كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( بَرَى اللَّحمَ عن أحناءِ عظمي ومَنْكبِي ... هَوًى لسُلَيمى في الفؤاد المعذَّبِ )
( وإني سعيدٌ أَنْ رأتْ لكِ مرّة ... من الدّهر عيني منزلاً في بَنِي أبي )
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال
غنى علويه بين يدي الواثق يوما

صوت
( خليلٌ لي سأهجُرُه ... لذنبٍ لستُ أذكُرُه )
( ولكنَي سأرعاه ... وأكتُمه وأستُره )
( وأُظهِرُ أنّني راضٍ ... وأَسكُتُ لا أُخَبِّرُه )
( لكي لا يعلمَ الواشي ... بما عندي فأَكسِرُه )
الشعر والغناء لإسحاق هزج بالوسطى قال فطرب الواثق طربا شديدا واستحسن اللحن وأمر لعلويه بألف دينار ثم قال أهذا اللحن لك قال لا يا أمير المؤمنين هو لهذا الهزبر يعني إسحاق قال وكان إسحاق حاضرا فضحك الواثق وقال قد ظلمناه إذا وأمر لإسحاق بثلاثين ألف درهم
أخبرنا علي بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه عن أبيه قال
كان إسحاق عند الفتح بن الحجاج الكرخي وعلويه حاضر فغناه علويه حاضر
صوت
( عَلِقتُكِ ناشئاً حتّى ... رأيتِ الرأسَ مُبْيَضَّا )
( على يُسْرٍ وإعسارٍ ... وفَيْض نوالِكم فَيْضا )

( ألاَ أحبِب بأرضٍ كنت ... ِ تحتَلِّينَها أرضا )
( وأهلَكِ حبَّذا ما هم ... وإن أَبدَوْا لِيَ البُغضَا )
الشعر لابن أذينة
والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لإسحاق هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا
وفيه للأبجر ثقيل أول ولإبراهيم الموصلي رمل جميع ذلك عن الهشامي
قال فغناه إياه في الثقيل ثم غناه هزجا فقال له الفتح لمن الثقيل فقال لابن سريج قال فلمن الهزج قال لهذا الهزبر يعني إسحاق فقال له الفتح ويلك يا إسحاق أتعارض ثقيل ابن سريج بهزجك قال فقبض إسحاق على لحيته ثم قال على ذلك فوالله ما فاتني إلا بتحريكه الذقن

المعتصم يخطئ في شعر فيصوبه له
أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني إسحاق قال
دخلت يوما على المعتصم وعنده إسحاق بن إبراهيم بن مصعب واستدناني فدنوت منه واستدناني فتوقفت خوفا من أن أكون موازيا في

المجلس لإسحاق بن إبراهيم ففطن المعتصم فقال إن إسحاق لكريم وإنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه
ثم تحدثنا وأفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذلي
( حَمِدتُ إلهي بعد عُرْوةَ إذ نجا ... خِراشٌ وبعضُ الشرّ أهونُ من بعض )
فأنشدها المعتصم إلى آخرها وأنشد فيها
( ولم أَدْرِ مَنْ أَلْقَى عليه رِداءَه ... سوى أنه قد حُطّ عن ماجدٍ مَحْضِ )
والرواية قد بزعن ماجد محض فغلطت وأسأت الأدب فقلت يا أمير المؤمنين هذه رواية الكتاب وما أخذ عن المعلم والصحيح بز عن ماجد محض فقال لي نعم صدقت وغمزني بعينه يحذرني من إسحاق وفطنت لغلطي فأمسكت وعلمت أنه قد أشفق علي من بادرة تبدر من إسحاق لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته ويطيل حبسه كائنا من كان فنبهني رحمه الله على ذلك حتى أمسكت وتنبهت
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال قال عبيد الله بن معاوية قال عمرو ابن بانة
كنا عند المأمون فقال ما أقل الهزج في الغناء القديم وقال

إسحاق ما أكثره ثم غناه نحو ثلاثين صوتا في الهزج القديم
فقلت لأصحابي هذا الذي تزعمون أنه قليل الرواية
أخبرنا يحيى قال حدثنا أبي عن إسحاق قال
قال لي العباس بن جرير قاتلك الله مذكر فطنة ومؤنث طبيعة ما أمكرك
حدثنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد عن إسحاق قال
أنشدت بعض الأعراب شعرا لي أقول فيه
( أجَرَتْ سوابقُ دمعِك المُهْرَاقِ ... لمّا جرى لك سانحٌ بِفرَاقِ )
( إنّ الظعائنَ يومَ ناصِفةِ اللِّوَى ... هاجتْ عليك صبابةَ المُشتاق )
( لم أَنْسَ إذ ألْمَحْنَنَا في رِقْبةٍ ... منهنّ بيضَ ترائبٍ وتَرَاقِ )
( وأشَرْن إذ ودَّعْنَنا بأناملٍ ... حُمْرٍ كهُدّاب الدِّمَقْسِ رِقاقِ )
( ورَمَتْك هندٌ يوم ذاك فأقْصَدَتْ ... بأَغَرَّ عَذْبٍ باردٍ بَرّاق )
( وتنفّست لمّا رأتك صبابةً ... نَفَساً تصعَّد في حَشًى خَفَّاق )
( ولقد حَذِرتُ فما نجوت مَسَلَّما ... حتى صُرِعتُ مَصارعَ العُشَّاق )

( إنّ الخلافة أُثبتتْ أوتادُها ... لمّا تحمّلها أبو إسحاق )
( مَلِكٌ أعزُّ يلوح فوق جَبينه ... نورُ الخلافة ساطعَ الإِشراق )
( كُسِي الجلالَ مع الجمال وزَانَه ... هُدْيُ التُّقى ومكارمُ الأخلاق )
( صَحَّت عروقُك في الجِياد وإنما ... يجري الجرادُ بصحّة الأعراق )
( ذخَر الملوكُ فكان أكثرُ ذُخْرهم ... للمُلك ما جمعوا من الأوْراق )
( وذخَرتَ أبناءَ الحروب كأنهم ... أُسْدُ العَرينِ على مُتون عِتاق )
( كم من كريمةِ مَعْشَرٍ قد أُنكِحتْ ... بسيوفهم قَسْراً بغير صَداق )
( وعزيزةٍ في أهلها وقَطِينها ... قد فارقت بَعْلاً بغير طلاق )
قال فقال لي أفليت والله يا أبا محمد فقلت له وما أفليت قال رعيت فلاة لم يرعها أحد غيرك

إذا حضر إسحاق أصبح المغنون أقل من التراب
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أخي أحمد بن علي عن عافية بن شبيب قال
قلت لزرزور بن سعيد حدثني عن إسحاق كيف كان يصنع إذا حضر معكم عند الخليفة وهو منقطع ذاهب وحلوقكم ليس مثلها في الدنيا فقال كان والله لا يزال بحذقه ورفقه وتأنيه ولطفه حتى نصير معه أقل من التراب
أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثنا إسحاق قال
دخلت على الفضل بن الربيع فقال لي يا إسحاق كثر والله شيبك فقلت أنا وذاك أصلحك الله كما قال أخو ثقيف

( الشيبُ إن يَظْهَرْ فإنّ وراءه ... عمراً يكون خِلالَه مُتَنَفَّسُ )
( لم يَنْتَقِصْ منّي المشيبُ قُلامةً ... ولَنَحْنُ حِين بدا ألَبُّ وأكيسُ )
قال هات يا غلام دواة وقرطاسا أكتبهما لي لأتسلى بهما
أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرني الحسن بن علي عن يزيد بن محمد بن عبد الملك عن إسحاق قال
قال الفضل بن يحيى لأبي مالي لا أرى إسحاق عرفني ما خبره فقال خير
ورأى في كلامه شيئا يشكك فقال أعليل هو فقال لا ولكنه جاءك مرات فحجبه نافذ الخادم ولحقته جفوة فقال له فإن حجبه بعدها فلينكه
فجاءني أبي فقال لي القه فقد سأل عنك وخبرني بما جرى
وجئت فحجبت أيضا وخرج الفضل ليركب فوثبت إليه برقعة وقد كتبت فيها
( جُعِلتُ فداءَك من كلّ سوءٍ ... إلى حسن رأيك أشكو أُناسا )
( يحولون بيني وبين السلام ... فما إن أُسلِّم إلاّ اختلاسا )
( وأنفَذتُ أمرَك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلا شِمَاسا )
فلما قرأها ضحك حتى غلب ثم قال أو قد فعلتها يا فاسق فقلت لا والله يا سيدي وإنما مزحت فخجل نافذ خجلا شديدا ولم يعد بعد ذلك لمساءتي
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال

ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه وقد غاب عنه فقال تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت فقال قوم يلعب بالنرد وقال قوم يغني فبلغتني النوبة فقال قل يا إسحاق قلت إذا أقول وأصيب قال أتعلم الغيب قلت لا ولكني أفهم ما يصنع وأقدر على معرفته قال فإن لم تصب قلت فإن أصبت قال لك حكمك وإن لم تصب قلت لك دمي قال وجب قلت وجب قال فقل قلت يتنفس قال فإن كان ميتا قلت تحفظ الساعة التي تكلمت فيها فإن كان مات فيها أو قبلها فقد قمرتني فقال قد انصفت قلت فالحكم قال احتكم ما شئت قلت ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين قال فإن رضاي لك و قد أمرت لك بمائة ألف درهم أترى مزيدا فقلت ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال فإنها مائتا ألف درهم أترى مزيدا قلت ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين قال فإنها ثلثمائة ألف أترى مزيدا قلت ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال يا صفيق الوجه ما نزيدك على هذا شيئا

إسحاق يمدح سفينة محمد المخلوع
أخبرنا يحيى قال حدثني أبو أيوب قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال
عمل محمد المخلوع سفينة فأعجب بها وركب فيها يريد الأنبار
فلما أمعن وأنا مقبل على بعض أبواب السفينة صاحوا إسحاق إسحاق

فوثبت فدنوت منه فقال لي كيف ترى سفينتي فقلت حسنة يا أمير المؤمنين عمرها الله ببقائك
فقام يريد الخلاء وقال لي قل فيها أبياتا فقلت وخرج فقمت في الأبيات فاشتهاها جدا وقال لي أحسنت يا إسحاق وحياتك لأهبن لك عشرة آلاف دينار قلت متى يا أمير المؤمنين إذا وسع الله عليك فضحك ودعا بها على المكان
ولم يذكر يحيى في خبره الأبيات
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
غنيت الواثق في شعر قلته وأنا عنده بسر من رأى وقد طال مقامي واشتقت إلى أهلي وهو

صوت
( يا حَبّذا ريحُ الجَنوبِ إذا بدتْ ... في الصبح وهي ضعيفةُ الأنفاسِ )
( قد حُمِّلتْ بردَ النَّدَى وتَحمّلَتْ ... عَبَقاً من الجَثْجَاثِ والبَسْبَاسِ )
فشرب عليه واستحسنه وقال لي يا أبا محمد لو قلت مكان يا حبذا ريح الجنوب يا حبذا ريح الشمال ألم يكن أرق وأعذى وأصح للأجساد وأقل وخامة وأطيب للأنفس فقلت ما ذهب علي ما قاله أمير المؤمنين ولكن التفسير فيما بعد فقال قل فقلت
( ماذا تَهِيج من الصَّبَابة والهوى ... للصَّبِّ بعد ذهوله والياسِ )
فقال الواثق إنما استطبت ما تجيء به الجنوب من نسيم أهل بغداد لا الجنوب وإليهم اشتقت لا إليها فقلت أجل يا أمير المؤمنين وقمت

فقبلت يده فضحك وقال قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام فامض راشدا وأمر لي بمائة ألف درهم
لحن إسحاق هذا من الثقيل الأول

جعفر بن يحيى البرمكي وعبد الملك بن صالح الهاشمي
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال
لم أر قط مثل جعفر بن يحيى كانت له فتوة وظرف وأدب وحسن غناء وضرب بالطبل وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن من الأدب والفتوة
فحضرت باب أمير المؤمنين الرشيد فقيل لي إنه نائم فانصرفت فلقيني جعفر بن يحيى فقال لي ما الخبر فقلت أمير المؤمنين نائم فقال قف مكانك ومضى إلى دار أمير المؤمنين فخرج إليه الحاجب فأعلمه أنه نائم فخرج إلي وقال لي قد نام أمير المؤمنين فسر بنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقية يومنا وتغنيني وأغنيك ونأخذ في شأننا من وقتنا هذا قلت نعم فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا ودعا بالطعام فطعمنا وأمر بإخراج الجواري وقال لتبرزن فليس عندنا من تحتشمن منه
فلما وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق فتخلق به ثم دعا لي بمثل ذلك وجعل يغنيني وأغنيه ثم دعا بالحاجب فتقدم إليه وأمره بألا يأذن لأحد من الناس كلهم وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول واحتاط في ذلك وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم ثم قال إن جاء عبد الملك فأذنوا له يعني رجلا كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته ثم أخذنا في شأننا فوالله إني لعلى حالة سارة عجيبة إذ رفع الستر وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل وغلط الحاجب ولم يفرق بينه وبين الذي يأنس به جعفر بن يحيى
وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي من جلالة القدر والتقشف وفي الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل وكان

أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحا فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه
فلما رأيناه مقبلا أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه وكاد جعفر أن ينشق غيظا
وفهم الرجل حالنا فأقبل نحونا حتى إذا صار إلى الرواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانبا ثم قال أطعمونا شيئا فدعا له جعفر بالطعام وهو منتفخ غضبا وغيظا فطعم ثم دعا برطل فشربه ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي الباب ثم قال اشركونا فيما أنتم فيه فقال له جعفر ادخل ثم دعا بقميص حرير وخلوق فلبس وتخلق ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة أرطال ثم اندفع ليغنينا فكان والله أحسننا جميعا غناء
فلما طابت نفس جعفر وسري عنه ما كان به التفت إليه فقال له ارفع حوائجك فقال ليس هذا موضع حوائج فقال لتفعلن ولم يزل يلح عليه حتى قال له أمير المؤمنين علي واجد فأحب أن تترضاه قال فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك فهات حوائجك فقال هذه كانت حاجتي قال ارفع حوائجك كما أقول لك قال علي دين فادح قال هذه أربعة آلاف ألف درهم فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة فإنه لم يمنعني من إعطائك إياها إلا أن قدرك يجل على أن يصلك مثلي ولكني ضامن لها حتى تحمل من مال أمير المؤمنين غدا فسل أيضا قال ابني تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه قال قد ولاه أمير المؤمنين مصر وزوجه ابنته العالية ومهرها ألفي ألف درهم
قال إسحاق فقلت في نفسي قد سكر الرجل أعني جعفرا
فلما أصبحت لم تكن لي همة إلا حضور دار الرشيد وإذا جعفر ابن يحيى قد بكر ووجدت في الدار جلبة وإذا أبو يوسف القاضي ونظراؤه قد دعي بهم ثم دعي بعبد الملك بن صالح وابنه فأدخلا على الرشيد

فقال الرشيد لعبد الملك إن أمير المؤمنين كان واجدا عليك وقد رضي عنك وأمر لك بأربعة آلاف ألف درهم فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة
ثم دعا بابنه فقال اشهدوا أني قد زوجته العالية بنت أمير المؤمنين وأمهرتها عنه ألفي ألف درهم من مالي ووليته مصر
قال فلما خرج جعفر ابن يحيى سألته عن الخبر فقال بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا وما كنا فيه حرفا حرفا ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع فعجب لذلك وسر به ثم قلت له قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا فقال ما هو فأعلمته قال أوف له بضمانك وأمر بإحضاره فكان ما رأيت
أخبرني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال
لما صنعت لحني في
( هل إلى نظرة إليكِ سبيلُ ... )
ألقيته على علويه وجاءني رسول أبي بطبق فاكهة باكورة فبعثت إليه برك الله يا أبة ووصلك الساعة أبعث إليك بأحسن من هذه الباكورة فقال إني أظنه قد أتى بآبدة فلم يلبث أن دخل عليه علويه فغناه الصوت فعجب منه وأعجب به وقال قد أخبرتكم أنه قد أتى بآبدة
ثم قال لولده أنتم تلومونني على تفضيل إسحاق ومحبتي له والله لو كان ابن غيري لأحببته لفضله فكيف وهو ابني وستعلمون أنكم لا تعيشون إلا به
وقد ذكر أبو حاتم الباهلي عن أخيه أبي معاوية بن سعيد بن سلم أن هذه القصة كانت لما صنع إسحاق لحنه في
( غَيّضْنَ من عَبَراتهن وقلن لي ... )

وقد ذكرت ذلك مع أخبار هذا الصوت في موضعه

رأي إسحاق في إبراهيم بن المهدي
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال
سألت إسحاق عن إبراهيم بن المهدي فقال دعني منه فليست له رواية ولا دراية ولا حكاية
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال
كانت هشيمة الخمارة جارتي وكانت تخصني بأطيب الشراب وجيده فماتت فقلت أرثيها
( أضحتْ هُشَيْمةُ في القبور مقيمةً ... وخلتْ منازلُها من الفِتيانِ )
( كانت إذا هجَرَ المحبَّ حبيبُه ... دَبّت له في السرّ والإِعلان )
( حتى يَلينَ لما تُريد قيادَه ... ويصيرَ سيِّئُه إلى الإِحسان )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
سألني إدريس بن أبي حفصة حاجة فقضيتها له وزدت فيما سأل فقال لي
( إذا الرجالُ جَهِلوا المكارمَا ... كان بها ابنُ الموصليّ عالمَا )
( أبقاك ذو العرش بقاءً دائماً ... فقد جُعِلتَ للكرام خاتما )
( إسحاقُ لو كنتَ لقِيتَ حاتما ... كان نَدَاه لنَداك خادما )
قال حماد وقال لي أبي كان إدريس سخيا من بين آل أبي حفصة فنزل به ضيف فتنمرت امرأته عليه فقال لها
( مِن شرّ أيّامك اللاّتي خُلقْتِ لها ... إذا فقدتِ نَدَى صوتي وزُوّاري )

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
كان علي بن هشام قد دعاني ودعا عبد الله بن محمد بن أبي عيينة فتأخرت عنه حتى اصطبحنا شديدا وتشاغلت عنه برجل من الأعراب كان يجيئني فأكتب عنه وكان فصيحا وكان عند علي بن هشام بعض ما يعاديني فسألوا ابن أبي عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلي
( يا مَلِيَّا بالوعد والخُلْف والمطل بَطيئاً عن دعوة الأصحابِ )
( لَهِجاً بالأعراب إنّ لدينا ... بعضَ ما تشتهي من الأعراب )
( قد عَرَفنا الذي شُغِلت به عنّا ... وإن كان غيرَ ما في الكتاب )
قال فكتبت إلى الذي حمل ابن أبي عيينة على هذه الأبيات قال حماد وأظنه إبراهيم بن المهدي
( قد فَهمتُ الكتابَ أصلحك اللّهُ وعندي عليه رَدُّ الجوابِ )
( ولعَمْري ما تُنصفون ولا كان ... الذي جاء منكُم في حسابي )
( لستُ آتِيك فاعملنَّ ولا لي ... فيك حظٌّ من بعدِ هذا الكتاب )
قال حماد قال أبي وكتبت إلى علي بن هشام وقد اعتللت أياما فلم يأتني رسوله
( أنا عليلٌ منذُ فارقتَني ... وأنت عمّن غاب لا تسألُ )
( ما هكذا كنتَ ولا هكذا ... فيما مضى كنتَ بنا تفعلُ )
فلما وصلت إليه رقعتي ركب إلي وجاءني عائدا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال

لما خرج أبي إلى البصرة خرجته الأولى وعاد أنشدني في ذلك لنفسه

صوت
( ما كنتُ أعرِف ما في البين من حَزَنِ ... حتى تَنادَوْا بأن قد جِيء بالسُّفُنِ )
( قامتْ تودّعني والعينُ تَغْلِبها ... فَجَمْجَمَت بعضَ ما قالت ولم تُبِنِ )
( مالت عليّ تُفدِّيني وتَرْشُفُني ... كما يَميل نسيمُ الرّيح بالغُصُن )
( وأعرضْت ثم قالت وهي باكيةٌ ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكُن )
( لمّا افترقنا على كُرَهٍ لفُرقتها ... أيقنتُ أنّي رهينُ الهمِّ والحَزِنَ )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أنشدني شداد بن عقبة لجميل
( قِفِي تَسْلُ عنكِ النفسُ بالخُطّةِ التي ... تُطيلين تخويفي بها ووعيدي )
( فقد طالما من غير شكوى قبيحةٍ ... رضِينا بحكمٍ منكِ غيرِ سديدِ )
قال فأنشدت الزبير بن بكار هذين البيتين فقال لو لم أنصرف من العراق إلا بهما لرأيتهما غنما
وأنشدني شداد لجميل أيضا
( بُثّيْن سَلِيني بعضَ مالي فإنما ... يُبَيَّن عند المال كلُّ بخيلِ )
( فإني وتَكراري الزيارةَ نحوَكم ... لَبَيْن يَدَيْ هَجرٍ بُثّيْن طويلِ )
قال أبي فقلت لشداد فهلا أزيدك فيهما فقال بلى فقلت

( فيا ليتَ شِعْرِي هل تقولين بعدنا ... إذا نحن أزْمَعنا غداً لرَحيلِ )
( ألا ليت أياماً مَضَيْنَ رواجعٌ ... وليت النَّوَى قد ساعدتْ بجميلِ )
فقال شداد أحسنت والله وإن هذا الشعر لضائع فقلت وكيف ذلك قال نفيته على نفسك بتسميتك جميلا فيه ولم يلحق بجميل فضاع بينكما جميعا

إسحاق بن إبراهيم وإسحاق المصعبي
حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني إسحاق الموصلي قال
دعاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي وكان عبد الله بن طاهر عنده يومئذ فوجه إلي فخضرت وحضر علويه ومخارق وغيرهما من المغنين فبينا هم على شرابهم وهم أسر ما كانوا إذ وافاه رسول أمير المؤمنين فقال أجب فقال السمع والطاعة ودعا بثيابه فلبسها
ثم التفت إلى محمد بن راشد الخناق فقال لله قد بلغني أنك أحفظ الناس لما يدور في المجالس فاحفظ لي كل صوت يمر وما يشربه كل إنسان حتى إذا عدت أعدت علي الأصوات وشربت ما فاتني فقال نعم أصلح الله الأمير
ومضى إلى المأمون فأمره بالشخوص إلى بابك من غد وتقدم إليه فيما يحتاج إليه ورجع من عنده
فلما دخل ووضع ثيابه قال يا محمد ما صنعت فيما تقدمت به إليك قال قد أحكمته أعزك الله ثم أخبره بما شرب القوم وما استحسنوه من الغناء بعده فأمر أن يجمع له أكثر ما شربه واحد منهم في فدح وأن يعاد عليه صوت صوت مما حفظه له حتى يستوفى ما فاته القوم

به ففعل ذلك وشرب حتى استوفى النبيذ والأصوات
ثم قال لي يا أبا محمد إني قد علمته في منصرفي من عند أمير المؤمنين أبياتا فاسمعها فقلت هاتها أعز الله الأمير فأنشدني

صوت
( ألاَ مَنْ لقلبٍ مُسْلَمٍ للنوائبِ ... أحاطت به الأحزانُ من كلّ جانبِ )
( تَبَيْن يومَ البين أنّ اعتزامه ... على الصبر من بعض الظنون الكواذب )
صوت
( حرامٌ على رامي فؤادِي بسهمه ... دمٌ صبّه بين الحَشَى والترائبِ )
( أراق دماً لولا الهوى ما أراقه ... فهل بدَمِي من ثائرٍ أو مُطالِب )
قال فقلت له ما سمعت أحسن من هذا الشعر قط فقال لي فاصنع فيه فصنعت فيه لحنا وأحضرني وصيفة له فألقيته عليها حتى أخذته وقال إنما أردت أن أتسلى به في طريقي وتذكرني به الجارية أمرك إذا غنته
فكان كلما ذكر أتاني بره إلى أن قدم عدة دفعات
لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر والذي وجدت فيه لعبد الله بن طاهر خفيف رمل ذكره ابنه عبيد الله عنه
ولمخارق لحن من الرمل
ولعمرو بن بانة هزج بالوسطى
ولمخارق والطاهرية خفيف ثقيل
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله محمد بن حمدون قال
سأل المتوكل عن إسحاق الموصلي فعرف أنه قد كف وأنه في منزله ببغداد فكتب في إحضاره
فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدام السرير وأعطاه مخدة وقال له بلغني أن المعتصم دفع إليك مخدة في أول يوم جلست بين يديه وهو خليفة وقال إنه لا يستجلب ما عند حر بمثل

الكرامة ثم سأله هل أكل فقال نعم فأمر أن يسقى فلما شرب أقداحا قال هاتوا لأبي محمد عودا فجيء به فاندفع يغني بصوت الشعر فيه والغناء له

صوت
( ما علّةُ الشيخ عيناه بأربعةٍ ... تَغْرَوْرِقان بدَمع ثم تَنْسكِبُ )
قال أبو عبد الله فوالله ما بقي غلام من الغلمان الوقوف على الحير إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل فأمر له بمائة ألف درهم
ثم قال لي المتوكل يابن حمدون أتحسن أن تغنيني هذا الصوت فقلت نعم قال غنه فترنمت به فقال إسحاق من هذا الذي يحكيني فقال هذا ابن صديقك حمدون فقال وددت أنه يحسن أن يحكيني فقلت له أنت عرضتني له يا أمير المؤمنين
ثم انحدر المتوكل إلى رقة بوصرا وكان يستطيبها لكثرة تغريد الأطيار بها فغنى إسحاق
صوت
( أأن هتَفتْ وَرْقاءُ في رَوْنق الضُّحَى ... على غُصُنٍ غَضِّ الشباب من الرَّنْدِ )
( بكيتَ كما يبكي الحزين صبابةً ... وشوقا وتابعتَ الحَنِينَ إلى نجد )
فضحك المتوكل وقال له يا إسحاق هذه أخت فعلتك بالواثق لما

غنيته بالصالحية
( طَرِبتُ إلى الأُصَيْبِية الصِّغارِ ... وذكَّرني الهوى قربُ المزَارِ )
فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف قال مائة ألف درهم فأمر له بمائة ألف درهم وأذن له بالانصراف إلى بغداد
وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق توفي بعد ذلك بشهرين
حدثني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على الواثق أستأذنه في الانحدار إلى بغداد فوجدته مصطبحا فقال بحياتي غن

صوت
( ألا إن أهلَ الدار قد ودّعوا الدارَا ... وإن كان أهلُ الدار في الحيّ أَجْوارَا )
( وقد تركوا قلبي حزيناً متَّيماً ... بذكرهمُ لو يَستطيع لقد طارَا )
فتطيرت من اقتراحه له وغنيته إياه فشرب عليه مرارا وأمر لي بثلاثين ألف درهم وأذن لي فانصرفت ثم كان آخر عهدي به
الشعر لمطيع بن

إياس
والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن الفرج قال حدثنا أحمد بن معاوية قال
كنت في بيتي وعلويه يغنيني
صوت
( أَعْرَضْنَ من شَمَطٍ في الرأس لاح به ... فهُنّ عنه إذا أبصرْنَه حِيدُ )
( قد كُنّ يَعهَدْنَ منّي مَنظَراً حَسَناً ... وجُمَةً حَسَرتْ عنها العناقيدُ )
فوردت علي رقعة من إسحاق الموصلي يستسقيني نبيذا فبعثت إليه بدن مع غلام لي فلما توسط الغلام به الجسر زحم فكسر فرجع الغلام إلى إسحاق فأخبره الخبر وسأله مسألتي التجافي عنه فكتب إلي
( يا أحمد بن معاوَيهْ ... إنِّي رُميت بداهيَهْ )
( أشكو إليك فأَشْكِني ... كَسْرَ الغلامِ الخابيَهْ )
( يا ليتها سلمتْ وكان ... فداءَها ابنُ الزانيَهْ )
فبعثت إليه بأربعة أدنان وأعتقت الغلام بشفاعته في أمره

عجز المغنين عن أخذ صوته
أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق

الموصلي قال قال لي حمدون بن إسماعيل رحمه الله
لما صنع أبوك رحمه الله هذا الصوت

صوت
( قِفْ بالديار التي عفا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )
( لمّا وقَفْنا بها نُسائلها ... فاضتْ من القوم أعيُنٌ سُجُمُ )
( ذِكْراً لعيشٍ مضى إذا ذكرت ... ما فات منه فذكره سَقَمُ )
( وكلُّ عيش دامَتْ غَضَارتُه ... مُنقطِعٌ مرّةً ومُنْصَرِمُ )
ولحنه ثقيل أول أعجب به المعتصم والواثق جميعا فقال له المعتصم بحياتي اردده على مخارق وعلويه والجماعة ليأخذوه عنك وانصحهم فيه فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم وإن أساؤوا بان فضلك عليهم فرده عليهم أكثر من مائتي مرة وكانوا يقصدون إلى منزله ويرده عليهم ومات وما أخذوا منه علم الله إلا رسمه
الشعر والغناء لإسحاق ولحنه ثقيل أول
الرشيد وإسحاق في الرقة ودير القائم
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
خرجنا مع الرشيد يريد الرقة فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا وخرج يتصيد وخرجنا معه فأبعد في طلب الصيد ولاح

لي دير فقصدته وقد تعبت فأشرفت على صاحبه فقال هل لك في النزول بنا اليوم فقلت أي والله وإني إلى ذلك لمحتاج فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني وكان شيخا كبيرا وقد أدرك دولة بني أمية فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض علي الطعام فأجبته فقدم إلي طعاما من طعام الديارات نظيفا طيبا فأكلت منه وأتاني بشراب وريحان طري فشربت منه ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها ولم أشكل فشربت حتى سكرت ونمت وانتبهت عشاء فقلت في ذلك

صوت
( بدَيرْ القائِم الأقصَى ... غزالٌ شادِنٌ أَحْوَى )
( بَرَى حُبِّي له جِسْمِي ... ولا يَعْلَمُ ما ألقَى )
( وأكتُمُ حبَّه جُهدِي ... ولا واللهِ ما يَخْفَى )
وركبت فلحقت بالمعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد
وأخبرت بذلك فغنيت في الأبيات ودخلت إليه فقال لي أين كنت ويحك فأخبرته بالخبر وغنيته الصوت فطرب وشرب عليه حتى سكر وأخر الرحيل في غد ومضينا إلى الدير ونزله فرأى الشيخ واستنطقه ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه ودعا بالشراب وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن

تتولى خدمته وسقيه ففعلت وشرب حتى طابت نفسه ثم أمر للدير بألف دينار وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين فرحلنا
قال حماد فحدثني أبي قال فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها فأقمنا بها أياما وطلبني الرشيد فلم يجدني
فلما رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي أين كنت طلبك أمير المؤمنين فأخبرته بنزهتنا فغضب
وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت
صوت
( إنّ قلبي بالتَّلِّ تلِّ عَزَازِ ... عند ظَبْيٍ من الظِّباء الجَوَازِي )
( شادِنٍ يسكُنُ الشآمَ وفيه ... مع ظَرْف العراق شِكْلُ الحجاز )
( يا لَقَوْمِي لبنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازِي )
( حَلَفتْ بالمسيح أن تُنْجِزَ الوعد ... َ وليستْ تَهُمُّ بالإِنجاز )
وغنيت فيه ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب فقال أين كنت طلبتك فلم أجدك فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه فتبسم وقال عذر وأبيك وأي عذر وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر
فلما وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا فوافيت فدخلت وإذا ابن جامع

يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ فقال لي يابن الموصلي أتدري ما جاء بنا فقلت لا والله ما أدري فقال لكني والله أدري دراية صحيحة جاءت بنا نصرانيتك الزانية عليك وعليها لعنة الله
وخرج الآذن فأذن لنا فدخلنا
فلما رأيت الرشيد تبسمت فقال لي ما يضحكك فأخبرته بقول ابن جامع فقال صدق ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه فعودوا بنا فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا
لحن إسحاق
( بدَير القائمِ الأقصى ... )
خفيف ثقيل بالوسطى
وفيه للقاسم بن زرزور ثقيل أول
ولحنه في
( إنْ قلبي بالتَّلّ تلّ عَزَازِ ... )
خفيف رمل
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال
دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كورتها على رأسي فقال ما هذه العمامة كأنك من الأنبار
فلما كان من غد دعا بنا إليه فأمهلت حتى دخل المغنون جميعا قبلي ثم دخلت عليه في آخرهم وقد شددت وسطي بمشدة حرير أحمر ولبست لباسا مشتهرا وأخذت بيدي صفاقتين وأقبلت أخطر وأضرب بالصفاقتين و أغني
( اسمعْ لصوتٍ مليحٍ ... من صنعه الأنباري )
( صوتٍ خفيفٍ ظريفٍ ... يطيرُ في الأوتارِ )
فبسط يده إلي حتى كاد يقوم وجعل يقول أحسنت وحياتي

أحسنت أحسنت حتى جلست ثم شرب عليه بقية يومه وما استعاد غيره وأمر لي بعشرين ألف درهم
لحن إسحاق في هذا الشعر هزج
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال
كنتُ عند الفضل بن الربيع فغنى بعض من كان عنده

صوت
( كلُّ شيء منكِ في عيني حَسَنْ ... ونَصِيبي منكِ همٌّ وحَزَنْ )
( لا تَظُنِّي أنه غيَّرني ... قِدَمُ العهد ولا طولُ الزمنْ )
فقال لي أتدري لمن هذا فقلت لبعض الطنبوريين فقال لا ولكنه لذلك الشيطان إسحاق
لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال
لما خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة فخرجت إلينا جارية كأنها ضبية فسقتني ماء فقلت هذا الشعر
صوت
( غزالٌ يَرْتَعِي جَنَباتِ وَادِ ... بَسحْنَةَ قد تمكَّنَ في فؤادِي )
( سقاني شَرْبةً كانت شِفاءً ... لِعِلَّةِ حائِمٍ حَرّانَ صادِي )

وغنيته الرشيد فقال لي أتحب أن أوزجكها فقلت نعم والله يا سيدي قال فاخطبها والمهر علي وما يصلحها فخطبتها فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم
لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أول
وفيه لعلويه خفيف رمل
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال
قال لي أبي ما اغتممت بشيء قط مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر

صوت
( كان لي قلبٌ أعيشُ به ... فاكتَوَى بالنارِ فاحتَرَقَا )
( أنا لم أُرْزَقْ مَحَبّتها ... إنما للعبد ما رُزِقَا )
( مَنْ يكن ما ذاقَ طعمَ رَدًى ... ذاقه لا شكَّ إن عَشِقَا )
فإني صنعت فيه لحنا وجعلت أردده في جناح لي سحرا فأظن أن إنسانا من العامة مر بي فسمعه فأخذه فبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه فإذا أنا بسواط يسوط الناطف وهو يغني اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد
فعجبت وقلت ترى من أين لهذا السواط هذا الصوت ولعلي إذ غنيته أن يكون قد مر بي هذا فسمعني أغنيه وبقيت متحيرا ثم قلت يا فتى ممن سمعت هذا الصوت فلم يجبني والتفت إلى شريكه وقال هذا يسألني ممن سمعته هذا غنائي والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخرئ في سراويله فبادرت والله هاربا خوف أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى علي فأفتضح وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها

حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال
كتب إبراهيم بن المهدي إلى أبي أي شيء تصحيف لا يريح مثل الأسنة
فكتب إليه أبي تصحيفه لا يرث جميل إلا بثينة فكتب إليه وي منك
أخبرنا جعفر قال حدثنا حماد عن أبيه قال
دخلت يوما على جعفر بن يحيى فرأى شفتي تتحركان بشيء كنت أعمله فقال أتدعو أم تصنع ماذا فقلت بل أمدح قال قل فقلت
صوت
( وكنتُ إذا إذنٌ عليك جَرَى لنا ... تجلَّى لنا وجهٌ أَغَرُّ وِسيمُ )
( علانِيةٌ محمودةٌ وسرِيرةٌ ... وفِعلٌ يَسُرُّ المُعْتَفِينَ كريمُ )
فاحتبسني وأمر لي بمال جليل وكسوة وقال زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا فصنعت لحنا من الثقيل الثاني فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر

طفيلي مقترح
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه أنه حدثه قال غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها فخرجت وركبت بكرة وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج فقلت لغلماني إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي وأنكم لا

تعرفون أين توجهت ومضيت وطفت ما بدا لي ثم عدت وقد حمي النهار فوقفت في الشارع المعروف بالمخرم في فناء ثخين الظل وجناح رحب على الطريق لأستريح
فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة تحتها منديل دبيقي وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده ورأيت لها قواما حسنا وطرفا فاترا وشمائل حسنة فخرصت عليها أنها مغنية فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها
ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابان جميلان فاستأذنا فأذن لهما فنزلا ونزلت معهما ودخلت فظنا أن صاحب الدار دعاني وظن صاحب الدار أني معهما فجلسنا وأتي بالطعام فأكلنا وبالشراب فوضع وخرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا وقمت قومة وسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقال هذا طفيلي ولكنه ظريف فأجملوا عشرته
وجئت فجلست وغنت الجارية في لحن لي
( ذكَرتُكِ أن مرَّتْ بنا أُمُّ شادِنٍ ... أمامَ المطايا تَشرئِبُّ وتَسْنَحُ )

( من المؤلِفاتِ الرمل أَدْماءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضحى في مَتْنِها يَتَوَضّحُ )
فأدته أداء صالحا وشربت
ثم غنت أصواتا شتى وغنت في أضعافها من صنعتي
( الطُّلُولُ الدوارِسُ ... فارقَتْها الأوانِسُ )
( أَوْحشتْ بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )
فكان أمرها فيه أصلح منه في الأول
ثم غنت أصواتا من القديم والحديث وغنت في أثنائها من صنعتي
( قُل لِمنَ صَدّ عاتِبَا ... ونأَى عنكَ جانبَا )
( قد بلَغْتَ الذي أَرَدت ... َ وإن كنتَ لاعِبَا )
فكان أصلح ما غنته فاستعدته منها لأصححه لها فأقبل علي رجل من الرجلين وقال ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت وهذا غاية المثل طفيلي مقترح فأطرقت ولم أجبه وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف
ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلا فأخذت عود الجارية ثم شددت طبقته وأصلحته إصلاحا محكما وعدت إلى موضعي فصليت وعادوا ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت ثم أخذت الجارية العود فجسته وأنكرت حاله وقالت من مس عودي قالوا ما مسه أحد قالت بلى والله لقد مسه حاذق متقدم وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صناعته فقلت لها أنا أصلحته قالت فبالله خذه وأضرب به فأخذته وضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا فيه نقرات محركة فما بقي أحد منهم إلا وثب على قدميه وجلس بين يدي ثم قالوا بالله يا سيدنا أتغني فقلت نعم وأعرفكم

نفسي أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني وأنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملحت معكم فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث فقال له صاحبه من هذا حذرت عليك فأخذ يعتذر فقلت والله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى يخرج فأخذوا بيده فأخرجوه وعادوا
فبدأت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي فقال لي الرجل هل لك في خصلة قلت ما هي قال تقيم عندي شهرا والجارية والحمار لك مع ما عليها من حلي قلت أفعل فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبرا
فلما كان بعد ثلاثين يوما أسلم إلي الجارية والحمار والخادم فجئت بذلك إلى منزلي وركبت إلى المأمون من وقتي فلما رآني قال إسحاق ويحك أين تكون فأخبرته بخبري فقال علي بالرجل الساعة فدللتهم على بيته فأحضر فسأله المأمون عن القصة فأخبره فقال له أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها وأمر له بمائة ألف درهم وقال لا تعاشرن ذلك المعربد النذل البتة وأمر لي بخمسين ألف درهم وقال أحضرني الجارية فأحضرتها فغنته فقال لي قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني وراء الستارة مع الجواري وأمر لها بخمسين ألف درهم
فربحت والله بتلك الركبة وأربحت

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت
( ذكرتِك أن مرّتْ بنا أُم شادِنِ ... أمامَ المطايا تشرئبّ وتَسْنَحُ )
( من المؤلِفاتِ الرمل أدماءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتنِها يَتَوضَّحُ )
الشعر لذي الرمة
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن ابن المكي
ومن أغاني إسحاق

صوت
( قل لمن صَدّ عاتِبَا ... ونأَى عنك جانِبَا )
( قد بلَعْتَ الذي أردت ... َ وإن كنتَ لاعِبا )
الشعر والغناء لإسحاق
وقد تقدم خبره قبل هذه الأخبار
صوت
( الطُّلُولُ الدَّوارِسُ ... فارقَتْها الأَوانِسُ )
( أَوْحشتْ بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )
الشعر لابن ياسين شاعر مجهول قليل الشعر كان صديقا لإسحاق
والغناء لإسحاق خفيف ثقيل
وهذا الصوت من أوابد إسحاق وبدائعه
أخبرني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
كنت عند الواثق فغنته شجى التي وهبها له إسحاق هذا الصوت فقال لمخارق وعلويه والله لو عاش معبد ما شق غبار إسحاق في هذا الصوت فقالا له إنه لحسن يا أمير المؤمنين فغضب وقال ليس عندكما فيه إلا هذا ثم أقبل على أحمد بن المكي فقال دعني من هذين الأحمقين أول بيت في هذا الصوت أربع كلمات الطلول كلمة والدوارس كلمة وفارقتها كلمة والأوانس كلمة فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرف فيه المغني لم يدخله في هذه الكلمات الأربع بدأ بها نشيدا وتلاه بالبسيط وجعل فيه صياحا وإسجاحا وترجيحا للنغم واختلاسا فيها وعمل هذا كله في أربع كلمات فهل سمعت أحدا تقدم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه فقال صدق أمير المؤمنين قد لحق من قبله وسبق من بعده

الواثق وإسحاق في دير مريم
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني إسحاق قال
لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها فرأيت دير مريم بالحيرة فأعجبني موقعه وحسن بنائه فقلت
( نِعمَ المحلُّ لمن يسعَى لِلّذّته ... ديرٌ لمريمَ فوقَ الظهر معمورُ )
( ظِلُّ ظليلٌ وماءٌ غيرُ ذي أَسِنٍ ... وقاصِراتٌ كأمثال الدُّمَى حُورُ )
فقال الواثق لا نصطبح والله غدا إلا فيه وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت وأمر بمال ففرق على أهل ذلك الدير وأمر لي بجائزة
لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر
إسحاق وعبد الله بن طاهر
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
أخرج إلي عبد الله بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة وقال هذان

البيتان وجدتهما على بساط طبري أصبهبذي أهدي إلي من طبرستان فأحب أن تغنيني فيهما فقرأتهما فإذا هما
( لَجَّ بالعين واكفُ ... مِن هَوًى لا يُساعِفُ )
( كُلّما كفَّ غَرْبُها ... هَيّجتْه المعازِفُ )
قال فغنيت فيهما وغدوت بهما إليه فأعجب بالصوت ووصلني بصلة سنية وكان يشتهيه ويقترحه وطرحته على جميع جواريه وشاع خبر إعجابه به
فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع إذ مر بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان ومعهما
( إنما الموتُ أن تفارقَ ... مَنْ أنت آلِفُ )
( لك حُبَّانِ في الفؤاد ... تَلِيدٌ وطارِفُ )
فأمر بالبساط فحمل إلى عبد الله بن طاهر وقال للرسول قل له إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتم سرورك به
فشكر عبد الله ما تأذى إليه من هذه الرسالة وأعظم مقداره وقال لي والله يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشد من سروري بكل شيء فألحقهما في الغناء بالبيتين الأولين فألحقتهما

نسبة هذا الصوت
صوت
( لجَّ بالعين واكفُ ... مِن هوًى لا يُساعِفُ )
( كلّما كفَّ غَرْبُها ... هيَّجتْه المَعازِفُ )
( إنما الموتُ أن تُفارِق ... َ مَنْ أنتَ آلِفُ )
( لك حُبَّان في الفؤاد ... تَلِيدٌ وطارِفُ )
ولم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر
والغناء لإسحاق هزج بالوسطى
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال
قلت لإسحاق يوما يا أبا محمد كم تكون صنعتك فقال ما بلغت مائتين قط
مرض إسحاق ووفاته
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
قال لي وكيل بن الحروني قلت لأبيك إسحاق يا أبا محمد كم يكون غناؤك قال نحوا من أربعمائة صوت
قال وقال له رجل بحضرتي ما لك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس قال لأني إنما أنقر في صخرة
ولإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو طرحتها لذلك وله أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخرتها واحتبستها عليها وفيما ذكرته ها هنا منها مقنع

وتوفي إسحاق ببغداد في أول خلافة المتوكل
فأخبرني الصولي قال ذكر إبراهيم بن محمد الشاهيني
أن إسحاق كان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه فرأى في منامه كأن قائلا يقول له قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنك تموت بضده فأصابه ذرب في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين فكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في شهر رمضان
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال
نعي إسحاق إلى المتوكل في وسط خلافته فغمه وحزن عليه وقال ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته ثم نعي إليه بعده أحمد ابن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال تكافأت الحالتان وقام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته علي مقام الفجيعة بإسحاق فالحمد لله على ذلك

ما رثاه به الشعراء
أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني رجل من الكتاب من أهل

حذف

قطربل قال حدثني أبي عن أبيه قال رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي
( مات الحُسَان ابن الحُسَان ... ِ ومات إحسانُ الزمانِ )
فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي فتلقاني خبر وفاة إسحاق الموصلي
وقال إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصلي
( سقى اللهُ يابنَ الموصليّ بوابِلٍ ... من الغيث قبراً أنت فيه مقيمُ )
( ذهبتَ فأوحشتَ الكرامَ فمايَنِي ... بعَبْرته يَبْكي عليك كريم )
( إلى الله أشكو فقدَ إسحاق إنّني ... وإن كنت شيخاً بالعراق يَتيم )
وقال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه
( على الجَدَثِ الشرقيّ عُوجَا فسلِّما ... ببغداد لمّا ضَنّ عنه عوائدُهْ )
( وقُولاَ له لو كان للموت فِدْيةٌ ... فَداك من الموت الطَّريفُ وتالِدُه )
( أاِسحاقُ لا تَبْعَدْ وإن كان قد رمَى ... بك الموتُ وِرْداً ليس يَصْدُر واردُه )
( إذا هزَل اخضرّتْ فنونُ حديثه ... ورقّتْ حَواشِيه وطابت مَشاهدُه )
( وإن جَدّ كان القول جِدّاً وأقسمتْ ... مَخَارجُه ألاّ تَلينَ مَعاقِدُه )
( فبَكَّ على ابن الموصليّ بعَبْرةٍ ... كما ارْفَضَّ من نَظْم الجُمَان فرائدُه )
وقال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثيه نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة وذكر أن حماد بن إسحاق أنشده إياها ونسخته أيضا

من كتاب الحرمي بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزبير عن عمه مصعب أنه انشده لنفسه يرثي إسحاق
( أتَدْرِي لمن تَبْكي العيونُ الذَّوارِفُ ... ويَنْهَلُّ منها واكِفٌ ثم واكِفُ )
( نعمْ لامرئ لم يبقَ في الناس مثلُه ... مفيدٌ لعلم أو صديقٌ مُلاطِفُ )
( تجهَّز إسحاقٌ إلى الله غادياً ... فللَّه ما ضُمّتْ عليه اللفائفُ )
( وما حَمل النعشَ المزجَّى عشيَّةً ... إلى القبر إلا دامعُ العين لاهِفُ )
( صدورهُم مَرْضَى عليه عَميدةٌ ... لها أَزْمةٌ من ذكره وزَفازِفُ )
( ترى كلَّ محزون تفيض جفونُه ... دموعاً على الخدّين والوجهُ شاسِفُ )
( جُزِيتَ جزاءَ المحسنين مُضاعفاً ... كما كان جَدْواك النَّدى المتضاعِف )
( فكم لك فينا من خلائقَ جَزْلةٍ ... سبقَتَ بها منها حديثٌ وسالف )
( هي الشّهدُ أو أحلى إلينا حلاوةً ... من الشهد لم يمزُج به الماءَ غارِفُ )
( ذهبتَ وخلّيتَ الصديق بعَوْلةٍ ... به أسفٌ من حزنه مترادِفُ )
( إذا خَطَراتُ الذكر عاودْنَ قلبَه ... تتابع منهنّ الشؤونُ النوازف )
( حبيبٌ إلى الإِخوان يَرْزُون مالَه ... وآتٍ لما يأتي امرؤ الصدقِ عارف )
( هو المَنّ والسَّلْوى لمن يستفيده ... وسمٌّ على من يشرب السمّ زاعِف )
( بكت دارُه من بعده وتنكّرتْ ... مَعالمُ من آفاقِها ومعارف )
( فما الدار بالدار التي كنت أعترِي ... وإنّي بها لولا افتقادِيكَ عارف )
( هي الدار إلاّ أنّها قد تخشّعتْ ... وأَظْلم منها جانبٌ فهو كاسِف )
( وبان الجمال والفَعال كلاَهما ... من الدار واستَنَّتْ عليها العواصف )
( خلت دارُه من بعده فكأنما ... بعاقبةٍ لم يُغْنِ في الدار طارف )

( وقد كان فيها للصديق مُعَرَّسٌ ... وملتمَسٌ إن طاف بالدار طائف )
( كرامةُ إخوانِ الصفاء وزُلفةٌ ... لمن جاء تُزْجِيه إليه الرَّواجِف )
( صَحَابتُه الغُرّ الكرام ولم يكن ... ليَصْحبَه السُّودُ اللئام المَقارِف )
( يَؤول إليه كلّ أبلجَ شامخٍ ... ملوكٌ وأبناء الملوك الغَطارف )
( فلُقِّيتَ في يمنى يديْك صحيفةً ... إذا نُشرتْ يومَ الحساب الصحائف )
( يَسُرّ الذي فيها إذا ما بدا له ... ويَفْتَرُّ منها ضاحكاً وهو واقف )
( بما كان ميموناً على كلّ صاحب ... يُعين على ما نابه ويُكانِف )
( سريعٌ إلى إخوانه برضائه ... وعن كلّ ما ساء الأخِلاّءَ صارِف )
( أرى الناسَ كالنَّسْناس لم يبق منهمُ ... خلافَك إلا حُشوةٌ وزَعانِف )
أخبرنا يحيى بن علي قال أنشدني أبو أيوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له
( لقد طاب الحِمامُ غداةَ أَلُوَى ... بنفس أبي محمدٍ الحِمامُ )
( فلو قُبِل الفِداءُ إذاً فَدَتْه ... ملوكٌ كان يألفها كرامُ )
( فلا تَبْعَد فكلُّ فتىً سيَثْوِي ... عليه التُّرْبُ يُحْثَى والرِّجَامُ )

قال وقال أيضا يرثيه
( لله أيُّ فتىً إلى دار البِلَى ... حمَل الرجالُ ضُحىً على الأعوادِ )
( كم من كريم ما تَجِفُّ دموعُه ... من حاضرٍ يبكي عليه وبادِ )
( أمسى يؤبِّنه ويعرف فضلَه ... من كان يَثْلِبه من الحُسّاد )
( فسقتْكَ يابنَ الموصليّ روائحٌ ... تُرْوِي صداكَ بصَوْبها وغَوَادِ )
وقد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم وأخباره مع إبراهيم بن المهدي وغيرها فإنها كثيرة ولها مواضع ذكرت فيها وحسن ذكرها هنالك فأخرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا حسبما شرطنا في أول الكتاب
ومما في المائة المختارة من صنعة إسحاق بن إبراهيم

صوت
( ألاَ قاتلَ اللهُ اللِّوَى من مَحَلّةٍ ... وقاتلَ دُنْيانا بها كيف ذلّت )
( غَنِينا زماناً باللِّوَى ثم أصبَحتْ ... عِراصُ اللِّوَى من أهلها قد تخلَّتِ )
عروضه من الطويل
الشعر للصمة القشيري والغناء لإسحاق ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها
انتهى الجزء الخامس من كتاب الأغاني ويليه الجزء السادس وأوله أخبار الصمة القشيري ونسبه

أخبار الصمة القشيري ونسبه
هو الصمة بن عبد الله بن الطفيل بن قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار شاعر إسلامي بدوي مقل من شعراء الدولة الأموية
ولجده قرة بن هبيرة صحبة بالنبي وهو أحد وفود العرب الوافدين عليه
أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي وابن دأب وغيرهما من الوراة قالوا وفد قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة إلى النبي فأسلم وقال له يا رسول الله إنا كنا نعبد الآلهة لا تنفعنا ولا تضرنا فقال له رسول الله ( نعم ذا عقلا )
رواية زواجه
وقال ابن دأب وكان من خبر الصمة أنه هوي امرأة من قومه ثم من بنات

عمه دنية يقال لها العامرية بنت غطيف بن حبيب بن قرة بن هبيرة فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وخطبها عامر بن بشر بن أبي براء بن مالك بن ملاعب الأسنة بن جعفر بن كلاب فزوجه إياها
وكان عامر قصيرا قبيحا فقال الصمة ابن عبدالله في ذلك
( فإِنّ تُنْكِحوها عامراً لاطّلاعكم ... إليه يُدَهْدِهْكم برجليه عامرُ )
شبهه بالجعل الذي يدهده البعرة برجليه
قال فلما بنى بها زوجها وجد الصمة بها وجدا شديدا وحزن عليها فزوجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشي بن الطفيل بن قرة بن هبيرة فأقام عليها مقاما يسيرا ثم رحل إلى الشأم غضبا على قومه وخلف امرأته فيهم وقال لها
( كُلي التمرَ حتى تَهْرَمَ النخلُ واضفِرِي ... خِطَامَكَ ما تدرين ما اليومُ من أمسِ )
وقال فيها أيضا
( لَعَمْرِي لئن كنتم على النأي والقِلَى ... بكم مثلُ ما بي إنكم لصديقُ )
( إذا زَفَراتُ الحبّ صَعَّدن في الحَشَى ... رُدِدن ولم تُنْهَجْ لهنّ طريقُ )
وقال فيها أيضاً
( إذا ما أتتنا الريحُ من نحو أرضكم ... أتتنا برَيّاكم فطاب هبُوبُها )

( أأتتنا بريح المسك خَالَطَ عنبراً ... وريح الخُزَامَى باكرتْها جَنُوبُها )
وقال فيها أيضا
( هل تجْزِينّي العامريّةُ موقفي ... على نسوةٍ بين الحِمَى وغَضَى الجمرِ )
( مَرَرْنَ بأسباب الصِّبا فذكَرْنَها ... فأومأْتُ إذ ما من جواب ولا نُكْرِ )
وقال ابن دأب وأخبرني جماعة من بني قشير أن الصمة خرج في غزي من المسلمين إلى بلد الديلم فمات بطبرستان
قال ابن دأب وأنشدني جماعة من بني قشير للصمة

صوت
( أَلاَ تسألانِ الله أن يَسقَى الحِمَى ... بَلَى فَسَقَى اللهُ الحِمَى والمَطَالِيَا )
( وأسألُ من لاقيتُ هل مُطِر الحِمَى ... فهل يسألنْ عنّي الحمى كيف حاليا )
الغناء في هذين البيتين لإسحاق ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وهو

من مختار الأغاني ونادرها
أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال قال عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري حدثنا عبد الله بن إسحاق الجعفري عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال حدثني رجل من أهل طبرستان كبير السن قال بينا أنا يوما أمشي في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار إذ أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أهدام خلقان فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفي
( تَعَزَّ بصبرٍ لا وَجَدِّك لا تَرَى ... بَشَامَ الحِمَى أُخْرَى الليالي الغُوَابِرِ )
( كأنّ فؤادي من تذكُّرِه الحِمَى ... وأهلَ الحِمَى يَهْفُو به ريشُ طائر )
قال فما زال يردد هذين البيتين حتى فاضت نفسه فسألت عنه فقيل لي هذا الصمة بن عبد الله القشيري
أخبرني عمي قال حدثنا الخراز أحمد بن الحارث قال كان ابن الأعرابي يستحسن قول الصمة

صوت
( أمَا وجلالِ الله لو تذكُرينني ... كذِكْرِيك ما كَفْكفتِ للعين مَدْمَعَا )
( فقالت بَلَى والله ذكراً لو أنّه ... يُصَبّ على صُمِّ الصَّفَا لتصدّعا )
غنى في هذين البيتين عبيد الله بن أبي غسان ثاني ثقيل بالوسطى
وفيهما لعريب خفيف رمل
( ولمّا رأيتُ البِشْرَ قد حال بيننا ... وجالتْ بناتُ الشوق في الصدر نُزَّعَا )
( تَلَفَّتُّ نحوَ الحيّ حتى وجدتُني ... وَجِعتُ من الإِصغاء لِيتاً وأخْدَعا )
أخبرني أبو الطيب بن الوشاء قال قال لي إبراهيم بن محمد بن سليمان الأزدي لو حلف حالف أن أحسن أبيات قيلت في الجاهلية والإسلام في الغزل قول الصمة القشيري ما حنث
( حَنَنتَ إلى رَيّا ونفسُك باعدتْ ... مَزَارَك من رَيّا وشَعْباكُما مَعا )
( فما حَسَنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاً ... وتجزَعَ أَنْ داعي الصبابة أسمْعا )
( بكتْ عينيَ اليُمَنى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أَسْبلتا معا )
صوت
( وأذكرُ أيّامَ الحِمَى ثم أنثني ... على كَبِدي من خشيةٍ أن تَصدّعا )
( فليست عشيّاتُ الحِمَى برَوَاجع ... عليك ولكن خَلِّ عينيك تَدْمَعَا )

غنت في هذين البيتين قرشية الزرقاء لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي
وهذه الأبيات التي أولها حننت إلى ريا تروى لقيس بن ذريح في أخباره وشعره بأسانيد قد ذكرت في مواضعها ويروى بعضها للمجنون في أخباره بأسانيد قد ذكرت أيضا في أخباره
والصحيح في البيتين الأولين أنهما لقيس بن ذريح وروايتهما له أثبت وقد تواترت الروايات بأنهما له من عدة طرق والأخر مشكوك فيها أهي للمجنون أم للصمة
أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم للصمة القشيرعمي عن الكراني عن أبي حاتم وأنشدنيهما الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي حاتم
( إذا نأتْ لم تُفارِقْني عَلاقتُها ... وإن دنتْ فصدود العاتب الزّارِي )
( فحال عينيَ من يَومَيْكِ واحدةٌ ... تبكي لفَرْطِ صدودٍ أو نَوَى دارِ )

شعره في محبوبته
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبيد الله بن إسحاق بن سلام قال حدثني أبي عن شعيب بن صخر عن بعض بني عقيل قال مررت بالصمة بن عبد الله القشيري يوما وهو جالس وحده يبكي ويخاطب نفسه ويقول لا والله ما صدقتك فيما قالت فقلت من تعني ويحك

أجننت قال أعني التي أقول فيها
( أمَا وجلالِ اللهِ لو تذكُرينني ... كذِكْرِيكِ ما كفكفتِ للعين مدمعا )
( فقالت بلى والله ذكراً لوَ أنّه ... يُصَبّ على صُمٍّ الصَّفَا لتَصدّعا )
أسلي نفسي عنها وأُخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى ابن إسماعيل العبدي عن موسى بن عبد الله التيمي قال خطب الصمة القشيري بنت عمه وكان لها محبا فاشتط عليه عمه في المهر فسأل أباه أن يعاونه وكان كثير المال فلم يعنه بشيء فسأل عشيرته فأعطوه فأتى بالإبل عمه فقال لا أقبل هذه في مهر ابنتي فاسأل أباك أن يبدلها لك فسأل أباه فأبى عليه فلما رأى ذلك من فعلهما قطع عقلها وخلاها فعاد كل بعير منها إلى ألافه
وتحمل الصمة راحلا
فقالت بنت عمه حين رأته يتحمل تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة ومضى من وجهه حتى لحق بالثغر فقال وقد طال مقامه واشتاقها وندم على فعله
( أتبكي على رَيّا ونفسْك باعدتْ ... مزَاركَ من رَيّا وشَعْباكُما معا )
( فما حسنٌ أن تأتي الأمرَ طائعا ... وتجزَعَ أنْ داعي الصبابة أًسمعا )
وقد أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي أن الصمة خطب ابنة عمه هذه إلى أبيها فقال له لا أزوجكها إلا على كذا وكذا من الإبل فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك وشكا إليه ما

يجد بها فساق الإبل عنه إلى أخيه فلما جاء بها عدها عمه فوجدها تنقص بعيرا فقال لا آخذها إلا كاملة فغضب أبوه وحلف لا يزيده على ما جاء به شيئا
ورجع إلى الصمة فقال له ما وراءك فأخبره فقال تالله ما رأيت قط ألأم منكما جميعا وإني لألأم منكما إن أقمت بينكما ثم ركب ناقته ورحل إلى ثغر من الثغور فأقام به حتى مات وقال في ذلك
( أَمِنْ ذكر دارٍ بالرَّقَاشيْن أصبحتْ ... بها عاصفاتُ الصيف بَدْءاً ورُجَّعا )
( حننتَ إلى رَيّا ونفسُك باعدت ... مزارَك من ريا وشعباكُما معا )
( فما حسنٌ أن تأتي الأمرَ طائعاً ... وتجزَع أن داعي الصبابة أسمعا )
( كأنك لم تَشهَد وَدَاعَ مُفارِق ... ولم تَرَ شَعَبىْ صاحبين تقطّعا )
( بكت عينيَ اليسرى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أسبَلَتا معا )
( تحمّل أهلي من قنين وغادروا ... به أهلَ ليلى حين جِيدَ وأَمْرعا )
( ألا يا خليلىّ اللذيْن تَواصيا ... بلوميَ إلاّ أن أُطيع وأَسمعا )
( قِفا إنه لا بدّ من رَجْع نظرة ... يَمانيّة شَتَّى بها القومُ أو معا )

( لِمُغتَصبٍ قد عَزّه القومُ أمرَه ... حياءً يَكُفّ الدمعَ أن يتطلَعا )
( تبَرَّضُ عينيه الصَّبابةُ كلَّما ... دنا الليل أو أَوْفَى من الأرض مَيْفَعا )
( فليستْ عشيَّاتُ الحِمَى برواجعٍ ... إليكَ ولكن خَلِّ عينيْك تَدْمَعا )

صوت
من المائة المختارة من رواية يحيى بن علي
( قُلْ لأسماء أَنْجزي المِيعادا ... وانظري أن تُزوِّدي منكِ زادا )
( إن تكوني حللتِ رَبْعاً من الشأم ... وجاورتِ حِمْيراً أو مرَادا )
( أو تناءَتْ بكِ النَّوَى فلقد قُدْتِ ... فؤادي لَحَيْنه فانقادا )
( ذاك أني عَلِقتُ منكِ جَوَى الحب ... وَليداً فزدتُ سِنّاً فزادا )
الشعر لداود بن سلم
والغناء لدحمان ولحنه المختار من الثقيل الأول بالوسطى
وقد كنا وجدنا هذا الشعر في رواية علي بن يحيى عن إسحاق منسوبا إلى المرقشين المرقش وطلبناه في أشعار المرقشين جميعا فلم نجده وكنا نظنه من شاذ

الروايات حتى وقع إلينا في شعر داود بن سلم وفي خبر أنا ذاكره في أخبار داود وإنما نذكر ما وقع إلينا عن رواته فما وقع من غلط فوجدناه أو وقفنا على صحته أثبتناه وأبطلنا ما فرط منا غيره وما لم يجر هذا المجرى فلا ينبغي لقارىء هذا الكتاب أن يلزمنا لوم خطأ لم نتعمده ولا اخترعناه وإنما حكيناه عن رواته واجتهدنا في الإصابة
وإن عرف صوابا مخالفا لما ذكرناه وأصلحه فإن ذلك لا يضره ولا يخلو به من فضل وذكر جميل إن شاء الله

أخبار داود بن سلم ونسبه
داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ثم يقول بعض الرواة إنه مولى آل أبي بكر ويقول بعضهم إنه مولى آل طلحة
وهو مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والعباسية من ساكني المدينة يقال له داود الآدم وداود الأرمك
وكان من أقبح الناس وجها
وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يستثقله فرآه ذات يوم يخطر خطرة منكرة فدعا به وكان يتولى المدينة فضربه ضربا مبرحا وأظهر أنه إنما فعل ذلك به من أجل الخطرة التي تخايل فيها في مشيته
فقال بعض الشعراء في ذلك وأظنه ابن رهيمة
( ضرب العادلُ سعدٌ ... ابنَ سلم في السَّماجَهْ )
( فقضَى اللهُ لسعد ... من أميرٍ كلَّ حاجه )
أخبرني محمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال سألت محمد بن موسى بن طلحة عن داود بن سلم هل هو مولاهم

فقال كذلك يقول الناس هو مولانا أبوه رجل من النبط وأمه بنت حوط مولى عمر بن عبيد الله بن معمر فانتسب إلى ولاء أمه
وفي ذلك يقول ويمدح ابن معمر
( وإذا دعا الجاني النصيرَ لنصره ... وارتْنيَ الغُرَرُ النصيرةُ مَعْمَرُ )
( مُتَخازرِين كأن أُسْدَ خَفِيّة ... بمقامها مستبسِلاتٌ تَزْأر )
( متجاسِرين بحمل كل مُلِمَّة ... متجبرِّين على الذي يتجبرَّ )
( عُسُلُ الرِّضَا فإِذا أردتَ خصامَهم ... خلَط السِّمَامَ بفيك صابٌ مُمقر )
( لا يَطْبَعون ولا تَرى أخلاقهم ... إلاَّ تطيبُ كما يطيب العنبر )
( رَفَعوا بَنَايَ بِعْتق حَوْطٍ دِنْيّةً ... جدِّي وفضلِهم الذي لا ينْكَرِ )

بعض من أوصافه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال

كان داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة وكان يقال له الآدم لشدة سواده وكان من أبخل الناس فطرقه قوم وهو بالعقيق فصاحوا به العشاء والقرى يا بن سلم فقال لهم لا عشاء لكم عندي ولا قرى قالوا فأين قولك في قصيدتك إذ تقول فيها
( يا دار هندٍ ألاَ حُيِّيتِ من دارِ ... لم أَقْضِ منكِ لُباناتي وأوطاري )
( عُوِّدتُ فيها إذا ما الضيفُ نَّبهني ... عَقْرَ العِشَار على يُسْرِي وإعساري )
قال لستم من أولئك الذين عنيت
قال ودخل على السري بن عبد الله الهاشمي وقد أصيب بابن له فوقف بين يديه ثم أنشده
( يا من على الأرض من عُجْم ومن عَرَبٍ ... استرْجِعوا خاستِ الدّنيا بَعبّاسِ )
( فُجِعت من سبعة قد كنتُ آمُلُهم ... من ضِنْء والدهم بالسيّد الرّاس )
قال وداود بن سلم الذي يقول
( قُلْ لأسماءَ أَنْجزي الميعادا ... وانظُري أن تزوِّدي منكِ زادَا )
( إن تكوني حَلَلْتِ ربعاً مَن الشأم ... وجاورت حِميراً أو مُرادا )
( أو تناءت بك النوَى فلقد قُدْتِ ... فؤادي لحَينه فانقادا )

( ذاكِ أني عَلِقتُ منكِ جَوَى الحبّ ... وَليداً فزدتُ سِناً فزادا )
قال أبو زيد أنشدنيها أبو غسان محمد بن يحيى وإبراهيم بن المنذر لداود ابن سلم

نسبة ما في هذا الخبر من الشعر الذي فيه غناء
صوت
( يا دارَ هند ألاَ حُيِّيتِ من دارِ ... لم أقْضِ منك لُباناتي واوطاري )
يتم وينسب
المادح المزجور
أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال أخبرني مصعب بن عثمان قال دعا الحسن بن زيد إسحاق بن إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي أيام كان بالمدينة إلى ولاية القضاء فأبى عليه فحبسه فدعا مسرقين يسرقون له مغسلا في السجن وجاء بنو طلحة فانسجنوا معه
وبلغ ذلك الحسن بن زيد فأرسل إليه فأتي به فقال إنك تلاججت علي وقد حلفت ألا أرسلك حتى تعمل لي فأبرر يميني ففعل فأرسل الحسن معه جندا حتى جلس في المسجد مجلس القضاء والجند على رأسه فجاءه داود بن سلم فوقف عليه فقال
( طلبوا الفقه والمروءةَ والحِلْمَ ... وفيك اجتمعنَ يا إسحاقُ )
فقال ادفعوه فدفعوه فنحي عنه فجلس ساعة ثم قام من مجلسه فأعفاه الحسن بن زيد من القضاء فلما سار إلى منزله أرسل إلى داود بن سلم بخمسين دينارا وقال للرسول قل له يقول لك مولاك ما حملك على أن تمدحني بشيء أكرهه استعن بهذه على أمرك

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير ابن بكار قال حدثني محرز بن سعيد قال بينما سعد بن إبراهيم في مسجد النبي يقضي بين الناس إذ دخل عليه زيد بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ومعه داود بن سلم مولى التيميين وعليهما ثياب ملونة يجرانها فأومأ أن يؤتى بهما فاشار إليه زيد أن اجلس فجلس بالقرب منه وأومأ إلى الآخر أن يجلس حيث يجلس مثله ثم قال لعون من أعوانه ادع لي نوح بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله فدعي له فجاء أحسن الناس سمتا وتشميرا ونقاء ثياب فأشار إلى فجلس ثم أقبل على زيد فقال له يابن أخي تشبه بشيخك هذا وسمته وتشميره ونقاء ثوبه ولا تعد إلى هذا اللبس قم فانصرف
ثم أقبل على ابن سلم وكان قبيحا فقال له هذا ابن جعفر أحتمل هذا له وأنت لأي شيء أحتمل هذا لك أللؤم أصلك أم لسماجة وجهك جرد يا غلام فجرد فضربه أسواطا
فقال ابن رهيمة
( جلد العادلُ سعدٌ ... إبنَ سَلْم في السَّماجَهْ )
( فقَضَى اللهُ لسعدٍ ... من أمير كلَّ حاجه )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن يوسف بن الماجشون قال

