كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( أبُو حَسَنِ لا يَفِي ... فمَن ذا يَفي بَعدهُ )
( أَثرْتُ لهُ شادِناً ... فصايَدهُ وحْده )
( وأظهر لي غدْرَةً ... وأخلفني وعْدَهُ )
( سأطلب ما ساءه ... كما ساءني جُهدَهُ )
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان سعيد بن وهب لي صديقاً وكان له ابنٌ يكنى أبا الخطاب من أكيس الصبيان وأحسنهم وجهاً وأدباً فكان لا يكاد يفارقه في كل حال لشدة شغفه به ورقته عليه فمات وله عشر سنين فجزع عليه جزعاً شديداً وانقطع عن لذاته فدخلت إليه يوماً لأعاتبه على ذلك وأستعطفه فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه ثم انتحب حتى رحمته وأنشدني
( عَينُ جُودي علَى أبي الخَطّابِ ... إذ تَوَلَّى غَضبّاً بماءِ الشباب )
( لم يُقارِفْ ذَنباً ولم يَبْلُغ الحنث ... مُرَجًّى مُطهَّرَ الثوابِ )
( فَقَدتْه عَيْني إذا ما سعى أترابه ... مِنْ جماعة الأتراب )
( إنْ غَدَا مُوحِشاً لِدارِي فقد أصبح ... أنْسَ الثَّرَى وزينَ التُّرابِ )
( أحمدُ الله يا حَبِيبي فإني ... بِكَ راج منه عظيمَ الثوابِ )
ثم ناشدني ألا أذكره بشيء مما جئت إليه فقمت ولم أخاطبه بحرف
وقد رأيت هذه الأبيات بعينها بخط إسحاق في بعض دفاتره يقول فيه أنشدني سعي بن وهب لنفسه يرثي ابناً له صغيراً وهي على ما ذكره جعفر بن قدامة عن حماد سواء

أخبرني عيسى بن الحسين الوارق قال حدثني أبو هفان قال
حدثني أبو دعامة قال كان سعيد بن وهب مألفة لكل غلام أمرد وفتى ظريف وقينة محسنة فحدثني رجل كان يعاشره قال دخل إليه يوماً وأنا عنده غلامان أمردان فقالا له قد تحاكمنا إليك أينا أجمل وجهاً وأحسن جسماً وجعلنا لك أجر حكمك أن تختار أينا حكمت له فتقضي حاجتك منه فحكم لأحدهما وقام فقضى حاجته واحتبسهما فشربا عنده نبيذاً ثم مال على الآخر أيضاً وقمت معه فداخلتهما حتى فعلت كفعله فقال لي سعيد هذا يوم الغارات في الحارات ثم قال
( رئمَانِ جاءا فحَكّماني ... لا حُكْمَ قاضٍ ولا أميرِ )
( هذا كشمسِ الضحَى جمالاً ... وذَا كبَدْرِ الدّجى المُنِيرِ )
( وفضْلُ هذا كذا علَى ذا ... فضلُ خمِيس على عَشير )
( قالا أشِرْ بَينَنَا برأْيٍ ... ونجعلُ الفضل للمشير )
( تباذلا ثم قمت حتى ... أخذْتُ فضلي من الكبير )
( وكان عيباُ بأنْ أراني ... أَحْرمُ حَظَّي من الصغير )
( فكان مِنِّي ومِنْ قرِيني ... إليهما وثْبَةُ المُغير )
( فمَنْ رأى حاكماً كحُكْمي ... أعظمَ جوراً بلا نكير )
وقال وشاعت الأبيات حتى بلغت الرشيد فدعا به فاستننشده إياها فتلكأ فقال له أنشد ولا بأس عليك فأنشد فقال له ويلك اخترت الكبير سناً أو قدراً قال بل الكبير قدراً قال لو قلت غير هذا سقطت عندي واستخففت بك ووصله

سعيد بن وهب والفضل بن يحيى
أخبرني جعفر بن قدامة حدثني أبو العيناء قال
دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق فقال له
أيها الوزير إني ما كنت استعددت لهذه الحال ولا تقدمت لها عندي مقدمة فأعرفها ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة فقال هاتهما فرب قليل أبلغ من الكثير فقال سعيد
( مَدَح الفضلُ نفسَه بالفَعالِ ... فَعَلا عن مَدِيحنا بالمقالِ )
( أمرُني بمدحِه قلتُ كلا ... كبُر الفضل عن مِديح الرجالِ )
قال فطرب الفضل وقال له أحسنت والله وأجدت ولئن قل القول ونزر لقد اتسع المعنى وكثر
ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحاً يومئذ وقال لا خير فيما يجيء بعد بيتيك وقام من المجلس وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثت عن الخريمي قال
كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفراً وينافسه جعفر وكان أنس بن أبي شيخ خاصاً بجعفر ينادمه ويأنس به في خلواته وكان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل
فدخلت يوماً إلى جعفر ودخل إليه سعيد بن وهب فحدثه وأنشده

وتنادر له وحكى عن المتنادرين وأتى بكل ما يسر ويطرب ويضحك وجعفر ساكت ينظر إليه لا يزيد على ذلك
فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه وقلت له من هذا الرجل الكثير الهذيان قال أو ما تعرفه قلت لا قال هذا سعيد بن وهب صديق أخي أبي العباس وخلصانه وعشيقه قلت وأي شيء رأى فيه قال لا شيء والله إلا القذر والبرد والغثاثة
ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل ودخل أنس بن أبي شيخ فحدث وندر وحكى عن المضحكين وأتى بك طريفة فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد فقلت له بعد أن خرج من حضرته من هذا المبرد قال أو لا تعرفه قلت لا قال هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي أبي الفضل وعشيقه وخاصته قلت وأي شيء أعجبه فيه قال لا أدري والله إلا القذر والبرد وسوء الإختيار
قال وأنا والله أعرف بسعيد وأنس من الناس جميعاً ولكني تجاهلت عليهما و ساعدتهما على هواهما

