إلى المحلة وأهلها مجتمعون فأنشأ يقول
( غلامٌ لأبي داود ... يُدْعى سَالقَ الرُّوسِ )
( وفي حُجْزَتِه قَمْلٌ ... كأمثال الجَوامِيس )
( فَمَنْ ذا يشتري الرُّوسَ ... وقد عَشَّشَ في الرُّوس )
( رُؤوسٌ قد أراحت كَرُؤوسٍ ... في النَّواوِيس )

( تُحاكِي أوجُهَ المَوتَى ... ورِيحاً كالكَرايِيسِ )
( يُنقِّي القمل مِنهنَّ ... إذا باع بتَدلِيس )
قال فشاعت الأبيات في الناس فلم يقرب أحد ذلك الرجل ولا اشترى منه شيئا فقام من موضعه ذلك وعطل حانوته

ينفق ماله في الخمور والفجور
قال وحضر عمار ذو كبار مع همدان لقبض عطائه فقال له خالد بن عبد الله ما كنت لأعطيك شيئا
فقال ولم أيها الأمير قال لأنك تنفق مالك في الخمور والفجور فقال هيهات ذلك وهل بقي لي أرب في هذا وأنا الذي أقول
( أَيرُ عمّارٍ أصبحَ اليوم ... رِخْواً قد انْكَسَرْ )
( أَلِدَاءٍ يُرَى به ... أم من الهمِّ والضّجَر ؟ )
( أم به أُخذَةٌ فقد ... تُطلِق الأُخذةَ النُّشَر )
( فلئِن كان قَوَّسَ اليومَ ... أو عَضّه الكِبَر )
( فَلقِدْماً قَضَى ونال ... من اللَّذَّةِ الوَطَر )
( ولقد كُنتُ مُنعَطِفاً ... وأبداً قائمَ الذَّكَر )
( وأَنا اليوم لو أرى ... الحُورَ عندي لما انْتَشَر )
( ساقطٌ رأْسُه عَلَى ... خُصْيَتَيه به زَوَرْ )
( كلَّما سُمْتُه النُّهوضَ ... إلى كُوّةٍ عَثَر )

قال فضحك خالد وأمر له بعطائه فلما قبضه قضى منه دينه وأصلح حاله وعاد لشأنه وقال
( أصبحَ اليومَ أيرُ عمّارَ ... قد قامَ واسبَطرّ )
( أخَذَ الرِّزْقَ فاستَشَاطَ ... قِياماً من البَطَرْ )
( فَهُو اليومَ كالشِّظاظ ... من النَّعْظ والأشَرْ )
( يترُك القِرنَ في المَكرّ ... صريعاً وما فَتَرْ )
( يُشرِعُ العُودَ للطّعان ... إذا انصاع ذو الخَوَرْ )
( سَلْم نِعْمَ الضَّجيعُ أنت ... لنا ليلَةَ الخَصَرْ )
( لَيلَةَ الرّعد والبروقِ ... مع الغَيْم والمَطرْ )
( ليتَنِي قد لَقِيتُكُم ... في خَلاءٍ من البَشَر )
( فَنَشرنَا حَديثَنا ... عِنْدكم كُلَّ مُنْتَشَرْ )
( خالياً ليلةَ التّمام ... بسَلْمَى إلى السّحَرْ )
( فهي كَالدُّرّة النّقِيّةِ ... والوَجهُ كالقَمَرْ )
قال وخرج عمار في بعض أسفاره ومعه رجل يعرف بدندان فلما بلغا إلى الفرات نزلا على قرية يقال لها ناباذ وأرادا العبور فلم يجدا معبرا فقال له دندان أنا أعبرك فنزل معه فلما توسطا الفرات خلى عنه فبعد جهد ما نجا فقال عمار في ذلك
( كادَ دَنْدانُ بأن يجْعلنِي ... يوم نَابَاذَ طَعاماً للسَّمَك )
( قُلْتُ : دَنْدانُ أغِثْنِي فمضى ... وأنا أعلُو وأهْوِي في الدَّرَك )
( ولقد أوقَعني في وَرطَة ... شَيَّبَتْ رأْسي وعاينْتُ المَلَكْ )

( ليْتَ دَنْدانَ بِكَفَّيْ أسدٍ ... أو قتيلاً ثاوِياً فيمَن هَلَكْ )

خبره مع خالد القسري
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح عن أبي اليقظان قال
دخل عمار ذو كبار على خالد القسري بالكوفة فلما مثل بين يديه صاح به أيها الأمير
( أخلقَتْ رَيْطتِي وأَودَى القَمِيصُ ... وإزاري والبَطنُ طاوٍ خَمِيصُ )
قال خالد فنصنع ماذا ما كل من أخلقت ثيابه كسوناه فقال
( وخَلا منزِلِي فلا شيءَ فيهِ ... لستُ مِمَّن يُخشَى عليه اللُّصوص )
فقال له خالد ذلك من سوء فعلك وشربك الخمر بما تعطاه فقال
( واستحلَّ الأميرُ حَبْسَ عطائي ... خالدٌ إنَّ خالداً لحريصُ )
فقال خالد وقد غضب على ماذا ثكلتك أمك قال
( ذو اجتهاد على العبادة وَالخَيْرِ ... ولكن في رزْقنا تعْويصُ )
فقال على ماذا تقبض العطاء ولا غناء فيك عن المسلمين فقال
( رخّص اللَّه في الكتاب لذِي العُذْر ... وما عنْد خالدٍ ترْخِيص )
فقال أولم نرخِّص لذي العذر أن يقيم ويبعث مكانه رسولا فقال

( كلَّف البائسَ الفقيرَ بديلاً ... هل له عنه معْدل أو مَحيصُ )
( العليلَ الكبيرَ ذا العرَج الظالعَ ... أعْشى بعيْنه تلْحيصُ )
( يا أبا الهيْثَم المباركَ جُدْ لي ... بعطاء ما شَانه تنغيصُ )
( وبرزقِي فإننا قد رزحْنا ... من ضَياعٍ وللعيال بَصيصُ )
( كبصيصِ الفرْخين ضمهُما العُشُّ ... وغاذِيهما أسيرٌ قنيصُ )
قال فدمعت عينا خالد فأمر له بعطائه
وهذه الأبيات من قصيدة يقول فيها
( وترَى البيتَ مُقْشعِرًّا قواءً ... من نواحيه دَوْرقٌ وأصيصُ )
( وبِجادٌ مُمَزَّقٌ وخِوانٌ ... نَدرت رجْلُه وأُخرى رَهيص )
( ولقد كان ذَا قوائم مُلسٍ ... تؤْكل اللَّحْمُ فوقهُ والخبِيصُ )
( شَطَنتْ هكذا شوارِدُ بالمِصْر ... وعَنِّي لم يُلهِهِ التَّرْبيصُ )
( وتولَّى في كلّ بَحْرٍ وبَرٍّ ... همُّهُ العَرسُ فيه والتّحْصِيص )
( مُتعالٍ عليَّ آخرُ مَحْبُورٌ ... يُغادِيه بطّةٌ ومَصُوص )
( وشِواءٌ مُلَهْوَجٌ ورُءُوسٌ ... وصُيودٌ قد حازَها التّقنيص )
( ثم لا بُدَّ يلتَقي الوزْن بالقِسْطِ ... لدى الحشْر فاحذَروا أن يبُوصُوا )

( أكثِروا الملك جانباً واجْمعُوه ... سوف يُودِي بذلك التنقِيصُ )
ونسخت من كتاب الحزنبل
أن عمارا وقف على عاصم بن عقيل بن جعدة بن هبيرة المخزومي فقال له
( عاصمٌ يا بن عَقِيلٍ ... أفسحُ العالم باعا )
( وارثُ المجد قديماً ... سامياً يَنمِي ارتفاعا )
( عن هُبيْرٍ وابنه جَعْدةَ ... فاحتلّ التِّلاعا )
فقال له عاصم أسمعت يا عمار فقل فقد أبلغت في الثناء فقال
( اكْسُني أصلحك اللَّهُ ... قميصاً وصِقاعَا )
( وأَرِحْني من ثيابٍ ... بالياتٍ تتداعَى )
( طال ترْقِيعِي لها حتى ... لقد صارتْ رِقاعا )
( كلُّها لا شيءَ فيها ... غيْر قَمْلٍ تَتساعَى )
( لم تزلْ تُولي الذي يَرْجوك ... بِرًّا واصطِناعا )
فنزع عاصم جبة كانت عليه وأمر غلامه فجعل تحتها قميصا ودفعها إليه وأمر له بمائتي درهم

قصيدة أخرى كثيرة المرذول
فأما القصيدة الذالية التي استحسنها الوليد وسأل حمادا الراوية عنها فإنها كثيرة المرذول ولكنها مضحكة طيبة من الشعر المرذول وفيها يقول
( أنتَ وَجْداً بها كَمُغْضِي ... جُفونٍ على القذَى )
( لم يقل قائلٌ من النَّاس ... قولاً كنحْو ذا )

( تحت حرٍّ وصلتهُ ... صار شعراً مُهذَّذا )
( قَوْل عمّار ذِي كُبارٍ ... فيا حُسْنَ ما احْتذَى )
( علِّلاني بِذكْرها ... واسْقِياني مُحذّذا )
( تتركُ الأذن سُخنةً ... أُرجُواناً بها خَذَا )

متفرقات من غزله
ومن صالح شعره قوله
( شجَا قَلبي غزالٌ ذُو ... دَلالٍ وَاضحُ السُّنَّهْ )
( أَسيلُ الخدّ مَرْبوبٌ ... وفي مَنْطِقهِ غُنّهْ )
( أَلا إنَّ الغَواني قد ... بَرَى جِسْمي هَواهُنَّه )
( وقالوا : شَفّك الحورُ ... هَوًى قلتُ لهم : إنّهْ )
( وَلكنِّي على ذاكَ ... مُعنًّى بأذاهُنَّه )
( أراحَ اللَّهُ عمَّاراً ... منَ الدُّنيا وَمِنْهنَّهْ )
( بَعيداتٍ قَرِيباتٍ ... فلا كان ولا كُنَّهْ )
( فقد أذهل مِنِّي العَقلَ ... وَالقلبَ شَجَاهُنَّهْ )
( يُمنِّينَ الأباطِيل ... وَيجْحَدْن الذي قُلْنَهْ )
وقوله أيضا
( يا دُومُ دام صَلاحُكُم ... وسقاكِ ربِّي صَفْوةَ الدِّيَم )
( من كلّ دانٍ مُسْبل هطلٍ ... مُتتابعٍ سَحٍّ من الرِّهَمِ )

( تَرِدُ الوحُوشُ إليه سارعةً ... والطيرُ أفواجاً من القُحم )
( قَلْقَلْتِ من وجْدٍ بكم كبدِي ... وصَدعتِ صَدْعاً غيرَ مُلتئِم )
( وترَكتِني لعواذلي غَرضاً ... كاللَّحم مُتَّرَكاً على الوَضَم )
( بَرِحَ الخفاءُ وقد علمتِ به ... إني لحُبِّك غيرُ مُكتتِم )
( أخفيتُه حتَّى وهَى جَلَدي ... وبرَى فؤادي واسْتباحَ دمي )
( يا أحسنَ الثّقلَين كلِّهم ... وأتمّ مَنْ يخطُو على قدَم )
( يَصْبُو الحليمُ لحُسْنِ بهْجتها ... ويزيدُه ألماً إلى ألم )
( تفترُّ عن سِمْطَيْن من برَدٍ ... مُتفلِّجٍ عن حُسن مبتَسم )
( كالأُقحوانِ لغِبِّ ساريةٍ ... جُنحَ العشاءِ يُنيرُ في الظُّلَم )
( حُمّ اللِّثاتِ يَرُوقُ ناظِرُه ... ما عِيبَ من رَوَقٍ ولا قصَم )
( تُومِي بكفٍّ رَطْبةٍ خُضِبَتْ ... وأناملٍ ينطُفن كالعَنَم )
( وبمقلةٍ حَوْراءَ ساجيةٍ ... وبحاجِبٍ كالنُّون بالقلَم )
( والجيدُ منها جِيدُ مُغزِلَةٍ ... تحْنُو إلى خِشْفٍ بذي سَلم )
( وكدُمْية المحرابِ ماثلة ... والفرْعُ جثْلُ النبت كالْحمَم )
( وكأنّ ريقتهَا إذا رقدت ... راحٌ يفُوحُ بأطيب النَسَم )

سبب نظمه إحدى قصائده
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن أحمد بن طالب الديناري قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال
قال حماد الراوية
أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي دينار وأمر يوسف بن عمر بحملي على البريد فقلت يسألني عن مآثر طرفيه قريش أو ثقيف فنظرت في كتابي ثقيف وقريش حتى حفظتهما فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي فأنشدته منها ما حفظته ثم قال لي أنشدني في الشراب وعنده قوم من وجوه أهل الشام
فأنشدته لعمار ذي كبار
( أصبِحِ القوْمَ قهوةً ... في أباريقَ تُحتذَى )
( من كميْتٍ مُدامةٍ ... حبّذا تلك حبَّذا )
( تتْرك الأُذْنَ شربُها ... أرجُواناً بها خَذَا )
فقال أعدها فأعدتها فقال لخدمه خذوا آذان القوم قال فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا ثم حملنا فطرحنا في دار الضيفان فما أيقظنا إلا حر الشمس وجعل شيخ من أهل الشام يشتمني ويقول فعل الله بك وفعل أنت صنعت بنا هذا
صوت
( شَطَّتْ ولم تُثِبِ الرَّبابْ ... ولعل للكَلِفِ الثّواب )