قال لي أبي وقد عزل سعد بن إبراهيم عن القضاء يا بني تعجل بنا عسى أن نروح مع سعد بن إبراهيم فإن القاضي إذا عزل لم يزل الناس ينالون منه فخرجنا حتى جئنا دار سعد بن إبراهيم فإذا صوت عال فقال لي أي شيء هذا أرى أنه قد أعجل علي ودخلنا فإذا داود بن سلم يقول له أطال الله بقاءك يا أبا إسحاق وفعل بك وقد كان سعد جلد داود بن سلم أربعين سوطا فأقبل علي سعد وعلى أبي فقال لم تر مثل أربعين سوطا في ظهر لئيم
قال وفيه يقول الشاعر
( ضرب العادلُ سعدٌ ... إبنَ سَلْم في السماجهْ )
( فقضى اللهُ لسعدٍ ... من أميرٍ كلَّ حاجه )

الحسن بن زيد يغضب منه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزبير بن بكار قال حدثني أبو يحيى الزهري واسمه هارون بن عبد الله قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن أبيه قال كان الحسن بن زيد قد عود داود بن سلم مولى بني تيم إذا جاءته غلة من الخانقين أن يصله
فلما مدح داود بن سلم جعفر بن سليمان وكان بينه وبين الحسن بن زيد تباعد شديد أغضب ذلك الحسن فقدم من حج أو عمرة ودخل عليه داود مسلما فقال له الحسن أنت القائل في جعفر
( وكنّا حديثاً قبلَ تأمير جعفرٍ ... وكان المُنَى في جعفر أن يُؤمَّرا )

( حَوَى المِنْبَريْن الطاهرينْ كليْهما ... إذا ما خطا عن مِنبرٍ أَمَّ مِنْبرا )
( كأن بني حَوَّاء صُفُّوا أمامه ... فَخُبِّر من أنسابهم فتَخيَّرا )
فقال داود نعم جعلني الله فداءكم فكنتم خيرة اختياره وأنا الذي أقول
( لَعْمرِي لئن عاقبتَ أوجُدْت مُنعِماً ... بعفوٍ عن الجاني وإن كان مُعْذِرَا )
( لأنتَ بما قدّمتَ أولى بِمدَحةٍ ... وأكرمُ فرعاً إن فخرتَ وعُنْصُرا )
( هو الغُرَّةُ الزَّهْراءُ من فرع هاشمٍ ... ويدعو عليَّا ذا المعالي وجعفرا )
( وزيدَ النَّدَى والسِّبْطَ سِبْطَ محمدٍ ... وعمَّك بالطَّفِّ الزَّكيَّ المطهَّرا )
( وما نال مِن ذا جعفرُ غيرَ مجلسِ ... إذا ما نفاه العزلُ عنه تأخّرا )
( بحقِّكُم نالوا ذُرَاها فأصبحوا ... يَرَوْن به عزاً عليكم ومَفْخَرا )
قال فعاد الحسن بن زيد له إلى ما كان عليه ولم يزل يصله ويحسن إليه حتى مات
قال أبو يحيى يعني بقوله وإن كان معذرا أن جعفرا أعطاه بأبياته الثلاثة ألف دينار فذكر أن له عذرا في مدحه إياه بجزالة إعطائه

أبو السائب المخزومي يعجب بشعره
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال كنت ليلة عند الحسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة حيال ذي الحليفة نصف الليل جلوسا في القمر وأبو السائب المخزومي معنا وكان ذا فضل وكان مشغوفا بالسماع والغزل وبين أيدينا طبق

عليه فريك فنحن نصيب منه والحسن يومئذ عامل المنصور على المدينة فأنشد الحسن قول داود بن سلم وجعل يمد به صوته ويطربه

صوت
( فعرَّسْنا ببطن عُرَيْتِناتٍ ... ليَجْمَعَنا وفاطمةَ المَسِيرُ )
( أتَنْسَى إذ تَعَرَّض وهو بادٍ ... مُقلَّدُها كما بَرَق الصَّبِير )
( ومَن يَطِع الهوى يُعْرَفْ هواه ... وقد يُنْبيك بالأمر الخبير )
( على أني زَفَرْتُ غَدَاةَ هَرْشَى ... فكاد يُريبهم منّي الزَّفير )

الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وأظنه هذا اللحن قال فأخذ أبو السائب الطبق فوحش به إلى السماء فوقع الفريك على رأس الحسن بن زيد فقال له مالك ويحك أجننت فقال له أبو السائب أسألك بالله وبقرابتك من رسول الله إلا ما أعدت إنشاد هذا الصوت ومددته كما فعلت قال فما ملك الحسن نفسه ضحكا ورد الحسن الأبيات لإستحلافه إياه
قال ابن أبي الزناد فلما خرج أبو السائب قال لي يا بن أبي الزناد أما سمعت مده
( ومن يُطِع الهوا يُعْرَفْ هواه ... )
فقلت نعم قال لو علمت أنه يقبل لدفعته إليه بهذه الثلاثة الأبيات
أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت أرسلتني مولاتي فاطمة في حاجة فمررت برحبة القضاء فإذا بضبيعة العبسي خليفة جعفر بن سليمان يقضي بين الناس فأرسل إلي فدعاني وقد كنت رطلت شعري وربطت في أطرافه من ألوان العهن فقال ما هذا فقلت شيء أتملح به فقال يا حرسي قنعها بالسوط
قالت فتناولت السوط بيدي وقلت قاتلك الله ما أبين الفرق بينك وبين سعد بن إبراهيم سعد يجلد الناس

في السماجة وأنت تجلدهم في الملاحة وقد قال الشاعر
( جلَد العادل سعدُ ... إبنَ سَلْم في السماجهْ )
( فقضى اللهُ لسعدٍ ... من أميرٍ كلَّ حاجه )
قالت فضحك حتى ضرب بيديه ورجليه وقال خل عنها
قالت فكان يسوم بي وكانت مولاتي تقول لا أبيعها إلا أن تهوى ذلك وأقول لا أريد بأهلي بدلا إلى أن مررت يوما بالرحبة وهو في منظرة دار مروان ينظر فأرسل إلي فدعاني فوجدته من وراء كلة وأنا لا أشعر به وحازم وجرير جالسان فقال لي حازم الأمير يريدك فقلت لا أريد بأهلي بدلا وكشفت الكلة عن جعفر بن سليمان فارتعت لذلك فقلت آه فقال مالك فقلت
( سمعتُ بذكر الناس هنداً فلم أَزَلْ ... أخا سَقَمٍ حتى نظرتُ إلى هند )
قال فأبصرت ماذا ويحك فقلت
( فأبصرتُ هنداً حُرّةً غيرَ أنها ... تَصَدَّى لقتل المسلمين على عَمْدِ )
قالت فضحك حتى استلقى وأرسل إلى مولاتي ليبتاعني فقالت لا والله لا أبيعها حتى تستبيعني فقلت والله لا أستبيعك أبدا

يذكر قثم بن عباس بجارية كان يهواها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا يونس بن عبد الله عن داود بن سلم قال كنت يوما جالسا مع قثم بن العباس قبل أن يملكوا بفنائه فمرت بنا

جارية فأعجب بها قثم وتمناها فلما يمكنه ثمنها
فلما ولي قثم اليمامة اشترى الجارية إنسان يقال له صالح
قال داود بن سلم فكتبت إلى قثم
( يا صاحب العِيِس ثم راكبَها ... أبلغْ إذا ما لقيتَه قُثَمَا )
( أنّ الغزال الذي أجاز بنا ... مُعارِضاً إذ توسَّط الحَرَما )
( حَوّله صالحٌ فصار مع اْلإنْسِ ... وخَلّى الوحوش والسَّلمَا )
قال فأرسل قثم في طلب الجارية ليشتريها فوجدها قد ماتت
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن محمد بن موسى بن طلحة قال حدثني زهير بن حسن مولى آل الربيع بن يونس أن داود بن سلم خرج إلى حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية فلما نزل به حط غلمانه متاع داود وحلوا عن راحلته فلما دخل عليه أنشأ يقول
( ولمّا دَفَعْتُ لأبوابهم ... ولاقيتُ حَرْباً لَقِيتُ النجاحا )
( وجدناه يَحْمده المُجْتُدون ... ويأبى على العسر إلا سَمَاحا )
( ويُغْشَوْن حتى يُرَى كلبُهم ... يَهَابُ الهَرِير ويَنْسى النُّبَاحا )
قال فأجازه بجائزة عظيمة ثم استأذنه في الخروج فأذن له وأعطاه ألف دينار فلم يعنه أحد من غلمانه ولم يقوموا إليه فظن أن حربا ساخط عليه فرجع إليه فأخبره بما رأى من غلمانه فقال له سلهم لم فعلوا بك ذلك
قال فسألهم فقالوا إننا ننزل من جاءنا ولا نرحل من خرج عنا
قال فسمع الغاضري حديثه فأتاه فحدثه فقال أنا يهودي إن لم يكن الذي قال الغلمان أحسن من شعرك

من شعره في الغزل
وذكر محمد بن داود بن الجراح أن عمر بن شبة أنشده ابن عائشة لداود بن سلم فقال أحسن والله داود حيث يقول
( لَجِجْتُ من حبِّيَ في تقريبه ... وعُمِّيتْ عينايَ عن عيوبهِ )
( كذاك صرفُ الدهر في تقليبه ... لا يلبَث الحبيبُ عن حبيبه )
( أو يغفرَ الأعظم من ذنوبه ... )
قال وأنشدني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شبيب لداود بن سلم قال
( وما ذَرّ قَرْنُ الشمسِ إلا ذكرتُها ... وأذكُرها في وقت كلّ غروبِ )
( وأذكرها ما بين ذاك وهذه ... وبالليل أحلامي وعند هُبوبي )
( وقد شَفَّني شَوْقِي وأبعدني الهوى ... وأعيا الذي بي طِبَّ كلِّ طبيب )
( وأَعْجَبُ أنّي لا أموتُ صَبَابةً ... وما كَمَدٌ من عاشقٍ بعجيب )
( وكلُّ محبٍّ قد سلا غيرَ أنني ... غريبُ الهوى يا وَيْحَ كلَّ غريب )
( وكم لام فيها من أخٍ ذي نصيحةٍ ... فقلت له أَقصِر فغيرُ مُصيب )
( أتأمر إنساناً بفُرقة قلبه ... أتصلحُ أجسامٌ بغير قلوب )
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال كان داود بن سلم منقطعا إلى قثم بن العباس وفيه يقول
( عَتَقْتِ من حِلِّي ومن رِحْلَتِي ... ياناقُ إن أَدْنيتنِي من قُثَمْ )
( إنكِ إن أَدْنيتِ منه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم )
( في وجهه بدرٌ وفي كفّه ... بحرٌ وفي العِرْنين منه شَمَمْ )

( أصمُّ عن قِيل الخَنَا سمعُه ... وما عن الخير به من صَمَمْ )
( لم يدر ما لا وبَلَى قد دَرَى ... فعافها واعتاض منها نَعَمْ )
قال أبو إسحاق إسماعيل بن يونس قال أبو زيد عمر بن شبة قال لي إسحاق لنظم العمياء في هذه الأبيات صنعة عجيبة وكانت تجيدها ما شاءت إذا غنتها

أخبار دحمان ونسبه
دحمان لقب لقب به واسمه عبد الرحمن بن عمرو مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة
ويكنى أبا عمرو ويقال له دحمان الأشقر
قال إسحاق كان دحمان مع شهرته بالغناء رجلا صالحا كثير الصلاة معدل الشهادة مدمنا للحج وكان كثيرا ما يقول ما رأيت باطلا أشبه بحق من الغناء
قال إسحاق وحدثني الزبيري أن دحمان شهد عند عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي وهو يلي القضاء لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق بشهادة فأجازها وعدله فقال له العراقي إنه دحمان قال أعرفه ولو لم أعرفه لسألت عنه قال إنه يغني ويعلم الجواري الغناء قال غفر الله لنا ولك وأينا لا يتغنى اخرج إلى الرجل عن حقه
وفي دحمان يقول أعشى بني سليم
( إذا ما هَزَّج الوادِيُّ ... أو ثَقَّل دَحْمانْ )
( سَمعتَ الشَّدْوَ من هذا ... ومن هذا بميزانْ )
( فهذا سيِّد الإنس ... وهذا سيّد الجانْ )

وفيه يقول أيضا
( كانوا فحولاً فصاروا عند خَلْبتهم ... لماّ انبرى لهم دَحْمانُ خِصْيانا )
( فأَبْلِغُوه عن الأعشى مقالتَه ... أعشى سُلَيم أبي عمرٍو سليمانا )
( قولوا يقول أبو عمرو لصُحْبته ... ياليت دَحْمانَ قبل الموت غَنّانا )
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي أنه حدثه عن ابن جامع وزبير بن دحمان جميعا أن دحمان كان معدلا مقبول الشهادة عند القضاة بالمدينة وكان أبو سعيد مولى فائد أيضا ممن تقبل شهادته
وكان دحمان من رواة معبد وغلمانه المتقدمين
قال وكان معبد في أول أمره مقبول الشهادة فلما حضر الوليد بن يزيد وعاشره على تلك الهنات وغنى له سقطت عدالته لا لأن شيئا بان عليه من دخول في محظور ولكن لأنه اجتمع مع الوليد على ما كان يستعمله
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال قال إسحاق كان دحمان يكنى أبا عمرو مولى بني ليث واسمه عبد الرحمن وكان يخضب رأسه ولحيته بالحناء وهو من غلمان معبد
قال إسحاق وكان أبي لا يضعه بحيث يضعه الناس ويقول لو كان عبدا ما اشتريته على الغناء بأربعمائة درهم
وأشبه الناس به في الغناء ابنه عبد الله وكان يفضل الزبير ابنه تفضيلا شديدا على عبد الله أخيه وعلى دحمان أبيه

دحمان يحظى عند المهدي
أخبرني يحيى عن أبي أيوب عن أحمد بن المكي عن عبد الله بن دحمان قال رجع أبي من عند المهدي وفي حاصله مائة ألف دينار
أخبرنا إسماعيل بن يونس وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن المهدي أعطى دحمان في ليلة واحدة خمسين ألف دينار وذلك أنه غنى في شعر الأحوص
( قَطُوفُ المشْي إذ تمشِي ... تَرَى في مشيها خرقا )
فأعجبه وطرب واستخفه السرور حتى قال لدحمان سلني ما شئت فقل ضيعتان بالمدينة يقال لهما ريان وغالب فأقطعه إياهما
فلما خرج التوقيع بذلك إلى أبي عبيد الله وعمر بن بزيع راجعا المهدي فيه وقالا إن هاتين ضيعتان لم يملكهما قط إلا خليفة وقد استقطعهما ولاة العهود في أيام بني أمية فلم

يقطعوهما فقال والله لا أرجع فيهما إلا بعد أن يرضى فصولح عنهما على خمسين ألف دينار

نسبة هذا الصوت
سَرَى ذا الهمُّ بل طَرَقا ... فَبِتُّ مسهَّداً قَلِقا )
( كذاك الحُبّ مما يُحدِث ... التسهيد والأرقا )
( قَطُوف المشي إذ تمشي ... تَرَى في مشيها خَرَقا )
( وتُثْقِلها عَجِيزتُها ... إذا ولَّت لتنطلقا )
الشعر للأحوص والغناء لدحمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر الهشامي أنه لإبن سريج
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال مر دحمان المغني وعليه رداء جيد عدني فقال له من حضر بكم اشتريت هذا يا أبا عمرو قال ب
( ما ضرَّ جيرانَنا إذ انَتَجَعُوا ... )
نسبة هذا الصوت
صوت
( ما ضَرَّ جيرانَنا إذ انتَجَعُوا ... لو أنهم قبل بيْنِهم ربعُوا )
( أَحْمَوْا على عاشقٍ زيَارتَه ... فهْو بهِجْران بينهم قُطع )

( وهْو كأنّ الهُيَام خالطه ... وما به غير حبِّها ذَرَع )
( كأنّ لُبْنَى صَبِيرُ غاديِةٍ ... أو دُمْيةٌ زُيِّنتْ بها البِيعَ )
( الله بيني وبين قيِّمها ... يَفِرّ عنّي بها وأتَّبع )

الوليد يكرم دحمان
أخبرني وكيع عن أبي أيوب المديني إجازة عن أبي محمد العامري الأويسي قال كان دحمان جمالا يكري إلى المواضع ويتجر وكانت له مروءة فبينا هو ذات يوم قد أكرى جماله وأخذ ماله إذ سمع رنة فقام واتبع الصوت فإذا جارية قد خرجت تبكي فقال لها أمملوكة أنت قالت نعم فقال لمن فقالت لإمرأة من قريش وسمتها له فقال أتبيعك قالت نعم ودخلت إلى مولاتها فقالت هذا إنسان يشتريني فقالت ائذني له فدخل فسامها حتى استقر أمر الثمن بينهما على مائتي دينار فنقدها إياها وانصرف بالجارية
قال دحمان فأقامت عندي مدة اطرح عليها ويطرح عليها معبد والأبجر ونظراؤهما من المغنين ثم خرجت بها بعد ذلك إلى الشأم وقد حذقت وكنت لا أزال إذا نزلنا أنزل الأكرياء ناحية وأنزل معتزلا بها ناحية في محمل وأطرح على المحمل من أعبية الجمالين وأجلس أنا وهي تحت ظلها فأخرج شيئا فنأكله ونضع ركوة فيها لنا شراب فنشرب ونتغنى حتى نرحل
ولم نزل كذلك حتى قربنا من الشأم فبينا أنا ذات يوم نازل وأنا ألقي عليها لحني

صوت
( لو رَدّ ذو شَفَق حِمامَ منّيةٍ ... لردَدتُ عن عبد العزيز حِمَاماَ )
( صلّى عليكَ اللهُ من مستودَعٍ ... جاورتَ بُوماً في القبور وهاما )
الشعر لكثير يرثي عبد العزيز بن مروان
وزعم بعض الرواة أن هذا الشعر ليس لكثير وأنه لعبد الصمد بن علي الهشامي يرثي إبنا له
والغناء لدحمان ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر
قال فرددته عليها حتى أخذته واندفعت تغنيه فإذا أنا براكب قد طلع فسلم علينا فرددنا عليه السلام فقال أتأذنون لي أن أنزل تحت ظلكم هذا ساعة قلنا نعم فنزل وعرضت عليه طعامنا وشرابنا فأجاب فقدمنا إليه السفرة فأكل وشرب معنا واستعاد الصوت مرارا
ثم قال للجارية أتغنين لدحمان شيئا قالت نعم قال فغنته أصواتا من صنعتي وغمزتها ألا تعرفه أني دحمان فطرب وامتلأ سرورا وشرب أقداحا والجارية تغنيه حتى قرب وقت الرحيل فأقبل علي وقال أتبيعني هذه الجارية فقلت نعم قال بكم قلت كالعابث بعشرة آلاف دينار قال قد أخذتها بها فهلم دواة وقرطاسا فجئته بذلك فكتب إدفع إلى حامل كتابي هذا حين تقرؤه عشرة آلاف دينار واستوص به خيرا وأعلمني بمكانه وختم الكتاب ودفعه إلي ثم قال أتدفع إلي الجارية أم تمضي بها معك حتى تقبض

مالك فقلت بل أدفعها إليك فحملها وقال إذا جئت البخراء فسل عن فلان وادفع كتابي هذا إليه واقبض منه مالك ثم انصرف بالجارية
قال ومضيت فلما وردت البخراء سألت عن اسم الرجل فدللت عليه فإذا داره دار ملك فدخلت عليه ودفعت إليه الكتاب فقبله ووضعه على عينيه ودعا بعشرة آلاف دينار فدفعها إلي وقال هذا كتاب أمير المؤمنين وقال لي اجلس حتى أعلم أمير المؤمنين بك فقلت له حيث كنت فأنا عبدك وبين يديك وقد كان أمر لي بأنزال وكان بخيلا فاغتنمت ذلك فارتحلت وقد كنت أصبت بجملين وكانت عدة أجمالي خمسة عشر فصارت ثلاثة عشر
قال وسأل عني الوليد فلم يدر القهرمان أين يطلبني فقال له الوليد عدة جماله خمسة عشر جملا فاردده إلي فلم أوجد لأنه لم يكن في الرفقة من معه خمسة عشر جملا ولم يعرف اسمي فيسأل عني قال وأقامت الجارية عنده شهرا لا يسأل عنها ثم دعاها بعد أن استبرئت وأصلح من شأنها فظل معها يومه حتى إذا كان في آخر نهاره قال لها غنيني لدحمان فغنت وقال لها زيديني فزادت
ثم أقبلت عليه فقالت يا أمير المؤمنين أو ما سمعت غناء دحمان منه قال لا قالت بلى والله قال أقول لك لا فتقولين بلى والله فقالت بلى والله لقد سمعته قال وما ذاك ويحك قالت إن الرجل الذي اشتريتني منه هو دحمان قال أو ذلك هو قالت نعم هو هو قال فكيف لم أعلم قالت غمزني بألا أعلمك
فأمر فكتب إلى عامل المدينة بأن يحمل إليه دحمان فحمل فلم يزل عنده أثيرا
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه

قال حدثنا ابن جامع قال تذاكروا يوما كبر الأيور بحضرة بعض أمراء المدينة فأطالوا القول ثم قال بعضهم إنما يكون كبر أير الرجل على قدر حر أمه فالتفت الأمير إلى دحمان فقال يا دحمان كيف أيرك فقال له أيها الأمير أنت لم ترد أن تعرف كبر أيري وإنما أردت أن تعرف مقدار حر أمي وكان دحمان طيبا ظريفا
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال أول ما عرف من ظرف دحمان أن رجلا مر به يوما فقال له أير حماري في حر أمك يا دحيم فلم يفهم ما قاله وفهمه رجل كان حاضرا معه فضحك فقال مم ضحكت فلم يخبره فقال له أقسمت عليك إلا أخبرتني قال إنه شتمك فلا أحب استقبالك بما قاله لك فقال والله لتخبرني كائنا ما كان فقال له قال كذا وكذا من حماري في حر أمك فضحك ثم قال أعجب والله وأغلظ علي من شتمه كنايتك عن أير حماره وتصريحك بحر أمي لا تكني

جعفر بن سليمان والمغنون
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثنا عبد الله بن الربيع المديني قال حدثني الربعي المغني قال قال لنا جعفر بن سليمان وهو أمير المدينة اغدوا على قصري بالعقيق غدا وكنت أنا ودحمان وعطرد فغدوت للموعد فبدأت بمنزل دحمان وهو في جهينة

فإذا هو وعطرد قد اجتمعا على قدر يطبخانها وإذا السماء تبغش فأذكرتهما الموعد فقالا أما ترى يومنا هذا ما أطيبه اجلس حتى نأكل من هذه القدر ونصيب شيئا ونستمتع من هذا اليوم فقال ما كنت لأفعل مع ما تقدم الأمير به إلي فقالا لي كأنا بالأمير قد انحل عزمه وأخذك المطر إلى أن تبلغ ثم ترجع إلينا مبتلا فتقرع الباب وتعود إلى ما سألناك حينئذ
قال فلم ألتفت إلى قولهما ومضيت وإذا جعفر مشرف من قصره والمضارب تضرب والقدور تنصب فلما كنت بحيث يسمع تغنيت
( واستصحبَ الأصحابَ حتى إذا وَنَوْا ... وملُّوا من الإدْلاَج جئتكُم وَحْدِي )
قال وما ذاك فأخبرته فقال يا غلام هات مائتي دينار أو أربعمائة دينار الشك من إسحاق الموصلي فانثرها في حجر الربعي اذهب الآن فلا تحل لها عقدة حتى تريهما إياها فقلت وما في يدي من ذلك يأتيانك غدا فتلحقهما بي قال ما كنت لأفعل قلت فلا أمضي حتى تحلف لي أنك لا تفعل فحلف فمضيت إليهما فقرعت الباب فصاحا وقالا ألم نقل لك إن هذه تكون حالك فقلت كلا فأريتهما الدنانير فقالا إن الأمير لحي كريم ونأتيه غدا فنعتذر إليه فيدعوه كرمه إلى أن يلحقنا بك فقلت كذبتكما أنفسكما والله إني قد أحكمت الأمر ووكدت عليه الإيمان ألا يفعل فقالا لا وصلتك رحم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن منصور بن أبي مزاحم قال أخبرني عبد العزيز بن الماجشون قال صلينا يوما الصبح بالمدينة فقال قوم قد سال العقيق فخرجنا من المسجد مبادرين إلى العقيق فانتهينا إلى العرصة فإذا من وراء الوادي قبالتنا

دحمان المغني وابن جندب مع طلوع الشمس قد تماسكا بينهما صوتا وهو
( اسكنُ البَدْوَ ما سكنْتِ ببدوٍ ... فإِذا ما حضرتِ طال الحضورُ )
وإذا أطيب

صوت
في الدنيا
قال وكان أخي يكره السماع فلما سمعه طرب طربا شديدا وتحرك وكان لغناء دحمان أشد استحسانا وحركة وارتياحا فقال لي يا أخي تسمع إلى غناء دحمان والله لكأنه يسكب على الماء زيتا
نسبة هذا الصوت
صوت
أَوْحشَ الجُنْبُذَانِ فالدَّيْرُ منها ... فقُرَاها فالمنزلُ المحظورُ )
( أسكنُ البدوَ ما أقمتِ ببدوٍ ... فإِذا ما حضرتِ طاب الحضور )
( أيُّ عيش أَلَذُّه لستِ فيه ... أوْ تُرَى نَعْمةٌ به وسُرور )
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لإبن مسجح رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق

دحمان والفضل بن يحيى
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن عبد الرحمن عن أبي عثمان البصري قال قال دحمان دخلت على الفضل بن يحيى ذات يوم فلما جلسنا قام وأومأ إلي فقمت فأخذ بيدي ومضى بي إلى منظرة له على الطريق ودعا بالطعام فأكلنا ثم صرنا إلى الشراب فبينا نحن كذلك إذ مرت بنا جارية سوداء حجازية تغني
( اهْجُريني أو صلِيني ... كيفما شئتِ فكوني )
( أنتِ والله تحبّيني ... وإن لم تُخبريني )
فطرب وقال أحسنت ادخلي فدخلت فأمر بطعام فقدم إليها فأكلت وسقاها أقداحا وسألها عن مواليها فأخبرته فبعث فاشتراها فوجدها من أحسن الناس غناء وأطيبهم صوتا وأملحهم طبعا فغلبتني عليه مدة وتناساني فكتبت إليه
( أخرجتِ السَّوداء ما كان في ... قلبك لي من شدّة الحُبِّ )
( فإن يدُم ذا منك لا دام لي ... متُّ من الإعراض والكَرْب )
قال فلما قرأ الرقعة ضحك وبعث فدعاني ووصلني وعاد إلى ما كان عليه من الأنس
قال مؤلف هذا الكتاب هكذا أخبرنا ابن المرزبان بهذا الخبر وأظنه غلطا لأن دحمان لم يدرك خلافة الرشيد وإنما أدركها ابناه زبير وعبد الله

فإما أن يكون الخبر لأحدهما أو يكون لدحمان مع غير الفضل بن يحيى

ومما في المائة المختارة من صنعة دحمان
صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى
( وإنّي لآتي البيتَ ما إن أُحِبُّه ... وأُكثِرُ هجرَ البيت وهو حِبِيبُ )
( وأُغْضِي على أشياءَ منكم تَسُوءني ... وأُدْعَى إلى ما سَرّكم فأجيب )
( وأحبِس عنكِ النّفسَ والنفسُ صَبّةٌ ... بقُرْبِك والمَمْشَى إليكِ قريب )
الشعر للأحوص والغناء لدحمان ثقيل أول وقد تقدمت أخبار الأحوص ودحمان فيما مضى من الكتاب
صوت
من المائة المختارة
( حَيِّيَا خَوْلَةَ منِّي بالسلامِ ... دُرّةَ البحر ومِصْباحَ الظلامَ )
( لا يكُن وَعْدُكِ برقا خُلَّبّا ... كاذباً يلمع في عُرْض الغمام )
( واذكري الوعدَ الذي واعدتنا ... ليلةَ النصف من الشّهر الحرام )
الشعر لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وعروضه من الرمل والخلب من البرق الذي لا غيث معه ولا ينتفع بسحابه وتضرب المثل به العرب لمن أخلف وعده قال الشاعر

( لا يكنْ وعدك برقاً خُلّباً ... إنّ خيرَ البرق ما الغيثُ مَعَهْ )
وعرض السحابة الناحية منها

أخبار أعشى همدان ونسبه
اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث بن نظام بن جشم بن عمرو بن الحارث بن مالك بن عبد الحر بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن نزار بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويكنى أبا المصبح شاعر فصيح كوفي من شعراء الدولة الأموية
وكان زوج أخت الشعبي الفقيه والشعبي زوج أخته وكان أحد الفقهاء القراء ثم ترك ذلك وقال الشعر وآخى أحمد النصبي بالعشيرية والبلدية فكان إذا قال شعرا غنى فيه أحمد
وخرج مع ابن الأشعث فأتي الحجاج أسيرا في الأسرى فقتله صبرا

أخبرني بما أذكره من جملة أخباره الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية الأسدي أنه أخذ أخباره هذه عن ابن كناسة عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وعن غيرهم من رواة الكوفيين
قال حدثنا عمر بن شبة وأبو هفان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني
قال الغنزي وأخذت بعضها من رواية مسعود بن بشر عن الأصمعي وما كان من غير رواية هؤلاء ذكرته مفردا
أخبرني المهلبي أبو أحمد حبيب بن نصر وعلي بن صالح قالا حدثنا عمر بن شبة وأبو هفان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني قال كان الشعبي عامر بن شراحيل زوج أخت أعشى همدان وكان أعشى همدان زوج أخت الشعبي فأتاه أعشى همدان يوما وكان أحد القراء للقرآن فقال له إني رأيت كأني أدخلت بيتا فيه حنطة وشعير وقيل لي خذ أيهما شئت

فأخذت الشعير فقال إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقراءته وقلت الشعر فكان كما قال

ابنة الأمير تهرب معه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية الأسدي عن ابن كناسة قال العنزي وحدثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة والأصمعي قالا وافق روايتهم الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال كان أعشى همدان أبو المصبح ممن أغزاه الحجاج بلد الديلم ونواحي دستبى فأسر فلم يزل أسيرا في أيدي الديلم مدة
ثم إن بنتا للعلج الذي أسره هويته وصارت إليه ليلا فمكنته من نفسها فأصبح وقد واقعها ثماني مرات فقالت له الديلمية يا معشر المسلمين أهكذا تفعلون بنسائكم فقال لها هكذا نفعل كلنا فقالت له بهذا العمل نصرتم أفرأيت إن خلصتك أتصطفيني لنفسك فقال لها نعم وعاهدها
فلما كان الليل حلت قيوده وأخذت به طرقا تعرفها حتى خلصته وهربت معه
فقال شاعر من أسرى المسلمين
( فمن كان يَفْديه مِن الأَسْر مالُه ... فهَمْدانُ تَفْدِيها الغداةَ أُيورُها )
وقال الأعشى يذكر ما لحقه من أسر الديلم

صوت
( لمن الظَّعائنُ سيرُهنّ تَرَجُّفُ ... عَوْمَ السَّفِين إذا تقاعس مجذَفُ )
( مرَّتْ بذي خُشُب كأنّ حُمولَها ... نَخْلٌ بِيَثْرِبَ طَلْعُه مَتضعِّف )
غنى في هذين البيتين أحمد النصبي ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن عمرو وابن المكي
وفيهما لمحمد الزف خفيف رمل بالوسطى عن عمرو
( عُولِين ديباجاً وفاخرَ سُنْدُسٍ ... وبخَزَ أكسية العراق تُحفَّفُ )
( وغدتْ بهم يومَ الفراق عَرَامِسُ ... فُتْلُ المرَافق بالهوادج دُلَّف )
( بان الخليط وفاتني برحيله ... خَوْدٌ إذا ذُكرت لقلبك يُشْغَفُ )
( تجلو بِمْسواكِ الأَرَاك مُنَظّماً ... عَذْباً إذا ضحكتْ تهلَّلَ يَنْظُف )
( وكأنّ ريقتَها على عَلَل الكَرَى ... عَسَلٌ مصفَّى في القِلاَل وقَرْقَف )
( وكأنما نظرتْ بعينيْ ظبيةٍ ... تحنو على خِشْف لها وتَعَطَّف )

( وإذا تنوء إلى القيام تدافعتْ ... مثلَ النَّزيف ينوء ثُمّتَ يَضْعفُ )
( ثقُلتْ روادفُها ومال بخَصْرها ... كَفَلٌ كما مال النَّقا المتقصِّف )
( ولها ذراعا بَكْرٍ رحبيّة ... ولها بَنَانٌ بالخِضاب مُطَرَّف )
( وعوارضٌ مصقولةٌ وترائبٌ ... بيضٌ وبطنٌ كالسَّبيكة مُخْطَف )
( ولها بَهَاءٌ في النساء وبَهْجةٌ ... وبها تُحلّ الشمسُ حين تُشرَّف )
( تلك التي كانت هوايَ وحاجتي ... لو أنّ داراً بالأحبّة تُسْعِف )
( وإذا تُصِبْك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبر فكل مصيبةٍ سَتَكشَّف )
( ولئن بكيتُ من الفراق صبابةً ... إنّ الكبير إذا بكى لَيُعَنَّفُ )
( عجباً من الأيام كيف تَصَرَّفَتْ ... والدارُ تدنو مرّةً وتقذّفُ )
( أصحبتُ رَهْناً للعُداة مكبَّلاً ... أمْسي وأُصْبِح في الأَدَاهم أَرْسُف )
( بين القليسم فالقيول فحامن ... فاللهزمين ومضجعي مُتكنِّف )
هذه أسماء مواضع من بلد الديلم تكنفته الهموم بها
( فحِبَال ويمة ما تزال مُنِيفةً ... يا ليت أنّ جبال ويمة تُنسَف )
ويمة وشلبة ناحيتان من نواحي الري
( ولقد أُراني قبل ذلك ناعماً ... جَدْلاَنَ آبَى أن أَضام وآنفُ )
( واستنكرتْ ساقِي الوَثَاق وساعدِي ... وأنا أمرؤٌ بادِي الأشاجِع أَعْجف )
( ولقد تُضرِّسني الحروبُ وإِنني ... اُلَفي بكلّ مخافة أتعسّف )

( أتسربل الليلَ البهِيمَ وأستري ... في الخَبْت إذ لا يَسْتُرونَ وأُوجِف )
( ما إن أزال مقنَّعاً أو حاسراً ... سَلَف الكتيبة والكتيبةُ وُقَّف )
( فأصابني قومٌ فكنتُ أُصيبهم ... فالآن أصبِر للزمان وأعرف )
( إني لطَلاّبُ التِّراتِ مطلَّبٌ ... وبكل أسباب المنيّة أُشرِف )
( باقٍ على الحِدْثان غيرُ مكذَّبٍ ... لا كاسفُ بالي ولا متأسّف )
( إن نلتُ لم أفرح بشيء نِلتُه ... وإذا سُبِقتُ به فلا أتلهّف )
( إني لأحْمِي في المَضِيق فَوَارِسي ... وأكُرّ خَلْفَ المُسْتضاف وأعطِف )
( وأشُدّ إذ يكبو الجبان وأصْطَلي ... حَرَّ الأسنّة والأسنّة ترْعُف )
صوت
( فلئن أصابتْني الحربُ فربّما ... أُدْعَى إذا مُنع الرِّدافُ فأُردِفُ )
( ولربّما يَرْوَى بِكفِّي لَهْذَمٌ ... ماض ومطَّرِدُ الكُعوب مُثقٌّف )
( وأُغير غاراتٍ وأشْهَد مَشهداً ... قلبُ الجبان به يَطير ويَرجفُ )
( وأرى مغانمَ لو أشاء حويتُها ... فيصُدّني عنها غِنىً وتَعفّف )
غنى في هذه الأبيات دحمان ولحنه ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي
قال الهشامس فيها لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى ووافقه في هذا ابن المكي قالوا جميعا