سعيد والفضل بن الربيع
حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال قال إبراهيم بن العباس
قال لي الفضل بن الربيع ذات يوم عرفتنا أيام النكبة من كنا نجهله من الناس وذلك أنا احتجنا إلى أن نودع أموالنا وكان أمرها كثيراً مفرطاً فكنا

نلقيها على الناس إلقاء ونودعها الثقة وغير الثقة فكان ممن أودعته سعيد بن وهب وكان رجلاً صعلوكاً لا مال له إنما صحبنا على البطالة فظننت أن ما أودعته ذاهب ثم طلبته منه بعد حين فجاءني والله بخواتيمه
وأودعت علي بن الهيثم كاتبنا جملة عظيمة وكان عندي أوثق من أودعته فلما أمنت طالبته بالوديعة فجحدنيها وبهتني وحلف على ذلك فصار سعيد عندي في السماء وبلغت به كل مبلغ وسقط علي بن الهيثم فما يصل إلي ولا يلقاني
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه حدثني عمرو بن بانة قال
كان في جواري رجل من البرامكة وكانت له جارية شاعرة ظريفة يقال لها حسناء يدخل إليها الشعراء ويسألونها عن المعاني فتأتي بكل مستحسن من الجواب فدخل إليها سعيد بن وهب يوماً وجلس إليها فحادثها طويلاً ثم قال لها بعد ذلك
( حاجَيْتك يا حَسْناءُ ... في جِنْسٍ من الشِّعر )
( وفيما طُولُه شِبرٌ ... وَقد يُوفي على الشِّبر )
( له في رأسِه شَقٌ ... نَطُوفٌ بالنَّدَى يجري )
( إذا ماجَفّ لم يَجْر ... لَدَى بَرٍّ ولا بَحْر )
( وإنْ بُلَّ أتَى بالعجب ... العاجب والسِّحرِ )
( أجيبي لم أُردْ فُحْشاً ... وربِّ الشفع والوتر )

( ولكن صغْتُ أبياتاً ... لها حظ من الزجر )
قال فغضب مولاها وتغير لونه وقال أتفحش على جاريتي وتخاطبها بالخنا فقالت له خفض عليك فما ذهب إلى ظننت وإنما يعني القلم فسري عنه وضحك سعيد وقال هي أعلم منك بما سمعت

صوت
( دايَنْتُ أرْوى والديون تقضى ... فمطَلت بعضاً وأدَّتْ بعضا )
( يا ليتَ أرْوى إذ لَوتْكَ القَرْضا ... جادت بقرض فشكَرْتَ القَرضا )
الشعر لرؤبة بن العجاج والغناء لعمرو بن بانة رمل بالوسطى

أخبار رؤبة ونسبه
هو رؤبة بن العجاج واسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن حنيفة وهو أبو جذيم بن مالك بن قدامة بن أسامة بن الحارث بن عوف بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم
من رجاز الإسلام وفصحائهم والمذكورين المقدمين منهم بدوي نزل البصرة وهو من مخضرمي الدولتين
مدح بني أمية وبني العباس ومات في أيام المنصور وقد أخذ عنه وجوه أهل اللغة وكانوا يقتدون به ويحتجون بشعره ويجعلونه إماماً ويكنى أبا الجحاف وأبا العجاج
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عمار واللفظ له قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد بن يزيد قال حدثني يونس بن حبيب قال
كنت جالساً مع أبي عمرو بن العلاء إذ مر بنا شبيل بن عزرة الضبعي قا ل أبو يزيد وكان علامة فقال يا أبا عمرو أشعرت أني سألت رؤبة عن

اسمه فلم يدر ما هو وما معناه قال يونس فقلت له والله لروبة أفصح من معد بن عدنان وأنا غلام رؤبة أفتعرف أنت روبة وروبة وروبة وروبة ورؤبة قال فضرب بغلته وذهب فما تكلم بشيء قال يونس فقال لي أبي عمرو ما يسرني أنك نقصتني منها
قال ابن عمار في خبره والروبة اللبن الخاثر والروبة ماء الفحل والروبة الساعة تمضي من الليل والروبة الحاجة والرؤبة شعب القدح قال وأنشدني بعد ذلك
( فأما تميم تميمُ بن مرٍّ ... فألفاهم القومُ رَوْبَى نيامَا )
حدثني ابن عمار قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني يحيى بن محمد بن أعين المروزي قال حدثني أبو عبيدة قال
شهدت شبيلاً الضبعي وأبا عمرو فذكر نحوه
أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام قال قلت ليونس هل رأيت عربياً قط أفصح من رؤبة قال لا ما كان معد بن عدنان أفصح منه
قال يونس قال لي رؤبة حتى متى أزخرف لك كلام الشيطان أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك
وقد روى رؤبة بن العجاج الحديث المسند عن رسول الله ورواه أبوه أيضاً

أنشد ابا هريرة فشهد له بالإيمان
أخبرني عبد الله بن أبي داود السجستاني قال حدثنا عبد الله بن

