كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

وإني واضعك بغير ذلك الموضع وعامل على تطرق بلادك والهجوم على أمصارك أو تؤدي إلى ما كانت المرأة تودى إليك والسلام
فلما ورد كتابه على الرشيد كتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك وجوابك عندي ما تراه عيانا لا ما تسمعه ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم في جمع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدة ورأيا فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وشاور في أمره وجد الرشيد يتوغل في بلاد الروم فيقتل ويغنم ويسبي ويخرب الحصون ويعفي الآثار حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينية فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمي به في تلك الطرق وألقيت فيه النار فكان أول من لبس ثياب النفاطين محمد بن يزيد بن مزيد فخاضها ثم أتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا وخضع له أشد الخضوع وأدى إليه الجزية عن رأسه فضلا عن أصحابه فقال في ذلك أبو العتاهية
( إمامَ الهُدَى أصبَحْتَ بالدِّين مَعْنِيّاً ... وأصبحتَ تَسقِي كُلَّ مستمطِرٍ رِيا )
( لك اسمانِ شُقّا من رَشادِ ومن هُدًى ... فأنت الذي تُدعَى رَشيداً ومَهْدِيَّا )
( إذا ما سَخِطْتَ الشيء كان مُسَخَّطاً ... وإن تَرضَ شَيْئاً كان في النَّاس مَرْضِيَّا )
( بَسَطْتَ لنا شَرْقاً وغَرْباً يَدَ العُلا ... فأوسعتَ شَرْقِيَّا وأوسَعْتَ غَرْبِيَّا )
( ووشَّيتَ وَجْهَ الأرضِ بالجُود والنَّدى ... فأصبَح وَجهُ الأرض بالجُودِ مَوْشِيَّا )
( وأنت - أمير المؤمنين - فَتَى التقَى ... نشرتَ من الإِحسان ما كان مَطْوِيَّا )

( قَضَى اللهُ أن يَبْقى لِهارونَ مُلْكهُ ... وكان قَضاءُ الله في الخَلْق مَقْضِيَّا )
( تجلَّلَت الدُّنْيا لِهارُون ذِي الرِّضا ... وأصبح نَقْفُورٌ لهارون ذِمِّيَّا )
فرجع الرشيد - لما أعطاه نقفور ما أعطاه - إلى الرقة فلما سقط الثلج وأمن نقفور أن يغزى اغتر بالمهلة ونقض ما بينه وبين الرشيد ورجع إلى حالته الأولى فلم يجترىء يحيى بن خالد - فضلا عن غيره - على إخبار الرشيد بغدر نقفور فبذل هو وبنوه الأموال للشعراء على أن يقولوا أشعارا في إعلام الرشيد بذلك فكلهم كع وأشفق إلا شاعرا من أهل جدة كان يكنى أبا محمد وكان مجيدا قوي النفس قوي الشعر وكان ذو اليمينين اختصه في أيام المأمون ورفع قدره جدا فإنه أخذ من يحيى وبنيه مائة ألف درهم ودخل على الرشيد فأنشده
( نَقَض الذي أعْطاكه نَقْفورُ ... فعَلَيه دائرَةُ البَوارِ تَدُورُ )
( أبشِرْ أميرَ المُؤْمِنِين فإنّه ... فَتْحٌ أتاك به الإِلهُ كَبِيرُ )
( فلقَد تباشَرَت الرَّعِيَّة أن أتى ... بالنَّقْض عنه وافد وبَشِيرُ )
( ورجَتْ بيُمْنِك أن تُعجِّل غَزوةً ... تَشفِي النُّفوس نَكالُها مَذْكُورُ )
( أعْطاكَ جِزْيته وَطَأْطَأ خَدَّه ... حَذَرَ الصَّوارِم والرَّدَى مَحْذُورُ )
( فأجرْتَه من وَقْعِها وكأنَّها ... بأكُفِّنا شُعلُ الضِّرام تَطِيرُ )

( وصرفت في طول العساكر قافلا ... عنه وجارُك آمِنٌ مَسْرُورُ )
( نقْفورُ إنَّك حين تَغْدِر أنْ نَأى ... عنك الإمامُ لجاهِلٌ مَغْرورُ )
( أظَنَنْتَ حين غَدَرْت أنك مُفْلِتٌ ... هَبِلَتْك أُمُّك ما ظَنَنْت غُرورُ )
( ألقاك حَيْنُك في زواخِر بَحْره ... فَطَمت عليك من الإمام بُحور )
( إنَّ الإمامَ على اقْتِسارك قادِرٌ ... قَرُبَت دِيارُك أو نَأت بِك دُورُ )
( لَيْس الإمامُ وإن غَفِلنا غَافِلاً ... عما يَسُوس بحَزْمه ويُديرُ )
( مَلِكٌ تَجرَّدَ للجهادِ بنَفْسِه ... فَعدُوُّه أبداً به مَقْهورُ )
( يا مَن يُريد رِضا الإله بسَعْيِه ... واللهُ لا يَخْفى عليه ضَميرُ )
( لا نُصْحَ ينفَع مَنْ يغشُّ إمامَه ... والنُّصْحُ من نُصَحائِه مَشْكورُ )
( نُصْحُ الإمام على الأنامِ فَرِيضةٌ ... ولأهله كفَّارةٌ وطَهُورُ )

فتح هرقلة
قال فلما أنشده قال الرشيد أو قد فعل وعلم أن الوزراء احتالوا في إعلامه ذلك فغزاه في بقية من الثلج فافتتح هرقلة في ذلك الوقت فقال أبو العتاهية في فتحه إياها
( ألا نادَت هِرقَلةُ بالخرابِ ... من الملِك المُوَفَّق للصَّوابِ )
( غَدَا هارونُ يُرعِدُ بالمَنايا ... ويُبرِق بالمُذَكَّرَةِ القِضابِ )
( وراياتٍ يَحُلُّ النَّصُر فيها ... تمرُّ كأنّها قِطَعُ السَّحابِ )
( أميرَ المؤمنينَ ظَفِرتَ فاسْلَمْ ... وأبشِر بالغَنيمة والإيابِ )
قال محمد وجعل الرشيد قبل وصوله إلى هرقلة يفتح المدن والحصون ويخربها حتى أناخ على هرقلة وهي أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا

فتحصن أهلها وكان بابها يطل على واد ولها خندق يطيف بها فحدثني شيخ من مشايخ المطوعة وملازمي الثغور يقال له علي بن عبد الله قال حدثني جماعة أن الرشيد لما حصر أهل هرقلة وغمهم وألح بالمجانيق والسهام والعرادات فتح الباب فاستشرف المسلمون لذلك فإذا برجل من أهلها كأكمل الرجال قد خرج في أكمل السلاح فنادى قد طالت مواقعتكم إيانا فليبرز إلي منكم رجلان ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين رجلا فلم يجبه أحد فدخل وأغلق باب الحصن وكان الرشيد نائما فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه وتأسف لفوته فقيل له إن امتناع الناس منه سيغويه ويطغيه وأحر به أن يخرج في غد فيطلب مثل ما طلب فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له ثم إذا هو بالباب قد فتح وخرج طالبا للمبارزة وذلك في يوم شديد الحر وجعل يدعو بأنه يثبت لعشرين منهم فقال الرشيد من له فابتدره جلة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن حازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه فعزم على إخراج بعضهم فضجت المطوعة حتى سمع ضجيجهم فأذن لعشرين منهم فاستأذنوه في المشورة فأذن لهم فقال قائلهم يا أمير المؤمنين قوادك مشهورون بالبأس والنجدة وعلو الصوت ومداوسة الحروب ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذلك وإن قتله العلج كانت وضيعة على العسكر عجيبة وثلمة لا تسد ونحن عامة لم يرتفع لأحد منا صوت إلا كما يصلح للعامة فإن رأى أمير

المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا فنخرجه إليه فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين قد ظفر بأعزهم على يد رجل من العامة ومن أفناء الناس ليس ممن يوهن قتله ولا يؤثر وإن قتل الرجل فإنما استشهد رجل ولم يؤثر ذهابه في العسكر ولم يثلمه وخرج إليه رجل بعده مثله حتى يقضي الله ما شاء قال الرشيد قد استصوبت رأيكم هذا فاختاروا رجلا منهم يعرف بابن الجزري وكان معروفا في الثغر بالبأس والنجدة فقال الرشيد أتخرج قال نعم وأستعين الله فقال أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا فقال يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق ورمحي بيدي أشد ولكني قد قبلت السيف والترس فلبس سلاحه واستدناه الرشيد فوعده واستتبعه بالدعاء وخرج معه عشرون رجلا من المطوعة فلما انقض في الوادي قال لهم العلج وهو يعدهم واحدا واحدا إنما كان الشرط عشرين وقد زدتم رجلا ولكن لا بأس فنادوه ليس يخرج إليك منا إلا رجل واحد فلما فصل منهم ابن الجزري تأمله الرومي وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن حتى ظنوا أنه لم يبق في الحصن أحد إلا أشرف فقال الرومي أتصدقني عما أستخبرك قال نعم فقال أنت بالله ابن الجزري قال اللهم نعم فكفر له ثم أخذا في شأنهما فاطعنا حتى طال الأمر بينهما وكاد الفرسان أن يقوما وليس يخدش واحد منهما صاحبه ثم تحاجزا بشيء فزج كل واحد منهما برمحه وأصلت سيفه فتجالدا مليا واشتد الحر عليهما وتبلد الفرسان وجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها فيتقيها الرومي وكان ترسه حديدا فيسمع لذلك صوت منكر ويضربه الرومي ضرب منذر لأن ترس ابن الجزري كان درقة فكان العلج يخاف أن يعض بالسيف فيعطب فلما يئس من وصول كل واحد منهما إلى صاحبه انهزم ابن الجزري فدخلت المسلمين كآبة لم يكتئب مثلها قط

وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا وإنما كانت هزيمته حيلة منه فأتبعه العلج وتمكن منه ابن الجزري فرماه بوهق فوقع في عنقه وما أخطأه وركض فاستله عن فرسه ثم عطف عليه فما وصل إلى الأرض حيا حتى فارقه رأسه فكبر المسلمون أعلى تكبير وانخذل المشركون وبادروا الباب يغلقونه واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد اجعلوا النار في المجانيق وارموها فليس عند القوم دفع ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة وأضرموا فيها النار ورموا بها السور فكانت النار تلصق به وتأخذ الحجارة وقد تصدع فتهافتت فلما أحاطت بها النيران فتحوا الباب مستأمنين ومستقبلين فقال الشاعر المكي الذي كان ينزل جدة

صوت
( هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أن رأتْ عَجَباً ... حوائماً تَرْتَمِي بالنِّفط والنَّارِ )
( كأنَّ نِيرَانَنا في جَنْب قَلْعتِهِم ... مُصَبَّغاتٌ على أَرْسانِ قَصَّارِ )
في هذين البيتين لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر
قال محمد بن يزيد وهذا كلام ضعيف لين ولكن قدره عظيم في ذلك الموضع والوقت وغنى فيه المغنون بعد ذلك وأعظم الرشيد الجائزة للجدي الشاعر وصبت الأموال على ابن الجزري وقود فلم يقبل التقويد إلا بغير رزق ولا عوض وسأل أن يعفى وينزل بمكانه من الثغر فلم يزل به طول عمره
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن علي بن أبي نعيم المروزي قال

خرج الرشيد غازيا بلاد الروم فنزل بهرقلة فدخل عليه ابن جامع فغناه
( هوت هَرَقْلة لَمَّا أَنْ رأت عَجَباً ... حوائِماً ترتَمِي بالنِّفْط والنَّارِ )
فنظر الرشيد إلى ماشية قد جِيء بها فظن أن الطاغية قد أتاه فخرج يركض على فرس له وفي يده الرمح وتبعه الناس فلما تبين له أنها ماشية رجعوا فغناه ابن جامع
صوت
( رأى في السَّما رَهْجا فيَمَّمم نحوَه ... يجُرُّ رُدَيْنِيّاً وللرَّهْجِ يَسْتَقْرِي )
( تناولتَ أطرافَ البلادِ بقُدرَةٍ ... كأنَّك فيها تَقْتَفي أَثَر الخِضْرِ )
الغناء لابن جامع ثاني ثقيل عن بذل وابن المكي

أشجع يهنىء الرشيد بفتح هرقلة
أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق الموصلي قال
لما انصرف الرشيد من غزاة هرقلة قدم الرقة في آخر شهر رمضان فلما عيد جلس للشعراء فدخلوا عليه وفيهم أشجع فبدرهم وأنشأ يقول
( لا زلتَ تَنشُر أعياداً وتَطْوِيها ... تَمْضِي بها لكَ أيام وتَثْنِيها )
( مُستَقبِلاً زِينةَ الدُّنيا وبَهْجَتها ... أيامنا لك لا تَفْنَى وتُفْنِيها )
( ولا تَقضَّت بك الدُّنيا ولا بَرِحَتْ ... يَطْوِي لك الدَّهرُ أياماً وتَطوِيها )
( ولْيَهْنِكَ الفتحُ والأيّام مُقبِلةٌ ... إليكَ بالنصر مَعقوداً نواصِيها )
( أمسَتْ هِرقْلَةُ تَهْوِي من جوانبِها ... وناصرُ اللهِ والإِسلامِ يَرْمِيها )

( مُلِّكْتَها وقَتلتَ النّاكِثين بها ... بنَصْرِ مِنْ يملِكُ الدُّنيا وما فيها )
( ما رُوعي الدِّينُ والدُّنيا على قَدَم ... بِمثْل هارون رَاعِيهِ وراعِيها )
قال فأمر له بألف دينار وقال لا ينشدني أحد بعده فقال أشجع والله لأمره بألا ينشده أحد بعدي أحب إلي من صلته
حدثني أحمد بن وصيف ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني عبد الله بن عمرو الوراق قال حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد عن أبيه قال
دخل أشجع على الرشيد ثاني يوم الفطر فأنشده

صوت
( استَقْبِل العيد بعُمْرٍ جَديد ... مَدَّت لك الأَيَّامُ حبْلَ الخُلود )
( مُصَعِّداً في دَرَجاتِ العُلاَ ... نجْمُكَ مقرونٌ بِسَعْد السُّعود )
( واطْوِ رداءَ الشَّمس ما أطلعَتْ ... نُوراً جديداً كلَّ يومٍ جَدِيد )
( تَمضِي لك الأيامُ ذا غِبْطة ... إذا أتَى عِيدٌ طَوَى عُمرَ عِيد )
فوصله بعشرة آلاف درهم وأمر أن يغنى في هذه الأبيات
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني أبو عبد الله النخعي قال
دخل أشجع على الرشيد فأنشده قوله
( أبَتْ طَبرِسْتانُ غيرَ الذِي ... صَدَعْتَ به بين أَعضائِها )
( ضَمَمْتَ مَناكِبَها ضَمَّةً ... رمَتْك بما بين أحشائِها )
( سَمَوْتَ إليها بمثْلِ السَّماء ... تدَلَّى الصَّواعِقُ في مائِها )
( فلمَّا نظرتَ إلى جُرحِها ... وضَعْتَ الدَّواءَ على دَائِها )

( فرَشْت الجهادَ ظُهورَ الجِياد ... بأبنائه وبأبنائها )
( بنَفْسِك تَرمِيهمُ والخُيول ... كَرْمي العُقابِ بأَفْلائِها )
( نظرتَ برأْيك لَمّا هممتَ ... دُونَ الرِّجال وآرائها )
قال فأمر له بألف دينار
أخبرني محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثني أبو عمرو الباهلي البصري قال
دخل أشجع بن عمرو السلمي على هارون الرشيد حين قدم من الحج وقد مطر الناس يوم قدومه فأنشده يقول
( إنَّ يُمْنَ الإمام لَمَّا أتانا ... جَلَب الغَيْثَ من متونِ الغمامِ )
( فابْتِسامُ النَّباتِ في أثر الغَيْثِ ... بنُوَّاره كسُرج الظَّلام )
( مَلِكٌ من مَخافة الله مُغْضٍ ... وهو مُغضَّى له من الإعظام )
( ألف الحَجَّ والجهادَ فما يَنْفَكُّ ... من سَفْرَتيْن في كُلّ عام )
( سَفَرٍ للجهاد نحو عَدُوٍّ ... والمطايا لسَفْرَةِ الإحرام )
( طَلَب اللهَ فهو يَسْعى إليه ... بالمَطايا وبالجِياد السَّوامِي )
( فيَداهُ يَدٌ بمكَّة تدْعوهُ ... وأُخْرى في دَعْوةِ الإِسلام )
أخبرني محمد بن جعفر قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال أخبرني أبو عبد الله النخعي قال
أمر الرشيد بحفر نهر لبعض أهل السواد وقد كان خرب وبطل ما

عليه فقال أشجع السلمي يمدحه
( أجرَى الإمامُ الرَّشيدُ نَهْراً ... عاش بعُمرانِه المَواتُ )
( جادَ عليه بِرِيقِ فيهِ ... وسِرّ مَكْنُونه الفُراتُ )
( ألْقَمَه دَرَّة لَقُوحاً ... يَرْضَع أخْلافَهَا النَّباتُ )
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
رأى الرشيد فيما يرى النائم كأن امرأة وقفت عليه وأخذت كف تراب ثم قالت له هذه تربتك عن قليل فأصبح فزعا وقص رؤياه فقال له أصحابه وما هذا قد يرى الناس أكثر مما رأيت وأغلظ ثم لا يضر فركب وقال والله إني لأرى الأمر قد قرب فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شباك حديد تنظر إليه فقال هذه والله المرأة التي رأيتها ولو رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت علي ثم أمرها أن تأخذ كف تراب فتدفعه إليه فضربت بيدها إلى الأرض التي كانت عليها فأعطته منها كف تراب فبكى ثم قال هذه والله التربة التي أريتها وهذه المرأة بعينها ثم مات بعد مدة فدفن في ذلك الموضع بعينه اشتري له ودفن فيه وأتى نعيه بغداد فقال أشجع يرثيه
( غَرَبت بالمَشْرِق الشَّمْسُ ... فقل للعين تَدْمَعْ )
( ما رأينَا قَطُّ شمسًا ... غَرَبت من حَيْث تَطْلُعْ )
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
كان حرب بن عمرو الثقفي نخاسا وكانت له جارية مغنية وكان الشعراء والكتاب وأهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها وينفقون في

منزله النفقات الواسعة ويبرونه ويهدون إليه فقال أشجع
( جاريةٌ تهتَزُّ أردافُها ... مُشْبعةُ الخَلْخالِ والقُلْبِ )
( أشكُو الذي لاقَيتُ من حُبِّها ... وبُغْضِ مَوْلاها إلى الرَّبِّ )
( من بُغْض مولاها ومن حُبِّها ... سَقِمتُ بين البُغْض والحُبِّ )
( فاْختَلَجا في الصدر حتى استَوى ... أمرُهما فاقْتَسَما قَلْبي )
( تَعجَّل اللهُ شِفائي بها ... وعَجَّل السُّقْم إلى حَرْبِ )
قال مؤلف هذا الكتاب فأخذ هذا المعنى بعض المحدثين من أهل عصرنا فقال في مغنية تعرف بالشاة
( بِحُبّ الشِّاةِ ذُبْتُ ضَنًى ... وطال لزوجها مَقْتِي )
( فلو أنِّي مَلَكْتُهُما ... لأَسْعِد في الهَوَى بَخْتِي )
( فأُدْخِل في استها أيْرِي ... ولِحْيَة زَوْجها في اسْتِي )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني صالح بن سليمان قال
اعتل يحيى بن خالد ثم عوفي فدخل الناس يهنئونه بالسلامة ودخل أشجع فأنشد
( لقد قَرعتْ شَكاةُ أبي عَليٍّ ... قُلوبَ مَعاشِرٍ كانوا صحاحا )
( فإن يَدْفَع لنا الرَّحمنُ عنه ... صُروفَ الدَّهْر والأجَل المُتاحَا )
( فقد أمسى صَلاحُ أبي عَليٍّ ... لأهلِ الدِّينِ والدّنيا صَلاحَا )
( إذا ما المَوْتُ أخطأَ فَلسنا ... نُبالِي الموتَ حيث غَدَا وَراحَا )
قال فما أذن يومئذ لأحد سواه في الإنشاد لاختصاص البرامكة إياه

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال سمعت محمد بن أبي مالك الغنوي يقول دخل أشجع السلمي على علي بن شبرمة يعوده فأنشأ يقول
( إذا مَرِض القاضي مَرِضْنا بأسرنا ... وإن صَحَّ لم يُسمَع لنا بِمَريضِ )
( فأصبحتُ - لما اعتَلَّ يوماً - كَطائرٍ ... سَما بجَناحٍ للنهوض مَهِيضِ )
قال فشكره ابن شبرمة وحمله على بغلة كانت له
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران قال سمعت محمد بن أبي مالك يقول
جاء أشجع ليدخل على أبان بن الوليد البجلي فمنعه حاجبه وانتهره غلمانه فقال فيه
( ألا أيُّها المُشْلِي عليّ كِلابَه ... وَلِي - غير أنْ لم أشْلِهنّ - كِلابُ )
( رُويدَك لا تَعْجَلْ عليّ فقد جرى ... بخِزيك ظبيٌ أعْضبٌ وغُرابُ )
( علام تَسُدّ البابَ والسِّرُّ قد فَشا ... وقد كنتَ مَحْجُوباً ومالك بابُ )
( فلو كُنتُ مِمَّن يَشْرَبِ الخَمر سادِراً ... إذاً لم يَكُن دُوني عليك حِجابُ )
( ولكنَّه يَمْضِي ليَ الحول كامِلاً ... ومالِيَ إلاّ الأبيَضيْن شَرابُ )

( من الماء أو من شَخْبِ دَهْماء ثَرَةٍ ... لها حالبٌ لا يَشْتَكِي وحِلابُ )
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثنا علي بن الجهم قال حدثني ابن أشجع السلمي قال
لما مر أبي وعماي أحمد ويزيد - وقد شربوا حتى انتشوا - بقبر الوليد بن عقبة وإلى جانبه قبر أبي زبيد الطائي - وكان نصرانيا - والقبران مختلفان كل واحد منهما متجه إلى قبلة ملته وكان أبو زبيد أوصى لما احتضر أن يدفن إلى جنب الوليد بالبليخ قال فوقفوا على القبرين وجعلوا يتحدثون بأخبارهما ويتذاكرون أحاديثهما فأنشأ أبي يقول
( مَررتُ على عِظامِ أبي زَبِيدٍ ... وقد لاحَت ببَلْقَعَةٍ صَلُودِ )
( وكان له الوَليدُ نديمَ صِدْقٍ ... فنادم قَبرهُ قَبْرَ الوَليدِ )
( أَنِيسا أُلفَةٍ ذَهَبَتْ فأَمْسَتْ ... عظامُهُما تَآنس بالصَّعِيدِ )
( وما أَدْرِي بمَنْ تبدا المَنايا ... بأَحْمَدَ أو بأَشْجَعَ أو يَزيدِ )

قال فماتوا والله كما رتبهم في الشعر أولهم أحمد ثم أشجع ثم يزيد
صوت
( حيّ ذا الزَّوْرَ وانْهَه أن يَعودَا ... إنَّ بالباب حارِسينَ قُعودَا )
( من أساويرَ ما يَنُون قِياماً ... وخلاخيل تُذِهل المَوْلُودا )
( لا ذَعَرتُ السَّوامَ في فَلَق الصُّبْح ... مُغِيراً ولا دُعِيتُ يَزيدَا )
( يوم أُعطِي مخافَة المَوْت ضَيْماً ... والمَنايا يَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدا )
الشعر ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري والغناء لسياط خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر أحمد بن المكي أنه لأبيه يحيى وذكر الهشامي أنه لفليح قال ومن هذا الصوت سرق لحن
( تِلْكَ عِرْسِي تلُومُني في التَّصابي ... )

أخبار ابن مفرغ ونسبه
هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ولقب جده مفرغا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه كله حتى فرغه فلقب مفرغا ويكنى أبا عثمان وهو من حمير فيما يزعم أهله وذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة أن مفرغا كان شعابا بتبالة فادعى أنه من حمير وقال علي بن محمد النوفلي ليس أحد بالبصرة من حمير إلا آل الحجاج بن ناب الحميري وبيتا آخر ذكره ودفع بيت ابن مفرغ
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أحمد بن الهيثم القرشي قال أخبرني العمري عن لقيط بن بكر المحاربي قال
هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري حليف قريش ثم حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس قال العمري وكان ابن المكي يقول كان مفرغ عبدا للضحاك بن عبد عوف الهلالي فأنعم عليه

قال محمد بن خلف أخبرني محمد بن عبد الرحمن الأسدي عن محمد بن رزين قال قال الأخفش
كان ربيعة بن مفرغ شعابا بالمدينة وكان يُنسب إلى حمير وإنما سمي مفرغا لتفريغه العس وكان شاعرا غزلا محسنا والسيد من ولده
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العيناء قال
سئل الأصمعي عن شعر تبع وقصته ومن وضعهما فقال ابن مفرغ وذلك أن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عباد بن زياد أنزله الجزيرة وكان مقيما برأس عين وزعم أنه من حمير ووضع سيرة تبع وأشعاره وكان النمر بن قاسط يدعي أنه منهم
وقال الهيثم بن عدي هو يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ اليحصبي من حمير يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن

وائل بن الغوث بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
أخبرني بخبره جماعة من مشايخنا منهم أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة ومحمد بن خلف بن المرزبان عن جماعة من أصحابه وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه فما اتفقت رواياتهم من خبره جمعتها في ذكره وما اختلفت أفردت كل منفرد منهم بروايته

ابن مفرغ وعباد بن زياد
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن مسلمة بن محارب وأخبرني الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال قرأت على محمد بن الحسن بن دريد عن ابن الأعرابي وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد ابن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط بن بكير قالوا جميعا
لما ولي سعيد بن عثمان بن عفان خراسان استصحب يزيد بن ربيعة ابن مفرغ واجتهد به أن يصحبه فأبى عليه وصحب عباد بن زياد فقال له سعيد بن عثمان أما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت عبادا فاحفظ ما أوصيك به إن عبادا رجل لئيم فإياك والدالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه فإنها خدعة منه لك عن نفسك وأقلل زيارته فإنه طرف ملول ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت احتمله ثم دعا سعيد بمال فدفعه إلى ابن مفرغ وقال استعن به على سفرك فإن صلح لك مكانك من عباد وإلا فمكانك عندي ممهد فائتني ثم سار سعيد إلى خراسان وتخلف ابن مفرغ عنه وخرج مع عباد
قال ابن دريد في خبره عن مسلمة بن محارب

فلما بلغ عبيد الله بن زياد صحبه ابن مفرغ أخاه عبادا شق عليه فلما سار أخوه عباد شيعه وشيع الناس معه وجعلوا يودعونه ويودع الخارجون مع عباد عبيد الله بن زياد فلما أراد عبيد الله أن يودع أخاه دعا ابن مفرغ فقال له
إنك سألت عبادا أن تصحبه وأجابك إلى ذلك وقد شق علي فقال له ابن مفرغ ولم أصلحك الله قال لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض لأنه يظن فيجعل الظن يقينا ولا يعذر في موضع العذر وإن عبادا يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه وخراجه عنك فلا تعذره أنت وتكسبنا شرا وعارا فقال له
لست كما ظن الأمير وإن لمعروفه عندي لشكرا كثيرا وإن عندي - إن أغفل أمري - عذرا ممهدا قال لا ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبه ألا تعجل عليه حتى تكتب إلي قال قال نعم قال امض إذا على الطائر الميمون قال فقدم عباد خراسان واشتغل بحربه وخراجه فاستبطأه ابن مفرغ ولم يكتب إلى عبيد الله بن زياد يشكوه كما ضمن له ولكنه بسط لسانه فذمه وهجاه
وكان عباد عظيم اللحية كأنها جوالق فسار يزيد بن مفرغ يوما مع عباد فدخلت الريح فنفشتها فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جنبه قوله

( ألا لَيْتَ اللِّحَى كانَتْ حَشِيشاً ... فَنَعْلِفَها خِيولَ المُسْلِمينا )
فسعى به اللخمي إلى عباد فغضب من ذلك غضبا شديدا وقال لا يجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع الصحبة لي وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي منه لأنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواطن وبلغ الخبر ابن مفرغ فقال إني لأجد ريح الموت من عباد
ثم دخل عليه فقال له أيها الأمير إني كنت مع سعيد بن عثمان وقد بلغك رأيه في ورأيت جميل أثره علي وإني اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل وأريد أن تأذن لي في الرجوع فلا حاجة لي في صحبتك فقال له أما اختيارك إياي فإني اخترتك كما اخترتني واستصحبتك حين سألتني وقد أعجلتني عن بلوغ محبتي فيك وقد طلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك فأقام وبلغ عبادا أنه يسبه ويذكره وينال من عرضه وأجرى عباد الخيل فجاء سابقا فقال ابن مفرغ
( سَبَق عَبَّادٌ وصَلَّت لِحْيَتُه ... )
وطلب عليه العلل ودس إلى قوم كان لهم عليه دين فأمرهم أن يقدموه إليه ففعلوا فحبسه وأضر به فبعث إليه أن بعني الأراكة وبردا وكانت الأراكة قينة لابن مفرغ ويرد غلامه رباهما وكان شديد الضن بهما فبعث إليه ابن مفرغ مع الرسول أيبيع المرء نفسه أو ولده فأضر به عباد حتى

أخذهما منه هذه رواية مسلمة
وأما لقيط وعمر بن شبة فإنهما ذكرا أنه باعهما عليه فاشتراهما رجل من أهل خراسان قال لقيط فلما دخلا منزله قال له برد وكان داهية أريبا أتدري ما اشتريت قال نعم اشتريتك وهذه الجارية قال لا والله ما اشتريت إلا العار والدمار والفضيحة أبدا ما حييت فجزع الرجل وقال له كيف ذلك ويلك قال نحن ليزيد بن ربيعة بن مفرغ والله ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه وشره أفتراه يهجو ابن زياد وهو أمير خراسان وأخوه أمير العراقين وعمه الخليفة في أن استبطأه ويمسك عنك وقد ابتعتني وابتعت هذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه والله ما أرى أحدا أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله مما أدخلته منزلك فقال فاشهد أنك وإياها له فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا على أني أخاف على نفسي إن بلغ ذلك ابن زياد وإن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا قال فاكتب إليه بذلك فكتب الرجل إلى ابن مفرغ في الحبس بما فعله فكتب إليه يشكر فعله وسأله أن يكونا عنده حتى يفرج الله عنه
قال وقال عباد لحاجبه ما أرى هذا يعني ابن مفرغ يبالي بالمقام في الحبس فبع فرسه وسلاحه وأثاثه واقسم ثمنها بين غرمائه ففعل ذلك وقسم الثمن بينهم وبقيت عليه بقية حبسه بها فقال ابن مفرغ يذكر غلامه بردا وجاريته الأراكة وبيعهما
( َشريتَ بُرداً ولو مُلِّكت صَفْقَته ... لَمَا تطلَّبت في بَيْع له رَشَدَا )
( لولا الدَّعِيُّ ولولا ما تَعرَّض لي ... من الحوادث ما فارقتُه أبَدَا )
( يا بُردُ ما مَسَّنَا بَرْدٌ أضرَّ بنا ... من قَبْل هذا ولا بِعْنا له وَلَدا )

( أمّا الأراكُ فكانَتْ من مَحارِمِنا ... عَيْشاً لَذِيذاً وكانت جَنَّةً رَغَدا )
( كانت لنا جَنَّةً كُنَّا نَعِيشُ بها ... نفنى بها إن خَشينَا الأَزْل والنَّكَدا )
( يا لَيْتَني قبل ما نابَ الزَّمانُ به ... أهلي لقيت على عُدْوانِه الأَسَدا )
( قد خَانَنا زَمَن لم نَخْشَ عَثْرَته ... مَنْ يأْمَن اليومَ أم مَنْ ذا يَعِيشُ غَدا )
( لامَتْنِيَ النَّفْسُ في بُرْد فقلت لها ... لا تَهْلَكِي إثْرَ بُرْدٍ هَكَذا كَمَدا )
( كَمْ من نَعِيمٍ أصبْنا من لذاذَتِه ... قُلْنا له إذ تولَّى ليتَه خَلَدَا )

هربه إلى البصرة
قالوا وعلم ابن مفرغ أنه أقام على ذم عباد وهجائه وهو في محبسه زاد نفسه شرا فكان يقول للناس إذا سألوه عن حبسه ما سببه رجل أدبه أمير ليقوم من أوده أو يكف من غربه وهذا العمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة لصاحبه فلما بلغ عبادا قوله رق له وأخرجه من السجن فهرب حتى أتى البصرة ثم خرج منها إلى الشام وجعل ينتقل في مدنها هاربا ويهجو زيادا وولده
وقال المدائني في خبره
لما بلغ عباد بن زياد أن ابن المفرغ قال
( سَبَق عَبَّاد وصَلَّت لِحْيَتُه ... )
دعا ابنه والمجلس حافل فقال له له أنشدني هجاء أبيك الذي هجي به فقال أيها الأمير ما كلف أحد قط ما كلفتني فأمر غلاما له أعجميا وقال له قم على رأسه فإن أنشد ما أمرته به وإلا فصب السوط على رأسه أبدا أو ينشده فأنشده أبياتا هجي بها أبوه أولها
( قَبَحَ الأِلهُ ولا يُقبِّح غيره ... وَجْهَ الحمار رَبِيعةَ بن مُفرِّغ )

وجعل عباد يتضاحك به فخرج ابن ابن مفرغ من عنده وهو يقول والله لا يذهب شتم شيخي باطلا وقال يهجوه بقوله
( أَصَرَمْتَ حبلك من أُمامَهْ ... من بعد أيَّام بِراَمْه )
( فالرِّيحُ تَبكِي شَجْوَها ... والبرقُ يَضْحَكُ في الغَمامَهْ )
( لَهَفي على الأمْرِ الذِي ... كانت عواقِبُه نَدَامَهْ )
( تَرْكِي سَعِيداً ذَا النَّدى ... والبَيْت تَرْفَعُه الدِّعامَهْ )
( فُتِحَتْ سَمَرْقَنْدٌ له ... وبَنَى بعَرْصَتِها خِيامَهْ )
( وتَبِعْتُ عَبْدَ بَنِي عِلاجٍ ... تِلك أشراطُ القِيامَهْ )
( جاءَت به حَبَشِيّةٌ ... سَكَّاءُ تحسَبُها نَعامَهْ )
( وشَرَيْتَ بُرداً لَيْتَنِي ... من بَعْد بُرد كُنتُ هامَهْ )
( أو بُومَةً تدعُو صَدىً ... بين المُشَقَّر واليمَامَهْ )
( فالهول يَركَبُه الفَتَى ... حَذَرَ المَخازِي والسَّآمَهْ )
( والعَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا ... والحُرُّ تَكْفِيه المَلامَهْ )
قال ثم لج في هجاء بني زياد حتى تغنى أهل البصرة في أشعاره فطلبه عبيد الله طلبا شديدا حتى كاد يؤخذ فلحق بالشام
واختلفت الرواة فيمن رده إلى ابن زياد فقال بعضهم معاوية وقال

بعضهم يزيد والصحيح أنه يزيد لأن عباد بن زياد إنما ولي سجستان في أيام يزيد وقال بعضهم بل الذي ولاه معاوية وهو الذي ولى سعيد بن عثمان خراسان
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي وعبيد الله بن محمد الرازي قالا حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال
دخل سعيد بن عثمان على معاوية بن أبي سفيان فقال علام جعلت يزيد ولي عهدك دوني فوالله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه وأنا خير منه وقد وليناك فما عزلناك وبنا نلت ما نلت فقال له معاوية أما قولك إن أباك خير من أبيه فقد صدقت لعمر الله إن عثمان لخير مني وأما قولك إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وأن ينجب ولدها وأما قولك إنك خير من يزيد فوالله يا بني ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة مثلك وأما قولك إنكم وليتموني فما عزلتموني فما وليتموني وإنما ولاني من هو خير منكم عمر فأقررتموني وما كنت بئس الوالي لكم لقد قمت بثأركم وقتلت قتلة أبيكم وجعلت الأمر فيكم وأغنيت فقيركم ورفعت الوضيع منكم فكلمه يزيد في أمره فولاه خراسان

رجع الحديث إلى سياقة أخبار ابن مفرغ
هجاؤه بني زياد
قالوا فلم يزل ينتقل في قرى الشام ونواحيها ويهجو بني زياد وأشعاره فيهم ترد البصرة وتنتشر وتبلغهم فكتب عبيد الله بن زياد إلى معاوية وقال الآخرون إنه كتب إلى يزيد وهو الصحيح يقول له إن ابن مفرغ هجا زيادا وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول الدهر وتعدى ذلك إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده فهرب من خراسان إلى البصرة وطلبته حتى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضغ لحومنا

بها ويهتك أعراضنا وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرغ فيهم
فأمر يزيد بطلبه فجعل ينتقل من بلد إلى بلد فإذا شاع خبره انتقل حتى لفظته الشام فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس فالتجأ به واستجار فقال له الأحنف إني لا أجير على ابن سمية فأعزل وإنما يجير الرجل على عشيرته فأما على سلطانه فلا فإن شئت أجرتك من بني سعد وشعرائهم فلا يريبك أحد منهم فقال له ابن مفرغ بأستاه بني سعد وما عساهم أن يقولوا في هذا ما لا حاجة لي فيه
ثم أتى خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فاستجار به فأبى أن يجيره فأتى عمر بن عبيد الله بن معمر فوعده وأتى طلحة الطلحات فوعده وأتى المنذر بن الجارود العبدي فأجاره وكانت بحرية بنت المنذر تحت عبيد الله وكان المنذر من أكرم الناس عليه فاغتر بذلك وأدل بموضعه منه وطلبه عبيد الله وقد بلغه وروده البصرة فقيل له أجاره المنذر بن الجارود فبعث