خروجه مع جيش الحجاج إلى مكران
ثم ضرب البعث على جيش أهل الكوفة إلى مكران فأخرجه الحجاج معهم فخرج إليها وطال مقامه بها ومرض فاجتواها وقال في ذلك وأنشدني بعض هذه القصيدة اليزيدي عن سليمان بن أبي شيخ
( طلبتَ الصِّبا إذ علا المَكْبَر ... وشاب القَذال وما تُقصِرُ )
( وبان الشبابُ ولذاتّه ... ومثلُك في الجهل لا يُعذَر )
( وقال العواذل هل يَنْتهي ... فيَقْدَعَه الشيبُ أو يُقصِر )
( وفي أربعينَ تَوَفّيتُها ... وعَشْرٍ مضتْ لي مُستبصَر )
( وموعظَةٌ لامرئ حازمٍ ... إذا كان يَسمع أو يُبْصر )
( فلا تأسفنَّ على ما مضى ... ولا يَحزُنَنَّك ما يُدْبِر )
( فإنّ الحوادث تُبلِي الفتى ... وإنّ الزمان به يعثُر )
( فيَوْماً يُساء بما نَابه ... ويوماً يُسَرّ فَيَستَبشرُ )
( ومِنْ كلّ ذلك يَلْقى الفَتى ... ويُمْنَى له منه ما يُقدّر )
( كأنِّيَ لم أَرْتَحلْ جَسْرَةً ... ولم أُجِفْها بعدما تضمرُ )
( فأُجْشَمها كلَّ دَيْمُومةٍ ... ويَعرفها البلدُ المُقفر )

( ولم أشهِد البأسَ يومَ الوَغَى ... عليّ المُفَاضةُ والمِغْفَر )
( ولم أَخرِق الصَّف حتى تَميلَ ... دَارِعةَ القومِ والحُسَّر )
( وتحتيَ جَرْداءُ خَيْفانةٌ ... من الخيل أو سابحٌ مُجفَر )
( أُطاعِن بالرمح حتى اللَّبانُ ... يَجري به العَلَق الأحمرِ )
( وما كنت في الحرب إذ شَمَّرت ... كَمَنْ لا يُذيب ولا يُخْثِر )
( ولكنَّني كنتُ ذا مِرَّة ... عَطوفاً إذا هَتف المَحْجِر )
( أُجيب الصَّرِيخ إذا ما دعا ... وعند الهِيَاج أنا المِسْعَر )
( فإن أُمْسِ قد لاح فيّ المَشيبُ ... أُمَّ البنين فقد أذكرُ )
( رَخاءً منَ العيش كُنَّا بِه ... إذِ الدهرُ خالٍ لنا مُصْحِر )
( وإذ أنا في عُنفوان الشباب ... يُعجبني اللَّهو والسُّمَّر )
( أصِيد الحسانَ ويَصْطَدْنني ... وتعجبني الكاعبُ المُعصِر )
( وبيضاءُ مثلُ مَهَاة الكَثيب ... لا عَيْبَ فيها لمن ينظرُ )
( كأنّ مُقَلَّدَها إذ بدا ... به الدُّرّ والشَّذْر والجوهر )
( مُقَلَّدُ أدْمَاءَ نَجْديّةٍ ... يَعِنُّ لها شادِنٌ أحور )

( كأنّ جَنَى النحل والزنجبيلَ ... والفارسيَّة إذ تُعْصَر )
( يُصَبّ على بَرْد أنيابها ... مُخَالِطُه المسكُ والعنبر )
( إذا انصرفتْ وتَلوّتْ بها ... رِقاقُ المَجَاسِد والمِئزر )
( وغَصَّ السِّوارُ وجال الوِشاح ... على عُكَنٍ خَصْرُها مُضْمَر )
( وضاق عن الساق خَلْخالُها ... فكاد مُخَدَّمها يَنْدرُ )
( فَتُورُ القيام رخيمُ الكلام ... يُفْزِعها الصوتُ إذ تُزْجَر )
( وتُنْمَى إلى حسَب شامخ ... فليستْ تُكذَّب إذ تَفْخَر )
( فتلك التي شَفَّني حبُّها ... وحمَّلني فوق ما أقدِر )
( فلا تعذُلانيَ في حبِّها ... فإنّي بمعذرةٍ أجْدَر )
ومن ها هنا رواية اليزيدي
( وقُولا لذي طَرب عاشقٍ ... أشطَّ المزارُ بمن تَذْكُر )
( بكوفيّة أصلُها بالفرات ... تبدو هنالك أو تَحضُر )
( وأنت تسير إلى مُكَّران ... فقد شَحط الوِرْدُ والمَصْدَر )
( ولم تك من حاجتي مُكَّران ... ولا الغزُو فيها ولا المَتْجَر )
( وخُبِّرتُ عنها ولم آتها ... فما زِلتُ من ذكرها أُذْعَر )
( بأنّ الكثيرَ بها جائعٌ ... وأنّ القليل بها مُقْتر )
( وأنّ لِحَي الناس من حَرّها ... تطول فتُجْلَم أو تُضْفَر )

( ويزعُم مَنْ جاءها قَبْلَنا ... بأنّا سَنَسْهَم أو ننحر )
( أعوذ بربِّي من المُخْزيات ... فيما أُسِرّ وما أجهَر )
( وحُدِّثت أنْ ما لنا رَجْعُةٌ ... سِنينَ ومِنْ بعدها أشهر )
( إلى ذاك ما شاب أبناؤنا ... وبادَ الإخِلاَء والمَعْشر )
( وما كان بي من نشاطٍ لها ... وإنّي لذو عُدّة مُوسِر )
( ولكنْ بُعِثتُ لها كارهًا ... وقيل انطلق كالذي يُؤمر )
( فكان النَّجَاء ولم ألتفت ... إليهم وشرّهُم مُنكر )
( هو السيف جُرِّد من غمده ... فليس عن السيف مستأخَر )
( وكم من أخٍ ليَ مستأنِس ... يَظلّ به الدمعُ يَسْتحسر )
( يودّعني وانتحتْ عبرةٌ ... له كالجداول أو أغزر )
( فلستُ بلاقِيه من بعدها ... يَدَ الدهر ما هبّت الصَّرْصَر )
( وقد قيل إنكُم عابرون ... نجراً لها لم يكن يُعْبَرُ )
( إلى السّند والهند في أرضهم ... همُ الجنّ لكنَّهم أَنْكَر )
( وما رام غزواً لها قبلَنا ... أكابرُ عادٍ ولا حِمْير )
( ولا رام سابورُ غزواً لها ... ولا الشيخُ كِسْرى ولا قيصر )
( ومِنْ دونها مَعْبَرٌ واسعٌ ... وأجرّ عظيم لمن يؤجَر )

قصته مع جارية خالد الرياحي
وذكر محمد بن صالح بن النطاح أن هشام بن محمد الكلبي حدث عن أبيه أن أعشى همدان كان مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي بالري

ودستبي وكان الأعشى شاعر أهل اليمن بالكوفة وفارسهم فلما قدم خالد من مغزاه خرج جواريه يتلقينه وفيهن أم ولد له كانت رفيعة القدر عنده فجعل الناسُ يمرون عليها إلى أن جاز بها الأعشى وهو على فرسه يميل يمينا ويسارا من النعاس فقالت أم خالد بن عتاب لجواريها إن امرأة خالد لتفاخرني بأبيها وعمها وأخيها وهل يزيدون على أن يكونوا مثل هذا الشيخ المرتعش
وسمعها الأعشى فقال من هذه فقال له بعض الناس هذه جارية خالد فضحك وقال لها إليك عني يا لكعاء ثم أنشأ يقول
( وما يُدْرِيك ما فرسٌ جَرُورٌ ... وما يدريكَ ما حَمْلُ السّلاحِ )
( وما يدريكِ ما شيخ كبيرٌ ... عَدَاه الدهر عن سَنَن المِراح )
( فأُقْسِمُ لو ركبتِ الوَرْد يوماً ... وليلتَه إلى وَضَح الصَّباح )
( إذاً لنظرتُ منكِ إلى مكان ... كسَحْق البُرْد أو أثَرِ الجِراح )
قال فأصبحت الجارية فدخلت إلى خالد فشكت إليه الأعشى فقالت والله ما تكرم ولقد اجترئ عليك فقال لها وما ذاك فأخبرته أنها مرت برجل في وجه الصبح ووصفته له وأنه سبها فقال ذلك أعشى همدان فأي شيء قال لك فأنشدته الأبيات
فبعث إلى الأعشى فلما دخل عليه قال له ما تقول هذه زعمت أنك هجوتها فقال أساءت سمعا إنما قلت
( مررتُ بنسوة متعطِّرات ... كضوء الصبح أو بَيض الأداحِي )

( على شُقْر البغال فَصِدْن قلبي ... بحسن الدَّلّ والحَدَقِ المِلاح )
( فقلتُ مَنِ الظباءُ فقلن سِرْبٌ ... بدا لك من ظِباء بَنِي رِياح )
فقالت لا والله ما هكذا قال وأعادت الأبيات فقال له خالد أما إنها لولا أنها قد ولدت مني لوهتبها لك ولكني أفتدي جنايتها بمثل ثمنها فدفعه إليه وقال له أقسمت عليك يا أبا المصبح ألا تعيد في هذا المعنى شيئا بعد ما فرط منك
وذكر هذا الخبر العنزي في روايته التي قدمت ذكرها ولم يأت به على هذا الشرح
وقال هو وابن النطاح جميعا وكان خالد يقول للأعشى في بعض ما يمنيه إياه ويعده به إن وليت عملا كان لك ما دون الناس جميعا فمتى استعملت فخذ خاتمي واقض في أمور الناس كيف شئت
قال فاستعمل خالد على أصبهان وصار معه الأعشى فلما وصل إلى عمله جفاه وتناساه ففارقه الأعشى ورجع إلى الكوفة وقال فيه
( تُمنِّيني إمارتَها تَميم ... وما أمِّي بأُمّ بني تَميمَ )
( وكان أبو سليمانِ أخاً لي ... ولكنّ الشِّراكَ من الأديم )
( أتينا أصبهانَ فهزّلَتنا ... وكنّا قبلَ ذلك في نعيم )
( أتذكرنا ومُرّةَ إذ غزونا ... وأنتَ على بُغَيْلك ذي الوُشُوم )
( ويركَب رأسَه في كل وَحْل ... ويعثُر في الطريق المستقيم )
( وليس عليك إلا طَيْلَسانٌ ... نَصِيبىٌّ وإلاّ سَحْقُ نِيم )
( فقد أصبحتَ في خَزّ وقَزّ ... تَبَخْتر ما تَرى لك من حميم )

( وتحسب أن تلقّاها زمانا ... كذبتَ وربِّ مكة والحطيم )
هذه رواية ابن النطاح وزاد العنزي في روايته
( وكانت أصبهانُ كخير أرضٍ ... لمُغتَرِب وصُعلوكٍ عديمِ )
( ولكنّا أتيناها وفيها ... ذوو الأضغان والحقد القديم )
( فأنكرتُ الوجوهَ وأنكرتْني ... وجوهٌ ما تُخبِّر عن كريم )
( وكان سفاهة منّي وجهلا ... مَسِيري لا أسير إلى حميم )
( فلو كان ابنُ عتابٍ كريماً ... سما لرواية الأمر الجسيم )
( وكيف رجاءُ من غلَبتْ عليه ... تنائي الدارِ كالرَّحِم العقيم )
قال ابن النطاح فبعث إليه خالد من مرة هذا الذي أدعيت أني وأنت غزونا معه على بغل ذي وشوم ومتى كان ذلك ومتى رأيت علي الطيلسان والنيم اللذين وصفتهما فأرسل إليه هذا كلام أردت وصفك بظاهره فأما تفسيره فإن مرة مرارة ثمرة ما غرست عندي من القبيح
والبغل المركب الذي ارتكبته مني لا يزال يعثر بك في كل وعث وجدد ووعر وسهل
وأما الطيلسان فما ألبسك إياه من العار والذم وإن شئت راجعت الجميل فراجعته لك فقال لا بل أراجع الجميل وتراجعه فوصله بمال عظيم وترضاه
وهكذا روى من قدمت ذكره
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال لما ولي خالد بن عتاب بن ورقاء أصبهان خرج إليه أعشى همدان وكان صديقه وجاره بالكوفة فلم يجد عنده ما يحب وأعطى خالد الناس عطايا فجعله في أقلها وفضل عليه آل عطارد فبلغه عنه أنه ذمه فحبسه مدة ثم أطلقه فقال يهجوه

( وما كنتُ ممن ألجأَتْه خَصَاصةٌ ... إلَيك ولا ممن تَغُرّ المواعدُ )
( ولكنّها الأطماعُ وهي مُذِلّةٌ ... دنتْ بي وأنت النازح المتباعد )
( أتَحْبِسُني في غير شيء وتارةً ... تلاحظني شَزْراً وأنفُك عاقِد )
( فإنك لا كابْنَيْ فزارة فاعْلَمْن ... خُلِقْتَ ولم يُشبِههما لك والد )
( ولا مُدْرِكٌ ما قد خلا من نَدَاهما ... أبوكَ ولا حوضَيْهما أنت وارد )
( وإنك لو ساميتَ آلَ عُطَارد ... لَبذّتْك أعناقٌ لهم وسواعد )
( ومَأثُرةٌ عاديّةٌ لن تنالَها ... وبيتٌ رفيع لم تَخُنْه القواعد )
( وهل أنت إلا ثعلبٌ في ديارهم ... تُشَلُّ فَتَعْساً أو يقودُك قائد )
( أَرَى خالداً يختال مشياً كأنه ... من الكبرياء نَهْشَلٌ أو عُطَارِدُ )
( وما كان يَرْبُوع شبيهاً لدارِم ... وما عَدَلَتْ شمسَ النهار الفَرَاقد )
قالوا ولما خرج ابن الأشعث على الحجاج بن يوسف حشد معه أهل الكوفة فلم يبق من وجوههم وقرائهم أحد له بناهة إلا خرج معه لثقل وطأة الحجاج عليهم
فكان عامر الشعبي وأعشى همدان ممن خرج معه وخرج أحد النصبي أبو أسامة الهمداني المغني مع الأعشى لألفته إياه وجعل الأعشى يقول الشعر في ابن الأشعث يمدحه ولا يزال يحرض أهل الكوفة بأشعاره على القتال وكان مما قاله في ابن الأشعث يمدحه
( يأبَى الإِله وعزةُ ابن محمد ... وجدودُ مَلْك قبلَ آل ثَمودِ )
( أن تأنسوا بمذمَّمين عروقُهم ... في الناس إنْ نُسبوا عروقُ عَبيد )
( كم من أبٍ لك كان يعقِد تاجَه ... بجبين أبلج مِقْوَلِ صِنْديد )
( وإذا سألتَ المجدُ أين محلّه ... فالمجدُ بين محمد وسعيد )

( بين الأشجّ وبين قيسٍ باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوالده وللمولود )
( ما قصَّرَتْ بكَ أن تَنال مَدَى العُلا ... أخلاقُ مَكْرُمةٍ وإِرثُ جدود )
( قَرْم إذا سامَى القُرُومَ ترى له ... أعراقَ مجدٍ طارفٍ وتَليد )
( وإذا دعا لعظيمةٍ حُشدتْ له ... هَمْدان تحت لوائه المعقود )
( يَمْشُون في حَلَق الحديد كأنهم ... أُسْد الإِباء سمعنَ زَأرَ أسود )
( وإذا دعوتَ بآل كِنْدة أَجْفَلوا ... بكهول صدقٍ سيِّد ومَسُود )
( وشبابِ مأسَدةٍ كأنّ سيوفَهم ... في كلّ مَلْحَمةٍ بروقُ رعود )
( ما إن ترى قيساً يقارب قيسَكم ... في المَكْرُمات ولا ترى كسعيد )

شعره عندما رده ابن الأشعث
وقال حماد الراوية في خبره كانت لأعشى همدان مع ابن الأشعث مواقف محمودة وبلاء حسن وآثار مشهورة وكان الأعشى من أخواله لأن أم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أم عمرو بنت سعيد بن قيس الهمداني
قال فلما صار ابن الأشعث إلى سجستان جبى مالا كثيرا فسأله أعشى همدان أن يعطيه منه زيادة على عطائه فمنعه فقال الأعشى في ذلك
( هل تعرف الدارَ عفا رسمُها ... بالحَضْر فالروضةِ من آمِدِ )

( دارٌ لخَوْدٍ طَفْلَةٍ رُودةٍ ... بانَتْ فأمسى حبُّها عامدِي )
( بيضَاءَ مثلِ الشمس رَقْرَاقةٍ ... تَبْسِم عن ذي أُشُر بارد )
( لم يُخْطِ قلبي سهمُها إذ رمتْ ... يا عجباً من سهمها القاصِد )
( يأيها القَرْمُ الهِجَانُ الذي ... يَبْطِش بطشَ الأسد اللاَّبد )
( والفاعلُ الفعلَ الشريفَ الذي ... يُنْمَى إلى الغائب والشاهد )
( كم قد أُسَدِّي لك من مِدْحةٍ ... تُرْوَى مع الصادر والوارد )
( وكم أجبنا لك من دَعوةٍ ... فاعرفْ فما العارفُ كالجاحد )
( نحن حَمَيْناك وما تَحتمي ... في الرَّوْع من مَثْنىً ولا واحِد )
( يومَ انتصرنا لك مِن عابد ... ويومَ أنجيناك من خالد )
( ووقعة الرَّيّ التي نِلْتَها ... بجَحْفلٍ من جَمْعنا عاقد )
( وكم لَقِينا لك من واترٍ ... بصرِف نابَيْ حَنِق حارد )
( ثم وَطِئْناه بأقدامنا ... وكان مثلَ الحيَّة الراصد )
( إلى بلاء حسنٍ قد مضى ... وأنتَ في ذلك كالزاهد )
( فاذكرُ أيادينا وآلاءَنا ... بعودةٍ من حِلْمك الراشد )
( ويومَ الأهواز فلا تَنْسَه ... ليس النَّثَا والقولُ بالبائد )
( إنا لنرجوك كمال نَرْتجي ... صوبَ الغمام المُبرق الراعد )

( فَانفَخْ بكفَّيْك وما ضَمَّتا ... وافعل فَعالَ السَّيِّد الماجد )
( ما لَك لا تُعطي وأنتَ امرؤٌ ... مُثْرٍ من الطارف والتالد )
( تَجْبي سِجِسْتانَ وما حولها ... مُتكئاً في عيشك الراغد )
( لا ترهبُ الدهرَ وأيامَه ... وتَجْرُد الأرضَ مع الجارد )
( إن يكُ مكروهٌ تَهِجْنا له ... وأنتَ في المعروف كالراقد )
( ثم تَرى أنّا سنرضى بذا ... كلاَّ وربِّ الراكع الساَّجِد )
( وحُرمةِ البيت وأستارِه ... ومَنْ به مِنْ ناسكٍ عابد )
( تلك لكم أمنيّةٌ باطلٌ ... وغفوةٌ من حُلُم الراقد )
( ما أنا إنْ هاجك مِنْ بعدها ... هَيْجٌ بآتيكَ ولا كابِد )
( ولا إذا ناطُوك في حَلْقة ... بحاملٍ عنك ولا فاقد )
( فأَعْطِ ما أعطيتَه طَيِّباً ... لا خيرَ في المَنْكود والناكد )
( نحن ولدناك فلا تَجْفُنا ... واللهُ قد وصَّاك بالوالد )
( إن تك من كِنْدةَ في بيتها ... فإن أخوالكَ من حاشد )
( شُمُّ العرانين وأهلُ الندى ... ومُنتَهى الضيِّفان والرائد )
( كم فيهمُ من فارس مُعْلَم ... وسائسٍ للجيش أو قائد )
( وراكبٍ للهَوْل يجتابُه ... مثلَ شِهاب القَبَس الواقد )
( أو ملأٍ يُشفَى بأحلامهم ... من سَفَه الجاهل والمارد )
( لم يجعلِ اللهُ بأحسابنا ... نقصاً وما الناقص كالزائد )

( وربّ خالٍ لك في قومه ... فرعٌ طويلُ الباع والساعد )
( يَحتضِر البأس وما يبتغي ... سوى إسار البَطَل الناجد )
( والطعنِ بالراية مستمكِناً ... في الصفّ ذي العادِية الناهد )
( فارتَحْ لأخوالك واذكرهمُ ... وأرحمهمُ للسَّلَف العائد )
( فإنّ أخوالَك لم يَبْرحوا ... يُرْبُون بالرِّفد على الرّافدِ )
( لم يَبْخَلوا يوماً ولم يجْبُنوا ... في السّلف الغازِي ولا القاعد )
( ورُبَّ خالٍ لك في قومه ... حمّال أثقال لها واجد )
( مُعْتَرفٍ للرزء في ماله ... والحقِّ للسائل والعامد )

مدحه النعمان بن بشير
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي وذكره العنزي عن أصحابه قالوا جميعا خرج أعشى همدان إلى الشأم في ولاية مروان بن الحكم فلم ينل فيها حظا فجاء إلى النعمان بن بشير وهو عامل على حمص فشكا إليه حاله فكلم

له النعمان بن بشير اليمانية وقال لهم هذا شاعر اليمن ولسانها واستماحهم له فقالوا نعم يعطيه كل رجل منا دينارين من عطائه فقال لا بل أعطوه دينارا دينارا واجعلوا ذلك معجلا فقالوا أعطه إياه من بيت المال واحتسبها على كل رجل من عطائه ففعل النعمان وكانوا عشرين ألفا فأعطاه عشرين ألف دينار وأرتجعها منهم عند العطاء فقال الأعشى يمدح النعمان
( ولَمْ أرَ للحاجاتِ عند التماسها ... كنُعْمانَ نُعمانِ النَّدَى ابن بَشيرِ )
( إذا قال أَوْفَى ما يقول ولم يكن ... كمُدْلٍ إلى الأقوام حبل غُرُور )
( متى أكْفُر النعمانَ لم أُلْفَ شاكراً ... وما خيرُ من لا يقتدِي بشكُور )
( فلولا أخو الأنصار كنتُ كنازلٍ ... ثَوَى ما ثَوَى لم يَنْقَلِبْ بنَقِير )

شعره في حرب نصيبين
وقال الهيثم بن عدي في خبره حاصر المهلب بن أبي صفرة نصيبين وفيها أبو قارب يزيد بن أبي صخر ومعه الخشبية فقال المهلب يأيها الناس لا يهولنكم هؤلاء القوم فإنما هم العبيد بأيديها العصي
فحمل عليهم المهلب وأصحابه فلقوهم بالعصي فهزموهم حتى أزالوهم عن موقفهم
فدس المهلب رجلا من عبد القيس إلى يزيد بن أبي صخر ليغتاله وجعل له ذلك جعلا سنيا قال الهيثم بلغني أنه أعطاه مائتي ألف درهم قبل أن يمضي ووعده بمثلها

إذا عاد فاندس له العبدي فاغتاله فقتله وقتل بعده فقال أعشى همدان في ذلك
( يُسمَّوْن أصحاب العِصيّ وما أرى ... مع القوم إلا المَشْرِفيّةَ مِن عصا )
( ألا أيُّها اللّيثُ الذي جاء حاذِرا ... وألقى بنا جرمى الخيام وعرّصا )
( أتحسب غزو الشأم يوماً وحربه ... كبِيضٍ يُنظِّمن الجُمان المفصَّصا )
( وسيرِك بالأهْواز إذ أنت آمنٌ ... وشربِك ألبانَ الخَلاَيا المُقَرَّصا )
( فأقسمتُ لا تَجْبِي لك الدهر درهماً ... نَصِيبُون حتَّى تُبْتَلى وتُمَحَّصا )
( ولا أنت من أثوابِها الخُضْرِ لابسٌ ... ولكنَّ خُشباناً شِداداً ومِشْقَصا )
( فكم ردَّ من ذِي حاجةٍ لا ينالُها ... جُديْع العَتيك ردّه الله أبرَصا )
( وشيّد بنياناً وظَاهر كسوةً ... وطال جُدَيْع بعد ما كان أوْقَصا )
تصغير جدع جديع بالدال غير معجمة
والأبيات التي كانت فيها الغناء المذكور معه خبر الأعشى في هذا الكتاب يقولها في زوجة له من همدان يقال لها جزلة هكذا رواه الكوفيون وهو الصحيح
وذكر الأصمعي أنها خولة هكذا رواه في شعر الأعشى
فذكر العنزي في أخبار الأعشى المتقدم إسنادها أنها كانت عند الأعشى امرأة من قومه يقال لها أم الجلال فطالت مدتها معه وأبغضها ثم خطب إمرأة من قومه يقال لها جزلة وقال الأصمعي خولة فقالت له لا حتى تطلق أم الجلال فطلقها وقال في ذلك
( تقادَم وُدِّك أمَّ الجَلالِ ... فطاشت نبالُكِ عند النِّضالِ )
( وطال لزومُك لي حِقْبةً ... فَرثت قُوَى الحبل بعد الوِصال )
( وكان الفؤاد بها مُعجَباً ... فقد أصبح اليومَ عن ذاك سالي )

( صَحا لا مُسيئاً ولا ظالماً ... ولكنْ سَلاَ سَلْوةً في جمال )
( ورُضْتِ خلائقِنا كلَّها ... ورُضْنا خلائقَكم كلَّ حال )
( فأَعْيَيْتِنا في الذي بيننا ... تَسُومِينَني كلَّ أمرٍ عُضال )
( وقد تأمُرِينَ بقَطع الصديق ... وكان الصديق لنا غيرَ فالي )
( وإتيانِ ما قد تَجنَّبْتُه ... وليداً ولُمتُ عليه رجالي )
( أفَالْيَوْمَ أَركَبُه بعد ما ... عَلا الشَّيبُ منِّي صَمِيمَ القَذال )
( لعمرُ أبيكِ لقد خِلْتِني ... ضَعيفَ القُوَى أو شديدَ المِحَال )
( هلُمِّي اسألي نائلاً فانظُري ... أأحرِمُكِ الخيرَ عند السؤال )
( ألمْ تعلمي أنّني مُعْرِقُ ... نَمَانِي إلى المجد عمّي وخالي )
( وأنّي إذا ساءني منزلٌ ... عزمتُ فأوشكْتُ منه ارتحالي )
( فبعضَ العتاب فلا تَهْلِكِي ... فَلاَ لَكِ في ذَاكِ خيرٌ ولا لي )
( فلما بدا ليَ منها البَذاءُ ... صَبّحتُها بثلاثٍ عِجالِ )
( ثلاثاً خرجْنَ جميعاً بها ... فخلَّيْنها ذاتَ بيْتٍ ومال )
( إلى أهلها غيرَ مخلوعةٍ ... وما مَسّها عندنا من نَكال )
( فأمستْ تَحِنّ حنينَ اللِّقاح ... من جَزَع إِثْرَ مَن لا يُبالي )
( فحِنِّي حنينَكِ واستيقني ... بأنا أطّرَحْنَاكِ ذاتَ الشمال )
( وأن لا رجوعَ فلا تُكْذَبينَ ... ما حنَّت النِّيبُ إثْرَ الفِصَال )

( ولا تحسبيني بأنِّي ندمتُ ... كَلاّ وخالقنا ذي الجَلال )
فقالت له أم الجلال بئس والله بعل الحرة وقرين الزوجة المسلمة أنت ويحك أعددت طول الصحبة والحرمة ذنبا تسبني وتهجوني بها ثم دعت عليه أن يبغضه الله إلى زوجته التي اختارها وفارقته
فلما انتقلت إلى أهلها وصارت جزلة إليه ودخل بها لم يحظ عندها ففركته وتنكرت له واشتد شغفه بها ثم خرج مع ابن الأشعث فقال فيها
( حَيِّيا جَزْلة منّي بالسّلامِ ... دُرّةَ البحرِ ومصباحَ الظلام )
( لا تَصُدّى بعد وُدّ ثابتٍ ... واسمَعي يا أمَّ عيسى من كلامِي )
( إنْ تَدُوِمي لي فوَصْلي دائمٌ ... أو تَهُمِّي لي بهَجْر أو صِرام )
( أو تكوني مثلَ برقٍ خُلَّبٍ ... خادعٍ يلمَع في عُرْض الغمام )
( أو كتخييلِ سَرَاب مُعْرِضٍ ... بفَلاَة أو طُروقٍ في المنام )
( فاعلمي إن كنتِ لمّا تعلمي ... ومتى ما تفعلي ذاك تُلامي )
( بعد ما كان الذي كان فلا ... تُتْبِعي الإِحسانَ إِلا بالتمام )
( لا تَنَاسَيْ كلَّ ما أعطيْتِني ... مِنْ عهودٍ ومواثيقَ عِظام )
( واذكري الوعدَ الذي واعدْتِني ... ليلةَ النِّصف من الشهر الحرام )
( فلئن بَدّلْتِ أو خِسْتِ بنا ... وتجرَّأتِ على أمِّ صَمام )
أم صمام الغدر والحنث
( لا تُبالِين إذاً مِنْ بعدِها ... أبداً تركَ صلاةٍ أو صيام )
( راجعي الوصل ورُدِّي نظرةً ... لا تَلَجِّي في طِمَاح وأثام )

( وإذا أنكرتِ مني شيمةً ... ولقد يُنكَر ما ليس بذام )
( فاذكريها لي أزُلْ عنها ولا ... تُسْفِحي عينيكِ بالدمع السِّجام )
( وأرى حبلَك رَثّاً خَلَقاً ... وحبالي جُدُداً غيرَ رِمَام )
( عَجِبتْ جزلةُ منّي أن رأتْ ... لِمّتي حُفَّتْ بَشيْب كالثُّغَام )
( ورأت جسمي علاه كَبْرةٌ ... وصروفَ الدهر قد أبلتْ عظامي )
( وصَلِيتُ الحربَ حتى تركْت ... جسدي نِضْواً كأشْلاء اللِّجام )
( وهي بيضاءُ على مَنْكِبها ... قَطَطٌ جَعْدٌ ومَيَّال سُخَامُ )
( وإذا تضحك تُبدي حَبَباً ... كرُضَاب المسك في الراَّح المُدام )
( كَمَلتْ ما بين قَرْنٍ فإلى ... موضعِ الخَلْخال منها والخِدَام )
( فاراها اليومَ لي قد أحدثتْ ... خُلُقاً ليس على العهد القُدَام )
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعيد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي أنه أتى البصرة أيام ابن الزبير فجلس في المسجد إلى قوم من تميم فيهم الأحنف بن قيس فتذاكروا أهل الكوفة وأهل البصرة وفاخروا بينهم إلى أن قال

قائل من أهل البصرة وهل أهل الكوفة إلا خولنا استنقذناهم من عبيدهم يعني الخوارج
قال الشعبي فهجس في صدري أن تمثلت قول أعشى همدان
( أفخرتم أنْ قتلتمْ أَعبُداً ... وهزمتمْ مَرَّةً آلَ عَزَلْ )
( نحن سُقناهمْ إليكم عَنْوةً ... وجمعنا أمرَكم بعد فشل )
( فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكُم يومَ الجَمَل )
( بين شيخٍ خاضبٍ عُثْنونَه ... وفتىً أبيضَ وَضّاحٍ رِفَلّ )
( جاءنا يرفُل في سابغةٍ ... فذبحناه ضحىً ذبحَ الحَمَل )
( وعَفَونا فَنِسيتم عفونَا ... وكفرتم نعمةَ اللَّه الأجلّ )
قال فضحك الأحنف ثم قال يأهل البصرة قد فخر عليكم الشعبي وصدق وانتصف فأحسنوا مجالسته

شعره في هزيمة الزبير الخثعمي
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا الرياشي عن أبي محلم عن الخليل بن عبد الحميد عن أبيه قال

بعث بشر بن مروان الزبير بن خزيمة الخثعمي إلى الري فلقيه الخوارج بجلولاء فقتلوا جيشه وهزموه وأبادوا عسكره وكان معه أعشي همدان فقال في ذلك
( أُمِّرتْ خَثْعمٌ على غير خَيْرِ ... ثم أوصاهُم الأميرُ بسيرِ )
( أين ما كنتُم تَعيفون للناس ... وما تزجُرون من كل طير )
( ضلّت الطيرُ عنكُم بجُلُولاءَ ... وغَرّتكُم أماني الزُّبير )
( قدرٌ ما أتيح لي من فلسطينَ ... على فالج ثَقَال وعَيْر )
( خَثْعميّ مغصّص جرجمانيْ ... محلّ غزا مع ابن نمير )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سألت الأصمعي عن أعشى همدان فقال هو من الفحول وهو إسلامي كثير الشعر ثم قال لي العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال
( من دعا لي غُزَيَّلي ... أربح اللَّه تجارتُه )
ثم قال سبحان الله أمثل هذا يجوز على الأعشى أن يجزم اسم الله عز و جل ويرفع تجارته وهو نصب
ثم قال لي خلف الأحمر والله لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين ظن أن هذا يقبل منه وأن له من المحل مثل أن يجوز مثل هذا
قال ثم قال ومع ذلك أيضا إن قوله

( من دعا لي غزيِّلي ... )
لا يجوز إنما هو من دعا لغزيلي ومن دعا لبعير ضال
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال أملق أعشى همدان فأتى خالد بن عتاب بن ورقاء فأنشده
( رأيتُ ثناءَ الناس بالقول طيباً ... عليكَ وقالوا ماجدٌ وابن ماجِد )
( بَنِي الحارِث السامين للمجد إنكم ... بنيتم بناءً ذكرهُ غيرُ بائد )
( هَنيئاً لِما أعطاكُم اللَّه واعلموا ... بأني سأُطْرِي خالداً في القصائد )
( فإن يك عَتّابٌ مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثلُ خالد )
فأمر له بخمسة آلاف درهم
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان قال قال عمر بن عبد العزيز يوما لسابق البربري ودخل عليه أنشدني يا سابق شيئا من شعرك تذكرني به فقال أو خيرا من شعري فقال هات قال قال أعشى همدان
( وبينما المرءُ ناعماً جذِلاً ... في أهله معجَباً بالعيش ذا أَنقَ )