( نَعِب الغُرابُ فراعني ... بالبين إذْ نَعب الغُراب )
عروضه من الضرب الثالث من العروض الثالثة من الكامل
والشعر لعبد الله بن مصعب الزبيري والغناء لحكم الوادي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار عبد الله بن مصعب ونسبه
عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
شاعر فصيح خطيب ذو عارضة وبيان واعتبار بين الرجال وكلام في المحافل وقد نادم أوائل الخلفاء من بني العباس وتولى لهم أعمالا وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير فلما قتل محمد استتر عنه وقيل بل كان استتاره مدة يسيرة إلى أن حج أبو جعفر المنصور وآمن الناس جميعا فظهر
المهدي يعجب بشعره فيكتبه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمي وفليح بن إسماعيل عن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة قال
دخلت على المهدي وإذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد الله بن مصعب
( فإنْ يَحجُبوها أو يَحُل دُون وصْلِها ... مَقالةُ واشٍ أو وعيدُ أمير )

( فلن يمنعُوا عينيَّ من دائم البكا ... ولن يُخرجُوا ما قد أجنَّ ضميري )
( وما بَرِح الواشون حتى بدت لنا ... بُطُونُ الهوى مَقلوبةً لظُهُور )
( إلى اللَّهِ أشكُو ما أُلاقي من الجوَى ... ومن نَفسٍ يعتَادُنِي وزفيرٍ )
ويقول أحسن والله عبد الله بن مصعب ما شاء
وهذه الأبيات تنسب إلى المجنون أيضا وفيها بيتان فيهما غناء ليزيد حوراء خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة ويقال إنه للزبير بن دحمان وذكر حبش أن فيهما لإسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى

شعره في جارية يهواها
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن الحسن بن زياد
ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي سعد العدوي عن أبي الطرماح مولى آل مصعب بن الزبير من أهل ضرية وروايته أتم
أن عبد الله بن مصعب لما ولي اليمامة مر بالحوأب يوما وهو ماء لبني أبي بكر بن كلاب وهو الذي ذكره النبي لعائشة فرأى على الماء جارية منهم فهويها وهويته وقال

( يا جُملُ للوالهِ المستعبر الوصِب ... ماذا تضَمَّن من حُزْنٍ ومن نَصَب ؟ )
( أنَّى أُتِيحَت له للحَيْن جاريةٌ ... في غير ما أممٍ منها ولا صقَبِ )
( جاريةٌ من أبي بكر كلِفتُ بها ... ممَّنْ يَحُلُّ من الحصّاءِ والحَوَبِ )
( من غير معرِفة إلا تعرُّضَها ... حَيناً لذلك إن الحيْن مُجْتَلِبي )
( قامت تعرَّضُ لي عمداً فقلتُ لها : ... يا عَمْركِ اللَّهِ هل تدْرين ما حسبِي )
( بَين الحواريّ والصِّدّيق في نَسَبٍ ... ينهى عن الفُحْش مثْلي غيْر مُؤتَشَب )
( ولا أدِبُّ إلى الجارات مُنسرِباً ... تاللَّه إني لِعزهاةٌ عن الرّيَبِ )
فخطبها وكانت العرب لا تنكح الرجل امرأة شبب بها قبل خطبته فلم يزوجوها إياه فلما يئست منه قالت
( إذا خَدِرت رجلي ذكرتُ ابنَ مُصعبٍ ... فإن قيل عبدُ اللَّهِ خفَّ فُتورُها )
( ألا ليتَني صاحبتُ ركْبَ ابنِ مصعَبٍ ... إذا ما مطاياه اتلأَبَّتْ صدُورُها )
( لقد كنتُ أبكِي واليمامةُ دونَه ... فكيف إذا التفّت عليه قصورُها ؟ )
قال أبو الطرماح في خبره وكان لها إخوة شرش غير فقتلوها
أخبرنا ببعض هذه القصة ابن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن أبي عمر الزهري وذكر الشعرين جميعا والألفاظ قريبة

وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبي عمر الزهري قال حدثني أبي
أن عبد الله بن مصعب خاصم رجلا من ولد عمر بن الخطاب بحضرة المهدي فقال له عبد الله بن مصعب أنا ابن صفية قال هي أدنتك من الظل ولولاها لكنت ضاحيا وكنت بين الفرث والحوية
قال أنا ابن الحواري قال له العمري بل أنت ابن وردان المكاري قال وكان يقال إن أمه كانت تهوى رجلا يكري الحميريقال له وردان فكان من يسبه ينسبه إليه وقال فيه الشاعر
( أتُدْعَى حَواريّ الرّسول سَفاهةً ... وأنت لوَردانِ الحمير سَليلُ )
فقال والله لأنا بأبي أشبه من التمرة بالتمرة والغراب بالغراب قال له العمري كذبت وإلا فأخبرني ما بال آل الزبير ثط اللحى وأنت ألحى وما لهم سمرا جعادا وأنت أحمر سبط قال ألي تقول هذا يا بن قتيل أبي لؤلؤة قال العمري يا بن قتيل ابن جرموز على ضلالة أتعيرني أن قتل أبي رجل نصراني وهو أمير المؤمنين قائما يصلي في محرابه وقد قتل أباك رجل مسلم بين الصفين يدفعه عن باطل ويدعوه إلى حق فأنا أقول رحم الله ابن جرموز فقل أنت رحم الله أبا لؤلؤة ثم أقبل على المهدي فقال
ألا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول عائد الكلب في عمر بن الخطاب وقد عرفت ما كان بينه وبين ابيك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله من المودة وتعلم ما بين جده عبد الله بن الزبير وبين جدك عبد الله بن العباس

من العداوة فأعن يا أمير المؤمنين أولياءك على أعدائك فوثب رجل من آل طلحة فقال له يا أمير المؤمنين ألا تكف هذين السفيهين عن تناول أعراض أصحاب رسول الله وتكلم الناس بينهما وتوسطوا كلامهما وأكثروا فأمر المهدي بكفهما والتفريق بينهما

لقب عائد الكلب لبيتين قالهما
قال النوفلي وكان عبد الله بن مصعب يلقب عائد الكلب لقوله
( ما لي مَرِضْتُ فلم يَعُدني عائِدٌ ... منكم ويَمْرضُ كَلبُكم فأَعود ؟ )
( وأشدُّ من مَرضِي عَلَيّ صُدُودُكم ... وصُدودُ عَبْدِكُم عَلَيَّ شَديد )
فلقب عائد الكلب
قال ابن عمار هكذا حفظي عن النوفلي وقد يزيد القول وينقص
لحكم الوادي في هذين البيتين اللذين أولهما
( مَا لِي مَرضتُ فلم يَعُدْني عائدٌ ... منكم ويمرض كلْبُكم فأَعُودُ )
لحنان خفيف ثقيل بالوسطى عن إبراهيم وحبش ورمل بالوسطى عن الهشامي
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال
أنشد الأحيحي المهدي قصيدة مدحه بها وكان عبد الله بن مصعب حاضرا فحسده على إقبال المهدي عليه وكان المهدي يحبه فجعل يخاطب المهدي ويحدثه فقال له أمسك فما يشغلني كلامك عنه فقطع الأحيحي الإنشاد ثم أقبل على المهدي فقال له
( عبدُ منافٍ أبُو أُبوَّتِنَا ... وعَبدُ شمْس وهاشمٌ تَوَمُ )
( بَحران خَرّ العوَّامُ بَيْنَهُما ... فالْتَطَما والبِحارُ تَلْتَطم )

فقال له المهدي كذاك هو فدع هذا المعنى وعد إلى ما كنت فيه وخجل عبد الله فما انتفع بنفسه يومئذ
قال ابن عمار فحدثني بعض شيوخنا قال
كنت عند مصعب بن عبد الله الزبيري يوما وقد جرى ذكر الأحيحي فأنشدته هذين البيتين فتغير لونه ثم قال لي نعم قد كان خاطب أبي بهما فأمضه فلما قمنا عنه قال لي ويحك أتنشد رجلا كنت تتعلم منه وتأخذ عنه هجاء في أبيه فقلت له دعني فإني أحببت أن أغض من كبره قال وكان في مصعب بعض ذلك

صوت
( زارت سُلَيْمى وكان الحيُّ قد رقَدا ... ولم تَخفْ من عدو كاشِحٍ رصَدَا )
( لقد وَفَت لك سَلمَى بالذي وَعدَت ... لكنَّ عُقْبَةَ لم يُوفِ الذي وَعَدَا )
عروضه من البسيط الشعر لابن مفرغ الحميري والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن أحمد بن المكي وفيه لعواد لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس
وقد تقدمت أخبار ابن مفرغ مستقصاة فيما قبل هذا من الكتاب فاستغنى عن إعادتها ها هنا وإعادة شيء منها إذ كان قد مضى منها ما فيه كفاية ولله الحمد
صوت
( ما شأن عَيْننِك طَلَّةُ الأجفان ... مِمّا تَفيض مريضة الإِنسانِ )
( مَطْروفَةٌ تَهمِي الدّموعَ كأنّها ... وشَلٌ تَشَلْشَل دائِمُ التَّهتانِ )
الشعر لعمارة بن عقيل والغناء لمتيم ثاني ثقيل بالوسطى

أخبار عمارة ونسبه
عمارة هو ابن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية بن الخطفي وقد تقدم نسبه ونسب جده في أول الكتاب ويكنى عمارة أبا عقيل شاعر مقدم فصيح وكان يسكن بادية البصرة ويزور الخلفاء في الدولة العباسية فيجزلون صلته ويمدح قوادهم وكتابهم فيحظى منهم بكل فائدة وكان النحويون بالبصرة يأخذون عنه اللغة
ختمت الفصاحة به
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال سمعت محمد بن يزيد يقول ختمت الفصاحة في شعر المحدثين بعمارة بن عقيل
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي والصولي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال سمعت سلم بن خالد بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء يقول
كان جدي أبو عمرو يقول ختم الشعر بذي الرمة ولو رأى جدي

عمارة بن عقيل لعلم أنه أشعر في مذاهب الشعراء من ذي الرمة
قال العنزي ولعمري لقد صدق
وسمعت سلما يقول هو أشد استواء في شعره من جرير لأن جريرا سقط في شعره وضعف وما وجدوا لعمارة سقطة واحدة في شعره
قال العنزي وحدثني أحمد بن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء قال
أتيت عمارة أسأله عن شيء أكتبه عنه فقال لي من أنت فقلت أنا ابن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال لي كان أبوك صديقي ثم أنشدني
( بَنَى لكم العَلاءُ بِناءَ صِدْقٍ ... وتَعْمُرُ ذَاكَ يا حَكَم بنَ بِشْر )
( فما مَدْحي لكم لأُصِيب مَالاً ... ولكن مَدْحُكُم زَيْنٌ لِشعْرِي )

كان هجاء خبيث اللسان
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو ذكوان قال حدثنا أبو محلم قال
هجا عمارة بن عقيل امرأة ثم أتته في حاجة بعد ذلك فجعل يعتذر إليها فقالت له خفض عليك يا أخي فلو ضر الهجاء أحدا لقتلك وقتل أباك وجدك
قال مؤلف هذا الكتاب
وكان عمارة هجاء خبيث اللسان فهجا فروة بن حميصة الأسدي وطال التهاجي بينهما فلم يغلب أحدهما صاحبه حتى قتل فروة

وأخبرني محمد بن يحيى قال :
حدثنا أبو ذكوان قال قال لي عمارة ما هاجيت شاعرا قط إلا كفيت مؤونته في سنة أو أقل من سنة إما أن يموت أو يقتل أو أفحمه حتى هاجاني أبو الرديني العكلّي فخنقني بالهجاء ثم هجا بني نمير فقال
( أتوعِدُني لِتَقْتُلني نُمَيْرٌ ... مَتَى قَتَلَتْ نُمَيْرٌ مَنْ هجاها ؟ )
فكفانيه بنو نمير فقتلوه فقتلت بنو عكل وهم يومئذ ثلاثمائة رجل أربعة آلاف رجل من بني نمير
وقتلت لهم شاعرين رأس الكلب وشاعرا آخر

بينه وبين فروة بن حميصة
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني العنزي قال
حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال حدثني عمارة بن عقيل قال
كنت جالسا مع المأمون فإذا أنا بهاتف يهتف من خلفي ويقول
( نَجَّى عُمارةَ منّا أَنَّ مُدَّتَه ... فيها تراخٍ ورَكْضُ السَّابح النَّقِلِ )
( ولو ثقِفْناه أوهَيْنا جَوانِحَه ... بذابلٍ من رِماح الخَطِّ مُعْتَدِلِ )
( فإنّ أعناقَكم للسَّيفِ مَحْلَبَةٌ ... وإنّ مالَكم المرعِيَّ كالهَملِ )
( إذ لا يُوَطِّن عبدُ اللَّه مُهْجَتَه ... على النِّزال ولا لِصّا بَني حَمَلِ )
قال وهذا الشعر لفروة بن حميصة في
قال فدخلني من ذلك ما الله

يعلمه وما ظننت أن شعر فروة وقع إلى من هنالك ثم خرج علي بن هشام من المجلس وهو يضحك فقلت يا أبا الحسن أتفعل بي مثل هذا وأنا صديقك فقال ليس عليك في هذا شيء فقلت من أين وقع إليك شعر فروة قال وهل بقي كتاب إلا وهو عندي فقلت يا أمير المؤمنين أهجى في دارك وبحضرتك فضحك فقلت يا أمير المؤمنين أنصفني فقال دع هذا وأخبرني بخبر هذا الرجل وما كان بينك وبينه فأنشدته قصيدتي فيه فلما انتهيت إلى قولي
( ما فِي السَّوية أن تَجُرّ عليهم ... وتكُونَ يوم الرَّوع أوّلَ صادر )
أعجب المأمون هذا البيت فقال لي المأمون ألهذه القصيدة نقيضة قلت نعم قال فهاتها فقلت له أؤذي سمعي بلساني فقال علي ذلك فانشدته إياها فلما بلغت إلى قوله
( وابنُ المَراغَة جاحِرٌ من خَوفِنا ... بادٍ بمنزلَةِ الذّليلِ الصّاغِر )
( يَخْشَى الرّياحَ بأن تكونَ طليعةً ... أو أن تَحُلّ به عقوبةُ قادِر )
فقال لي
أوجعك يا عمارة فقلت ما أوجعته به أكثر