عبيد الله إلى المنذر فأتاه فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشرط فكبسوا داره وأتوه بابن مفرغ فلم يشعر المنذر إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه فقام المنذر إلى عبيد الله فكلمه فيه فقال أذكرك الله - أيها الأمير - أن تخفر جواري فإني قد أجرته فقال عبيد الله يا منذر ليمدحن أباك وليمدحنك ولقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره علي لا ها الله لا يكون ذلك أبدا ولا أغفرها له فغضب بتطليق البتة فخرج المنذر من عنده وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له بئسما صحبت به عبادا قال بئسما صحبني به عباد اخترته على سعيد وأنفقت على صحبته كل ما أفدته وكل ما أملكه وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش فعدل عن ظني كله ثم عاملني بكل قبيح وتناولني بكل مكروه من حبس وغرم وشتم وضرب فكنت كمن شام برقا خلبا في سحاب جهام فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا وما هربت من أخيك إلا لما خفت من أن يجري في إلى ما يندم عليه وقد صرت الآن في يدك فشأنك فاصنع بي ما أحببت فأمر بحبسه
وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله فكتب إليه إياك وقتله ولكن عاقبة بما ينكله ويشد سلطانك ولا تبلغ نفسه فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع إلا بالقود منك فاحذر ذلك واعلم أنه الجد منهم ومني وأنك مرتهن بنفسه ولك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ فورد الكتاب على عبيد الله بن زياد فأمر بابن

مفرغ فسقي نبيذا حلوا قد خلط معه الشبرم فأسهل بطنه وطيف به وهو في تلك الحال وقرن بهرة وخنزيرة فجعل يسلح والصبيان يتبعونه ويقولون له بالفارسية
أين جيست فيقول
آبست نبيذ است عصارات زبيبست سمية روسبيد است
وجعل كلما جر الخنزيرة ضجت فجعل يقول
( ضَجّتْ سُميّة لما لزّها قَرني ... لا تَجزَعي إنَّ شَرَّ الشّيمة الجزَعُ )
فجعل يطاف به في أسواق البصرة والصبيان خلفه يصيحون به وألح عليه ما يخرج منه حتى أضعفه فسقط فعرف ابن زياد ذلك فقيل إنه لما به لا نأمن أن يموت فأمر به أن يغسل ففعلوا ذلك به فلما اغتسل قال
( يَغسل الماءُ ما فعلتَ وقَوْلِي ... راسخٌ منك في العِظام البَوالي )

عبيد الله يرده إلى الحبس
فرده عبيد الله إلى الحبس وأمره بأن يسلم محجما وقدموا له علوجا وأمر بأن يحجمهم فكان يأخذ المشارط فيقطع بها رقابهم فيتوارون منه فتركه ورده إلى محبسه وقامت الشرط على رأسه تصب عليه السياط ويقولون له احجمهم فقال
( وما كنتُ حجَّاماً ولكن أحلّني ... بمنزلةِ الحجَّام نأْيِي عن الأهل )
وقال عمر بن شبة في خبره جمع عباد بن زياد كل شيء هجاه به ابن مفرغ وكتب به إلى أخيه عبيد الله وهو يومئذ وافد على معاوية فكان فيما

كتب إليه قوله
( إذا أَوْدَى مُعَاويةُ بنُ حربٍ ... فبشِّرْ شَعْب قعْبك بانِصِداعِ )
( فأشْهدُ أن أمّك لم تباشر ... أبا سُفيان واضعةَ القِنَاعِ )
( ولكن كان أمرٌ فيهِ لَبْس ... على وَجَل شديدٍ وامتناع )
وقوله
( أَلا أبلغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ ... مُغلْغَلةً مِن الرّجل اليَمانِي )
( أتغضبُ أنْ يُقال أبوك عَفٌّ ... وتَرْضى أنْ يُقال أبُوك زَانِي )
( فأشهدُ أنَّ رِحْمَكَ مِن زيادٍ ... كرِحْمِ الفيل من ولَدِ الأتانِ )
( وأشهدُ أنها ولدت زياداً ... وصخرٌ من سُمَيَّةَ غيرُ دَانِي )
فدخل عبيد الله بن زياد على معاوية فأنشده هذه الأشعار واستأذنه في قتله فلم يأذن له وقال أدبه أدبا وجيعا منكلا ولا تتجاوز ذلك إلى القتل وذكر باقي الحديث كما ذكره من تقدم
قالوا جميعا وقال ابن مفرغ يذكر جوار المنذر بن الجارود إياه وأمانه
( تركتُ قُريْشاً أن أجاوِر فيهمُ ... وجاورتُ عَبْدَ القَيْس أهل المُشَقَّرِ )
( أُناسٌ أجارونا فكان جِوارُهم ... أعاصِيرَ من قَسْو العِراق المُبَذَّرِ )
( فأصبح جارِي من خُزَيْمَةَ قائماً ... ولا يمنع الجِيرانَ غَيْرُ المُشَمَّرِ )
وقال أيضا في ذلك
( أصبحتُ لا من بَنِي قَيْس فتَنْصُرنِي ... قيسُ العِراق ولم تغْضَب لنا مُضَرُ )

( ولم تَكَلَّمْ قُريشٌ في حَلِيفِهمُ ... إذ غَابَ ناصِرُه بالشَّام واحتَضَرُوا )
( والله يعلم ما تُخْفِي النُّفوس وما ... سَرَّى أُمَيَّةُ أو ما قال لي عُمَرُ )
( وقال لي خالِدٌ قولاً قَنِعْتُ به ... لو كنت أعلم أنَّى يَطْلع القَمَرُ )
( لو أَننِي شَهِدَتْنِي حِمْيَرٌ غضِبَتْ ... دُونِي فكان لهم فيما رَأَوْا عِبَرُ )
( أو كُنتُ جَارَ بَنِي هِنْدٍ تَداركني ... عوفُ بنُ نُعْمان أو عِمْرانُ أو مَطَرُ )
وقال أيضا يذكر ذلك وما فعل به ابن زياد
( دَارَ سَلْمى بالخَبْت ذِي الأَطْلالِ ... كيف نَومُ الأسير في الأغلالِ )
( أَينَ مِنِّي السَّلامُ من بَعْد نَأْيٍ ... فارْجعِي لي تَحِيَّتي وسُؤالِي ) ِ
( أَينَ مَنِّي نَجائبي وجِيادِي ... وغَزالِي سَقَى الإِلهُ غَزالِي )
( أينَ لا أينَ جُنَّتِي وسِلاحي ... ومَطايا سَيَّرْتُها لارْتِحالي )
( هدمَ الدَّهْر عَرْشَنا فتَداعَى ... فبَلِينا إذ كُلُّ عَيْش بالِي )
( إذ دعانا زَوالُه فأجَبْنَا ... كُلُّ دُنْيا ونِعْمةٍ لِزَوَالِ )
( أم قَضَيْنا حاجاتنا فإلى المَوْتِ ... مَصِيرُ المُلوكِ والأَقْيَالِ )
( لا وصَوْمِي لِرَبِّنا وزَكاتِي ... وصَلاتِي أدعُو بها وابْتِهالِي )
( ما أتيتُ الغداةَ أمراً دَنِيّاً ... ولَدَى الله كابرُ الأعمالِ )
( أيُّها المالك المُرهِّب بالقَتْل ... بَلَغْتَ النَّكال كُلَّ النّكال )
( فاخشَ ناراً تَشْوِي الوُجوهَ ويَوْماً ... يَقْذِفُ الناسَ بالدَّواهِي الثِّقالِ )

( قد تعدَّيْتَ في القصاص وأَدْرَكْتَ ... ذُحولاً لمَعْشَر أَقْتالِ )
( وكَسَرْتَ السِّنَّ الصَّحِيحةَ مِنّي ... لا تُذِلَّنْ فمُنْكَرٌ إذْلالِي )
( وقَرَنْتُم مع الخَنازير هِرّاً ... ويَميني مَغْلوُلة وشِمالِي )
( وكلاباً يَنْهَشْنَنِي من وَرائِي ... عَجِبَ النَّاسُ ما لهُنَّ ومَالِي )
( وأَطَلْتم مع العُقُوبة سِجْناً ... فكَم السّجْن أو مَتَى إرْسالِي )
( يَغسلُ الماءُ ما صَنَعْتَ وقَولِي ... راسخٌ مِنك في العِظام البَوالي )
( لو قبلتَ الفِدَاءَ أو رُمْتَ مالي ... قُلتُ خُذْه فِداء نَفْسِيَ مالي )
( لو بِغَيْرِي من مَعْشَرِي لَعِب الدَّهْر ... لما ذَمَّ نُصرَتي واحتِيالي )
( كم بَكانِي من صاحِبٍ وخَلِيل ... حافِظِ الغَيْب حامِدٍ للخِصالِ )
( ليتَ أَنِّي كُنتُ الحَلِيفَ للَخْم ... وجُذامٍ أو طيِّىء الأجمال )
( بَدَلاً من عِصابَة من قُرَيْش ... أسلَمُونِي للخَصْم عند النِّضالِ )
( البَهالِيلُ من بني عَبْد شَمْس ... فَضَلُوا النّاسَ بالعُلاَ والفِعالِ )
( وبَنو التَّيْم تَيْمِ مُرَّة لَمَّا ... لَمَع المَوتُ في ظِلالِ العَوالِي )
( مَنَعُوا البَيْتَ بَيْتَ مَكَّةَ ذا الحِجْر ... إذِ الطَّيْرُ عُكَّفٌ في الظِّلالِ )
( والبَهالِيلُ خالِدٌ وسَعيدٌ ... شَمْسُ دَجْنٍ وَوُضَّحٌ كالهِلالِ )
( في الأروماتِ والذُّرَى من بَنِي العِيص ... قُرومٌ إذا تُعَدُّ المَعالِي )
( كُنتُ منهم ما حَرَّموا فحَرَامٌ ... لم يُرامُوا وحِلُّهُم من حَلال )
( وذوو المجد من خزاعة كانوا ... أهل ودي في الخصب والأمحال )
( خذلوني وهم لذاك دعوني ... ليس حامي الذمار بالخذّال )
( لا تَدَعْنِي فِداك أهلِي ومالِي ... إنَّ حَبْلَيْكَ من مَتِينِ الحِبالِ )
( حَسْرَتا إذ أطَعْتُ أَمْرَ غُواتِي ... وعَصَيْتُ النَّصِيحَ ضَلَّ ضَلالِي )

يهجو عبادا ويذكر سعيد بن عثمان
وقال يهجو عباد بن زياد ويذكر سعيد بن عثمان
( أيُّها الشاتمِ جَهْلاً سَعِيداً ... وسَعِيدٌ في الحَوادِثِ نَابُ )
( ما أبوكم مُشبِهاً لأبيه ... فاسألوا الناسَ بذاكم تُجابُوا )
( سادَ عَبّادٌ ومُلِّكَ جَيْشاً ... سَبَّحت من ذاكَ صُمٌّ صِلاَبُ )
( إنّ عاماً صِرْتَ فيه أميراً ... تَمْلِكُ النّاسَ لَعامٌ عُجابُ )
قال واتصل هجاؤه زيادا وولده وهو في الحبس فرده عبيد الله إلى أخيه عباد بسجستان ووكل به رجالا ووجههم معه وكان لما هرب من عباد يهجوه ويكتب كل ما هجاه به على حيطان الخانات وأمر عبيد الله الموكلين به أن يأخذوه بمحو ما كتبه على الحيطان بأظافيره وأمرهم ألا يتركوه يصلي إلا إلى قبلة النصارى إلى المشرق فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئا مما كتبه من الهجاء أخذوه بأن يمحوه بأظافره فكان يفعل ذلك ويحكه حتى ذهبت أظافره فكان يمحوه بعظام أصابعه ودمه حتى سلموه إلى عباد فحبسه وضيق عليه قال عمر بن شبة في خبره فقال ابن مفرغ
( سَرَتْ تحت أقطاع من اللَّيلِ زَينَبُ ... سلامٌ عليكم هَلْ لما فاتَ مَطْلَبُ ) ويروى
( ألاَ طَرقْتنا آخرَ اللَّيل زَيْنَبُ ... )
( أصابَ عَذابِي اللونَ فاللَّونُ شاحِبٌ ... كما الرأسُ من هَوْل المنيّة أشيبُ )
( قُرنتُ بخِنْزِير وهِرٍّ وكلْبةٍ ... زماناً وشَانَ الجلدَ ضربٌ مُشدِّبُ )
( وجُرِّعتُها صَهباءَ من غير لَذَّة ... تُصعِّد في الجُثمان ثم تُصوَّبُ )
( وأُطعِمْت ما إن لا يَحِلّ لآكلٍ ... وصَلَّيْتُ شَرْقاً بَيتُ مكَّة مَغرِبُ )

( من الطَّفِّ مجَنوناً إلى أرضِ كابُلٍ ... فمَلُّوا وما مَلَّ الأسيرُ المُعذَّبُ )
( فلو أنَّ لَحْمِي إذ هَوَى لَعِبَتْ به ... كِرامُ المُلوكِ أو أُسودٌ وأَذْؤُبُ )
( لَهوَّن وَجْدِي أو لزَادت بَصِيرَتِي ... ولكنما أَوْدَتْ بلَحْمِيَ أكْلُبُ )
( أَعبَّادُ ما لِلُّؤْمِ عنك مُحوَّلٌ ... ولا لَك أُمٌّ في قُريْش ولا أبُ )
( سيَنْصُرني مَنْ ليس تَنْفَع عِنْده ... رُقاكَ وقَرْمٌ من أُميَّة مُصْعَبُ )
( وقل لعُبَيْد الله مالَكَ والِدٌ ... بَحقٍّ ولا يَدرِي امرؤٌ كيف تُنْسَبُ )
في أول هذا الشعر غناء نسبته

صوت
( ألا طرَقَتْنا آخرَ اللَّيلِ زينَبُ ... سلامٌ عليكم هَلْ لِما فات مَطْلَبُ )
( وقالت تَجَنَّبْنا ولا تَقْربَنَّنَا ... فكَيْفَ وأنتُم حاجَتِي أتجَنَّبُ )
الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي
وقالوا جميعا فلما طال مقام ابن مفرغ في السجن استأجر رسولا إلى دمشق وقال له إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوتك وكتبهما في رقعة وهما
( أبلِغْ لديك بني قَحْطان قاطِبةً ... عَضَّت بأيْر أبيها سادةُ اليَمَنِ )
( أضحَى دَعِيُّ زِيادٍ فَقْعَ قَرْقَرَةٍ ... - يا لَلْعجائب - يلهو بابن ذِي يَزَنِ )
ففعل الرسول ما أمره به فحميت اليمانية وغضبوا له ودخلوا على معاوية فسألوه فيه فدفعهم عنه فقاموا غضابا وعرف معاوية ذلك في

وجوههم فردهم ووهبه لهم ووجه رجلا من بني أسد يقال له خمخام ويقال جهنام بريدا إلى عباد وكتب له عهدا وأمره بأن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ منه ويطلقه قبل أن يعلم عباد فيم قدم فيغتاله ففعل ذلك به فلما خرج من الحبس قربت إليه بغلة من بغال البريد فركبها فلما استوى على ظهرها قال
( عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليكِ إمارةٌ ... نجوتِ وهذا تَحْمِلينَ طَلِيقُ )
( فإن الَّذي نَجَّى من الكَرْب بَعدَما ... تَلاحَمَ في دَرْبٍ عليكِ مضيقُ )
( أتاك بخَمْخامٍ فأَنْجاك فالْحقي ... بأَهْلِك لا تُحبَسْ عليكِ طَريقُ )
( لعمْري لقد أنجاك من هُوَّةِ الرَّدَى ... إمامٌ وحَبلٌ للأنام وَثِيقُ )
( سأشكُر ما أوليتَ من حُسْن نِعمة ... ومِثْلي بشُكْر المُنْعِمين حَقِيقُ )

معاوية يعفو عنه
قال عمر بن شبة في خبره ووافقه لقيط بن بكير فلما أدخل على معاوية بكى وقال ركب مني ما لم يركب من مسلم قط على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة ولا جرم فقال ألست القائل
( أَلا أبلِغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ ... مُغلْغَلةً مِن الرّجل اليَمانيِ )
( أتغضَب أنْ يُقال أبوك عَفٌّ ... وتَرْضى أنْ يُقال أبُوكَ زانِ )
( فأشهدُ أنَّ رِحْمَكَ مِن زيادٍ ... كرِحْمِ الفيل من ولَدِ الأتانِ )
( وأشهدُ أنها ولدت زياداً ... وصخرٌ من سُمَيَّةَ غيرُ دَانِ )
فقال لا والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين ما قلته ولقد بلغني أن عبد الرحمن بن الحكم قاله ونسبه إلي قال أفلم تقل

( شْهدتُ بأنَّ أمّك لم تباشر ... أبا سُفيان واضعةَ القِنَاعِ )
( ولكن كان أمرٌ فيهِ لَبْسٌ ... على وَجَلٍ شديدٍ وارتِياع )
أولست القائل
( إنَّ زِياداً ونافِعاً وأبَا ... بَكْرةَ عِنْدِي من أعْجَب العَجب )
( إنّ رِجالاً ثَلاثَةً خُلِقُوا ... في رَحْمِ أُنْثَى ما كُلهم لأبِ )
( ذا قُرَشِيٌّ كما يَقُولُ وذا ... مَوْلىً وهذا بزَعمه عَرَبي )
في أشعار كثيرة قلتها في هجاء زياد وبنيه اذهب فقد عفوت عن جرمك ولو إيانا تعامل لم يكن شيء مما كان فاسكن أي أرض شئت فاختار الموصل فنزلها ثم ارتاح إلى البصرة فقدمها فدخل على عبيد الله ابن زياد واعتذر إليه وسأله الصفح والأمان فأمنه وأقام بها مدة ثم دخل عليه بعد أن أمنه فقال أصلح الله الأمير إني قد ظننت أن نفسك لا تطيب لي بخير أبدا ولي أعداء لا آمن سعيهم علي بالباطل وقد رأيت أن أتباعد فقال له إلى أين شئت فقال كرمان فكتب له إلى شريك بن الأعور وهو عليها بجائزة وقطيعة وكسوة فشخص فأقام بها حتى هرب عبيد الله من البصرة فعاد إليها هذه رواية عمر بن شبة
وقال محمد بن خلف في روايته عن أحمد بن الهيثم عن المدائني وعن العمري عن لقيط
أن ابن مفرغ لما طال حبسه وبلاؤه ركب طلحة الطلحات إلى الحجاز ولقي قريشا - وكان ابن مفرغ حليفا لبني أمية - فقال لهم طلحة يا معشر قريش إن أخاكم وحليفكم ابن مفرغ قد ابتلي بهذه الأعبد من بني زياد وهو عديدكم وحليفكم ورجل منكم ووالله ما أحب أن يجري الله عافيته على يدي دونكم ولا أفوز بالمكرمة في أمره وتخلوا منها فانهضوا

معي بجماعتكم إلى يزيد بن معاوية فإن أهل اليمن قد تحركوا بالشام فركب خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله أخوه وعمر بن عبيد الله بن معمر ووجوه من خزاعة وكنانة وخرجوا إلى يزيد فبينا هم يسيرون ذات ليلة إذ سمعوا راكبا يتغنى في سواد الليل بقول ابن مفرغ ويقول
( إنَّ تركِي نَدَى سَعِيدِ بن عُثمانَ ... بن عفَّانَ ناصِري وعدِيدِي )
( واتِّباعي أخَا الضَّرَاعةِ واللُّؤم ... لنقصٌ وفَوتُ شَأوٍ بَعيدِ )
( قلتُ واللَّيلُ مُطبِقٌ بعُراه ... ليتَني مِتُّ قبل تركِ سِعيدِ )
( ليتني مِتُّ قبل تَرْكي أخا النَّجْدة ... والحَزْم والفَعالِ الَّسديدِ )
( عَبْشميٌّ أبُوه عبدُ مَنافٍ ... فازَ منها بتاجها المَعقُودِ )
( ثُمّ جُودٌ لو قِيلَ هل من مَزيدٍ ... قلتُ للسائلين ما من مَزيدِ )
( قُلْ لقَوْمي لَدَى الأباطح مِنْ آل ... لُؤَيِّ بنِ غالبٍ ذِي الجُودِ )
( سامَني بعدَكم دَعِيُّ زيادٍ ... خُطَّةَ الغادر اللئيم الزَّهيد )
( كانَ ما كانَ في الأراكة واجتَبَّ ... ببُرْدٍ سَنامَ عِيسِي وجِيدِي )
( أوْغلَ العَبدُ في العُقوبة والشَّتْم ... وأوْدَى بطارِفي وتليدِي )
( فارحلوا في حليفكم وأخيكم ... نحوَ غوْث المُسْتَصْرِخِين يزيدِ )
( فاطلبوا النَّصفَ من دَعيِّ زيادٍ ... وسلوني بما ادّعيْتُ شهُودِي )
قال فدعا القوم بالراكب فقالوا له ما هذا الذي سمعناه منك تغني به فقال هذا قول رجل والله إن أمره لعجب رجل ضائع بين قريش واليمن وهو رجل الناس قالوا ومن هو قال ابن مفرغ قالوا والله ما رحلنا إلا فيه وانتسبوا له فضحك وقال أفلا أسمعكم من قوله أيضا قالوا بلى فأنشدهم قوله

( لَعمْرِيَ لو كان الأسيرُ ابنَ مَعْمرٍ ... وصاحبَه أو شِكلَه ابنَ أسِيدِ )
( ولو أنَّهم نالوا أُميَّة أَرقَلَتْ ... براكبها الوَجناءُ نحو يزيدِ )
( فأبلغتُ عذراً في لؤيِّ بنِ غالبٍ ... وأتلفتُ فيهم طارفي وتَليدي )
( فإن لم يُغيِّرْها الإمامُ بحقِّها ... عَدلتُ إلى شُمٍّ شَوامخَ صِيدِ )
( فناديتُ فيهم دعوةً يَمنيَّةً ... كما كان آبائِي دَعَوْا وَجُدُودِي )
( ودافعتُ حتىَّ أبلغ الجهدَ عنهمُ ... دِفاعَ امرىءٍ في الخير غير زَهيدِ )
( فإن لم تكُونوا عند ظَنِّي بِنَصْركم ... فليس لها غَيْرُ الأغَرِّ سَعيدِ )
( بِنَفسي وأَهلي ذَاك حَيّاً وَميِّتاً ... نُضارٌ وُعودُ المرء أكرمُ عُودِ )
( فَكم من مُقامٍ في قريش كفَيته ... ويومٍ يُشِيبُ الكاعِبات شَديدِ )
( وخَصْمٍ تحاماه لُؤيُّ بنُ غالِبٍ ... شَببتُ له ناري فهاب وَقُودِي )
( وخيرٍ كثيرٍ قد أفأتُ عليكُم ... وأنتم رُقودٌ أو شَبِيهُ رُقودِ )
قال فاسترجع القوم لقوله وقالوا والله لا نغسل رؤوسنا في العرب إن لم نغسلها بفكه فأغذ القوم السير حتى قدموا الشام

وفد اليمانية إلى يزيد بن معاوية
وبعث ابن مفرغ رجلا من بني الحارث بن كعب فقام على سور

حمص فنادى بأعلى صوته الحصين بن نمير - وكان والي حمص - بهذه الأبيات وكان عظيم الجبهة
( أبلِغْ لدَيك بني قَحْطان قاطبةً ... عَضَّتْ بأيْر أبيها سادةُ اليَمَنِ )
( أمسى دَعِيُّ زِيادٍ فَقْعَ قَرْقَرَةٍ ... - يا لَلْعجائب - يلهو بابن ذِي يَزَنِ )
( والحِميريُّ طريحٌ وسط مَزْبلةٍ ... هذا لعَمرُكمُ غَبنٌ من الغَبنِ )
( ولأجبَهُ ابنُ نُمير فوق مَفْرشه ... يدنُو إلى أحْوَر العَيْنَيْن ذي غُنَنِ )
( قُوموا فقُولُوا أميرَ المؤمنين لنا ... حَقٌّ عليك ومَنٌّ ليس كالمِنَن )
( فاكفُف دَعِيَّ زِيادٍ عن أكارمنا ... ماذا يُريدُ على الأحقادِ والإحَنِ )
فاجتمعت اليمانية إلى حصين فعيروه بما قاله ابن مفرغ فقال الحصين ليس لي رأي دون يزيد بن أسد ومخرمة بن شرحبيل فأرسل إليهما فاجتمعوا في منزل الحصين فقال لهما الحصين اسمعا ما أهدى إلي شاعركم وقاله لكم في أخيكم - يعني نفسه - وأنشدهم فقال يزيد بن

أسد قد جئتكم بأعظم من هذا وهو قوله
( وما كنتُ حجَّاماً ولكِنْ أحلَّنِي ... بِمنزِلةِ الحَجَّامِ نَأْيي عن الأَصلِ )
فقال الحصين والله لقد أساء إلينا أمير المؤمنين في صاحبنا مرتين إحداهما أنه هرب إليه فلم يجره وأخرى أنه أمر بعذابه غير مراقب لنا فيه وقال يزيد بن أسد إني لأظن أن طاعتنا ستفسد ويمحوها ما فعل بابن مفرغ ولقد تطلع من نفسي شيء للموت أحب إلي منه وقال مخرمة بن شرحبيل أيها الرجلان اعقلا فإنه لا معاوية لكما واعرفا أن صاحبكما لا تقدح فيه الغلظة فاقصدا التضرع فركب القوم إلى دمشق وقدموا على يزيد بن معاوية وقد سبقهم الرجل فنادى بذلك الشعر يوم الجمعة على درج مسجد دمشق فثارت اليمانية وتكلموا ومشى بعضهم إلى بعض وقدم وفد القرشيين في أمره مع طلحة الطلحات فسبقوا القرشيين ودخلوا على يزيد بن معاوية فتكلم الحصين بن نمير فذكر بلاءه وبلاء قومه وطاعتهم وقال يا أمير المؤمنين إن الذي أتاه ابن زياد إلى صاحبنا لا قرار عليه وقد سامنا عبيد الله وعباد خطة خسف وقلدانا قلادة عار فأنصف كريمنا من صاحبه فوالله لئن قدرنا لنعفون ولئن ظلمنا لننتصرن وقال يزيد بن أسد يا أمير المؤمنين إنا لو رضينا بمثلة ابن زياد بصاحبنا وعظيم ما انتهك منه لم يرض الله عز ذكره بذلك ولئن تقربنا إليك بما يسخط الله ليباعدننا الله منك وإن يمانيتك قد نفرت لصاحبها نفرة طار غرابها وما أدري متى يقع وكل نائرة تقدح في الملك وإن صغرت لم يؤمن أن تكبر وإطفاؤها خير من إضرامها لا سيما إذا كانت في أنف لا يجدع ويد لا تقطع فأنصفنا من ابني زياد وقال مخرمة بن شرحبيل وكان متألها عظيم الطاعة في أهل اليمن إنه

لا يد تحجزك عن هواك ولو مثلت بأخينا وتوليت ذلك منه بنفسك لم يقم فيه قائم ولم يعاتبك فيه معاتب ولكن ابني زياد استخفانا بما يثقل عليك من حقنا وتهاونا بما تكرمه منا وأنت بيننا وبين الله ونحن بينك وبين الناس فأنصفنا من صاحبيك ولينفعنا بلاؤنا عندك
فقال يزيد إن صاحبكم أتى عظيما نفي زيادا من أبي سفيان ونفى عبادا وعبيد الله من زياد وقلدهم طوق الحمامة وما شجعه على ذلك إلا نسبه فيكم وحلفه في قريش فأما إذ بلغ الأمر ما أرى وأشفى بكم على ما أشفى فهو لكم وعلي رضاكم

وفد القرشيين إلى يزيد
قال وانتهى القرشيون إلى الحاجب فاستأذن لهم وقال لليمانيين قد أتتكم برى الذهب من أهل العراق فدخلوا وسلموا والغضب يتبين في وجوههم فظن يزيد الظنون وقال لهم ما لكم انفتق فتق أو حدث حدث فيكم قالوا لا فسكن
فقال طلحة الطلحات
يا أمير المؤمنين أما كفى العرب ما لقيت من زياد حتى استعملت عليها ولده يستكثرون لك أحقادها ويبغضونك إليها إن عبيد الله وأخاه أتيا إلى ابن مفرغ ما قد بلغك فأنصفنا منهما إنصافا تعلم العرب أن لنا منك خلفا من أبيك فوالله لقد خبأ لك فعلهما خبئا عند أهل اليمن لا تحمده لك ولا تحمده لنفسك
وتكلم خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فقال
يا أمير المؤمنين إن زيادا ربي في شر حجر ونشأ في أخبث نشء فأثبتم نصابه في قريش وحملتموه على رقاب الناس فوثب ابناه على أخينا وحليفنا وحليفك ففعلا به الأفاعيل التي بلغتك وقد غضبت له قريش

الحجاز ويمن الشام ممن لا أجب والله لك غضبه فأنصفنا من ابني زياد
وتكلم أخوه أمية بنحو مما تكلم أخوه وقال
والله يا أمير المؤمنين لا أحط رحلي ولا أخلع ثياب سفري أو تنصفنا من ابني زياد أو تعلم العرب أنك قد قطعت أرحامنا ووصلت ابني زياد بقطعنا وحكمت بغير الحق لهما علينا
وقال ابن معمر يا أمير المؤمنين إن ابن مفرغ طالما ناضل عن عرضك وعرض أبيك وأعراض قومك ورمى عن جمرة أهلك وقد أتى بنو زياد فهي ما لو كان معاوية حيا لم يرض به وهذا رجل له شرف في قومه وقد نفروا له نفرة لها ما بعدها فأعتبهم وأنصف الرجل ولا تؤثر مرضاة ابني زياد على مرضاة الله عز و جل

يزيد يرحب بالوفدين
فقال يزيد مرحبا بكم وأهلا والله لو أصابه خالد ابني بما ذكرتم لأنصفته منه ولو رحلتم في جميع ما تحيط به العراق لوهبته لكم وما عندي إلا إنصاف المظلوم ولكن صاحبكم أسرف على القوم وكتب يزيد ببناء داره ورد ماله وتخلية سبيله وألا إمرة لأحد من بني زياد عليه وقال لولا أن في القود بعد ما جرى منه فسادا في الملك لأقدته من عباد
وسرح يزيد رجلا من حمير يقال له خمخام وكتب معه إلى عباد بن زياد نفسك نفسك وإن تسقط من ابن مفرغ شعرة فأقيدك والله به ولا سلطان لك ولا لأخيك ولا لأحد غيري عليه فجاء خمخام حتى انتزعه جهارا من الحبس بمحضر الناس وأخرجه
قالوا فلما دخل على يزيد قال له يا أمير المؤمنين اختر مني خصلة

من ثلاث خصال في كلها لي فرج إما أن تقيدني من ابن زياد وإما أن تخلي بيني وبينه وإما أن تقدمني فتضرب عنقي
فقال له يزيد قبح الله ما اخترته وخيرتنيه أما القود من ابن زياد فما كنت لأقيدك من عامل كان عليك ظلمته وشتمت عرضه وعرضي معه وأما التخلية بينك وبينه فلا ولا كرامة ما كنت لأخلي بينك وبين أهلي تقطع أعراضهم وأما ضرب عنقك فما كنت لأضرب عنق مسلم من غير أن يستحق ذلك ولكني أفعل ما هو خير لك مما اخترته لنفسك أعطيك ديتك فإنهم قد عرضوك للقتل واكفف عن ولد زياد فلا يبلغني أنك ذكرتهم وانزل أي البلاد شئت وأمر له بعشرة آلاف درهم

اعتذاره لعبيد الله بن زياد
فخرج حتى أتى الموصل وأقام ما شاء الله ثم خرج ذات يوم يتصيد فلقي دهقانا على حمار له فقال من أين أقبلت قال من العراق قال من أيها قال من البصرة ثم من الأهواز قال فما فعل المسرقان قال على حاله قال أفتعرف أناهيد بنت أعنق قال نعم قال ما فعلت قال على أحسن ما عهدت
قال فضرب برذونه وسار حتى أتى الأهواز ولم يعلم أهله ولا غيرهم بمسيره
ثم أتى عبيد الله بن زياد فدخل عليه واعتذر إليه وسأله الأمان فأمنه ثم سأله أن يكتب له إلى شريك بن الأعور فكتب له ووصله

هجاؤه بني زياد
وخرج فأقام بكرمان حتى غلب ابن الزبير على العراق وهرب ابن زياد وكان أهل البصرة قد أجمعوا على قتله فخرج عن البصرة هاربا فعاد ابن مفرغ إلى البصرة وعاود هجاء بني زياد فقال يذكر هرب عبيد الله وتركه أمه بقوله
( أعُبَيدُ هَلاّ كنتَ أَوَّلَ فارسٍ ... يوم الهِياج دعا بحَتْفِك داعِ )
( أسلمْتَ أُمَّكَ والرِّماحُ تَنوشُها ... يا ليتَني لك ليلةَ الإِفزاعِ )
( إذ تَسْتغيث وما لنفسِك مانعٌ ... عبْدٌ تردِّدُه بدارِ ضيَاعِ )
( هلاّ عجوزك إذ تُمَدُّ بثَدْيِها ... وتَصيح ألاّ تَنْزِعُنَّ قِناعِي )
( أنقذتَ من أيدي العُلوجِ كأنها ... رَبْداءُ مُجفِلةٌ ببطن القاعِ )
( فركبتَ رأسَك ثم قلتَ أرى العِدَا ... كَثُروا وأَخلفَ مَوْعِدي أشْياعِي )
( فانْجى بنَفْسِك وابتغي نَفَقاً فما ... لي طاقَةٌ بك والسلامُ وَدَاعِي )
( ليسَ الكَريمُ بمَنْ يُخَلِّف أُمَّه ... وفَتاتَه في المَنزلِ الجَعجاع )
( حَذَر المَنِيَّةِ والرِّماحُ تَنوشُه ... لم يَرْمِ دون نِسائه بكُراع )
( مُتأبِّطاً سيفاً عليه يَلْمَقٌ ... مثل الحمار أثرتَه بيَفاعِ )
( لا خيرَ في هَذِرٍ يهُزُّ لسانَه ... بكلامه والقلبُ غيرُ شُجاعِ )

( لابنُ الزُّبير غَداةَ يَذْمُر مُنْذِراً ... أَوْلى بغايَة كلِّ يوم وِقاعِ )
( وأحقُّ بالصبر الجميل من امرىءٍ ... كُزٍّ أناملُه قصيرَ الباعِ )
( جَعْدِ اليدين عن السَّماحة والنَّدى ... وعن الضَّرِيبة فاحِشٍ مَنَّاعِ )
( كم يا عُبَيْد الله عندك من دَمٍ ... يسعَى ليُدْرِكَه بقَتلك ساعِ )
( ومعاشرٍ أُنُفٍ أبحْتَ حريمَهم ... فَرَّقتَهم من بعد طُول جِماعِ )
( اذكُرْ حُسَيْناً وابنَ عُروَةَ هانئاً ... وابنَي عَقِيلٍ فارس المِرْباعِ )
وقال أيضا يذكر هربه
( أقَرَّ بعيني أنَّه عَقَّ أُمَّه ... دعَتْه فولاَّها اسْتَه وهو يَهرُبُ )
( وقال عليكِ الصبرَ كُوني سَبِيَّةً ... كما كنتِ أو مُوتي فذلك أقرَبُ )
( وقد هتفتْ هنْدٌ بماذا أمرتَنِي ... أَبِنْ لي وحَدِّثني إلى أينَ أذهبُ )
( فقال اقْصِدِي للأَزْدِ في عَرَصاتِها ... وبَكْرٍ فما إن عَنهُمُ مُتَجَنَّبُ )
( أخافُ تَمِيماً والمَسالِحُ دونَها ... ونيرانُ أعدائِي عليَّ تلهَّبُ )
( ووَلَّى وماءُ العين يَغسِل وَجْهَها ... كأن لم يكُن والدَّهر بالناس قُلَّبُ )
( بما قَدَّمَتْ كَفَّاك لا لكَ مَهْرَبٌ ... إلى أيّ قَوْم والدِّماء تَصَبَّبُ )
( فكمْ من كَرِيمٍ قد جَرَرْتَ جَريرةً ... عليه فمَقْبورٌ وعانٍ يُعَذَّبُ )

( ومن حُرَّةٍ زهراءَ قامت بسُحْرةٍ ... تُبكِّي قتيلاً أو صدًى يَتَأَوَّبُ )
( فصبراً عُبَيْدُ بنَ العَبِيد فإنما ... يُقاسِي الأُمورَ المُسْتَعِدُّ المُجَرِّبُ )
( وذُقْ كالذي قد ذاقَ منك معاشِرٌ ... لَعِبْتَ بهم إذ أَنت بالنَّاسِ تلعَبُ )
( فلو كنتَ حُرّاً أو حَفِظْتَ وَصِيَّةً ... عطَفْتَ على هِنْدٍ وهِنْدٌ تُسًحَّبُ )
( وقاتلتَ حتى لا تُرِي لك مَطْمَعاً ... بسَيْفِك في القومِ الذين تَحزَّبُوا )
( وقلتَ لأُمِّ العَبْد أُمَّك إنني ... وإن كَثُر الأعداءُ حامٍ مُذَبّبُ )
( ولكن أبى قلبٌ أُطِيرَتْ بَناتُه ... وعِرْقٌ لكم في آلِ مَيْسان يَضرِبُ )
وقال في ذلك أيضا
( ألاَ أبلِغْ عُبيْدَ اللهِ عنِّي ... عُبيدَ اللؤم عبدَ بني عِلاجِ )
( عَليَّ لكم قلائدُ باقِياتٌ ... يُثِرْنَ عليكمُ نَقْع العَجاجِ )
( تدَّعيْت الخضارِمَ من قُريشٍ ... فما في الدِّين بعدك من حِجاجِ )
( أبِنْ لي هل بِيثْرِبَ زَندُ وَرْدٍ ... قُرَى آبائك النَّبَط العَجاج )
وقال فيه أيضا
( عُبَيد الله عَبْدُ بني عِلاجٍ ... كذاكَ نسبتُه وكذاكَ كانا )
( أعبْدَ الحارثِ الكِنديِّ ألاَّ ... جعلتَ لإِسْتِ أُمِّكَ دَيْدبانا )