( غِرّاً أتيح له من حَيْنه عرض ... فما تلبَّث حتى مات كالصَّعِق )
( ثُمَّتَ أضحى ضُحَّى من غبِّ ثالثة ... مقنَّعا غيرَ ذي رُوح ولا رَمَق )
( يُبكَى عليه وأَدْنَوْه لمُظْلِمة ... تُعْلَى جوانبُها بالتُّرب والفِلَقِ )
( فما تزوّد ممّا كان يَجْمعه ... إلاّ حَنُوطاً وما واراه من خِرَق )
( وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشَبّ له ... وقَلّ ذلك من زادٍ لمُطلَّق )
قال فبكى عمر حتى أخضل لحيته
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال سأل أعشى همدان شجرة بن سليمان العبسي حاجة فرده عنها فقال يهجوه
( لقد كنتَ خيّاطاً فأصبحتَ فارساً ... تُعَدّ إذا عُدّ الفوارس من مُضَرْ )
( فإن كنتَ قد أنكرتَ هذا فقُلْ كذا ... وبيِّن لي الجُرحَ الذي كان قد دَثَر )
( وإصبعُكَ الوسطَى عليه شَهيدةٌ ... وما ذاك إلا وَخزُها الثوبَ بالإِبر )
قال وكان يقال إن شجرة كان خياطا وقد كان ولى للحجاج بعض أعمال السواد
فلما قدم على الحجاج قال له يا شجرة أرني إصبعك أنظر إليها قال أصلح الله الأمير وما تصنع بها قال أنظر إلى صفة الأعشى فخجل شجرة
فقال الحجاج لحاجبه مر المعطي أن يعطي الأعشى من عطاء شجرة كذا

وكذا يا شجرة إذا أتاك امرؤ ذو حسب ولسان فاشتر عرضك منه

الحجاج يأسره ويقتله
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال حدثنا أحمد بن عمرو الحنفي عن جماعة قال المبرد أحسب أن أحدهم مؤرج بن عمرو السدوسي قالوا لما أتي الحجاج بن يوسف الثقفي بأعشى همدان أسيرا قال الحمد لله الذي أمكن منك ألست القائل
( لمّا سَفَوْنا للكَفُور الفَتّانْ ... بالسيّد الغِطْرِيف عبد الرحمنْ )
( سار يَجْمع كالقَطَا من قَحْطان ... ومن مَعَدّ قد أتى ابن عَدْنَان )
( أأمكن ربِّي من ثَقِيف هَمْدان ... يوماً إلى الليل يُسَلّي ما كان )
( إنَ ثقيفاً منهم الكَذّابان ... كَذّابُها الماضي وكذابٌ ثان )
أولست القائل
( يابنَ الأشجّ قَريعِ كِندَةَ ... لا أُبالي فيك عَتْبَا )
( أنت الرئيسُ ابنُ الرئيس ... وأنت أعلى الناس كعبا )

( نُبِّئتُ حَجّاجَ بن يوسف ... خَرّ مِن زَلَقٍ فَتَبّا )
( فانهضْ فُدِيتَ لعلّه ... يجلو بك الرحمنُ كَرْبا )
( وابعث عطيّةَ في الخيول ... يَكُبّهنّ عليه كَبّا )
كلا يا عدو الله بل عبد الرحمن بن الأشعث هو الذي خر من زلق فتب وحار وانكب وما لقي ما أحب ورفع بها صوته واربد وجهه واهتز منكباه فلم يبق أحد في المجلس إلا أهمته نفسه وارتعدت فرائصه
فقال له الأعشى بل أنا القائل أيها الأمير
( أبى اللَّهُ إلا أن يتم نورَه ... ويُطفىء نارَ الفاسقين فتخمُدَا )
( ويُنزل ذُلاًّ بالعراق وأهلِه ... كما نقضوا العهدَ الوَثيق المؤكّدا )
( وما لبث الحجاجُ أن سَلّ سيفَه ... علينا فولَّى جمعُنا وتبدّدا )
( وما زاحَف الحجاجُ إلا رأيتَه ... حُساماً مُلَقّىً للحروب مُعَوَّدا )
( فكيف رأيتَ اللَّه فرّق جمعَهم ... ومزَّقهم عُرْضَ البلاد وشَرّدا )
( بما نكَثوا من بَيْعة بعد بيعة ... إذا ضَمِنوها اليوم خَاسُوا بها غدا )
( وما أحدثوا من بِدعة وعَظيمة ... من القوم لم تصعَدْ إلى الله مَصْعَدا )
( ولمّا دَلَفْنَا لإبن يوسف ضِلّة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا )
( قطعنا إليه الخندقين وإنما )
( قطعنا وأفضينا إلى الموت مُرْصِدا ) ... ( فصادَمَنا الحجاجُ دون صفوفنا ... كِفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا )

( بجُند أمير المؤمنين وخيلِه ... وسلطانه أمسى مُعاناً مؤيَّدا )
( ليهنىءْ أميرَ المؤمنين ظهورُه ... على أمة كانوا بُغاةً وحُسّدا )
( وجدنا بني مروان خيرَ أئمة ... وأعظمَ هذا الخَلْق حلماً وسُؤدُدا )
( وخيرَ قريش في قريش أَرُومَةً ... وأكرمَهم إلاّ النبيَّ محمدا )
( إذا ما تدبَّرنا عواقبَ أمرنا ... وجدنا أمير المؤمنين المُسَدَّدا )
( سيغِلب قوما غالبوا اللهَ جَهْرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا )
( كذاك يُضِلّ الله من كان قلبُه ... ضعيفا ومن والى النفاقَ وأَلْحدا )
( فقد تركوا الأموال والأهل خلفَهم ... وبِيضاً عليهن الجلابين خُرّدا )
( ينادينهم مستعبراتٍ إليهم ُ ... ويُذْرين دمعًا في الخدود وإثمِدا )
( وإلا تناولهنّ منك برحمة ... يكنّ سَبَبا والبُعولُة أعُبدا )
( تَعّطفْ أميرَ المؤمنين عليهم ... فقد تركوا أمرَ السفاهة والرَّدى )
( لعلهمُ أن يُحدثوا العامَ توبةً ... وتعرفَ نُصحاً منهمُ وتودُّدا )
( لقد شَمْتَ يابن الأشعث العامَ مَصرنا ... فظلّوا وما لاقوا من الطير أَسْعُدا )
( كما شاءم اللَّه النُّجَيْر وأهلَه ... بجَدِّك مَنْ قد كان أشقى وأنكدا )
فقال من حضر من أهل الشام قد أحسن أيها الأمير فخل سبيله فقال أتظنون أنه أراد المدح لا والله لكنه قال هذا أسفا لغلبتكم إياه وأراد به أن يحرض أصحابه
ثم أقبل عليه فقال له أظننت يا عدو الله أنك تخدعني بهذا الشعر وتنفلت من يدي حتى تنجو ألست القائل ويحك

( وإذا سألتَ المجدُ أين محلُّه ... فالمجدُ بين محمد وسعيدِ )
( بين الأغرِّ وبين قيس باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوالِده وللمولودِ )
والله لا تبخبخ بعدها أبدا أو لست القائل
( وأصابني قومٌ وكنتُ أصيبهم ... فاليوم أصبِر للزمان وأعرف )
كذبت والله ما كنت صبورا ولا عروفا ثم قلت بعده
( وإذا تُصبْك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبرْ فكل غَيَابة ستكشَّف )
أما والله لتكونن نكبة لا تنكشف غيابتها عنك أبدا يا حرسي اضرب عنقه فضرب عنقه
وذكر مؤرج السدوسي أن الأعشى كان شديد التحريض على الحجاج في تلك الحروب فجال أهل العراق جولة ثم عادوا فنزل عن سرجه ونزعه عن فرسه ونزع درعه فوضعها فوق السرج ثم جلس عليها فأحدث والناس يرونه ثم أقبل عليهم فقال لهم لعلكم أنكرتم ما صنعت قالوا أو ليس هذا موضع نكير قال لا كلكم قد سلح في سرجه ودرعه خوفا وفرقا ولكنكم سترتموه وأظهرته فحمي القوم وقاتلوا أشد قتال يومهم إلى الليل وشاعت فيهم الجراح والقتلى وانهزم أهل الشأم يومئذ ثم عاودوهم من غد وقد نكأتهم الحرب وجاء مدد من أهل الشأم فباكروهم القتال وهم مستريحون فكانت الهزيمة وقتل ابن الأشعث
وقد حكيت هذه الحكاية عن أبي كلدة اليشكري أنه فعلها في هذه الوقعة وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني في أخبار أبي كلدة وقد ذكر ما حكاه مع أخباره في موضعه من هذا الكتاب

أخبار أحمد النصبي ونسبه
النصبي هو صاحب الأنصاب
وأول من غنى بها وعنه أخذ النصب في الغناء هو أحمد بن أسامة الهمداني من رهط الأعشى الأدنين
ولم أجد نسبه متصلا فأذكره وكان يغني بالطنبور في الإسلام
وكان فيما يقال ينادم عبيد الله بن زياد سرا ويغينه وله صنعة كثيرة حسنة لم يلحقها أحد من الطنبوريين ولا كثير ممن يغني بالعود
وذكره جحظة في كتاب الطنبوريين فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره ولا زمانه وثلبه فيما ذكره
وكان مذهبه عفا الله عنا وعنه في هذا الكتاب أن يثلب جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قدر عليه وكان يجب عليه ضد هذا لأن من انتسب إلى صناعنه ثم ذكر متقدمي أهلها كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم وظريف قصصهم ومليح ما عرفه منهم لا أن يثلبهم بما لا يعلم وما يعلم
فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار أحمد النصبي وبه صدر كتابه فقال أحمد النصبي أول من غنى الأنصاب على الطنبور وأظهرها وسيرها ولم يخدم خليفة ولا كان له شعر ولا أدب
وحدثني جماعة من الكوفيين أنه لم يكن بالكوفة أبخل منه مع يساره وأنه كان يقرض الناس بالربا وأنه اغتص في دعوة دعي إليها بفالوذجة حارة فبلعها فجمعت أحشاءه فمات
وهذا كله باطل أما الغناء فله منه صنعة في الثقيل الأول

وخفيف الثقيل والثقيل الثاني ليس لكثير أحد مثلها
ومنها الصوت الذي تقدم ذكره وهو قوله
( حيِّيا خولةَ منِّي بالسلامِ ... )
ومنها
( سَلَبتَ الجواري حَلْيَهنّ فلم تدَعْ ... سِواراً ولا طَوْقا على النحر مُذْهَبَا )
وهو من الثقيل الثاني والشعر للعديل بن الفرخ وقد ذكرت ذلك في أخباره
ومنها
( يأيها القلبُ المطيعُ الهوى ... أنَّى اعتراك الطَربُ النازحُ )
وهو أيضا من الثقيل الثاني وأصوات كثيرة نادرة تدل على تقدمه
وأما ما وصفه من بخله وقرضه للناس بالربا وموته من فالوذجة حارة أكلها فلا أدري من من الكوفيين حدثه بهذا الحديث ليس يخلو من أن يكون كاذبا أو نحل هو هذه الحكاية ووضعها هنا لأن أحمد النصبي خرج مع أعشى همدان وكان قرابته وإلفه في عسكر ابن الأشعث فقتل فيمن قتل
روى ذلك الثقات من أهل الكوفة والعلم بأخبار الناس وذلك يذكر في جملة أخباره
أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه وذكره العنزي في أخبار أعشى همدان المذكورو عنه عن رجاله

المسمين قال كان أحمد النصبي مواخيا لأعشى همدان مواصلا له فأكثر غنائه في أشعاره مثل صنعته في شعره
( حيِّيا خولةَ منِّي بالسلامِ ... ) و
( لمن الظعَّائن سيرُهن ترجُّفُ ... ) و
( يأيها القلب المطيعُ الهوى ... )
وهذه الأصوات قلائد صنعته وغرر أغانيه
قال وكان سبب قوله الشعر في سليم ابن صالح بن سعد بن جابر العنبري وكان منزل سليم ساباط المدائن أن أعشى همدان وأحمد النصبي خرجا في بعض مغازيهما فنزلا على سليم فأحسن قراهما وأمر لدوابهما بعلوفة وقضيم وأقسم عليهما أن ينتقلا إلى منزله ففعلا فعرض عليهما الشراب فأنعما به وطلباه فوضعه بين أيديهما وجلسا يشربان فقال أحمد النصبي للأعشى قل في هذا الرجل الكريم شعرا تمدحه به حتى أغني فيه فقال الأعشى يمدحه
( يأيها القلبُ المطيع الهوى ... أنَّى اعتراك الطَّربُ النازِحُ )
( تذكُر جُمْلاً فإِذا ما نأتْ ... طار شعاعاً قلبُك الطامح )
( هَلاّ تناهيتَ وكنتَ امرأً ... يزجُرك المُرشِد والنَّاصح )

( ما لك لا تترُك جهلَ الصِّبا ... وقد علاك الشَّمِط الواضح )
( فصار من ينهاك عن حبّها ... لم تَرَ إلا أنه كاشح )
( يا جُمْل ما حُبّي لكم زائلٌ ... عنّي ولا عن كَبِدي نازح )
( حُمّلت وُدًّا لكُم خالصاً ... جِدًّا إذا ما هزَل المازح )
( ثم لقد طال طِلابِيكُم ... أسعى وخيرُ العمل النّاجح )
( إني توسّمت امرأً ماجداً ... يصدُق في مِدْحته المادح )
( ذؤابةَ العنبر فاخترتُه ... والمرء قد يُنْعِشُه الصالح )
( أَبْلَجَ بُهْلولا وظنّي به ... أنّ ثنائي عنده رابح )
( سَلِيمُ ما أنتَ بِنِكْسٍ ولا ... ذمَّك لي غادٍ ولا رائح )
( أُعطيتَ وُدّي وثنائي معا ... وخَلّةً ميزانُها راجح )
( أرعاك بالغيب وأهوى لك الرشد ... وجَيْبي فاعلمنْ ناصح ... )
( إني لِمَن سالمتَ سِلمٌ ومن ... عاديتَ أُمْسِي وله ناطح )
( في الرأس منه وعلى أنفه ... من نَقَمَاتي مِيسَمٌ لائح )
( نِعْم فتى الحيّ إذَا ليلةٌ ... لم يُورِ فيها زَندَهُ القادح )
( وراح بالشَّوْل إلى أهلها ... مغبّرةً أذقانُها كالح )
( وهَبّت الريحُ شآميةً ... فانجَحَر القابسُ والنابح )

( قد علم الحيّ إذا أمْحلوا ... أنك رفّادٌ لهم مانح )
( في الليلة القالِي قِراها التي ... لا عابِقٌ فيها ولا صابح )
( فالضيف معروفٌ له حقُّه ... له على أبوابكم فاتح )
( والخيلُ قد تعلم يومَ الوغى ... أنّك من جَمْرتها ناضح )
قال فغنى أحمد النصبي في بعض هذه الأبيات وجارية لسليم في السطح فسمعت الغناء فنزلت إلى مولاها وقالت إني سمعت من أضيافك شعرا ما سمعت أحسن منه فخرج معها مولاها فاستمع حتى فهم ثم نزل فدخل عليهما فقال لأحمد لمن هذا الشعر والغناء ومن أنتما فقال الشعر لهذا وهو أبو المصبح أعشى همدان والغناء لي وأنا أحمد النصبي الهمداني فانكب على رأس أعشى همدان فقبله وقال كتمتماني أنفسكما وكدتما أن تفارقاني ولم أعرفكما ولم أعلم خبركما واحتبسهما شهرا ثم حملهما على فرسين وقال خلفا عندي ما كان من دوابكما وارجعا من مغزاكما إلي
فمضيا إلى مغزاهما فأقاما حينا ثم انصرفا فلما شارفا منزله قال أحمد للأعشى إني أرى عجبا قال وما هو قال أرى فوق قصر سليم ثعلبا قال لئن كنت صادقا فما بقي في القرية أحد فدخلا القرية فوجدا سليما وجميع أهل القرية قد أصابهم الطاعون فمات أكثرهم وانتقل باقيهم
هكذا ذكر إسحاق وذكر غيره أن الحجاج طالب سليما بمال عظيم فلم يخرج منه حتى باع كل ما يملكه وخربت قريته وتفرق أهلها ثم باعه الحجاج عبدا فاشتراه بعض أشراف أهل الكوفة إما أسماء بن خارجة وإما بعض نظرائه فأعتقه

نسبة هذاالصوت الذي قال الأعشى شعره وصنع أحمد النصبي لحنه في سليم
صوت
( يأيها القلبُ المطيع الهوى ... أنَّى اعتراك الطربُ النازحُ )
( تذكُر جُمْلا فإذا ما نأَت ... طار شَعاعاً قلبُك الطامح )
( أُعْطِيت ودّي وثنائي معاً ... وخَلَّةً ميزانها راجح )
( إني تخيرت امرأ ماجدا ... يصدُق مِدْحته المادح )
( سلِيم ما أنت بِنِكْسٍ ولا ... ذَمَّك لي غادٍ ولا رائح )
( نِعْم فتى الحيّ إذا ليلةٌ ... لم يُورِ فيها زَنْدَه القادح )
( وراح بالشَّوْل إلى أهلها ... مُغْبَرَّةً أذقانُها كالِح )
( وهَبَّتِ الريحُ شآميةً ... فانجَحَر القابسُ والنابح )
الشعر لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي ولحنه ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر يونس أن فيه لمالك لحنا ولسنان الكاتب لحنا آخر
صوت
من المائة المختارة
( تَنَكَّر من سُعْدَى وأقفر من هندٍ ... مُقامُهما بين الرَّغامين فالفردِ )
( محلٌّ لسُعْدى طالما سكنتْ به ... فأوحشَ ممن كان يسكنه بَعْدي )

الشعر لحماد الراوية والغناء لعبادل ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل أول بالوسطى ذكر الهشامي أنه للهذلي وذكر عمرو بن بانة أنه لعبادل بن عطية

أخبار حماد الراوية ونسبه
هو حماد بن ميسرة فيما ذكره الهيثم بن عدي وكان صاحبه وراويته وأعلم الناس به وزعم أنه مولى بني شيبان
وذكر المدائني والقحذمي أنه حماد بن سابور وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها
وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره فيفد عليهم وينادمهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها ويجزلون صلته
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي وعمي وإسماعيل العتكي قالوا حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي كان حماد أعلم الناس إذا نصح قال وقلت لحماد ممن أنتم قال كان أبي من سبي سلمان بن ربيعة فطرحتنا سلمان لبني شيبان فولاؤنا لهم
قال وكان أبوه يسمى ميسرة ويكنى أبا ليلى قال العتكي في خبره قال الرياشي وكذلك ذكر الهيثم بن عدي في أمر حماد
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي والهيثم بن عدي ولقيط قالوا قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية بم استحققت هذا اللقب فقيل لك

الراوية فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به ثم لا أنشد شعرا قديما ولا محدثا إلا ميزت القديم منه من المحدث فقال إن هذا لعلم وأبيك كثير فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال كثيرا ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال سأمتحنك في هذا وأمره بالإنشاد فأنشد الوليد حتى ضجر ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم

حماد ومروان بن أبي حفصة
أخبرني يحيى بن علي المنجم قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق الموصلي عن مروان بن أبي حفصة وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري عن الأثرم عن مروان بن أبي حفصة قال دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في

جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو في فرش قد غاب فيها وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرا وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره وقال هذا أخذه من موضع كذا وكذا وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان حتى أتى على أكثر الشعر فقلت من هذا فقالوا حماد الراوية
فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده قلت ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين وهو لحنة لحانة فأقبل الشيخ علي وقال يابن أخي إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامها فهل تروي من أشعار العرب شيئا فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل فقلت له نعم شعر ابن مقبل قال أنشد فأنشدته قوله
( سلِ الدارَ من جَنْبيْ حِبرٍّ فواهبٍ ... إذا ما رأى هَضْبَ القليب المُضَيَّحُ )
ثم جزت فقال لي قف فوقفت فقال لي ماذا يقول فلم أدر ما يقول فقال لي حماد يابن أخي أنا أعلم الناس بكلام العرب
يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا
حدثني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قلت لحماد الراوية يوما ألق علي ما شئت من الشعر أفسره لك فضحك

وقال لي ما معنى قول ابن مزاحم الثمالي
( تَخَوَّف السيرُ منها تامكاً قَرِداً ... كما تَخوّف عُودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ )
فلم أدر ما أقول فقال تخوف تنقص قال الله عز و جل ( أو يأخذهم على تخوف ) أي على تنقص
قال الهيثم ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثني الكراني محمد بن سعد عن النضر بن عمرو عن الوليد بن هشام عن أبيه قال أنشدني الفرزدق وحماد الراوية حاضر
( وكنتَ كذئب السَّوْء لمّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدمِ )
فقال له حماد أنت تقوله قال نعم قال ليس الأمر كذلك هذا لرجل من أهل اليمن قال ومن يعلم هذا غيرك أفأردت أن أتركه وقد نحلنيه الناس ورووه لي لأنك تعلمه وحدك ويجهله الناس جميعا غيرك
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني الفضل قال حدثني ابن النطاح قال حدثني أبو عمرو الشيباني قال ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدمه على نفسه ولا سألت حمادا عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه

حدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم وذكر عبد الله بن مسلم عن الثقفي عن إبراهيم بن عمر والعامري قالا كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون حماد عجرد وجماد بن الزبرقان وحماد الراوية يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار ويتعاشرون معاشرة جميلة وكانوا كأنهم نفس واحدة وكانوا يرمون بالزندقة جميعا

حماد البخيل
أخبري الحسن بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخل مطيع بن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية فإذا سراجه على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين فقال له يحيى بن زياد يا حماد إنك لمسرف مبتذل لحر المتاع فقال له مطيع ألا تبيع هذه المنارة وتشتري أقل ثمنا منها وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع به فقال له يحيى ما أحسن ظنك به ومن أين له مثل هذه إنما هي وديعة أو عارية فقال له مطيع أما إنه لعظيم الأمانة عند الناس قال له يحيى وعلى عظيم أمانته فما أجهل من يخرج مثل هذه من داره ويأمن عليها غيره قال مطيع ما أظنها عارية ولا وديعة ولكني أظنها مرهونة عنده على مال وإلا فمن يخرج هذه من بيته فقال لهما حماد قوما عني يا بني الزانيتين واخرجا من منزلي فشر منكما من يدخلكما بيته

انقطع ليزيد فجفاه هشام
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال حدثني محمد بن عبد الرحمن العبدي عن حميد بن محمد الكوفي عن إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي عن محمد بن أنس وأخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وخبر حماد بن إسحاق أتم واللفظ له
قال حماد الراوية كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك فكان هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية في أيام يزيد فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سرا فلما لم أسمع أحد يذكرني سنة أمنت فخرجت فصليت الجمعة ثم جلست عند باب الفيل فإذا للشرطين قد وقفا علي فقالا لي يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر فقلت في نفسي من هذا كنت أحذر ثم قلت للشريطيين هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبدا ثم أصير معكما إليه فقالا ما إلى ذلك من سبيل فاستسلمت في أيديهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروع ولا متعتع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريا يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق

دمشق
فأخذت الخمسمائة الدينار ونظرت فإذا جمل مرحول فوضعت رجلي في الغرز وسرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالزحام وهو في مجلس مفروش بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانه كذلك وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خز حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه فسلمت فرد علي واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله وإذا جاريتان لم أر قبلهما مثلهما في أذني كل واحدة منهما حلقتان من ذهب فيهما لؤلؤلتان تتوقدان فقال لي كيف أنت يا حماد وكيف حالك فقلت بخير يا أمير المؤمنين قال أتدري فيم بعث إليك قلت لا قا لبعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قاله فقلت وما هو فقال
( فدعَوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ )
قلت هذا يقوله عدي بن زيد في قصيدة له قال فأنشدنيها فأنشدته
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألاَ تستفيق )

( ويلومون فيك يابنةَ عبد الله ... والقلب عندكم مَوْهوق )
( لست أدري إذ أكثروا العذلَ عندي ... أعدوُّ يلومني أو صديق )
( زانها حسنُها وفَرْع عَمِيم ... وأثيثٌ صَلْتُ الجبين أنيق )
( وثنايا مُفلّجات عذاب ... لا قَصارٌ تُرى ولا هُنّ رُوق )
( فدعَوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قيْنةٌ في يمينها إبريق )
( قدّمْته على عُقار كعين الديك ... صفَّى سُلافَها الرَّاووق )
( مُرّة قبل مزجها فإذا ما ... مُزجت لذّ طعمها من يذوق )
( وطفَت فوقها فقاقيعُ كالدرّ ... صِغار يُثيرها التَّصْفيق )
( ثم كان المِزاج ماء سماء ... غير ما آجنٍ ولا مَطْروق )
قال فطرب ثم قال أحسنت والله يا حماد يا جارية أسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي
وقال أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه ثم قال للجارية الأخرى اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي
فقلت إن سقتني الثالثة افتضحت فقال سل حوائجك فقلت كائنة ما كانت قال نعم قلت إحدى الجاريتين فقال لي هما جميعا لك بما عليهما وما لهما ثم قال للأولى اسقيه فسقتني شربة سقطت معها فلم اعقل حتى أصحبت فإذا بالجاريتين عند رأسي وإذا عدة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة فقال لي أحدهم أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك خذ هذه فانتفع بها فأخذتها

والجاريتين وانصرفت
هذا لفظ حماد عن أبيه ولم يقل أحمد بن عبيد في خبره أنه سقاه شيئا ولكنه ذكر أنه طرب لإنشاده ووهب له الجاريتين لما طلب إحداهما وأنزله في دار ثم نقله من غد إلى منزل أعده له فانتقل إليه فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه وأنه أقام عنده مدة فوصل إليه مائة ألف درهم وهذا هو الصحيح لأن هشاما لم يكن يشرب ولا يسقى أحد بحضرته مسكرا وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه
في أبيات عدي المذكورة في هذا الخبر غناء نسبته

صوت
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون ما له لا يُفيقُ )
( ويلومون فيكِ يابنةَ عبد اللَّه ... والقلبُ عندكم مَوْهوق )
( ثم نادوْا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنة في يمينها إبريق )
( قدّمْته على عُقار كعين الديك ... صفّى سُلاَفها الراووق )
في البيتين الأولين لحن من الثقيل الأول مختلف في صانعه نسبه يحيى بن المكي إلى معبد ونسبه الهشامي إلى حنين
وفي الثالث وهو ثم نادوا والرابع لعبد الله بن العباس الربيعي رمل وفيهما خفيف رمل ينسب إلى مالك وخفيف ثقيل ذكر حبش أنه لحنين

أجازه يوسف بن عمر بأمر الوليد
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الأصمعي قال قال حماد الراوية كتب الوليد بن يزيد وهو خليفة إلى يوسف بن عمر أحمل إلي حمادا الراوية على ما أحب من دواب البريد وأعطه عشرة آلاف درهم معونة له فلما أتاه الكتاب وأنا عنده نبذه إلي فقلت السمع والطاعة فقال يا دكين بن شجرة أعطه عشرة آلاف درهم فأخذتها
فلما كان اليوم الذي اردت الخروج فيه أتيت يوسف مودعا فقال يا حماد أنا بالموضع الذي قد عرفت من أمير المؤمنين ولست مستغنيا عن ثنائك فقلت أصلح الله الأمير إن العوان لا تعلم الخمرة
خرجت حتى أتيت الوليد بن يزيد وهو بالبخراء فاستأذنت فأذن لي فإذا هو على سرير ممهد وعليه ثوبان إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئا وإذا عنده معبد ومالك وأبو كامل مولاه فتركني حتى سكن جأشي ثم قال أنشدني
( أمِن المنونِ وريْبِها تتوجّع ... ُ )
فأنشدته إياها حتى أتيت على آخرها فقال لساقيه اسقه يا سبرة أكؤسا فسقاني

ثلاث كؤس خدرت ما بين الذؤابة والنعل
ثم قال يا معبد غنني
( ألا هل جاءك الأظعانُ ... إذ جاوزن مُطَّلَحا )
فغناه ثم قال غنني
( أتنسى إذ تودّعنا سُلَيمى ... بفرع بَشَامةٍ سُقِيَ البَشام )
فغنى ثم قال غنني
( جَلا أُميّة عنّا كلَّ مَظْلِمة ... سهلُ الحجابِ وأوْفَى بالذي وَعَدا )
فغناه ثم قال اسقني يا غلام شاب بزب فرعون فأتاه بقدح معوج فيه طول فسقاه به عشرين قدحا
ثم أتاه الحاجب فقال أصلح الله أمير المؤمنين الرجل الذي طلبت بالباب فقال أدخله فدخل غلام شاب لم أر أحسن منه وجها في رجله فدع فقال يا سبرة اسقه كأسا فسقاه ثم قال له غنني
( وهْي إذ ذاك عليها مئزر ... ولها بيتُ جَوَار من لُعَبْ )
فغناه فنبذ إليه أحد ثوبيه ثم قال غنني
( طَرَق الخيالُ فمرحَبَا ... الفاً برؤية زينَبا )
فغضب معبد وقال يا أمير المؤمنين إنا مقبلون إليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تتركنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبي فقال والله يا أبا عباد ما جهلت

قدرك ولا سنك ولكن هذا الغلام طرحني على مثل الطياجن من حرارة غنائه فسألت عن الغلام فإذا هو ابن عائشة

طلبه المنصور فجاءه وأنشده شعرا
حدثني الحسن بن محمد المادراني الكاتب قال حدثني الرياشي عن العتبي وأخبرني به هاشم بن محمد عن الرياشي وليس خبره بتمام هذا قال طلب المنصور حمادا الراوية فطلب ببغداد فلم يوجد وسئل عنه إخوانه فعرفوا من سألهم عنه أنه بالبصرة فوجهوا إليه برسول يشخصه
قال الرسول فوجدته في حانة وهو عريان يشرب نبيذا من إجانة وعلى سوأته رأس دستجة فقلت أجب أمير المؤمنين
فما رأيت رسالة أرفع ولا حالة أوضع من تلك فأجاب فأشخصته إليه فلما مثل بين يديه قال له أنشدني شعر هفان بن همام بن نضلة يرثي أباه فأنشده
( خليليّ عُوجا إنها حاجةٌ لنا ... على قبر همّامٍ سقتْه الرواعدُ )
( على قبر منْ يُرجى نداه ويُبتغى ... جداه إذا لم يحمد الأرض رائد )
( كريم الثَّنا حلو الشمائل بينه ... وبين المزجَّى نفْنفٌ متباعد )

( إذا نازع القومَ الأحاديث لم يكن ... عيِيَّا ولا ثِقْلا على من يقاعد )
( صبورٌ على العِلاّت يُصبح بطنُه ... خَميصاً وآتِيه على الزاد حامد )
( وضعنا الفتى كلّ الفتى في حَفِيرة ... بحُرِّين قد راحتْ عليه العوائد )
( صريعاً كنصل السيف تضرِبُ جلوه ... ترائبَهنّ المُعْوِلاتُ الفواقد )
قال فبكى أبو جعفر حتى أخضل لحيته ثم قال هكذا كان أخي أبو العباس رضي الله عنه
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس ويحبه وكان منقطعا إليه وله معه منزلة حسنة فذكر له حمادا الراوية وكان صديقه وكان مطرحا مجفوا في أيامهم فقال ائتنا به لنراه
فأتى مطيع حمادا فأخبره بذلك وأمره بالمسير معه إليه فقال له حماد دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي عند هؤلاء خير فأبى مطيع إلا الذهاب إليه فاستعار حماد سوادا وسيفا ثم أتاه ثم مضى به مطيع إلى جعفر
فلما دخل عليه سلم عليه سلاما حسنا وأثنى عليه وذكر فضله فرد عليه وأمره بالجلوس فجلس فقال جعفر انشدني فقال لمن أيها الأمير ألشاعر بعينه أم لمن حضر قال بل أنشدني لجرير قال حماد فسلخ والله شعر جرير كله من قلبي إلا قوله
( بان الخليطُ برامتيْن فودَّعوا ... أو كلَّما اعتزموا لبَيْن تجزَعُ )

فاندفعت فأنشدته إياه حتى انتهيت إلى قوله
( وتقول بَوْزَعُ قد دَبَبْتَ على العصا ... هلاّ هَزِئتِ بغيرنا يا بوْزعُ )
قال حماد فقال لي جعفر أعد هذا البيت فأعدته فقال بوزع أي شيء هو فقلت اسم امرأة فقال أمرأة اسمها بوزع هو بريء من الله ورسوله ونفي من العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليلة من فزع بوزع يا غلمان قفاه فصفعت والله حتى لم أدر أين أنا ثم قال جروا برجله فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوبا فتخرق السواد وانكسر جفن السيف ولقيت شرا عظيما مما جرى علي وكان أغلظ من ذلك كله واشد بلاء إغرامي ثمن السواد وجفن السيف فلما انصرفت أتاني مطيع يتوجع لي فقلت له ألم أخبرك أني لا أصيب منهم خيرا وأن حظي قد مضى مع بني أمية
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال بلغني أن رجلا تحدث في مجلس حماد الراوية فقال بلغني أن المأبون له رحم كرحم المرأة قال وكان الرجل يرمى بهذا الداء فقال حماد لغلامه اكتب هذا الخبر عن الشيخ فإن خير العلم ما حمل عن أهله
قال وكتب حماد الراوية إلى بعض الأشراف الرؤساء قال
( إن لي حاجةً فرأيَك فيها ... لك نفسي فِدًى من الأوصابِ )
( وهي ليست مما يبلِّغها غيري ... ولا يستطيعها في كتاب )
( غيرَ أنّي أقولها حين ألقاك ... رُوَيْداً أُسِرُّها في حجاب )
فكتب إليه الرجل اكتب إلي بحاجتك ولا تشهرني بشعرك فكتب إليه حماد

( إنني عاشق لجُبّتك الدَّكْناءِ ... عشقاً قد حال دون الشرابِ )
( فاكسُنِيها فدتْك نفسي وأهلي ... أَتبَاهَى بها على الأصحاب )
( ولك الله والأمانة أن أجعلها ... عمرَها أميرَ ثيابي )
فبعث إليه بها وقد رويت هذه القصة لمطيع بن إياس

حماد والخزيمي وبعض الغلمان
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو يعقوب الخزيمي قال كنت في مجلس فيه حماد عجرد وحماد الراوية ومعنا غلام أمرد فنظر إليه حماد الراوية نظرا شديدا وقال لي يا أبا يعقوب قد عزمت الليلة على أن أدب على هذا الغلام فقلت شأنك به ثم نمنا فلم أشعر بشىء إلا وحماد ينيكني وإذا أنا قد غلطت ونمت في موضع الغلام فكرهت أن أتكلم فينتبه الناس فأفتضح وأبطل عليه ما أراد فأخذت بيده فوضعتها على عيني العوراء ليعرفني فقال قد عرفت الآن فيكون ماذا وفديناه بذبح عظيم قال وما برح علم الله وأنا أعالجه جهدي فلا ينفعني حتى أنزل
قال إسحاق وأهدى حماد إلى صديق له غلاما وكتب إليه قد بعثت إليك غلاما تتعلم عليه كظم الغيظ
قال