بيت من شعره قتل فروة
أخبرني محمد قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال حدثني عمارة قال إنما قتل فروة قولي له
( ما في السَّوِيَّة أن تَجُرَّ عليهم ... وتكون يوم الرَّوع أوَّلَ صادِرِ )
فلما أحاطت به طيء وقد كان في معاذ وموئل وكان كثير الظفر بهم كثير العفو عمن قدر عليه منهم فقالوا له والله لا عرضنا لك ولا أوصلنا إليك

سوءاً فامض لطيتك ولكن الوتر معك فإن لنا فيهم ثأرا فقال فروة فأنا إذا كما قال ابن المراغة
( ما فِي السَّوِيَّة أن تَجُرّ عليهمُ ... وتكُونَ يَومَ الرَّوع أوّلَ صادر )
فلم يزل يحمي أصحابه وينكي في القوم حتى اضطرهم إلى قتله وكان جمعهم أضعاف جمعه
أخبرني محمد قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال
قيل لعمارة أقتلت فروة فقال والله ما قتلته ولكني أقتلته أي سببت له سببا قتل به

بالغ في وصف كرمه فلامه المأمون
أخبرني محمد قال حدثنا الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثني عمارة قال
رحت إلى المأمون فكان ربما قرب إلي الشيء من الشراب أشربه بين يديه وكان يأمر بكتب كثير مما أقوله فقال لي يوما كيف قلت قالت مفداة ونظر إلي نظرا منكرا فقلت يا أمير المؤمنين مفداة امرأتي وكانت نظرت إلي وقد افتقرت وساءت حالي قال فكيف قلته فأنشدته
( قالت مُفدّاةُ لمَّا أَنْ رَأَت أَرَقِي ... والهمُّ يَعْتادُني من طيفِه لَمَمُ )
( أنهيْت مالكَ في الأدنَين آصِرةً ... وفي الأباعد حتى حَفّكَ العَدَمُ )

( فاطلب إليهم تَجِد ما كُنْت من حَسَنٍ ... تُسْدِي إليهم فقد ثابَتْ لهم صِرَمُ )
( فَقُلْتُ : عاذلتيِ أكثرتِ لائِمتي ... ولم يَمُت حاتِمٌ هُزْلاً ولا هَرِمُ )
قال فنظر إلي المأمون مغضبا وقال لقد علت همتك أن ترقى بنفسك إلى هرم وقد خرج من ماله في إصلاح قومه

عمرو بن مسعدة يصله فيمدحه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثنا عمارة قال
استشفعت بعلي بن هشام في أن يؤذن لي في الانصراف فقال ما أفعل ذلك لأنك تنشد أمير المؤمنين إذا خلوت به وتخبره عن وقائعك وفعالك ثم تخبره أنك مظلوم وقد أخذ هذا أمير المؤمنين عليك
ثم تذاكرنا فقال أما تذكر أبا الرازي حين أوقع بقومك وأقعوا به ثم تدخل على أمير المؤمنين مغضبا فتقول
( عَلامَ نِزارُ الخَيْل تَفْأى رُؤوسَنا ... وقد أسلَمَتْ مع النَّبِيّ نِزارُ )
وهي أبيات قالها حين قتلهم أبو الرازي وكان عمارة قد خرج من عند المأمون فنظر إلى رؤوس أصحابه فدخل فأنشد هذا البيت قال وأكره أن تتبعك نفسي أمير المؤمنين فيجد على من كلمه فيك فعليك بعمرو بن مسعدة وأبي عباد فإنهما يكتبان بين يدي أمير المؤمنين ويخلوان معه ويمازحانه فأتيت أبا عباد فذكرت له التشوق إلى العيال وسألته الاستئذان فصاح في وجهي وقال مقامك أحب إلى أمير المؤمنين من ظعنك وما أفعل ما يكرهه فذهبت من فوري إلى عمرو بن مسعدة فدخلت عليه وهو يختضب فشكوت إليه الأمر

فقال يا أبا عقيل لقد أذنت لك في ساعة ما أظهر فيها لأحد ولي حاجة قلت وما هي قال ألف درهم تجعل لك في كيس تشتري بها عبدا يؤنسك في طريقك ولست أقصر فيما تحب
فتلعثمت ساعة وتلكأت فقال حقا لئن لم تأخذها لا كلمتك فأخذتها وانصرفت وأنا أقول
( عمرُو بنُ مسعدةَ الكريمُ فَعالُه ... خَيرٌ وأَمجدُ من أَبي عبّادِ )
( من لم يُزَمْزِمْ والدَاه ولم يكُنْ ... بالرَّيّ عِلْجَ بِطانَة وحصَادِ )
( بَصَّرتُه سُبُلَ الرَّشادِ فما اهْتَدى ... لِسَبِيل مكرُمةٍ ولا لرَشَادِ )
( وعرفت إذ عَلِقَت يدِي بِعِنَانِه ... أنِّي عَلِقت عِنان غير جَوادِ )
( لو كان يعلم إذ يُشيحُ تَحَرُّقي ... في كلِّ مكرمةٍ ولين قيادِي )
( عرف المُصَدَّقُ رأيُه أني امرؤٌ ... يُفنِي العطاءُ طَرَائفي وتلادِي )
( وأصُون عِرْضِي بالسَّخاء وإن غدت ... غُبْر المحاجِر شُعَّثاً أولادِي )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا العنزي قال حدثني سلم بن خالد قال
أنشد عمارة قصيدة له فقال فيها الأرياح والأمطار فقال له أبو حاتم السجستاني هذا لا يجوز إنما هو الأرواح فقال
لقد جذبني إليها طبعي فقال له أبو حاتم قد اعترضه علمي فقال أما تسمع قولهم رياح فقال له أبو حاتم هذا خلاف ذلك قال صدقت ورجع

يمدح الواثق
حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا الحسن قال حدثنا العنزي قال

قدم عمارة البصرة أيام الواثق فأتاه علماء البصرة وأنا معهم وكنت غلاما فأنشدهم قصيدة يمدح فيها الواثق فلما بلغ إلى قوله
( وبقِيتُ في السَّبعين أنهضُ صاعداً ... فمَضَى لداتي كلُّهم فَتشعّبُوا )
بكى على ما مضى من عمره فقالوا له أملها علينا قال لا أفعل حتى أنشدها أمير المؤمنين فإني مدحت رجلا مرة بقصيدة فكتبها مني رجل ثم سبقني بها إليه ثم خرج إلى الواثق فلما قدم أتوه وأنا معهم فأملاها عليهم
ثم حدثهم فقال أدخلني إسحاق بن إبراهيم على الواثق فأمر لي بخلعة وجائزة فجاءني بهما خادم فقلت قد بقي من خلعتي شيء قال وما بقي قلت خلع علي المأمون خلعة وسيفا
فرجع إلى الواثق فأخبره فأمره بإدخالي فقال يا عمارة ما تصنع بسيف أتريد أن تقتل به بقية الأعراب الذين قتلتهم بمقالك قلت لا والله يا أمير المؤمنين ولكن لي شريك في نخيل لي باليمامة ربما خانني فيه فلعلي أجربه عليه فضحك وقال نأمر لك به قاطعا فدفع إلي سيفا من سيوفه
أخبرنا الصولي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
حدثني النخعي قال
لما قدم عمارة إلى بغداد قال لي كلم لي المأمون وكان النخعي من ندماء المأمون قال فما زلت أكلمه حتى أوصلته إليه فأنشده هذه القصيدة
( حتّامَ قلبُك بالحِسانِ مُوكل ... كلِفٌ بهِنَّ وهنَّ عنهُ ذُهّلُ )
فلما فرغ قال لي يا نخعي ما أدري أكثر ما قال إلا أن أقيسه وقد أمرت له لكلامك فيه بعشرين ألف درهم

يقدم خالد بن يزيد على تميم بن خزيمة
حدثني الصولي قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال
كانت بنو تميم اجتمعت ببغداد على عمارة حين قال شعره الذي يقدم فيه خالد بن يزيد على تميم بن خزيمة فقالوا له قطع الله رحمك وأهانك وأذلك أتقدم غلاما من ربيعة على شيخ من بني تميم بن خزيمة وهو مع ذلك من بيت تميم ولاموه فقال
( صَهُوا يا تَميمُ إنّ شَيبانَ وَائل ... بطرفِهم عنكم أضنُّ وأرغَبُ )
( أأن سُمْت بِرْذَوناً بطرفٍ غَضِبتُم ... عليّ وما في السُّوقِ والسَّوْم مَغضَبُ )
( فإن أكرمَتْ أو أَنجبَتْ أُمُّ خالدٍ ... فزند الرِّياحيِّين أورى وأَثقب )
قال ثم حدثنا عمارة قال قال لي علي بن هشام وفيه عصبية على العرب قد علمت مكانك مني وقيامي بأمرك حتى قربك أمير المؤمنين المأمون والمائة الألف التي وصلتك أنا سببها وها هنا من بني عمك من هو أقرب إليك وأجدر أن يعينني على ما قبل أمير المؤمنين لك فقلت ومن هو قال تميم بن خزيمة قال قلت إيه قال وخالد بن يزيد بن مزيد قلت سآتيهما فبعث معي شاكريا من شاكريته حتى وقف بي على باب تميم فلما نظر إلي غلمانه أنكروا أمري فدنا الشاكري فقال أعلموا الأمير أن على الباب ابن جرير الشاعر جاء مسلما فتوانوا وخرج غلام أعرف أنه غلام الأمير فحجبني فدخلني من ذاك ما الله به عالم فقلت للشاكري أين منزل خالد فقال اتبعني فما كان إلا قليلا حتى وقف بي على بابه ودخل بعض

غلمانه يطلب الإذن فما كان إلا قليلا حتى خرج في قميصه وردائه يتبعه حشمه
فقال لي بعض القوم هذا خالد قد أقبل إليك قال فأردت أن أنزل إليه فوثب وثبة فإذا هو معي آخذ بعضدي يريد أن أتكىء عليه فجعلت أقول جعلني الله فداك أنزل فيأبى حتى أخذ بعضدي فأنزلني وأدخلني وقرب إلي الطعام والشراب فأكلت وشربت وأخرج إلي خمسة آلاف درهم وقال يا أبا عقيل ما آكل إلا بالدين وأنا على جناح من ولاية أمير المؤمنين فإن صحت لي لم أدع أن أغنيك وهذه خمسة أثواب خز قد آثرتك بها كنت قد ادخرتها قال عمارة فخرجت وأنا أقول
( أَأتركُ إن قلَّت دَراهمُ خالدٍ ... زِيارَته إني إذاً للئِيمُ )
( فَليت بثوْبيه لنا كان خالدٌ ... وكان لبكر بالثّراء تَميمُ )
( فيصبِح فينا سَابقٌ مُتمَهِّلٌ ... ويُصبِح في بكرٍ أغمُّ بَهيمُ )
( فقد يُسْلِع المرءُ اللئيمُ اصطناعُه ... ويعتلُّ نقدُ المرء وهو كريم )
قال اليزيدي يسلع أي تكثر سلعته
والسلعة المتاع
أخبرني الصولي قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثني عمارة قال
لما بلغ خالد بن يزيد هذا الشعر قال لي يا أبا عقيل أبلغك أن أهلي يرتضون مني ببديل كما رضيت بنو تميم بتميم بن خزيمة فقلت إنما طلبت حظ نفسي وسقت مكرمة إلى أهلي لو جاز ذلك فما زال يضاحكني
أخبرني الصولي قال حدثنا الحسن قال
سمعت عبد الله بن محمد النباحي يقول سمعت عمارة يقول ما هجيت بشيء أشد علي من بيت فروة

( وابنُ المراغَةِ جاحِرٌ مِنْ خَوْفِنا ... بالوَشْم منزلةَ الذَّلِيلِ الصَّاغر )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني النباجي قال
لما قال عمارة يمدح خالدا
( تأَبى خَلائِقُ خَالدٍ وفَعَالُه ... إلاَّ تجنّبَ كلّ أمرٍ عائبِ )
( فإذا حضَرْت البابَ عند غدائهِ ... أَذِنَ الغَداءُ لنا برَغْم الحاجِب )
لقيه خالد فقال له أوجبت والله علي حقا ما حييت

أجود شعره ما هجا به الأشراف
قال العنزي وسمعت سلم بن خالد يقول قلت لعمارة ما أجود شعرك
قال ما هجوت به الأشراف
فقلت ومن هم قال بنو أسد وهل هاجاني أشرف من بني أسد
قال العنزي وحدثني أبو الأشهب الأسدي من ولد بشر بن أبي خازم قال
لما أنشد فروة بن حميصة قول عمارة فيه
( ما فِي السَّوِيّة أن تجرّ عليهمُ ... وتكون يوم الرَّوع أوَّل صادر )
قال والله ما قتلني إلا هذا البيت
فلما تكاثرت عليه الخيل يوم قتل قيل له انج بنفسك قال كلا والله لا حققت قول عمارة فصبر حتى قتل
وكان فروة من أحسن الناس وجها وشعرا وقدا لو كان امرأة لانتحرت عليه بنو أسد

هجاؤه أكرم هجاء
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني العنزي قال
حدثني علي بن مسلم قال أنشدت يعقوب بن السكيت قصيدة عمارة التي رد فيها على رجاء بن هارون أخي بني تيم اللات بن ثعلبة التي أولها
( حَيِّ الدِّيارَ كأنّها أسطارُ ... بالوَحْي يَدْرُس صُحْفَها الأحْبارُ )
( لَعِبَ البِلَى بجديدها وتنفّسَتْ ... عرصاتِها الأرْواحُ والأمطارُ )
قال أبو علي وهذا البيت الذي أخطأ فيه عمارة فقال الأرياح فرده عليه أبو حاتم السجستاني وهو يتغيظ فلما بلغ إلى قوله
( وجموع أسْعد إذ تَعضُّ رؤوسَهم ... بِيضٌ يَطِير لوِقعهِنَّ شَرارُ )
( حتى إذا عَزمُوا الفِرارَ وأسلموا ... بِيضاً حواصِنَ ما بهنَّ قرارُ )
( لحِقت حَفيظتُنا بهنّ ولم نزَلْ ... دُونَ النِّسَاء إذا فزِعْن نَغارُ )
قال ابن السكيت لله دره ما سمعت هجاء قط أكرم من هذا
أخبرني محمد بن يحيى قال :
وفد عمارة على المتوكل فعمل فيه شعرا فلم يأت بشيء ولم يقارب وكان عمارة قد اختل وانقطع في آخر عمره فصار إلى إبراهيم بن سعدان المؤدب وكان قد روى عنه شعره القديم كله فقال له أحب أن تخرج إلي أشعاري كلها لأنقل ألفاظها إلى مدح الخليفة فقال لا والله أو تقاسمني جائزتك فحلف له على ذلك فأخرج إليه شعره وقلب قصيدة إلى المتوكل وأخذ بها منه عشرة آلاف درهم وأعطى إبراهيم بن سعدان نصفها والله أعلم