( فتَستُرَ عَورةً كانتْ قدِيماً ... وتمنع أُمّك النَّبَطَ البِطانا )
وقال يهجو عبيد الله وعبادا أنشدناه جماعة منهم هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وهذا من قصيدة له طويلة أولها
( جرَتْ أُمُّ الظِّباءِ بِبَيْنِ لَيلى ... وكلُّ وِصالِ حَبْلٍ لانقطاعِ )
يقول فيها
( ولا لاَقيتُ من أيّامِ بُؤْس ... ولا أمرٍ يَضيقُ به ذراعِي )
( ولم تَكُ شِيمتِي عَجْزاً وَلُؤْما ... ولم أَكُ بالمُضلَّلل في المسَاعي )
( سِوَى يَوم الهَجِين ومَنْ يُصاحِبْ ... لئامَ الناس يُغْضِ على القذاع )
( حَلفتُ برَبِّ مَكَّة لو سِلاحي ... بكفي إذ تُنازعني مَتاعِي )
( لباشَرَ أُمَّ رأسِك مَشرَفِيٌّ ... كذاكَ دَواؤنا وجع الصُّداعِ )
( أَفِي أحسابِنا تُزرِي علينا ... هُبِلْتَ وأنتَ زائدَةُ الكُراعِ )
( تبغَّيْتَ الذُّنوب عَليّ جَهْلاً ... جُنوناً ما جُنِنْتَ ابنَ اللَّكاع )
( فما أسفي على تَرْكي سَعِيداً ... وإسحاقَ بنَ طَلحةَ واتّباعِي )
( ثَنايا الوَبْر عبدَ بنِي عِلاجٍ ... عُبيْدةَ فقْعَ قَرْقَرةٍ بِقاعِ )
( إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجد ... وودّع أهلُها خيْرَ الوَداعِ )
( فأير في است أُمّك من أمير ... كذاك يقال للحمق اليراعِ )

( ولا بُلَّتْ سماؤك من أميرٍ ... فبِئْسَ مُعَرَّسُ الرّكْبِ الجِياعِ )
( ألم تَرَ إذْ تُحالِف حِلْف حَرْبٍ ... عليك غَدَوْتَ من سَقَطِ المَتاعِ )
( وكدتَ تَمُوتُ أنْ صاح ابن آوَى ... ومثْلُك مات من

صوت
السِّباعِ )
( ويَوْمَ فَتَحتَ سيفَك من بَعيدٍ ... أُضِعْتَ وكلُّ أمرِك للضّياعِ )
( إذ أودَى مُعاويةُ بنُ حَرْبٍ ... فبشِّرْ شَعْبَ قَعْبك بانْصِداعِ )
( فأشهدُ أنُّ أُمَّك لم تُباشِر ... أَبا سُفيانَ واضعةَ القِناعِ )
( ولكن كانَ أَمراً فيه لَبْسٌ ... على عجَلٍ شديدٍ وارْتياعِ )
قال وكان عباد في بعض حروبه ذات ليلة نائما في عسكره فصاحت بنات آوى فثارت الكلاب إليها ونفر بعض الدواب ففزع عباد وظنها كبسة من العدو فركب فرسه ودهش فقال افتحوا سيفي فعيره بذلك ابن مفرغ ومما قاله ابن مفرغ في هجاء بني زياد وغني فيه
صوت
( كم بالدُّروبِ وأرضِ الهند من قَدَمٍ ... ومِنْ جَماجم قَتلَى ما هُمُ قُبِرُوا )
( ومن سَرابيلِ أَبطالٍ مُضرّجَةٍ ... ساروا إلى الموت ما خامُوا ولا ذُعِروا )
( بقُنْدُهارَ ومَنْ تُحتَمْ منيَّتُهُ ... بقُندهارَ يُرجَّم دونَه الخبَرُ )

غنى في هذه الأبيات ابن جامع
( أَجَدّ أهلُك لا يأتيهمُ خَبَرٌ ... منَّا ولا منهم عَيْنٌ ولا أَثَرُ )
( ولم تكلَّم قُريْش في حَلِيفِهمُ ... إذ غابَ أنصارُه بالشَّام واحتُضِروا )
( لو أنَّني شهِدتني حِمْيَرٌ غَضِبَتْ ... إذاً فكان لها فيما جَرَى غِيَرُ )
( رَهطُ الأغرِّ شرَاحِيلِ بن ذِي كَلَع ... ورهطُ ذي فائشٍ ما فوقهم بَشر )
( قُولاَ لطَلْحة ما أغنتْ صَحيفتكم ... وهل لجارك إذ أوردْتَه صَدَرُ )
( فمَنْ لنا بشَقِيقٍ أو بأُسرته ... ومَنْ لنا ببني ذُهْلٍ إذا خَطَرُوا )
( همُ الذينَ سمَوْا والخيلُ عابِسَةٌ ... والناسُ عند زياد كلهم حَذرُ )
( لولاهمُ كان سلاّمٌ بِمَنْزِلَتي ... أَوْلَى لهم ثمَّ أولَى بعدما ظَفِرُوا )
أخبرني محمد بن خلف عن أبي بكر العامري عن إسحاق بن محمد عن القحذمي قال هجا سلام الرافعي مقاتل بن مسمع فقال فيه
( أَبَى لك يا ذا المَجْدِ أَنَّ مُقاتِلاً ... زَنَى واستَحَلَّ الفارِسِيَّ المُشَعْشَعَا )
في أبيات هجاه بها فحبسه مقاتل بالعربة فركب شقيق بن ثور في جماعة من بني ذهل إلى الحبس فأخرجه فضرب به ابن مفرغ المثل في الشعر الماضي
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو عبد الله اليماني قال حدثنا الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال
قال لي عبيد الله بن زياد ما هجيت بشيء أشد علي من قول ابن مفرغ
( فكِّرْ ففي ذاك إن فَكَّرْتَ مُعْتَبَرٌ ... هل نِلْتَ مكرُمَةً إلا بتَأْميرِ )

( عاشَتْ سُمَيَّةُ ما تَدْرِي وقد عَمرَتْ ... أَنَّ ابنها من قُريْشٍ في الجَماهِير )
وروى اليزيدي في روايته عن الأحول قال أبو عبيدة
كان زياد يزعم أن أمه سمية بنت الأعور من بني عبد شمس بن زيد مناة بن تميم فقال ابن مفرغ يرد ذلك عليه
( فأُقسِم ما زيادٌ من قُرَيْشٍ ... ولا كانت سُمَيَّة من تمِيمِ )
( ولكنْ نَسْلُ عَبْدٍ من بَغيٍّ ... عريقِ الأصلِ في النَّسَب اللَّئِيمِ )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أنشدني أبو عبيدة لابن مفرغ يهجو ابن زياد ويرميه بالأبنة
( أَبلِغْ قُريشاً قَضَّها وقَضِيضَها ... أَهلَ السَّمَاحةِ والحُلُومِ الرَّاجِحَهْ )
( أنِّي ابتُلِيت بحَيَّةٍ ساوَرْتُه ... بيَدٍ لعَمْرِي لم تَكُنْ لِيَ رابِحَهْ )
( صَفَقَ المُبَخَّل صَفْقةً ملعُونَةً ... جرَّتْ عليه من البلايا فادِحَهْ )
( شتّانَ مَنْ بَطحاءُ مَكَّةَ دارُه ... وَبَنُو المُضافِ إلى السِّباخ المالحهْ )
( جَعُدَتْ أنامِلُه ولامَ نِجارُه ... وبذاك تُخبِرُنا الظِّباء السانِحَهْ )
( فإذا أُميَّة صَلْصَلَتْ أحسابُها فبَنُو زيادٍ في الكلاب النَّابِحَهْ ... )
( قالوا يُناكُ فقلتُ في جَوْفِ استِه ... وبذاك خَبَّرَنِي الصَّدُوقُ الفاضِحَهْ )
( لم يبقَ أيرٌ أسودٌ أو أبيضٌ ... إلاّ له استُكَ في الخَلاء مُصافِحَهْ )

مقتل عبيد الله بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن السري بن يحيى قال حدثني أبي عن شعيب عن سيف قال

لما قتل عبيد الله بن زياد يوم الزاب قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد ويقال إن إبراهيم بن الأشتر حمل على كتيبته فانهزموا ولقي عبيد الله فضربه فقتله وجاءه إلى أصحابه فقال إني ضربت رجلا فقددته نصفين فشرقت يداه وغربت رجلاه وفاح منه المسك وأظنه ابن مرجانة وأومأ لهم إلى موضعه فجاؤوا إليه وفتشوا عليه فوجدوه كما ذكر وإذا هو ابن زياد فقال ابن مفرغ يهجوه
( إنَّ الذِي عاش خَتَّاراً بذِمَّتهِ ... وعاش عَبْداً قَتِيلُ الله بالزَّابِ )
( العَبْدُ للعبد لا أصْلٌ ولا طَرَفٌ ... ألْوَتْ به ذَاتُ أظْفارٍ وأنْيابِ )
( إنّ المَنايا إذا ما زُرْنَ طاغِيةً ... هَتَكْن عنه سُتوراً بين أَبْوابِ )
( هَلاّ جُموع نِزار إذ لقِيتَهمُ ... كنتَ امرَأً من نِزارٍ غير مُرتابِ )
( لا أنتَ زاحَمْت عن مُلْكٍ فتمَنعَه ... ولا مَدَدْت إلى قَوْمٍ بأَسْبابِ )
( ما شُقَّ جَيبٌ ولا ناحَتْك نائِحَةٌ ... ولا بَكَتْك جِيادٌ عند أسلابِ )
( لا يتركُ اللهُ أنْفاً تَعْطِسُون بها ... بني العَبِيد شُهوداً غيرَ غُيَّابِ )

( أقولُ بُعْداً وسُحْقاً عند مَصْرعه ... لابن الخَبِيثَةِ وابن الكَوْدَنِ الكَابِي )
والقصيدة المذكورة بها غناء فيه منها وقال
( حَيِّ ذا الزَّوْرَ وانهَهُ أن يَعُودا ... إنَّ بالباب حارسين قُعودَا )
( من أساوِيرَ ما يَنُون قِياماً ... وخَلاخيلَ تُذْهِل المَوْلُودا )
( وطماطِيمَ من مشايخ جُونٍ ... ألْبَسُونِي مع الصَّباح قُيُودا )
( أيّ بلوى معيشة قد بلَوْنا ... فنَعمْنا وما رَجونا خُلودا )
( ودهورٍ لَقِينَنا مُوجِعاتٍ ... وزمانٍ يُكسِّر الجلمودا )
( فصبرنا على مواطن ضِيقٍ ... وخطوبٍ تُصَيِّرُ البِيضَ سُودا )
( ظلّ فيها النصيحُ يُرسِل سِرًّا ... لا تُهالَنّ إن سمعتَ الوعيدا )
( أفإِنْسٌ ما هكذا صَبْرُ إنْسٍ ... أم من الجِنّ أم خُلِقْتَ حَدِيدَا )
( لا ذَعَرْتُ السَّوامَ في فلَقِ الصُّبحِ ... مغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا )
( يومَ أُعطِي مخافةَ الموت ضَيْماً ... والمنايا يرصُدْنَنِي أن أحيدا )
قال وهي قصيدة طويلة
وتمثل الحسين بن علي صلوات الله عليه بهذين البيتين لما خرج من المدينة إلى مكة عند بيعة يزيد
( لا ذَعَرْتُ السَّوامَ في فلَقِ الصُّبحِ ... مغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا )
( يومَ أُعطِي مخافةَ الموت ضَيْماً ... والمنايا يرصُدْنَنِي أن أحيدا )
حدثني أحمد بن عيسى أبو موسى العجلي العطار بالكوفة فقال حدثني الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال حدثني أبي قال حدثنا عمر بن

سعد عن أبي مخنف قال حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبي سعيد المقبري قال
والله لرأيت حسينا عليه السلام وهو يمشي بين رجلين يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة حتى دخل المسجد وهو يقول
لا ذعرت السوام البيتين
قال فقلت عند ذلك إنه لا يلبث إلا قليلا حتى يخرج فما لبث أن خرج فلحق بمكة فلما خرج من المدينة قال ( فخرج منها خائفا أن يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) ولما توجه نحو مكة قال ( ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل )

ابن مفرغ ومروان بن الحكم
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
لما قدم ابن مفرغ إلى معاوية مع خمخام الذي وجهه إليه فانتزعه من عباد بن زياد نزل على مروان بن الحكم وهو يومئذ عند معاوية فأعطاه وكساه وقام بأمره واسترفد له كل من قدر عليه من بني أبي العاص بن أمية فقال ابن مفرغ يمدحه من قصيدته
( وأقمْتُمُ سُوقَ الثَّناء ولم تكُن ... سُوقُ الثَّناء تُقامُ في الأَسْوَاقِ )
( فكأنما جَعَل الإِلهُ إليكُمُ ... قَبْضَ النُّفوسِ وقِسْمةَ الأرزاقِ )

أخبرني هشام بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
كان ابن مفرغ يهوى أناهيد بنت الأعنق وكان الأعنق دهقانا من الأهواز له ما بين الأهواز وسرق ومناذر والسوس وكان لها أخوات يقال لهن أسماء والجمانة وأخرى قد سقط اسمها عن دماذ فكان يذكرهن جميعا في شعره فمن ذلك قوله في صاحبته أناهيد من أبيات
( سِيرِي أناهِيدُ بالعيْرَيْنِ آمنةً ... قد سلَّم اللهُ من قومٍ بهم طَبَع )
( لا بارك الله فيهم معشراً جُبُناً ... ولا سقى دارَهم قَطْراً ولا رُبِعوا )
( السارقين إذا جاعوا نَزِيلَهُمُ ... والأخبَثِين بطُوناً كلما شبِعُوا )
( لا تأمنَنَّ حِزاميًّا نزلتَ به ... قوم لديهم تناهى اللُّؤمُ والصَّرَعُ )
( جاورْ بني خَلَفٍ تَحْمَدْ جِوارَهُمُ ... الأَعْظَمِينَ دفاعاً كلما دفعوا )
( والمطعِمين إذا ما شَتْوَةٌ أزَمَتْ ... فالناس شتّى إلى أبوابهم شَرَعُ )
( هم خير قَومهمُ إن حَدَّثوا صدقوا ... أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفعوا )
( المانعين من المخزاة جارَهُمُ ... والرّافعين من الأدنَيْنَ ما صَنَعُوا )
( انزِلْ بطلحةَ يوماً إنّ مَنْزِلَه ... سَهلُ المباءَة بالعلياء مرتفع )
وفي أسماء أختها يقول
( تَعلَّق من أسماءَ ما قد تَعَلَّقا ... ومثل الذي لاقَى من الحُبّ أَرَّقَا )

( وحَسبُكَ من أسماء نَأيٌ وأنها ... إذا ذُكِرتْ هاجَتْ فُؤاداً مُعَلَّقا )
( سَقَى هَزِمُ الإرعادِ مُنْبَجِسُ العُرَى ... منازلَها بالمَسْرُقَانِ فَسُرَّقا )
( وتُستَر لا زالت خَصِيباً جنابُها ... الى مَدْفَع السُّلاَّن من بطن دَوْرَقا )
( إلى الكَوثَج الأعلى إلى رامَهُرْمُزٍ ... الى قَريات الشِّيحِ من فوق سَفْسَقا )
رامهرمز بلد من أعمال الأهواز معروف
( بلادٌ بنات الفارسية إنَّها ... سقتنا على لَوْحِ شراباً مُعَتَّقا )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة قالا
لما فصل ابن مفرغ من عند معاوية نزل بالموصل على أخواله من آل ذي العشراء من حمير قال الهيثم في روايته فزوجوه امرأة منهم ولم يذكر ذلك أبو عبيدة فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد فإذا هو بدهقان على حمار يبيع عطرا وأدهانا فقال له ابن مفرغ من أين أقبلت قال من الأهواز قال ويحك كيف خلفت المسرقان وبرد مائة قال على حاله قال ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق قال أصديقه ابن مفرغ قال نعم قال ما تجف جفونها من البكاء عليه فقال لغلامه أي برد أما تسمع قال بلى قال هو بالرحمن كافر إن لم يكن هذا وجهي إليها فقال له برد أكرمك القوم وقاموا دونك وزوجوك كريمتهم ثم تصنع هذا بهم وتقدم على ابن زياد بعد

خلاصك منه من غير أمره ولا عهد منه ولا عقد ابق أيها الرجل على نفسك وأقم بموضعك وابن بأهلك وانظر في أمرك فإن جد عزمك كنت حينئذ وما تختاره قال دع ذا عنك هو بالرحمن كافر إن عدل عن الأهواز ولا عرج على شيء غيرها ومضى لوجهه من غير أن يعلم أهله وقال قصيدته
( سَمَا برقُ الجُمانة فاستَطارا ... لعلّ البرقَ ذاك يَحورُ نارا )
( قعدتُ له العِشاءَ فهاج شَوقِي ... وذكَّرني المَنازِلَ والدِّيارا )
( ديارٌ للجُمانة مقْفِراتٌ ... بَلِينَ وهِجْن للقَلْب ادِّكارا )
( فلم أملِك دُموعَ العَيْن مِنِّي ... ولا النَّفسَ التي جاشَت مِرارا )
( بُسرَّقَ فالقُرَى من صَهرتاجٍ ... فدير الراهب الطلل القِفارا )
( فقلتُ لصاحبي عرِّجْ قَليلاً ... نُذاكِرْ شوقَنا الدُّرسَ البَوارا )
( بآية ما غَدَوْا وهُمُ جَمِيعٌ ... فكاد الصبُّ ينتَحِر انْتِحارا )
( فقال بكَوْا لفقدك منذُ حِينٍ ... زمانا ثم إنَّ الحيَّ سَارا )
( بدِجْلةَ فاستمرَّ بهم سَفِينٌ ... يَشُقُّ صُدُورُها اللُّجَجَ الغِمارا )
( كأن لم أَغْنَ في العَرَصاتِ منها ... ولم أّذْعَرْ بقاعَتِها ِ صُوارا )
( ولم أسمع غِناءً من خَلِيل ... وصوتَ مُقَرْطَقٍ خَلَع العِذَار )
قال فقدم البصرة فذكر لعبيد الله بن زياد مقدمه فلم يعرض له وأرسل إليه أن أقم آمنا فأقام بالبصرة أشهرا يختلف من البصرة إلى الأهواز فيزور أناهيد ويقيم عندها

ثم أتى عبيد الله بن زياد فقال له إني امرؤ لي أعداء ولست آمن بعضهم أن يقول شيئا على لساني يحفظ الأمير علي وأحب أن يأذن لي أن أتنحى عنه فقال له حل حيث شئت فخرج حتى قدم على شريك بن الأعور الحارثي وهو يومئذ عامل عبيد الله بن زياد على فارس وكرمان فأعطاه ثلاثين ألف درهم فقدم بها الأهواز فأعطاها أناهيد

ابن مفرغ وعبيد الله بن أبي بكرة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال
حدثني محمد بن الحكم عن عوانة
أن عبيد الله بن أبي بكرة كتب إلى يزيد بن مفرغ إني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي فلعلك إن قدمت علي ألا تندم ولا يذم رأيك فتجهز ابن مفرغ وخرج حتى قدم سحستان ممسيا فدخل عليه فشغله بالحديث وأمر له بمنزل وفرش وخدم وجعل يطاوله حتى علم أنه قد استتم له ما أمر له به ثم صرفه إلى المنزل الذي قد هيىء له ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له يابن مفرغ إنك فد تجشمت إلي شقة بعيدة واتسع لك الأمل فرحلت إلي لأقضي عنك دينك ولأغنيك عن الناس وقلت أبو حاتم بسجستان فمن لي بالغنى بعده فقال والله ما أخطأت أيها الأمير ما كان في نفسي فقال عبيد الله أما والله لأفعلن ولأقلن لبثك عندي ولأحسنن صلتك وأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيفة ومائة نجيبة وأمر له بما ينفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة الألف وبمن يكفيه الخدمة من غلمانه وأعوانه وقال له إن من خفة السفر ألا تهتم بخف ولا حافر وكان مقامه عنده سبعة أيام

ثم ارتحل وشيعه عبيد الله إلى قرية على أربعة فراسخ يقال لها زالق ثم قال له يا بن مفرغ إنه ينبغي للمودع أن ينصرف وللمتكلم أن يسكت وأنا من قد عرفت فأبق على الأمل وحسن ظنك بي ورجائك في وإذا بدا لك أن تعود فعد والسلام
قال وسار ابن مفرغ حتى أتى رامهرمز فنزل بقرية أبجر فنزلت إليه بنت الأبجر فقالت يا بن مفرغ لمن هذا المال قال لابنة أعنق دهقانة الأهواز وإذا رسولها في القافلة بكتابها إنك لو كنت على العهد الأول لتعجلت إلي ولم تساير ثقلك ولكن قد علمت أن المال الذي أعطاكه عبيد الله قد شغلك عني قال فأعطى رسولها مالا على أن يقول فيه خيرا وقد قال لابنة أبجر في جواب قولها له
( حَباني عُبيْدُ الله يابنةَ أَبجرِ ... بهذا وهذا للجُمانة أجْمعُ )
( يَقَرّ بعيني أن أراها وأهلَها ... بأفضل حالٍ ذاك مرْأَى ومَسمَعُ )
( وخُبِّرتُها قالت لقد حال بَعدنا ... فقد جعلت نفسي إليها تَطَلّعُ )
( وقلتُ لها لمّا أتاني رسولُها ... وأيُّ رَسولٍ لا يضرُّ وينفعُ )
( أُحِبُّك ما دامَتْ بنَجْد وشيجةٌ ... وما رُفِعت يوماً إلى الله إصبعُ )
( وإني مَلءٌ يا جُمانةُ بالهَوى ... وصِدْقِ الهوى إن كان ذلك يُقْنِعُ )
قال فلما انتهت رسل عبيد الله بن أبي بكرة معه إلى الأهواز قالوا له

قد بلغنا حيث أمرنا قال أجل ثم أمر ابنة أعنق أن تفتح الباب وقال لها كل ما دخل دارك فهو لك

مدحه عبيد الله بن أبي بكرة
وأقام بالأهواز ودعا ندماء كانوا له من فتيان العرب فلم يبق طريف ولا مغن إلا أتاه واستماحه جماعة قصدوه من أهل البصرة والكوفة والشام فأعطاهم ولم يفارق أناهيد ومعه شيء من المال وجعل القوم يسألونه عن عبيد الله بن أبي بكرة وكيف هو وأخلاقه وجوده فقال
( يُسائِلُني أهلُ العِراق عن النَّدَى ... فقلتُ عُبيْدُ الله حِلْفُ المكارِم )
( فتى حاتمِيٌّ في سِجستانَ رَحله ... وحَسبُك جُوداً أن يكون كحاتِم )
( سَما لِينالَ المكْرُماتِ فنالَها ... بِشِدّة ضِرْغام وَبَذْلِ الدّراهم )
( وحِلْمٍ إذا ما سَوْرةُ الحقْد أطلَقت ... حُبَا القَوْم عند الفادِح المُتفاقِم )
( وإنّ له في كلِّ حيٍّ صَنيعةً ... يُحدِّثها الرُّكبانُ أهلَ المَواسِم )
( دَعاني إليه جودُه وَوفاؤه ... ومَنْ دون مَسراه عُداةُ الأعاجِم )
( فلم أَبْقَ إلا جُمْعةً في جِوارِه ... ويَوْمَيْنِ حلاًّ من أليَّةِ آثِم )
( إلى أن دَعاني زَانَه الله بالعُلا ... فأنبَت رِيشي من صَميم القَوادِم )
( وقال إذا ما شئتَ يا بنَ مُفرِّغ ... فعُدْ عودةً ليست كأَضْغاثِ حالم )
( فقلتُ له - لا يُبعد اللهُ دارَه - ... أعودُ إذا ما جئتُكم غيرَ حاشِم )
( وأحمدْتُ وِرْدِي إذْ وردتُ حِياضَه ... وكلُّ كريم نُهزَةٌ للأَكارِمِ )
( فأصبَح لا يرجُو العِراقُ وأهلُه ... سِواه لنَفع أو لِدفْع العَظائم )

( وإنّ عُبيْدَ الله هنّأ رفدَه ... سَرَاحاً وأُعْطى رفدَه غيرَ غانِم )
وقال الهيثم في خبره كان عمرو بن مفرغ عم يزيد بن ربيعة بن مفرغ رجلا له جاه وقدر عند السلطان وكان ذا مال وثروة وذا دين وفضل وصلاح فكان يعنف ابن أخيه في أمر أناهيد عشيقته ويعذله ويعيره بها فلما أكثر عليه أتاه يوما فقال له يا عم جعلت فداك إن لي بالأهوازحاجة ولي على قوم بها نحو من ثلاثين ألف درهم قد خفت أن تتوى علي فإن رأيت أن تتجشم العناء معي إليها حتى تطالب لي بحقي وتعينني بجاهك على غرمائي وكان عمرو بن مفرغ قد استخلفه ابن عباس عليها إذ كان عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى آله على البصرة وكان عامل الأهواز حين سأل ابن مفرغ عمه أن يخرج معه ميمون بن عامر أخو بني قيس بن ثعلبة الذي يقال لدراهمه اليوم اليمونية فلم يزل ابن مفرغ بعمه حتى أجابه إلى الخروج فاستأجر سفينة وتوجه إلى الأهواز وكتب إلى أناهيد أن تهيئي وتزيني بأحسن زينتك واخرجي إلي مع جواريك فإني موافيك ومنزلها يومئذ بين سرق ورامهرمز
فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم وجلست معهم في هيئتها وزيها وحليها وآلتها فلما رآها عمه قال له قبحك الله أفهلا إذ فعلت ما فعلت كنت علقت مثل هذه فقال يا عم أوقد أعجبتك فقال ومن لا تعجبه هذه قال ألجد هذا منك قال نعم والله قال فإنها والله هذه بعينها فقال يا خبيث إنما أشخصتني لهذا يا غلام ارحل بنا فانصرف عمه إلى البصرة وأقام هو معها ولم يزل يتررد كذلك حتى مات في الطاعون في أيام مصعب بن الزبير

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا القحذمي قال
لزم يزيد بن مفرغ غرماؤه بدين فقال لهم انطلقوا نجلس على باب الأمير عسى أن يخرج الأشراف من عنده فيروني فيقضوا عني فانطلقوا به فكان أول من خرج إما عمر بن عبيد الله بن معمر وإما طلحة الطلحات فلما رآه قال أبا عثمان ما أقعدك ها هنا قال غرمائي هؤلاء لزموي بدين لهم علي قال وكم هو قال سبعون ألفا قال علي منها عشرة آلاف درهم
ثم خرج الآخر على الأثر فسأله كما سأل صاحبه فقال هل خرج أحد قبلي قالوا نعم فلان قال فما صنع قالوا ضمن عشرة آلاف درهم قال فعلي مثلها
قال ثم جعل الناس يخرجون فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك حتى ضمنوا أربعين ألفا
وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة فلم يخرج حتى غربت الشمس فخرج مبادرا فلم يره حتى كاد يبلغ بيته فقيل له إنك مررت بابن مفرغ ملزوما وقد مر به الأشراف فضمنوا عنه فقال واسوأتاه إني أخاف أن يظن أني تغافلت عنه فكر راجعا فوجده قاعدا فقال له أبا عثمان ما يجلسك ها هنا قال غرمائي هؤلاء يلزمونني قال كم عليك قال سبعون ألفا قال وكم ضمن عنك قال أربعون ألفا قال فاستمتع بها وعلي

دينك أجمع فقال فيه يخاطب نفسه
( لو شِئتِ لم تَغْنَيْ ولم تَنْصَبِي ... عِشْتِ بأسبابِ أبي حاتِم )
( عِشْتِ بأسباب الجَواد الذي ... لا يَخْتِم الأموالَ بالخاتَمِ )
( من كفِّ بُهلولٍ له عُدَّةٌ ... ما إن لمَن عاداه من عاصِم )
( المُطْعِم النّاسَ إذا حاردتْ ... نكباؤها في الزّمن العارم )
( والفاصِلِ الخطة يوم اللِّجا ... للأَمر عند الكُرْبةِ اللازمِ )
( جاورتُه حِيناً فأحْمَدْتُه ... أُثني وما الحامدُ كاللائم )
( كم من عدُوٍّ شامتٍ كاشِحٍ ... أخزيْتَه يوماً ومن ظالِم )
( أذقْتَه الموتَ على غِرّةٍ ... بأبيضَ ذِي رَوْنَقٍ صارمِ )
أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
قدم بديح الكوفة فغنى بها دهرا وأصاب مالا كثيرا ثم خرج إلى البصرة ثم أتى الأهواز ثم عاد إلى البصرة فصحب ابن مفرغ في سفينة حتى إذا كان في نهر معقل تغنى وهو لا يعرف ابن مفرغ بقوله
( سَمَا برقُ الجُمانة فاستَطارا ... لعلّ البرقَ ذاك يعودُ نارا )
قال فطرب ابن مفرغ وقال يا ملاح كر بنا إلى الأهواز فكر وهو يغنيه ثم كر راجعا إلى البصرة وكروا معه وهو يعيد هذا الصوت قال ووصل ابن مفرغ بديحا وكساه

صوت
( رَضِيتُ الهَوى إذ حَلّ بي مُتَخيِّراً ... نديماً وما غَيرِي له من يُنادِمُهْ )
( أُعاطِيه كأسَ الصَّبرِ بَيني وبينَه ... يُقاسِمُنِيها مرّةً وأُقاسِمُهْ )
يقال إن الشعر لبشار والغناء للزبير بن دحمان هزج بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن المكي

أخبار الزبير بن دحمان
الزبير والرشيد
قد مضت أخبار أبيه ونسبه وولاؤه في متقدم الكتاب وكان الزبير أحد المحسنين المتقنين الرواة الضراب المتقدمين في الصنعة وقدم على الرشيد من الحجاز وكان المغنون في أيامة حزبين أحدهما في حزب إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق والآخر في حزب ابن جامع وابن المهدي وكان إبراهيم بن المهدي أوكد أسباب هذا التحزب والتعصب لما كان بينه وبين إسحاق وكان الزبير بن دحمان في حزب إسحاق وأخوه عبيد الله في حزب إبراهيم بن المهدي
فأخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
لما قدم الزبير بن دحمان على الرشيد من الحجاز قدم رجل ما شئت من رجل عقلا ونبلا ودينا وأدبا وسكونا ووقارا وكان أبوه قبله كذلك وقدم معه أخوه عبيد الله فلما وصلا إلى الرشيد وجلسا معنا تخيلت في الزبير الفضل فقلت لأبي يا أبت أخلق بالزبير أن يكون أفضل من أخيه فقال هذا لا يجيء بالظن والتخيل والجواد إنما يمتحن في الميدان فقلت له فالجواد عينه فراره فضحك وقال ننظر في فراستك فلما غنيا بان فضل الزبير وتقدمه فاصطفاه أبي واصطفيته لأنفسنا وقرظناه ووصفناه وصار

في حيزنا وغنى الرشيد غناء كثيرا من غناء المتقدمين فأجاد وأحسن وسأله الرشيد أن يغنيه شيئا من صنعته فالتوى بعض الإلتواء وقال قد سمع أمير المؤمنين غناء الحذاق من المتقدمين وغناء من بحضرته من خدمه ومن وفد عليه من الحجازيين وما عسى أن يأتي من صنعتي فأقسم عليه أن يغنيه شيئا من صنعته وجد به في ذلك فكان أول

صوت
غناه منها
صوت
( ارحَلاَ صاحِبَيَّ حانَ الرَّحِيلُ ... وابْكِيانِي فليس تَبْكِي الطُّلُولُ )
( قد تَولَّى النَّهارُ وانقَضَتِ الشَّمسُ ... يَمِيناً وحان منها أُفولُ )
لحن هذا الصوت خفيف ثقيل
قال
فسمعت والله صنعة حسنة متقنة لا مطعن عليها فطرب الرشيد واستعاده هذا الصوت ثلاث مرات وأمر له بثلاثين ألف درهم ولأخيه بعشرين ألف درهم ثم لم يزل زبير معنا كواحد منا وانحاز عبيد الله إلى جنبه إبراهيم بن المهدي فكان معه قال حماد فقلت لأبي كيف كانت صنعة عبيد الله قال أنا أجمل لك القول لو كان زبير مملوكا لاشتريته بعشرين ألف دينار ولو كان عبيد الله مملوكا ما طابت نفسي على أن أشتريه بأكثر من عشرين دينارا فقلت قد أجبتني بما يكفيني
حدثني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي ومحمد بن الحارث بن

بسخنر أن الرشيد كتب في إشخاص الزبير بن دحمان إلى مدينة السلام فوافاها واتفق قدومه في وقت خروج الرشيد إلى الري لمحاربة بندارهرمز أصبهذ طبرستان فأقام الزبير بمدينة السلام إلى أن دخل الرشيد فلما قدم دخل عليه بالخيزرانة وهو الموضع الذي يعرف بالشماسية فغناه في أول غنائه صوتا في شعر قاله هو أيضا في الرشيد مدحه به وذكر خروجه إلى طبرستان وهو
صوت
( ألا إنَّ حِزْبَ الله ليس بمُعْجِزِ ... وأنصارُه في مَنْعَة المُتَحَرِّزِ )
( أَبَى اللهُ أن يُعصَى لِهارُونَ أمرُه ... وذُلَّت له طَوْعاً يَدُ المُتَعَزِّزِ )
( إذا الرَّايَةُ السَّوداءُ راحَتْ أو اغْتَدتْ ... إلى هارِبٍ فليس بِمُعْجِزِ )
( لَطاعَتْ لِهارُونَ العُداةُ لدى الوَغَى ... وكَبَّر للإِسلام بندارُ هُرْمُزِ )
لم أجد هذا الصوت منسوبا في شيء من الكتب إلا في كتاب بذل وهو فيه غير مجنس
وذكر إبراهيم بن المهدي أن الشعر للزبير بن دحمان وهذا خطأ الشعر لأبي العتاهية وهو موجود في شعره من قصيدة طويلة مدح بها الرشيد
قال أبو إسحاق فاستحسن الرشيد الشعر والغناء وأمر له بألف دينار فدفعت إليه ومكث ساعة ثم غنى صوتا ثانيا وهو

صوت
( وأحور كالغُصْن يَشْفِي السَّقَام ... ويَحكِي الغَزالَ إذا ما رَنا )
( شَرِبتُ المُدامَ على وَجْهِه ... وعاطَيْتُه الكأسَ حتى انْثَنَى )
( وقُلتُ مَديحاً أُرَجِّي به ... من الأَجْر حظّاً ونَيْلَ الغِنَى )
( وأَعنِي بذاك الإمامَ الذي ... به اللهُ أعطى العِبادَ المُنَى )
لحن هذا الصوت ثاني ثقيل مطلق
قال فما فرغ من الصوت حتى أمر له بألف دينار آخر فقبضه وخف على قلبه واستظرفه فأغناه في مدة يسيرة من الأيام
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة عن القطراني عن محمد بن حبيب قال
كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الأسف عليهم والتندم على ما فعله بهم ففطن الزبير بن دحمان فكان يغنيه في هذا المعنى ويحركه فغناه يوما والشعر لامرأة من بني أسد
( مَنْ للخُصومِ إذا جدّ الخِصامُ بهم ... يومَ النِّزال ومَنْ للضُّمَّر القُودِ )
( ومَوقفٍ قد كَفيتَ النّاطِقِين به ... في مَجْمَعٍ من نَواصِي النَّاس مَشْهودِ )
( فَرّجتَه بلسان غيرِ مُلْتَبِسٍ ... عند الحِفاظ وقولٍ غيرِ مردودِ )
فقال له الرشيد أعد فأعاد فقال له ويحك كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وبكى حتى جرت دموعه ووصل الزبير صلة سنية

الزبير وإسحاق
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال
كان أبي يقول ما كان دحمان يساوي على الغناء أربعمائة درهم وأشبه خلق الله به غناء ابنه عبيد الله وكان يفضل الزبير بن دحمان على أبيه وأخيه تفضيلا بعيدا وفي الزبير يقول إسحاق وله فيه غناء وهو
صوت
( أَسعْد بدَمْعِك يا أبا العَوَّامِ ... صَبّاً صريعَ هَوىً ونِضْوَ سِقامِ )
( ذَكَر الأحبَّةَ فاستُجِنَّ وهاجه ... للشوق نوحُ حمامةٍ وحَمامِ )
( لم يُبدِ ما في الصَّدْر إلاَّ أنَّه ... حيَّا العِراقَ وأهلَه بِسلامِ )
( ودَعاه داعٍ للهَوَى فأجابَه ... شَوقاً إليه وقادَه بزِمامِ )
الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وهذا الشعر قاله إسحاق وهو بالرقة مع الرشيد يتشوق إلى العراق
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني جدي حمدون بن إسماعيل قال قال لي إسحاق
كنا مع الرشيد بالرقة وخرج يوما إلى ظهرها يصيد وكنت في موكبه أساير الزبير بن دحمان فذكرني بغداد وطيبها وأهلي وإخواني وحرمي فتشوقت لذلك شوقا شديدا وعرض لي هم وفكر حتى أبكاني فقال لي الزبير مالك يا أبا محمد فشكوت إليه ما عرض وقلت
( أسعِدْ بِدَمْعِكَ يا أبا العَوَّامِ ... صَبَّاً صرِيعَ هَوىً ونِضْوَ سَقامِ )
وذكر باقي الأبيات وعلمت أن الخبر سينمي إلى الرشيد فصنعت في الأبيات لحنا فلما جلس الرشيد للشرب ابتدأت فغنيته إياه فقال لي

تشوقت والله يا إسحاق وشوقت وبلغت ما أردت وأمر لي بثلاثين ألف درهم وللزبير بعشرين ألفا ورحل إلى بغداد بعد أيام
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال أخبرني أبي قال قال لي إسحاق وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال
جاءني الزبير بن دحمان ذات يوم مسلما فاحتبسته فقال قد أمرني الفضل بن الربيع بأن أصير إليه فقلت
( أقِمْ يا أبا العَوَّامِ وَيْحك نَشْرَبُ ... ونَلْهُو مع اللاَّهِين يوماً ونَطربُ )
( إذا ما رأيتَ اليومَ قد جاء خَيرُه ... فخُذْهُ بشُكْرٍ واترك الفَضْلَ يَغْضَبُ )
قال فأقام عندي فشربنا باقي يومنا ثم سار الزبير إلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه بالحديث وأنشده الشعر فغضب وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه ألا يدخلني اليوم ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة إليه قال فقلت
( حَرامٌ عليّ الكَأْسُ ما دُمْتَ غَضْباناً ... وما لم يَعُد عَنِّي رِضاكَ كما كانا )
( فأَحسِنْ فإِنِّي قد أسأتُ ولم تَزَل ... تُعَوِّدُني عند الإساءة إحسانا )
قال وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد لي إلى ما كان عليه

وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكره الآخران وزاد فيه وقلت في عون حاجبه
( عونُ يا عونُ ليس مثلَك عَوْنُ ... أنتَ لي عُدَّةٌ إذا كان كَوْنُ )
( لكَ عندِي واللهِ إن رَضِيَ الفَضْل ... غُلامٌ يُرْضِيك أو بِرْذَوْنُ )
فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا فلما قرأهما ضحك وقال له ويلك إنما عرض لك بقوله غلام يرضيك بالسوأة فقال قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي وأتاني رسوله فضرت إليه ورضي عني
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال
كان عندي الزبير بن دحمان يوما فغنيت لحن أبي
( أَشاقَك من أرض العراق طُلُولُ ... تَحَمَّلَ منها جِيرَةٌ وحُمولُ )
فقال لي الزبير أنت الأستاذ وابن الأستاذ السيد وقد أخذت عن أبيك هذا الصوت وأنا أغنيه أحسن فقلت له والله إني لا أحب أن يكون ذلك كذلك فغضب وقال فأنا والله أحسن غناء منك وتلاحينا طويلا فقلت له هلم نخرج إلى صحراء الرقة فيكون اكلنا وشربنا هناك ونرضى في الحكم بأول من يطلع علينا قال أفعل فأخرجنا طعامنا وشرابنا وجلسنا نشرب على الفرات فأقبل حبشي يحفر الأرض بالبال فقلت له أترضى بهذا قال نعم فدعوناه فأطعمناه وسقيناه وبدرني الزبير بالغناء فغنى الصوت فطرب الحبشي وحرك رأسه حتى طمع الزبير في ثم أخذت العود فغنيته فتأملني

الحبشي ساعة ثم صاح وأي شيطان هوه ومد بها صوته فما أذكر أني ضحكت مثل ضحكي يومئذ وانخذل الزبير

نسبه هذا الصوت
صوت
( أَشاقَك من أرض العراق طُلُولُ ... تَحمَّل منها جِيرَةٌ وحُمولُ )
( وكيف ألذُّ العيشَ بعد مَعاشرٍ ... بهم كنتُ عند النَّائِباتِ أَصولُ )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن أحمد بن المكي وفيه للحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى
وهذا البيتان من قصيدة مدح بها أبو العتاهية الفضل بن الربيع قال أنشدنيها عبد الله بن الربيع الربيعي قال أنشدنيها أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية لجده يمدح الفضل بن الربيع وإنما ذكرت ذلك ها هنا لأن من الناس من ينسبهما إلى غيره فذكرت الأبيات الأول وفيها يقول في مدح الفضل بن الربيع
( قبائِل من أَقْصَى وأَدْنَى تَجَمَّعَتْ ... فهُنَّ على آلِ الرَّبِيعِ كلولُ )
( تمرُّ رِكابُ السَّفْر تُثنِي عليهمُ ... عليها من الخَيْر الكَثِير حُمولُ )
( إليكَ أبا العَبَّاس حَنَّتْ بأَهلِها ... مغانٍ وحَنَّت ألسنٌ وعُقولُ )
( وأنت جَبِينُ المُلكِ بل أنتَ سَمعهُ ... وأنت لِسانُ المُلْك حين تَقولُ )
( وللمُلك مِيزانٌ يَداك تُقيمُه ... يزول مع الإحسان حيث يَزولُ )
حدثني الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا الزبير قال حدثني رجل من ثقيف قال
غضب الرشيد على أم جعفر ثم ترضاها فأبت أن ترضى عنه فأرق

ليله ثم قال افرشوا لي على دجلة ففعلوا فقعد ينظر إلى الماء وقد رأى زيادة عجيبة فسمع غناء في هذا الشعر
صوت
( جَرَى السيلُ فاستَبْكانِيَ السَّيْلُ إذ جَرَى ... وفاضَت له من مُقْلَتَيَّ غُرُوبُ )
( وما ذاكَ إلاّ حين خُيِّرتُ أنَّهُ ... يمُرُّ بوادٍ أنتِ منه قَرِيبُ )
( يكونُ أُجاجاً ماؤُه فإذا انْتَهَى ... إليكم تَلقَّى طِيبَكم فيَطِيبُ )
( فيا ساكِني شَرْقيّ دِجْلة كُلُّكم ... الى القَلْب من أجل الحَبِيبِ حَبيبُ )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للزبير بن دحمان خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي
فسأل عن الناحية التي فيها الغناء فقيل دار ابن المسيب فبعث إليه أن ابعث بالمغني فإذا هو الزبير بن دحمان فسأله عن الشعر فقال هو للعباس بن الأحنف فأحضر واستنشده فأنشده إياه وجعل الزبير يغنيه وعباس ينشده وهو يستعيدهما حتى أصبح وقام فدخل إلى أم جعفر فسألت عن سبب دخوله فعرفته فوجهت إلى العباس بألف دينار وإلى الزبير بألف دينار أخرى
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد عن جده حمدون قال
تشوق الرشيد بغداد وهو بالرقة فانحدر إليها وأقام بها مدة وخلف هناك بعض جواريه وكانت حظية له فيهن خلفها لمغاضبة كانت بينه

وبينها فتشوقها تشوقا شديدا وقال فيها

صوت
( سَلامٌ على النَّازح المُغْتَرِبْ ... تحيَّة صبٍّ به مُكْتَئِبْ )
( غَزالٌ مراتِعُه بالبَلِيخِ ... إلى دير زَكَّى فجِسْر الخَشَبْ )
( أيا مَنْ أعان على نَفْسِه ... بتخليفِه طائِعاً مَنْ أحَبُّ )
( سأسْتُر والسِّتر من شِيمَتي ... هَوَى من أُحِبّ لمن لا أُحِبُّ )
وجمع المغنين فحضر إبراهيم الموصلي وابن جامع وفليح وزبير بن دحمان والمعلى بن طريف وحسين بن محرز وسليم بن سلام ويحيى المكي وابنه وإسحاق وأبو زكار الأعمى وأعطاهم الشعر وقال ليعمل كل واحد منكم فيه لحنا قال فلقد عملوا فيه عشرين لحنا فما أعجب منها إلا بلحن الزبير وحده أعجب به إعجابا شديدا وأجازه خاصة دون الجماعة بجائزة سنية
غنى إبراهيم في هذه الأبيات ولحنه ماخوري بالوسطى ولفليح فيها ثاني ثقيل بالوسطى ولابن جامع رمل بالبنصر ولابن المكي ثقيل أول بالوسطى وللزبير بن دحمان خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر وللمعلى خفيف رمل بالوسطى ولإسحاق رمل بالوسطى وللحسين بن محرز هزج بالوسطى

صوت
( يا ناعِشَ الجَدّ إذا الجَدُّ عَثَرْ ... وجابِرَ العَظْم إذا العَظْمُ انْكَسَرْ )
( أنتَ ربيعِي والرَّبيعُ يُنْتَظَرْ ... وخَيرُ أنواءِ الرَّبيع ما بَكَرْ )
الشعر للعماني الراجز والغناء لشارية خفيف رمل من كتاب ابن المعتز وروايته

نسب العماني وخبره
اسمه محمد بن ذويب بن محجن بن قدامة بن بلهية الحنظلي ثم الدارمي صليبة وقيل العماني وهو بصري لأنه كان شديد صفرة اللون وليس هو ولا أبوه من أهل عمان وكان شاعرا راجزا متوسطا من شعراء الدولة العباسية ليس من نظراء الشعراء الذين شاهدهم في عصره مثل أشجع وسلم ومروان ولكنه كان لطيفا داهيا مقبولا فأفاد بشعره أموالا جليلة
العماني والرشيد
أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جبر بن رياط الأسدي
أن عبد الملك بن صالح أدخل العماني على الرشيد فأنشده
( يا ناعِشَ الجَدّ إذا الجَدّ عَثَرْ ... وجابر العَظْم إذا العَظْم انْكَسَرْ )
( أنت رَبيعِي والرَبيعُ يُنْتَظَرْ ... وخير أنواءِ الرَّبيع ما بَكَرْ )
فقال له الرشيد إذا يبكر عليك ربيعنا يا فضل أعطه خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبا
قال إسحاق قال جبر لما دخل الرشيد الرقة استقبله العماني فلما

بصر به ناداه
( هارونُ يا بنَ الأَكْرمِين مَنْصبا ... لما ترحَّلْتَ فصرت كَثَبا )
( من أرضِ بَغْداد تؤُمُّ المَغْرِبا ... طابت لنا رِيحُ الجَنُوبِ والصَّبا )
( ونَزَل الغيْثُ لنا حتى ربا ... ما كان من نَشزٍ وما تَصَوَّبا )
( فمَرْحباً ومَرحَباً ومَرحَبا ... )
فقال له الرشيد وبك مرحبا يا عماني وأهلا وأجزل صلته
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد المعروف بابن الصيدلاني قال حدثنا محمد بن موسى عن حماد قال قال العتبي
لما وجه الفضل بن يحيى الوفد من خراسان إلى الرشيد يحضونه على البيعة لابنه محمد قعد لهم الرشيد وتكلم القوم على مراتبهم وأظهروا السرور بما دعاهم إليه من البيعة لابنه وكان فيمن حضر محمد بن ذؤيب العماني فقام بين صفوف القواد ثم أنشأ يقول
( لما أتانا خَبرٌ مُشَهَّرُ ... أغرُّ لا يَخْفَى على مَنْ يُبصِرُ )
( جاء به الكُوفِيُّ والمُبَصِّرُ ... والراكِبُ المُنجِدُ والمُغَوِّرُ )

( يُخَبِّر النّاسَ وما يَسْتَخْبِرُ ... قلتُ لأصحابي ووَجْهِي مُسْفِرُ )
( وللذرجال حَسْبُكُم لا تُكْثِرُوا ... فاز بها محمد فأَقْصِرُوا )
( قد كان هذا قبل هذا يُذْكرُ ... في كُتُب العِلم التي تُسَطَّرُ )
( فقل لمن كان قَديماً يَتْجَرُ ... قد نُشِر العَدْل فبيعُوا واشْتَرُوا )
( وشرِّقُوا وغَرِّبوا وبَشِّروا ... فقد كَفَى الله الذي يُسْتَقْدَرُ )
( بمَنّه أفعال ما قد يُحْذَرُ ... والسيفُ عَنَّا مُغْمَدٌ ما يُشهَرُ )
( وقُلِّد الأمرَ الأَغرُّ الأزهَرُ ... نَوءُ السِّماكَيْن الذي يُسْتَمْطَر )
( بوَجْهِه إن كان عام أغْبَرُ ... سُرَّت به أسِرَّةٌ ومِنبرُ )
( وابتَهَج النّاسُ به واسْتَبْشَروا ... وهَلّلو لرَبِّهم وكَبَّرُوا )
( شُكراً ومن حقّهمُ أن يَشْكُروا ... إذ ثَبَتَتْ أوتادُ ملك يَعْمُرُ )
( من هاشمٍ في حَيْث طابَ العُنْصرُ ... وطاح مَنْ كان عليها يزفِرُ )
( إنّ بني العَبّاسِ لم يُقَصِّروا ... إذ نهضوا لملكهم فشَمَّرُوا )
( وعَقَدوا ونَزَعوا وأمَّرُوا ... ودَبَّروا فأحْكَمُوا ما دَبَّرُوا )
( وأوردُوا بالحَزْم ثم أصدَرُوا ... والحَزْم رأيٌ مثلُه لا يُنْكَرُ )
( إذا الرِّجالُ في الرِّجالِ خُيِّروا ... يا أيها الخليفة المُطَهَّر )
( والمؤمِنُ المُباركُ المُوقَّرُ ... والطَّيِّبُ الأَغْصانِ والمُظَفَّرُ )
( ما النَّاس إلا غَنَم تَنَشَّرُ ... إن لم تَداركْهُم براعٍ يَخْطِرُ )
( على قَوَاصِي طُرْقِها ويستُرُ ... ويمنَع الذِّئبَ فلا يُنفِّرُ )
( فامُنْن علينا بيَدٍ لا تُكفَر ... مَشْهورةٍ ما دام زَيْتٌ يُعْصَرُ )
( وانظر لنا وخلِّ مَنْ لا ينظُر ... واجْسِرْ كما كان أبوك يَجْسِرُ )
( لا خير في مُجَمْجَمٍ لا يَظْهَرُ ... ولا كتابِ بَيْعةٍ لا يُنْشَرُ )

( وقد تربصت فليس تُعْذَر ... فليت شِعْري ما الذي تَنْتَظِرُ )
( أأنت قائِمٌ به أم تَسْخَرُ ... ما لك في محمدٍ لا تَعْذِرُ )
( وليتَ شِعْرِي والحديثُ يُؤْثَرُ ... أترقُدُ الليلَ ونحن نَسهرُ )
( خوفاً على أمورنا ونَضْجَرُ ... واللهِ واللهِ الذي يُسْتَغْفَرُ )
( لأنْ يموتَ مَعْشَرٌ ومَعْشَرُ ... خَيرٌ لنا من فِتْنَةٍ تَسعَّرُ )
( يَهلِك فيها دينُهم ويُوزَروا ... وقد وَفَى القومُ الذين انْتَصَروا )
( لصاحب الرُّوم وذاك أصغرُ ... منه وهذا البَحْرُ لا يُكَدَّرُ )
( وذاكم العِلْجُ وهذا الجَوْهَرُ ... يَنْمِي به محمدٌ وجَعْفَرُ )
( والخُلفَاءُ والنَّبِيُّ الأكبَرُ ... ونبعةٌ من هاشِمٍ وعُنْصُرُ )
( واعلمْ وأنتَ المرءُ لا يُبَصَّرُ ... والله يبقيك لنا وتجبر )
( منّا ذوِي العُسْرة حتى يُوسِرُوا ... أنَّ الرِّجالَ إن وَلُوها آثَرُوا )
( ذَوِي القَراباتِ بها واستَأْثَرُوا ... بها وضَلَّ أمرهُم واستَكْبَرُوا )
( والمُلك لا رِحْم له فيأصِرُ ... ذا رَحِمٍ والناسُ قد تَغَيَّرُوا )
( فأَحكمِ الأمرَ وأنتَ تَقْدِرُ ... فمِثْلُ هذا الأمْرِ لا يُؤَخَّرُ )
فلما فرغ من أرجوزته قال له الرشيد أبشر يا عماني بولاية محمد العهد فقال إي والله يا أمير المؤمنين بشرى الأرض المجدبة بالغيث والمرأة النزور بالولد والمريض المدنف بالبرء قال ولم ذاك قال لأنه نسيج وحده وحامي مجده وموري زنده قال فما لك في عبد الله قال مرعى ولا كالسعدان فتبسم الرشيد وقال قاتله الله من أعرابي ما أعرفه

بمواضع الرغبة وأسرعه إلى أهل البذل والعائدة وأبعده من أهل الحزم والعزم والذين لا يستمنح ما لديهم بالثناء أما والله إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور ونسك المهدي وعز نفس الهادي ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابعة لنسبته إليها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا علي بن الحسن الشيباني وأخبرني به محمد بن جعفر عن محمد بن موسى عن حماد عن أبي محمد المطبخي عن علي بن الحسن الشيباني قال أخبرني أبو خالد الطائي عن جبير بن ضبينة الطائي قال أخبرني الفضل قال
حضرت الرشيد يوما وجلس للشعراء فدخل عليه الفضل بن الربيع وخلفه العماني فأدناه الرشيد واستنشده فأنشده أرجوزة له فيه حتى انتهى إلى هذا الموضع
( قُلْ للإِمام المقْتَدَى بأَمِّهِ ... ما قاسمٌ دُونَ مَدى ابنِ أُمِّهِ )
( وقد رَضِيناه فقُمْ فسمِّهِ ... )
قال فتبسم الرشيد ثم قال ويحك أما رضيت أن أوليه العهد وأنا جالس حتى أقوم على رجلي فقال له العماني ما أردت يا أمير المؤمنين قيامك على رجليك إنما أردت قيام العزم قال فإنا قد وليناه العهد وأمر بالقاسم أن يحضر ومر العماني في أرجوزته يهدر حتى أتى على آخرها

وأقبل القاسم فأومأ إليه الرشيد فجلس مع أخويه فقال له يا قاسم عليك جائزة هذا الشيخ فقد سألنا أن نوليك العهد وقد فعلنا فقال حكمك يا أمير المؤمنين فقال وما أنا وهذا بل حكمك وأمر له الرشيد بجائزة وأمر له القاسم بجائزة أخرى مفردة
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخل محمد بن ذؤيب العماني على أبي الحر التميمي بالبصرة فأطعمه وسقاه وجلله بكساء فقال له
( إن أبا الحُرِّ لَعَينُ الحُرِّ ... يدفع عنَّا سَبراتِ القُرِّ )
( باللحم والشَّحم وخُبز البُرّ ... ونُطْفة مكنُونة في الجَرِّ )
( يَشْربُها أشياخُنا في السِّرِّ ... حتى نرى حديثَنا كالدُّرِّ )

العماني يمدح عبد الملك بن صالح
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
قصد العماني عبد الملك بن صالح الهاشمي متوسلا به إلى الرشيد في الوصول إليه مع الشعراء ومدح عبد الملك بقصيدته التي يقول فيها
( نمَتْه العَرانينُ من هاشمٍ ... الى النَّسَب الأَوضح الأصْرحِ )
( إلى نبْعةٍ فرعُها في السماء ... ومغرسُها سُرَّةُ الأَبطَحِ )
فأدخله عبد الملك إلى الرشيد بالرقة فأنشده

( هارونُ يابنَ الأكرمين حَسَبا ... لما ترحَّلْتَ فكنت كَثَبا )
( من أرض بغدادَ تؤمُّ المغربا ... طابَتْ لنا ريحُ الجنوِب والصَبا )
( وَنَزلَ الغيثُ لنا حتى رَبا ... ما كان من نَشْزٍ وما تصوّبا )
( فمرْحباً ومَرْحباً ومَرْحبا ... )
فأعطاه خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبا
أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا إسحاق بن عبد الله الأزدي عن محمد بن عبد الله العامري القرشي عن العماني الشاعر
أنه تغدى مع محمد بن سليمان بن علي فكان أول ما قدم إليهم فرنية في لبن عليها سكر ثم تتابع الطعام فقال له قل فيما أكلت شعرا تصفه فقال
( جاؤوا بفُرْنَي لهم مَلبونِ ... بات يُسَقَّى خالص السُّمُونِ )
( مُصَوْمَعٍ أكومَ ذي غُصونِ ... قد حُشِيَتْ بالسُّكَّرِ المَطحُونِ )
( ولَوّنوا ما شِئْت من تلوين ... من باردِ الطَّعامِ والسّخينِ )
( ومن شراسِيف ومن طُرْدين ... ومن هُلامٍ ومَصُوصٍ جُونِ )
( ومن إِوَزٍّ فائقٍ سَمِينِ ... ومن دَجاجٍ قِيتَ بالعجِينِ )
( فالشَّحْمُ في الظُّهورِ والبُطونُ ... وأَتْبعُوا ذلك بالجَوْزَينِ )
( وبالخَبِيصِ الرَّطْب واللَّوْزين ... وَفّكَّهُوا بعِنبٍ وتِينِ )

( والرُّطْب الأزاذِ والهَيْرون ... محمد يا سيّد البَنِينِ )
( وبِكْر بِنْت المُصطفى الأمينِ ... الصادقِ المُباركِ المَيْمُونِ )
( وابنِ وُلاةِ البَيْتِ والحَجُونِ ... اسمعْ لنعتٍ غيرِ ذي تَفنينِ )
( يخْرُجُ من فنٍّ إلى فُنونِ ... إن الحديثَ فيكَ ذو شُجونِ )
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال حدثني أبو هاشم القيني قال
كان محمد بن ذؤيب العماني الراجز من أهل البصرة ويكنى أبا عبد الله وإنما قيل له العماني لأنه أقبل يوما وقد خرج من علة ووجهه أصفر فقال له بعض أصحابنا يا أبا عبد الله قد خرجت من هذه العلة كأنك جمل عماني قال وكانت جمال عمان تحمل الورس من اليمن إلى عمان فتصفر قال وهو من بني تميم ثم من بني فقيم
قال فقدم على عيسى بن موسى فلما وصل إليه أنشده مديحا له وفد إليه به فاستحسنه ووصله واقتطعه إليه وخصه وجعله في جلسائه فقال العماني فيه
( ما كنتُ أدري ما رَخاءُ العَيْشِ ... ولا لبِستُ الوَشْي بعد الخَيْشِ )
( حتى تمدَّحْتُ فتى قُرَيشِ ... عِيسى وعيسى عند وقْت الهَيْشِ )
( حين يخفّ غَيرُه للطَّيش ... زَيْن المقيمين وعِزّ الجَيشِ )
( راش جَناحيَّ وفوق الرِّيشِ ... )

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن علي بن أبي نعيم قال حدثنا موسى بن صبيح المروزي قال
خرج الرشيد غازيا بلاد الروم فنزل بهرقلة ونصب الحرب عليها فدخل عليه العماني وهو يذكر بغداد وطيبها وما فيه أهلها من النعمة فأنشده العماني قصيدة له في هذا المعنى يذكر فيها طيب العيش ببغداد وسعة النعم وكثرة اللذات يقول فيها
( ثم أتَوْهم بالدَّجاج الدُّجَّجِ ... بين قَدِيدٍ وشِواءٍ مُنضَجِ )
( وبِعَبيطٍ ليس بالمُلَهْوَجِ ... فدُقَّ دَقَّ الكودَنيّ الدَّيْرَجِ )
( حتى مَلاَ أعفاج بطنٍ نُفَّجِ ... وقال للقَيْنَة صُبِّي وامزُجِي )
قال فوهب له على القصيدة ثلاثين ألف درهم
ثم دخل إليه ابن جامع وقد أمر الرشيد أن يوضع الكبريت والنفط الأبيض على الحجارة وتلف بالمشاقة وتوقد فيها النار ثم توضع في كفة المنجنيق ويرمى بها السور ففعلوا ذلك وكانت النار تثبت في السور وتصدعه حتى طلبوا الأمان حينئذ فغناه ابن جامع وقال

( هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أن رأتْ عَجَباً ... حوائماً تَرْتَمِي بالنِّفط والنَّارِ )
( كأنَّ نِيرَانَنا في جَنْب قَلْعتِهِم ... مُصَبَّغاتٌ على أَرسان قَصَّارِ )
فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو هفان قال حدثني أحمد بن سليمان قال قال يزيد بن عقال
كنا وقوفا والمهدي قد أجرى الخيل فسبقها فرس له يقال له الغضبان فطلب الشعراء فلم يحضر أحد منهم إلا أبو دلامة فقال له قلده يا زند فلم يفهم ما أراد فقلده عمامته فقال له المهدي يابن اللخناء أنا أكثر عمائم منك إنما أردت أن تقلده شعرا ثم قال يا لهفي على العماني فلم يتكلم بها حتى أقبل العماني فقيل له ها هوذا قد أقبل الساعة يا أمير المؤمنين فقال قدموه فقدموه فقال قلد فرسي هذا فقال غير متوقف
( قد غَضِبَ الغَضْبانُ إذ جدَّ الغَضَبْ ... وجاء يحمي حَسَباً فَوقِّ الحَسَبْ )
( من إرْثِ عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبْ ... وجاءت الخَيْلُ به تَشْكو التَّعَبْ )
( له عليها ما لَكُم على العَرَبْ ... )
فقال له المهدي أحسنت والله وأمر له بعشر آلاف درهم

صوت
( لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ من خُلُقي ... أن الذي هو رِزْقِي سوفَ يأْتِيني )
( أسعَى له فيُعَنّيني تَطلُّبُه ... ولو قعدتُ أتاني لا يُعَنِّينِي )
الشعر لعروة بن أذينة والغناء لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو

أخبار عروة بن أذينة ونسبه
هو عروة بن أذينة وأذينة لقبه واسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو بن عبد الله بن زحل بن يعمر وهو الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وسمي يعمر بالشداخ لأنه تحمل ديات قتلى كانت بين قريش وخزاعة وقال قد شدخت هذه الدماء تحت قدمي فسمي الشداخ
قال ابن الكلبي الشداخ بضم الشين
ويكنى عروة بن أذينة أبا عامر وهو شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة وهو معدود في الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس وعبيد الله بن عمر العدوي أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة وروى جده مالك بن الحارث عن علي بن أبي طالب عليه السلام

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأب عن عروة بن أذينة عن أبيه قال حدثني أبي مالك بن الحارث قال
خرج مع علي بن أبي طالب عليه السلام رجل من قومي كان مصطلما فخرجت في أثره وخشيت انقراض أهل بيته فأردت أن استأذن له من علي فأدركت عليا عليه السلام بالبصرة وقد هزم الناس ودخل البصرة فجئته فقال
مرحبا بك يابن الفقيمة أبدا لك فينا بداء قلت والله إن نصرتك لحق وإني لعلى ما عهدت أحب العزلة ثم ذاكرته أمر ابن عمي ذلك فلم يبعد عنه فكنت آتية أتحدث إليه فركب يوما يطوف وركبت معه فإني لأسير إلى جانيه إذ مررنا بقبر طلحة فنظر إليه نظرا شديدا ثم أقبل علي فقال أمسى والله أبو محمد بهذا المكان غريبا ثم تمثل
( وما تَدْرِي وإن أزمعْتَ أمْراً ... بأيّ الأَرْض يُدْرِكُك المَقِيلُ )
والله إني لأكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب قال فوقع العراقيون يشتمون طلحة وسكت علي وسكت حتى إذا فرغوا أقبل علي عليه السلام علي فقال إيه يا بن الفقيمة والله إنه وإن قالوا ما سمعت لكما قال أخو جعفي
( فَتىً كان يُدْنيه الغِنى من صَدِيقه ... إذا ما هو اسْتَغْنَى ويُبْعِدُه الفَقْرُ )
ثم أردت أن أكلمه بشيء فقلت يا أمير المؤمنين فقال وما منعك أن

تقول يا أبا الحسن فقلت آبيت فقال والله إنها لأحبهما إلي لولا الحمقى ولوددت أني خنقت بحبل حتى أموت قبل أن يفعل عثمان ما فعل وما أعتذر من قيام بحق ولكن العافية مما ترى كانت خيرا

عروة بن أذينة يرى حريق الكعبة
حدثنا محمد بن خلف وكيع والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا محمد بن سعد عن الواقدي عن عبيد الله بن يزيد عن عروة بن أذينة قال
قدمت مع أبي مكة يوم احترقت الكعبة فرأيت الخشب وقد خلصت إليه النار ورأيت الكعبة متجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسود وتصدع من ثلاثة أمكنة فقلت ما أصاب الكعبة فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير فقالوا هذا احترقت بسببه أخذ قبسا في رأس رمح فطيرت الريح منه شيئا فضربت أستار الكعبة فيما بين اليماني إلى الأسود
وفود على هشام بن عبد الملك
حدثني محمد بن جرير الطبري وحفظته وأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عمر بن مخروس الوراق بن أقيصر السلمي قال حدثنا يحيى بن عروة بن أذينة قال
أتى أبي وجماعة من الشعراء هشام بن عبد الملك فنسبهم فلما عرف أبي قال له أنت القائل
( لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ من خُلُقي ... أنَّ الذي هو رِزْقِي سوفَ يأْتِيني )
( أسعَى له فيُعَنّيني تَطلُّبُه ... ولو جلستُ أتِاني لا يُعَنِّينِي )

هذان البيتان فقط ذركهما المهلبي والجوهري وذكر محمد بن جرر في خبره الأبيات كلها
( وأنَّ حظَّ امرىءٍ غيرِي سَيَبْلُغُه ... لا بُدَّ لا بُدَّ أن يحتازَه دُوني )
( لا خَيرَ في طَمعٍ يُدنِي لِمنْقَصةٍ ... وغُفَّة من قَوام العيش تَكْفِيني )
( لا أركبُ الأمرَ تُزْرِي بي عَوَاقِبُه ... ولا يُعابُ به عِرْضِي ولا دِيني )
( كم مِنْ فَقِيرٍ غَنِيِّ النَّفْسِ تَعرِفُه ... ومن غَنِيٍّ فَقِيرِ النَّفس مِسْكِينِ )
( ومن عَدُوٍّ رَمانِي لو قَصدتُ له ... لم يَأْخُذِ النِّصْفَ مني حين يرمِينِي )
( ومن أخٍ لي طوى كَشْحاً فقلتُ له ... إنَّ انْطِوَاءَك عني سوف يَطْوِيني )
( إني لأنْطِق فيما كان من أَرَبِي ... وأُكْثِرُ الصَّمْتَ فيما ليس يَعْنِيني )
( لا أَبْتَغِي وَصْلَ من يَبْغِي مفارقتي ... ولا أَلِينُ لمَنْ لا يَشْتَهِي لِيني )
فقال له ابن أذينة نعم أنا قائلها قال أفلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك
وغفل عنه هشام فخرج من وقته وركب راحلته ومضى منصرفا ثم افتقده هشام فعرف خبره فأتبعه بجائزة وقال للرسول قل له أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك فمضى الرسول فلحقه وقد نزل على ماء يتغذى عليه فأبلغه رسالته ودفع الجائزة فقال قل له صدقني ربي وكذبك
قال يحيى بن عروة وفرض له فريضتين فكنت أنا في إحداهما
أخبرنا وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني أبو غزية قال حدثني أنس بن حبيب قال

خرج ابن أذينة إلى هشام بن عبد الملك في قوم من أهل المدينة وفدوا عليه وكان ابنه مسلمة بن هشام سنة حج أذن لهم في الوفود عليه فلما دخلوا على هشام انتسبوا له وسلموا عليه فقال ما جاء بك يا ابن أذينة فقال
( أَتينا نمُتُّ بأرحامِنا ... وجِئْنا بإذْن أبي شَاكِر )
( فإنَّ الذي سارَ مَعروفُه ... بنجْدٍ وَغار مع الغَائِرِ )
( إلى خَيْر خِنْدِفَ في ملكها ... لِبادٍ من النَّاس أو حَاضِر )
فقال له هشام ما اراك إلا قد أكذبت نفسك حيث تقول
( لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ من خُلُقِي ... أن الذي هو رِزْقِي سوفَ يأْتِيني )
( أسعَى له فيُعَنّيني تَطلُّبُه ... ولو جلست أتاني لا يُعَنِّينِي )
فقال له ابن أذينة ما أكذبت نفسي يا أمير المؤمنين ولكني صدقتها وهذا من ذاك ثم خرج من عنده فركب راحلته إلى المدينة فلما أمر لهم هشام بجوائزهم فقده فقال أين ابن أذينة فقالوا غضب من تقريعك له يا أمير المؤمنين فانصرف راجعا إلى المدينة فبعث إليه هشام بجائزته
أخبرنا وكيع قال حدثنا هارون بن محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن عروة بن عبيد الله قال
كان عروة بن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق وخرج أبي يوما يمشي وأنا معه وابن أذينة ونظر إلى غنم كانت له في يدي راع يقال له

كعب وهي مهملة وكعب نائم حجرة فجعل ابن أذينة ينزو حوله وهو يضربه ويقول
( لو يَعْلَم الذِّئبُ بنَوْم كَعْبِ ... إذاً لأَمْسَى عندنا ذا ذَنْبِ )
( أضرِبُه ولا يَقُول حَسْبِي ... لا بدَّ عند ضَيْعَةٍ من ضَرْبِ )

ابن عائشة يغني بشعره
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي وإسماعيل بن يونس الشيعي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى عن بعض أصحابه قال
مر ابن عائشة المغني بعروة بن أذينة فقال له قل لي أبياتا هزجا أغني فيها فقال له اجلس فجلس فقال
صوت
( سُلَيْمَى أجمَعَتْ بَيْننا ... فأينَ تقولُها أينا )
( وقد قالت لأترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقَينا )
( تعالَيْنَ فقد طابَ ... لنا العَيْشُ تَعالَيْنا )
( وغاب البَرِمُ الليْلة ... والعَيْنُ فلا عَيْنا )
( فأقبلنَ إليها مُسر ... عاتٍ يَتَهادَيْنا )

( إلى مثل مَهاة الرّم ... تكسو المَجلسَ الزَّينا )
( تمنَّين مُناهُنّ ... فكُنَّا ما تمنّينا )
قال أبو غسان فحدثت أن ابن عائشة رواها ثم ضحك لما سمع قوله
( تمنَّين مُناهُنّ ... فكُنَّا ما تمنّينا )
ثم قال يا ابا عامر تمنيتك لم اأقبل بخرك وأدبر ذكرك
قال عمر بن شبة قال قال أبو غسان فحدثني حماد الحسيني قال
ذكر ابن أذينة عند عمر بن عبد العزيز فقال نعم الرجل أبو عامر على أنه الذي يقول
( وقد قالت لأترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقَينا )
وأخبرني بهذا الخبر وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن الزبير عن محمد بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن قسطاس قال
مر ابن عائشة بابن أذينة ثم ذكر الخبر مثل الذي قبله
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو معاوية عبد الجبار بن سعيد المساحقي وأخبرنا به وكيع قال حدثنا أبو أيوب المدائني عن الحارث بن محمد العوفي قال
وقفت سكينة بنت الحسين بن علي عليهما السلام على عروة بن

أذينة في موكبها ومعها جواريها فقالت يا أبا عامر أنت الذي تزعم أن لك مروءة وأن غزلك من وراء عفة وأنك تقي قال نعم قالت أفأنت الذي تقول
صوت
( قالت وأَبْثْثتُها وَجْدِي فبُحتُ به ... قد كنتَ عندي تحبُّ السَّتر فاسَتترِ )
( ألستَ تُبصِر مَنْ حَوْلي فقلت لها ... غَطَّى هواكِ وما ألقَى على بَصرِي )
قال لها بلى قالت هن حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم أو قالت من قلب صحيح
في هذين البيتين لعلويه رمل بالبنصر وفيهما لأسحاق هزج بالوسطى وفيهما لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وعمر بن بانة وذكر حبش أن الثقيل الأول لمعبد اليقطيني
وذكر علي بن محمد بن نصر البسامي أن خاله أبا عبد الله بن حمدون بن إسماعيل قال
كنت جالسا بين يدي المتوكل وبين يديه المنتصر فأحضر

المعتز وهو صبي صغير فلعب فأفرط في اللعب والمنتصر يرمقه كالمنكر لفعله فنظر إليه المتوكل عدة دفعات ثم التفت إلى المنتصر فقال يا محمد
( قالتْ وأَبْثثْتُها وَجْدِي فبُحتُ به ... قد كنُتَ عندي تحُبُّ السّتر فاسْتترِ )
قال فاعتذر إليه المنتصر عذرا قبله وهو مقطب معرض قال وكان المنتصر أشد خلق الله بغضا للمعتز وطعنا عليه ولقد دخلت إليه يوما ودخل إليه أبو خالد المهلبي بعد قتل المتوكل وإفضاء الخلافة إليه ومع المهلبي درع كأنها فضة فقال يا أمير المؤمنين هذه درع المهلب فأخذها وقام فلبسها ورأى المعتز وعليه وشي مثقل وما أشبه ذلك فتمثل ببيت جرير
( لَبِسْتُ سِلاحِي والفرزدقُ لُعبةٌ ... عليه وشاحاً كُرَّجٍ وجلاجِلُهْ )
أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد قال حدثني عبد الله بن شعيب الزبيري قال حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة قال
مرت امرأة بابن أذينة وهو بفناء داره فقالت له أأنت ابن أذينة قال نعم قالت أأنت الذي يقول الناس إنك امرؤ صالح وأنت الذي تقول

( إذا وَجدتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبِدِي ... عَمَدتُ نحوَ سِقاء القَوْمِ أَبْتَرِدُ )
( هَبْنِي بَرَدْتُ ببَرْدِ الماءِ ظاهره ... فمَنْ لِحَرٍّ على الأَحشاء يَتَّقِدُ )

أبو السائب المخزومي يطلب سماع شعر عروة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن عروة بن عبد الله وأخبرنا به وكيع عن هارون بن الزيات عن الزبيري عن عمه عن عروة بن عبد الله وذكره حماد عن أبيه عن الزبيري عن عروة هذا قال
كان عروة في أذينة نازلا في دار أبي بالعقيق فسمعه ينشد
صوت
( إنَّ التي زعمَتْ فُؤادَك ملَّها ... جُعِلَتْ هَواكَ كما جُعِلْتَ هوًى لها )
( فَبكَ الَّذِي زَعَمَتْ بها وكلاكُما ... يُبدِي لِصاحِبه الصَّبابةَ كُلَّها )
( ويَبِيتُ بين جَوانِحي حُبٌّ لها ... لو كان تحت فِراشِها لأَقَلَّها )
( ولعمرُها لو كان حبُّك فوقها ... يوماً وقد ضَحِيَتْ إذاً لأظلَّها )
( وإذا وجدتُ لها وَساوسَ سَلْوَةٍ ... شَفَع الفُؤادُ إلى الضَّمير فسلَّهَا )
( بيضاءُ باكَرَها النَّعِيمُ فَصاغَها ... بِلَباقَةٍ فأدَقَّها وأَجَلَّها )
( لما عَرضْتُ مُسَلِّماً لي حاجَةٌ ... أرجُو مَعونَتَها وأخْشَى دَلَّها )
( مَنَعَتْ تَحِيَّتَها فقلتُ لصاحِبِي ... ما كان أكْثَرها لنا وأَقَلَّها )
( فدنا فقال لَعَلَّها مَعْذُورةٌ ... من أجل رِقْبَتِها فقلتُ لَعَلَّها )
قال فأتاني أبو السائب المخزومي وأنا في دار بالعقيق فقلت له بعد الترحيب هل بدت لك حاجة فقال نعم أبيات لعروة بن أذينة بلغني