محمد بن خلاد قال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال حدثنا محمد بن إبراهيم عن يونس بن حبيب عن رؤبة بن العجاج عن أبيه قال أنشدت أبا هريرة
( الحمدُ للهِ الذي تَعَلَّت ... بأمره السماءُ واستقلّتِ )
( بإذنه الأرضُ وما تغيّتِ ... أرسَى عليها بالجبال الثّبتِ )
( الباعثِ الناسَ لِيوم المَوقْت ... )
قال أبو هريرة أشهد أنك تؤمن بيوم الحساب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن أبي حرب البابي من آل الحجاج بن باب قال حدثنا يونس بن حبيب عن رؤبة بن العجاج عن أبي الشعثاء عن أبي هريرة قال
كنا مع النبي سفر وحاد يحدو
( طافَ الخيالاَنِ فهاجَا سَقَما ... خيالُ لُبْنَى وخيالُ تَكتُما )
( قامت تريك خشيةً أن تصرِمَا ... ساقاً بخَنَداةً وكعباُ أَدْرما )
والنبي يسمع ولا ينكر
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن عمرو عن محمد بن إسحاق السهمي عن أبي عبيدة الحداد قال حدثنا رؤبة بن العجاج عن أبه قال
سمعت أبا عبيدة يقول السواك يذهب وضر الطعام

أنشد أبا مسلم الخراساني فأجازه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا أبو حاتم والأشنانداني أبو عثمان عن أبي عبيدة عن رؤبة بن العجاج قال
بعث إلي أبو مسلم لما أفضت الخلافة إلى بني هاشم فلما دخلت عليه رأى مني جزعا فقال اسكن فلا بأس عليك ما هذا الجزع الذي ظهر منك قلت أخافك قال ولم قلت لأنه بلغني أنك تقتل الناس قال إنما أقتل من يقاتلني ويريد قتلي أفأنت منهم قلت لا قال فهل ترى بأساً قلت فأقبل على جلسائه ضاحكاً ثم قال أما ابن العجاج فقد رخّص لنا ثم قال أنشدني قولك
( وقائِمِ الأعماقِ خاوِي المخترَق ... )
فقلت أو أنشدك أصلحك الله أحسن منه قال هات فأنشدته
( قلتُ وقولي مستجدُّ حَوْكاً ... لبّيك إذ دعَوْتني لَبَيْكا )
( أحمدُ ربّاً ساقني إليكا ... ) قال هات كلمتك الأولى قلت أو أنشدك أحسن منها قال هات فأنشدته
( ما زَال يَبْنِي خَنْدقاً ويهدمُه ... ويَستجيشُ عسكراً ويَهزمُهُ )
( وَمغنماً يَجْمَعه ويقسمه ... مَرْوانُ لما أن تهاوتْ أنجُمهُ )
( وخانه في حكمه مُنَجِّمهْ ... )
قال دع هذا وأنشدني وقاتم الأعماق قلت أو أحسن منه قال هات فأنشدته

( رفعتَ بيتاً وخفضتَ بَيْتَا ... وشِدْت رُكن الدين إذ بنيتا ) قال هات ما سألتك عنه فأنشدته
( في الأكرمين من قريش بيتاً ... )
( ما زال يأتي الأمْر من أقطارِه ... على اليمين وعلى يسارِهِ )
( مشمَّراً لا يُصطلَى بنارِه ... حتى أَقرّ الملكَ في قَرارِه )
( وفَرّ مروانُ على حمارِه ... ) قال ويحك هات ما دعوتك له وامرتك بإنشاده ولا تنشد شيئاً غيره فأنشدته
( وقاتِم الأعماقِ خاوي المخترَق ... )
فلما صرت إلى قولي
( يَرْمِي الجلاميد بجُلْمُودٍ مِدَق ... )
قال قاتلك الله لشد ما ما استصلبت الحافر ثم قال حسبك أنا ذلك الجلمود المدقّ
قال وجيء بمنديل فيه مال فوضع بين يدي فقال أبو مسلم يا رؤبة إنك أتيتنا والأموال مشفوهة وإن لك لعودةً إلينا وعلينا مُعوّلاً والدهر أطرقُ مُستتبٌّ فلا تجعل بجنبيك الأسدة
قال رؤبة فأخذت المنديل منه وتالله ما رأيت أعجمياً أفصح منه وما ظننت أن أحداً يعرف هذا الكلام غيري وغير أبي

قال الكراني قال أبو عثمان الأشنانداني خاصة يقال اشتقَّ ما في الإناء وشفهه إذا أتى عليه وأنشد
( وكادَ الماَلُ يَشفَهه عِيالي ... وما ذو عَيْلتي مَنْ لا أعولُ )

رؤبة آكل الفأر
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد وأخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثني ابن قتيبة قال
كان رؤبة يأكل الفأر فقيل له في ذلك وعوتب فقال هو والله أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللواتي يأكلن القذر وهل يأكل الفأر إلا نقي البر ولباب الطعام
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة قال لما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بعث بي الحجاج مع أبي لنلقاه فاستقبلنا الشمال حتى صرنا بباب الفراديس
قال وكان خروجنا في عام مخصب وكنت أصلي الغداة وأجتني من الكمأة ما شئت ثم لا أجاوز إلا قليلً حتى أرى خيراً منها فأرمي بها

وآخذ الآخر حتى نزلنا بعض المياه فأهدي لنا حمل مخرفج ووطب لبن غليظ وزبدة كأنها رأس نعجة حوشية فقطعنا الحمل آراباً وكررنا عليه اللبن والزبدة حتى إذا بلغ إناه انتشلنا اللحم بغير خبز
ثم شربت من مرقه شربة لم تزل لها ذفرياي ترشحان حتى رجعنا إلى حجر
فكان أول من لقينا من الشعراء جريراً فاستعهدنا ألا نعين عليه فكان أول من أذن له من الشعراء أبي ثم أنا فأقبل الوليد على جرير فقال له ويلك ألا تكون مثل هذين عقدا الشفاه عن أعراض الناس فقال إني أظلم فلا أصبر
ثم لقينا بعد ذلك جرير فقال يا بني أم العجاج والله لئن وضعت كلكلي عليكما ما أغنت عنكما مقطعاتكما فقلنا لا والله ما بلغه عنا شيء ولكنه حسدنا لما أذن لنا قبله واستنشدنا قبله