صوت
( تَفرَّق أَهلي من مُقيمٍ وظاعنٍ ... فَلِللَّه دَرّي أّيّ أهْليَ اتْبَعُ )
( أَقام الّذينَ لا أُبالِي فِرَاقَهم ... وَشَطّ الذين بَينَهم أتوَقَّعُ )
الشعر للمتلمس والغناء لمتيم خفيف ثقيل بالوسطى

أخبار المتلمس ونسبه
لقبه واسمه ونسبه
المتلمس لقب غلب عليه ببيت قاله وهو
( فهذا أوانُ العِرض جُنّ ذُبابهُ ... زَنابِيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ )
واسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار
قال ابن حبيب فيما أخبرنا به عبد الله بن مالك النحوي عنه
ضبيعات العرب ثلاث كلها من ربيعة ضبيعة بن ربيعة وهم هؤلاء ويقال ضبيعة أضجم وضبيعة بن قيس بن ثعلبة وضبيعة بن عجل بن لجيم
قال وكان العز والشرف والرئاسة على ربيعة في ضبيعة أضجم وكان سيدها الحارث بن الأضجم وبه سميت ضبيعة أضجم وكان يقال للحارث حارث الخير بن عبد الله بن دوفن بن حرب وإنما لقب بذلك لأنه أصابته لقوة فصار أضجم ولقب بذلك ولقبت به قبيلته

ثم انتقلت الرئاسة عن بني ضبيعة فصارت في عنزة وهو عامر بن أسد بن ربيعة بن نزار وكان يلي ذلك فيهم القدار أحد بني الحارث بن الدول بن صباح ابن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة
ثم انتقلت الرئاسة عنهم فصارت في عبد القيس فكان يليها فيهم الأفكل وهو عمرو
هنا انقطع ما ذكره الأصفهاني رحمه الله
وروى أبو عبيدة وغيره هذا الخبر على نص ما مضى عن ابن حبيب
وقال الأفكل هو عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الديل بن شن بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ثم انتقل الأمر إلى النمر بن قاسط فكان يلي ذلك منهم عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله ابن النمر وإنما سمي الضحيان لأنه كان يقعد بهم في الضحى فيقضي بينهم ثم انتقل الأمر إلى بني يشكر بن بكر بن وائل فكان يلي ذلك منهم الحارث بن غبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر ثم انتقل الأمر إلى بني تغلب فصار يليه ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ثم وليه بعده ابنه كليب فكان من أمره في البسوس ما كان فاختلفت أمورهم وذهبت رياستهم

المتلمس وأخواله
وكان المتلمس في أخواله بني يشكر ويقال إنه ولد فيهم ومكث فيهم حتى كادوا يغلبون على نسبه فسأل الملك وهو عمرو ابن هند

مضرط الحجارة وهو محرق وإنما سمي محرقا لأنه حرق باليمامة مائة من تميم فسأل الملك يوما وهو عنده الحارث بن التوأم اليشكري عن المتلمس وعن نسبه فأراد أن يدعيه فقال المتلمس في ذلك
( تُعيِّرنِي أُمِّي رجالٌ ولن تَرَى ... أَخَا كَرمٍ إلاَّ بأَنْ يَتَكَرَّمَا )
( وَمَن كان ذا عرْض كريم وَلَمْ يَصُنْ ... له حَسباً كان اللَئيمَ المُذَمّما )
( أَحارِث إنْالو تُساط دماؤنا ... تَزَايَلْن حتى لا يَمَسَّ دمٌ دَمَا )
( أَمُنْتفِياً مِن نَصر بُهْثَة خلتني ... أَلاَ إنّني مِنْهُمْ وإنْ كُنْتُ أَيْنما )
بهثة ابن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة
( وإنّ نَصابي إنْ سَأَلتَ وَأُسْرَتي ... مِن الناس قومٌ يَقْتَنون المُزَنَّما )
( لذي الحِلْم قَبْل اليوم ما تُقَرع العَصا ... وما عُلِّم الإِنسانُ إلا لِيَعْلَمَا )
( فلو غَيْر أَخوالي أَرادُوا نَقيصَتي ... جَعَلْتُ لهم فَوْقَ العَرانِين مِيسَما )
( وَهَلْ لِيَ أُمٌّ غَيْرُها إن ذَكْرتُها ... أَبَى اللَّهُ إلا أن أكون لها ابْنَمَا )

( وقد كُنتَ تَرْجُو أن أَكونَ لِعَقْبكم ... زَنِيماً فما أُجْرِرْتُ أَن أَتَكلَّما )
وقال محمد بن سلام
المتلمس هو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن بن حرب وسائر النسب على ما تقدم
قال
والمتلمس خال طرفة بن العبد وكان طرفة قد هجاه
وقال ابن قتيبة
هو المتلمس بن عبد العزى ويقال ابن عبد المسيح من بني ضبيعة ابن ربيعة
ثم من بني دوفن وأخواله بنو يشكر واسمه جرير
وقال أبو حاتم عن الأصمعي
اسمه جرير بن زيد ويقال اسمه عمرو بن الحارث ويقال اسمه عبد المسيح بن جرير

المتلمس من الشعراء المقلين المفلقين
والمتلمس من شعراء الجاهلية المقلين المفلقين وجعله ابن سلام في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية وقرن به سلامة بن جندل

وحصين بن الحمام والمسيب بن علس
وقال ابن قتيبة قال أبو عبيدة
واتفقوا على أن أشعر المقلّين في الجاهلية ثلاثة المتلمس والمسيب ابن علس وحصين بن الحمام المري
قال ابن قتيبة
وكان للمتلمس ابن يقال له عبد المنان أدرك الإسلام وكان شاعرا وهلك ببصرى ولا عقب له
وقال أبو عبيدة
كانت ضبيعة بن ربيعة رهط المتلمس حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة فوقع بينهم نزاع ومخاصمة فقال المتلمس يعاتب بني ذهل
( أَلم تَرَ أَنَّ المَرْءَ رَهْنُ مَنيَّة ... صَرِيعٌ لعافِي الطَير أَو سَوفَ يُرْمَسُ )
( فلا تَقْبلَنْ ضَيْماً مخَافَةَ مِيتة ... ومُوتَنْ بها حُرًّا وجلْدُك أَملس )
( فمن حَذرِ الأيام ما حزَّ أَنفَه ... قَصِيرٌ وخاض الموتَ بالسيف بَيْهَسُ )

( نَعامَةُ لمَّا صَرَّعَ القَومُ رَهْطَه ... تَبَيَّن في أَثوابه كيف يَلْبَسُ )
( وما الناسُ إلا ما رَأَوْا وَتَحدَّثوا ... وما العَجْزُ إلا أن يُضامُوا فَيجْلِسوا )
( أَلم تَرَ أَن الجَوْنَ أَصْبح راسياً ... تُطِيف به الأيامُ ما يَتَأَيَّسُ )
الجون جبل أو حصن جعله جونا للونه
ما يتأيس أي لا يؤثر فيها الدهر يقول فليس الإنسان كالحجارة والجبال التي لا تؤثر فياه الأيام ولكنه غرض للحوادث فلا ينبغي له أن يقبل ضيما رجاء الحياة
وقال الرياشي الجون حصن اليمامة ويقال إنه أعيا تبعا
( عَصَى تُبَّعاً أَيام أُهْلكت القُرَى ... يُطَان عليه بالصَّفيح ويُكْلَسُ )
( هَلُمَّ إليها قد أُثيرتْ زُروعُها ... وَدَارتْ عليهَا المَنْجُنونَ تَكَدَّس )
( وذاك أَوان العِرْص جُنَّ ذُبابُه ... زَنَابيرُه والأزْرَق المُتلمِّسُ )

( فإنْ تُقبلوا بالوُدِّ نُقْبِلْ بمثْله ... وإلا فإنَّا نَحْنُ آبَى وَأَشْمسُ )
( يكونُ نَذِير مِن وَرائيَ جُنَّةٌ ... وَيَمْنعني منهمْ جُلَيُّ وَأَحْمَسُ )
نذير ابن بهثة بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة
وقال أبو عمرو نذير ابن ضبيعة بن نزار
( وإن يَكُ عنْا في حُبَيْبٍ تَثاقُلٌ ... فقد كان منّا مِقْنَبٌ ما يُعَرِّسُ )
أراد حبيب فخفف وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل يقول إن تثاقلوا عنا وقطعوا الرحم فإن لقومي غزى
ما يعرس ما يعرس في الغزو

حديث بيهس
فأما حديث بيهس الذي ضرب به المثل فإن أبا عبيدة قال
مدركو الأوتار في الجاهلية ثلاثة سيف بن ذي يزن الحميري وبيهس الفزاري وقصير صاحب جذيمة الأزدي وقد مضى خبر قصير وسيف في موضعهما من هذا الكتاب وروى أبو حاتم عن الأصمعي
أن بيهسا الفزاري غزا ربعه قوم فأغاروا على إخوته وأهل بيته وقتلوهم أجمعين وأسروا بيهسا فلما نزلوا بعض المنازل راجعين نحروا جزورا فأكلوا وقالوا ظللوا البقية فقال بيهس لكن بالأثلات لحم لا يظلل يعني أجساد من أصيب من قومه فذهبت مثلا فلطمه رجل منهم وجعل

يدخل رجليه في يدي سرباله فقال له رجل منهم لم تلبس هذا اللبس وجعل يعلمه كيف يلبس وكان يقال إن به طرقة يعني جنونا فقال
( البَسْ لكُل عِيشة لَبُوسَها ... إمَّا نَعِيمَها وإمَّا بُوسَها )
فلطمه الرجل الذي كان لطمه مرة أخرى فقال له بيهس لو نكلت عن الأولى لم تعد إلى الثانية فقال بعضهم إن مجنون فزارة هذا ليتعرض للقتل فخلوا عنه فخلوه فلما أتى أهله جعل نساؤه يتحفنه فقال يا حبذا الترات لولا الذلة فذهبت مثلا فاجتمع عليه الغم مع ما به من قلة العقل فجعلت أمه تعاتبه ويشتد عليها ذلك منه فقالت لو كان فيك خير لقتلت مع قومك فقال لو خيرت لاخترت فذهبت مثلا ثم جمع جمعا وغزا القوم الذين وتروه ومعه خال له فوجدوهم في وهدة من الأرض كبيرة فدفعه خاله عليهم وكان جسيما طويلا وإنما سمي نعامة لذلك فقاتل القوم وهو يقول مكره أخوك لا بطل فذهبت مثلا وقتل القوم وأدرك بثأره
وقال يعقوب بن السكيت في كتاب الأمثال روي مثله عن أبي عبيدة وروى هذا الخبر أيضا أبو عبيد القاسم بن سلام واللفظ ليعقوب وروايته أتم الروايات قال
كان بيهس وهو رجل من بني غراب بن فزارة بن ذبيان بن بغيض سابع سبعة إخوة فأغار عليهم ناس من أشجع بن ريث بن غطفان وبينهم حرب وهم في إبلهم فقتلوا ستة نفر منهم وبقي بيهس وكان يحمق وكان أصغرهم فأرادوا قتله ثم قالوا ما تريدون من قتل مثل هذا أيحسب عليكم برجل ولا خير فيه فتركوه فقال دعوني أتوصل معكم إلى الحي

فإنكم إن تركتموني وحدي أكلتني السباع وقتلني العطش ففعلوا فأقبل معهم فنزل منزلا فنحروا جزورا في يوم شديد الحر فقال بعضهم ظللوا لحمكم لا يفسد فقال بيهس لكن بالأثلات لحم لا يظلل فقالوا إنه لمنكر وهموا أن يقتلوه ثم تركوه ففارقهم حين انشعب طريق أهله فأتى أمه فقالت ما جاء بك من بين إخوتك فقال لو خيرك القوم لاخترت فأرسلها مثلا ثم إن أمه تعطفت عليه ورقت له فقال الناسُ قد أحبت أم بيهس بيهسا ورقت له فقال بيهس ثكل أرأمها ولدا فأرسلها مثلا أي عطفها ثم جعلت تعطيه ثياب إخوته ومتاعهم فيلبسها فقال يا حبذا الترات لولا الذلة فذهبت مثلا ثم أتى على ذلك ما شاء الله ثم إنه مر على نسوة من قومه وهن يصلحن امرأة يردن أن يهدينها لبعض القوم الذين قتلوا إخوته فكشف عن استه ثوبه وغطى رأسه به فقلن ويلك ما تصنع يا بيهس فقال
( الْبس لكُلّ عيشة لَبُوسَها ... إمَا نَعِيمَها وإما بُوسها )
فأرسلها مثلا فلما أتى على ذلك ما شاء الله جعل يتتبع قتلة إخوته فيقتلهم ويتقصاهم حتى قتل منهم ناسا كثيرا فقال بيهس
( يا لَها نَفْساً يا لَهَا إنَّني ... لها الطُّعمُ والسّلامَهْ )
( فقَد قَتل القَومُ إخْوَتها ... بكُلِّ واد زُقاءُ هَامَهْ )
( فَلأَطرقَنْ قَوماً وَهُمْ نيامٌ ... وَأَبْرُكنْ بِرْكَةَ النَّعَامَهْ )
وبهذا البيت لقب نعامة