أنك سمعتها منه فقلت له وأية أبيات فقال وهل يخفى القمر قوله
( إنّ الَّتِي زَعَمَتْ فؤادك مَلَّها ... )
فأنشدته إياها فلما بلغت إلى قوله فقلت لعلها قال أحسن والله هذا والله الدائم العهد الصادق الصبابة لا الذي يقول
( إن كان أهلُكِ يَمْنَعونكِ رَغْبَةً ... عَنّي فأَهْلِي بي أضَنُّ وأرغَبُ )
اذهب لاصحبك والله ولا وسع عليك يعني قائل هذا البيت لقد عدا الأعرابي طوره وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك يعني عروة لحسن ظنه بها وطلبه العذر لها قال فعرضت عليه الطعام فقال لا والله ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاما إلى الليل وانصرف

ذكر ما في هذا الخبر من الغناء
في الشعر المذكور فيه لعروة في البيت الأول والرابع من الأبيات خفيف رمل بالوسطى نسبه ابن المكي إلى ابن مسجح وقيل إنه من منحوله إليه وفيهما وفي البيت الثالث من شعر ابن أذينة خفيف ثقيل لابن الهربذ والبيت
( ويبيتُ بين جَوانِحي حُبٌّ لها ... لو كان تحت فِرَاشِها لأَقَلَّها )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي قال أخبرنا عبد الله بن أبي عبيدة قال قلت لأبي السائب المخزومي ما أحسن عروة بن أذينة حيث يقول
صوت
( لَبِثُوا ثَلاثَ مِنىً بِمَنْزِلِ غِبْطَةٍ ... وهُم على غَرَضٍ لَعَمْرُك ما هُمُ )
( مُتجاوِرِين بغَيْر دارِ إقامةٍ ... لو قد أجدَّ رَحِيلُهم لم يَنْدَمُوا )

( ولَهُنَّ بالبَيْت العَتِيق لُبانةٌ ... والبَيْتُ يعرفهنَّ لَوْ يَتَكَلَّم )
( لو كان حيّاً قَبْلَهنَّ ظعائِناً ... حَيّا الحَطِيمُ وُجُوهَهنَّ وزَمْزَمُ )
( وكأَنَّهُنّ وقد حَسَرْنَ لواغِباً ... بَيْضٌ بأَكْناف الحطِيمِ مُركَّمُ )
في هذه الأبيات الثلاثة لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو
قال فقال لا والله ما أحسن ولا أجمل ولكنه أهجر وأخطل في صفتهن بهذه الصفة ثم لا يندم على رحيلهن أهكذا قال كثير حيث يقول
صوت
( تَفرّق أهواءُ الحجِيج على مِنىً ... وَصدَّعَهم شَعْب النَّوَى صُبْحَ أرْبَع )
( فَرِيقان مِنْهُم سَالِكٌ بَطْنَ نَخْلة ... وآخرُ منهم سَالِك بطنَ تَضْرُعِ )
في هذين البيتين للدلال ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش
( فلم أَرَ داراً مِثْلَها دارَ غِبْطَةٍ ... وملقًى إذا التَفَّ الحَجيِجُ بمَجْمَعِ )
( أقلَّ مُقِيماً راضِياً بمَكانِه ... وأكثرَ جاراً ظاعناً لم يُوَدَّعِ )
انظر إليه كيف تقدمت شهادته علمه وكبا لسانه ببيانه هل يغتبط عاقل بمقام لا يرضى به ولكن مكره أخوك لا بطل والعرجي كان أوفى بالعهد

منهما وأولى بالصواب حين تعرض لها نافرة من منى فقال لها عاتبا مستكينا
( عُوِجِي عليَّ فَسَلِّمي جَبْرُ ... فِيمَ الصُّدودُ وأنتمُ سَفْرُ )
( ما نَلْتَقِي إلاّ ثلاثَ مِنىً ... حتى يُفرِّقَ بَيْنَنَا النَّفَرُ )
في هذين البيتين غناء قد تقدمت نسبته في أخبار ابن جامع في أول الكتاب
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن موسى اللهبي قال
كان عبد الملك بن مروان إذا قدم مكة أذن للقرشيين في السلام عليه فإذا أراد الخروج لم يأذن لأحد منهم وقال أكذبنا إذا قول الملحي يعني كثيرا حيث يقول
( تَفرّق أهواء الحجِيج على مِنىً ... وَصدَّعهم شعْب النَوى صُبحَ أرْبَع )
وذكر الأبيات الأربعة
أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدث الزبيري عن خالد صامة وكان أحد المغنين قال

قدمت على الوليد بن يزيد فدخلت إليه وهو في مجلس ناهيك به وهو على سرير وبين يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيته

صوت
( سَرَى هَمِّي وهَمُّ المرءِ يَسْرِي ... وغارَ النَّجْم إلا قِيسَ فِتْرِ )
( أُراقِبُ في المَجَرَّة كُلَّ نَجْمٍ ... تعرَّضَ للمَجَرَّةٍ كيف يَجْري )

( لهمٍّ ما أزال له مديماً ... كأن القلب أُضْرِمَ حرَّ جمر )
( على بَكْرٍ أخِي وَلَّى حَمِيداً ... وأيُّ العَيْش يصفُو بعد بَكْر )
فقال لي الوليد أعد يا صام ففعلت فقال لي من يقول هذا الشعر قلت عروة بن أذينة يرثي أخاه بكرا فقال لي وأي العيش لا يصفو بعده هذا العيش والله الذي نحن فيه على رغم أنفه والله لقد تحجر واسعا
لابن سريج في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وابن المكي وغيرهما وفيها رمل ينسب إلى ابن عباد الكاتب وإلى حاجب الحزور وإلى مسكين بن صدقة
حدثنا الأخفش عن محمد بن يزيد قال قال الزبيري
حدثت أن سكينة بنت الحسين عليه السلام أنشدت هذا الشعر فقالت من بكر هذا أليس هو الأسود الدحداح الذي كان يمر بنا قالوا نعم فقالت لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت
وأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال
لقي ابن أبي عتيق عروة بن أذينة فأنشده قوله
( لا بَكْرَ لي إذ دَعَوتُ بَكْراً ... ودُونَ بَكْرٍ ثَرىً وطِينُ )
حتى فرغ منها ثم أنشده
( سَرَى هَمِّي وَهَمُّ المرءِ يَسرِي ... )

حتى بلغ إلى قوله
( وأيُّ العَيْش يصفُو بعد بَكْرِ ... )
فقال له ابن أبي عتيق كل العيش والله يصلح بعده حتى الخبز والزيت فغضب عروة من قوله وقام عن مجلسه وحلف ألا يكلمه أبدا فماتا متهاجرين

ذكر مخارق وأخباره
هو مخارق بن يحيى بن ناووس الجزار مولى الرشيد وقيل بل ناووس لقب أبيه يحيى ويكنى أبا المهنأ كناه الرشيد بذلك
وكان قبله لعاتكة بنت شهدة وهي من المغنيات المحسنات المتقدمات في الضرب ذكر ذلك مخارق واعترف به ونشأ بالمدينة وقيل بل كان منشؤه بالكوفة
وكان أبوه جزارا مملوكا وكان مخارق وهو صبي ينادي على ما يبيعه أبوه من اللحم فلما بان طيب صوته علمته مولاته طرفا من الغناء ثم أرادت بيعه فاشتراه إبراهيم الموصلي منها وأهداه للفضل بن يحيى فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد حدثني زكريا مولاهم وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك قال حدثنا حماد بن إسحاق عن زكريا مولاهم قال
مخارق يصير إلى الرشيد
قدمت مولاة مخارق به من الكوفة فنزلت المخرم وصار إبراهيم

إلى جدي الأصبع بن سنان المقين وسيرين بن طرخان النخاس فقالا له إن ها هنا امرأة من اهل الكوفة قد قدمت ومعها غلام يتغنى فأحب أن تنفعها فيه قال فوجهني مع مولاته لأحمله فوجدته متمرغا في رمل الجزيرة التي بإزاء المخرم وهو يلعب فحملته خلفي وأتيت به إبراهيم فتغنى بين يديه فقال لها من أملك فيه قالت عشرة آلاف درهم قال قد أخذته بها وهو خير منها فقالت أقلني قال قد فعلت فكم أملك فيه قالت عشرون ألفا قال قد أخذته بها وهو خير منها فقالت والله ما تطيب نفسي أن أمتنع من عشرين ألف درهم بكبد رطبة فهل لك في خصلة تعطيني به ثلاثين ألف درهم ولا أستقيلك بعدها فقال قد فعلت وهو خير منها فصفقت على يده وبايعته وأمر بالمال فأحضر وأمر بثلاثة آلاف درهم فزيدت عليه وقال تكون هذه لهدية تهدينها أو كسوة تكتسينها ولا تثلمين المال
وراح إلى الفضل بن يحيى فقال له ما خبر غلام بلغني أنك اشتريته قال هو ما بلغك قال فأرنيه فأحضره فلما تغنى بين يدي الفضل قال له ما أرى فيه الذي رأيت قال أنت تريد أن يكون في الغناء مثلي في ساعة واحدة ولم يكن مثله في الدنيا ولا يكون أبدا فقال بكم تبيعه فقال اشتريته بثلاثة وثلاثين ألف درهم وهو حر لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار فغضب الفضل وقال إنما أردت أن تمنعنيه أو تجعله سببا لأن تأخذ مني ثلاثة وثلاثين ألف دينار فقال له أصنع بك خصلة أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه وأعلمه

فإن أعجبك إذا علمته أتممت لي باقي المال وإلا بعته بعد ذلك وكان الربح بيني وبينك فقال له الفضل إنما أردت أن تأخذ مني المال الذي قدمت ذكره فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه
وغضب فقال له إبراهيم فأنا أهبه لك على أنه يساوي ثلاثة وثلاثين ألف دينار قال قد قبلته قال قد وهبته لك وغدا إبراهيم على الرشيد فقال له يا إبراهيم ما غلام بلغني أنك وهبته للفضل قال فقلت غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله ولا يكون مثله أبدا قال فوجه إلى الفضل فأمره بإحضاره فوجه به إليه فتغنى بين يديه فقال لي كم يساوي قال قلت يساوي خراج مصر وضياعها
فقال لي ويلك أتدري ما تقول مبلغ هذا المال كذا وكذا فقلت وما مقدار هذا المال في شيء لم يملك أحد مثله قط قال فالتفت إلى مسرور الكبير وقال
قد عرفت يميني ألا أسأل أحدا من البرامكة شيئا بعد فنفنة فقال مسرور فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه فإذا وهبه لي وكان عبدي فهو عبدك فقال له شأنك فمضى مسرور إلى الفضل فقال له قد عرفتم ما وقعتم فيه من أمر فنفنة وإن منعتموه هذا الغلام قامت القيامة واستوهبه منه فوهبه له فبلغ ما رأيت فكان علويه إذا غضب على مخارق يقول له حيث يقول أنا مولى أمير المؤمنين متى كنت كذلك إنما أنت عبد الفضل بن يحيى أو مولى مسرور
أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان مخارق بن ناووس الجزار وإنما لقب بناووس لأنه بايع رجلا أنه

يمضي إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج فطرح رهنه بذلك فدس الرجل الذي راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى فلما فرغ من الطبيخ مد الرجل يده من بين الموتى وقال له أطعمني فعرف ملء المغرفة من المرقة فصبها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له اصبر حتى نطعم الأحياء أولا ثم نتفرغ للموتى فلقب بناووس لذلك فنشأ ابنه مخارق وكان ينادي عليه إذا باع الجزور فخرج له صوت عجيب فاشتراه أبي وأهداه للرشيد فأمره بتعليمه فعلمه حتى بلغ المبلغ الذي بلغه

مخارق يغني للرشيد
وكان يقف بين يدي الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغني وهو واقف فغني ابن جامع ذات يوم بين يدي الرشيد
( كأنَّ نِيرَانَنا في جَنْب قَلْعتِهِم ... مُصَبَّغاتٌ على أَرْسانِ قَصّار )
( هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أن رأتْ عَجَباً ... حوائماً تَرتمِي بالنِّفط والنَّارِ )
فطرب الرشيد واستعاده عدة مرات وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة وأقبل يومئذ على ابن جامع دون غيره فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدمه إلى الخلاء فلما جاءه قال له مالي أراك منكسرا قال أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت فقال قد والله أخذته فقال له ويحك إنه الرشيد وابن جامع من تعلم ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت قال دعني وخلاك ذم وعرفه أني أغني به فإن أحسنت فإليك ينسب وإن أسأت فإلي يعود فقال للرشيد يا أمير المؤمنين أراك متعجبا من هذا الصوت بغير ما يستحقه وأكثر مما يستوجبه

فقال لقد أحسن ابن جامع ما شاء قال أو لابن جامع هو قال نعم كذا ذكر قال له فإن عبدك مخارقا يغنيه فنظر إلى مخارق فقال نعم يا أمير المؤمنين فقال هاته فغناه وتحفظ فيه فأتى بالعجائب فطرب الرشيد حتى كاد يطير فرحا وشرب ثم أقبل على ابن جامع فقال له ويلك ما هذا فابتدأ يحلف له بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط إلا منه ولا صنعه غيره وأنها حيلة جرت عليه فأقبل على إبراهيم وقال اصدقني بحياتي فصدقه عن قصة مخارق فقال له أكذلك هو يا مخارق قال نعم يا مولاي فقال اجلس إذن مع أصحابك فقد تجاوزت مرتبة من يقوم وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا
أخبرني محمد بن خلف وكيع وحدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال وكيع حدثني هارون بن مخارق وقال ابن المرزبان ذكر هارون ابن مخارق قال
كان أبي إذا غنى هذا الصوت
( يا رَبْعَ سَلْمى لقد هيّجْتَ لي طَرَباً ... زدْتَ الفؤادَ على عِلاَّتِهِ وَصبَا )
( رَبْعٌ تَبدَّلَ مِمَّن كانَ يَسْكُنُه ... عُفْر الظِّباء وظِلماناً بهِ عصبا )
يبكي ويقول أنا مولى هذا الصوت فقلت له وكيف ذاك يا أبت
فقال غنيته مولاي الرشيد فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك فقلت أن تعتقني يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار فقال أنت حر لوجه الله فأعد الصوت فأعدته فبكى وضرب رطلا ثم قال أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك فقلت ضيعة تقيمني غلتها قال قد أمرت لك بها أعد الصوت فأعدته فبكى وقال سل حاجتك فقلت يا

أمير المؤمنين تأمر لي بمنزل وفرش وخادم قال ذلك لك أعد الصوت فأعدته فبكى وقال سل حاجتك فقبلت الأرض بين يديه وقلت حاجتي أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك ويجعلني من كل سوء فداءك فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي

المأمون يسأل عن مخارق
وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن أبان بن سعيد حدثه
أن المأمون سأل إسحاق عن إبراهيم بن المهدي ومخارق فقال يا أمير المؤمنين إذا تغنى إبراهيم بن المهدي بعلمه فضل مخارقا وإذا تغنى مخارق بطبعه وفضل صوته فضل إبراهيم فقال له صدقت
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا المبرد بهذا الخبر فقال حدثني بعض حاشية السلطان
أن إبراهيم الموصلي غنى الرشيد يوما هذا الصوت فأعجب به وطرب له واستعاده مرارا فقال له فكيف لو سمعته من عبدك مخارق فإنه أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعا ويفضلني فدعا بمخارق فأمره أن يغنيه وذكر باقي الخبر مثل الذي تقدم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن محمد النخعي عن الحسين بن الضحاك عن مخارق
أن الرشيد قال يوما للمغنين وهو مصطبح من منكم يغني
( يا رَبْعَ سَلْمى لقد هَيْجتَ لي طَرَباً ... )
فقمت فقلت أنا أمير المؤمنين فقال هاته فغنيته فطرب وشرب

ثم قال علي بهرثمة بن أعين فقلت في نفسي ما يريد منه فجاؤوا بهرثمة فأدخل إليه وهو يجر سيفه فقال له يا هرثمة مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته فقال أبو المهنأ فقال انصرف فانصرف ثم أقبل علي وقال قد كنيتك أبا المهنأ لإحسانك وأمر لي بمائة ألف درهم فانصرفت بها وبالكنية
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن محمد بن نصر البسامي قال حدثني خالي أبو عبد الله بن حمدون قال
رحنا إلى الواثق وأمه عليلة فلما صلى المغرب دخل إلى أمه وأمر بألا نبح وكان في الصحن حصر غير مفروشة فقال لي مخارق امض بنا حتى نفرش حصيرا من هذه الحصر فنجلس على بعضه ونتكىء على المدرج منه وكانت ليلة مقمرة فمضينا ففرشنا بعض تلك الحصر واستلقينا وتحدثنا وأبطأ الواثق عند أمه فاندفع مخارق فغنى

( أَيا بَيْتَ ليْلى إنَّ ليْلَى غَريبةً ... بِراذانَ لا خالٌ لديها ولا ابنُ عَم )
فاجتمع علينا الغلمان وخرج الواثق فصاح يا غلام فلم يجبه أحد ومشى من المجلس إلى أن توسط الدار فلما رأيته بادرت إليه فقال لي ويلك هل حدث في داري شيء فقلت لا يا سيدي فقال فمالي أصيح فلا أجاب فقلت مخارق يغني والغلمان قد اجتمعوا عليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه منه فقال عذر والله لهم يا بن حمدون وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن مخارقا كان ينادي على اللحم الذي يبيعه أبوه فيسمع له صوت عجيب فاشترته عاتكة بنت شهدة وعلمته شيئا من الغناء ليس بالكثير ثم باعته من آل الزبير فأخذه منهم الرشيد وسلمه إلى إبراهيم الموصلي فأخذ عنه وكان إبراهيم يقدمه ويؤثره ويخصه بالتعليم لما تبينه منه ومن جودة طبعه

كان مملوكا لعاتكة بنت شهدة
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب قال حدثني ابن خرداذبه قال
كان مخارق بن يحيى بن ناووس الجرار وكان عبدا لعاتكة بنت شهدة وكانت عاتكة أحذق الناس بالغناء وكان ابن جامع يلوذ منها بالترجيع

الكثير فتقول له أين يذهب بك هلم إلى معظم الغناء ودعني من جنونك قال فحدثني من حضرهما أن عاتكة أفرطت يوما في الرد على ابن جامع بحضرة الرشيد فقال لها أي أم العباس أنا يشهد الله أحب أن تحتك شعرتي بشعرتك فقالت له اسكت قطع الله لسانك ولم تعاود بعد ذلك أذيته قال وكانت شهدة أم عاتكة نائحة هكذا ذكر ابن خرداذبه وليس الأمر في ذلك كما ذكره
حدثني محمد بن يحيى الصولي حدثنا الغلابي قال حدثني علي ابن محمد النوفلي عن عبد الله بن العباس الربيعي أنه كان هو وابن جامع وإبراهيم الموصلي وإسماعيل بن علي عند الرشيد ومعهم محمد بن داود بن علي فغنى المغنون جميعا ثم اندفع محمد بن داود فغناه

صوت
( أمَّ الوَليد سَلْبتِني حِلمي ... وقتلْتِنِي فتَحلَلي إثْمِي )
( بالله يا أمَّ الوَليد أمَا ... تَخْشَين فيَّ عواقبَ الظّلم )
( وتَركْتِني أبغي الطّبِيبَ وَما ... لِطبيبنا بالدَّاء من عِلمِ )
قال فاستحسنه الرشيد وكل من حضر وطربوا له فسأله الرشيد عمن أخذته فقال أخذته عن شهدة جارية الوليد بن يزيد قال عبد الله بن العباس هي أم عاتكة بنت شهدة
الأبيات المذكورة التي فيها الغناء لعبيد الله بن قيس الرقيات

وتمامها
( لله دَرُّكِ في ابن عَمِّك قَدْ ... زَوَّدتهِ سُقْماً على سُقمِ )
( في وجهها ماءُ الشَّباب ولم ... تُقبِل بمَكْروهٍ ولا جَهمِ )
والغناء فيه لابن محرز لحنان كلاهما له أحدهما ثقيل الأول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل الأول بالنصر عن عمرو بن بانة وفيه لمالك ثاني ثقيل عن الهشامي وحبش وفيه لسليمان خفيف رمل بالبنصر عنهما وثقيل أول للحسين بن محرز

مخارق والواثق
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال أبي
قال الواثق أمير المؤمنين خطأ مخارق كصواب علويه وخطأ إسحاق كصواب مخارق وما غناني مخارق قط إلا قدرت أنه من قلبي خلق ولا غناني إسحاق إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي ملك آخر
قال وكان يقول أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط فكانوا يتفقدونهم وهم وقوف فكلهم يسمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه فإذا تغنى مخارق خرجوا عن صورهم فتحركت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم وازدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه
قال هارون وحدثت أنه خرج مرة إلى باب الكناسة بمدينة

السلام والناس يرتحلون للخروج إلى مكة فنظر إليهم واجتماعهم وازدحامهم فقال لأصحابه الذين خرجوا معه قد جاء في الخبر أن ابن سريج كان يتغنى في أيام الحج والناس بمنى فيستوقفهم بغنائه وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنه لم يكن ليفضلني إلا بصنعته دون صوته ثم اندفع يؤذن فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا وهو كالأعمى عنها لما خامر قلبه من الطرب لحسن ما يسمع

مخارق وأبو العتاهية
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن أخت الحاركي وأبو سعيد الرامهرمزي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي عن أحمد بن عيسى الجلودي عن محمد بن سعيد الترمذي وكان إسحاق إذا ذكر محمدا وصفه بحسن الصوت ثم قال قد أفلتنا منه فلو كان يغني لتقدمنا جميعا بصوته قالوا
جاء أبو العتاهية إلى باب مخارق فطرقه واستفتح فإذا مخارق قد خرج إليه فقال له أبو العتاهية يا حسان هذا الأقليم يا حكيم أرض بابل أصبب في أذني شيئا يفرح به قلبي وتنعم به نفسي فقال انزلوا فنزلنا فغنانا قال محمد بن سعيد فكدت أسعى على وجهي طربا قال وجعل أبو العتاهية يبكي ثم قال له يا دواء المجانين لقد رققت حتى كدت أحسوك فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما ولو كان شرابا لكان ماء الحياة
نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا حدثني بعض خدم السلطان قال

قال رجل لأبي العتاهية وقد حضرته الوفاة هل في نفسك شيء تشتهيه قال أن يحضر مخارق الساعة فيغنيني
( سيُعرَض عن ذِكري وتُنْسَى مودَّتي ... ويحدثُ بعدي للخليل خليلُ )
( إذا ما انقضت عنِّي من الدهر مُدَّتي ... فإن غَناء الباكيات قليلُ )
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة العلوي قال حدثنا علي بن الحسين بن الأعرابي قال
لقى مخارق أبا العتاهية فقال له يا أبا إسحاق أأنت القائل
( اصْرِف بطَرْفِك حيثُ شِئتَ ... فلن تَرى إلاَّ بخيلا )
قال له نعم قال بخلت الناس جميعا قال فاصرف بطرفك يا أبا المهنأ فانظر فإنك لن ترى إلا بخيلا وإلا فأكذبني بجواد واحد فالتفت مخارق يمينا وشمالا ثم أقبل عليه فقال صدقت يا أبا إسحاق فقال له أبو العتاهية فديتك لو كنت مما يشرب لذررت على الماء وشربت

عندما يغني مخارق يترك الناس أعمالهم
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني بعض آل نوبخت قال
كان أبي وعبد الله بن أبي سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدواب في الجانب الغربي من بغداد يتحدثون فإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهم قال فيم كنتم فأخبروه فقال دعوني من وسواسكم هذا أي شيء لي عليكم إن رميت بنفسي بين قبرين من هذه القبور وغطيت وجهي وغنيت صوتا فلم يبق

بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب مني واتبع صوتي فقال له عبد الله إني لأحب أن أرى هذا فقل ما شئت فقال فرسك الأشقر الذي طلبته منك فمنعتنيه قال هو لك إن فعلت ما قلت ثم دخلها ورمى بنفسه بين قبرين وتغطى بردائه ثم اندفع يغني فغنى في شعر أبي العتاهية
( نادَتْ بوَشْك رَحِيلَكَ الأَيَامُ ... أفلسْتَ تسمَعُ أمْ بك استِصْمامُ )
قال فرأيت الناس يتقوضون إلى المقبرة أرسالا من بين راكب وراجل وصاحب شول وصاحب جدي ومار بالطريق حتى لم يبق بالطريق أحد ثم قال لنا من تحت ردائه هل بقي أحد قلنا لا وقد وجب الرهن فقام فركب حماره وعاد الناس إلى صنائعهم فقال لعبد الله أحضر الفرس فقال على أن تقيم اليوم عندي قال نعم فانصرفنا معهما وسلم الفرس إليه وبره وأحسن إليه وأحسن رفده

نسبة هذا الصوت
صوت
( نادَتْ بوَشْك رَحِيلِك الأَيَامُ ... أَفلسْتَ تَسْمَعُ أم بك استِصْمامُ )
( ومضَى أمامكَ مَنْ رأيت وأنْت لِلْباقين ... حتّى يَلْحقوك إمامُ )
( مالي أراكَ كأنَّ عينَك لا تَرى ... عِبراً تمرُّ كأنَّهن سِهامُ )

( تمضي الخُطوبُ وأنت مُنتَبهٌ لها ... فإذا مَضَتْ فكأنَّها أحلامُ )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى وفيه لمخارق هزج بالوسطى كلاهما عن عمرو وفيه رمل يقال إنه لعلويه ويقال إنه لمخارق عن الهشامي
أخبرني جحظة قال ذكر ابن المكي المرتجل عن أبيه
أن أبا العتاهية دخل يوما إلى صديق له وعنده جارية تغني فقال أبا إسحاق إن هذه الجارية تغني صوتا حسنا في شعر لك أفتنشط إلى سماعه قال هاتيه فغنته لحنا لعمرو بن بانة في قوله
( نادَت بِوَشْك رحيلك الأَيَّامُ ... )
فعبس وبسر وقال لا جزى الله خيرا من صنع هذه الصنعة في شعري قال فإنها تغني فيه لحنا لمخارق قال فلتغنه فغنته فأعجبه وطرب حتى بكى ثم قال جزى الله هذا عني خيرا وقام فانصرف
وقد روى هذا الخبر هارون بن الزيات عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن غزوان أنه كان وعبيد الله بن أبي غسان وأبو العتاهية ومحمد بن عمرو الرومي عند ابن أبي مريم ومعهم مغنية يقال لها بنت إبليس فغنى عبيد الله ابن أبي غسان في لحن مخارق
( نادَتْ بوَشْك رَحِيلَك الأَيَّامُ ... )
فلم يستحسنه أبو العتاهية ثم غنى فيه لحنا لإبراهيم بن المهدي فأطربه وقال جزى الله عني هذا خيرا
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن المتوكل دخل إلى جارية من جواريه وهي تغني

صوت
( أَمِنْ قَطْر النَّدى نظَّمْتَ ... ثغرَك أم من البَرَدِ )
( وريقُكَ من سُلاف الكَرْمِ ... أم من صفْوة الشُّهُدِ )
( أيا مَنْ قد جرى مِنِّي ... كمجْرَى الرُّوح في الجسَدِ )
( ضَمِيرُك شاهِدي فيما ... أُقاسِيه من الكَمدِ )
والغناء لمخارق رمل فقال لها ويحك لمن هذا الغناء فقالت أخذته من مخارق قال فألقيه على الجواري جميعا ففعلت فلما أخذنه عنها أمر بإخراجهن إليه ودعا بالنبيذ وأمر بألا يغنينه غيره ثلاثة أيام متوالية وكان ذلك بعد وفاة مخارق
وأخبرنا إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال عمر بن نوح بن جرير
سألت أبا المضاء الأسدي أن ينشدني فقال أنشدك من شعري شيئا قلته لرجل لقيته على الجسر ببغداد فأعجبه مني ما يرى من دماثتي وأقبلت أحدثه وهو ينصت لي وأنشده وهو يحسن الإصغاء إلى أنشادي ويحدثني فيحسن الحديث حتى بلغنا منزله فأدخلني فغداني ثم لم يرم حتى كساني وسقاني فرواني ثم أسمعني والله شيئا ما طار في مسامعي شيء قط أحسن منه فلما خرجت سألت عنه فقال لي غلمانه هذا أبو المهنأ مخارق فقلت فيه
( أعاد اللهُ يوم أبي المُهنَّا ... علينا إنَّه يوم نضير )
( تغيَّبَ نَحسُه عنَّا وأرخَى ... علينا وابلٌ جَودٌ مطيرُ )

قال يا إسحاق هذا والله صاحب اللواء غدا إن مات أبوك
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال
رأيت وأنا حدث كأن شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة قد دعاني فقال لي غنني يا مخارق فقلت أصوتا تقترحه أم ما حضر فقال ما حضر فغنيته بصنعتي في

صوت
( دَعِي القَلبَ لا يزْدَدْ خَبالاً مع الذي ... به منك أو داوِي جَواه المُكتَّما )
( وليس بتزْويِق اللسانِ وصوْغِه ... ولكنَّه قد خالط اللَّحمَ والدَّمَا )
ولحن مخارق فيه ثقيل أول وفيه لابن سريج رمل
قال فقال لي أحسنت يا مخارق ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفه على المضراب ودفعه إلي فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة عليه وصار في يدي علما ثم انتبهت فحدثت برؤياي إبراهيم الموصلي فقال لي الشيخ بلا شك إبليس وقد عقد لك لواء صنعنك فأنت ما حييت رئيس أهلها
قال مؤلف هذا الكتاب وأظن أن الشاعر الذي مدح مخارقا إنما عنى هذه الرؤيا بقوله
( لقد عَقَد الشَّيخُ الذي غرَّ آدما ... وأخرجَه من جَنَّةٍ وحدائقِ )
( لِواءَيْ فُنونٍ للقريض وللغِنا ... وأقسَم لا يُعطِيها غيرَ حاذِقِ )

وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن هارون بن مخارق حدثه فقال
كان الواثق شديد الشغف بأبي وكان قد اقتطعه عنا وأمر له بحجرة في قصره وجعل له يوما في الأسبوع لنوبته في منزله وكان جواريه يختلفن لذلك اليوم قال فانصرف إلينا مرة في نوبته فصلى الغداة مع الفجر على أسرة في صحن الدار في يوم صائف وجلس يسبح فما راعنا إلا خدم بيض قد دخلوا فسلموا عليه وقالوا إن أمير المؤمنين قد دعا بنا في هذه الساعة فأعدنا عليه الصوت الذي طرحته علينا فلم يرضه من أحد منا وأمرنا بالمصير إليك لنصححه عليك قال فأمر غلمانه فطرحوا لهم عدة كراسي فجلسوا عليها ثم قال لهم ردوا الصوت فردوه فلم يرضه من أحد منهم فدعا بجاريته عميم فردته عليهم فلم يرضه منها قال فتحول إليهم ثم اندفع فرد الصوت على الخدم فخرج الوصائف من حجر جواريه حتى وقفن حوالى الأسرة ودخل غلام من غلمانه وكان يستقي الماء فهجم على الصحن بدلوه وجاءت جارية على كتفها جرة من جرار المزملات حتى وقفت بالقرب منه قال وسبقتني عيناي فما كففت دموعها حتى فاضت
ثم قطع الصوت حين استوفاه فرجع الوصائف الأصاغر سعيا إلى حجر الجواري وخرج الغلام السقاء يشتد إلى بغلة ورجعت الجارية الحاملة الجرة المزملة شدا إلى الموضع الذي خرجت منه فتبسم أبي وقال ما شأنك يا هارون فقلت يا أبت جعلني الله فداءك ما ملكت عيني قال وأبوك أيضا لم يملك عينه

مخارق وإبراهيم بن المهدي
وذكر هارون بن الزيات عن أصحابه قال
جمع إبراهيم بن المهدي المغنين ذات يوم في منزله فأقاموا فلما

دخلوا في الليل ثمل مخارق وسكر سكرا شديدا فسألوه أن يغني صوتا فغني هذا البيت من شعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي
( قال سارُوا وأمعَنوا واستَقلّوا ... وبرْغمِي لو استَطعتُ سبيلا )
فانتهى منه إلى قوله واستقلوا وانثنى نائما فقال إبراهيم بن المهدي مهدوه ولا تزعجوه فمهدوه ونام حتى مضى أكثر الليل ثم استقل من نومه فانتبه وهو يغني تمام البيت
( وبَرْغمِي لو اسْتَطعتُ سبيلا ... )
وهو تمام البيت من حيث قطعه وسكت عليه من صوته
قال فجعل إبراهيم يتعجب منه ويعجب منه من حضره من جودة طبعه وذكائه وصحة فهمه
حدثنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قال محمد بن الحسن بن مصعب
قلت لإسحاق يوما أسألك بالله إلا صدقتني في مخارق وإبراهيم بن المهدي أيهما أحذق وأحسن غناء فقال لي إسحاق أجاد أنت والله ما تقاربا قط والدليل على فضل مخارق عليه أن إبراهيم لا يؤدي صوتا قديما ثقيلا جيدا أبدا ولا يستوفيه وإنما يغني الأهزاج والغناء الخفيف وأما الذي فيه عمل شديد فلا يصيبه
أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني بعض ولد سعيد بن سلم قال
دخل مخارق على سعيد بن سلم فسأله حاجة فلما خرج قيل له أما تعرف هذا هذا مخارق فقال ويحكم دخل ولم نعرفه وخرج ولم نعرفه

ردوه فردوه فقال له دخلت علينا ولم نعرفك فلما عرفناك أحببنا ألا تخرج حتى نسمعك فقال له أي شيء تشتهي أن أسمعك فقال
( يا ريحُ ما تَصنَعِين بالدِّمَنِ ... كم لك من مَحْوِ منْظرٍ حَسن )
فغناه مخارق فلما خرج قال لبعض بنيه أبوكم هذا نكس يشتهى على مثلي
( يا ريحُ ما تَصنَعين بالدِّمَنِ ... )
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عمي محمد قال
سمعت أبي يقول وقد غنى مخارق الفسيله نعم الفسيلة غرس إبليس في الأرض
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال سمع محمد بن سعيد القارىء مهدية جارية يعقوب بن الساحر تغني صوتا لمخارق بحضرته وقد كانت أخذته عنه وهو
( ما لقلبي يزداد في اللهو غيَّا ... والليالي قد أَنَضجَتْني كَيَّا )
( سَهَلت بعدك الحوادثُ حتَّى ... لستُ أخشَى ولا أُحاذِرُ شَيَّا )
فأحسنت فيه ما شاءت وانصرف محمد بن سعيد وقرأ على لحنه ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة )

حدثني عمي قال حدثنا عبد الله قال حدثني محمد قال
كنت عند مخارق أنا وهارون بن أحمد بن هشام فلعب مع هارون بالنرد فقمره مخارق مائتي رطل باقلا طريا فقال مخارق وأنتم عندي أطعمكم من لحم جزور من الصناعة يعني من صناعة أبيه يحيى بن ناووس الجزار
قال ومر بهارون بن أحمد فصيل ينادي عليه فاشتراه بأربعة دنانير ووجه به إلى مخارق وقال يكون ما تطعمنا من هذا الفصيل فاجتمعنا وطبخ مخارق بيده جزورية وعمل من سنامه وكبده ولحمه غضائر شويت في التنور وعمل من لحمه لونا يشبه الهريسة بشعير مقشر في نهاية الطيب فأكلنا وجلسنا نشرب فإذا نحن بامرأة تصيح من الشط يا أبا المهنا الله الله في حلف زوجي علي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه فقال اذهبي وجيئي به فجاء فجلس فقال له ما حملك على ما صنعت فقال له يا سيدي كنت سمعت صوتا من صنعتك فطربت عليه حتى استخفني الطرب فحلفت أن أسمعه منك ثقة بإيجابك حق زوجتي وكانت زوجته داية هارون بن مخارق فقال وما هو الصوت فقال

صوت
( بكَرتْ عليّ فهيَّجَتْ وَجْدَا ... هُوجُ الرياح وأَذْكرتْ نَجْدا )
( أتحِنُّ من شوْقٍ إذا ذُكِرَتْ ... نجدٌ وأنْتَ تركتَها عَمْدا )

الشعر لحسين بن مطير والغناء لمخارق ثقيل أول وفيه لإسحاق ثقيل أول آخر فغناه إياه وسقاه رطلا وأمره بالانصراف ونهاه أن يعاود وخرج فما لبثنا أن عادت المرأة تصرخ الله الله في يا أبا المهنا قد أعاد زوجي المشؤوم اليمين أنك تغنيه صوتا آخر فقال لها أحضريه فأحضرته أيضا فقال له ويلك مالي ولك أي شيء قصتك فقال له يا سيدي أنا رجل طروب وكنت قد سمعت صوتا لك آخر فاستفزني الطرب إلى أن حلفت بالطلاق ثلاثا أني أسمعه منك قال وما هو قال لحنك
( أَبلغ سَلامةَ أنَّ البَينَ قد أفِدا ... وأنَّ صَحْبَك عنها رائحُون غَدَا )
( هذا الفِراق يَقيناً إن صَبرتَ لهُ ... أوْ لا فإنّك منها مَيِّتٌ كَمَدا )
( لا شَكَّ أنَّ الذي بي سَوْف يُهلِكُني ... إن كانَ أهلك حُبٌّ قبله أحدَا )
فغناه إياه مخارق وسقاه رطلا وقال له احذر ويلك أن تعاود فأنصرف ولم تلبث أن عاودت الصياح تصرخ يا سيدي قد عاود اليمين ثلاثة الله الله في وفي أولادي قال هاتيه فأحضرته فقال لها انصرفي أنت فإن هذا كلما انصرف حلف وعاد فدعيه يقيم يومه كله فتركته وانصرفت فقال له مخارق ما قصتك أيضا قال قد عرفتك يا سيدي أنني رجل طروب وكنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفني الطرب له فحلفت أني أسمعه منك قال وما هو قال
( أَلِفَ الظَّبْيُ بِعادِي ... ونَفَى الهمُّ رُقادِي )