وقد أخبرني ببعض هذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال روح بن فلان الكلبي
كنت عند عبد الملك بن بشر بن مروان فدخل جرير فلما رأى العجاج أقبل عليه ثم قال له والله لئن سهرت لك ليلة ليقلن عنك نفع مقطعاتك هذه فقال العجاج يا أبا حرزة والله ما فعلت ما بلغك وجعل يعتذر ويحلف ويخضع فلما خرج قال له رجل لشد ما اعتذرت إلى جرير قال والله لو علمت أنه لا ينفعني إلا السلاح لسلحت
أخبرني أحمد بن العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية عن الأصمعي عن سليمان بن أخضر عن ابن عون قال ما شبهت لهجة الحسن البصري إلا بلهجة رؤبة ولم يوجد له ولا لأبيه في شعرهما حرف مدغم قط
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال قيل ليونس من أشعر الناس قال العجاج ورؤبة فقيل له ولم نعنِ الرّجاز فقال هما أشعر من أهل القصيد إنما الشعر كلام فأجود أشعره قد قال العجاج
( قد جَبرَ الدّينَ الإلهُ فجبر ... )
وهي نحو من مائتي بيت موقوفة القوافي ولو أطلقت قوافيها كانت كلها منصوبة وكذلك عامة أراجيزهما

يقعد اللغويين إليه يوم الجمعة
أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام عن أبي زيد الأنصاري والحكم بن قنبر قالا

كنا نقعد إلى رؤبة يوم الجمعة في رحبة بني تميم فاجتمعنا يوماً فقطعنا الطريق ومرت بنا عجوز فلم تقدر على أن تجوز في طريقها فقال رؤبة بن العجاج
( تَنَحَّ للعجوزِ عن طَرِيقها ... إذ أقبلَت رائحةً من سُوقها )
( دَعْها فما النحويُّ من صديقها ... ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحوي قال
دخل رؤبة بن العجاج السوق وعليه برنكان أخضر فجعل الصبيان يعبثون به ويغرزون شوك النخل في برنكانه ويصيحون به يا مرذوم يا مرذوم فجاء إلى الوالي فقال أرسل معي الوزعة فإن الصبيان قد حالوا بيني وبين دخول السوق فأرسل معه أعواناً فشد على الصبيان وهو يقول
( أَنْحىَ على أمّك بالمرذُومْ ... أعورُ جَعْدٌ مِنْ بَني تميمْ )
( شَرّابُ ألبانِ خلايا الكُوم ... )
ففروا من بين يديه فدخلوا داراً في الصيارفة فقال له الشرط أين هم قال دخلوا دار الظالمين فسميت دار الظالمين إلى الآن لقول رؤبة وهي في صيارفة سوق البصرة

وذكر أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قدم البصرة راجز من أهل المدينة فجلس إلى حلقةٍ فيها الشعراء فقال أنا أرجز العرب أنا الذي أقول
( مَرْوانُ يُعْطِي وسعيدٌ يمنعُ ... مروانُ نَبْعٌ وسعيدٌ خِرْوعُ )
وددت أني راميت من أحب في الرجز يداً بيد والله لأنا أرجز من العجاج فليت البصرة جمعت بيني وبينه قال والعجاج حاضر وابنه رؤبة معه فأقبل رؤبة على أبيه فقال قد أنصفك الرجل فأقبل عليه العجاج وقال هأنذا العجاج فهلم وزحف إليه فقال وأيُّ العجاجين أنت قال ما خلتك تعني غيري أنا عبد الله الطويل وكان يكنى بذلك فقال له المدني ما عنيتك ولا أردتك فقال وكيف وقد هتفت بي قال وما في الدنيا عجاج سواك قال علمت قال لكني أعلم وإياه عنيت قال فهذا ابني رؤبة فقال اللهم غفراً ما بيني وبينكما عمل وإنما مرادي غيركما فضحك أهل الحلقة منه وكفا عنه
أخبرني أبو خليفة في كتابه عن محمد بن سلام عن يونس قال
غدوت يوما أنا وإبراهيم بن محمد العطاردي على رؤبة فخرج إلينا كأنه نسر فقال له ابن نوح أصبحت والله كقولك
( كالْكرَّزِ المشدودِ بين الأوتادْ ... ساقَطَ عنه الريشَ كَرُّ الإبراد )
( فقال له رؤبة والله يا بن نوح ما زلت لك ماقتاً فقلت بل أصبحت يا أبا الجحاف كما قال الآخر

( فأبقينَ منهُ وأبْقَى الطرادُ ... بَطْناً خميصاً وصُلْباً سمينا )
فضحك وقال هات حاجتك
قال ابن سلام ووقف رؤبة على باب سليمان بن علي يستأذن فقيل له قد أخذ الإذريطوس فقال رؤبة
( يا مُنْزل الوحي على إدريس ... ومُنزل اللعنِ على إبليسِ )
( وخالقَ الإثنين والخميس ... بارِكْ له في شُرِب إذْرِيطُوس )
أخبرني الحسن بن يحيى قال حماد أخبرني أبي عن الأصمعي قال أنشد رؤبة سلم بن قتيبة في صفة خيل
( يَهْوِينَ شتَّى ويقعْنَ وُقْفاً ... )
فقال له أخطأت يا أبا الجحاف جعلته مقيداً فقال أدنني أيها الأمير ذنب البعير أصفه لك كما يجب
أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام عن عبد الرحمن بن محمد عن علقمة الضبي قال
خرج شاهين بن عبد الله الثقفي برؤبة إلى أرضه فقعدوا يلعبون بالنرد