( قابِضَ رِجْلٍ باسط أُخْرَى ... والسّيفَ أُقْدمه أَمَامَهْ )
ثم أخبر أن ناسا من أشجع في غار يشربون فيه فانطلق إلى خال له يقال له أبو حشر فقال له هل لك في غار فيه ظباء لعلنا نصيب منهن فقال نعم فانطلق بيهس بأبي حشر حتى إذا قام على فم الغار دفع أبا حشر في فم الغار فقال ضربا أبا حشر فقال بعض قومهم إن أبا حشر لبطل فقال أبو حشر مكره أخوك لا بطل فكان بيهس مثلا في العرب فقال بعض شعراء بني تغلب
( لُقمان مُنْتَصراً وقُسٌّ ناطقاً ... ولأنْتَ أجْرأُ صَولةً من بَيْهس )
وقال الزبير بن بكار
قتل إخوة بيهس نصر بن دهمان الأشجعي وأراد قتل بيهس فقيل له إنه أحمق فأعده لأمه تسكن إليه فلما بلغوا قال نصر ظللوا ذلك اللحم فذاك حيث يقول نعامة لكن بالأثلات لحم لا يظلل ففزع منه نصر فقيل له كلمة جاءت من أحمق
قال الزبير الأثلات شجر وهو الطرفاء
قال أبو عبيد الأثلات موضع
وقد روي أن هذا المثل مكره أخوك لا بطل لغير نعامة أو خاله أبي حشر
روي أن عبيد بن شرية الجرهمي وهو أحد المعمرين حدث معاوية ابن أبي سفيان في حديث فيه طول

أول من قال مكره أخوك لا بطل
أن مالك بن جبير سأل حارثة بن عبد العزى في مجلس علقمة بن علاثة الجعفري عن أول من قال مكره أخوك لا بطل فقال حارثة أول من قال ذلك جرول بن نهشل بن درام بن كعب وكان جبانا هيوبا قد عرف الناس ذلك منه غير أنه كان ذا خلق كامل وإن حيا من أحياء العرب أغاروا على بني دارم وهم خلوف فاستاقوا أموالهم ونساءهم وسيدهم يومئذ نهشل بن دارم أبو جرول
فخرج واجتمع إليه قومه فنادى فيهم أيما رجل لم يأتنا برأس أو أسير أو ظعينة فهو نفي منا ولحقتهم بنو دارم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا وأصحابه في ذلك يأتونه بالرؤوس والأسرى والظعائن وكان لنهشل ستة إخوة وهو سابعهم عبد الله ونهشل ومجاشع وأبان وجرير وفقيم وخيبري هؤلاء بنو دارم بن كعب فساد القوم كلهم يومئذ مجاشع وذلك لأنه أتاه بما فرض على ثلاثين رجلا بعشرة رؤوس وعشرة أسارى وعشرة ظعائن فقسمها فيمن لم يكن قتل ولا أسر ولا استنقذ وإن جرولا أتى عمه مجاشعا فقال يا عم أعطني منها رأسا فقال له عمه يا جرول إن الهمام يصدق الحسام فسار جرول متذمرا حتى حمل على ناحية الجمهور على رجل يسوق ظعينة فلما رآه الرجل خشيه لكمال خلقه وهو لا يعرفه وكان قد سمع بخبر جرول وجبنه فلما دنا منه جرول هم الرجل بترك الظعينة فقال أنا جرول بن نهشل في

الحسب المؤثل فعطف عليه الرجل فقال يا جرول بن نهشل إن الوهل فشل وليس هكذا البطل والقول يرفعه العمل ثم إنه طعن فرمى جرولا طعنة فكبا جواده فأخذه وكتفه ثم ساقه وهو يقول
( إذا ما لِقيتَ امْرأً في الوَغَى ... فذكر بنَفسك يا جَرْوَلُ )
حتى انتهى به إلى قائد الجيش ورئيس القوم وكان قد عرف جبن جرول فقال له يا جرول ما عهدناك تقاتل الأبطال ولا تحب النزال فقال جرول مكره أخوك لا بطل فأعطاه رأس رجل من بني دارم ثم قال انطلق فالجبن شر من الإسار فعمد إليه الذي كان أسره فجرحه وقال له جئت تستنقذ الظعائن يا لها من ظعينة ما كان أضيعها ثم خلى سبيله وجرول يرى أن الرأس الذي أعطي من رؤوس حزبه فأتى أباه فقال يا أبت هكذا تلقى الأبطال وتسلم الأنفال الجدع خير من النفي ثم قال هذا رأس رجل قتلته فنظر إلى الرأس فإذا رأس رجل من أصحابه فجاء إخوة المقتول فقالوا أقيدونا جرولا بأخينا فإنه قتله فلما رأى جرول الشر وما وقع فيه أخبر أباه والقوم الخبر فعرفوا جبنه
وأنه لم يكن يقتل الرجال فخلوا عنه وقالت عمرة أخت المقتول ترثي أخاها وتذكر جرولا
( ألا يا قتيلا ما قتيلا معاشر ... ثوى بين أَحْجار صريعا وجنْدل )
( وقد يصبح الخيل المغيرة فيهم ... ويسْرع كر المُهْر في كُلّ جحْفِل )
( وَيَهدِي ضَلولَ القَومِ في لَيلة السُّرَى ... أمينُ القُوى في القَوم لَيس بزُمَّل )
( فأدَّى إلينا رَأْسَه ثمَّ جَرْولٌ ... فللَّه ماذا كان من فِعْل جَرْولِ )

( فَشَلَّت يداه يَوْمَ يَحْمِل رَأْسَه ... إلى نَهشلٍ والقَومُ حَضْرةَ نَهْشَلِ )

رجع الخبر إلى حديث المتلمس
وروى أبو محمد عبد الله بن رستم عن يعقوب بن السكيت قال قدم المتلمس وطرفة بن العبد على عمرو بن هند فقال
( قُولاَ لِعَمرِو بن هِنْدٍ غيرَ مُتَّئِبٍ ... يا أخْنَسَ الأنفِ والأضراسُ كالعَدَسِ )
شبه أضراسه بالعدس في صغرها وسوادها
( مَلْكُ النَّهارِ وَأَنْتَ الليلَ مُومِسَةٌ ... ماءُ الرِّجال على فَخْذَيك كالقَرِس )
( لو كُنتَ كَلْبَ قَنِيص كُنْتَ ذَا جُدَد ... تكون أُرْبَتُه في آخِر المَرَسِ )
( لَعوْا حَرِيصاً يَقُول القانِصان له ... قُبِّحْتَ ذا أنْفِ وَجْه ثَمَّ مُنْتَكِسِ )
المومسة الفاجرة
وأراد بالقرس القريس وهو الجامد
والقنيص القانص والقنيص أيضا الصيد
والأربة العقدة
والمرس الحبل أي هو أخس الكلاب فقلادته أخس القلائد
وقال ابن الكلبي
هذا الشعر لعبد عمرو بن عمار يهجو به الأبيرد الغساني وبسببه قتل عبد عمرو

صحيفة المتلمس
وكان طرفة قد هجا عمرو بن هند أيضا بعدة قصائد فلما قدما عليه كتب لهما إلى عامله على البحرين وهجر وكان عامله عليهما فيما يزعمون ربيعة بن الحارث العبدي وقال لهما انطلقا فاقبضا جوائزكما فخرجا فزعموا أنهما هبطا النجف
قال المتلمس يا طرفة إنك غلام حديث السن والملك من عرفت حقده وغدره وكلانا قد هجاه فلست آمنا أن يكون قد أمر بشر فهلم فلننظر في كتبنا هذه فإن يكن قد أمر لنا بخير مضينا فيه وإن تكن الأخرى لم نهلك أنفسنا فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك وحرض المتلمس طرفة فأبى وعدل المتلمس إلى غلام من غلمان الحيرة عبادي فأعطاه الصحيفة ولا يدري ممن هي فقرأها فقال ثكلت المتلمس أمه فانتزع المتلمس الصحيفة من الغلام واكتفى بذلك من قوله واتبع طرفة فلم يلحقه وألقى الصحيفة في نهر الحيرة ثم خرج هاربا إلى الشام فقال المتلمس في ذلك
( وَأَلقيتُها بالثِّنْي مِنَ جَنْب كافرٍ ... كذلك أقْنُوا كل قِطٍّ مُضَلَّلٍ )
( رَضِيتُ لها بالماء لمّا رَأيتها ... يَجُول بها التيّارُ في كُلِّ جَدْولِ )
قال أبو عمرو كافر نهر بالحيرة وقال غيره كافر نهر قد ألبس الأرض وغطاها وقال أبو عمرو أقنو أحفظ وقال غيره أقنو أجزي يقال لأقنونك قناوتك أي لأجزينك بفعلك
والقط الصحيفة
فيقول حفظي لهذا الكتاب أن أرمي به في الماء
وقال المتلمس أيضا وقد كان فيما يقال قال لطرفة حين قرأ كتابه تعلمن أن الذي في صحيفتك مثل الذي في صحيفتي قال طرفة إن كان

اجترأ عليك فلم يكن ليجترىء علي ولا ليغرني ولا ليقدم علي فلما غلبه صار المتلمس إلى الشام وقال
( منَ مُبلِغ الشّعراء عَن أَخَوَيْهِم ... نَبأً فَتَصْدُقَهمْ بذاك الأنْفُس )
( أوْدَى الذي عَلِق الصَّحيفةَ منهما ... ونَبا حِذَارَ حِبَائه المُتلمّسُ )
( ألْقَى صحيفَته وَنَجَّت كورَهُ ... وَجْناءُ مُجْمرة المَناسم عِرْمِسُ )
( عَيْرانَةٌ طَبَخَ الهَواجرُ لحمها ... فكأنّ نُقْبَتَها أدِيمٌ أمْلَسُ )
( أُجُدٌ إذا ضَمرتْ تَعزَّز لحمُها ... وإذا تُشَدُّ بِنِسْعها لا تَنْبِسِ )
( وَتَكاد مِن جَزَع يَطِيرُ فُؤادُها ... إنْ صاحَ مُكَّاءُ الضُّحا مُتَنَكِّسُ )
الوجناء الضخمة الغليظة الصلبة كأنها لصلابتها ضربت بمواجن القصار واحدتها ميجنة وهي مدقتة
ومجمرة المناسم مجتمعة لطيفة في صلابة
وعظم الأخفاف من الهجنة وليس من صفة النجائب والعرمس الناقة الصلبة شبهت بالعرمس وهي الصخرة الصلبة
وتعزز تشدد
وتنبس تنطق وتصيح
وطبخ الهواجر لحمها أي
سافرت عليها حتى انجرد شعرها
ونقبتها لونها والمكاء طائر يطير في الجو ثم يتنكس
وقال محمد بن موسى الكاتب
زعموا أن الكتب لم تزل في قديم الدهر منشورة غير مختومة ولا معنونة فلما قرأ المتلمس صحيفته
التي كتبها له عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين واطلع على سره فيها ختمت الكتب

وروي عن الرياشي عن عمرو بن بكير عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن عمرو قال أخبرني عبيد راوية الأعشى ورأيته بالحيرة زمن معاوية شيخا كبيرا قال أخبرني الأعشى قال حدثني المتلمس قال

المتلمس وطرفة عند عمرو بن هند
قدمت أنا وطرفة بن العبد على عمرو بن هند وكان غلاما معجبا تائها يتخلج في مشيته بين يديه فنظر إليه نظرة كادت تقتلعه من الأرض وكان عمرو لا يبتسم ولا يضحك وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة وملك ثلاثا وخمسين سنة وكانت العرب تهابه هيبة شديدة له يقول الذهاب العجلي
( أَبَى القَلبُ أَنْ يَهْوَى السِّدِيرَ وَأهْلَه ... وإن قِيل عَيْشٌ بالسَّدير غَريرُ )
( فلا أنذرُوا الحيَّ الذي نَزَلُوا به ... وإنِّي لِمن لم يَأْتِه لَنَذِيرُ )
( به البَقُّ والحُمَّى وَأُسْدُ خَفِيَّة ... وَعَمرُو بنُ هِند يَعْتِدِي وَيَجورُ )
قال المتلمس فقلت لطرفة إني لأخاف عليك من نظرته إليك هذه مع ما قلت قال كلا فكتب لنا كتابا إلى المكعبر كتب ولم نره وختم ولم نره لي كتاب وله كتاب وكان المكعبر عامله على عمان والبحرين فخرجنا حتى إذا هبطنا بذي الركاب من النجف إذا أنا بشيخ على يساري يتبرز ومعه كسرة يأكلها وهو يقصع القمل فقلت تالله ما رأيت شيخا أحمق

وأضعف وأقل عقلا منك قال وما تنكر قلت تتبرز وتأكل وتقصع القمل قال أدخل طيبا وأخرج خبيثا وأقتل عدوا
وأحمق مني الذي يحمل حتفه بيمينه لا يدري ما فيه قال فنبهني وكأنما كنت نائما فإذا غلام من أهل الحيرة فقلت يا غلام تقرأ قال نعم قلت اقرأه فإذا فيه من عمرو بن هند إلى المكعبر إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فألقيت الصحيفة في النهر
فذلك حيث أقول
( وألقيتها بالثِّنْي من جنب كافِر ... )
البيتين
وقلت يا طرفة معك مثلها قال كلا ما كان ليفعل ذلك في عقر داري قال فأتى المكعبر فقطع يديه ورجليه ودفنه حيا ففي ذلك يقول المتلمس
( مَن مُبلغ الشُّعراء عن أخَوَيْهِمُ ... نَبَأً فَتصْدُقهم بذاك الأنْفُسُ )
( أوْدَى الذي عَلَق الصَّحيفة مِنهما ... وَنَجَا حِذار حِبائه المُتلمّس )
( ألْقِ الصَحيفةَ لا أبالك إنّه ... يُخْشَى عليك من الحِبَاء النِّقْرسُ )
( ألقَى صَحِيفَتَه وَنَجَّت كُورَه ... وَجَناءُ مُجْمَرة الفَراسِن عِرْمسُ )
( أجُدٌ إذا ضَمرتْ تَعزَّز لحْمُها ... وإذا تُشَدُّ بنسْعِها لا تَنْبِسُ )
وقال ابن قتيبة
كان المتلمس ينادم عمرو بن هند هو وطرفة بن العبد فهجواه فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين أوهمهما أنه أمر لهما بجائزة وكتب إليه يأمره بقتلهما فخرجا حتى إذا كانا بالنجف إذا بشيخ عن يسار الطريق يحدث ويأكل من خبز في يده ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه فقال المتلمس ما رأيت كاليوم شيخا أحمق فقال الشيخ وما رأيت من حمقي أخرج خبيثا وأدخل طيبا وأقتل عدوا أحمق والله مني من يحمل حتفه بيده فاستراب المتلمس بقوله وطلع غلام من الحيرة فقال له المتلمس