( وعَدَا الهْجرُ على الوصْل ... بأَسيافٍ حِدادِ )
( قل لِمَنْ زيَّف وُدِّي ... لستَ أهلاً لِودادي )
قال فغناه إياه وسقاه رطلا ثم قال يا غلام مقارع فجىء بها فأمر به فبطح وأمر بضربه فضرب خمسين مقرعة وهو يستغيث فلا يكلمه ثم قال له احلف بالطلاق أنك لا تذكرني أبدا وإلا كان هذا دأبك إلى الليل فحلف الطلاق ثلاثا على ما أمره به ثم أقيم فأخرج عن الدار فجعلنا نضحك بقية يومنا من حمقه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثني إسحاق بن عمر بن بزيع قال
أتيت مخارقا ذات يوم ومعي زرزور الكبير لنقيم عنده فوجدته قد أخرج رأسه من جناح له وهو مشرف على المقابر يغني هذا البيت ويبكي
( أينَ الملوكُ التي كانت مُسَلَّطةً ... )
قال فاستحسنا ما سمعناه منه استحسان من لم يسمع قط غناء غيره فقال لنا انصرفوا فليس في فضل اليوم بعد ما رأيتم قال محمد وكان والله مخارق ممن لو تنفس لأطرب من يسمعه استماع نفسه

الظباء تصغي لغناء مخارق
وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن محمد بن أحمد بن يحيى المكي حدثه عن أبيه قال
خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزهات فنظر إلى قوس مذهبه مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأن المسؤول ضن بها قال وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت عليك به خدود هذه الظباء أتدفع إلي هذه القوس قال نعم فاندفع يغني

صوت
( ماذا تقُول الظِّباءُ ... أفُرْقةٌ أمْ لِقاء )
( أمْ عهْدُها بسُلَيْمَى ... وفي البيان شِفاءُ )
( مرَّت بنا سانحاتٍ ... وقد دَنا الإِمساءُ )
( فما أحارَتْ جواباً ... وطال فيها العَناء )
في هذه الأبيات ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى
قال فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه مصغية تسمع صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها
قال ابن المكي وحدثني رجل من أهل البصرة كان يألف مخارقا ويصحبه قال
كنت معه مرة في طيار ليلا وهو سكران فلما توسط دجلة اندفع بأعلى صوته فغنى فما بقي أحد في الطيار من ملاح ولا غلام ولا خادم إلا بكى من رقة صوته ورأيت الشمع والسرج من جانبي دجلة في صحون القصور والدور يتساعون بين يدي أهلها يستمعون غناءه
حدثني الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله التميمي الحزنبل قال
كنا في مجلس ابن الأعرابي إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سلم كان يلزم ابن الأعرابي وكان يحبه ويأنس به فقال له ما أخرك عني فاعتذر

بأشياء منها أنه قال كنت مع مخارق عند بعض بني الرشيد فوهب له مائة ألف درهم على صوت غناه إياه فاستكثر ابن الأعرابي ذلك واستهوله وعجب منه وقال له بأي شيء غناه قال غناه بشعر العباس بن الأحنف
صوت
( بكتْ عَيْنِي لأنواعٍ ... من الحُزْن وأَوْجاعِ )
( وإنِي كلَّ يوم عندكم ... يَحْظى بيَ السَّاعِي )
فقال ابن الأعرابي أما الغناء فما أدري ما هو ولكن هذا والله كلام قريب مليح
لحن مخارق في هذين البيتين ثقيل أول من جامع صنعته وفيهما لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر حبش أن فيهما لإبراهيم بن المهدي لحنا ماخوريا
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال
غنت شارية يوما بحضرة أبي صوتا فأحد النظر إليها وصبر حتى قطعت نفسها ثم قال لها أمسكي فأمسكت فقال لها قد عرفت إلي أي شيء ذهبت أردت أن تتشبهي بمخارق في تزايده قالت نعم يا سيدي قال

إياك ثم إياك أن تعودي فإن مخارقا خلقه الله وحده في طبعه وصوته ونفسه يتصرف في ذلك أجمع كيف أحب ولا يلحقه في ذلك أحد وقد أراد غيرك أن يتشبه به في هذه الحال فهلك وافتضح ولم يلحقه فلا أسمعنك تتعرضين لمثل هذا بعد وقتك هذا

غلمان المعتصم يتركونه لدى سماعهم غناء مخارق
أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر البسامي قال حدثني خالي أبو عبد الله عن أبيه قال
كنا بين يدي المعتصم ذات ليلة نشرب إلى أن سكرنا جميعا فقام فنام وتوسدنا أيدينا ونمنا في مواضعنا ثم انتبه فصاح فلم يجبه أحد وسمعنا صياحه فتبادرنا نسأل عن الغلمان فإذا مخارق قد انتبه قبلنا فخرج إلى الشط يتنسم الهواء واندفع يغني فتلاحق به الغلمان جميعا فجئت إلى المعتصم فأخبرته وقلت مخارق على الشط يغني والغلمان قد اجتمعوا عليه فليس فيهم فضل لشيء غير استماعه فقال لي يا بن حمدون عذر والله وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر
وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن أبان بن سعيد حدثه
أن المأمون سأل إسحاق عن إبراهيم بن المهدي ومخارق فقال يا أمير المؤمنين إذا تغنى إبراهيم بعلمه فضل مخارقا وإذا تغنى مخارق بطبعه وفضل صوته فضل إبراهيم فقال له صدقت
مخارق ومحمد الأمين
نسخت من كتاب هارون بن الزيات
حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال دعاني محمد الأمين يوما وقد اصطبح فاقترح علي

( استَقبلَتْ وَرَقَ الرّيحانِ تَقطِفُهُ ... وَعنْبَرَ الهِنْد والورْدِيَّة الجُدُدا )
( ألستَ تَعرفني في الْحَيّ جاريةً ... وَلَمْ أَخُنْك ولم ترْفع إلي يدا )
فغنيته إياه فطرب طربا شديدا وشرب عليه ثلاثة أرطال ولاء وأمر لي بألف دينار وخلع علي جبة وشي كانت عليه مذهبه ودراعة مثلها وعمامة مثلها تكاد تعشي البصر من كثرة الذهب فلما لبست ذلك ورآه علي ندم وكان كثيرا ما يفعل ذلك فقال لبعض الخدم قل للطباخ يأتينا بمصلية معقودة الساعة فأتى بها فقال لي كل معي وكنت أعرف الناس بمذهبه وبكراهته لذلك فامتنعت فحلف أن آكل معه فحين أدخلت يدي في الغضارة رفع يده ثم قال أف نغصتها علي والله وقذرتها عندي بإدخالك يدك فيها ثم رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري وودكها يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي فقمت مبادرا فنزعتها وبعثت بها إلى منزلي وغيرت ثيابي وعدت وأنا مغموم منها وهو يضحك فلما رجعت إلى منزلي جمعت كل صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج ولم أنتفع بها حتى أحرقتها فأخذت ذهبها وضرب الدهر بعد ذلك ضرباته

مخارق والمأمون
ثم دعاني المأمون يوما فدخلت إليه وهو جالس وبين يديه مائدة عليها رغيفان ودجاجتان فقال لي تعال فكل فامتنعت فقال لي تعال ويلك فساعدني فجلست فأكلت معه حتى استوفى ووضع النبيذ ودعا علوية

فجلس وقال لي يا مخارق أتغني
( أقولُ التِماسَ العذْرِ لمَّا ظلمْتِنِي ... وحَمَّلتِني ذَنباً وما كنتُ مُذْنِبا )
فقلت نعم يا سيدي قال غنه فغنيته فعبس في وجهي ثم قال
قبحك الله أهكذا يغني هذا ثم أقبل علي علوية فقال أتغنيه قال نعم يا سيدي قال غنه فغناه فوالله ما قاربني فيه فقال أحسنت والله وشرب رطلا وأمر له بعشرة آلاف درهم واستعاده ثلاثا وشرب عليه ثلاثة أرطال يعطيه مع كل عشرة آلاف درهم ثم خذف بإصبعه وقال برق يمان وكان إذا أراد قطع الشرب فعل ذلك وقمنا فعلمت من أين أتيت
فلما كان بعد أيام دعاني فدخلت إليه وهو جالس في ذلك الموضع بعينه يأكل هناك فقال لي تعال ويلك فساعدني فقلت الطلاق لي لازم إن فعلت فضحك ثم قال ويلك أتراني بخيلا على الطعام لا والله ولكنني أردت أن أؤدبك إن السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها أفهمت فقلت نعم قال فتعال الآن فكل على الأمان فقلت أكون إذا أول من أضاع تأديبك إياه واستحق العقوبة من قريب فضحك حتى استغرب ثم أمر لي بألف دينار ومضيت إلى حجرتي المرسومة لي للخدمة وأتيت هناك بطعام فأكلت ووضع النبيذ ودعاني وبعلوية فلما جلسنا قال له يا علي أتغني
( ألم تَقُولي نَعَمْ قالت أرَى وَهَماً ... منّي وهل يُؤْخذ الإِنسانُ بالوَهَمِ )

فقال نعم يا سيدي فقال هاته فغناه فعبس في وجه وبسر وقال قبحك الله أتغني هذا هكذا ثم أقبل علي فقال أتغنيه يا مخارق فقلت نعم يا سيدي وعلمت أنه أراد أن يستقيد لي من علويه ويرفع مني وإلا فما أتى علويه بما يعاب فيه فغنيته فطرب وشرب رطلا وأمر لي بعشرة آلاف درهم وفعل ذلك ثلاث مرات كما فعل به
ثم أمر بالانصراف فانصرفنا وما عاودت بعد ذلك مؤاكلة خليفة إلى وقتنا هذا

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( استقبلتْ ورَقَ الرّيحان تقطُفهُ ... وعَنْبَر الهِنْد والوردِيَّة الجدُدا )
( ألستَ تعرفِني في الْحيِ جاريةً ... ولم أخنك ولم تَمْدُد إليَّ يَدا )
الشعر فيما يقال لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وأصله يماني وفيه لابن جامع هزج
صوت
( أقولُ التِماسَ العُذْرِ لمَّا ظلمْتِنِي ... وحَمَّلتِني ذَنباً وما كنتُ مُذْنِبا )
( هبيني امرأً إمَّا بريئاً ظلمتِه ... وإمَّا مُسِيئاً قد أناب وأَعتبا )

الشعر للأحوص والغناء لمالك خفيف رمل بالوسطى عن عمرو

صوت
( ألم تَقُولي نَعَمْ قالت أرَى وهَماً ... منّي وهل يُؤْخَذ الإِنسان بالوَهَمِ )
( قُولِي نَعمْ إنّ لا - إن قُلت - قاتلتي ... ماذا تُريدين من قَتْلي بغير دمِ )
الغناء لسياط خفيف رمل بالبنصر عن عمرو ولم يقع إلي لمن الشعر
قال هارون وحدثني أبو معاوية الباهلي قال
حضرت علويه ومخارقا مجتمعين في مجلس فغنى علويه صوتا فأحسن فيه وأجاده فأعاده مخارق وبرز عليه وزاد فرده علوية وتعمل فيه واجتهد فزاد على مخارق فجثا مخارق على ركبتيه وغناه وصاح فيه حتى اهتز منكباه فما ظننا إلا أن الأرض قد زلزلت بنا وغلب والله ما سمعنا على عقولنا ونظرت إلى لون علويه وقد امتقع وطار دمه فلما فرغ مخارق توقعنا أن يغني علويه فما فعل ولا غنى بقية يومه قال وكان مخارق إذا صاح قطع أصحاب النايات
أخبرني وسواسة بن الموصلي وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا حماد بن إسحاق قال

قال لي مخارق دعاني يوما محمد المخلوع فدخلت عليه وعنده إبراهيم بن المهدي فقال غنني يا مخارق فغنيته أصواتا عديدة فلم يطرب لها وقال هذا كله معاد فغنني
( لقد أزمعت للبين هِندٌ زِيالها ... )
فقلت والله ما أحسنه فقال غنني
( لا والذي نُحِرتْ له البُدْنُ ... )
فقلت لا والله ما أحسنه فقال غنني
( يا دارَ سُعْدَى سقى أَطلالَكِ الدِّيَما ... )
فقلت لا والله لا أحسنه فغضب وقال ويلك أسألك عن ثلاثة أصوات فلا تحسن منها واحدا فقال له إبراهيم بن المهدي ما ذنبه إسحاق أستاذه وعليه يعتمد وهو يضايقه في صوت يعلمه إياه فقلت قد والله صدق ما يعطيني شيئا ولا يعلمنيه قال فما دواؤه فقد والله أعياني فقال له إبراهيم توكل به من يصب على رأسه العذاب حتى يعلمه مائة صوت قال أما هذا فبعيد ولكن اذهب إليه عني فمره أن يعلمك هذه الثلاثة الأصوات فإن فعل وإلا فصب السوط على رأسه حتى يعلمك
فدخلت إلى إسحاق فجلست بغير أمره وسلمت سلاما منكرا ثم أقبلت عليه فقلت يأمرك أمير المؤمنين أن تعلمني كذا وكذا قال ما أحسنه

فقلت إني أنفذ فيك ما أمرني به فقال تنفذ في ما أمرت به ألا تستحي ويحك مني ومن تربيتي إياك قلت فلا بد من أن تعلمني ما أمرك به أمير المؤمنين قال فإني لست أحسنه ولكن فلانة تحسنه هاتوها فجاءت وجعلت تطارحني حتى أخذت الأصوات الثلاثة وجعل كل من جاء يومئذ لا يحجبه ليروني وجاريته تطارحني
فلما أخذت الأصوات رجعت إلى محمد وأخبرته الخبر وحضر إسحاق فغنيته إياها فطرب وجعل إبراهيم بن المهدي يقول أحسن والله أحسن والله فلما فرغت قال إسحاق لا والله ما أحسن ولا أصاب هو ولا إبراهيم في استحسانه ولقد جهدت الجارية جهدها أن يأخذه عنها فلم يتوجه له ثم اندفع فغناها فكأني والله كنت ألعب عندما سمعت
ثم أقبل على إبراهيم بن المهدي فقال له كم أقول لك ليس هذا من علمك ولا مما تحسنه وأنت تكابر وتدخل نفسك فيما لا تحسنه فقال ألا تراه يا أمير المؤمنين يصيرني مغنيا فقال له إسحاق ولم تجحد ذلك أو أسررت إلي منه شيئا لم تظهره للناس وتعلمهم إياه ومتى صرت تأنف من هذا وأنت تتبجح به فليتك تحسنه والله ما تفرق بين الخطأ والصواب فيه وإن شئت الآن ألقيت عليك ثلاثين مسألة من أي علم شئت فإن أجبت في واحدة منهن وإلا علمت أنك متكلف فقال يا أمير المؤمنين يستقبلني بهذا بين يديك قال وما هذا مما لا أستقبلك به فقال له محمد نعم اختر ما شئت حتى نسألك عنه فقال إنما يفعل هذا الصبيان وانكسر حتى رحمته فقلت لمحمد يا أمير المؤمنين لعلك ترى مع هذا القول أنه لا يحسن بلى والله إنه ليحسن كل شيء وما يقدر أحد أن يقول هذا غيري وإنه ليتقدم كثيرا من الناس في كل شيء فجعل محمد يضحك وهو يقول تشجه بيد وتدهنه بيد وتجرحه بيد وتأسوه بيد

نسبة هذه الأصوات
صوت
( لقد أزمعتْ لِلبين هندٌ زيالَها ... وزَمُّوا إلى أَرْضِ العِراقِ جِمالَها )
( فما ظبيةٌ أَدْماءُ واضحةُ القَرَا ... تَنُصُّ إلى بَرْد الظِّلال غَزَالها )
( تَحُتُّ بقَرنيها بَرِيرَ أَراكةٍ ... وتَعْطو بظِلْفَيْها إذا الغُصْنُ طالها )
( بأُحْسنَ منها مُقلةً ومُقلَّداً ... وجيداً إذا دانَتْ تنوطُ شِكالَها )
الشعر لكثير والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لابن سريج في الثالث والثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ولإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الثاني ثم في الثالث وفي كتاب حكم لحكم فيه خفيف ثقيل وعن حبش لطويس فيه رمل بالوسطى وذكر أيضا أن لحن معبد ثاني ثقيل
صوت
( يا دارَ سُعدَى سَقَى أطْلالَك الدِّيما ... مُسْقِي الرَّوايا وإن هيَّجتِ لي سَقَما )

( دارٌ خَلَتْ وعفَتْ منها معالِمُها ... إلاّ الثُّمامَ وإلاَّ النُّؤْيَ والحُمَمَا )
الغناء لقفا النجار ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي وإبراهيم

صوت
( لا والذي نُحِرتُ له البُدُنُ ... وله بمَكَّةَ قُبِّلَ الرُّكْنُ )
( ما زلتُ يا سَكَنِي أخا أرَقٍ ... مُتكنِّفاً بي الهمُّ والحزَنُ )
( أخشى عليك وبعضه شَفقٌ ... أن يَفْتنوك وأنت مُفْتتنُ )
الغناء لابن سريج رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر الهشامي أنه لسليمان الوادي أوله فيه لحن ونسبه إبراهيم إلى ابن عباد ولم يجنسه
أخبرني عمي حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال
حدثني عبد الوهاب المؤذن قال انحدرنا مع المعتصم من السن ونحن في حراقته وحضر وقت الأذان فأذنت فلما فرغت من الأذان اندفع مخارق بعدي فأذن وهو جاث على ركبتيه فتمنيت والله أن دجلة أهرقت لي فغرقت فيها

مخارق والمعتصم
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن عبد الله بن حمدون قال حدثني أبي قال
غضب المعتصم على مخارق فأمر به أن يجعل في المؤذنين ويلزمهم ففعل ذلك وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب وأذنت العصر فدخل هو إلى الستر حيث يقف المؤذن للسلام ثم رفع صوته جهده وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فبكى حتى جرت دموعه وبكى كل من حضره ثم قال أدخلوه إلي ثم أقبل علينا وقال سمعتم هكذا قط هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه فأمر به فأدخل إليه فقبل الأرض بين يديه فدعاه المعتصم إليه وأعطاه يده فقبلها وأمره بإحضار عوده فأحضر فأعاده إلى مرتبته
وجدت في بعض الكتب عن علي بن محمد البسامي عن جده حمدون بن إسماعيل قال
غنى علويه يوما بين يدي إسحاق الموصلي
( هجرْتُكِ إشفاقاً عليكِ من الأذى ... وخَوْفَ الأعادِي واتِّقاءَ النَّمائِمِ )
فقال له إسحاق أحسنت يا أبا الحسن أحسنت واستعاده ثلاثا وشرب فقال له علويه يا أستاذ أين أنا الآن من صاحبي يعني مخارقا مع قولك هذا لي فقال لا ترد أن تعرف هذا قال بي والله إلى معرفته أعظم الحاجة فقال إذا غنيتما ملكا اختاره عليك وأعطاه الجائزة دونك فضجر علويه وقال لإسحاق أف من رضاك وغضبك
نسبة هذا الصوت
صوت
( هجرْتُكِ إشفاقاً عليكِ من الأذى ... وخَوْفَ الأعادِي واتِّقاءَ النَّمائِم )

( وإنِّي وذاك الهجْرَ لو تَعلمِينَه ... كساليةٍ عن طِفلِها وهي رائمُ )
الشعر لهلال بن عمر الأسدي والغناء لعلويه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وقال الجاحظ قال أبو يعقوب الخريمي
ما رأيت كثلاثة رجال كانوا يأكلون الناس أكلا حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الرصاص على النار كان هشام بن الكلبي علامة نسابة ورواية للمثالب عيابة فإذا رأى الهيثم بن عدي ذاب كما يذوب الرصاص وكان علي بن الهيثم جونقا مفقعا نيا صاحب تقعر يستولي على كل كلام لا يحفل بخطيب ولا شاعر فإذا رأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص وكان علويه واحد الناس في الغناء رواية وحكاية ودراية وصنعة وجودة ضرب وأضراب وحسن خلق فإذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص على النار
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب عن ابن خرداذبة قال
هوي مخارق جارية لأم جعفر فحج في السنة التي حجت فيها أم جعفر بسبب الجارية فقال أحمد بن هشام فيه
( يحجُّ النَّاسُ من بِرٍّ وتَقْوى ... وحجُّ أبي المُهنَّا للتَّصابي )
قال وكان المعتصم قد وهب دار مخارق لما قدم بغداد ليونازة خليفة الأفشين فقال عيسى بن زينب في ذلك
( يا دارُ غيَّر رسمَها يُونَازهْ ... وبَقِي مُخارِق قاعداً في فازهْ )
( لا تَجْزَعن أبا المُهنَّا إنَّها ... دُنيا تُنالُ بِذلّة وعَزازهْ )

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال وجدت بخط عبد الله بن الحسين حدثني الحسن بن إبراهيم بن رياح قالا
كان مخارق يهوى جارية لأم جعفر يقال لها بهار ويستر ذلك عن أم جعفر حتى بلغها ذلك فأقصته ومنعته من المرور ببابها وكان بها كلفا قال الصولي في خبره فلما علم أن الخبر قد بلغ أم جعفر قطعها وتجافاها إجلالا لأم جعفر وطمعا في السلو عنها وضاق ذرعه بذلك فبينا هو ذات ليلة في زلال وقد انصرف من دار المأمون وأم جعفر تشرب على دجلة إذ حاذى دارها فرأى الشمع يزهر فيها فلا صار بمسمع منها ومرأى اندفع فغنى

صوت
( إن تمنَعوني مَمرِّي قُربَ دارِهمُ ... فسوف أنظُرُ من بُعْدٍ إلى الدَّارِ )
( سِيما الهَوى شُهِرَتْ حتى عُرِفْتُ بها ... أنِّي مُحِبٌّ وما بالحبِّ من عارِ )
( ما ضَرّ جِيرانَكم - والله يُصلِحهم ... لولا شَقائَي - إقبالي وإدْبارِي )
( لا يَقْدِرونَ على مَنعِي ولو جَهَدُوا ... إذا مررتُ وتَسلِيمي بإضْماري )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لمخارق رمل بالوسطى
فقالت أم جعفر مخارق والله رده فصاحوا بملاحه قدم فقدم وأمره الخدم بالصعود فصعد وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها نبيذ فشرب وخلعت عليه وأمرت الجواري فغنين ثم ضربن عليه فغنى فكان أول ما غنى
صوت
( أغيبُ عنكِ بوُدٍّ ما يُغيِّرُه ... نأْيُ المَحلِّ ولا صَرفٌ من الزَمنِ )

( فإن أعِشْ فلعلَّ الدَّهرَ يجمعُنا ... وإن أمُتْ فقَتِيل الهمِّ والحزَنِ )
( قد حَسَّن الله في عيْنيَّ ما صنعَتْ ... حتَّى أرى حسَناً ما ليس بالحَسَنِ )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لمخارق رمل
قال فاندفعت بهار فغنت كأنها تباينه وإنما أجابته عن معنى ما عرض لها به
( تعتلُّ بالشُّغل عنا ما تُلِمُّ بنا ... والشُّغْلُ للقلب ليس الشُّغل للبَدَنِ )
ففطنت أم جعفر أنها خاطبته بما في نفسها فضحكت وقالت ما سمعنا بأملح مما صنعتما وقال إسماعيل بن يونس في خبره ووهبتها له
وقال هارون بن الزيات
حدثني هارون بن مخارق عن أبيه أن المأمون سأله لما قدم مكة عن أحدث صوت صنعه فغناه
صوت
( أقبلَتْ تحصِب الجِمارَ وأقْبلْتُ ... لِرَمْي الجِمار من عرَفاتِ )
( لَيتَنِي كُنتُ في الجِمار أنا المحصُوب ... من كَفِّ زيْنبٍ حَصياتِ )
الشعر للنميري والغناء لمخارق خفيف رمل بالبنصر قال فضحك ثم قال لعمري إن هذا لأحدث ما صنعت ولقد قنعت بيسير وما أظن بهار كانت تبخل عليك بأن تحصبك بحصاة كما تحصب الجمار واستعاده الصوت مرات
أخبرني جعفر بن قدامة قال
حدثني هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال كنا عند المأمون يوما فجاءه الخادم الحرمي فأسر إليه شيئا فوثب فدخل معه ثم أبطأ علينا ساعة

وعاود وعينه تذرف فقال لنا دخلت الساعة إلى جارية لي كنت أتحظاها فوجدتها في الموت فسلمت عليها فلم تستطع رد السلام إلا إيماء بإصبعها فقلت هذين البيتين
( سلامٌ على مَن لم يُطِق عند بَيْنِه ... سلاماً فأَوْمَى بالبَنان المخضَّبِ )
( فما اسطَعْتُ توديعاً له بِسوَى البُكا ... وذلك جهْد المُستهامِ المُعذَّبِ )
ثم قال غن فيها يا مخارق ففعلت فما استعادني ذلك الغناء قط إلا بكى
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال حدثني أبي قال
حج رجل مع مخارق فلما قضيا الحج وعادا قال له الرجل في بعض طريقه بحقي عليك غنني صوتا فغناه
( رَحلنا فشَرَّقْنا وراحوا فغَرَّبُوا ... ففاضَتْ لرَوْعاتِ الفراقِ عُيونُ )
فرفع الرجل يده إلى السماء وقال اللهم إني أشهدك أني قد وهبت حجتي له
وتوفي مخارق في أول خلافة المتوكل وقيل بل في آخر خلافة الواثق وذكر ابن خرداذبة أن سبب وفاته أنه أكل قنبيطية باردة فقتلته من فوره

صوت
( إذا مِتّ فادفِنِّي إلى جنبِ كَرْمَة ... تُرَوِّي مُشاشِي بعد موتي عُرُوقُها )
( ولا تَدْفِنَنِّي بالفلاة فإنّنِي ... أَخافُ إذا ما مِتُّ ألاَّ أذوقَها )

عروضه من الطويل ويروى
( إذا رحت مدفوناً فلستُ أذوقها ... )
الشعر لأبي محجن الثقفي والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لحنين لحن ذكره إبراهيم ولم يجنسه
إلى هنا انتهى الجزء الثامن عشر من كتاب الأغاني ويليه الجزء التاسع عشر وأوله ذكر أبي محجن ونسبه

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر أبي محجن ونسبه
أبو محجن عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف قسي وهو ثقيف وقد مضى نسبه في عدة مواضع
وأبو محجن من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام وهو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس والنجدة وكان من المعاقرين للخمر المحدودين في شربها
عمر ينفيه إلى جزيرة حضوضى
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي عن المفضل قال
لما كثر شرب أبي محجن الخمر وأقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه الحد مراراً وهو لا ينتهي نفاه إلى جزيرة في البحر يقال لها

حضوضى وبعث معه حرسيّا يقال له ابن جهراء فهرب منه على ساحل البحر ولحق بسعد بن أبي وقاص وقال في ذلك يذكر هربه من ابن جهراء
( الحَمْدُ للهِ نَجّاني وخَلّصَني ... من ابن جَهْراءَ والبُوصِيُّ قد حُبِسَا )
( من يَجشَمِ البَحْرَ والبُوصِيُّ مَرْكبُه ... إلى حَضَوْضَى فبئْس المَرْكبُ الْتَمسا )
( أبلغْ لَدَيْك أبا حَفْص مُغَلْغَلةً ... عبدَ الإِله إذا ما غارَ أو جَلَسَا )
( أَنِّي أَكُرُّ على الأُولى إذا فَزِعوا ... يوماً وأَحبِس تحت الرّايةِ الفَرَسَا )
( أغشَى الهِياجَ وتَغْشاني مُضاعَفةٌ ... من الحَدِيد إذا ما بعضهم خَنَسَا )
هذه رواية ابن الأعرابي عن المفضل قال ابن الأعرابي وحدثني ابن دأب بسببِ نفي عمر إياه فذكر أن أبا محجن هوي امرأة من الأنصار يقال لها شموس فحاول النظر إليها بكل حيلة فلم يقدر عليها فآجر نفسه من عامل

يعمل في حائط إلى جانب منزلها فأشرف من كوة في البستان فرآها فأنشأ يقول
( ولقد نظرتُ إلى الشَّموسِ ودُونها ... حَرَجٌ من الرّحمن غيرُ قليلِ )
( قد كنتُ أحْسَبُني كأغْنَى واحدٍ ... وَرَدَ المدِينَةَ عن زراعة فُولِ )
فاستعدى زوجها عليه عمر بن الخطاب فنفاه إلى حضوضى وبعث معه رجلاً يقال له ابن جهراء قد كان أبو بكر رضي الله عنه يستعين به قال له عمر لا تدع أبا محجن يخرج معه سيفاً فعمد أبو محجن إلى سيفه فجعل نصله في غرارة وجعل جفنه في غرارة أخرى فيهما دقيق له
فلما انتهى به إلى الساحل وقرب البوصي اشترى أبو محجن شاةً وقال لابن جهراء هلم نتغدّ ووثب إلى الغِرارة كأنه يخرج منها دقيقاً فأخذ السيف فلما رآه ابن جهراء والسيف في يده خرج يعدو حتى ركب بعيره راجعاً إلى عمر فأخبره الخبر

أبو محجن يقاتل يوم أرماث
وأقبل أبو محجن إلى سعد بن أبي وقاص وهو يقاتل العجم يوم القادسية وبلغ عمر خبرُه فكتب إلى سعد بحبسه فحبسه فلما كان يوم أرماث والتحم القتال سأل ابو محجن امرأة سعد أن تعطيه فرس سعد وتحل قيده ليقاتل

المشركين فإن استشهد فلا تبعه عليه وإن سلم عاد حتى يضع رجله في القيد فأعطته الفرس وخلت سبيله وعاهدها على الوفاء فقاتل فأبلى بلاء حسناً إلى الليل ثم عاد إلى حبسه
حدثني بهذا الحديث عمي الخراز عن المدائني عن إبراهيم بن حكيم عن عاصم بن عروة
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غرب رجلاً من ثقيف وهو أبو محجن وكان يدمن الخمر وأمر ابن جهراء النصريّ ورجلاً آخر أن يحملاه في البحر وذكر الخبر مثل الذي قبله وزاد فيه وقال أبو محجن أيضاً

صوت
( صاحِبَا سَوْءٍ صَحِبتُهما ... صاحَباني يوم أرْتحِلُ )
( ويَقولان ارتَحِل مَعنا ... فأُنادِي إِنّني ثملُ )
( إنّني باكرتُ مُترعةً ... مُزّةً راوُوقها خَضِلُ )
الغناء في البيتين الأخيرين لنشو خفيف رمل وأوله
( ويقُولان اصْطبح مَعَنا ... )
قال الأصبهاني وهذه القصة كانت لأبي محجن في يوم من أيام حرب القادسية يقال له يوم أرماث وكانت أيامها المشهورة يوم أغواث ويوم أرماث

ويوم الكتائب وخبرها يطول جداً وليس في كلها كان لأبي محجن خبر وإنما ذكرنا هاهنا خبره فذكرنا منها ما كان اتصاله بخبر أبي محجن
حدثنا بذلك محمد بن جرير الطبري قال كتب إلي السري بن يحي يذكر عن شعيب عن سيف عن محمد بن طلحة وزياد وابن مخراق عن رجل من طيء قال
لما كان يوم الكتائب اقتتل المسلمون والفرس منذ أصبحوا إلى أن انتصف النهار فلما غابت الشمس تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل وهذه الليلة كان في صبيحتها يوم أرماث وقد كان المسلمون يوم أغواث أشرفوا على الظفر وقتلوا عامة أعلام الفرس وجالت خيلهم في القلب فلولا أن رجلهم ثبتوا حتى كرت الخيل لكان رئيسهم قد أخذ لأنه كان ينزل عن فرسه ويجلس على سريره ويأمر الناس بالقتال قالوا فلما انتصف الليل تحاجز الناس وبات المسلمون ينتمون منذ لدن أمسوا
وسمع ذلك سعد فاستلقى لينام وقال لبعض من عنده إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوهم وإن سكتوا وسكت العدو فلا تنبهني فإنهم على السواء وإن سمعت العدو ينتمون وهؤلاء سكوت فأنبهني فإن إنتماء العدو من السوء
قالوا ولما اشتد القتال في تلك الليلة وكان أبو محجن قد حبسه سعد بكتاب عمر وقيده فهو في القصر صعد أبو محجن إلى سعد يستعفيه

ويستقيله فزبره ورده فنزل فأتى سلمى بنت أبي حفصة فقال يا بنت آل أبي حفصة هل لك إلى خير قالت وما ذاك قال تخلين عني وتعيرينني البلقاء فلله علي إن سلمني الله أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجلي في قيدي فقالت وما أنا وذاك فرجع يوسف في قيوده ويقول
( كَفَى حَزنَاً أن تَرْدِيَ الخَيْلُ بالقَنَا ... وأُترَكَ مَشْدُوداً عليَّ وِثاقِيَا )
( إذا قُمتُ عَنَّاني الحديدُ وغُلِّفَت ... مَصارِيعُ من دُونِي تُصِمُّ المُنادِيا )
( وقد كُنتُ ذا مالٍ كَثيرٍ وإخوةٍ ... فقد تركوني واحداً لا أخَالِيا )
( وقد شَفَّ جِسْمِي أنّنِي كلَّ شَارِقٍ ... أُعالِج كَبْلاً مُصْمتاً قد بَرانِيَا )
( فلِلّه دَرِّي يومَ أُترَكُ مُوثَقا ... وتَذهَلُ عنّي أُسْرَتي ورِجالِيا )
( حَبيساً عن الحَرْبِ العَوانِ وقد بدت ... وإعمالُ غَيْري يوم ذَاكَ العَوَاليَا )
( وللهِ عَهْدٌ لا أخِيسُ بعَهْده ... لئن فُرِجَت ألاّ أزُورَ الحوانِيَا )
فقالت له سلمى إني استخرت الله ورضيت بعهدك فأطلقته وقالت

أما الفرس فلا أعيرها ورجعت إلى بيتها فاقتداها أبو محجن وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها ثم دب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة وأضاء النهار وتصاف الناس كبر ثم حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر أمام الناس فحمل على القوم فلعب بين الصفين برمحه وسلاحه وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالأمس فقال بعض القوم هذا من أوائل أصحاب هشام بن عتبة أو هشام بنفسه وقال قوم إن كان الخضر يشهد الحروب فهو صاحب البلقاء وقال آخرون لولا أن الملائكة لا تباشر القتال ظاهراً لقلنا هذا ملاك بيننا وجعل سعد يقول وهو مشرف ينظر إليه الطعن طعن أبي محجن والضبر ضبر البلقاء ولولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل فتحاجز أهل العسكرين وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ووضع عن نفسه ودابته وأعاد رجليه في القيد وأنشأ يقول
( لقد عَلِمتْ ثقيفٌ غَيرَ فخر ... بأنّا نحن أكرمُهم سُيوفَا )
( وأكثرُهم دُروعاً سابغاتٍ ... وأصبرُهم إذا كرهوا الوُقوفَا )
( وأنّا رِفْدُهم في كلِّ يوم ... فإن جحدوا فَسلْ بهمُ عَرِيفَا )
( ولَيْلَةَ قادسٍ لم يَشْعُروا بي ... ولم أكْرَهْ بمخرجيَ الزُّحوفَا )
( فإن أُحبَسْ فقد عَرفوا بَلائِي ... وإن أُطلَقْ أُجرِّعْهم حُتوفَا )
فقالت له سلمى يا أبا محجن في أي شيء حبسك هذا الرجل فقال

أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فينفثه أحياناً فحبسني لأني قلت
( إذا مِتُّ فادفنِّي إلى أصل كَرْمةٍ ... تُروِّي عِظامِي بعد مَوْتِي عُروقُها )
( ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاة فإنني ... أخافُ إذا ما مِتّ ألاّ أذُوقُها )
( لِيُروَى بخمر الحُصِّ لَحمِي فإنَّني ... أسِيرٌ لها من بعد ما قد أسُوقُها )

سعد بن أبي وقاص يفرج عن أبي محجن
قال وكانت سلمى قد رأت في المسلمين جولة وسعد بن أبي وقاص في القصر لعلة كانت به لم يقدر معها على حضور الحرب وكانت قبله عند المثنى بن حارثة الشيباني فلما قتل خلف عليها سعد فلما رأت شدة البأس صاحت وامثنياه ولا مثنى لي اليوم فلطمها سعد فقالت أف لك أجبنا وغيرة وكانت مغاضبة لسعد عشية أرماث وليلة الهدأة وليلة السواد حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبر أبي محجن فدعا به وأطلقه وقال اذهب فلست مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله قال لا جرم والله إني لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبداً

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبّة قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا محمد بن حازم قال حدثنا عمرو بن المهاجر عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم عن ابن الأعرابي عن المفضل وروايته أتم قالوا
كان أبو محجن الثقفي فيمن خرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الأعاجم فكان سعد يؤتى به شارباً فيتهدده فيقول له لست تاركها إلا لله عز و جل فأما لقولك فلا قالوا فأتي به يوم القادسية وقد شرب الخمر فأُمر به إلى القيد وكانت بسعد جراحه فلم يخرج يومئذٍ إلى الناس فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فلما التقى الناس قال أبو محجن
( كفى حَزَناً أن تَرْدِيَ الخيلُ بالقَنَا ... وأُتركَ مَشْدُوداً عليّ وِثاقِيَا )
وذكر الأبيات وسائر خبره مثل ما ذكره محمد بن جرير وزاد فيه فجاءت زبراء امرأة سعد هكذا قال والصحيح أنها سلمى فأخبرت سعداً بخبره فقال سعد أما والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين على يده ما أبلاهم فخلي سبيله فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ كان الحد يقام علي وأطَّهَّر منها فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبداً وقال ابن الأعرابي في خبره وقال أبو محجن في ذلك
( إن كانت الخمرُ قد عزَّت وقد مُنِعَتْ ... وحال من دونها الإسلامُ والحَرَجُ )
( فقد أُباكِرُها صِرْفاً وأمزُجُها ... رِيّاً وأَطرب أحياناً وأَمتزِجُ )

( وقد تَقومُ على رأْسي مُنَعَمَّةٌ ... خَوْذٌ إذا رَفَعت في صَوْتها غُنُجُ )
( تُرَفِّعُ الصّوتَ أحياناً وتخفِضُه ... كما يَطِنُّ ذُبابُ الرَّوضَةِ الهَزِجُ )
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال
لما انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنته منهزماً فأنشأت تعيره بفراره
( مَنْ فارِسٌ كَرِه الطِّعان يُعيِرُني ... رُمْحاً إذا نزلوا بمزج الصُّفَّرِ )
فقال لها أبو محجن
( إن الكِرامَ على الجِياد مَبِيتُهُم ... فَدَعِي الرِّمَاحَ لأهْلِها وتَعَطَّرِي )