فلما أتوا بالخوان قال رؤبة
( يا إخوتي جاء الخِوانُ فارفعوا ... حنّانةً كِعابُها تُقَعْقِع )
( لم أدْرِ ما ثَلاثُها والأربَع ... )
قال فضحكنا ورفعناها وقدم الطعام
أخبرني الحسن بن علي حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك عن أبيه عن يعقوب بن داود قال
لقيت الخليل بن أحمد يوماً بالبصرة فقال لي يا أبا عبد الله دفنا الشعر واللغة والفصاحة اليوم فقلت وكيف ذاك قال هذا حين انصرفت من جنازة رؤبة

صوت
( لَعمري لقد صاح الغراب بينهم ... فأوجعَ قلبي بالحديث الذي يُبدي )
( فقلت له أفصحتَ لا طِرت بعدها ... برِيش فهل للبين ويحك من ردّ )
الشعر لقيس بن ذريح وقد تقدمت أخباره والغناء لعمرو بن أبي الكنّات ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

أخبار عمرو بن أبي الكنات
هو عمرو بن عثمان بن أبي الكنات مولى بني جمح مكي مغن محسن موصوف بطيب الصوت من طبقة ابن جامع وأصحابه وفيه يقول الشاعر
( أحسنُ فاعلموه غِناء ... رجُل من بني أبي الكَنّات )
وله في هذا الشعر غناء مع أبيات قبله لحن ابتداؤه
صوت
( عفَتِ الدار بالهِضاب اللواتي ... بِسَوارٍ فملتقى عرفاتِ )
( فالحريّان أوحشا بعد أنس ... فدِيارٌ بالرّبع ذي السّلمِات )
( إنّ بالبِين مربعاً من سليمى ... فإلى محضرين فالنخلات )
وبعده البيت الأول المذكور
الغناء في هذا الشعر لعمرو بن أبي الكنات وطريقته من الرمل

بالوسطى وقيل إنه لابن سريج وقيل بل لحن ابن سريج غير هذا اللحن وليس فيه البيت الرابع الذي فيه ابن أبي الكنات
ويكنى عمرو بن أبي الكنات أبا عثمان وذكر ابن خرداذبه أنه كان يكنى أبا معاذوكان له ابن يغني أيضاً يقال له دراج ليس بمشهور ولا كثير الغناء

الرشيد يؤثره على جمع من المغنين
فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في الخبر الذي حكاه عنه من أخباره أن محمداً بن عبد الله المخزومي حدثه قال حدثني محمد بن عبد الله بن فزوة قال
قلت لابن جامع يوماً هل غلبك أحد من المغنين قط قال نعم كنت ليلة ببغداد إذ جاءني رسول الرشيد يأمرني بالركوب فركبت حتى إذا صرت إلى الدار فإذا أنا بفضل بن الربيع معه زلزل العواد وبرصوماً فسلمت وجلست قليلا ثم طلع خادم فقال للفضل هل جاء فقال لا قال فابعث إليه ولم يزل المغنون يدخلون واحداً بعد واحد حتى كنا ستة أو سبعة
ثم طلع الخادم فقال هل جاء فقال لا قال قم فابعث في طلبه فقام فغاب غير طويل فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبي الكنات فسلم وجلس إلى جنبي فقال لي من هؤلاء قلت مغنون وهذا زلزل وهذا برصوما
فقال والله لأغنيك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان ولا يفهمون منه شيئاً قال ثم طلع الخصي فدعا بكراسي وخرجت الجواري فلما جلسن قال الخادم للمغنين شدوا فشدوا عيدانهم ثم قال نعم يا بن جامع فغنيت سبعة أو ثمانية أصوات ثم قال اسكت وليغنّ إبراهيم الموصلي

فغنى مثل ذلك أو دونه ثم سكت فلم يزل يمرّ القوم واحداً واحداً حتى فرغوا
ثم قال لابن أبي الكنات غنّ فقال لزلزل شد طبقتك فشد ثم أخذ العود من يده فجسه حتى وقف على الموضع الذي يريده ثم قال على هذا وابتدأ بصوت أوله ألالا فو الله لقد خيل لي أن الحيطان تجاوبه ثم رجع النغم فيه فطلع الخصي فقال له اسكت لا تتم الصوت فسكت
ثم قال يحبس عمرو بن أبي الكنات وينصرف باقي المغنين فقمنا بأكسف حال وأسوإبال لا والله ما زال كل واحد منا يسأل صاحبه عن كل شعر يرويه من الغناء الذي أوله ألالا طمعاً في أن يعرفه أو يوافق غناءه فما عرفه منا أحد وبات عمرو ليلته عند الرشيد وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنية
قال هارون وأخبرني محمد بن عبد الله عن موسى بن أبي المهاجر قال
خرج ابن جامع وابن أبي الكنات حين دفعا من عرفة حتى إذا كانا بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل ثم اندفع يغني فوقف القطارات وركب الناس بعضهم بعضاً حتى صاحوا واستغاثوا يا هذا الله الله اسكت عنا يجز الناس فضبط إسماعيل بن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة قال هارون وحدثني عبد الرحمن بن سليمان عن علي بن أبي الجهم قال حدثني من أثق به قال
واقفت ابن أبي الكنات المديني على جسر بغداد أيام الرشيد فحدثته بحديث اتصل بي عن ابن عائشة أنه فعله أيام هشام وهو أن بعض