أتقرأ يا غلام قال نعم ففك صحيفته ودفعها إليه فإذا فيها
أما بعد فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فقال لطرفة ادفع إليه صحيفتك يقرأها ففيها والله ما في صحيفتي فقال طرفة كلا
لم يكن ليجترىء علي فقذف المتلمس صحيفته في نهر الحيرة
وقال
( قذفت بها بالثِّنْي من جَنب كافر ... )
وأخذ نحو الشام وأخذ طرفة نحو البحرين فضرب المثل بصحيفة المتلمس

عمرو بن هند يحرم عليه حب العراق
( آليْتُ حَب العِراق الدَّهرَ آكلُه ... والحَبُّ يَأْكُله في القَرْية السُّوسُ )
وأتى بصرى فهلك
بها
وروى أبو بكر محمد بن عليب الفارسي عن أبيه عن الغلابي عن ابن بكار
أن الفرزدق قدم المدينة على سعيد بن العاصي وهو واليها لمعاوية ابن أبي سفيان عند هربه من زياد فدخلها وسعيد يعشي الناس وهو جالس على منبر والناس على كراسي وكان الحطيئة وكعب بن جعيل حاضرين فتقدم الفرزدق وحدر اللثام عن وجهه ثم قال هذا مقام العائذ

بك من رجل لم يصب دما ولا مالا فقال سعيد قد أجرتك إن لم تكن أصبت دما ولا مالا فمن أنت قال أنا همام بن غالب بن صعصعة وقد أثنيت على الأمير فإن رأى أن يأذن لي لأسمعه ثنائي فعل قال هات فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( عليك بَني أُمية فاسْتَجِرْهُمْ ... وَخُذْ مِنهمْ لما تَخْشَى حِبَالا )
( فإنّ بَني أُميّة مِن قُرَيش ... بَنَوْا لبُيوتهم عَمَدا طَِوالاَ )
حتى انتهى إلى قوله
( تَرَى الغُرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الخَطْب في الحَدَثان عَالا )
وحرم عمرو بن هند على المتلمس حب العراق فقال
( بَني عَمّ النَّبي وَرَهْطَ عَمرٍو ... وعُثمان الأُلَى عَظموا فَعَالاَ )
( قِياماً يَنْظُرون إلى سَعيد ... كأنْهمُ يَرَوْن به هِلاَلا )
قوله ورهط عمرو يريد بني هاشم
واسم هاشم عمرو بن عبد مناف
فقال مروان وكان إلى جانب سعيد يا فرزدق فهلا قلت قعودا قال لا والله إلا قائما على رجليك يا أبا عبد الملك فحقدها مروان وقال كعب بن جعيل هذه والله الرؤيا التي رأيتها البارحة قال سعيد وما رأيت قال رأيت كأني في سكك المدينة فإذا أنا بابن قترة
أراد أن يتناولني فاتقيته
وقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوزهما إلى الفرزدق فقال

له قل ما شئت فقد أدركت من مضى ولا يدركك من بقي ثم قال لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنا نعلل به أنفسنا منذ اليوم وزاد الغلابي في حكايته هذه
قال وقد ذكر محمد بن سلام عن أبي يحيى الضبي
أن الحطيئة لما قال للفرزدق هذه المقالة قال كعب بن جعيل فضله على نفسك ولا تفضله على غيرك فقال الحطيئة والله أفضله على نفسي وغيري ثم قال له يا غلام أنجدت أمك قال بل أنجد أبي
ثم أقام الفرزدق بالمدينة يختلف إلى بيوت القيان بها فلما وليها مروان بعد سعيد وفي قلبه على الفرزدق ما فيه وقد كان مروان نهاه في صدر ولايته عن المداخل التي كان يدخلها وعن قول الخنى في شعره فبعث إليه ألم أنهك عن الإفصاح بالخنى والإقرار بالفسق أخرج عن المدينة فإني عاهدت الله لئن أصبتك بها بعد ثلاثة لأقطعن لسانك

الفرزدق ومروان
وأخبرنا أبو بكر بن دريد ها هنا قال
فقال الفرزدق
( تَوَعّدني وَأَجَّلني ثَلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمهْلِكها ثَمُودُ )
قال الغلابي فحدثني العباس بن بكار قال
بعث إليه مروان بكتاب مختوم وقال توصله إلى عاملي فقد كتبت إليه أن يدفع إليك ثلاثمائة دينار فإذا أصبحت فاغد حتى تودعني وكتب إلى عامله أن يضربه مائة سوط ويحبسه ثم ندم مروان فقال يعمد إلى الكتاب

فيفتحه ويقرأ ما فيه فيهجوني وأهل بيتي فلما أصبح غدا عليه الفرزدق فقال له مروان إني قد قلت في هذه الليلة أبياتا فاقرأها فقال الفرزدق وما قلت قال قلت
( قُل للفَرَزدق والسَّفاهة كاسمها ... إن كُنْت تَارِكَ ما نَهيتُك فاجْلِس )
( ودَع المَدينَة إنَّها مَذْمُومةٌ ... واقصد لمكَّة أولِبَيت المَقْدِس )
( وإن اجْتنبْتَ من الأمور عَظِيمةً ... فاعْمِدْ لِنَفسك بالزَّمَاع الأكْيَس )
ففطن الفرزدق لما أراد فقال
( يا مَرْوُ إنّ مَطيتي مَحْبُوسةٌ ... تَرجو الحَباءَ وربُّها لم يَيأسِ )
( وحَبْوتني بصحيفة مختومة ... يُخْشَى عليَّ بها حَبَاءُ النقرسِ )
( ألقِ الصحيفة يا فرزدقُ لا تَكن ... نَكداءَ مَثْلَ صَحيفة المُتلمِّس )
ثم رمى بالصحيفة في وجهه وخرج حتى أتى سعيد بن العاصي وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر عليهم السلام فأخبرهم الخبر فأمر له كل واحد منهم بمائة دينار وراحلة فأخذ ذلك وتوجه إلى البصرة
وصار إلى مروان جماعة من أهله فندموه على فعله وقالوا له تعرضت لشاعر مضر فندم وبعث إليه رسولا ومعه مائة دينار وراحلة فأوصل ذلك إليه وصار حتى قدم البصرة

رجع الخبر إلى حديث المتلمس
وقال أبو عبيدة
لما بلغ النعمان بن المنذر لحوق المتلمس بالشام وكانت غسان قتلت أباه يوم عين أباغ شق عليه لحوقه بغسان وحلف ألا يدخل العراق ولا يطعم بها حتى يموت فقال المتلمس
وروى أبو محمد بن رستم عن ابن السكيت أن عمرو بن هند كتب إلى عماله على الريف ليأخذوا المتلمس ويمنعوه من الميرة فقال المتلمس
( يا آل بَكْرٍ أَلاَ للَّه أُمُّكُم ... طال الثَّواءُ وَثَوْبُ العَجزِ مَلْبُوسُ )
( أَغنيتُ شَأْني فأَغنوا اليومَ شَأْنكُم ... واسْتَحْمقُوا في مراسِ الحرب أوْ كيسُوا )
( إنّ عَلاَفاً وَمَنْ باللُّوْذِ من حَضَنٍ ... لما رَأوْا أنه دِينٌ خَلابيسُ )
علاف هو ربان بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة وحضن جبل معروف واللوذ نواحيه
يقول قد ثويتم على العجز لا تطلبون يوم طرفة ويقال أمر خلابيس وهو الأمر فيه اختلاط لا واحد لها
وقال ابن النحاس حضن جبل منجد يقال إن علافا كانوا بهذا الجبل فلما أوذوا تحولوا إلى عمان
وقال خلابيس أمر فيه عور واختلاط وفساد ويقال أمر خلابيس إذا كان متفرقا

سامة بن لؤي بن غالب
( رَدُّوا عليهم جمال الحَي فارْتَحلوا ... والظُّلمُ يُنكرُه القومُ الأكاييسُ )
ويروى

( شدُّوا الجِمالَ بأكوارٍ على عَجلٍ ... والضَّيمُ يُنْكِره القومُ المَكاييسُ )
( كانوا كَسَامَةَ إذ شَعْفٌ مَنازِلُه ... ثم اسْتمرَّتْ به البُزْلُ القَنَاعيسُ )
وروى يعقوب
( كونُوا كسامة إذْ خَلَّى مساكِنَه ... )
يريد سامة بن لؤي بن غالب
قال ابن الكلبي
وكان من سببه أنه جلس هو وأخواه كعب وعامر ابنا لؤي يشربون فوقع بينهم كلام ففقأ سامة عين عامر وخرج إلى عمان مغاضبا
وقال أبو عبيدة
بل فقأ عين سعد أخيه
وقال أبو العباس الأحول
لما غاضب سامة بن لؤي قومة خرج إلى عمان فأبى الضيم وكان ينزل بكبكب وهو الجبل الأحمر وراء عرفة فتركه ومضى
والمكاييس جمع مكياس
قال وشعاف الجبل أعاليه
وأراد أنه كان منزله بمكة وهي أعلى البلاد وقال غيره شعف موضع بالبحرين
( حَنَّت قَلُوصِي بها والليلُ مُطَّرِقٌ ... بَعد الهدُوء وَشَاقَتْها النِّواقِيسُ )
مُطَّرق يقال تطرق أي ركب بعض ظلمته بعضا
يقول حنت

ناقتي إلى الشام وشاقتها النواقيس لأن غسان كانوا نصارى
( مَعقُولةٌ يَنْظُرَ التَشْرِيقَ راكبُها ... كأنّه مِن هوًى للرَّمْل مَسْلُوس )
ويروى
( كَأَنه طَرَفٌ للرمل مَسْلُوسُ ... )
يريد بالتشريق أيام التشريق أي ينظرها لرمي الجمار ثم يذهب إلى الشام وكان حج حين هرب
والمسلوس والمألوس الذاهب العقل وقال ابن النحاس يريد بالتشريق إشراق الشمس
( وَقد أضَاءَ سُهَيْلٌ بَعد ما هَجَعُوا ... كأنه ضَرَمٌ بالكَفّ مَقْبوسُ )
( أنَّى طَرِبْتِ ولم تُلْحَيْ على طَرب ... ودونَ إلْفِك أمْراتٌ أمَالِيسُ )
( حَنَّت إلى نَخْلَة القُصَْوى فقُلتُ لها ... بَسْلٌ حَرَامٌ ألاَ تِلْكَ الدَّهارِيسُ )
الأمرات والأماليس التي لا نبات بها
ونخلة معرفة غير مصروف وهو واد مما يلي نجدا
ونخلة القصوى طريق الشام
وبسل حرام
والدهاريس الدواهي ولا واحد لها وحكى علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس الأحول أن واحدها دهرس
( أُمِّي شآميَّة إذ لا عِرَاقَ لنا ... قَوْماً نَودُّهُمُ إذ قَوْمُنا شُوسُ )
أمي أي اقصدي
شآمية أي ناحية شامية والأشوس الذي ينظر إليك نظر البغضة
( لن تَسْلُكي سُبُل البَوْبَاة مُنْجِدةً ... ما عَاشَ عَمروٌ ولا ما عَاش قابُوسُ )

وروى الأصمعي
( ما عِشتَ عَمرٌو ولا ما عِشْتَ قابوس ... )
على النداء
والبوباة ثنية في طريق نجد ينحدر منها إلى العراق
وعمرو وقابوس ابنا المنذر
( آليت حَبَّ العِراق الدَّهْرَ آكُلُه ... والحَبُّ يَأْكله في القَريَة السُّوس )
( لم تَدْرِ بُصْرَى بما آليتُ مِن قسمٍ ... ولا دمَشْق إذا ديسَ الكَدادِيسُ )
يقول لم تدر بلاد الشام بيمينك فتبرها وتمنعني حبها كما منعتني حب العراق
والكداديس جمع كدس على غير قياس ويروى إذا ديس الفراديس
والفراديس درب يقال له درب الفراديس
وقال ابن النحاس الفراديس موضع بدمشق أي إذا درست الزروع التي عند الفراديس
وقال الأصمعي الفراديس البساتين واحدها فردوس أي لم تبلغ الشام يمينك لهوانك عليها يهزأ به
وقوله
( والحَبّ يأْكله في القرية السُّوس ... )
لكثرته عندهم
( فإنَ تَبدَّلْتُ من قَوْمِي عَديَّكُمُ ... إنِّي إذاً لَضعيفُ العَقلِ مَأْلُوس )
( كم دون مَيَّةَ من مُسْتَعْمَل قُذُف ... ومن فَلاةِ بها تُسْتَودَعُ العِيسُ )
( ومِن ذُرَا عَلَم ناءٍ مَسَافتُه ... كَأَنْه في حَبَابِ الماءِ مَغْموسُ )
( جَاوَزْتُه بأمُون ذات مَعْجمَة ... تَرْمِي بكَلْكَلها والرَّأْسُ مَعْكُوسُ )