واستهدى من صديق له نبيذا فأهدى إليه دسيتجة نبيذ فكتب إليه لو عرفت في العدد أقل من واحد وفي الألوان شرا من السواد لأهديته إلي
قال وسمع مغنية تغني
( عاد قلبي من الطويلة عاد ... )
فقال وثمود فإن الله عز و جل لم يفرق بينهما والشعر
( عاد قلبي من الطويلة عِيد ... )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني أبو عثمان اللاحقي وأخبرني به محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن بشر بن المفضل بن لاحق قال جاء رجل إلى حماد الراوية فأنشده شعرا وقال أنا قلته فقال له أنت لا تقول مثل هذا هذا ليس لك وإن كنت صادقا فاهجني فذهب ثم عاد إليه فقال له قد قلت فيك
( سيعلم حَمّاد إذا ما هجوتُه ... أأنتحل الأشعار أم أنا شاعرُ )
( ألم تر حماداً تقدّم بطنُه ... وأُخّر عنه ما تَجنّ المآزر )
( فليس براءٍ خُصْيتيْه ولو جَثَا ... لركبته ما دام للزيت عاصر )
( فيا ليته أَمْسَى قعيدةَ بيته ... له بعلُ صدقٍ كَوْمه متواترِ )
( فحماد نعم العِرْسُ للمرء يبتغي النكاح ... وبئس المرء فيمن يفاخِر )

فقال حماد حسبنا عافاك الله هذا المقدار وحسبك قد علمنا أنك شاعر وأنك قائل الشعر الأول وأجود منه وأحب أن تكتم هذا العشر ولا تذيعه فتفضحني فقال له قد كنت غنيا عن هذا
وانصرف الرجل وجعل حماد يقول أسمعتم أعجب مما جررت على نفسي من البلاء
حدثني الأسدي أبو الحسن قال حدثنا الرياشي قال حدثنا أبو عبد الله الفهمي قال عاب حماد الراوية شعرا لأبي الغول فقال يهجوه
( نعم الفتى لو كان يعرف ربَّه ... ويُقيمُ وقتَ صلاته حمادُ )
( هَدَلتْ مشافرَه الدَّنَان فأنفُه ... مثل القَدُوم يَسُنّها الحدّاد )
( وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد )
( لا يُعجبنّك بَزُّه وثيابُه ... إن اليهود تُرَى لها أَجْلاد )
( حَمّاد يا ضبَعُاً تجُرّ جِعَارَها ... أَخْنَى لها بالقريتين جراد )
( سبعا يلاعبها ابنها وبناتها ... ولها من الخرق الكبار وساد )
قال معنى قوله
( أخنى لها القريتين جرادُ ... )
هو مثل قول العرب للضبع خامري أم عامر أبشري بجراد عظال وكمر رجل فإن الضبع تجيء إلى القتيل وقد استلقى على قفاه وانتفخ غرموله فكان

كالمنعظ فتحتك به وتحيض من الشهوة فيثب عليها الذئب حينئذ فتلد منه السمع وهو دابة لا يولد له مثل البغل
وفي مثل هذا المعنى يقول الشنفري الأزدي
( تضحَك الضَّبْع لقَتْلَى هُذّيْلٍ ... وترى الذئبَ لها يَسْتهلُّ )
تضحك تحيض
وقال ابن النطاح كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار فقرأه حماد

فاستحلاه وتحفظه ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن أبيه عن جده عن حماد الراوية قال دخلت على المهدي فقال أنشدني أحسن أبيات قيلت في السكر ولك عشرة آلاف درهم وخلعتان من كسوة الشتاء والصيف فأنشدته قول الأخطل
( تَرَى الزُّجاجَ ولم يُطْمَث يُطيف به ... كأنه من دم الأجواف مُختضَبُ )
( حتى إذا افتَضّ ماءُ المُزن عُذرَتَها ... راحَ الزجاجُ وفي ألوانه صَهَب )
( تَنْزو إذا شجّها بالماء مازجُها ... نَزْوَ الجنادب في رَمْضاءَ تلتهب )
( راحوا وهم يحسَبون الأرض في فُلُك ... إن صُرِّعوا وقَت الراحاتُ والرُّكَب )
فقال لي أحسنت وأمر لي بما شرطه ووعدني به فأخذته

مدح بلال بن أبي بردة
حدثني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثني صالح بن سليمان قال قدم حماد الراوية على بلال بن أبي بردة البصرة وعند بلال ذو الرمة

فأنشده حماد شعرا مدحه به فقال بلال لذي الرمة كيف ترى هذا الشعر قال جيدا وليس له قال فمن يقوله قال لا أدري لا أنه لم يقله فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه قال له إن لي إليك حاجة قال هي مقضية قال أنت قلت ذلك الشعر قال لا قال فمن يقوله قال بعض شعراء الجاهلية وهو شعر قديم وما يرويه غيري قال فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك قال عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام
قال صالح وأنشد حماد الراوية بلال بن أبي بردة ذات يوم قصيده قالها ونحلها الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري يقول فيها
( جَمَعْتَ من عامرٍ فيها ومن جُشَم ... ومن تَميم ومن حَاء ومن حامِ )
( مُسْتحقِبات رواياها جحافلَها ... يسمو بها أَشْعَرِيٌّ طَرْفَه سامي )
فقال له بلال قد علمت أن هذا شيء قلته أنت ونسبته إلى الحطيئة وإلا فهل كان يجوز أن يمدح الحطيئة أبا موسى بشيء لا أعرفه أنا ولا أرويه ولكن دعها تذهب في الناس وسيرها حتى تشتهر ووصله

رأي المفضل الضبي بحماد
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال سمعت أحمد بن الحارث الخراز يقول سمعت ابن الأعرابي يقول سمعت المفضل الضبي يقول

قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا
فقيل له وكيف ذلك أيخطىء في روايته أم يلحن قال ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب لا ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني السعيدي الراوية وأبو إياد المؤدب وكان مؤدبي ثم أدب المعتصم بعد ذلك وقد تعالت سنه وحدثني بنحو من ذلك عبد الله بن مالك وسعيد بن سلم وحدثني به ابن غزالة أيضا واتفقوا عليه أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا المفضل الضبي الراوية فدخل فمكث مليا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا وقد بان في وجه حماد الإنكسار والغم وفي وجه المفضل

السرور والنشاط ثم خرج حسين الخادم معهما فقال يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال
( دع ذا وعدِّ القول في هَرِم ... )
ولم يتقدم له قبل ذلك قول فما الذي أمر نفسه بتركه فقال له المفضل ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم وقال دع ذا أو كان مفكرا في شيء من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم فأمسك عنه
ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين قال فكيف قال فأنشده
( لمن الديار بقُنّة الحَجْر ... أَقْوَيْنَ مُذْحِجَج ومُذْ دَهْرِ )
( قفر بمُندَفَع النحائت من ... ضَفْوَى أُولاَت الضَّالِ والسِّدْر )
( دع ذا وعَدِّ القول في هرم ... خيرِ الكهول وسيّد الحَضْر )
قال فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال له قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه ثم أستحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة

ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه فحلف له بما توثق منه
قال له اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير فأقر له حينئذ أنه قائلها فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا الأصمعي قال قال حماد الراوية أرسل إلي أمير الكوفة فقال لي قد أتاني كتاب أمير المؤمنين الوليد بن يزيد يأمرني بحملك
فجملت فقدمت عليه وهو في الصيد فلما رجع أذن لي فدخلت علي وهو في بيت منجد بالأرمني أرضه وحيطانه فقال لي أنت حماد الراوية فقلت له إن الناس ليقولون ذلك قال فما بلغ من روايتك قلت أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها بانت سعاد فقال إنها لرواية ثم دعا بشراب فأتته جارية بكأس وإبريق فصبت في الكأس ثم مزجته حتى رأيت له حبابا فقال أنشدني في مثل هذه فقلت يا أمير المؤمنين هي كما قال عدي بن زيد
( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألا تستفيقُ )
( ثم ثاروا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريق )
( قدّمْته على سُلافٍ كريح المسك ... صفَّى سُلافَها الرَّاوُوق )
( فتَرى فوقَها فقاقيعَ كالياقوت ... يَجْرِي خلالها التصفيق )
قال فشربها ولم يزل يستعيدني الأبيات ويشرب عليها حتى سكر ثم قام فتناول مرفقة من تلك المرافق فجعلها على رأسه ونادى من يشتري لحوم البقر ثم قال لي يا حماد دونك ما في البيت فهو لك فكان أول مال تأثلته
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال

قال خلف كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها وكان فيه حمق
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال حدثني المسور الغنزي وكان من رواة العرب وكان أسن من سماك بن حرب عن حماد قال دخلت على زياد فقال لي أنشدني فقلت من شعر من أيها الأمير قال من شعر الأعشى فأنشدته
( بكّرتْ سُميّةُ غُدْوةً أجمالُها ... )
قال فما أتمتت القصيدة حتى تبينت الغضب في وجهه وقال الحاجب للناس ارتفعوا فقاموا ثم لم أعد والله إليه
قال حماد فكنت بعد ذلك إذا استنشدني خليفة أو أمير تنبهت قبل أن أنشده لئلا يكون في القصيدة اسم أم له أو ابنة أو أخت أو زوجة

الوليد يسأله سبب تسميته بالراوية
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية لم سميت الراوية وما بلغ من حفظك حتى استحققت هذا الإسم فقال له يا أمير المؤمنين إن كلام العرب يجري على ثمانية وعشرين حرفا أنا أنشدك على كل حرف منها مائة قصيدة فقال إن هذا لحفظ هات فاندفع ينشد حتى مل الوليد ثم استخلف على الإستماع منه خليفة حتى وفاه ما قال فأحسن الوليد صلته وصرفه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري قال حدثني إسحاق الموصلي قال

قال حماد الراوية أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي دينار وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد
قال فقلت لا يسألني إلا عن طرفيه قريش وثقيف فنظرت في كتابي قريش وثقيف
فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي فأنشدته منها ما استحسنه ثم قال أنشدني في الشراب وعنده وجوه من أهل الشام فأنشدته
( إِصْبَحِ القومَ قهوةً ... في أباريق تُحتذَى )
( من كُميتٍ مُدامةٍ ... حَبّذا تلك حبذا )
( يترك الأُذْنَ شربُها ... أرْجُواناً بها خُذا )
فقال أعدها فأعدتها فقال لخدمه خذوا آذان القوم فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا قال ثم حملنا وطرحنا في دار الضيفان فما أيقظنا إلا حر الشمس
وجعل شيخ من أهل الشأم يشتمني ويقول فعل الله بك وفعل أنت الذي صنعت بنا هذا
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال حدثني أبو عبيدة قال حدثني يحيى بن صبيرة بن الطرماح بن حكيم عن أبيه عن جده الطرماح قال أنشدت حمادا الراوية في مسجد الكوفة وكان أذكى الناس وأحفظهم قولي
( بانَ الخليطُ بسُحْرةٍ فتبدَّدُوا ... )
وهي ستون بيتا فسكت ساعة ولا أدري ما يريد ثم أقبل علي فقال أهذه لك

قلت نعم قال ليس الأمر كما تقول ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتا زادها فيها في وقته فقلت له ويحك إن هذا الشعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد قال قد والله قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة وإلا فعلي وعلي فقلت لله علي حجة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدا فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي فقلت أنت رجل ماجن والكلام معك ضائع ثم انصرفت
قال دماذ وكان أبو عبيدة والأصمعي ينشدان بيتي الطرماح في هذه القصيدة وهما
( مُجتاب حُلّة بُرْجدٍ لسَرَاته ... قِدَداً وأخلَف ما سراه البُرجدُ )
( يبدو وتُضمره البلاد كّأنه ... سَيفُ على شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغمَد )
وكانا يقولان هذا أشعر الناس في هذين البيتين

أخبار عبادل ونسبه
عبادل بن عطية مولى قريش مكي مغن محسن متقدم من الطبقة الثانية التي منها يونس الكاتب وسياط ودحمان
وكان حسن الوجه نظيف الثياب ظريفا ولم يفارق الحجاز ولا وفد إلى ملوك بني أمية كما وفد غيره من طبقته ومن هو فوقها ويقال إنه كان مقبول الشهادة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثنا حماد عن ابن أبي جناح قال كان عبادل بن عطية سريا نبيلا نظيفا ساكن الطرف حسن العشرة وكان يعاشر مشيخة قريش وجلة أحداثها فإذا أرادوا الغناء منه غنى فأحسن وأطرب وكانت له صنعة كثيرة منها
( نقول يا عَمَّتَا كُفِّي جوانبَه ... وَيْلِي بَلِيتُ وأَبْلى جِيديَ الشَّعَرُ )
ومنها
( أمِن حَذَرِ البين ما ترقُدَ ... ودمعُك يجري فيما يَجمُدُ )
ومنها
( إني أستحيتُك أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأت صحيفتي فتفهّمِ )
ومنها
( قُولاَ لنائلَ ما تَقْضِين في رجلٍ ... يهْوى هواكِ وما جنّبتِه اجتنبا )

ومنها
( علام تَرَيْن اليومَ قَتْلى لديكُم ... حلالاً بلا ذنبٍ وقتلي محرَّمُ )
قال وكانوا يقولون له ألا تكثر الصنعة فيقول بأبي أنتم إنما أنحته من صخر ومن أكثر أرذل

نسبة هذه الأصوات
صوت
( أمن حَذَرِ البَيْن ما ترقد ... ودمعُك يجري فما يجمُدُ )
( دعاني إلى الحَيْن فاقتادني ... فؤادٌ إلى شِقْوتي يَعْمِد )
( فلو أن قلبي صحا وارْعَوى ... لكان له عنكُم مَقْعَد )
( يَبِيدُ الزّمان وحُبّي لكم ... يَزيد خَبالاً وما يَنفد )
الغناء لعبادل ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل
ومنها
صوت
( إني أستحيتُكَ أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فتفهَّمِ )
( وعليكَ عهدُ الله إن أنبأتَه ... أهلَ السَّيَالة إن فعلتَ وإِن لَمِ )
هكذا قال ابن هرمة والمغنون يغنونه

( وعليكَ عهدُ الله إن أخبرتَه ... أحداً وإن أظهرته بتكلُّمِ )
الشعر لأبن هرمة والغناء لعبادل

الوشاية به
أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه أن حسن بن حسن بن علي كان صاحب شراب وفيه يقول ابن هرمة
( إني استحيتُك أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فتفهَّمِ )
( وعليك عهد الله إن أنبأتَه ... أحداً ولا أظهرتَه بتكلّمِ )
قال عبد الله بن محمد الجعفري وكان ابن هرمة كما حدثني أبي يشرب هو وأصحاب له بشرف السيالة عند سمرة بالشرف يقال لها سمرة جرانة فنفد شرابهم فكتب إلى حسن بن حسن بن علي يطلب منه نبيذا وكتب إليه بهذين البيتين
فلما قرأ حسن رقعته قال وأنا علي عهد الله إن لم أخبر به عامل السيالة أمني يطلب الدعي الفاعل نبيذا وكتب إلى عامل السيالة أن يجيء إليه فجاء لوقته فقال له إن ابن هرمة وأصحابه السفهاء يشربون عند سمرة جرانة فاخرج فخدهم فخرج إليه العامل بأهل السيالة وأنذر بهم ابن هرمة فسبقهم هربا وتعلق هو وأصحابه بالجبل ففاتوهم وقال في حسن
( كتبتُ إليك أَسْتَهِدي نبيذاً ... وأُدْلِي بالجِوار وبالحقوقِ )
( فخبَّرتَ الأميرَ بذاك غَدْراً ... وكنتَ أخا مُفاضَحةٍ ومُوق )

ومنها

صوت
( علامَ تَرْين اليومَ قَتْلي لديكُم ... حلالاً بلا ذنب وقتلي مُحرَّمُ )
( لكِ النفس ما عاشت وِقَاءً من الرَّدى ... ونحن لكم فيما تَجنَّبِ أظلم )
وأما صنعته في
( قولا لنائلَ ما تَقْضين في رجلٍ ... )
فإن الشعر لمسعدة بن البختري ابن أخي المهلب بن أبي صفرة والغناء لعبادل
وقد ذكرت ذلك في موضع من هذا الكتاب مفرد لأن نائلة التي عنيت بهذا الشعر هي بنت الميلاء ولها أخبار ذكرت في موضع منفرد صلحت له
ومنها
صوت
( تقول يا عَمَّتَا كُفِّي جوانبَه ... وَيْلِي بَلِيتُ وأبْلَى جِيدِيَ الشَّعَرُ )
( مثلُ الأساوِد قد أعيا مَواشطَه ... تَضِلُّ فيه مَدَارِيها وتنكسر )
( فإن نشرْتَ على عَمْد ذوائبَها ... أبصرتَ منه فَتِيتَ المِسك يَنتشر )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لعبادل ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى دحمان وإلى الغريض وإلى عبادل أيضا

صوت
من المائة المختارة
( ليستْ نَعَمْ منكَ للعافين مُسْجَلةً ... من التخلُّق لكنْ شِيمةٌ خُلُقٌ )
( يكاد بابُك من عِلْم بصاحبه ... من دون بوَابه للناس يَنْدلِق )
لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو
وذكر يحيى ابن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق أن الشعر لطريح
وذكر يعقوب بن السكيت أنه لإبن هرمة والغناء في اللحن المختار لشهية مولاة العبلات خفيف رمل بالبنصر في مجراها
فمن روى هذه الأبيات لإبن هرمة ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سلمان بن عبد الملك ومن ذكر أنها لطريح ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها الوليد بن يزيد
والصحيح من القولين أن البيت الأول من البيتين لطريح والثاني لإبن هرمة
فبيت طريح من قصيدته التي مدح بها الوليد بن يزيد وهي طويلة يقول في تشبيهها
( تقول والعِيسُ قد شُدّتْ بأرحُلِها ... ألحقَّ أنّكَ منا اليوم منطلقُ )
( قلتُ نعم فاكظِمي قالت وما جَلَدِي ... ولا أظنّ اجتماعاً حين نفترق )
( فقلت إن أحْيَى لا أُطْوِل بِعادَكُم ... وكيفَ والقلبُ رهنٌ عندكم غَلَق )
( فارقتُها لا فؤادي من تذكُّرها ... سالِي الهمومِ ولا حَبْلِي لها خَلَق )
( فاضت على إثْرهم عيناكَ دمعُهما ... كما تَتَابع يجري اللؤلؤ النَّسَق )

صوت
( فاستبقِ عينك لا يُودي البكاءُ بها ... واكفُفْ بوادرَ دمعٍ منك تَستبق )
( ليس الشؤونُ وإن جادت بباقيةٍ ... ولا الجفونُ على هذا ولا الحَدَق )
لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو يقول فيها في مدح الوليد
( وما نَعَمْ منكَ للعافِين مُسْجَلة ... من التخلُّق لكنْ شِيمةٌ خُلُقُ )
( ساهمتَ فيها وفي لا فاختصصتَ بها ... وطار قومُ بلا والذمِّ فانطَلقوا )
( قوم هُم شَرَف الدنيا وسُودَدُها ... صَفْوٌ على الناس لم يُخْلَط بهم رَنَق )
( إن حاربوا وَضَعوا أو سالموا رفَعُوا ... أو عاقدوا ضَمِنوا أو حَدَّثوا صدَقوا )
وأما قصيدة إبراهيم بن هرمة التي فيها هذا الشعر فنذكر خبرها ثم نذكر موضع الغناء وما قبله وما بعده منها
ومن أبي أحمد رحمه الله سمعنا ذلك أجمع ولكنه حكى عن إسحاق في الأصوات المختارة ما قاله إسحاق
ولعله لم يتفقد ذلك أو لعل أحد الشاعرين أغار على هذا البيت فانتحله وسرقه من قائله
مدح وتعريض
أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجل من أهل البصرة وحدثني به وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد عن أبيه عن رجل من أهل البصرة وخبره أتم قال قال العباس بن الوليد بن عبد الملك وكان بخيلا لا يحب أن يعطي أحدا

شيئا ما بال الشعراء تمدح أهل بيتي أجمع ولا تمدحني فبلغ ذلك ابن هرمة وكان قد مدحه فلم يثبه فقال يعرض به ويمدح عبد الواحد بن سليمان
( ومُعجَب بمديح الشِّعر يمنعه ... من المديح ثوابُ المدح والشَّفَقُ )
( يا آبيَ المدح مِنْ قولٍ يُحبِّره ... ذو نِيقة في حواشي شعره أنَق )
( إنك والمدحَ كالعذراء يُعجبها ... مسُّ الرجال ويَثنى قَلبها الفَرَق )
( لكنْ بمَدْيَنَ من مفْضى سُوَيمرةٍ ... من لا يُذَمّ ولا يُشْنا له خُلُق )
( أهلُ المدائح تأتيه فتمدحه ... والمادحون إذا قالوا له صَدَقوا )
يعني عبد الواحد بن سليمان
( لا يستقرّ ولا تخفى علامته ... إذا القنا شالَ في أطرافها الحرق )
( في يومَ لا مالَ عند المرء ينفعه ... إلا السِّنَانُ وإِلا الرمح والدَّرَق )
( يَطعن بالرمح أحياناً ويضربهم ... بالسيف ثم يُدَانِيهم فيَعتنق )
وهذا البيت سرقه ابن هرمة من زهير ومن مهلهل جميعا فإنهما سبقا إليه قال مهلهل وهو أقدمهما

( أَنْبَضوا مَعْجَس القِسيّ وأبرقنا ... كما تُوعِد الفُحولُ الفحولاَ )
يعني أنهم لما أخذوا القسي ليرموهم من بعيد انتضوا سيوفهم ليخالطوهم ويكافحوهم بها
وقال زهير وهو أشرح من الأول
( يَطعنُهم ما ارتَمَوْا حتى إذا اطَعنوا ... ضارَبَ حتى إذا ما ضاربوا اعتنَقا )
فما ترك في المعنى فضلا لغيره

رجع إلى شعر ابن هرمة
( يكاد بابكُ من وجود ومن كرم ... من دون بَوّابه للناس يَنْدلقُ )
ويروى إذا أطاف به الجادون والعافون أيضا ويروى ينبلق
( إنّي لأَطْوِي رجالاً أن أزورَهُمُ ... وفيهمُ عَكرَ الأنعام والوَرَقُ )
( طيَّ الثياب التي لو كُشِّفت وُجِدتْ ... فيها المَعاوز في التفتيش والخِرَق )
( وأترك الثوبَ يوما وهْو ذو سَعة ... وألْبَس الثوب وهو الضيِّق الخَلَق )
( إكرامَ نفسي وأني لا يوافقني ... ولو ظَمِئتُ فَحُمتُ المَشْرَبُ الرَّنِقُ )
قال هارون بن الزيات في خبره فلما قال ابن هرمة هذه القصيدة أنشدها عبد الواحد بن سليمان وهو إذ ذاك أمير الحجاز فأمر له بثلثمائة دينار وخلعة موشية

من ثيابه وحمله على فرس وأعطاه ثلاثين لقحة ومائة شاة وسأله عما يكفيه في كل سنة ويكفي عياله من البر والتمر فأخبره به فأمر له بذلك أجمع لسنة وقال له هذا لك علي ما دمت ودمت في الدنيا واقتطعه لنفسه وأنس به وقال له لست بمحوجك إلى غيري أبدا
فلما عزل عبد الواحد بن سليمان عن المدينة تصدى للوالي مكانه وامتدحه
ولم يلبث أن ولي عبد الواحد بعد ذلك وبلغه الخبر فأمر أن يحجب عنه ابن هرمة وطرده وجفاه حتى تحمل عليه بعبد الله بن الحسن بن الحسن فاستوهبه منه فعاد له إلى ما أحبه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الراياشي وأخبرني به علي بن سليمان الأخفش عن أحمد بن يحيى ثعلب عن الرياشي وخبره أتم
قال الرياشي حدثني أبو سلمة الغفاري قال قال ابن ربيح راوية ابن هرمة قال حدثني ابن هرمة قال أول من رفعني في الشعر عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فأخذ علي ألا أمدح أحدا غيره وكان واليا على المدينة وكان لا يدع بري وصلتي والقيام بمؤونتي
فلم ينشب أن عزل وولي غيره مكانه وكان الوالي من بني الحارث بن كعب فدعتني نفسي إلى مدحه طمعا أن يهب لي كما كان عبد الواحد يهب لي فمدحته فلم يصنع بي ما ظننت ثم قدم عبد الواحد المدينة فأخبر أني مدحت الذي عزل به فأمر بي فحجبت عنه ورمت الدخول عليه فمنعت فلم أدع بالمدينة وجها ولا رجلا له نباهة وقدر من قريش إلا سألته أن يشفع لي في أن يعيدني إلى منزلتي عنده فيأبى ذلك فلا يفعله
فلما أعوزتني الحيل أتيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعليهم فقلت يابن رسول الله إن هذا الرجل قد كان يكرمني وأخذ علي

ألا أمدح غيره فأعطيته بذلك عهدا ثم دعاني الشره والكد إلى أن مدحت الوالي بعده
وقصصت عليه قصتي وسألته أن يشفع لي فركب معي فأخبرني الواقف على رأس عبد الواحد أن عبد الله بن حسن لما دخل إليه قام عبد الواحد فعانقه وأجلسه إلى جنبه ثم قال أحاجة غدت بك أصلحك الله قال نعم قال كل حاجة لك مقضية إلا ابن هرمة فقال له إن رأيت ألا تستثني في حاجتي فافعل قال قد فعلت قال فحاجتي ابن هرمة قال قد رضيت عنه وأعدته إلى منزلته قال فتأذن له أن ينشدك قال تعفيني من هذه قال أسألك أن تفعل قال ائتوا به فدخلت عليه وأنشدته قولي فيه
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ )
قال فغضب عبد الله بن الحسن حتى انقطع رزه ثم وثب مغضبا وتجوزت في الإنشاد ثم لحقته فقلت له جزاك الله يابن رسول الله فقال ولكن لا جزاك الله خيرا يا ماص بظر أمه وتقول لإبن مروان
( وكان أبوك قادمةَ الجَنَاحِ ... )
بحضرتي وأنا ابن رسول الله وابن علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت جعلني الله فداك إني قلت قولا أخدعه به طلبا لدنياه ووالله ما قست بكم أحد قط أفلم تسمعني قد قلت فيها
( وبعضُ القول يذهب بالرياحِ ... )
فضحك عبد الله وقال قاتلك الله ما أظرفك

حائية ابن هرمة
وهذه القصيدة الحائية التي مدح بها عبد الواحد من فاخر الشعر ونادر الكلام

ومن جيد شعر ابن هرمة خاصة وأولها
( صَرَمتَ حبائلاً من حبّ سلْمَى ... لهندٍ ما عَمِدتَ لمُستراح )
( فإنك إن تُقِم لا تلقَ هنداً ... وإن ترحل فقلبُك غيرُ صاحي )
( يَظلّ نهارَه يَهْذِي بهند ... ويأرقَ ليلَه حتى الصباح )
( أعبدَ الواحد المحمودَ إني ... أَغَصُّ حذارَ سخطك بالقَراحِ )
( فشُلَّتْ رَاحَتايَ وجال مُهْري ... فألقاني بمُشتجَر الرماح )
( وأقعدني الزمانُ فبِتّ صَفْراً ... من المال المعُزَّب والمُراح )
( إذا فَخَّمتُ غيرَك في ثنائي ... ونصحي في المَغيبة وامتداحي )
( كأنّ قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عُضِلن عن النكاح )
( فإِن أكُ قد هفوتُ إلى أمير ... فعَنْ غير التطوّع والسماح )
( ولكنْ سَقْطةُ عِيبتْ علينا ... وبعضُ القول يذهب في الرياح )
( لعمرك إنيي وبَني عَدِيٍّ ... ومَنْ يهوَى رشادي أو صلاحي )
( إذا لم تَرَض عنّي أو تَصِلْني ... لفي حَيْن أعالجه مُتاح )
( وإنك إن حططتُ إليك رحلي ... بغربيّ الشَّرَاة لذوا ارتياح )
( هششتَ لحاجة ووعدتَ أخرى ... ولم تبخل بناجزة السَّراح )
( وجَدنا غالباً خُلقتْ جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناح )

( إذا جعَل البخيلُ البخلَ تُرساً ... وكان سلاحَه دون السلاح )
( فإِنّ سلاحك حتى ... تفوزَ بِعْرضَ ذي شِيَمٍ صِحاح )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إبراهيم بن إسحاق العمري قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال قلت لإبن هرمة أتمدح عبد الواحد بن سليمان بعشر ما مدحت به غيره فتقول فيه هذا البيت
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناحِ )
ثم تقول فيها
( أعبدَ الواحد الميمون إني ... أَغَصّ حِذَارَ سخطك بالقَراحِ )
فبأي شيء استوجب ذلك منك فقال إني أخبرك بالقصة لتعذرني أصابتني أزمة بالمدينة فاسنهضتني بنت عمي للخروج فقلت لها ويحك إنه ليس عندي ما يقل جناحي فقالت أنا أنهضك بما أمكنني وكانت عندي ناب لي فنهضت عليها نهجد النوام ونؤذي السمار وليس من منزل أنزله إلا قال الناس ابن هرمة حتى دفعت إلى دمشق فأويت إلى مسجد عبد الواحد في جوف الليل فجلست فيه أنتظره إلى أن نظرت الفجر بزوغ الفجر فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر فدنا فأذن ثم صلى ركعتين وتأملته فإذا هو عبد الواحد فقمت فدنوت منه وسلمت عليه فقال لي أبو إسحاق أهلا ومرحبا فقلت لبيك بأبي أنت وأمي وحياك الله بالسلام وقربك من رضوانه فقال أما آن لك أن تزورنا فقد طال العهد واشتد الشوق فما رواءك قلت لا تسلني بأبي أنت وأمي فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثا غيرك فقال لا ترع فقد وردت على ما تحب إن

شاء الله
فوالله لإني لأخاطبه فإذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشطان فسلموا عليه فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشىء دوني ودون أخويه فمضى إلى البيت ثم رجع فجلس إليه فكلمه بشىء دوني ثم ولى فلم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل عبئا من الثياب حتى ضرب به بين يدي ثم همس إليه ثانية فعاد وإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك فضرب به بين يدي فقال لي عبد الواحد ادن يا أبا إسحاق فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقم صدعك فخذ هذا وارجع إلى عيالك فوالله ماسللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا ودفع إلي ألف دينار وقال لي قم فارحل فأغث من وراءك فقمت إلى الباب فلما نظرت إلى ناقتي ضقت فقال لي تعال ما أرى هذه مبلغتك يا غلام قدم له جملي فلانا فوالله لقد كنت بالجمل أشد سرورا مني بكل ما نلته فهل تلومني أن أغص حذار سخط هذا بالقراح والله ما أنشدته ليلتئذ بيتا واحدا

شعره في مدح المنصور
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال حدثني عثمان بن حفص الثقفي قال حدثني محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين صلى الله عليه قال دخلت مع أبي علي على المنصور بالمدينة وهو جالس في دار مروان فلما أجتمع الناس قام ابن هرمة فقال يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك شاعرك

وصنيعتك إن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد قال هات فأنشده قوله
( سَرَى ثوبَه عنك الصِّبا المتخايِلُ ... )
حتى انتهى إلى قوله
( له لَحَظَاتٌ عن خِفَافَيْ سريره ... إذا كَرّها فيها عِقابُ ونائلُ )
( فأُمُّ الذي آمنتَ آمنةُ الرَّدَى ... وأمُّ الذي خوَّفتَ بالثُّكل ثاكل )
فقال له المنصور أما لقد رأيتك في هذه الدار قائما بين يدي عبد الواحد بن سليمان تنشده قولك فيه
( وجدنا غالباً كانت جَناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجنَاحِ )
قال فقطع بإبن هرمة حتى ما قدر على الإعتذار فقال له المنصور أنت رجل شاعر طالب خير وكل ذلك يقول الشاعر وقد أمر لك أمير المؤمنين بثلثمائة دينار
فقام إليه الحسن بن زيد فقال يا أمير المؤمنين إن ابن هرمة رجل منفاق متلاف لا يليق شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر له بها يجرى عليه منها ما يكفيه ويكفي عياله ويكتب بذلك إلى أصحاب الجاري أن يرجيها عليهم فعل فقال افعلوا ذلك به
قال وإنما فعل به الحسن بن زيد هذا لأنه كان مغضبا عليه لقوله يمدح عبد الله بن حسن
( ما غَيّرتْ وجهَه أمٌّ مُهجَّنة ... إذا القَتامُ تَغَشَّى أَوْجُهَ الهُجُنِ )
حدثني يحيى بن علي بن يحيى وأخبرنا ابن أبي الأزهر وجحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال يحيى بن علي في خبره عن الفضل بن يحيى ولم يقله الآخران

دخل ابن هرمة على المنصور وقال يا أمير المؤمنين إني قد مدحتك مديحا لم يمدح أحد أحداً بمثله قال وما عسى أن تقول في بعد قول كعب الأشقري في المهلب
( براك اللهُ حين براك بحراً ... وفَجّر منك أنهاراً غِزاراً )
فقال له قد قلت أحسن من هذا قال هات فأنشده قوله
( له لَحَظات عن حِفَافَيْ سَرِيره ... إذا كَرّها فيها عِقابٌ ونائلُ )
قال فأمر له بأربعة آلاف درهم
فقال له المهدي يا أمير المؤمنين قد تكلف في سفره إليك نحوها فقال له المنصور يا بني إني قد وهبت له ما هو أعظم من ذلك وهبت له نفسه أليس هو القائل لعبد الواحد بن سليمان
( إذا قيل مَنْ خيرُ مَنْ يُرتَجى ... لمُعترِّ فِهْرٍ ومحتاجِها )
( ومن يُعْجِل الخيلَ يومَ الوغى ... بإِلجامها قبلَ إسراجها )
( أشارت نساءُ بني غالب ... إليكَ به قَبْلَ ازواجها )
وهذه القصيدة من فاخر شعر ابن هرمة وأولها
( أجارتَنا رَوِّحي نَعْمةً ... على هائم النفس مُهتاجِها )
( ولا خيرَ في وُدِّ مُسْتكرِهٍ ... ولا حاجةٍ دون إنضاجها )
يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان

( كأن قِتودي على خاضبٍ ... زَفُوفٍ العَشِيّات هَدّاجِها )
( إلى مَلكٍ لا إلى سُوقة ... كسَتْه الملوك ذُرَا تاجها )
( تَحُلّ الوفود بأبوابه ... فتَلْقى الغِنى قَبْل إرتاجها )
( بقَرّاع أبواب دور الملوكِ ... عندَ التحية وَلاّجها )
( إلى دار ذي حسبٍ ماجدٍ ... حَمُول المَغارم فَرّاجها )
( رَكُودِ الجِفان غداةَ الصَّبا ... ويوم الشمال وإرهاجها )
( وقفتُ بَمَدْحِيه عند الجِمارِ ... أُنشده بين حُجَاجها )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أبو إسحاق طلحة ابن عبد الله الطلحي قال حدثني محمد بن سليمان بن المنصور قال وجه المنصور رسولا قاصدا إلى ابن هرمة ودفع إليه ألف دينار وخلعة ووصفه له وقال امض إليه فإنك تراه جالسا في موضع كذا في المسجد فانتسب له إلى بني أمية أو مواليهم وسله أن ينشدك قصيدته الحائية التي يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ )

فإذا أنشدكها فأخرجه من المسجد واضرب عنقه وجئني برأسه وإن أنشدك قصيدته اللامية التي يمدحني بها فادفع إليه الألف الدينار والخلعة وما أراه ينشدك غيرها ولا يعترف بالحائية
قال فأتاه الرسول فوجده كما قال المنصور فجلس إليه واستنشده قصيدته في عبد الواحد فقال ما قلت هذه القصيدة قط ولا أعرفها وإنما نحلها إياي من يعاديني ولكن إن شئت أنشدتك أحسن منها قال قد شئت فهات فأنشده
( سَرى ثوبَه عنك الصِّبا المتخايلُ ... )
حتى أتى على آخرها ثم قال هات ما أمرك أمير المؤمنين بدفعه إلي فقال أي شيء تقول يا هذا وأي شيء دفع إلي فقال دع ذا عنك فوالله ما بعثك إلا أمير المؤمنين ومعك مال وكسوة لي وأمرك أن تسألني عن هذه القصيدة فإن أنشدتك إياها ضربت عنقي وحملت رأسي إليه وإن أنشدتك هذه اللامية دفعت إلي ما حملك إياه فضحك الرسول ثم قال صدقت لعمري ودفع إليه الألف الدينار والخلعة
فما سمعنا بشيء أعجب من حديثهما
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمي عن جدي قال لما انشد ابن هرمة المنصور قصيدته اللامية التي مدحه بها أمر له بألف درهم فكلمه فيه المهدي واستقلها فقال يا بني لو رايت هذا بحيث رأيته وهو واقف بين يدي عبد الواحد بن سليمان ينشده
( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ ) لاستكثرت له ما استقللته ولرأيت أن حياته بعد ذلك القول ربح كثير
والله إني يا بني ما هممت له منذ يومئذ بخير فذكرت قوله إلا زال ما عرض بقلبي إلى ضده حتى أهم بقتله ثم أعفو عنه فأمسك المهدي

ما يغنى من شعره
ومما يغنى فيه من مدائح ابن هرمة في عبد الواحد بن سليمان قوله من قصيدة أنا ذاكرها بعد فراغي من ذكر الأبيات على أن المغنين قد خلطوا مع أبياته أبياتا لغيره
صوت
( ولما أنْ دنا منّا ارتحالٌ ... وقُرِّب ناجياتُ السير كُومُ )
( تَحاسَر واضحاتُ اللون زُهْر ... على ديباج أوجهها النعيم )
( أَتَيْنَ مودِّعاتٍ والمطايا ... لدَى أكوارها حوضٌ هُجوم )
( فكم من حُرة بين المُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ما حاز رِيم )
ويروى
( فكم بين الأقارع فالمُنقَّى ... )

وهو أجود
( إلى الجَمّاء من خدٍّ أَسيل ... نقِّي اللون لي به كُلُوم )
( كأنّي من تذكُّر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليلُ البهيم )
( سَلِيمٌ مَلّ منه أقربوه ... وأسلمه المُداوي والحميم )
ذكر الزبير بن بكار أن هذا الشعر كله لأبي المنهال نفيلة الأشجعي قال وسمعت بعض أصحابنا يقول إنه لمعمر بن العنبر الهذلي
والصحيح من القول أن بعض هذه الأبيات لإبن هرمة من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سليمان مخفوضة الميم ولما غني فيها وفي أبيات نفيلة وخلط فيه ما أوجب خفض القافية غير إلى ما أوجب رفعها
فأما ما لإبن هرمة فيها فهو من قصيدته التي أولها
( أجارتَنا بذي نَفَر أقيمِي ... فما أَبكى على الدهر الذميمِ )
( أقيمي وجهَ عامك ثم سِيري ... بلا واهي الجِوار ولا مُليم )
( فكم بين الأقارع فالمُنقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى أكناف رِيم )
( إلى الجّماء مِنْ خدٍّ أسيلٍ ... نقيّ اللون ليس بذي كُلوم )
( ومن عينٍ مكحَّلة الأماقي ... بلا كُحْل ومن كَشْح هَضيم )
( أرِقتُ وغاب عنّي من يلوم ... ولكن لم أَنَم أنا للهموم )
( أرقتُ وشفّني وَجَعٌ بقلبي ... لزينبَ أو أُميمةَ أو رَعُوم )
( أقاسي ليلة كالحَوْل حتى ... تبدَّى الصبحُ مُنقطعَ البَريم )

( كأنّ الصبح أبلقُ في حُجُول ... يَشُبّ ويتّقي ضربَ الشَّكيم )
( رأيتُ الشَّيب قد نزلت علينا ... روائعُه بحجة مستقيم )
( إذا ناكرتُه ناكرتُ منه ... خصومةَ لا ألدَّ ولا ظَلُوم )
( وودّعني الشباب فصَرتُ منه ... كراضٍ بالصغير من العظيم )
( فَدْع مالا يَرُدّ عليك شيئاً ... من الجارات أو دَمَن الرسوم )
( وقُلْ قولاً تُطَبِّق مِفصلَيْه ... بِمْدحه صاحب الرأي الصَّروم )
( لعبد الواحد الفَلْجُ المعلَّى ... على خُلَق النَّفُورة والخُصُومِ )
( دعته المَكْرُماتُ فناولته ... خَطَامَ المجد في سِنّ الفَطِيم )
وهي طويلة فمن الأبيات التي فيها الغناء أربعة أبيات لإبن هرمة قد مضت في هذه القصيدة وإنما غيرت حتى صارت مرفوعة فاتفقت الأبيات وغنى فيها
وأما أبيات نفيلة فما بقي من الصوت المذكور بعد أبيات ابن هرمة له
ويتلو ذلك من أبيات نفيلة قوله
( يُضيء دجى الظلام إذا تبدَّى ... كضوء الفجر منظره وَسيمُ )
( وقائلةٍ ومُثْنيةٍ علينا ... تقول وما لها فينا حميم )
( وأُخرى لُبُّها معنا ولكنْ ... تَصَبَّرُ وهي واجمةٌ كَظوم )
( تَعُدّ لنا الليالي تحتصيها ... متى هو حائنٌ منه قُدوم )

( متى تَرَ غفلةَ الواشين عنها ... تَجُدْ بدموعها العينُ السَّجوم )
والغناء في هذه الأبيات المذكورة المختلط فيها شعر ابن هرمة ونفيلة لمعبد ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو ويونس
وفيها لحن من الثقيل الثاني ينسب إلى الوابصي وفيها خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريح

الوابصي وأخباره
وهذا الوابصي هو الصلت بن العاصي بن وابصة بن خالد بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم
كان تنصر ولحق ببلاد الروم لأن عمر بن عبد العزيز فيما ذكر حده في الخمر وهو أمير الحجاز فغضب فلحق ببلاد الروم وتنصر هناك ومات هنالك نصرانيا
فأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن عبد العزيز قال أخبرني ابن العلاء أظنه أبا عمرو أو أخاه عن جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء بن أبي حكيم وقد جمعت الروايتين قال اليزيدي في خبره إن إسماعيل حدث أن عمر بن عبد العزيز بعث في الفداء
وقال عمر بن شبة إن إسماعيل حدث قال كنت عند عمر بن عبد العزيز فأتاه البريد الذي جاء من القسطنطينية فحدثه قال بينا أنا أجول في القسطنطينية إذ سمعت رجلا يغني بلسان فصيح وصوت شج

( فكم من حُرَّة بين المُنَقَّى ... إلى أُحدٍ إلى جَنَباتِ رِيمِ )
فسمعت غناء لم أسمع قط أحسن منه
فلما سمعت الغناء وحسنه لم أدر أهو كذلك حسن أم لغربته وغربة العربية في ذلك الموضع
فدنوت من الصوت فلما قربت منه إذا هو في غرفة فنزلت عن بغلتي فأوثقتها ثم صعدت إليه فقمت على باب الغرفة فغذا رجل مستلق على قفاه يغني هذين البيتين لا يزيد عليهما وهو واضع إحدى رجليه على الأخرى فإذا فرغ بكى فيبكي ما شاء الله ثم يعيد الغناء
ففعل ذلك مرارا فقلت السلام عليكم فوثب ورد السلام فقلت أبشر فقد فك الله أسرك أنا بريد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى هذا الطاغية في فداء الأساري ثم سالته من أنت فقال أنا الوابصي أخذت فعذبت حتى دخلت في دينهم فقلت له أنت والله أحب من أفتديه إلى أمير المؤمنين وإلي إن لم تكن دخلت في الكفر فقال قد والله دخلت فيه فقلت أنشدك الله إلا أسلمت فقال أأسلم وهذان ابناي وقد تزوجت امرأة منهم وهذان ابناها وإذا دخلت المدينة قيل لي يا نصراني وقيل مثيل ذلك لولدي وأمهما لا والله لا أفعل
فقلت له قد كنت قارئا للقرآن فما بقي معك منه قال لا شيء إلا هذه الآية ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قال فعاودته وقلت له إنك لا تغير بهذا فقال وكيف بعبادة الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير فقلت سبحان الله أما تقرأ ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فجعل يعيد علي قوله فكيف بما فعلت ولم يجبني إلى الرجوع
قال فرفع عمر يده وقال اللهم لا تمتني حتى تمكنني منه قال فوالله ما زلت راجيا لإجابة دعوة عمر فيه قال جويرية في حديثه وقد رأيت أخا الوابصي بالمدينة
وقال يعقوب بن السكيت في هذا الخبر أخبرني ابن الأزرق عن رجل من أهل البصرة أنسيت اسمه قال

نزلنا في ظل حصن من الحصون التي للروم فإذا أنا بقائل يقول من فوق الحصن
( فكم بين الأقارع فالمُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ميقات رِيم )
( إلى الزَّوْراء من ثغر تَقِيٍّ ... عوارضه ومن دَلَّ رخيم )
( ومن عين مُكَحَّلة الأماقي ... بلا كُحْل ومن كَشْح هضيم )
وهو ينشد بلسان فصيح ويبكي فناديته أيها المنشد فأشرف فتى كأحسن الناس فقلت من الرجل وما قصتك فقال أنا رجل من الغزاة من العرب نزلت مكانك هذا فأشرفت علي جارية كأحسن الناس فعشقتها فكلمتها فقالت إن دخلت في ديني لم أخالفك فغلب علي الشيطان فدخلت في دينها فأنا كما ترى فقلت أكنت تقرأ القرآن فقال إي والله لقد حفظته قلت فما تحفظ منه اليوم قال لا شيء إلا قوله عز و جل ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قلت فهل لك أن نعطيهم فداءك وتخرج قال ففكر ساعة ثم قال انطلق صحبك الله

ومما في الأخبار من شعر ابن هرمة
صوت
من المائة المختارة
( في حاضرٍ لَجِبٍ بالليل سامرُه ... في الصواهلُ والرايات والعَكرُ )

( وخُرّد كالمَهَا حُور مدامعُها ... كأنها بين كُثْبان النَّقا البَقَر )
الشعر لإبن هرمة والغناء في اللحن المختار لحنين ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
قال إسحاق وفيه لأبي همهمة لحن من الثقيل الأول أيضا وأبو همهمة هذا مغن أسود من أهل المدينة ليس بمشهور ولا ممن نادم الخلفاء ولا وجدت له خبرا فأذكره

صوت
من المائة المختارة
( بزينب أَلْمِمْ قبل أن يرحل الركبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينا فما ملَّك القلبُ )
( وقل في تَجَنِّيها لكَ الذنبَ إنما ... عتابُكَ مَنْ عاتبتَ فيما له عَتْب )
الشعر لنصيب والغناء في اللحن المختار لكردم بن معبد ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيه لمعبد لحن آخر من خفيف الثقيل عن يونس والهشامي ودنانير وفيه لإبراهيم لحن آخر من الثقيل الأول ذكره الهشامي
بعض أخبار لنصيب
وقد تقدم من أخبار نصيب ما فيه كفاية وإنما تأخر منها ما له موضع يصلح إفراده فيه مثل أخبار هذا الصوت

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي الفضل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبي كناسة قال قال نصيب ما توهمت أني أحسن أن أقول الشعر حتى قلت
( بزينبَ ألمْم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إبراهيم المنذر الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال أخبرني ابن الربيح قال مر بنا جميل ونحن بضرية فاجتمعنا إليه فسمعته يقول لأن أكون سبقت الأسود إلى قوله
( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... )
أحب إلي من كذا وكذا لشيء قاله عظيم
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني سعيد بن عمرو عن حبيب بن شوذب الأسدي قال مر بنا جرير بن الخطفي ونحن بضرية فاجتمعنا إليه فسمعته يقول لأن أكون سبقت العبد إلى هذا البيت أحب إلي من كذا وكذا يعني قوله
( بزينبَ ألمم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال

اجتمع الكميت بن زيد ونصيب في الحمام فقال له الكميت أنشدني قولك
( بزينبَ ألمم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
فقال والله ما أحفظها فقال الكميت ينشده وهو يبكي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر ابن أبي الحويرث عن مولاة لهم وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن مولاة لهم قالت إنا لبمنى إذ نظرت إلى أبنية مضروبة وأثاث وأمتعة فلم أدر لمن هي حتى أنيخ بعير فنزل عنه أسود وسوداء فألقيا أنفسهما على بعض المتاع ومر راكب يتغنى غناء الركبان
( بزينبَ المم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )
فرأيت السوداء تخبط الأسود وتقول له شهرتني وأذعت في الناس ذكري فإذا هو نصيب وزوجته قال إسحاق في خبره وكان الذي اجتاز بهم وتغنى ابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة عن أبيه قال قال نصيب والله إني لأسير على راحلتي إذ أدركت نسوة ذوات جمال يتناشدن قولي
( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبَ ... )
وإذا معهن ابن سريج فقلن له يا أبا يحيى غننا في هذا الشعر فغناهن فأحسن فقلن وددنا والله يا أبا يحيى أن نصيبا معنا فيتم سرورنا فحركت

بعيري لأتعرف بهن وأنشدهن فالتفت إحداهن إلي فقالت حين رأتني والله لقد زعموا أن نصيبا يشبه هذا الأسود لا جرم فقلت والله لا أتعرف بهن سائر اليوم ومضيت وتركتهن قال وكان الذي تغنى به ابن سريج من شعري
( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقُل إن تَملِّينا فما ملَّك القلبُ )
( وقُلْ إن تُنَلْ بالحبّ منكِ مودّةٌ ... فما مثلُ ما لُقِّيت من حبُكم حب )
( وقل في تَجَنّيها لكَ الذنبَ إنما ... عتابكَ من عاتبتَ فيما له عَتْب )
( فمن شاء رام الوصلَ أو قال ظالماً ... لذي ودّه ذنبٌ وليس له ذنبُ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إبراهيم بن عبد الله السعدي عن جدته جمال بنت عون عن جدها قال قلت للنصيب أنشدني يا أبا محجن من شعرك شيئا فقال أيه تريد قلت ما شئت قال لا أنشدك أو تقترح ما تريد فقلت قولك
( بزينبَ أَلْمِمْ قبلَ أن يرحلَ الركبُ ... )
قال فتبسم وقال هذا شعر قلته وأنا غلام ثم أنشدني القصيدة قال الزبير وهي أجود ما قال

توبة نصيب عن التشهير بالنساء
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال حدثني أيوب بن شاس

ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي عن أيوب بن شاس وروايته أتم من رواية عمر بن شبة قال أيوب حدثني عبد الله بن سعيد أن النصيب دخل على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال له هيه يا أسود
( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقلْ إن تَملِّينا فما ملَّكِ القلبُ )
أأنت الذي تشهر بالنساء وتقول فيهن فقال يا أمير المؤمنين إني قد تركت ذلك وتبت من قول الشعر وكان قد نسك فأثنى عليه القوم وقالوا فيه قولا جميلا فقال له أما إذ أثنى عليك القوم فسل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان ويرغب عنهن البيضان فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل ففعل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن محمد بن المؤمل بن طالوت عن أبيه عن عثمان بن الضحاك الحزامي قال خرجت على بعير لي أريد الحج فنزلت في فناء خيمة بالأبواء فإذا جارية قد خرجت من الخيمة ففتحت الباب بيديها فآستلهاني حسنها فتمثلت قول نصيب
( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقل إن تملِّينا فما ملّكِ القلبُ )

فقالت الجارية أتعرف قائل هذا الشعر قلت نعم ذاك نصيب قالت أفتعرف زينب هذه قلت لا قالت فأنا والله زينبه وهو اليوم الذي وعدني فيه الزيارة ولعلك لا ترحل حتى تراه
فوقفت ساعة فإذا أنا براكب قد طلع فجاء حتى أناخ قريبا منها ثم نزل فسلم عليها وسلمت عليه فقلت عاشقان التقيا ولا بد أن يكون لهما حاجة فقمت إلى راحلتي فشددت عليها فقال على رسلك أنا معك فلبث ساعة ثم رحل ورحلت معه فقال لي كأنك قلت في نفسك كذا وكذا قلت قد كان ذاك فقال لا ورب الكعبة البنية المستورة ما جلست معها مجلسا قط هو أقرب من هذا
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبو ربيعة لو لم تكن هذه القصيدة
( بزينبَ المم قبل أن يرحل الركبُ ... ) لنصيب شعر من كانت تشبه فقلت شعر إمرئ القيس لأنها جزلة الكلام جيدة قال سبحان الله قلت ما شأنك فقال سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت فعجبت من اتفاقكما
قال هارون وحدثني حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن رجل سماه قال أتاني منقذ الهلالي ليلة وضرب علي الباب فقلت من هذا فقال منقذ الهلالي فخرجت فزعا فقلت فيم السرى أي ما جاء بك تسري إلي ليلا في هذه الساعة قال خير أتاني أهلي بدجاجة مشوية بين رغيفين فتغذيت بها معهم ثم أتيت بقنينة نبيذ قد ألتقى طرفاها فشربت وذكرت قول نصيب
( بزينب ألمِمْ قبل أن يَرحلَ الرّكبُ ... )
فأنشدتها فأطربتني وفكرت في إنسان يفهم حسن ذلك ويعرف فضله فلم أجد

غيرك فأتيتك فقلت ما جاء بك إلا هذا قال لا وأنصرف
قال حماد معنى قوله التقى طرفاها أي قد صفت وراقت فأسفلها وأعلاها سواء في الصفاء
ومما يغني فيه من قصيدة نصيب البائية المذكورة قوله

صوت
خليليّ من كَعْبٍ ألِمّا هُدِيتُما ... بزينب لا يَفْقِدْكُمَا أبداً كعبُ )
( مِنَ اليومِ زُوراها فإِن رِكابَنا ... غداةَ غدٍ عنها وعن أهلها نُكْب )
الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة
صوت
من المائة المختارة على رواية حجظة عن أصحابه
( والنَّشْرُ مِسكٌ والوجوهُ دنانيرٌ ... وأطرافُ الأكفّ عَنَمْ )
( والدار وَحْشٌ والرسوم كما ... رَقَّش في ظهر الأديم قَلَم )
( لستُ كأقوام خلائقُهم ... نَثُّ أحاديث وهتكُ حُرَم )
نث الحديث إشاعته والعنم شجر أحمر وقيل بل هو دود أحمر

كالأساريع يكون في البقل في أيام الربيع والأديم الجلد وجلد كل شيء أديمه ورقش زين الشعر لمرقش الأكبر والغناء لإبن عائشة هزج بالبنصر في مجراها

أخبار المرقش الأكبر ونسبه
المرقش لقب غلب عليه بقوله
( الدر وَحْشٌ والرسومُ كما ... رقَّش في ظهر الأديم قَلَمْ )
وهو أحد من قال شعرا فلقب به واسمه فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عمرو وقال غيره عوف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو أحد المتيمين
كان يهوى ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة كان المرقش الأصغر ابن أخي المرقش الأكبر واسمه فيما ذكر أبو عمرو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك
وقال غيره هو عمرو بن حرملة بن سعد بن مالك وهو أيضا أحد المتيمين كان يهوى فاطمة بنت المنذر الملك ويتشبب بها
وكان للمرقشين جميعا وقع في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب وباس وشجاعة ونجدة وتقدم في المشاهد ونكاية في العدو وحسن أثر
وكان عوف بن مالك بن شبيعة عم المقرش الأكبر من فرسان بكر بن وائل
وهو القائل يوم فضة يا لبكر بن وائل أفي كل يوم فرار

ومحلوفي لا يمر بي رجل من بكر بن وائل منهزما إلا ضربته بسيفي
وبرك يقاتل فسمي البرك يومئذ وكان أخوه عمرو بن مالك أيضا من فرسان بكر وهو الذي أسر مهلهلا التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر وتغلب في موضع يقال له نقا الرمل فانهزمت خيل مهلهل وأدركه عمرو بن مالك فأسره فانطلق به إلى قومه وهم في نواحي هجر فأحسن إساره ومر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقا لمهلهل يشتري منه الخمر فأهدى إليه وهو أسير زق خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند مهلهل في بيته وقد أفرد له عمرو بيتا يكون فيه فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل فيما كان يقوله من الشعر وينوح به على كليب فسمع ذلك عمرو بن مالك فقال إنه لريان والله لا يشرب ماء حتى يرد ربيب يعني جملا كان لعمرو بن مالك وكان يتناول الدهاس من أجواف هجر فيرعى فيها غبا بعد عشر في حمارة القيظ فطلبت ركبان بني مالك ربيبا وهم حراص على ألا يقتل مهلهل
فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشا ونحر عمرو بن مالك يومئذ نابا فأسرج جلدها على مهلهل وأخرج رأسه
وكانت بنت خال مهلهل امرأته بنت المحلل أحد بني تغلب قد أرادت أن تأتيه وهو أسير فقال يذكرها
( ظبْيةٌ ما ابنةُ المحلِّل شنْباءُ ... لعُوب لذيذةٌ في العِناقِ )

فلما بلغها ما هو فيه لم تأته حتى مات
فكان هبنقه القيسي أحد بني قيس بن ثعلبة واسمه يزيد بن ثروان يقول وكان محمقا وهو الذي تضرب به العرب المثل في الحمق لا يكون لي جمل أبدا إلا سميته ربيبا يعني أن ربيبا كان مباركا لقتله مهلهلا
ذكر ذلك أجمع ابن الكلبي وغيره من الرواة والقصيدة الميمية التي فيها الغناء المذكورة بذكر أخبار المرقش يقولها في مرثية ابن عم له وفيها يقول
( بل هل شجَتْك الظُّعْن باكرةً ... كأنها النخيلُ من مَلْهَم )

عشق المرقش الأكبر
قال أبو عمرو ووافقه المفضل الضبي وكان من خبر المرقش الأكبر أنه عشق ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك وهو البرك عشقها وهو غلام فخطبها إلى أبيها فقال لا أزوجك حتى تعرف بالبأس وهذا قبل أن تخرج ربيعة من أرض اليمن وكان يعده فيها المواعيد
ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملوك فكان عنده زمانا ومدحه فأجازه
وأصاب عوفا زمان شديد فأتاه رجل من مراد أحد بني غطيف فأرغبه في المال فزوجه أسماء على مائة من الإبل ثم تنحى عن بني سعد ابن مالك
ورجع مرقش فقال اخوته لا تخبروه إلا أنها ماتت فذبحوا كبشا وأكلوا لحمه ودفنوا عظامه ولفوها في ملحفة ثم قبروها
فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت وأتوا به موضع القبر فنظر إليه وصار بعد ذلك يعتاده ويزوره
فبينا هو ذات يوم مضطجع وقد تغطى بثوبه وابنا أخيه يلعبان بكعبين لهما إذ اختصما في كعب فقال أحدهما هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه

وقالوا إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء
فكشف مرقش عن رأسه ودعا الغلام وكان قد ضنى ضنا شديدا فسأله عن الحديث فأخبره به وبتزويج المرادي أسماء فدعا مرقش وليدة له ولها زوج من غفيلة كان عسيفا لمرقش فأمرها بأن تدعو له زوجها فدعته وكانت له رواحل فأمره بإحضارها ليطلب المرادي عليها فأحضره إياها فركبها ومضى في طلبه فمرض في الطريق حتى ما يحمل إلا معروضا
وإنهما نزلا كهفا بأسفل نجران وهي أرض مراد ومع الغفلي امرأته وليدة مرقش فسمع مرقش زوج الوليدة يقول لها اتركيه فقد هلك سقما وهلكنا معه ضرا وجوعا
فجعلت الوليدة تبكي من ذلك فقال لها زوجها أطيعيني وإلا فإني تاركك وذاهب
قال وكان مرقش يكتب وكان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكانا أحب ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط
فلما سمع مرقش قول الغفلي للوليدة كتب مرقش على مؤخرة الرحل هذه الأبيات
( يا صاحبيّ تلّبّثا لا تَعجَلا ... إنّ الرواح رهينُ ألاّ تفعَلا )
( فلعلّ لُبثَكما يُفرّط سيِّئا ... أو يَسبِق الإِسراعُ سَيْباً مُقْبِلا )
( يا راكِباً إمّا عرضتَ فبلِّغَنْ ... أنسَ بن سعدٍ إن لَقيتَ وحَرْمَلا )
( لله دَرُّكما ودَرُّ أبيكما ... إن أفلتَ العَبْدان حتى يُقتَلا )
( مَنْ مُبْلغُ الأقوام أنّ مرقِّشاً ... أضحى على الأصحاب عبئاً مُثْقِلا )

( وكأنما ترِدُ السباعُ بشِلْوه ... إذ غاب جمع بني ضُبيْعة منْهلا )
قال فانطلق الغفلي وامرأته حتى رجعا إلى أهلهما فقالا مات المرقش ونظر حرملة إلى الرحل وجعل يقلبه فقرأ الأبيات فدعاهما وخوفهما وأمرهما بأن يصدقاه ففعلا فقتلهما وقد كانا وصفا له الموضع
فركب في طلب المرقش حتى أتى المكان فسال عن خبره فعرف أن مرقشا كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه وأقبل راعيها إليها
فلما بصر به قال له من أنت وما شأنك فقال له مرقش أنا رجل من مراد وقال للراعي من أنت قال راعي فلان وإذا هو راعي زوج أسماء
فقال له مرقش أتستطيع أن تكلم أسماء امرأة صاحبك قال لا ولا أدنو منها ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلب لها عنزا فتأتيها بلبنها فقال له خذ خاتمي هذا فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه وإنك مصيب به خيرا لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك فأخذ الراعي الخاتم
ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه فانطلقت الجارية به وتركته بين يديها
فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته وكذلك كانت تصنع فقرع الخاتم ثنيتها فأخذته واستضاءت بالنار فعرفته فقالت للجارية ما هذا الخاتم قالت ما لي به علم فأرسلتها إلى مولاها وهو في شرف بنجران فأقبل فزعا فقال لها لم دعوتني قالت ادع عبدك راعي غنمك فدعاه فقالت سله أين وجد هذا الخاتم قال وجدته مع رجل في كهف خبان
قال ويقال كهف جبار فقال اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء فإنك مصيب به خيرا وما أخبرني من هو ولقد تركته بآخر رمق
فقال لها زوجها وما هذا الخاتم قالت خاتم

مرقش فأعجل الساعة في طلبه
فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما فاحتملاه إلى أهلهما فمات عند أسماء وقال قبل أن يموت
( سَرى ليلاً خيالٌ من سُلَيْمى ... فأرّقني وأصحابي هُجودُ )
( فبِتّ أُديرأمري كلّ حالٍ ... وأذكر أهلَها وهمُ بعيد )
( على أنْ قد سما طَرْفي لنارٍ ... يُشَبّ لها بذي الأرْطى وَقود )
( حَوَاليْها مَهاً بِيضُ التّراقي ... وآرامٌ وغِزلانٌ رُقود )
( نواعمُ لا تُعالج بؤسَ عيشٍ ... أوانسُ لا تروح ولا تَرُود )
( يَرُحْن معاً بِطَاء المشي بُداً ... عليهنّ المجاسد والبُرُود )
( سَكن ببلدة وسكنتُ أخرى ... وقُطِّعتِ المواثقُ والعهود )
( فما بالي أفِي ويُخان عهدي ... وما بالي أُصَاد ولا أَصيدُ )
( ورُبّ أسيلة الخدّين بكرٍ ... مُنَعَّمَةٍ لها فرعٌ وجِيد )
( وذو أُشُرٍ شَتِيتُ النبتِ عذبٌ ... نقيُّ اللون بَرّاقٌ بَرود )
( لهوتُ بها زماناً في شبابي ... وزارتها النجائب والقَصيد )

( أُناسٌ كلّما أخلقت وصلاً ... عناني منهمُ وصلٌ جديد )
ثم مات عند أسماء فدفن في أرض مراد
وقال غير أبي عمرو والمفضل أتى رجل من مراد يقال له قرن الغزال وكان موسرا فخطب أسماء وخطبها المرقش وكان مملقا فزوجها أبوها من المرادي سرا فظهر على ذلك مرقش فقال لئن ظفرت به لأقتلنه
فلما أراد أن يهتديها خاف أهلها عليها وعلى بعلها من مرقش فتربصوا بها حتى عزب مرقش في إبله وبنى المرادي بأسماء واحتملها إلى بلده
فلما رجع مرقش إلى الحي رأى غلاما يتعرق عظما فقال له يا غلام ما حدث بعدي في الحي وأوجس في صدره خيفة لما كان فقال الغلام اهتدى المرادي امرأته أسماء بنت عوف
فرجع المرقش إلى حية فلبس لأمته وركب فرسه الأغر واتبع آثار القوم يريد قتل المرادي
فلما طلع لهم قالوا للمرادي هذا مرقش وإن لقيك فنفسك دون نفسه
وقالوا لأسماء إنه سيمر عليك فأطلعي راسك إليه واسفري فإنه لا يرميك ولا يضرك ويلهو بحديثك عن طلب بعلك حتى يلحقه إخوته فيردوه
وقالوا للمرادي تقدم فتقدم وجاءهم مرقش فلما حاذاهم أطلعت أسماء من خدرها ونادته فغض من فرسه وسار بقربها حتى أدركه أخواه أنس وحرملة فعذلاه ورداه عن القوم ومضى بها المرادي فألحقها بحية وضني مرقش لفراق أسماء فقال في ذلك

( أمِنْ آلِ أسماءَ الرسومُ الدَّوارسُ ... تُخطِّط فيها الطيرُ قَفْرٌ بَسابسُ )
وهي قصيدة طويلة وقال في أسماء ايضا
( أغالِبُكَ القلبُ اللَّجوجُ صبابةً ... وشوقاً إلى أسماءَ أم أنت غالبُهْ )
( يَهيم ولا يعيا بأسماءَ قلبُه ... كذاك الهوى إمرارهُ وعَوَاقِبُه )
( أيُلْحَى امرؤ في حبّ أسماء قد نأى ... بغَمْزٍ من الواشين وازوَرّ جانبه )
( وأسماءُ هَمُّ النفس إن كنتَ عالماً ... وبادي أحاديث الفؤادِ وغائبه )
( إذا ذكرَتْها النفسُ ظَلْتُ كأنني ... يُزعزعني قَفْقاف وِرْد وصالبُه )
وقال أبو عمرو وقع المجالد بن ريان ببني تغلب بجمران فنكى فيهم وأصاب مالا وأسرى وكان معه المرقش الأكبر فقال المرقش في ذلك
( أتتني لسانُ بني عامرٍ ... فجَلّى أحاديثُها عن بَصَرْ )
( بأنّ بني الوَخْم ساروا معا ... بجيش كضوء نجوم السَّحَر )
( بكلّ خُبُوبِ السُّرَى نَهْدَةٍ ... وكل كُمَيْتٍ طُوالٍ أغرّ )
( فما شَعَر الحيُّ حتى رأوْا ... بريق القَوَانِسِ فوقَ الغُرَر )

( فأقبلنَهم ثم أدربرنهم ... وأصدرنهم قبلَ حينِ الصَّدَر )
( فيا رُبَّ شِلْةٍ تًخَطْرفَنه ... كريمٍ لَدَى مَزْحَف أو مَكَرّ )
( وكائن بجُمْرانَ من مُزْعَف ... ومن رجلٍ وجهُه قد عُفِر )

وأما المرقش الأصغر
فهو على ما ذكر أبو عمرو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة
والمرقش الأكبر عم الأصغر والأصغر عم طرفة بن العبد
قال أبو عمرو والمرقش الأصغر أشعر المرقشين وأطولهما عمرا وهو الذي عشق فاطمة بنت المنذر وكانت لها وليدة يقال لها بنت عجلان وكان لها قصر بكاظمة وعليه حرس
وكان الحرس يجرون كل ليلة حوله الثياب فلا يطؤه أحد إلا بنت عجلان
وكان لبنت عجلان في كل ليلة رجل من أهل الماء يبيت عندها فقال عمرو بن جناب بن مالك لمرقش إن بنت عجلان تأخذ كل عشية رجلا ممن يعجبها فيبيت معها
وكان مرقش ترعية لا يفارق إبله فأقام بالماء وترك إبله ظمأى وكان من أجمل الناس وجها وأحسنهم شعرا وكانت فاطمة بنت المنذر تقعد فوق القصر فتنظر إلى الناس
فجاء مرقش فبات عند ابنة عجلان حتى إذا كان من الغد تجردت عند مولاتها فقالت لها ما هذا بفخذيك وإذا نكت كأنها التين وكآثار السياط من شدة حفزه إياها عند الجماع قالت اثار رجل بات معي الليلة
وقد كانت فاطمة قالت لها لقد رأيت رجلا جميلا راح نحونا بالعشية لم أره قبل ذلك قالت فإنه فتى قعد عن إبله وكان يرعاها وهو الفتى الجميل الذي

رأيته وهو الذي بات معي فأثر في هذه الآثار
قالت لها فاطمة فإذا كان غد وأتاك فقدمي له مجمرا ومريه أن يجلس عليه وأعطيه سواكا فإن استاك به أو رده فلا خير فيه وإن قعد على المجمر أو رده فلا خير فيه
فأتته بالمجمر فقالت له اقعد عليه فأبى وقال أدنيه مني فدخن لحيته وجمته وأبى أن يقعد عليه وأخذ السواك فقطع رأسه واستاك به
فأتت ابنة عجلان فاطمة فأخبرتها بما صنع فازدادت به عجبا وقالت أئتيني به
فتعلقت به كما كانت تتعلق فمضى معها وانصرف أصحابه
فقال القوم حين انصرفوا لشد ما علقت بنت عجلان المرقش وكان الحرس ينثرون التراب حول قبة فاطمة بنت المنذر ويجرون عليه ثوبا حين تمسي ويحرسونها فلا يدخل عليه إلا ابنة عجلان فإذا كان الغد بعث الملك بالقافة فينظرون أثر من دخل إليها ويعودون فيقولون له لم نر إلا أثر بنت عجلان
فلما كانت تلك الليلة حملت بنت عجلان مرقشا على ظهرها وحزمته إلى بطنها بثوب وأدخلته إليها فبات معها
فلما أصبح بعث الملك القافة فنظروا وعادوا إليه فقالوا نظرنا أثر بنت عجلان وهي مثقلة فلبث بذلك حينا يدخل إليها
فكان عمرو بن جناب بن عوف بن مالك يرى ما يفعل ولا يعرف مذهبه فقال له ألم تكن عاهدتني عهدا لا تكتمني شيئا ولا أكتمك ولا نتكاذب فأخبره مرقش الخبر فقال له لا أرضى عنك ولا أكلمك أبدا أو تدخلني عليها وحلف على ذلك
فانطلق المرقش إلى المكان الذي كان يواعد فيه بنت عجلان فأجلسه فيه وانصرف وأخبره كيف يصنع وكانا متشابهين غير أن عمرو بن جناب كان أشعر فأتته بنت عجلان فاحتملته وأدخلته إليها وصنع ما أمره به مرقش
فلما أراد مباشرتها وجدت شعر فخذيه فاستنكرته وإذا هو يرعد فدفعته بقدمها في صدره وقالت قبح الله سرا عند المعيدي
ودعت بنت عجلان فذهبت به وانطلق