أبو محجن يرثي أبا عبيد بن مسعود
وذكر السري عن شعيب عن سيف في خبره ووافقته رواية ابن الأعرابي عن المفضل
أن الناس لما التقوا مع العجم يوم قس الناطف كان مع الأعجام فيل يكر عليهم تقوم له الخيل فقال أبو عبيد بن مسعود هل له مقتل فقيل له نعم خرطومه إلا أنه لا يفلت منه من ضربه قال فأنا أهب نفسي لله وكمن

له حتى إذا أقبل وثب إليه فضرب خرطومه بالسيف فرمى به ثم شد عليه الفيل فقتله ثم استدار فطحن الأعاجم وانهزموا فقال أبو محجن الثقفي أبا عبيد
( أَنَّى تَسَدَّت نحوَنا أُمُّ يوسُفٍ ... ومِنْ دُونِ مَسْرَاها فَيَافٍ مَجَاهِلُ )
( إلى فِتيةٍ بالطَّفِّ نِيلَت سَرَاتُهم ... وغُودِر أَفراسٌ لهم وروَاحِلُ )
( وأَضْحَى أَبو جَبْرٍ خلاءً بيُوتُه ... وقد كان يَغْشاها الضِّعافُ الأرامِلُ )
( وأَضْحى بَنُو عمرو لدَى الجِسْر منهمُ ... إلى جانب الأبْيَات جُودٌ ونائِلٌ )
( وما لُمْتُ نفسِي فيهمُ غَيْرَ أَنّها ... لها أَجَلٌ لم يأْتِها وهو عاجِلُ )
( وما رِمتُ حتى خَرّقُوا بسِلاحهم ... إِهابي وجادَت بالدِّماءِ الأباجِل )
( وحتى رأيتُ مُهْرتي مُزْوَئِرّةً ... مِنَ النَّبْلِ يَدْمَى نَحْرُها والشّواكِلُ )
( وما رُحْتُ حتى كنتُ آخرَ رائحٍ ... وصُرِّع حولي الصّالِحُون الأماثِلُ )
( مَرَرْتُ على الأَنصارِ وَسْط رِحالِهم ... فقلتُ ألا هَلْ منكم اليوم قافِلُ )
( وقرَّبْتُ رَوَّاحاً وكُوراً ونُمرقاً ... وغُودِر في أُلَّيس بكْرٌ ووائِلُ )

( أَلا لَعن الله الذين يَسرُّهم ... رَدَايَ وما يَدْرون ما الله فاعِلُ )
قال الأخفش في روايته عن الأحول عن ابن الأعرابي عن المفضل قال أبو محجن في تركه الخمر
( رأيتُ الخَمر صالحةً وفيها ... مناقبُ تُهلِك الرّجل الحَليما )
( فلا واللهِ أشربُها حَيَاتي ... ولا أَسقي بها أبداً نَدِيماً )
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط عن الهيثم بن عدي وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا
دخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له أليس أبوك الذي يقول
( إذا مِتُّ فادفني إلى أصل كَرْمَةٍ ... تُروِّي عِظامي بعد مَوتي عُروقُها )
( ولا تَدْفِنَنِّي بالفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ ألاَّ أذوقُها )
فقال ابن أبي محجن لو شئت لذكرت ما هو أحسن من هذا من شعره قال وما ذاك قال قوله
( لا تَسألِي الناسَ عن مالي وكَثْرَتِه ... وسائلي الناسَ ما فِعْلي وما خُلُقي )
( أُعطِي السِّنانَ غداة الرَّوْعِ حِصته ... وعامِلَ الرُّمح أَرويه من العَلق )
( وأَطعن الطعنةَ النَّجلاءَ عن عُرُضٍ ... وأحفظُ السرَّ فيه ضَرْبةُ العُنقِ )

( عَفُّ المَطالب عمّا لستُ نائلَه ... وإن ظُلِمتُ شديدُ الحِقْد والحَنقَ )
( وقد أجودُ ومالي بذِي فَنَعٍ ... وقد أكرُّ وراء المُحجَر البَرِقِ )
( والقومُ أعلْم أني من سَراتِهمُ ... إذا سَما بَصَرُ الرِّعديدة الشّفِق )
( قد يُعسِر المرءُ حيناً وهو ذُو كَرَم ... وقد يَثوب سَوامُ العاجزِ الحَمِق )
( سيَكثُر المالُ يَوماً بعد قِلَّته ... ويكتسي العُودُ بعد اليُبس بالوَرَق )
فقال معاوية لئن كنا أسأنا لك القول لنحسنن لك الصفد ثم أجزل جائزته وقال إذا ولدت النساء فلتلد مثلك
عمر بن الخطاب يحدّه في شرب الخمر
أخبرني الحسن بن علي وعيسى بن الحسين الوراق قالا حدثنا ابن مهرويه قال حدثني صالح بن عبد الرحمن الهاشمي عن العمري عن العتبي قال أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجماعة فيهم أبو محجن الثقفي وقد شربوا الخمر فقال أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله ورسوله فقالوا ما حرمها الله ولا رسوله إن الله تعالى يقول
( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ) فقال عمر لأصحابه ما ترون فيهم فاختلفوا فيهم فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فشاوره فقال علي

إن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يَستحلّوا الميتة والدم ولحم الخنزير فسكتوا فقال عمر لعلي ما ترى فيهم قال أرى إن كانوا شربوها مستحلين لها أن يقتلوا وإن كانوا شربوها وهم يؤمنون أنها حرام أن يحدوا فسألهم فقالوا والله ما شككنا في أنها حرام ولكنا قدرنا أن لنا نجاة فيما قلناه فجعل يحدهم رجلاً رجلاً وهم يخرجون حتى انتهى إلى أبي محجن فلما جَلده أنشأ يقول
( ألم تَرَ أنّ الدهرَ يعثُر بالفتى ... ولا يستطيع المَرءُ صرفَ المَقادرِ )
( صَبرتُ فلم أجزَع ولم أكُ كائعاً ... لحادثِ دَهْر في الحُكومة جائرِ )
( وإني لذُو صَبر وقد مات إخوتي ... ولست عن الصهباء يَوماً بصابر )
( رَماها أميرُ المُؤمنين بحتْفِها ... فخُلاّنُها يبكون حول المَعاصرِ )
فلما سمع عمر قوله
( ولستُ عن الصّهْباء يوماً بصابر ... )
قال قد أبديت ما في نفسك ولأزيدنك عقوبة لإصرارك على شرب الخمر فقال له علي عليه السلام ما ذلك لك وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال لأفعلن وهو لم يفعل وقد قال الله في الشعراء ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فقال عمر قد استثنى الله منهم قوماً فقال ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فقال علي عليه السلام أفهؤلاء عندك منهم وقد قال رسول الله لا يشرب العبد الخمر حين يشربها وهو مؤمن )

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال
أخبرني من مر بقبر أبي محجن الثقفي في نواحي أذربيجان أو قال في نواحي جرجان فرأيت قبره وقد نبتت عليه ثلاثة أصول كرم قد طالت وأثمرت وهي معروشة وعلى قبره مكتوب هذا قبر أبي محجن الثقفي فوقفت طويلاً أتعجب مما اتفق له حتى صار كأمنية بلغها حيث يقول
( إذا مِتُّ فادْفِنِّي إلى أصلِ كَرْمةٍ ... تُروِّي عِظامي بعد مَوْتي عُروقُها )
( ألا يا لَقومي لا أرى النَّجْمَ طالعاً ... ولا الشّمسَ إِلاَّ حاجِبِي بيَمِينِي )
( مُعزِّيَتِي خَلْف القفا بعمُودِها ... فجُلُّ نكيري أَن أقولَ ذَرِيني )
( أمينٌ على أسرارِهنّ وقد أُرَى ... أكونُ على الأسرار غيرَ أمينِ )
( فلَلموتُ خيرٌ من حِداجٍ مُوَطَّأٍ ... مع الظُّعْنِ لا يأتي المحلَّ لحينِ )

عروضه من الطويل والمعزية امرأة تكون مع الشيخ الخَرِف تكلؤه وقوله
( أمينٌ على أسرارِهنّ . . ... . )
أي أن النساء صرن يتحدثن بين يدي بأسرارهن ويفعلن ما كن قبل ذلك يرهبنني فيه لأني لا أضرهن والحداج والحدج مركب من مراكب النساء
الشعر لزهير بن جناب الكلبي والغناء لأهل مكة ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن الهشامي وحبش وفيه لحنين ثاني ثقيل بالوسطى

أخبار زهير بن جناب ونسبه
زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة
شاعر جاهلي وهو أحد المعمرين وكان سيد بني كلب وقائدهم في حروبهم وكان شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة في غزواته وهو أحد من مل عمره فشرب الخمر صرفاً حتى قتلته
ولم يوجد شاعر في الجاهلية والإسلام ولد من الشعراء أكثر ممن ولد زهير وسأذكر أسماءهم وشيئاً من شعرهم بعقب ذكر خبره إن شاء الله تعالى
غزوة غطفان
قال ابن الأعرابي كان سبب غزوة زهير بن جناب غطفان أن بني بغيض حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم فتعرضت لهم صداء وهي قبيلة من مذحج فقاتلوهم وبنو بغيض سائرون بأهليهم ونسائهم وأموالهم فقاتلوا عن حريمهم فظهروا على صداء فأوجعوا فيهم ونكأوا وعزت بنو بغيض بذلك وأثرت وأصابت غنائم فلما رأوا ذلك قالوا أما والله لنتخذن حرماً مثل حرم مكة لا يقتل صيده ولا يعضد شجره ولا يهاج عائذه فوليت ذلك بنو مرة ابن عوف

ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رياح بن ظالم ففعلوا ذلك وهم على ماء لهم يقال له بس وبلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب وهو يومئذٍ سيد بني كلب فقال والله لا يكون ذلك أبداً وأنا حي ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً أبداً
فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم فذكر حال غطفان وما بلغه عنها وأن أكرم مأثرة يعتقدها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك ويحولوا بينهم وبينه فأجابوه واستمد بني القين من جشم فأبوا أن يغزوا معه فسار في قومه حتى غزا غطفان فقاتلهم فظفر بهم زهير وأصاب حاجته فيهم وأخذ فارساً منهم أسيراً في حرمهم الذي بنوه فقال لبعض أصحابه اضرب رقبته فقال إنه بسل فقال زهير وأبيك ما بسل علي بحرام
ثم قام إليه فضرب عنقه وعطل ذلك الحرم ثم من على غطفان ورد النساء واستاق الأموال وقال زهير في ذلك
( ولم تَصْبِر لنا غطفَانُ لَمّا ... تلاقَيْنا وأُحرِزَت النِّساءُ )
( فَلَوْلا الفَضْلُ منّا ما رَجَعتم ... إلى عذراءَ شِيمَتُها الحَياءُ )
( وكم غادَرتُمُ بَطَلاً كمِيّاً ... لدى الهَيْجَاء كان له غَنَاءُ )
( فدُونكم دُيوناً فاطْلبُوها ... وأوْتاراً ودُونكم اللِّقاءُ )
( فإِنّأ حَيْثُ لا نَخْفى عليكم ... لُيوثٌ حين يحتَضِرُ الِلّوَاء )
( فَخَلّي بعدَهَا غطفَانُ بُسّاً ... وما غَطَفَانُ والأَرض الفَضَاء )

( فقد أضْحى لِحَيّ بني جَنابٍ ... قضاءُ الأَرضِ والماءُ الرَّواءُ )
( ويصدُق طَعنُنَا في كلّ يوم ... وعِنْد الطّعن يُختبَر اللِّقاءُ )
( نَفيْنَا نَخْوَةَ الأَعداء عنّا ... بأَرْمَاحٍ أَسِنّتُها ظِماءُ )
( ولولا صبرُنا يوم التَقْينا ... لَقِينَا مِثل ما لقيتْ صُدَاءُ )
( غَداةَ تَعرّضوا لِبَني بغِيضٍ ... وصِدْقُ الطّعن للنَّوْكى شِفاءُ )
( وقد هَرَبَتْ حِذارَ الموتِ قَيْنٌ ... على آثارِ مَنْ ذَهَبَ العَفاءُ )
( وقد كُنّا رَجوْنا أن يُمِدّوا ... فأَخْلَفنا من أخْوتِنا الرَّجاءُ )
( وأَلهَى القَينَ عن نَصر الموالي ... حِلابُ النِّيبِ والمرعى الضَّرَاء )
وقال أبو عمرو الشيباني كان أبرهة حين طلع نجداً أتاه زهير بن جناب فأكرمه أبرهة وفضله على من أتاه من العرب ثم أمره على ابني وائل تغلب وبكر فوليهم حتى أصابتهم سنة شديدة فاشتد عليهم ما يطلب منهم زهير فأقام بهم زهير في الجدَبْ ومنعهم من النجعة حتى يؤدّوا ما عليهم فكادت مواشيهم تهلك فلما رأى ذلك ابن زيّابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وكان رجلاً فاتكاً بيت زهيراً وكان نائماً في قبة له من أدم فدخل فألْفى

زهيراً نائماً وكان رجلاً عظيم البطن فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير حتى أخرجه من ظهره مارقاً بين الصفاق وسلمت أعفاج بطنه وظن التيمي أنه قد قتله وعلم زهير أنه قد سلم فتخوف أن يتحرك فيجهز عليه فسكت وانصرف ابن زيابة إلى قومه فقال لهم قد والله قتلت زهيراً وكفيتكموه فسرهم ذلك ولما علم زهير أنه لم يقدم عليه إلا عن ملأ من قومه بكر وتغلب وإنما مع زهير نفر من قومه بمنزلة الشرط أمر زهير قومه فغيبوه بين عمودين في ثياب ثم أتوا القوم فقالوا لهم إنكم قد فعلتم بصاحبنا ما فعلتم فأذنوا لنا في دفنه ففعلوا فحملوا زهيراً ملفوفاً في عمودين والثياب عليه حتى إذا بعدوا عن القوم أخرجوه فلففوه في ثيابه ثم حفروا حفيرة وعمقوا ودفنوا فيها العمودين ثم ساروا ومعهم زهير فلما بلغ زهير أرض قومه جمع لبكر وتغلب الجموع وبلغهم أن زهيرا حي فقال ابن زباية
( طَعْنَةً ما طَعَنتُ في غَبَش اللَّيل ... زُهَيرا وقد تَوافَى الخُصومُ )
( حين تَجْبِي له المواسِمَ بَكرٌ ... أَينَ بَكْر وأَيْنَ منها الحُلومُ )
( خانَنِي السيفُ إذ طَعنتُ زُهَيْراً ... وهو سيفٌ مُضلِّل مَشؤومُ )
زهير يغزو بكراً وتغلب
قال وجمع زهير بني كلب ومن تجمع له من شُذاذ العرب والقبائل ومن أطاعه من أهل اليمن فغزا بكراً وتغلب ابني وائل وهم على ماء يقال له الحبي وقد كانوا نذروا به فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزمت بكر

وأسلمت بني تغلب فقاتلت شيئاً من قتال ثم انهزمت وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة واستيقت الأموال وقتلت كلب في تغلب قتلى كثيرة وأسروا جماعة من فرسانهم ووجوههم وقال زهير بن جناب في ذلك
( تَبّاً لِتَغْلبَ أنْ تُساقَ نِساؤُهم ... سَوْقَ الإماء إلى المواسِم عُطّلا )
( لحقتْ أوائِلُ خَيلِنا سَرَعانَهم ... حتى أسَرْنَ على الحُبَيّ مُهَلْهِلاً )
( إنَّا مُهَلْهِلُ مَا تَطِيشُ رِماحُنَا ... أيام تَنْقُفُ في يديْك الحَنْظَلاَ )
( وَلَّت حُمَاتُك هاربين من الوَغَى ... وبَقيتَ في حَلَق الحديد مُكبَّلاَ )
( فلئن قُهِرْتَ لقد أسرتُك عَنْوةً ... ولئن قُتِلْتَ لقد تَكُون مُؤَمَّلاَ )
وقال أيضاً يعير بني تغلب بهذه الوقعة في قصيدة أولها
حيِّ داراً تَغَيَّرت بالجَنابِ ... أقْفَرَتْ من كواعبٍ أترابِ )
يقول فيها

( أيْنَ أَيْنَ الفِرارُ من حذَر المَوْت ... وإذا يَتَّقُون بالأسلابِ )
( إذْ أسِرنَا مُهلْهِلاً وأخاهُ ... وابنَ عَمْرو في القِدِّ وابنَ شَهَابِ )
( وسَبَيْنا من تَغْلب كلَّ بَيْضاءَ ... رَقُودِ الضُّحى بَرُود الرُّضابِ )
( يَوْمَ يدعُو مُهلْهلٌ يا لَبَكْرها ... أهَذِي حفِيظَةُ الأحسابِ )
( وَيْحَكم وَيْحكم أُبيح حِماكُم ... يا بني تغْلبٍ أمَا من ضِرابِ )
( وهُمُ هاربُون في كلِّ فجٍّ ... كشَريد النَّعام فوقَ الرّوابِي )
( واستدارَت رَحَى المنَايَا عليهم ... بِلُيوثٍ من عامرٍ وجنَابِ )
( طَحَنتهم أرحاؤُها بطَحونٍ ... ذاتِ ظُفرٍ حدِيدَةِ الأنيابِ )
( فهُمُ بَيْن هارب ليس يأْلُوا ... وَقَتيلٍ مُعفّرٍ في التُّرابِ
( فضَل العِزُّ عِزُّنا حين نَسْمُوا ... مِثْل فَضْل السَّماء فَوْقَ السَّحاب )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عمي عن ابن الكلبي عن أبيه قال
وفد زهير بن جناب وأخوه حارثة على بعض ملوك غسان فلما دخلا عليه حدثاه وأنشداه فأعجب بهما ونادمهما فقال يوماً لهما إن أمي عليلة شديدة العلة وقد أعياني دواؤها فهل تعرفان لها دواء فقال حارثة كميرة حارة وكانت فيه لوثة فقال الملك أي شيء قلت فقال له زهير كميئة حارة تطعمها فوثب الملك وقد فهم الأولى والآخرة يريهما أنه يأمر بإصلاح

الكمأة لها وحلم عن مقالة حارثة وقال حارثة لزهير يا زهير اقلب ما شئت ينقلب فأرسلها مثلاً
بلغ عمراً طويلاً فكان يخرج تائهاً
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن الغيث الباهلي عن أبيه قال
كان من حديث زهير بن جناب الكلبي أنه كان قد بلغ عمراً طويلاً حتى ذهب عقله وكان يخرج تائها لا يدري أين يذهب فتلحقه المرأة من أهله والصبي فترده وتقول له إني أخاف عليك الذئب أن يأكلك فأين تذهب فذهب يوماً من أيامه ولحقته ابنة له فردته فرجع معها وهو يهدج كأنه رأل وراحت عليهم سماء في الصيف فعلتهم منها بغشة ثم أردفها غيث فنظر وسمع له الشيخ زجلاً منكراً فقال ما هذا يا بنية فقالت عارض هائل إن أصابنا دون أهلنا هلكنا فقال انعتيه لي فقالت أراه منبطحاً مسلنطحاً قد ضاق ذرعاً وركب ردعاً ذا هيدب يطير وهماهم وزفير ينهض نهض الطير

الكسير عليه مثل شباريق الساج في ظلمة الليل الداج يتضاحك مثل شعل النيران تهرب منه الطير وتوائل منه الحشرة قال أي بنية وائلي منه إلى عصر قبل أن لا عين ولا أثر
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني أحمد ابن عبيد عن ابن الكلبي عن مشيخة من الكلبيين قالوا
عاش زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله خمسين ومائتي سنة أوقع فيها مائتي وقعة في العرب ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى حن بن العذري ولم يكن في اليمن أشجع ولا أخطب ولا أوجه عند الملوك من زهير وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه
قال هشام ذكر حماد الراوية أن زهيرا عاش أربعمائة وخمسين سنة قال وقال الشرقي بن القطامي عاش زهير أربعمائة سنة فرأته ابنة له فقالت لابن ابنها خذ بيد جدك فقال له من أنت فقال فلان بن فلان بن فلانة فأنشأ يقول
( أبَنِيَّ إِنْ أهْلِكْ فقد ... أوْرَثْتُكُمْ مَجْداً بَنِيَّهْ )
( وَتَرَكْتُكُم أبناءَ ساداتٍ ... زنَادُكم وَرِيَّهْ )

( ولكُلُّ ما نالَ الفَتَى ... قد نِلْتُه إلا التَّحِيَّهْ )
( والموتُ خَيْرٌ لِلفَتَى ... فَلْيَهْلِكَنْ وبه بَقيَّهْ )
( مِن أنْ يُرَى الشَّيْخَ البَجالَ ... وَقَدْ تَهادَى بالعَشِيَّهْ )
( ولقد شَهِدتُ النَّارَ للأَسْلاف ... تُوقَد في طَمِيَّهْ )
( ولقد رَحَلْتُ البازِلَ الكَوْمَاء ... ليس لها وَلِيَّهْ )
( وخَطَبتُ خُطْبَةَ ماجِدٍ ... غَيْرِ الضَّعِيف ولا العَيِيَّهْ )
( ولقد غَدوتُ بمُشرِف القُطْرين ... لم يَغمِزْ شَظِيّهْ )
( فأصبتُ من بَقَر الجَناب ... ضُحىًومن حُمُرِ القَفِيَّهْ )
قال ابن الكلبي وقال زهير في كبره أيضاً
( ألا يالَقَوْمِي لا أرى النَّجم طَالِعاً ... ولا الشَّمسَ إلا حاجِبي بِيَميني )
( مُعَزِّبتِي عند القَفا بعَمُودِها ... فأَقْصَى نَكِيري أن أقول ذَرِيني )
( أمِينٌ على أسرَارِهِنَّ وقد أُرَى ... أكُونُ على الأسرارِ غَيرَ أمِينِ )

( فللْموتْ خيرٌ من حداجٍ مُوَطَّأٍ ... على الظُّعْن لا يأتي المحلَّ لحِينِ )
قال وقال زهير أيضاً في كبره
( إن تُنْسي الأيامُ إلا جلاَلةَ ... أمُتْ حين لا تأسَى عليَّ العوائِدُ )
( فَيأذَى بيَ الأدنى ويشْمت بي العدا ... ويأمَن كَيْدي الكاشِحُون الأباعدُ )
قال وقال زهير أيضاً
( لقد عُمِّرتُ حتى لا أُبالِي ... أحتْفي في صَباحِي أم مَسائي )
( وحُقَّ لمن أتَتْ مِائتَان عاماً ... عليه أنْ يملَّ من الثَّوَاء )
( شَهِدتُ المُوقدين على خَزَازى ... وبالسُّلاَّن جمْعاً ذا زُهاءِ )
( ونادمتُ المُلوكَ مِنَ آلِ عَمْرو ... وبعدهُمُ بني ماءِ السماءِ )
قال ابنُ الكلبي وكان زهير إذا قال ألا إن الحي ظاعن ظعنت قضاعة وإذا قال ألا إن الحي مقيم نزلوا وأقاموا فلما أن أسن نصب ابن أخيه عبد الله ابن عليم للرياسة في كلب وطمع أن يكون كعمه وتجتمع قضاعة كلها عليه فقال زهير يوماً ألا إن الحي ظاعن فقال عبد الله ألا إن الحي مقيم فقال زهير ألا إن الحي مقيم فقال عبد الله ألا إن الحي ظاعن فقال زهير من هذا المخالف علي منذ اليوم فقالوا ابن أخيك عبد الله بن عليم فقال أعدى الناس للمرء ابن أخيه إلا أنه لا يدع قاتل عمه أو يقتله ثم أنشأ يقول

( وكَيْفَ بِمَنْ لا أَستَطِيعُ فِراقَه ... ومَنْ هو إن لم تَجْمَعِ الدَّارُ آلِفُ )
( أمِيرُ شِقاقٍ إنْ أُقِم لا يُقِم مَعِي ... وَيَرْحَلْ وإن أرحَل يُقِم ويخالِفُ )
ثم شرب الخمر صرفا حتى مات
قال وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة
قال هشام عاش هبل بن عبد الله جد زهير بن جناب ستمائة سنة وسبعين وهو القائل
( يا رُبَّ يَومٍ قد غَنِي فيه هُبَلْ ... له نَوالٌ ودُرُورٌ وجَذَلْ )
( كأنَّه في العِزِّ عَوْفٌ أو حَجَلْ ... )
قال عوف وحجل قبيلتان من كلب
وقال أبو عمرو الشيباني كان الجلاح بن عوف السحمي قد وطأ لزهير بن جناب وأنزله معه فلم يزل في جناحه حتى كثر ماله وولده وكانت أخت زهير متزوجة في بني القين بن جسر فجاء رسولها إلى زهير ومعه برد فيه صرار رمل وشوكة قتاد فقال زهير لأصحابه أتتكم شوكة شديدة وعدد كثير فاحتملوا

فقال له الجلاح أنحتمل لقول امرأة والله لا نفعل فقال زهير
( أمَّا الجُلاحُ فإِنَّني فارقْتُه ... لا عن قِلىً ولقدتَشِطُّ بنا النَّوَى )
( فَلئن ظَعَنْتَ لأُصبِحَنَّ مُخَيِّماً ... ولَئنْ أقمتَ لأظعَنَنَّ على هَوَى )
حارب الجيش وقتل رئيساً منهم
قال فأقام الجلاح وظعن زهير وصبحهم الجيش فقتل عامةُ قوم الجلاح وذهبوا بماله
قال واسم الجلاح عامر بن عوف بن بكر بن عوف بن عامر بن عوف ابن عذرة
ومضى زهير لوجهه حتى اجتمع مع عشيرته من بني جناب وبلغ الجيش خبره فقصدوه فحاربهم وثبت لهم فهزمهم وقتل رئيساً منهم فانصرفوا عنه خائبين فقال زهير
( أمِن آلِ سَلْمى ذا الخَيالُ المُؤَرِّقُ ... وقد يَمِقُ الطيفَ الغريبُ المُشوَّقُ )
( وأَنَّى اهْتَدَت سَلمَى لِوَجْهِ محلِّنا ... وما دونها من مَهْمَه الأرض يَخفِقُ )
( فلم تَرَ إلا هاجعاً عند حُرَّةٍ ... على ظهرها كُورٌ عَتِيقٌ ونُمْرُقُ )
( ولمّا رَأتْني والطَّلِيحَ تبَسَّمَتْ ... كما انهلَّ أعْلَى عارضٍ يتألَّقُ )
( فحُيِّيتِ عَنَّا زَوِّدينا تحيَّةً ... لعلَّ بها العانِي من الكَبْل يُطْلَقُ )

( فردَّت سَلاماً ثم وَلت بحاجَةٍ ... ونحنُ لعَمْرِي يابْنَةَ الخَيْرِ أشْوَقُ )
( فيا طِيبَ ما رَيّا ويا حُسْنَ مَنْظَرٍ ... لَهَوْتُ به لو أنَّ رُؤْياكِ تَصْدُقُ )
( ويومَ أُثالَى قد عرفتُ رُسومَها ... فعُجْنا إليها والدُّموعُ تَرَقْرَقُ )
( وكادت تُبِينُ القَولَ لَمّا سأَلتُها ... وتُخْبرُني لو كانت الدارُ تَنْطِقُ )
( فيا دارَ سَلْمى هِجْتِ للعين عَبْرةً ... فماءُ الهوى يرفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ )
وقال زهير في هذه القصيدة يذكر خلاف الجلاح عليه
( أيا قَوْمَنا إن تَقْبَلوا الحَقَّ فاْنتَهوا ... وإلا فأنيابٌ من الحرب تَحْرُقُ )
( فجاؤوا إلى رَجْراجَةٍ مُكْفَهِرَّة ... يكاد المديرُ نحوَها الطَّرْفَ يَصْعَقُ )
( سُيوفٌ وأرماحٌ يأيدي أعزَّةٍ ... ومَوْضُونةٌ مِمَّا أفاد مُحَرِّقُ )
( فما بَرحُوا حتى تَرَكْنا رئيسَهم ... وقد مار فيه المَضْرَحِيُّ المُذَلَّقُ )
( وكائِنْ تَرَى من ماجِدٍوابْنِ مَاجدٍ ... له طَعْنةٌ نجلاءُ للوَجْه يشْهَقُ )
وقال زهير في ذلك أيضاً
( سائِل أُمَيْمَةَ عَنِّي هل وَفَيْتُ لها ... أم هل منعْتُ من المخْزاة جيرانا )
( لا يَمْنَع الضَّيفَ إلا ماجدٌ بطَلٌ ... إنَّ الكريم كريمٌ أينما كانا )
( لَمَّا أَبَى جِيرَتي إلا مُصَمِّمةً ... تكْسُو الوُجوه من المخْزاة ألوانَا )
( ملْنا عليهم بورد لا كفاء له ... يفْلقْن بالبيض تحت النَّقْع أبْدَانَا )

( إذا ارجَحَنُّوا عَلوْنا هامَهم قُدُماً ... كأنَّمَا نَخْتَلي بالهامِ خُطْبانَا )
( كم من كريم هَوَى للوَجْه مُنْعِفراً ... قد اكْتَسَى ثوبُه في النَّقْع ألوانَا )
( ومِنْ عَمِيدٍ تَنَاهَى بعد عَثرَته ... تَبدُو نَدامتُه للقَوْم خَزيانَا )

نماذج من أولاده الشعراء
وأما الشعراء من ولد زهير
فمنهم مصاد بن أسعد بن جنادة بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب وهو القائل
( تَمَنَّيْتَ أن تَلْقَى لِقاحَ ابن محْرزٍ ... وقبلك شامتها العُيونُ النّواظرُ )
( مُمَنَّحةٌ في الأقربين مُناخةً ... وللضّيف فيها والصِّديق مَعاقرُ )
( فهَلاَّ بَني عَيْناء عاينتَ جَمْعَهمْ ... بحالة إذ سُدَّت عليك المَصادرُ )
ومنهم حُريْثُ بن عامر بن الحارث بن امرئ القيس بن زهير بن جناب وهو القائل
( أرى قَوْمي بني قَطَنٍ أرادُوا ... بألاَّ يتركوا بِيَديَّ مالاَ )
( فإن لم أجْزِهم غَيْظاً بغَيْظٍ ... وأُورِدْهُم على عَجَلٍ شِلالاَ )
( فَلَيْتَ التَّغْلَبِيَّة لم تَلِدْني ... ولا أغْنَتْ بما ولدت قِبالا )
ومنهم الحزنبل بن سلامة بن زهير بن أسعد بن صهبان بن امرئ القيس

ابن زهير بن جناب وهو القائل
( عَبَثَت بمُنْخَرِق القَمِيص كأنَّه ... وَضَحُ الهِلال على الخُمُور مُعذلِ )
( يا سَلْمَ وَيْحكِ والخَلِيل مُعاتبٌ ... أزْمَعْتِ أن تَصِلي سِواي وتَبْخَلي )
( لَمَّا رأيتِ بعارضَيّ ولمَّتي ... غِيَرَ المَشيب على الشباب المُبْدَلِ )
( صَرَّمْتِ حَبْل فتىً يهشُّ إلى النَّدى ... لو تَطْلُبِين نداه لم يَتَعَلَّلِ )
( إنا لنَصْبر عند مُعترَك الوغَى ... ونَبُذُ مكرُمَة الكريمِ المُفْضِلِ )
ومنهم غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب وهو القائل
( أبلِغ أبَا عَمْروٍ وأنْتَ ... عليَّ ذُو النِّعَم الجَزِيلَهْ )
( أَنَّا مَنَعْنا أَنْ تَذِلَّ ... بلادُكُمْ وَبَنُو جَدِيلهْ )
( وطرقْتُهم لَيلاً أُخَبِّرهم ... بهم ومعِي وَصِيلَهْ )
( فصدَقْتُهُم خَبَري فَطارُوا ... في بِلادِهم الطَّوِيلَهْ )
ومنهم عرفجة بن جنادة بن أبي بن النعمان بن زهير بن جناب وهو القائل
( عفا أَبرقُ العَزَّاف من أُمّ جابرٍ ... فمُنْعَرجُ الوادي عفا فَحَفِيرُ )

( فرَوْضُ ثُوَيْر عن يمين رَوِيَّةٍ ... كأن لَمْ تَرَبَّعْه أوانِسُ حُورُ )
( رِقاقُ الثَّنَايا والوُجوه كأنها ... ظِباءُ الفلا في لَحْظِهِن فُتُورُ )
ومنهم المسيب بن رفل بن حارثة بن جناب بن قيس بن امرئ القيس ابن أبي جابر بن زهير بن جناب وهو القائل
( قَتلْنا يَزِيدَ بن المُهَلَّب بعد ما ... تَمَنّتُمُ أن يَغلِبَ الحَقَّ باطِلُهْ )
( وما كان منكم في العِراقِ مُنافِقٌ ... عن الدَّين إلا من قُضاعة قاتِلُه )
( تَجلَّله قَحْلٌ بأَبْيضَ صارِمٍ ... حُسامٍ جَلاَ عن شفرَتَيْه صَياقِلُه )
يعني بالقحل ابن عياش بن شمر بن أبي شراحيل بن غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب وهو الذي قتل يزيد بن المهلب
ومن بني زُهَير شعراء كثير ذكرت منهم الفحول دون غيرهم

صوت
( تَدَّعي الشوقَ إن نَأَتْ ... وتَجنَّى إذا دَنَتْ )
( سرَّني لو صَبَرتُ عنها ... فتُجزَى بما جَنَتْ )
( إنَّ سَلْمَى لو اتَّقَتْ ... رَبَّها فِيَّ أَنْجَزتْ )
( زَرَعت في الحَشَا الهَوَى ... وسقَتْه حتى نَبَتْ )

الشعر لمسلم بن الوليد والغناء لعريب خفيف ثقيل وقيل إنه لأبي العبيس بن حمدون وذكر الهشامي أن لإسحاق في إنّ سلمى وما بعده لحنا من الثقيل الأول بالبنصر

نسب مسلم بن الوليد وأخباره
وهو مسلم بن الوليد أبوه الوليد مولى الأنصار ثم مولى أبي أمامة أسعد بن زرارة الخزرجي يُلقب صريع الغواني شاعر متقدم من شعراء الدولة العباسية منشؤه ومولده الكوفة وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع هو لقب هذا الجنس البديع واللطيف وتبعه فيه جماعة وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فإنه جعل شعره كله مذهباً واحداً فيه ومسلم كان متفنناً متصرفاً في شعره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال قال أبو العباس محمد بن يزيد
كان مسلم شاعرا حسن النمط جيد القول في الشراب وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى وهو أول من عقد هذه المعاني الظريفة واستخرجها
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال سمعت أبي يقول أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد جاء بهذا الذي سماه الناس البديع ثم جاء الطائي بعده فتفنن فيه
مسلم ويزيد بن مزيد
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم الدينوري قال

كان مسلم بن الوليد وأخوه سليمان منقطعين إلى يزيد بن مزيد ومحمد ابن منصور بن زياد ثم الفضل بن سهل بعد ذلك وقلد الفضل مسلماً المظالم بجرجان فمات بها
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال
كان السبب في قول مسلم
( تَدّعِي الشوقَ إن نأَتْ ... وَتجَنَّى إذا دَنَتْ )
أنه علق جارية ذات ذكر وشرف وكان مَنزِلها في مهب الشمال من منزله وفي ذلك يقول
صوت
( أُحِبُّ الرَّيحَ ما هَبَّتْ شَمالا ... وأَحسُدُها إذا هَبَتْ جَنُوبا )
( أَهابُكِ أن أبوحَ بذاتِ نَفْسي ... وأفرَقُ إنْ سَأَلْتُكِ أن أخِيبا )
( وأهجُر صاحِبي حُبَّ التَّجَنِّي ... عليه إذا تَجَنّيْتِ الذُّنوبا )
( كأنّي حين أُغضِي عن سِواكمْ ... أخافُ لكم على عيْني رَقيبا )

غنى عبد الله بن العباس الربيعي في هذه الأبيات هزجاً بالبنصر عن الهشامي
قال وكانت له جارية يرسلها إليها ويبثها سره وتعود إليه بأخبارها ورسائلها فطال ذلك بينهما حتى أحبتها الجارية التي علقها مسلم ومالت إليها وكلتاهما في نهاية الحسن والكمال
وكان مسلم يحب جاريته هذه محبة شديدة ولم يكن يهوى تلك إنما كان يريد الغزل والمجون والمراسلة وأن يشيع له حديث بهواها وكان يرى ذلك من الملاحة والظرف والأدب فلما رأى مودة تلك لجاريته هجر جاريته مظهراً لذلك وقطعها عن الذهاب إلى تلك وذلك قوله
( وأَهْجُر صاحِبي حُبَّ التَجَنِّي ... عليه إذا تجنَّيْت الذُّنُوبا )
وراسلها مع غير جاريته الأولى وذلك قوله
( تَدَّعي الشوقَ إن نأتْ ... وتجنَّى إذا دنتْ )
( واعدتنا وأخلفتْ ... ثم ساءتْ فأحسنت )
( سرَّني لو صبرتُ عنها فتُجْزَى بما جنتْ )
( إنَّ سَلْمَى لو أتَّقت ... رَبّها فيّ أَنجزَتْ )
( زرعت في الحشا الهوى ... وسقته حتى نَبَتْ )

مسلم يختلف مع أبي نواس في الشعر
أخبرني الحسين بن يحي ومحمد بن يزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

لقي مسلم بن الوليد أبا نواس فقال له ما أعرف لك بيتاً إلا فيه سقط قال فما تحفظ من ذلك قال قل أنت ما شئت حتى أريك سقطه فيه فأنشده
( ذكر الصّبوحَ سُحَيرةً فارتاحا ... وأَمَلَّه دِيكُ الصبّاح صِيَاحَا )
فقال له مسلم فلم أمله وهو الذي أذكره وبه ارتاح فقال أبو نواس فأنشدني شيئاً من شعرك ليس فيه خلل فأنشده مسلم
( عاصَى الشَّبَابَ فراح غير مُفنَّد ... وأَقام بين عزيمة وتَجَلُّدِ )
فقال له أبو نواس قد جعلته رائحاً مقيماً في حال واحدة وبيت واحد فتشاغبا وتسابا ساعة وكلا البيتين صحيح المعنى
أخبرني جعفر بن قدامة قال قال لي محمد بن عبد الله بن مسلم حدثني أبي قال
اجتمع أصحاب المأمون عنده يوماً فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء فقال له بعضهم أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد قال حيث يقول ماذا قال حيث يقول وقد رثى رجلاً