ويروى من دوية قذف
ويروى تنجو بكلكلها
والمستعمل الطريق الموطأ
والقذف البعيد
يقول إن العيس لبعد هذا الطريق تسقط فيه فيتركونها ويريد كأن العلم إذا انغمس في السراب مغموس في الماء
والأمون يؤمن عثارها وخورها ومعجمتها خبرها من عجمت العود إذا عضضته لتنظر صلابته ويقال المعجمة الصلابة
ومعكوس بالزمام لنشاطها
وروي أن أبا عمرو بن العلاء لقي الفرزدق فاستنشده بعض شعره فأنشده
( كم دُونَ مَيَّة من مُستعمَل قُذُف ... وَمِن فَلاة بها تُسْتَودع العِيسُ )
فقال له أبو عمرو أو هذا لك يا أبا فراس فقال اكتمها علي والله لضوال الشعر أحب إلي من ضوال الإبل

المتلمس يهرب إلى الشام ويقول شعرا
وقال أبو عبيدة
لما لحق المتلمس بالشام هاربا من عمرو بن هند وهند أمه وهي بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية الكندي وهو عمرو بن المنذر بن الأسود بن النعمان بن المنذر بن امرىء القيس بن النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم وهو عدي بن نمارة بن لخم
وقال ابن الكلبي إنما سمي عمما لأنه أول من تعمّ وذلك حين كتب له عمرو بن هند ولطرفة فقرأ المتلمس كتابه فلما رأى الداهية هرب وسار طرفة إلى عامل البحرين فقتله فقال المتلمس يذكر لحاقه بالشام ويحرض قوم طرفة على الطلب بدمه

( إنَّ العِراقَ وَأَهْلَه كانُوا الهوَى ... فإذا نآني وُدُّهمْ فَلْيَبْعد )
( فَلَتَتْرُكنَّهُمُ بلَيْلٍ ناقَتي ... تدَعُ السِّمَاك وَتَهْتَدِي بالفَرْقَد )
فإن السماك يمان والفرقد شآمي
( تَعْدُو إذا وَقَع المُمرُّ بِدَفِّها ... عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ ضيقَ المَرْصَد )
( أُجُدٌ إذا اسْتَنْفَرْتَها مِن مَبْرك ... حُلبَتْ مَغابِنُها بِرُبٍّ مُعْقَد )
الممر السوط المفتول والنحوص الحائل من الأتن والأجد الموثقة الخلق
ومغابنها أرفاغها شبه عرق تلك المواضع بالرب
( وإذا الرِّكَابُ تَوَاكَلَتْ بعد السُّرَى ... وجَرَى السَّرَابُ على مُتُونِ الجَدْجَدِ )
( مَرِحَتْ وصاحَ المَرْوُ من أخفافها ... جَذْبَ القَرينةِ بالنَّجَاءِ الأجْرَدِ )
الجدجد الصلب من الأرض يقال جدد وجدجد
والمرو حجارة بيض
والقرينة بعيران في حبل فإذا أفلت أحدهما لم يأل جهدا
والأجرد الحثيث السريع
( لِبلادِ قَوْم لا يُرامُ هَدِيُّهم ... وَهَدِيُّ قَوْمٍ آخرِين هو الرَّدِي )
( كَطُرَيفَةَ بنِ العبدِ كان هَدِيَّهُمْ ... ضَرَبُوا صَمِيمَ قَذَاله بمُهَنَّد )
الهدي الجار هنا والهدي أيضا الأسير يقول إن جار غسان لا يضام ولا يرام بسوء
( إنّ الخِيانة والمَغالةَ والخَنَى ... والغَدْرَ تَتْركه ببَاْدَة مُفْسد )
( مَلِكٌ يُلاعبُ أُمَّه وَقَطِينَه ... رِخْوُ المَفَاصِل أيرُهُ كالمِرْودِ )

يريد عمرو بن هند
والقطين الحشم رماه بالمجوسية ونكاح الأمهات ويقال بل أراد أن به تأسفا
( بالبابِ يَرْصُدُ كُلَّ طالِب حاجة ... فإذا خَلاَ فالمَرّءٌ غَيْرُ مُسَدَّد )
( وإذا حَلَلْت ودُونَ بَيْتِيَ غَاوَةٌ ... فابْرُقْ بِأرْضِك ما بَدا لك وارْعُد )
غاوة موضع بالشام
أو باليمامة ويقال هي أرض دون بني حنيفة يقول تهددني ما بدا لك فإني لا أبالي بوعيدك
( أبَني قِلاَبَةَ لم تَكُنْ عَادَاتُكُمْ ... أخْذَ الدَّنِيَّةِ قَبلَ خُطَّةِ مِعْصَد )
( لم يَرْحَضِ السوءات عن أحسابكُمْ ... نَعَمُ الحَواثِر إذ نُسَاق لِمَعْبَدِ )
( فالعَبْدُ دُونكمُ اقْتُلوا بأخِيكمُ ... كالعَيْرِ أبْرَزَِ جَنْبَه لِلمطْرَدِ )
قال يعقوب قال ابن الكلبي
قلابة بنت الحارث بن قيس بن الحارث بن ذهل من بني يشكر تزوجها سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فولدت له مرثدا وكهفا وقميئة ومرقشا الشاعر الأكبر
وقال غير ابن الكلبي
قلابة امرأة من بني يشكر وهي بعض جدات طرفة وهي بنت عوف ابن الحارث اليشكري ويقال هي قلابة بنت رهم
ومعضد بن عمرو الذي ولي قتل طرفة وهو ابن الحواثر
من عبد القيس
وقال غيره
معضد الذي جاء بالإبل لدية طرفة فدفعها إلى قومه
وقال يعقوب

إن الذي قتل طرفة رجل من عبد القيس ثم من الحواثر يقال له أبو ريشة وإن الحواثر ودته إلى أبيه وقومه لما كان من قتل صاحبهم إياه
وقال ابن الكلبي
الحواثر هم ربيعة وجبيل ابنا عمرو بن عوف بن وديعة بن لكيز ابن أفصى بن عبد القيس وعمرو بن عوف بن عمرو بن عوف ابن بكر بن عوف بن أنمار
وحوثرة هو ربيعة بن عمرو وإنما حضر هؤلاء معه فسموا الحواثر والحوثرة حشفة الرجل وإنما سمي حوثرة لأنه ساوم بقدح بعكاظ أو بمكة فاستصغره فقال لصاحبه لو وضعت فيه حوثرتي لملاته فبذلك سمي حوثرة
ومعبد بن العبد أخو طرفة
وقال ابن الكلبي
كان عمرو بن هند ودى طرفة من نعم كان أصابه من الحواثر
يقول لن يغسل عنكم العار أخذكم الدية دون أن تثأروا به وتقتلوا عمرو بن هند الذي هو كالحمار أعرض جنبه للرمح أي أمكن
وروى أبو عبيدة قبل خطة معصد بالصاد غير المعجمة أي
يفعل به من العصد وهو النكاح يريد به عمرو بن هند
وقال غيرهم
إن عمرو بن هند انتفى من قتل طرفة وزعم أنه لم يأمر الحوثري بقتله فأخذت ديته من الحوثري لأنه قتل بيده فدفعت إلى معبد بن العبد أخي طرفة

المتلمس شاعر بني ضبيعة
وروى ابن الكلبي
عن محراش بن إسماعيل العجلي ورواه المفضل الضبي قالا
كان المتلمس شاعر ربيعة في زمانه وإنه وقف على مجلس لبني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم شعرا فقال فيه
( وقد أتناسَى الهَمَّ عِند احْتضاره ... بِنَاجٍ عَليه الصَّيْعريّةُ مُكْدَمِ )
والصيعرية سمة تكون للإناث خاصة
فقال له طرفة وهو غلام استنوق الجمل أي وصفت الجمل بوصف الناقة وخلطت فذهبت كلمته مثلا وقال الكميت بن زيد
( هَززتكُمُ لو أنَّ فيكمْ مَهَزَّةً ... وذكَّرتُ ذا التَّأْنيث فاسْتَنوَق الجَملْ )
وقال ابن السكيت في كتاب الأمثال
زعموا أن المتلمس صاحب الصحيفة كان أشعر أهل زمانه وهو أحد بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار وأنه وقف ذات يوم على مجلس لبني قيس ابن ثعلبة وطرفة بن العبد يلعب مع الغلمان يستمعون فزعموا أن المتلمس أنشد هذا البيت
( وقد أتَناسى الهَمّ عند احْتِضاره ... بناجٍ عليه الصَّيعريّةُ مُكْدَمِ )
والصيعرية فيما يزعمون سمة توسم بها النوق باليمن دون الجمال فقال طرفة استنوق الجمل فأرسلها مثلا فضحك القوم فغضب المتلمس ونظر إلى لسان طرفة وقال ويل لهذا من هذا يعني رأسه من لسانه
وقال أبو محمد بن رستم حدثني أبو يعقوب بن السكيت قال

عاب طرفة وهو غلام على المسيب بن علس بيتا قاله في قصيدته وهو قوله
( وقد أتناسى الهَمَّ عِند احْتضاره ... بناجٍ عليه الصّيعريّة مُكْدَم )
الصيعرية سمة تكون على الإناث خاصة
مكدم غليظ
( كُمَيْت كِنَازِ اللَّحْم أو حِمْيريّة ... مُواشِكة تَنْفي الحَصَى بمُثلَّمِ )
كناز مكتنز اللحم
مواشكة سريعة
وملثم خف قد لثمته الحجارة
( كأنْ على أنْسائه عذْقَ خَصْبَة ... تَدلّى من الكافُور غَيْرَ مُكَمّمِ )
شبه هلب ذنبه بكباسة الخصبة وهي الدقلة والجمع الخصاب
وغير مكمم غير مغطى
فقال طرفة وهو لا يعرفه استنوق الجمل أي إن هذه السمة لا تكون إلا على الناقة فقال له المسيب ارجع إلى أهلك بوامئة وهي الداهية فقال له طرفة لو عاينت هن أمك هناك فقال له المسيب من أنت قال طرفة بن العبد
فأعرض عنه المسيب

الأصمعي يقول المتلمس من الفحول
وقال ابن النحاس قال الأصمعي
المتلمس من الفحول
وقال أبو عبيدة
لم يسبق المتلمس إلى قوله

( لِذي الحِلْم قَبلَ اليَوم ما تُقْرَعُ العَصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلاَّ لِيعْلَما )
( وما كُنْتَ إلاَّ مِثْلَ قاطِعِ كَفِّه ... بكَفٍّ لهُ أُخْرَى فأصْبح أجْذَما )
( يَدَاه أصَابَتْ هَذه حَتْفَ هَذه ... فلم تَجِدِ الأخْرَى عَليها تَقَدُّما )
( فلما اسْتَقاد الكَفُّ بالكَفّ لم يَجِدْ ... له دَرَكاً في أنْ تَبِينَا فَأحْجَما )
( فَأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاع ولو يَرَى ... مَسَاغاً لنابَيْه الشُّجَاعُ لَصَمَّما )
قال
وذو الحلم عامر بن الظرب العدواني لما كبر قال لأهله إن جرت في حكومتي فاقرعوني بعصا

لمن قرعت العصا
وقال أبو رياش
قرع العصا مثل تدعيه دوس وهم من أزد السراة لعمرو بن حممة وتدعيه قيس لعامر بن الظرب العدواني وتدعيه بنو قيس بن ثعلبة لسعد بن مالك بن ضبيعة

فأما ما تدعيه دوس لعمرو بن حممة فالخبر فيه وفي عامر بن الظرب واحد وهو أنه كان كل واحد منهما حكما للعرب يتحاكمون إليه في كل معضلة وعمرو بن حممة في هذا الحديث أشهر وذلك أن العرب أتوه يتحاكمون إليه فغلط في بعض حكومته وكان الشيخ قد أسن وتغير فقالت له بنته إنك قد صرت تهم في حكمك يقال وهم الرجل إذا غلط وذهب وهمي إلى كذا أي ظني وأوهم إذا أسقط فقال لابنته إذا رأيت ذلك فاقرعي لي العصا وكانت إذا قرعت له بالعصا ثاب إليه حلمه فأصاب في حكمه
وأما ما تدعيه بنو قيس بن ثعلبة فيزعمون أن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس أتى النعمان الأكبر ومعه خيل بعضها يقاد وبعضها أعراء مهملة فلما انتهى إلى النعمان سأله عنها فقال له سعد إني لم أقد هذه لأمنعها ولم أعر هذه لأهبها فسأله النعمان عن أرضه هل أصابها غيث يحمد أثره أو روى شجره فقال سعد أما المطر فغزير وأما الورق فشكير وأما النافذة فساهرة وأما الحازرة فشبعى نائمة وأما الرمثاء فقد امتلأت مساربها وابتلت جنائبها ويروى الدهناء بدل الرمثاء وأما النبائث فغدر لا تطلع وأما الحذف فعراب لا تنكع تقتر إذا ترتع
الشكير ساعة نبته
والنافذة ضرب من الغنم وكذلك الحازرة أيضا والرمثاء أرض
والنبائث تراب
والحذف غنم صغار
وتنكع تمنع
وتقتر تطلب القرارة وهي بقية القدر ويقال تقتر تطلب القرار وهي صغار الغنم فقال النعمان وحسده على ما رأى من ذرابة لسانه وأبيك إنك لمفوه فإن شئت آتيك بما تعيا عن جوابه فقال سعد شئت إن لم يكن منك إفراط ولا إبعاط والإبعاط مجاوزة القدر فأمر النعمان وصيفا له