أصحابنا حدثني قال وقف ابن عائشة في الموسم فمر به بعض أصحابه فقال له ما تعمل فقال إني لأعرف رجلاً لو تكلم لحبس الناس فلم يذهب أحد ولم يجيء فقلت له ومن هذا الرجل قال أنا ثم اندفع يغني

صوت
( جُرتْ سُنُحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء )
( بنفسي مَن تذكُّره سَقام ... أعالجه ومطلبه عَناءُ )
قال فحبس الناس واضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت الفتنة تقع فأتي به هشام فقال يا عدو الله أردت أن تفتن الناس فأمسك عنه وكان تياهاً فقال له هشام أرفق بتيهك فقال ابن عائشة حق لمن كانت هذه قدرته على القلوب أن يكون تياهاً فضحك وأطلقه قال فبرق ابن أبي الكنات وكان معجباً بنفسه وقال أنا أفعل كما فعل وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت ثم اندفع فغنى في هذا الصوت ونحن على جسر بغداد
وكان إذ ذاك على دجلة ثلاثة جسور معقودة فانقطعت الطرق وامتلأت الجسور بالناس وازدحموا عليها واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل من عليها من الناس فأخذ فأتي به الرشيد فقال يا عدو الله أردت أن تفتن الناس فقال لا والله يا أمير المؤمنين ولكنه بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام فأحببت أن يكون في أيامك مثله فأعجب من قوله ذلك وأمر له بمال وأمره أن يغني فسمع شيئاً لم يسمع مثله

فاحتسبه عنده شهراً يستزيده في كل يوم استأذنه فيه في الإنصراف يوماً آخر حتى تم له شهر فقال هذا المخبر عنه وكان ابن أبي الكنات كثير الغشيان لي فلما أبطأ توهمته قد قتل فصار إلي بعد شهر بأموال جسيمة وحدثني بما جرى بينه وبين الرشيد

غناؤه يسمع على ثلاثة أميال
قال هارون وأخبرني محمد بن عبد الله المخزومي عن عثمان بن موسى مولانا قال
كنا يوماً باللاحجة ومعنا عمرو بن أبي الكنات ونحن على شرابنا إذ قال لنا قبل طلوع الشمس من تحبون أن يجيئكم قلنا منصور الحجبي فقال أمهلوا حتى يكون الوقت الذي ينحدر فيه إلى سوق البقر فمكثنا ساعة ثم اندفع يغني
( أحسنُ الناس فاعلموه غناءً ... رجل من بني أبي الكَنّات )
( عفت الدار بالهضاب اللواتي ... بسَوار فملتقى عرفات )
فلم نلبث أن رأينا منصوراً من بعد قد أقبل يركض دابته نحونا فلما جلس إلينا قلنا له من أين علمت بنا قال سمعت صوت عمرو يغني كذا وكذا وأنا في سوق البقر فخرجت أركض دابتي حتى صرت إليكم قال وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال
قال هارون وأخبرني محمد بن عبد الله قال أخبرني يحيى بن يعلى بن سعيد قال
بينا أنا ليلة في منزلي في الرمضة أسفل مكة إذ سمعت صوت عمرو بن

أبي الكنات كأنه معي فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي وخرجت أريده فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالساً على الكثيب العارض ببطن عرنة يغني

صوت
( خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب )
( ولا تنقريني نَقَرة الدُّف مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغَّيب )
( فإني وجدتُ الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب )
عروضه من الطويل ولحنه من الثقيل الثاني بالوسطى من رواية إسحاق والشعر لأسماء بن خارجة الفزاري وقد قيل إنه لأبي الأسود الدؤلي وليس ذلك بصحيح والغناء لإبراهيم الموصلي وفيه لحن قديم للغريض من رواية حماد عن أبيه

أسماء بن خارجة وابنته هند
أخبرني اليزيدي عن أحمد بن زهير عن الزبير بن بكار قال
زوج أسماء بن خارجة الفزاري بنته هنداً من الحجاج بن يوسف فلما كانت ليلة أراد البناء بها قال لها أسماء بن خارجة يا بنية إن الأمهات يؤدبن البنات وإن أمك هلكت وأنت صغيرة فعليك بأطيب الطيب الماء وأحسن الحسن الكحل وإياك وكثرة المعاتبة فإنها قطيعة للود وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق وكوني لزوجك أمة يكن لك عبداً واعلمي أني القائل لأمك
( خذي العفو مني تستديمي مودّتي ... )
وذكر الأبيات قال وكانت هند امرأة مجرّبة قد تزوجها جماعة من أمراء العراق فقبلت من أبيها وصيته وكان الحجاج يصفها في مجلسه بكل خير وفيها يقول بعض الشعراء يخاطب أباها
( جزاكَ الله يا أسماء خيراً ... كما أرضيت فَيْشلة الأمير )

( بصدغ قد يفوح المسك منه ... عليه مثل كِركرة البعير )
( إذا أخذ الأمير بمَشعبيها ... سمعتَ لها أزيزاً كالصرير )
( إذا لقحت بأرواح تراها ... تجيد الرَّهز من فوق السرير )
قال مؤلف هذا الكتاب الشعر لعقيبة الأسدي
أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة قال
لما قدم الحجاج الكوفة أشار عليه محمد بن عمير بن عطارد أن يخطب إلى أسماء ابنته هند فخطبها فزوجه أسماء ابنته فأقبل عليه محمد متمثلاً يقول
( أمِنْ حَذر الهُزال نكحتَ عبداً ... فصهر العبد أدنى للهزال )
فاحتملها عليه أسماء وسكت عن جوابه ثم أقبل على الحجاج يوماً وهند جالسة فقال ما يمنعك من الخطبة إلى محمد بن عمير ابنته فإن من شأنها كيت وكيت فقال أتقول هذا وهند تسمع فقال موافقتك أحبّ إليّ