( أرادوا ليُخْفوا قبرَه عن عَدُوِّه ... فَطِيبُ تُرابِ القبر دلّ عَلَى القَبْرِ )
وحيث مدح رجلاً بالشجاعة فقال
( يَجودُ بالنَّفْس إذْ ضَنَّ الجَواد بها ... والجُودُ بالنَّفْس أقْصَى غايةِ الجُودِ )
وهجا رجلاً بقبح الوجه والأخلاق فقال
( قَبُحَتْ مناظِرُه فحين خَبرتُه ... حَسُنَتْ مناظرُه لِقُبْح المَخْبَرِ )
( وتغازل فقال
( هَوىً يَجِدُّ وحَبيبٌ يَلَعَبُ ... أَنْتَ لَقىً بينهما مُعَذَّبُ )
فقال المأمون هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدثني قعنب بن المحرز وابن النطاح عن القحذمي قال
قال يزيد بن مزبد أرسل إلى الرشيد يوماً في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي فأتيته لابساً سلاحي مستعداً لأمر إن أراده فلما رآني ضحك إلي ثم قال يا يزيد خبرني من الذي يقول فيك
( تَراهُ في الأمْنِ في دِرْع مُضاعَفَة ... لا يأمَنُ الدَّهرَ أن يُدْعَى على عَجَلِ )
( صَافِي العِيان طَمُوحُ العَيْن هِمَّتُه ... فَكُّ العُناةِ وأَسْرُ الفَاتِك الخَطِل )
( لله من هاشِم في أرضِه جَبَلٌ ... وأنتَ وابنُك رُكْنَا ذلك الجَبَلِ )
فقلت لا أعرفه يا أمير المؤمنين قال سوءة لك من سيد قوم يمدح

بمثل هذا الشعر ولا تعرف قائله وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله وهو مسلم بن الوليد فانصرفت فدعوت به ووصلته ووليته

يزيد بن مزيد يأمر له بجائزة
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سليمان الحنفي ذو الهدمين قال حدثني أبي قال
دخل يزيد بن مزيد على الرشيد فقال له يا يزيد من الذي يقول فيك
( لا يَعبَقُ الطِّيبُ خَدَّيْه ومفرِقَه ... ولا يُمسِّح عَيْنَيه من الكُحُلِ )
( قد عَوَّدَ الطَّير عاداتٍ وَثِقْن بها ... فهُنَّ يَتْبَعْنه في كُلّ مُرْتَحَلِ )
فقال لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين فقال له هارون أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله فخرج من عنده خجلاً فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له من بالباب من الشعراء قال مسلم بن الوليد فقال وكيف حجبته عني فلم تعلمني بمكانه قال أخبرته أنك مضيق وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه وسألته الإمساك والمقام أياماً إلى أن تتسع قال فأنكر ذلك عليه وقال أدخله إلي فأدخله إليه فأنشده قوله
( أُجْرِرتُ حبلَ خَلِيع في الصِّبَا غَزِل ... وشَمَّرتْ هِمَمُ العُذَّالِ في عَذَلِي )
( رَدَّ البُكاءَ على العَيْن الطَّمُوحِ هَوىً ... مُفرَّقٌ بين تَوديعٍ ومُرْتَحَلِ )
( أَمَا كَفَى البَيْنَ أن أُرمَى بأَسْهُمِه ... حتى رَمانِي بلَحْظِ الأَعيُنِ النُّجُلِ )
( مما جَنَت لي وإن كانت مُنىً صَدَقَتْ ... صبَابَةً خُلَسُ التَّسلِبم بالمُقَلِ )
فقال له قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر فخرج

الحاجب فقال لمسلم قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم خمسون ألفاً لك خمسون ألفاً لنفقته وأعطاه إياها وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم وقال أقض الخمسين الألف التي أخذها الشاعر وزده مثلها وخذ مائة ألف لنفقتك فافتك ضيعته وأعطى مسلما خمسين ألفاً أخرى
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن عبيد الكوفي وعلي بن الحسن كلاهما قال أخبرني علي بن عمرو قال
حدثني مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغوائي قال كنت يوما جالسا في دكان خياط بإزاء منزلي إذ رأيت طارقاً ببابي فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قم فسررت به وكأن إنساناً لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما فدفعتهما إلي جاريتي وكتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السوق أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لي لحماً وخبزاً بشيء سميته فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترى لها ما قد حددته له وقد باع الخفين بتسعة دراهم فكأنها إنما جاءت بخفين جديدين فقعدت أنا وضيفي نطبخ وسألت جاراً لي أن يسقينا قارورة نبيذ فوجه بها إلي وأمرت الجارية بأن تغلق باب الدار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه ليبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف فإنا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق فقلت لجاريتي انظري من هذا فنظرت من شق الباب فإذا رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة ومعه شاكري فخبرتني بموضعه فأنركت أمره ثم رجعت إلى نفسي فقلت لست بصاحب دعارة ولا للسلطان على سبيل ففتحت الباب وخرجت إليه فنزل عن دابته وقال أأنت مسلم بن الوليد قلت نعم فقال كيف لي بمعرفتك قلت الذي دلك على منزلي يصحح لك معرفتي فقال لغلامه

امض إلى الخياط فسله عنه فمضى فسأله عني فقال نعم هو مسلم بن الوليد فأخرج إلي كتاباً من خفه وقال هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي يأمرني ألا أفضه إلا عند لقائك فإذا فيه أذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها تكون له في منزله وادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمل بها إلينا فأخذت الثلاثة والعشرة ودخلت إلى منزلي والرجل معي فأكلنا ذلك الطعام وازددت فيه وفي الشراب واشتريت فاكهة واتسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله وأخذت في الجهاز ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرقة إلى باب يزيد فدخل الرجل وإذا هو أحد حجابه فوجده في الحمام فخرج إلي فجلس معي قليلاً ثم خبر الحاجب بأنه قد خرج من الحمام فأدخلني إليه وإذا هو على كرسي جالس وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة وبيده هو مرآة ومشط يسرح لحيته فقال لي يا مسلم ما الذي بطأ بك عنا فقلت أيها الأمير قلة ذات اليد قال فأنشدني فأنشدته قصيدتي التي مدحته فيها
( أَجْرَرْتُ حَبل خَلِيع في الصَّبَا غزِلِ ... وشَمّرتْ هِمَمُ العُذّالِ في عَذَلِي )
فلما صرت إلى قولي
لا يعبَقُ الطِّيبُ خَدّيْه ومفرِقَه ... ولا يُمَسِّحُ عَيْنَيْه من الكُحُلِ )

وضع المرآة في غلافها وقال للجارية انصرفي فقد حرم علينا مسلم الطيب فلما فرغت من القصيدة قال لي يا مسلم أتدري ما الذي حداني إلى أن وجهت إليك فقلت لا والله ما أدري قال كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه إذ قال لي يا يزيد من القائل فيك
( سَلَّ الْخَلِيفَةُ سَيْفاً من بَني مَطَرٍ ... يَمضي فَيَخْتَرِمُ الأجسادَ والهاما )
( كالدَّهْر لا يَنْثَني عمّا يَهُمّ به ... قد أوسَعَ الناسَ إنعاماً وإرغاماً )
فقلت لا والله ما أدري فقال لي الرشيد يا سبحان الله أنت مقيم على أعرابيتك يقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله فسألت عن قائله فأخبرت أنك أنت هو فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين

الرشيد يجيزه ويحذره
ثم قام فدخل على الرشيد فما علمت حتى خرج علي الإذن فأذن فدخلت على الرشيد فأنشدته ما لي فيه من الشعر فأمر لي بمائتي ألف درهم فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة وتسعين ألفاً وقال لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين وأقطعني إقطاعات تبلغ غلتها مائتي ألف درهم
قال مسلم ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني فهجوته فشكاني إلى الرشيد فدعاني وقال أتبيعني عرض يزيد فقلت نعم يا أمير المؤمنين فقال لي بكم فقلت برغيف خبز فغضب حتى خفته على نفسي وقال قد كنت علي أن أشتريه منك بمال جسيم ولست أفعل ولا كرامة فقد علمت إحسانه إليك وأنا نفي من أبي ووالله ثم والله لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من بين فكيك فأمسكت عنه بعد ذلك وما ذكرته بخير ولا شر

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله اليعقوبي قال
حدثني البيدق الراوية وكان من أهل نصيبين قال دخلت دار يزيد بن مزيد يوما وفيها الخلق وإذا فتى شاب جالس في أفناء الناس ولم يكن يزيد عرفه بعد وإذا هو مسلم بن الوليد فقال لي ما في نفسي أن أقول شعراً أبداً فقلت ولم قال لأني قد مدحت هذا الرجل بشعر ما مدح بمثله قط ولست أجد من يوصله فقلت له أنشدني بعضه فأنشدني منه
( مُوفٍ على مُهَجٍ في يوم ذِي رَهَجٍ ... كأَنَّه أجَلٌ يَسْعَى إلى أمَلِ )
( يَقرِي السُّيوفَ نُفوسَ النَّاكِثِين به ... وَيَجْعَل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنَا الذُّبُلِ )
( لا يَعبَقُ الطِّيبُ خَدّيْه ومَفْرِقَه ... ولا يُمَسّح عَيْنَيْه من الكُحُلِ )
( إذا انتَضَى سيفَه كانت مسالِكُه ... مسالكَ المَوْت في الأجسام والقُلَلِ )
( وإن خَلَتْ بحَدِيث النَّفْسِ فِكرَتُه ... عاش الرّجاءُ ومات الْخَوْفُ من وَجَلِ )
( كاللّيث إن هِجْتَه فالمَوْتُ راحتُه ... لا يَسْتَريحُ إلى الأيّام والدُّوَلِ )
( للهِ من هاشم في أرضِه جَبَلٌ ... وَأنتَ وابْنُك رُكْناً ذَلك الجَبَلِ )
( صدّقْتَ ظَنِّي وصدَّقتَ الظُّنونَ به ... وَحَطَّ جُودُكَ عَقْدَ الرَّحْل عن جملي )
قال فأخذت منها بيتين ثم قلت له أنشدني أيضا ما لك فيه فأنشدني قصيدة أخرى ابتداؤها
( طيفَ الخيال حَمِدْنَا منكَ إلمامَا ... داوَيْتَ سُقْماً وقد هَيّجْتَ أسقامَا )
يقول فيها
( كالدّهْر لا يَنْثَنِي عَمّا يَهُمّ به ... قد أوسعَ النَّاس إنعاماً وإرغامَا )

قال فأنشدت هذه الأبيات يزيد بن مزيد فأمر له بخمسمائة درهم ثم ذكرته بالرقة فقلت له هذا الشاعر الذي قد مدحك فأحسن يقتصر به على خمسمائة درهم فبعث إليه بخمسمائة درهم أخرى قال فقال لي مسلم جاءتني وقد رهنت طيلساني على رؤوس الإخوان فوقعت مني أحسن موقع
أخبرني محمد بن عمران قال حدثنا العنزي عن محمد بن بدر العجلي عن إبراهيم بن سالم عن أبي فرعون مولى يزيد بن مزيد قال
ركب يزيد يوماً إلى الرشيد فتغلف بغالية ثم لم يلبث أن عاد فدعا بطست فغسل الغالية وقال كرهت أن أكذب قول مسلم بن الوليد
( لا يَعبَق الطِّيبُ خَدّيْهِ ومَفرِقَه ... ولا يُمَسِّح عَينَيْه من الكُحُلِ )
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال
كان مسلم بن الوليد جالساً بين يدي يزيد بن مزيد فأتاه كتاب فيه مهم له فقرأه سراً ووضعه ثم أعاد قراءته ووضعه ثم أراد القيام فقال له مسلم بن الوليد
( الحَزْمُ تَحْرِيقهُ إن كنت ذا حَذَر ... وإنَّما الحَزْم سُوءُ الظَّنِّ بالنَّاسِ )
( لقد أتاك وقد أَدّى أمانتَه ... فاجعل صِيانَتَه في بَطْنِ أرماسِ )
قال فضحك يزيد وقال صدقت لعمري وخرق الكتاب وأمر بإحراقه

حدثني عمي وجحظة قالا حدثنا علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدثني أبو محلم وحدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال
كان مسلم بن الوليد صديقاً ليزيد بن مزيد ومداحاً له فلما مات انقطع إلى ابنه محمد بن يزيد ومدحه كما مدح أباه فلم يصنع له خيراً ولم يرضه ما فعله به فهجره وانقطع عنه فكتب إليه يستحفيه ويلومه على انقطاعه عنه ويذكره حقوق أبيه عليه فكتب إليه مسلم
( لَبْستُ عَزاءً عن لِقاءِ محمدٍ ... وأَعرضتُ عنه مُنْصِفاً ووَدُودَا )
( وقُلتُ لنَفْسٍ قادَها الشَّوقُ نحوه ... فَعوَّضَها حُبُّ اللّقاء صُدودَا )
( هَبِيه امرأً قد كان أصْفاكِ وُدَّه ... فمات وإلاَّ فاحسُبيه يَزيدَا )
لَعَمْرِي لقد وَلَّى فلم ألقَ بعده ... وَفاءً لِذِي عَهْد يُعَدُّ حَمِيدَا )

رثاؤه يزيد بن مزيد
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني أحمد ابن محمد بن أبي سعد قال
أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية وهو يأكل فلما رفع الطعام من بين يديه وطئها فلم ينزل عنها إلا ميتاً وهو ببرذَعة فدفن في مقابر برذَعة

وكان مسلم معه في صحابته فقال يرثيه
( قَبرٌ ببَرْذَعة استَسَرَّ ضريحُه ... خَطَراً تقَاصَرُ دُونُه الأخْطارُ )
( أبقَى الزَّمانُ على رَبيعَةَ بعده ... حُزْناً كعُمر الدّهر لَيْس يُعارُ )
( سلكت بك العُربُ السَّبيلَ إلى العُلا ... حتى إذا بَلَغوا المَدَى بك حَارُوا )
ويروى
( حتى إذا سَبق الرَّدَى بك حاروا ... )
هكذا أنشده الأخفش
( نُفِضَتْ بك الأحلاس نَفْضَ إقامةٍ ... واسترجَعَت رُوَّادَها الأمصارُ )
( فاذهَبْ كما ذَهَبتْ غَوادِي مُزْنَةٍ ... أثنى عليها السَّهلُ والأوْعارُ )
نسخت من كتاب جدي يحي بن محمد بن ثوابة حدثني الحسن بن سعيد عن أبيه قال
كان داود بن يزيد بن حاتم المهلبي يجلس للشعراء في السنة مجلسا واحداً فيقصدونه لذلك اليوم وينشدونه فوجه إليه بن الوليد روايته بشعره الذي يقول فيه
( جعلتُه حيث تَرتابُ الرّياح به ... وتحسُد الطَّيرَ فيه أَضْبُعُ البِيدِ )
فقدم عليه يوم جلوسه للشعراء ولحقه بعقب خروجهم عنه فتقدم إلى

الحاجب وحسر لثامه عن وجهه ثم قال له استأذن لي على الأمير قال ومن أنت قال شاعر قال قد انصرم وقتك وانصرف الشعراء وهو على القيام
فقال له ويحك قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله قال وكان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع فقال هات حتى أسمع فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه فأنشده بعض القصيدة فسمع شيئاً يقصر الوصف عنه فدخل على داود فقال له قد قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيه مثله فقال أدخل قائلة فأدخله فلما مثل بين يديه سلم وقال قدمت على الأمير أعزه الله بمدح يسمعه فيعلم به تقدمي على غيري ممن امتدحه فقال هات فلما افتتح القصيدة وقال
( لا تَدْعُ بي الشَّوق إني غَيرُ مَعْمودِ ... نَهَى النُّهى عن هَوَى البيضِ الرَّعاديد )
استوى جالساً وأطرق حتى أتى الرجل على آخر الشعر ثم رفع رأسه إليه ثم قال أهذا شعرك قال نعم أعز الله الأمير قال في كم قلته يا فتى قال في أربعة أشهر أبقاك الله قال لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسناً
وقد اتهمتك لجودة شعرك وخمول ذكرك فإن كنت قائل هذا الشعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله وأمرت بالإجراء عليك فإن جئتنا بمثل هذا الشعر وهبت لك مائة ألف درهم وإلا حرمتك فقال أو الإقالة أعز الله الأمير قال أقلتك قال الشعر لمسلم بن الوليد وانا راويته الوافد عليك بشعره فقال أنا ابن حاتم إنك لما افتتحت شعره فقلت
( لا تَدْعُ بي الشَّوْقَ إنِّي غَيْرُ مَعْمودِ ... )
سمع كلام مسلم يناديني فأجبت نداءه واستويت جالساً ثم قال يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم واحمل الساعة إلى مسلم مائة ألف درهم
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى العبدي قال أخبرني موسى بن عبد الله التميمي قال

الفضل بن سهل يوليه جرجان
دخل مسلم بن الوليد الأنصاري على الفضل بن سهل لينشده شعراً فقال له أيها الكهل إني أجلك عن الشعر فسل حاجتك قال بلى تستتم اليد عندي بأن تسمع فأنشده
( دُموعُها من حِذارِ البَيْن تَنْسكِبُ ... وقَلبُها مُغرَمٌ من حَرّها يَجِبُ )
( جدَّ الرَّحِيلُ به عنها ففارَقَها ... لَبَيْنِه اللَّهوُ واللَّذَّاتُ والطّربُ )
( يَهْوَى المَسِيرَ إلى مَرْوٍ ويَحزُنُه ... فِراقُها فهو ذو نَفْسَيْن يرتَقِبُ )
فقال له الفضل إني لأجلك عن الشعر قال فأغني بما أحببت من عملك فولاه البريد بجرجان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسين بن أبي السري وأخبرني بهذه الأخبار محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الوراق عن الحسين بن أبي السري قال قيل لمسلم بن الوليد أي شعرك أحب إليك قال إن في شعري لبيتاً أخذت معناه من التوراة وهو قولي
( دَلَّت على عَيْبِها الدُّنْيَا وصَدَّقَها ... ما استَرْجَع الدَّهرُ ممّا كان أَعْطاني )
قال الحسين وحدثني جماعة من أهل جرجان أن راوية مسلم جاء إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره فتغافله مسلم ثم أخذ منه الدفتر الذي في يده فقذف به البحر فلهذا قل شعره فليس في أيدي الناس منه إلا ما كان بالعراق وما كان في أيدي الممدوحين من مدائحهم
قال الحسين وحدثني الحسين بن دعبل قال قال أبي لمسلم ما معنى قولك

( لا تَدْعُ بي الشّوقَ إنّي غَيرُ مَعْمُود ... )
قال لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك وكان يلقب هذا اللقب وكان له كارهاً
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال عتب عيسى بن داود على مسلم بن الوليد فهجره وكان إليه محسناً فكتب إليه مسلم
( شَكرتُك للنُّعْمى فلمّا رَمَيْتَني ... بِصدِّكَ تأديباً شكرتُك في الهَجْرِ )
( فعِنديَ للتَّأديب شُكْرٌ وللنّدى ... وإن شِئْت كان العَفْوُ أَدْعى إلى الشُّكرِ )
( إذا ما اتّقاك المستليمُ بعُذْرِه ... فَعفْوك خَيْر من مَلامٍ على عُذْرِ )
قال فرضي عنه وعاد إلى حاله

دعبل يقول كان مسلم من أبخل الناس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن الأشعث قال حدثني دعبل بن علي قال
كان مسلم بن الوليد من أبخل الناس فرأيته يوماً وقد استقبل الرضا عن غلام بعد موجدة فقال له قد رضيت عنك وأمرت لك بدرهم

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمرو بن سعيد قال
خرج دعبل إلى خراسان لما بلغه خطوة مسلم بن الوليد عند الفضل بن سهل فصار إلى مرو وكتب إلى الفضل بن سهل
( لا تَعْبَأَنْ بِابْن الوَليد فإنه ... يرمِيك بعد ثَلاثَةٍ بمَلالِ )
( إنَّ المَلُولَ وإن تَقَادَم عَهْدُه ... كانت مَودَّتُه كَفيْءِ ظِلالِ )
قال فدفع الفضل إلى مسلم الرقعة وقال له انظر يا أبا الوليد إلى رقعة دعبل فيك فلما قرأها قال له هل عرفت لقب دعبل وهو غلام أمرد وهو يفسق به قال لا قال كان يلقب بمياس ثم كتب إليه
( مَيَّاسُ قل لي أينَ أنْتَ من الوَرَى ... لا أنتَ مَعلومٌ ولا مجْهولُ )
( أمّا الهِجاءُ فدَقَّ عِرضك دونَه ... والمَدْح عنك كما عَلِمْتَ جَليلُ )
( فاذهَبْ فأنتَ طَلِيقُ عِرضك إنّه ... عِرضٌ عزَزْتَ به وأنتَ ذلِيلُ )
أخبرني محمد بن الحسين الكندي الكوفي مؤدبي قال حدثني أزهر بن محمد قال
حدثني الحسين بن دعبل قال سمعت أبي يقول بينا أنا جالس بباب الكرخ إذ مرت بي جارية لم أر أحسن منها وجهاً ولا قداً تتثنى في مشيها وتنظر في أعطافها فقلت متعرضاً لها
( دُمُوع عيينِي بها انْبِساطٌ ... ونَومُ عيني به انْقِباضُ )
فأجابتني بسرعة فقالت
( وذا قليلٌ لمَن دَهَتْه ... بلَحْظِها الأعيُنُ المِراضُ )

فأدهشتني وعجبت منها فقلت
( فهل لِموْلاَي عَطفُ قَلْبٍ ... ولِلَّذي في الحَشَا انقِراضُ )
فأجابتني غير مُتوقَّفة فقالت
( إن كُنتَ تهوى الوِدادَ منا ... فالوُدُّ في دِيننا قِراضُ )
قال فما دخل أذني كلام قط أحلى من كلامها ولا رأيت أنضر وجهاً منها فعدلت بها عن ذلك الشعر وقلت
( أتُرى الزَّمانُ يَسرُّنا بتَلاقِ ... ويَضُمُّ مُشتَاقاً إلى مُشْتاقِ )
فأجابتني بسُرعة فقالت
( ما لِلزَّمانِ وللتَّحكُّم بيننا ... أنتَ الزَّمان فسُرَّنا بتَلاقِ )
قال فمضيت أمامها أؤمّ بها دار مسلم بن الوليد وهي تتبعني فصرت إلى منزله فصادفته على عسرة فدفع إلي منديلاً وقال اذهب فبعه وخذ لنا ما نحتاج إليه وعد فمضيت مسرعاً فلما رجعت وجدت مسلماً قد خلا بها في سرداب فلما أحس بي وثب إلي وقال عرفك الله يا أبا علي جميل ما فعلت ولقاك ثوابه وجعله أحسن حسنة لك فغاظني قوله وطنزه وجعلت أفكر أي شيء أعمل به فقال بحياتي يا أبا علي أخبرني من الذي يقول
( بِتُّ في دِرْعِها وبات رفيقِي ... جُنُب القَلبْ طاهرَ الأطْرافِ )
فقلت
( مَنِ لَهُ في حِرِ أُمِّه ألفُ قَرْنٍ ... قد أنافَت على عُلُوِّ مناف )

وجعلت أشتمه وأثب عليه فقال لي يا أحمق منزلي دخلت ومنديلي بعت ودراهمي أنفقت على من تحرد أنت وأي شيء سبب حردك يا قواد فقلت له مهما كذبت علي فيه من شيء فما كذبت في الحمق والقيادة

نماذج من هجائه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه والعنزي عن محمد ابن عبد الله العبدي قال
هجا مسلم بن الوليد سعيد بن سلم ويزيد بن مزيد وخزيمة بن خازم فقال
( ديُونُك لا يُقضَى الزَّمان غَريمُها ... وبخلُك بُخلُ الباهِلِيِّ سعِيدِ )
( سَعيدُ بنُ سَلْم أبخلُ النّاس كُلِّهم ... وما قَومُه من بُخْلِه بِبَعيد )
( يَزيدُ له فَضْلٌ ولكنَّ مَزْيَداً ... تَدارَك فينا بخلُه بِيَزِيد )
( خُزيمةٌ لا عَيْبٌ له غيرَ أنه ... لمطبخه قُفِلٌ وباب حَدِيدِ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثنا الأصمعي قال
قال لي سعيد بن سلم قدمت علي امرأة من باهلة من اليمامة فمدحتني

بأبيات ما تم سروري بها حتى نغصنيها مسلم بن الوليد بهجاء بلغني أنه هجاني به فقلت ما الأبيات التي مدحت بها فأنشدني
( قُتَيْبَةُ قَيْسٍ ساد قَيْساً وسَلْمها ... فلما تَولَّى ساد قَيْساً سعيدُها )
( وسَيِّدُ قَيْس سَيّدُ النّاسِ كلّهم ... وإن مات من رَغْمِ وذُلِّ حَسودُها )
( هُمُ رفعوا كَفَّيْك بالمَجْد والعُلا ... ومَنْ يرفَعُ الأبناءَ إلا جُدودُها )
( إذا مدّ للعليا سَعِيدٌ يَمينَه ... ثنت كَفُّه عنها أَكْفّاً تُريدُها )
قال الأصمعي فقلت له فبأي شيء نغصها عليك مسلم فضحك وقال كلفتني شططاً ثم أنشد
( وأَحببتُ من حُبِّها الباخِلينَ ... حتى ومِقْتُ ابنَ سَلم سعيدا )
( إذا سِيلَ عُرفاً كسا وَجهَه ... ثِياباً من النَّقْع صُفْراً وسُودَا )
( يَغار على المَالِ فِعْل الجَواد ... وتأْبى خلائِقُه أن يَجُودَا )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني النوشجاني الخليل بن أسد قال حدثني علي بن عمرو قال
وقف بعض الكتاب على مسلم بن الوليد وهو ينشد شعراً في محفل فأطال ثم انصرف وقال لرجل كان معه ما أدري أي شيء أعجب الخليفة والخاصة من شعر هذا فوالله ما سمعت منه طائلاً فقال مسلم ردوا علي الرجل فرد إليه فأقبل عليه ثم قال
( أَمّأ الهِجاءُ فدَقَّ عِرضُك دونه ... والمدْحُ عنك كما علِمْتَ جليلُ )
( فاذْهبْ فأنتَ طَليقُ عِرْضِك إنه ... عِرضٌ عَززْت به وأنت ذليلُ )

دعبل يأخذ عن مسلم ويستقي من بحره
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الوراق قال حدثني الحسين بن أبي السري قال
كان مسلم بن الوليد أستاذ دعبل وعنه أخذ ومن بحره استقى وحدثني دعبل أنه كان لا يزال يقول الشعر فيعرضه على مسلم فيقول له إياك أن يكون أول ما يظهر لك ساقطاً فتعرف به ثم لو قلت كل شيء جيداً كان الأول أشهر عنك وكنت أبداً لا تزال تعير به حتى قلت
( أينَ الشَّبابُ وأيّةَ سَلَكا ... )
فلما سمع هذه قال لي أظهر الآن شعرك كيف شئت
قال الحسين وحدثني أبو تمام الطائي قال
ما زال دعبل متعصباً لمسلم مائلاً إليه معترفاً بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وهجره دعبل فكتب إليه
( أبا مَخْلَدٍ كُنَّا عَقِيدَيْ مَوَدّة ... هَوانَا وقَلْبانا جَميعاً مَعاً مَعَا )
( أحوطُك بالغَيْب الذي أنتَ حائِطي ... وأَجزَعُ إشفاقاً بأَنْ تَتَوَجَّعا )
( فصَيَّرتَني بعد انْتِكاثِك مُتْهِماً ... لنفسي عليها أرهَبُ الخَلْق أَجْمَعَا )
( غَشَشْتَ الهوى حتى تداعَتْ أُصولُه ... بنا وابتَذَلْتَ الوَصلَ حتى تَقطَّعا )
( وأنزلتَ من بين الجَوانحِ والحَشا ... ذَخِيرَةَ وُدِّ طال ما قد تمنَّعَا )
( فلا تَلْحَيَنِّي ليس فيك مَطْمَع ... تَخرَّقْتَ حتى لم أجِد لك مَرْقَعَا )
( فَهبْك يَمِيني استأكَلَتْ فَقَطَعَتُها ... وجَشَّمتُ قلبي صَبرَه فَتَشَجَّعَا )
قال ثم تهاجرا بعد ذلك فما التقيا حتى ماتا
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال أخبرني أحمد بن أبي

أمية قال لقي أخي محمد بن أمية مسلم بن الوليد وهو يتثنى ورواته مع بعض أصحابه فسلم عليه ثم قال له قد حضرني شيء فقال هاته قال على أنه مزاح ولا تغضب قال هاته ولو كان شتما فأنشدته
( من رَأى فيما خَلاَرَجُلا ... تِيهُه أَربَى على جِدَتِهْ )
( يتَمَشَّى راجِلاً وله ... شاكرِيّ في قُلَنْسِيتهِ )
فسكت عنه مسلم ولم يجبه وضحك ابن أبي أمية وافترقا
قال وكان لمحمد برذون يركبه فنفق فلقيه مسلم وهو راجل فقال ما فعل برذونك قال نفق قال فنجازيك إذا على ما أسلفتناه ثم أنشده
( قل لابن مَيٍّ لا تُكُن جازِعاً ... لن يَرْجع البِرْذَوْنُ باللَّيْتِ )
( طامنَ أحشاءك فِقدانُه ... وكُنْتَ فيه عالِيَ الصَّوتِ )
( وكُنتَ لا تَنْزِل عن ظَهْره ... ولو من الحُشِّ إلى البَيْتِ )
( ما مات من سُقْم ولكِنَّه ... ماتَ من الشَّوقِ إلى المَوْتِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن سعيد الحريري أن أبا تمام حلف ألا يصلي حتى يحفظ شعر مسلم وأبي نواس فمكث شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما قال ودخلت عليه فرأيت شعرهما بين يديه فقلت له ما هذا فقال اللات والعُزَّى وأنا أعبدهما من دون الله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني سمعان بن عبد الصمد قال حدثني دعبل بن علي قال
كان أبو نواس يسألني أن أجمع بينه وبين مسلم بن الوليد وكان مسلم

يسألني أن أجمع بينه وبين أبي نواس وكان أبو نواس إذا حضر تخلف مسلم وإذا حضر مسلم تخلف أبو نواس إلى أن اجتمعا فأنشده أبو نواس
( أجارَةَ بَيْتَيْنا أبُوكِ غَيُورُ ... وَمَيْسُور ما يُرْجَى لَدَيْكِ عَسيرُ )
وأنشده مسلم
( للهِ من هاشِمٍ في أرْضِه جَبَلٌ ... وأنتَ وابنُكَ رُكْنَاً ذَلِك الْجَبَلِ )
فقلت لأبي نواس كيف رأيت مسلماً فقال هو أشعر الناس بعدي
وسألت مسلماً وقلت كيف رأيت أبا نواس فقال هو أشعر الناس وأنا بعده
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن عبد الخالق الأنصاري من ولد النعمان بن بشير قال حدثني مسلم بن الوليد قال وجه إلي ذو الرياستين فحملتُ إليه فقال أنشدني قولك
( بالغَمْرِ من زَينبَ أَطْلاَلُ ... مَرَّتْ بها بعدك أحوالُ )
فأنشدته إياها حتى انتهيت إلى قولي
( وقائلٍ ليست له هِمَّةٌ ... كلاَّ ولكن لَيس لي مالُ )
( وهِمَّةُ المُقْتِرِ أُمْنِيَّةٌ ... هَمٌّ مع الدَّهر وأشْغال )
( لا جِدَةٌ أُنْهِضُ عَزْمي بها ... والناسُ سُؤَّالٌ وبُخَّالُ )

( فاقعُد مع الدَّهر إلى دَوْلَةٍ ... ترفَعُ فيها حَالَك الحَالُ )
قال فلما أنشدته هذا البيت قال هذه والله الدولة التي ترفع حالك وأمر لي بمال عظيم وقلدني أوقال قبلني جوز جرجان
الرشيد يهدّده بسبب الهجاء
حدثني جحظة قال حدثني ميمون ين هارون قال
كان مسلم بن الوليد قد انحرف عن معن بن زائدة بعد مدحه إياه لشيء أوحشه منه فسأله يزيد بن مزيد أن يهبه له فوعده ولم يفعل فتركه يزيد خوفاً منه فهجاه هجاءً كثيراً حتى حلف له الرشيد إن عاود هجاءه قطع لسانه فمن ذلك قوله فيه
( يا مَعْنُ إنك لم تزل في خَزْيَةٍ ... حتى لفَفتَ أباكَ في الأكفان )
( فاشْكُر بَلاءَ المَوتِ عِنْدَك إنّه ... أودى بلُؤْم الحَيّ من شَيْبَانِ )
قال وهجا أيضاً يزيد بن مزيد بعد مدحه إياه فقال

( أيزِيدُ يا مَغْرورُ ألأمَ مَنْ مَشَى ... تَرْجُو الفَلاحَ وأنتَ نُطْفَة مَزْيَدِ )
( إن كنُتَ تُنكِر منْطِقي فاصرُخ به ... يَوْمَ العَرُوبة عند بابِ المَسْجِدِ )
( في مَنْ يَزِيدُ فإن أصبتَ بِمَزْيدٍ ... فَلْساً فَهَاكَ على مُخاطرةٍ يَدِي )
هكذا روى جحظة في هذا الخبر والشعران جميعاً في يزيد بن مزيد فالأول منهما أوله
( أيَزِيدُ إنّك لم تَزَل في خَزْيَةٍ ... )
وهكذا هو في شعر مسلم ولم يلق مسلم معن بن زائدة ولا له فيه مدْح ولا هجاء
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن جشم قال
كان يزيد بن مزيد قد سأل مسلم بن الوليد عما يكفيه ويكفي عياله فأخبره فجعله جراية له ثم قال ليس هذا مما تحاسب به بدلاً من جائزة أو ثواب مديح فكان يبعث به إليه في كل سنة فلما مات يزيد رثاه مسلم فقال
( أحقّاً أنّه أودَى يَزِيدُ ... تَبيّنْ أيُّها النَّاعِي المُشِيدُ )
( أتَدْرِي من نَعَيْتَ وكيف دَارَت ... به شَفَتاك دار بها الصَّعِيدُ )
( أحامِي المَجْدِ والإِسْلامِ أودَى ... فما لِلأَرْض وَيْحك لا تَمِيدُ )
( تأمَّلْ هل تَرَى الإِسْلامَ مالت ... دعائِمُه وهل شابَ الولِيدُ )

( وهل شِيمَت سُيوفُ بَني نِزار ... وهل وُضِعَت عن الْخَيْل اللُّبودُ )
( وهل تَسْقِي البِلادَ عُشَارُ مُزْنٍ ... بدِرَّتِها وهل يَخْضَرّ عُودُ )
( أما هُدّت لمَصْرعِه نِزارٌ ... بلى وتقوَّض المَجْدُ المَشِيدُ )
( وحلَّ ضَرِيحَه إذ حل فيه ... طرِيفُ المَجْد والْحَسَبُ التَّلِيدُ )
( أما والله ما تنفَكُّ عَيْنِي ... عليك بدَمْعِها أبداً تَجودُ )
( وإن تَجْمُدْ دُموعُ لَئِيم قومٍ ... فليس لدَمْع ذي حَسَبٍ جُمودُ )
( أبعْد يَزيدَ تَخْتَزِنُ البَواكِي ... دُموعاً أو تُصَانُ لها خُدُودُ )
( لَتبْكِكَ قُبّةُ الإِسلام لَمَّا ... وَهَتْ أطنابُها ووَهَى العَمُودُ )
( ويبكِكَ شاعِرٌ لم يُبقِ دَهْرٌ ... له نَشَبَاً وقد كَسَد القَصِيدُ )
( فإِن يَهْلِك يَزِيدُ فكُلُّ حَيٍّ ... فَرِيس للمَنِيَّةِ أو طَرِيدُ )
هكذا في الخبر والقصيدة للتيمي

يمدح الفضل بن سهل ثم يرثيه
أخبرني محمد بن يحي الصولي قال حدثنا الهشامي قال حدثني

عبد الله بن عمرو قال حدثني موسى بن عبد الله التميمي قال دخل مسلم بن الوليد على الفضل بن سهل فأنشده قوله فيه
( لو نَطَق الناسُ أو أنْبَوْا بعلمهمُ ... ونَبَّهتْ عن مَعالِي دَهْرِكَ الكُتبُ )
( لم يَبلُغوا منك أدْنى ما تَمُتُّ به ... إذا تفاخرت الأملاكُ وانْتَسَبُوا )
فأمر له عن كل بيت من هذه القصيدة بألف درهم
ثم قتل الفضل فقال يرثيه
( ذَهَلْتُ فلم أنقَع غَلِيلاً بعَبْرةٍ ... وأكبرتُ أن ألقى بيَوْمك ناعِيَا )
( فلمَّا بَدَا لي أنّه لاعِجُ الأسَى ... وأنْ لَيْسَ إلا الدَّمعُ للحُزْنِ شافِيَا )
( أقمتُ لك الأنواحَ تَرتَدُّ بينها ... مآتِمُ تندبنَ النَّدَى والمَعَالِيا )
( وما كان مَنْعَى الفَضْل مَنْعَاةَ وَاحِدٍ ... ولكنّ مَنْعَى الفَضْل كان مَناعِيا )
( أَللبَأْسِ أم للِجُود أم لمُقَاوِمٍ ... من المُلكِ يَزْحَمْن الجبالَ الرَّوَاسِيَا )
( عَفَتْ بَعدَك الأيَّام لا بل تَبدَّلت ... وكُنّ كأعْيَادٍ فعُدْن مَباكِيَا )
( فلم أرَ إلاَّ قَبْل يَوْمِك ضاحِكاً ... ولم أرَ إلا بَعْد يَوْمِك باكِيَا )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا محمد بن عجلان قال حدثنا يعقوب بن السكيت قال أخبرني محمد بن المهنأ قال
كان العباس بن الأحنف مع إخوان له على شراب فذكروا مسلم بن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45