فلطمه وإنما أراد أن يتعدى في القول فيقتله فقال له ما جواب هذه قال سعد سفيه مأمور فأرسلها مثلا فقال النعمان للوصيف الطمه أخرى فلطمه فقال ما جواب هذه قال لو نهي عن الأولى لم يعد للأخرى فأرسلها مثلا فقال النعمان للوصيف الطمه أخرى ففعل فقال له ما جواب هذه قال ملك يؤدب عبده فقال الطمه أخرى ففعل فقال ما جواب هذه قال ملكت فاسجح فأرسلها مثلا فقال له النعمان أجبت فاقعد
فمكث عنده ما مكث
ثم بدا للنعمان أن يبعث رائدا يرتاد له الكلأ فبعث عمرو بن مالك أخا سعد بن مالك فأبطأ عليه فأغضبه ذلك فأقسم إن جاء حامدا أو ذاما ليقتلنه فلما قدم عمرو على النعمان دخل عليه والناس عنده وسعد قاعد لديه مع الناس وقد كان سعد عرف بما أقسم به النعمان من يمينه فقال سعد أتأذن لي أيها الملك فاكلمه قال إن كلمته قطعت لسانك قال فأشير إليه قال إن أشرت إليه قطعت يدك قال فأومىء إليه قال إذا أنزع حدقتك قال فاقرع له العصا قال وما يدريه ما تقول العصا فاقرع له فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه وأخذ عصاه التي كانت معه وأخوه قائم فقرع بعصاه العصا قرعة واحدة فنظر إليه أخوه ثم أومأ بالعصا نحوه فعرف أنه يقول له مكانك ثم قرع العصا قرعة واحدة ثم رفعها إلى السماء ومسح عصاه بالأخرى فعرف أنه يقول له لم أجد جدبا ثم قرع العصا مرارا بطرف عصاه ثم رفعها شيئا فعرف أنه يقول ولا نباتا ثم قرع العصا قرعة وأقبل بها نحو النعمان فعرف أنه يقول له كلمه فأقبل عمرو بن مالك حتى قام بين يدي النعمان فقال له النعمان هل حمدت خصبا أو ذممت جدبا فقال عمرو لم أذمم جدبا ولم أحمد خصبا الأرض مشكلة لا خصبها يعرف ولا جدبها يوصف رائدها واقف ومنكرها عارف وآمنها خائف فقال له النعمان أولى لك بذلك نجوت فنجا وهو أول من قرعت له العصا
وعمرو هذا هو الحشام أخو سعد فقال سعد لقرعه العصا

( قَرعتُ العَصا حتَّى تَبيّن صاحِبي ... ولم تَكُ لَولا ذاك للقَوْم تُقْرَعُ )
( فقال رَأيْتُ الأرْضَ ليس بمُمْحِل ... ولا سارحٍ فيها على الرَّعي يَشْبَعُ )
( سواء فلا جَدْبٌ فيُعرف جَدْبُها ... ولا صَابها غَيْثٌ غَزِيرٌ فتُمْرِعُ )
( فَنَجّى بها حَوْباءَ نَفْسِ كَرِيمة ... وقد كَاد لولا ذاك فيهم يُقَطَّعُ )

أول من قرع العصا وقرعت له
وقد روى عبيد بن شرية الجرهمي
أن حارثة بن عبد العزى سأل مالك بن جبير عن أول من قرع العصا وقرعت له وعن قول الشاعر
( وزَعَمتمُ أنْ لا حُلُومَ لَنا ... إنَّ العَصَا قُرِعَتْ لذِي الحِلْمِ )
فقال مالك على الخبير سقطت وبالعليم أحطت إن أول من قرع العصا سعد بن مالك أخو بني كنانة حين أتى الملك المنذر بن النعمان ومعه خيل بعضها تقاد مهيأة والأخرى مهملة
وذكر الخبر نحو ما ذكره أبو رياش وفي الألفاظ زيادة ونقصان والمعنى واحد
وذكر الجاحظ
أن عامر بن الظرب العدواني حكم العرب في الجاهلية لما أسن واعتراه النسيان أمر بنته أن تقرع بالعصا إذا هو فهه عن الحكم وجار عن القصد وكانت من حكيمات بنات العرب حتى جاوزت في ذلك مقدار صحر بنت لقمان وهند بنت الخس وجمعة بنت

حابس بن مليل الإياديين وكان يقال لعامر ذو الحلم ولذلك قال الحارث بن وعلة
( وزَعمتمُ أَنْ لا حُلومَ لَنا ... إنَّ العَصا قُرِعَتْ لذي الحِلْمِ )
وقال المتلمس
( لذي الْحِلم قَبل اليَوم ما تُقْرَع العَصَا ... وما عُلِّمَ الإنسانُ إلاَّ لِيَعْلَمَا )
وقال الفرزدق بن غالب
( فإِنْ كُنتُ أَسْتَأْني حُلومَ مُجاشِعٍ ... فإنَّ العَصا كانت لذي الحِلْم تُقْرَعُ )
ومن ذلك حديث سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة واعتزام الملك على قتل أخيه إن هو لم يصب ضميره فقال له سعد أبيت اللعن أتدعني حتى أقرع العصا له بهذه العصا أختها فقال له الملك وما علمه بذلك أي مما تقول العصا فقرع بها مرة وأشار بها مرة ثم رفعها ثم وضعها ففهم المعنى فأخبره ونجا من القتل

من الشام يهجو
رجع الحديث إلى خبر المتلمس
وروى أبو حاتم عن الأصمعي
أن المتلمس هجا عمرو بن هند بعد لحاقه بالشام فقال
( أطَرَدْتَني حَذَرَ الهِجاءِ ولا ... واللاَّت والأنصابِ ماتئِل )
( وَرَهَنْتَني هِنْداً وعِرضَك في ... صُحُف تَلُوح كأنها خِللُ )
( شَرُّ المُلوك وشَرُّهَا حَسباً ... في النَّاس مَن عَلموا ومَن جَهلوا )

( بِئْس الفُحولةُ حِينَ جَدَّ بِهمْ ... عَرْكُ الرِّهان وبِئْسَ مَا نجَلوا )
( أعني الخؤولة والعُمُومَ فهُمْ ... كالطَّبْنِ لَيْس لِبَيته حِوَلُ )
قال والطبن بكسر الطاء وفتحها لعبة يلعب بها الصبيان في الأعراب وهي بالفارسية السدر وإنما يصفه بالضعف قال أبو النجم
( مِن ذكْرِ آيات ورَسْمِ لاحي ... كالطَّبْن في مُختلِف الرِّياحِ )
ويروى أيضا الطبن
وروي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله جلس يعترض الناس ويكتب الزمنى فوقف عليه أعرابي فأنشأ يقول
( إنْ تَكْتُبوا الزَّمْنَى فإنِّي لَزمِنْ ... مِن ظاهر الداءِ وداءٍ مُستكِنّ )
( أبِيتُ أهْوِي في شَياطِينَ ترِنّ ... مُختلفٍ نَجواهُم حِنّ وجِنّ )
( فبتْن يَلعَبن حوالَيَّ الطَّبَنْ ... )
فقال زمنوا هذا ثم وقف عليه شيخ منهم فقال له ما زمانتك فقال الأعرابي
( فواللَّه ما أدري أَأَدْرَكْتُ أُُمَّةً ... على عَهد ذي القَرْنين أم كُنتُ أقدَمَا )
( متى تَنْزعا عَني القَمِيصَ تَبيّنا ... جَناجِنَ لم يُكْسَيْنَ لَحْماً ولا دَما )
فقال عمر زمنوا هذا فإنه لا يدري متى ولد
وقوله حن وجن فإن الجن سفلة الجن وقال الجاحظ الجن ضربان حن
وجن كما يقال ناس ونسناس
والشعر الذي فيه الغناء المذكور بسببه خبر المتلمس يقوله المتلمس حين فارق أخواله من بني يشكر

المتلمس منوط في بني عمرو بن مرة
وروى أبو حاتم عن الأصمعي أن المتلمس ولد في أخواله من بني

يشكر ونشأ فيهم حتى كادوا يغلبون عليه فسأل الملك عنه الحارث بن التوأم اليشكري والحارث بن جلدة فقال ممن المتلمس فقالا هو منوط في بني عمرو بن مرة أي إنه من ضبيعة مرة ومرة منا وهو ساقط بين الحيّين
ففارق أخواله ولحق بقومه بني ضبيعة وقال في ذلك
( تَفرّق أهْلي من مُقيم وظاعنٍ ... فللَّه دَرِّي أيّ أهلَي أتبعُ )
( أقام الذين لا أُحِبُّ جِوارهمْ ... وبانَ الذين بَينَهم أتوقّعُ )
قال الرياشي الذي أعرف
( أقام الذين لا أُبالي فراقهمْ ... )
( على كُلِّهم آسَى وللأصْل زُلْفَةٌ ... فَزَحْزِحْ عن الأَدنَيْنَ أَن يَتصدّعُوا )
يقول لا تتباعد عن الأدنين فيصدعوا عنك ويفارقوك وإنما عنى أخواله من بني يشكر
وقومه من بني ضبيعة
( أَلِكْنِي إلى قَوْمي ضُبيعةَ إنَّهمْ ... أُنَاسِي فلُومُوا بَعد ذلك أو دَعُوا )
( وقد كان أخوالي كريماً جوَارِهمْ ... ولكنَّ أصْلَ العُود مِن حَيث يُنْزَع )
يقول أخوالي كانوا كراما ولكني أذهب إلى أعمامي كما ينزع العرق إلى أصله
( ولا تَحْسِبنِّي خاذِلاً مُتخلِّفاً ... ولا عَيْنُ صَيْد مِن هَواي ولعلعُ )
عين صيد ولعلع من آخر السواد إلى البر فيما بين البصرة والكوفة ولعلع كان سجن الحجاج بن يوسف

وقال المتلمس في ذلك أيضا
( لَعلك يَوماً أن يَسُرك أنَّني ... شَهِدْتُ وقد رَمَّتْ عِظَاميَ في قَبرِي )
( وتُصْبِحُ مَظْلوماً تُسامُ دَنِيَّةً ... حَرِيصاً على مِثْلي فَقيراً إلى نَصْري )
( ويَهْجُرك الإخْوانُ بعدي وتُبْتَلَى ... وينْصُرْنِي مِنك الإلهُ ولا تَدْرِي )
( ولو كُنْتُ حَيًّا يومَ ذلِك لم تُسَمْ ... له خطَّةٌ خَسْفاً وشوورْتُ في الأمر )
قال
وفي ذلك يقول
( ولو غَير أخْوالي أرادوا نَقِيصتي ... جَعلتُ لهم فوق العرانِين مِيسمَا )
( أحارث إنا لو تُساط دماؤُنا ... تَزايلْنَ حتى لا يَمَسّ دمٌ دَما )
يقول لو خلطت دماؤنا ودماؤكم لتزايلت وتميزت من بعد ما بيننا وهذا كما قال الآخر
( لَعمرك إِنَني وأبا رياحٍ ... على طول التَّهاجُر مُنذُ حِينِ )
( ليُبْغِضنِي وأُبغضه وأيضاً ... يَرانِي دُونه وأراه دُوني )
( فلو أنّا على حَجَرِ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّمَيان بالخَبر اليَقينِ )

ما يعاب في شعره وما يتمثل به
قال ابن قتيبة
وما يعاب من قول المتلمس قوله
( أحارثُ إنَّا لو تُساط دماؤُنا ... تَزايلن حتى لا يَمسَّ دمٌ دَمَا )

وهذا من الكذب والإفراط ومثله قول رجل من بني شيبان كنت أسيرا مع بني عم لي وفينا جماعة من موالينا في أيدي التغالبة فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وهدة من الأرض فكنت والله أرى دم العربي ينماز من دم المولى حتى أرى بياض الأرض من بينهما فإذا كان هجينا قام فوقه ولم يعتزل عنه
وقال ابن قتيبة ويتمثل من شعر المتلمس بقوله
( وأعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنٍّ ... وتَقَوى اللَّه مِن خَيْر العتَادِ )
( لَحْفِظُ المالِ أيْسرُ من بُغاهُ ... وضَرْب في البلاد بغَير زادِ )
( وإصْلاحُ القَليل يَزيدُ فيه ... ولا يَبقى الكثيرُ على الفساد )
وقال أبو علي الحاتمي
أشرد مثل قيل في البغض قول المتلمس
( أَحارث إنَّا لو تُساط دماؤُنا ... تَزَايلن حتى لا يَمس دمٌ دَمَا )
حكى ذلك أبو عبيدة وزعم أنه أسير مثل في البغض
قال
وأشرد مثل قيل في الفخر بالأمهات قوله أيضا
( يُعيرني أُمِّي رجالٌ ولن تَرَى ... أخَا كَرَمٍ إلا بأنْ يَتكَرَّمَا )
( وهل لِيَ أمٌّ غَيْرها إنْ تَركتُها ... أبى اللَّهُ إلا أن أكُونَ لها ابْنَما )
قال

وأشرد مثل قيل في اعتداد بني العم والكف عن مقاتلتهم بفعلهم قوله
( وما كُنْتُ إلا مِثْل قاطع كَفه ... بكَفٍّ له أُخْرَى فأصبح أجْذَمَا )
( يداه أصابتْ هذه حَتفَ هذه ... فلم تَجد الأُخْرَى عليها تَقَدُّما )
( فلما اسْتقاد الكَف بالكَفِّ لم يَجدْ ... له دَركاً في أن تَبِينا فأحْجَما )
( فأطْرق إطراقَ الشُّجاع ولو يَرى ... مَسَاغاً لنابَيْه الشُّجاعُ لصَمما )
قال أبو عبيدة
يريد أنه فيما صنع به أخواله بمنزلة من قطع إحدى يديه بالأخرى فلو هجاهم وكافأهم كان بمنزلة من قطع يده الأخرى فبقي أجذم فأمسك عنهم
قال أبو علي
والبيت الأخير يضرب مثلا للرجل يقصر إلى أن تمكنه الفرصة
قال أبو عبيدة
ولم أسمع لأحد بمثل هذه الأبيات حكمة وأمثالا من أولها إلى آخرها وفيها من الأمثال السائرة ما يضرب مثلا للحكيم يذكر به عند نسيانه
( لذي الْحِلم قَبل اليوم ما تُقْرع العصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلا ليَعْلما )
وفيها من شارد الأمثال
( إذا لم يَزل حبْلُ القَرينَين يَلْتَوي ... فلا بُدَّ يوماً من قُوىً أن تَجذَّمَا )
قال أبو علي

وأشرد مثل قيل في حفظ المال وتثميره قوله
( قَليل المال تُصلحه فَيبقى ... ولا يَبقى الكَثِير مع الفَسادِ )
( وحِفظ المال أيسرُ من بُغاه ... وسَيْر في البِلادِ بغَير زاد )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45