من رضا هند فخطبها إلى محمد بن عمير فزوجه إياها فقال أسماء لمحمد بن عمير وضرب بيده على منكبه
( دونك ما أسديته يا بن حاجب ... سواء كعَين الديك أوقُذّة النسرِ )
( بقولك للحجاج إن كنت ناكحاً ... فلا تعدُ هنداً من نساء بني بدر )
( فإن أباها لا يرى أنّ خاطباً ... كفاءٌ له إلا المتوجَ من فِهر )
( فزوجتُها الحجاج لا متكارهاً ... ولا راغباً عنه ونعم أخو الصهر )
( أردتَ ضِراري فاعتمدتَ مسرتي ... وقد يُحسن الإنسان من حيث لا يدري )
( فإن ترها عاراً فقد جئتَ مثلها ... وإن ترها فخراً فهل لك من شكر )
هند أحبّت عبيد الله بن زياد وكان أبا عذرها
قال المدائني حدثني الحرمازي عن الوليد بن هشام القحذميّ وكان كاتب خالداً القسري ويوسف بن عمر أن هنداً بنت أسماء كانت تحت

عبيد الله بن زياد وكان أبا عذرها فلما قتل وكانت معه لبست قباء وتقلدت سيفاً وركبت فرساً لعبيد الله كان يقال لها الكامل وخرجت حتى دخلت الكوفة ليس معها دليل ثم كانت بعد ذلك أشد خلق الله جزعاً عليه ولقد قالت يوماً إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجه عبيد الله بن زياد
فلما قدم بشر بن مروان الكوفة دل عليها فخطبها فزوجها فولدت له عبد الملك بن بشر وكان ينال من الشراب ويكتم ذلك وكان إذا صلى العصر خلا من ناحية من داره ليس معه إلا أعين مولاه صاحب حمام أعين بالكوفة وأخذ في شأنه فلم تزل هند تتجسس خبره حتى عرفته فبعثت مولى لها فأحضرها أطيب شراب وأحده وأشده وأرقه وأصفاه وأحضرت له طعاماً علمت أنه يشتهيه وأرسلت إلى أخويها مالك وعيينة فأتياها وبعثت إلى بشر وأعتلت عليه بعلة فجاءها فوضعت بين يديه ما أعدته فأكل وشرب وجعل مالك يسقيه وعيينة يحدثه وهند تريه وجهها
فلم يزل في ذلك حتى أمسى فقال هل عندكم من هذا شيء نعود عليه غداً فقالت هذا دائم لك ما أردته فلزمها وبقي أعين يتبع الديار بوجهه ولا يرى بشراً إلا أن يبحث عن أمره فعرفه وعلم أنه ليس فيه حظ بعدها قال ومات عنها بشر فلم تجزع عليه فقال الفرزدق في ذلك
( فان تك لا هند بكته فقد بكت ... عليه الثريا في كواكبها الزُّهر )

الحجاج يخلف بشراً في تزوجها
ثم خلف عليها الحجاج وكان السبب في ذلك فيما ذكره المدائني عن الحرمازي عن القحذمي وأخبرني به من ها هنا أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن عثمان بن عبد الوهاب عن عبد الحميد الثقفي قالا
كان السبب في ذلك أنه بعث أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وهو قاضيه إلى أسماء يقول له إن قبيحاً بي مع بلاء أمير المؤمنين عندي أن أقيم بموضع فيه ابنا أخيه بشر لا أضمهما إلي وأتولى منهما مثل ما أتولى من ولدي فاسأل هنداً أن تطيب عنهما
وقال عمر بن شبة في خبره وأعلمها أنه لابد من التفرقة بينها وبينهما حتى أؤدبهما قال أبو بردة فاستأذنت فأذن لي وهو يأكل وهند معه فما رأيت وجهاً ولا كفاً ولا ذراعاً أحسن من وجهها وكفها وذراعها وجعلت تتحفني وتضع بين يدي
قال أبو زيد في خبره فدعاني إلى الطعام فلم أفعل وجعلت تعبث بي وتضحك فقلت أما والله لو علمت ما جئت له لبكيت فأمسك يدها عن الطعام فقال أسماء قد منعتها الأكل فقل ما جئت له فلما بلغت أسماء ما أرسلت به بكت فلم أر والله دموعاً قط سائلة من محاجر أحسن من دموعها على محاجرها
ثم قالت نعم أرسل بهما إليه فلا أحد أحق بتأديبهما منه
وقال أسماء إنما عبد الملك ثمرة قلوبنا يعني عبد الملك بن بشر وقد أنسنا به ولكن أمر الأمير طاعة فأتيت الحجاج فأعلمته جوابها وهيئتها
فقال ارجع فاخطبها علي فرجعت وهما على حالهما
فلما دخلت قلت إني جئتك بغير الرسالة الأولى قال اذكر ما أحببت قلت قد جئت خاطباً
قال أعلى نفسك فما بنا عنك رغبة قلت لا على من هو خير لها