إلى موضع صاحبه فلما رآه قد أسرع الكرة ولم يلبث إلا قليلا علم أنه قد افتضح فعض على إصبعه فقطعها
ثم انطلق إلى أهله وترك المال الذي كان فيه يعني الإبل التي كان مقيما فيها حياء مما صنع وقال مرقش في ذلك
( ألاَ يا اسلمى لا صُرمَ لي اليوم فاطماَ ... ولا أبداً ما دام وصلُكِ دائماَ )
( رمتكَ ابنةُ البَكْريّ عن فرع ضالّةٍ ... وهُنّ بنا خُوصٌ يُخَلْن نعائما )
( تراءت لنا يوم الرحيل بِواردٍ ... وعذبِ الثنايا لم يكن متراكما )
( سقاه حَباب المُزن في متكلل ... من الشمس رَوّاه ربابا سَوَاجِما )
( أَرَتْك بذات الضّالِ منها معاصماً ... وخدّاً أسيلا كالوذِيلة ناعما )
( صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكرةً ... إذا خطَرت دارت به الأرضُ قائما )
( تَبَصَّرْ خليلي هل ترى من ظَعائن ... خَرجْن سِراعاً واقتعدنَ المفائما )
( تحمّلن من جوّ الوَريعة بعد ما ... تعالى النهارُ وانتجعن الصَّرائما )
( تَحلَّين ياقوتا وشَذْرا وصِيغة ... وجَزْعا ظَفارِيّاً ودُرّاً تَوَائما )
( سلكن القُرَى والجِزعَ تُحدَى جمالها ... وورّكن قَوّاً واجتزعن المخارما )

( ألا حبّذا وجهٌ تُريك بياضَه ... ومُنْسَدِلاتٌ كالمثاني فواحما )
( وإني لأستحيي فُطَيْمة جائعاً ... خميصاً وأستحيي فُطَيمة طاعما )
( وإني لأستحييك والخَرْق بيننا ... مخافةَ أن تَلْقَى أخاً لي صارما )
( وإني وإن كلّت قَلُوصي لَرَاجِمٌ ... بها وبنفسي يا فطَيمَ المَرَاجما )
( ألاَ يَا اسلمى بالكوكب الطَّلْق فاطماَ ... وإن لم يكن صَرْفُ النوى متلائما )
( أَلاَ يَا اسلمى ثم اعلمي أنّ حاجتي ... إليك فرُدِّي من نوالك فاطما )
( أَفاطمَ لو أنّ انساء ببلدةٍ ... وأنت بأُخرى لابتغيتك هائما )
( متى ما يشأْ ذو الودُ يَصرِمْ خليلَه ... ويَغْضَبْ عليه لا محالة ظالما )
( وآلَى جَنَابٌ حِلفةً فأطعتُه ... فنفسك ولِّ اللَّوْمَ إن كنت نادما )
( فمن يلقَ خيراً يَحمدِ الناسُ أمرَه ... ومن يَغْوِ لا يعدَم على الغَيِّ لائما )
( ألم تر أنّ المرء يَجْذِمُ كفّه ... ويَجْشَمُ من لوم الصديق المَجَاشما )
( أمن حُلُم أصبحتَ تَنكُت واجما ... وقد تعتري الأحلامُ من كان نائما )

صوت
من المائة المختارة
( إذا قلتُ تَسْلو النفسُ أو تنتهي المُنَى ... أَبَى القلبُ إلاّ حبَّ أُمِّ حَكيم )
( مُنَّعمة صَفْراء حُلْوٌ دلالُها ... أَبِيتُ بها بعدَ الهُدُوء أَهِيم )

( قَطُوفُ الخُطَا مَحْطوطةُ المَتْنِ زانها ... مع الحُسن خَلْقٌ في الجَمَال عَمِيم )
الشعر مختلف في قائله فمن الرواة من يرويه لصالح بن عبد الله العبشمي ومنهم من يرويه لقطري بن الفجاءة المازني ومنهم من يرويه لعبيدة بن هلال اليشكري
والغناء لسياط وله فيه لحنان أحدهما وهو المختار ثقيل أول بالوسطى والآخر خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
ولبعض الشراة قصيدة في هذا الوزن وعلى هذه القافية وفيها ذكر لأم حكيم هذه أيضا تنسب إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة ويختلف في قائلها كالإختلاف في قائل هذه وفيها أيضا غناء وهو في هذه الأبيات منها
( لَعَمْرُكَ إِنِّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حِكيم )
( ولو شهدتني يومَ دولاب أبصرَتْ ... طِعانَ فتىً في الحرب غيرِ ذَميم )

ذكر المبرد أن الشعر لقطري بن الفجاءة وذكر الهيثم بن عدي أنه لعمرو القنا وذكر وهب بن جرير أنه لحبيب بن سهم التميمي وذكر أبو مخنف أنه لعبيدة بن هلال اليشكري وذكر خالد بن خداش أنه لعمرو القنا أيضا
والغناء لمعبد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس

خبر الوقعة التي قيل فيها هذان الشعران وهي وقعة دولاب وشيء من أخبار
هؤلاء الشراة وأنسابهم وخبر أم حكيم هذه
هذان الشعران قيلا في وقعة دولاب وهي قرية من عمل الأهواز بينها وبين الأهواز نحو من أربعة فراسخ كانت بها حرب بين الأزارقة وبين مسلم بن عبيس بن كريز خليفة عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب وذلك في أيام ابن الزبير
أخبرني بخبر هذه الحرب أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة عن المدائني وأخبرني بها عبيد الله بن محمد الرازي عن الخراز عن المدائني وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش أن نافع بن الأزرق لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم في أصول مقالتهم أقام بسوق الأهواز وأعمالها لا يعترض الناس وقد كان متشككا في ذلك
فقالت له امرأته إن كنت قد كفرت بعد إيمانك وشككت فيه فدع نحلتك ودعوتك وإن كنت قد خرجت من الكفر إلى الإيمان فاقتل الكفار حيث لقيتهم وأثخن في النساء والصبيان كما قال نوح لا تذر على الارض من الكافرين ديارا
فقبل قولها واستعرض الناس وبسط سيفه فقتل الرجال والنساء والولدان وجعل يقول إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم
وإذا وطىء بلدا فعل مثل هذا به

إلى أن يجيبه أهله جميعا ويدخلوا ملته فيرفع السيف ويضع الحباية فيجبى الخراج
فعظم أمره واشتدت شوكته وفشا عماله في السواد
فارتاع لذلك أهل البصرة ومشوا إلى الأحنف بن قيس فشكوا إليه أمرهم وقالوا له ليس بيننا وبين القوم إلا ليلتان وسيرتهم كما ترى فقال لهم الأحنف إن سيرتهم في مصركم إن ظفروا به مثل سيرتهم في سوادكم فخذوا في جهاد عدوكم
وحرضهم الأحنف فاجتمع إليه عشرة آلاف رجل في السلاح فأتاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وسأله أن يؤمر عليهم أميرا فاختار لهم مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة وكان فارسا شجاعا دينا فأمره عليهم وشيعه
فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس وقال إني ما خرجت لإمتيار ذهب ولا فضة وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما رواءهم إلا سيوفهم ورماحهم
فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض ومن أحب الحياة فليرجع فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح وعقرت الخيل وكثرت الجراح والقتلى وتضاربوا بالسيوف والعمد فقتل في المعركة ابن عبيس وهو على أهل البصرة وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وقتل نافع بن الأزرق يومئذ أيضا فعجب الناس من ذلك وأن الفريقين تصابروا حتى قتل منهم خلق كثير وقتل رئيسا العسكرين والشراة يومئذ ستمائة رجل فكانت الحدة يومئذ وباس الشراة واقعا ببني تميم وبني سدوس
وأتى ابن عبيس وهو يجود بنفسه فاستخلف على الناس الربيع بن عمرو الغداني وكان يقال له الأجذم كانت يده أصيبت بكابل مع عبد الرحمن بن سمرة
واستخلف نافع بن الأزرق عبيد

الله بن بشير بن الماحوز أحد بني سليط بن يربوع
فكان رئيسا المسلمين والخوراج جميعا من بني يربوع رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع ورئيس الشراة من بني سليط بن يربوع فاتصلت الحرب بينهم عشرين يوما
قال المدائني في خبره وادعى قتل نافع بن الأزرق رجل من باهلة يقال له سلامة وتحدث بعد ذلك قال كنت لما قتلته على برذون لورد فإذا أنا برجل ينادي وأنا واقف في خمس بني تميم فإذا به يعرض علي المبارزة فتغافلت عنه وجعل يطلبني وأنا أنتقل من خمس إلى خمس وليس يزايلني فصرت إلى رحلي ثم رجعت فدعاني إلى المبارزة فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين فضربته فصرعته ونزلت فأخذت رأسه وسلبته فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعا فخرجت لتثأر به
قالوا فلما قتل نافع وابن عبيس وولي الجيش إلى ربيع بن عمرو لم يزل يقاتل الشراة نيفا وعشرين يوما ثم أصبح ذات يوم فقال لأصحابه إني مقتول لا محالة قالوا وكيف ذلك قال إني رايت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني
فلما كان الغد قاتل إلى الليل ثم غاداهم فقتل يومئذ قال استشلاه أخذه إليه يقال أستشلاه واشتلاه قال فلما قتل الربيع تدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس

ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري
وقد اقتتل الناس يومئذ وقبله بيومين قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت ثم تضاربوا بالسيوف والعمد حتى لم يبق لأحد منهم قوة وحتى كان الرجل منهم يضرب الرجل فلا يغني شيئا من الإعياء وحتى كانوا يترامون بالحجارة ويتكادمون بالأفواه
فلما تدافع القوم الراية وأبوها واتفقوا على الحجاج بن باب امتنع من أخذها فقال له كريب بن عبد الرحمن خذها فإنها مكرمة فقال إنها لراية مشؤومة ما أخذها أحد إلا قتل
فقال له كريب يا أعور تقارعت العرب على أمرها ثم صيروها إليك فتأبى خوف القتل خذ اللواء ويحك فإن حضر أجلك قتلت إن كانت معك أو لم تكن
فأخذ اللواء وناهضهم فاقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس والخوارج أقوى عدة بالدروع والجواشن
وجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشراة ويطعن فيهم ويقتل حتى يظن أنه قد قتل ثم يرفع راسه وسيفه يقطر دما ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يقاتل كل قوم في ناحية
ثم التقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي فاختلفا ضربتين كل واحد منهما قتل صاحبه وجال الناس بينهما جولة ثم تحاجزوا وأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم وولوا حارثة بن بدر الغداني أمرهم ليس بهم طرق ولا بالخوارج
فقالت امرأة من الشراة وهي أم عمران قاتل الحجاج بن باب وقتيله ترثي ابنها عمران
( أللَّهُ أيَّد عِمْراناً وطَهَّره ... وكان عمرانُ يدعو الله في السَّحَرِ )

( يدعوه سِرّاً وإعلاناً ليرزقَه ... شهادةً بيدّيْ مِلْحادة غُدر )
( ولَّى صحابتُه عن حَرّ مَلْحَمةٍ ... وشدّ عِمْرانُ كالضِّرغامة الذكر )
قال فلما عقدوا لحارثة بن بدر الرياسة وسلموا إليه الراية نادى فيهم بأن يثبتوا فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة فندب الناس فآلتقوا وليس بأحد منهم طرق وقد فشت فيهم الجراحات فلهم أنين وما تطأ الخيل إلا على القتلى
فبينما هم كذلك إذ أقبل من اليمامة جمع من الشراة يقول المكثر إنهم مائتان والمقلل إنهم أربعون فاجتموا وهم يريحون مع أصحابهم واجتمعوا كبكبة واحدة فحملوا على المسلمين
فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال
( كَرْنبوا ودَوْلِبوا ... وحيثُ شئتم فاذهبُوا )

وقال
( أيرُ الحمار فريضةٌ لعبيدكم ... والخُصيتان فريضة الأعرابِ )
وتتابع الناس على أثره منهزمين وتبعتهم الخوارج فألقوا أنفسهم في دجيل فغرق منهم خلق كثير وسلمت بقيتهم
وكان ممن غرق دغفل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان ولحقت قطعة من الشراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم فعطفت عليهم خيل من بني تميم فعاونوهم وقاتلوا الشراة حتى كشفوهم وانصرفوا إلى أصحابهم
وعبرت بقية الناس فصار حارثة ومن معه بنهر تيري والشراة بالأهواز فأقاموا ثلاثة أيام وكان على الأزد يومئذ قبيصة بن أبي صفرة أخو المهلب وهو جد هزارمرد
قال وغرق يومئذ من الأزد عدد كثير فقال شاعر الأزراقة
( يَرَى مَنْ جاء ينظر من دُجَيْلٍ ... شيوخَ الأّزْد طافيةً لِحَاها )
وقال شاعر آخر منهم
( شَمِتَ ابنُ بدر والحوادث جمة ... والظالمون بنافع بن الأزرق )
( والموت حَتْمٌ لا محالةَ واقعٌ ... مَنْ لا يُصَبّحْهُ نهاراً يَطْرُق )

( فلئن أميرَ المؤمنين أصابه ... ريبُ المنون فَمنْ تُصِبْه يَغْلِق )
قال قطري بن الفجاءة فيما ذكر المبرد وقال المدائني في خبره إن صالح بن عبد الله العبشمي قائل ذلك وقال خالد بن خداش بل قائلها عمرو القنا قال وهب بن جرير عن أبيه فيما حدثني به أحمد بن الجعد الوشاء عن أحمد بن أبي خيثمة عن أبيه عن وهب بن جرير عن أبيه إن حبيب بن سهم قائلها
( لعمرُك إنِّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حَكيم )
( مِنَ الخَفَرات البِيض لم أَر مثلَها ... شِفاءً لِذِي بَيٍّ ولا لِسَقيم )
( لعمرُك إني يومَ أَلْطِمُ وجهَها ... على نائبات الدهر غيرُ حليم )
( ولو شَهِدتْني يوم دولاب أبصرتْ ... طِعانَ فتىً في الحرب غيرِ لئيم )
( غَدَاةَ طَفَتْ عَلماءِ بكرُ بن وائل ... وأُلاَّفُها مِنْ حِمِيْر وسَليم )
( ومالَ الحجازيُون نحوَ بلادهم ... وعُجْنا صدورَ الخيل نحو تَميم )
( وكان لعبد القَيْس أوّلُ جِدّها ... وولّت شيوخُ الأّزْذ فهي تَعُوم )
( فلم أَرَ يوماً كان أكثَرَ مُقْعَصاً ... يَمُجّ دماً من فائظٍ وكَلِيم )
( وضاربةً خدّاً كريماً على فتىً ... أغرَّ نجيبِ الأمهات كريم )
( أصيبَ بدُولابٍ ولم تكُ موطناً ... له أرضُ دولابٍ ودَيْرُ حَمِيم )
( فلو شَهِدتنا يومَ ذاك وخيلُنا ... تُبيح من الكُفّار كلَّ حريم )
( رأت فتيةً باعوا الإِلةً نفوسَهم ... بجنّات عَدْنٍ عنده ونَعيم )

حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال كان الشراة والمسلمون يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون فلا يهيج بعضهم بعضا
فتوافق يوما عبيدة بن هلال اليشكري وأبو حزابة التميمي وهما في الحرب فقال عبيدة يا أبا حزابة إني سائلك عن أشياء افتصدقني في الجواب عنها قال نعم إن تضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت
قال سل عما بدا لك قال ما تقول في أئمتكم قال يبيحون الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام
قال ويحك فكيف فعلهم في المال قال يجبونه من غير حلة وينفقونه في غير حقه قال فكيف فعلهم في اليتيم قال يظلمونه ماله ويمنعونه حقه وينيكون أمه قال ويلك يا أبا حزابة أفمثل هؤلاء تتبع قال قد أجبت فاسمع سؤالي ودع عنك عتابي على رأيي قال قل
قال أي الخمر أطيب أخمر السهل أم خمر الجبل قال ويلك أتسأل مثلي عن هذا قال قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر وخمر السهل أحسن وأسلس
قال أبو حزابة فأي الزواني أفره أزواني رامهرمز أم زواني أرجان قال ويلك إن مثلي لا يسأل عن مثل هذا

قال لا بد من الجواب أو تغدر فقال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا وزواني أرجان أحسن أبدانا
قال فأي الرجلين أشعر أجرير أم الفرزدق قال عليك وعليهما لعنة الله أيهما الذي يقول
( وطَوى الطِّرادُ مع القِياد بطونَها ... طيَّ التِّجار بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا )
قال جرير قال فهو أشعرهما قال وكان الناس قد تجاذبوا في أمر جرير والفرزدق حتى تواثبوا وصاروا إلى المهلب محكمين له في ذلك فقال أردتم أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني ما كنت لأحكم بينهما ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما عليكم بالشراة فسيلوهم إذا توافقتم
فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم وكان من أشجع الناس وأجملهم وجها وأحسنهم بدينهم تمسكا وخطبها جماعة منهم فردتهم ولم تجب إلى ذلك فأخبرني من شهدها أنها كانت تحمل على الناس وترتجز
( أحمِلُ رأساً قد سئمتُ حَمْلَهْ ... وقد مَلِلْت دَهْنَه وغسلَهْ )
( ألاَ فتىً يحمل عنّي ثِقْلَه ... )
قال وهم يفدونها بالآباء والأمهات فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا

العمري عن الهيثم بن عدي قال كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من العسكر فيقول لهم أيما أحب إليكم أقرأ عليكم القرآن أو أنشدكم الشعر فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك فأنشدنا فيقول لهم يا فسقة والله قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ثم يفترقون

أخبار سياط ونسبه
سياط لقب غلب عليه واسمه عبد الله بن وهب ويكنى أبا وهب مكي مولى خزاغة
وكان مقدما في الغناء رواية وصنعة ومقدما في الضرب معدودا في الضراب
وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلي وعنه أخذا ونقلا ونقل نظراؤهما الغناء القديم وأخذه هو عن يونس الكاتب
وكان سياط زوج أم ابن جامع وفيه يقول بعض الشعراء
( ما سمعتُ الغناء إِلاّ شَجَاني ... مِنْ سياطٍ وزادَ في وَسْواسِي )
( غَنِّني يا سياطُ قد ذهب الليل ... غناءً يَطير منه نُعاسي )
( ما أُبالي إذا سمعتُ غناءً ... لسياطٍ ما فاتني للرُّؤاسي )
والرؤاسي الذي عناه هو عباس بن منقار وهو من بني رؤاس وفيه يقول محمد بن أبان الضبي
( إذا واخيتَ عبَاساً ... فكن منه على وَجل )
( فتىً لا يقبل العذرَ ... ولا يرغب في الوصلِ )

( وما إن يتغنّى مَنْ ... يُوَاخيه من النُّبْل )
قال حماد بن إسحاق لقب سياط هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يتغنى
( كأنّ مَزَاحِفَ الحيّاتِ فيه ... قُبَيلَ الصبح آثارُ السِّيَاطِ )
وأخبرني محمد بن خلف قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه وأخبرني به عبد الله بن عباس بن الفضل بن الربيع عن وسواسة الموصلي ولم أسمع أنا هذا الخبر من وسواسة عن حماد عن أبيه قالا غنى إبراهيم الموصلي يوما صوتا لسياط فقال له ابنه إسحاق لمن هذا الغناء يا أبت قال لمن لو عاش ما وجد أبوك شيئا يأكله لسياط
قال وقال المهدي يوما وهو يشرب لسلام الأبرش جئني بسياط وعقاب وحبال فارتاع كل من حضر وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم أو ببعضهم فجاءه بسياط المغني وعقاب المدني وكان الذي يوقع عليه وحبال الزامر
فجعل الجلساء يشتمونهم والمهدي يضحك

سياط وأبو ريحانة المدني
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني حماد ابن إسحاق عن أبيه قال مر سياط على أبي ريحانة المدني في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه ثوب رقيق رث فوثب إليه أبو ريحانة وقال بابي أنت يا أبا وهب غنني صوتك في شعر ابن جندب
( فؤادي رهينٌ في هواك ومهجتي ... تذوب وأجفاني عليك هُمولُ )

فغناه إياه فشق قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا
فقال له رجل ما أغنى عنك ما غناك من شق قميصك فقال له يا ابن أخي إن الشعر الحسن من المغني الحسن ذي الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمام محمى
فقال له رجل أنت عندي من الذين قال الله جل وعز ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) فقال بل أنا من الذين قال تبارك وتعالى ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) وقد أخبرني بهذا الخبر علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه فذكر قريبا من هذا ولفظ أبي أيوب وخبره أتم
وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي المعروف بإبن أبي اليسع قال حدثنا عمر بن شبة أن سياطا مر بأبي ريحانة المدني فقال له بحق القبر ومن فيه غنني بلحنك في شعر ابن جندب
( لكلّ حَمامٍ أنت باكٍ إذا بكى ... ودمعُك منهلٌّ وقلبك يخفِقُق )
( مخافةَ بُعْدٍ بَعْدَ قُرْبٍ وهجرةٍ ... تكون ولمّا تأتِ والقلبُ مُشْفِق )
( ولي مهجةٌ ترفضُّ من خوف عَتْبها ... وقلبٌ بنار الحبّ يَصْلَى ويُحْرق )
( أظلُّ خَلِيعا بين أهلي ميتَّمًاً ... وقلبي لِما يرجوه منها معلّق )
فغناه إياه فلما استوفاه ضرب بيده على قميصه فشقه حتى خرج منه وغشي عليه
فقال له رجل لما أفاق يا أبا ريحانة ما أغنى عنك الغناء ثم ذكر باقي الخبر
أخبرني إسماعيل قال حدثني عمر بن شبة قال مرت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة وهي تغني وتقول

( وأَبكي فلا ليلَى بكتْ من صبابةٍ ... إليّ ولا ليلَى لذي الودّ تبذُلُ )
( وأخنع بالعُتْبَى إذا كنتُ مُذنِباً ... وإن أذنبت كنتُ الذي أتنصّل )
فقام إليها فقال يا سيدتي أعيدي فقالت مولاتي تنتظرني والقربة على ظهري فقال أنا أحملها عنك فدفعتها إليه فحملها وغنته الصوت فطرب فرمى بالقربة فشقها
فقالت له الجارية أمن حقي أن أغنيك وتشق قربتي فقال لها لا عليك تعالي معي إلى السوق فجاءت معه فباع ملحفته واشترى لها بثمنها قربة جديدة
فقال له رجل يا أبا ريحانة أنت والله كما قال الله عز و جل ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) فقال بل أنا كما قال الله يستمعون القول فيتبعون أحسنه )
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصلي بلغني أن أبا ريحانة المدني كان جالسا في يوم شديد البرد وعليه قميص خلق رقيق فمر به سياط المغني فوثب إليه وأخذ بلجامه وقال له يا سيدي بحق القبر ومن فيه غنني صوت ابن جندب فغناه
( فؤادي رهينٌ في هَواك ومُهجتي ... تَذُوب وأجفاني عليك هُمولُ )
فشق قميصه حتى خرج منه وبقي عاريا وغشي عليه واجتمع الناس حوله وسياط واقف متعجب مما فعل
ثم أفاق وقام إليه فرحمه سياط وقال له مالك يا مشؤوم أي شيء تريد قال غنني بالله عليك

( وَدِّعْ أُمَامةً حان منكَ رَحِيلُ ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليلُ )
( مثلُ القَضيب تمايلتْ أعطافُه )
( فالريح تجذِب مَتْنه فيَميل )
( إنْ كان شأنكُم الدلال فإنه ... حَسَنٌ دلالكِ يا أميمَ جَميل )
فغناه إياه فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه ووقع صريعا
ومضى سياط وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس فلما أفاق قيل له ويحك خرقت قميصك وليس لك غيره فقال دعوني فإن الغناء الحسن من المغني المطرب أدفأ للمقرور من حمام المهدي إذا أوقد سبعة أيام
قال ووجه له سياط بقميص وجبة وسراويل وعمامة

سياط يوصي بالمحافظة على غنائه
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني محمد بن عبد الله الخزاعي وحماد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال كان سياط أستاذ أبي وأستاذ ابن جامع ومن كان في ذلك العصر
فاعتل علة فجاءه أبي وابن جامع يعودانه فقال له أبي أعزز علي بعلتك أبا وهب ولو كانت مما يفتدى لفديتك منها
قال كيف كنت لكم قلنا نعم الأستاذ والسيد قال قد غنيت لنفسي ستين صوتا فأحب ألا تغيروها ولا تنتحلوها فقال له أبي أفعل ذلك يا أبا وهب ولكن أي ذلك كرهت أن يكون في غنائك فضل فأقصر عنه فيعرف فضلك علي فيه أو أن يكون فيه نقص فأحسنه فينسب إحساني إليك ويأخذه الناس عني لك قال لقد استعفيت من غير مكروه
قال الخزاعي في خبره ثم قال لي إسحاق كان سياط خزاعيا وكان له زامر يقال له حبال وضارب يقال له عقاب
قال حماد قال أبي أدركت أربعة كانوا أحسن الناس غناء سياط أحدهم قال وكان موته في أول أيام موسى الهادي

أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب عن مصعب قال دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت فقال له ألك حاجة فقال نعم لا تزد في غنائي شيئا ولا تنقص منه دعه رأسا برأس فإنما هو ثمانية عشر صوتا
أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني محمد بن حديد أخو النضر بن حديد أن إخوانا لسياط دعوه فأقام عندهم وبات فأصبحوا فوجدوه ميتا في منزلهم فجاؤوا إلى أمه وقالوا يا هذه إنا دعونا إبنك لنكرمه ونسر به ويأنس بقربه فمات فجأة وها نحن بين يديك فاحتكمي ما شئت ونشدناك الله ألا تعرضينا للسلطان أو تدعي فيه علينا ما لم نفعله
فقلت ما كنت لأفعل وقد صدقتم وهكذا مات أبوه فجأة قال فجاءت معنا فحملته إلى منزلها فأصلحت أمره ودفنته
وقد ذكرت هذه القصة بعينها في وفاة نبيه المغني وخبره في ذلك يذكر مع أخباره إن شاء الله تعالى
أخبرنا يحيى بن علي وعيسى بن الحسين الزيات واللفظ له قالا حدثنا أبو أيوب قال حدثنا أحمد بن المكي قال غنيت إبراهيم بن المهدي لسياط
( ضاف قلبي الهوى فأكثر سهْوِي ... )
فاستحسنه جدا وقال لي ممن أخذته قلت من جارية أبيك قرشية الزباء فقال أشعرت أنه كان لأبي ثلاث جوار محسنات كلهن تسمى قرشية منهن قرشية الزباء وقرشية السوداء وقرشية البيضاء وكانت الزباء أحسنهن غناء يعني التي

أخذت منها هذا الصوت قال وكنت أسمعها كثيرا تقول قد سمعت المغنين وأخذت عنهم وتقفدت أغانيهم فما رأيت فيهم مثل سياط قط
هذه الحكاية من رواية عيسى بن الحسين خاصة

نسبة هذا الصوت
صوت
( ضاف قلبي الهوى فأكْثر سهْوِي ... وجوي الحبِّ مُفظِعٌ غيرُ خُلْوِ )
( لو علا بعضُ ما علاني ثَبِيراً ... ظلَّ ضعْفاً ثبيرُ مِن ذاك يَهْوِي )
( من يكن من هوى الغواني خلِيّاً ... يا ثِقاتي فإِنني غيرُ خِلْو )
الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق
صوت
من المائة المختارة
( يا أمَّ عمرو لقد طالبتُ ودّكُم ... جُهدي وأعْذرتُ فيه كلَّ إعذارِ )
( حتى سقِمتُ وقد أصبحتِ سالمةً ... مما أُعالج من همٍّ وتَذكار )
لم يسم قائل هذا الشعر والغناء للرطاب والرطاب مدني قليل الصنعة ليس بمشهور وقيل له الرطاب لأنه كان يبيع الرطب بالمدينة ولحنه المختار هزج بالوسطى

صوت
من المائة المختارة
( تَصَدّع الأَنسُ الجميعُ ... أمْسَى فقلبي به صُدوعُ )
( في إثرهم وجفونُ عيني ... مُخْضَلّةٌ كلها دُموع )
لم يسم لنا قائل هذا الشعر ولا عرفناه والغناء لدكين بن يزيد الكوفي ولحنه المختار من خفيف الثقيل بالوسطى وهكذا ذكر إسحاق في الألحان المختارة للواثق
وذكر هذا الصوت في مجرد شجا فنسبه إلى دكين وجنسه في الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
وذكر أيضا فيه لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخصر في مجرى البنصر فزعم أنه ينسب إلى معبد وإلى الغريض وفيه بيتان آخران وهما
( فالقلبُ إن سِيمَ عنك صبراً ... كُلِّف ما ليس يستطيعُ )
( عاصٍ لمن لام في هواكمْ ... وهُوَ لكمْ سامعٌ مطيع )
صوت
من المائة المختارة
( يأيها الرجلُ الذي ... قد زان منطقَه البيانُ )

( لا تِعتِبنّ على الزمان ... فليس يُعْتِبك الزمانُ )
الشعر لعبد الله بن هارون العروضي والغناء لنبيه المغني ولحنه المختار ثقيل أول بالبنصر
فأما عبد الله بن هارون فما أعلم أنه وقع إلي له خبر إلا ما شهر من حاله في نفسه
وهو عبد الله بن هارون بن السميد مولى قريش من أهل البصرة وأخذ العروض من الخليل بن أحمد فكان مقدما فيه
وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أولادهم وكان يمدحهم كثيرا فأكثر شعره فيهم وهو مقل جدا
وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة وجعل أكثر شعره من هذا الجنس
فأما عبد الله ابن هارون فما عرفت له خبرا ولا وقع إلي من أمره شيء غير ما ذكرته

ذكر نبيه وأخباره
زعم ابن خرداذبه أنه من بني تميم صليبة وأن أصله من الكوفة وأنه كان في أول أمره شاعرا لا يغني ويقول شعرا صالحا
فهوي قينة ببغداد فتعلم الغناء من أجلها وجعله سببا للدخول عليها ولم يزل يتزيد حتى جاد غناؤه وصنع فأحسن واشتهر ودون غناؤه وعد في المحسنين
فمما قاله في هذه الجارية وغنى فيه قوله
صوت
( يا ربّ إني ما جفوتُ وقد جفتْ ... فاليك أشكو ذاك يا ربّاه )
( مولاةُ سَوّسٍ ما ترِقُّ لعبدها ... نَعْم الغلامُ وبئست المولاه )
( يا ربّ إن كانت حياتي هكذا ... ضرراً عليّ فما أُريد حياه )
الغناء لنبيه ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى ومن الناس من ينسب الشعر والغناء إلى علية بنت المهدي
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال قلت لمخارق وقد غنى هذا الصوت يوما

( متى تجمع القلب الذكيّ وصارماً ... وأنفا حمِيَّا تجْتنِبْك المظالمُ )
فسألته لمن هو فقال هذا لنبيه التميمي وكان له أخوان يقال لهما منبه ونبهان وكان ينزل شهارسوج الهيثم في درب الريحان
قال أبو زيد وسمعت مخارقا يحدث إسحاق بن إبراهيم قال سمعت أباك إبراهيم بن ميمون يقول وقد ذكر نبيها إن عاش هذا الغلام ذهب خبرنا
قال وكنت قد غنيته صوتا أخذته عنه وهو
( شكوتُ إلى قلبي الفراقَ فقال لي ... مِن الآن فايْاس لا أغُرّك بالصبرِ )
( إذا صَدّ مَنْ أهْوَى وأسلمني العزا ... ففُرْقة من أهوى أحرُّ من الجمر )
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علي بن المفضل قال إصطبحنا يوما أنا ونبيه عند عبيد الله بن أبي غسان فغنانا نبيه لحنه
( يأيها الرجل الذي ... قد زان منطقه البيانُ )
فما سمعت أحسن منه وكان صوتنا عليه بقية يومنا
ثم أردنا الإنصراف فسألنا عبيد الله أن نبيت عنده ونصطبح من غد فأجبناه وقال لنبيه أي شيء تشتهي أن يصلح لك قال تشتري لي غزالا فتطعمني كبده كبابا وتجعل سائر ما آكله من لحمه كما تحب فقال أفعل
فلما أصبحنا جاءه بغزال فأصلحه كما أحب فلما

استوفى أكله استلقى لينام فحركناه فإذا هو ميت فجزعنا من ذلك وبعث عبيد الله إلى أمه فجاءت فأخبرها بخبره
فلما رأته استرجعت ثم قالت لا بأس عليكم هو رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا وميتة أبيهم من قبلهم فسكنا إلى ذلك
وغسل في دار عبيد الله وأصلح شأنه وصلي عليه ومضينا به إلى مقابرهم فدفن هناك
صوت

من المائة المختارة
( وقفتُ على رَبعٍ لسُعْدَى وعَبْرتي ... تَرَقْرَقُ في العينين ثم تسِيلُ )
( أسائل ربعاً قد تعفّتْ رسومُه ... عليه لأصناف الرياح ذُيول )
لم يسم لنا قائل هذا الشعر والغناء لسليم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار سليم
هو سليم بن سلام الكوفي ويكنى أبا عبد الله وكان حسن الوجه حسن الصوت وقد انقطع وهو أمرد إلى إبراهيم الموصلي فمال إليه وتعشقه فعلمه وناصحه فبرع وكثرت روايته وصنع فأجاد
وكان إسحاق يهجوه ويطعن عليه واتفق له اتفاق سيء كان يخدم الرشيد فيتفق مع ابن جامع وإبراهيم وإبنه إسحاق وفليح بن العوراء وحكم الوادي فيكون بالإضافة إليهم كالساقط
وكان من أبخل الناس فلما مات خلف جملة عظيمة وافرة من المال فقبضها السلطان عنه
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه أن إسحاق قال في سليم
( سُليمُ بنُ سَلاّم على بَرْد خلْقه ... أحرُّ غِناءً من حُسينِ بنِ مُحْرِزِ )
وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرنا

يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق أن الرشيد قال لبرصوما الزامر وكانت فيه لكنة ما تقول في ابن جامع قال زق من أسل يريد من عسل
قال فإبراهيم قال بستان فيه فاكهة وريحان وشوك قال فيزيد حوراء قال ما أبيد أسنانه يريد ما أبيض قال فحسين بن محرز قال ما أحسن خظامه يريد ما أحسن خضابه
قال فسليم بن سلام قال ما أنظف ثيابه
قال إسماعيل بن يونس في خبره عن عمر بن شبة عن إسحاق وغنى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يدي الرشيد فقصر سليم في موضع صيحة فأخرج برصوما الناي من فيه ثم صاح به وقال له يا أبا عبد الله صيهة أشد من هذا جهة أشد من هذا فضحك الرشيد حتى استلقى
قال وما أذكر أني ضحكت قط أكثر من ذلك اليوم

غنى الرشيد فوصله
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال محمد بن الحسن بن مصعب إنما أخر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج فإن ثلثي صنعته هزج وله من ذلك ما ليس لأحد منهم
قال ثم قال محمد غني سليم يوما بين

fahras
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45