مني وأعلمته ما أمرني به الحجاج فقال ها هي تسمع ما أدّيت فسكتت فقال أسماء قد رضيت وقد زوجتها إياه
فقال أبو زيد في حديثه فلما زوجها أبوها قامت مبادرة وعليها مطرف ولم تستقل قائمة من ثقل عجيزتها حتى انثنت ومالت لأحد شقيها من شحمها فانصرفت بذلك إلى الحجاج فبعث إليها بمائة ألف درهم وعشرين تختاً من ثياب وقال يا أبا بردة
إني أحب أن تسلمها إليها ففعلت ذلك وأرسلت إلي من المال بعشرين ألفاً ومن الثياب تختين فقلت ما أقبل شيئاً حتى أستطلع رأي الأمير ثم انصرفت إليه فأعلمته فأمرني بقيضة ووصلني بمثله
وقال أبو زيد في حديثه فأرسل إليها بثلاثين غلاماً مع كل غلام عشرة آلاف درهم وثلاثين جارية مع كل جارية تخت من ثياب وأمر لي بثلاثين ألفاً وثياباً لم يذكر عددها فلما وصل ذلك إلى هند أمرت بمثل ما أمر لي به الحجاج فأبيت قبوله وقلت ليس الحجاج ممن يتعرض له بمثل هذا وأتيت الحجاج فأخبرته فقال قد أحسنت وأضعف الله لك ذلك وأمر له بستين ألفاً وبضعف تلك الثياب وكان أول ما أصبته مع الحجاج وأرسل إليها إني أكره أن أبيت خلواً ولي زوجة فقالت وما احتباس امرأة عن زوجها وقد ملكها وآتاها كرامته وصداقها فأصلحت من شأنها وأتته ليلاً
قال المدائني فسمعت أن ابن كناسة ذكر أن رجلاً من أهل العلم حدثه عن امرأة من أهله قالت كنت فيمن زفها فدخلنا عليه وهو في بيت عظيم في أقصاه ستارة وهو دون الستارة على فرشه فلما أن دخلت سلمت فأومأ إليها بقضيب كان في يده فجلست عند رجليه ومكثت ساعة وهو لا

يتكلم ونحن وقوف فضربت بيدها على فخذه ثم قالت ألم تبعد من سوء الخلق قال فتبسم وأقبل عليها واستوى جالساً فدعونا له وخرجنا وأرخيت الستور

سبب تطليق الحجاج لها
قال ثم قدم الحجاج البصرة فحملها معه فلما بنى قصره الذي دون المحدثة الذي يقول له قصر الحجاج اليوم قال لها هل رأيت قط أحسن من هذا القصر قالت ما أحسنه قال اصدقيني قالت أما إذ أبيت فوالله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر وكان فيه عبيد الله بن زياد وكان دار الإمارة بالبصرة وكان ابن زياد بناه بطين أحمر فطلق هنداً غضباً بما قالته وبعث إلى القصر فهدمه وبناه بلبن ثم تعهده صالح بن عبد الرحمن في خلافة سليمان بن عبد الملك فبناه بالآجر ثم هدم بعد ذلك فأدخل في المسجد الجامع
قال القحذمي عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي
فخرجنا يوماً نعود عبد الملك بن بشر فسلمنا عليه وعدناه معه ثم خرجنا وتخلف الحجاج فوقفنا ننتظره فلما خرج التفت فرآني فقال يا محمد ويحك رأيت هنداً الساعة فما رأيتها قط أجمل ولا أشب منها حين رأيتها وما أنا بممسٍ حتى أراجعها فقلت أصلح الله الأمير امرأة طلقتها

على عتب يرى الناس أن نفسك تتبعها وتكون لها الحجة عليك قال صدقت الصبر أحجى
قال محمد والله ما كان مني نظراً ولا نصيحة ولكني أنفت لرجل من قريش أن تداس أمه في كل وقت
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني عن جويرية بن أسماء عن عمه قال
حججت فإني لفي رفقة من قومي إذ نزلنا منزلاً ومعنا امرأة فنامت وانتبهت وحية مطوية عليها قد جمعت رأسها وذنبها بين ثدييها فهالنا ذلك وارتحلنا فلم تزل منطوية عليها لا تضيرها حتى دخلنا الحرم فانسابت فدخلنا مكة وقضينا نسكنا فرآها الغريض فقال أي شقية ما فعلت حيتك فقالت في النار قال ستعلمين من أهل النار ولم أفهم ما أراد وظننت أنه مازحها واشتقت إلى غنائه ولم يكن بيني وبينه ما يوجب ذلك فأتيت بعض أهله فسألته ذلك فقال نعم فوجه إليه أن اخرج بنا إلى موضع كذا وقال لي اركب بنا فركبنا حتى سرنا قدر ميل فإذا الغريض هناك فنزلنا فإذا طعام معد وموضع حسن فأكلنا وشربنا ثم قال يا أبا يزيد هات بعض طرائفك فاندفع يغني ويوقع بقضيب
( مرضتُ فلم تحفل عليّ جنوب ... وأُدنفتُ والمَمشى إليّ قريب )
( فلا يُبعد الله الشباب وقولَنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب )
فلقد سمعنا شيئاً ظننت أن الجبال التي حولي تنطق معه شجا صوت وحسن غناء وقال لي أتحب أن يزيدك فقلت إي والله فقال هذا ضيفك وضيفنا وقد رغب إليك وإلينا فأسعفه بما يريد فاندفع يغني بشعر مجنون بني عامر

إنه لمجنون بني عامر ويقال إنه لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى وفي الثاني والأول خفيف ثقيل أول بالبنصر مجهول
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال أبو دهبل
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبورُ )
( هبوني امرأ منكم أضلَّ بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير )
( ولَلصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يَضلّ بعير )
قال الزبير وقال عمي هذه الأبيات لمجنون بني عامر
قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي محمد الشيباني قال قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة أنت القائل
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور )
قال نعم قال فبئس المحبّ أنت تركتها وبينها وبينك غدوة قال يا أمير المؤمنين إنها من غدوات سليمان غدوها شهر ورواحها شهر
أخبرني اليزيدي عن أحمد بن يحيى وابن زهير قال حدثني عمر بن القاسم بن المعتمر الزهري قال قلت لأبي السائب المخزومي أما أحسن الذي يقول
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور )
( هبوني امرأ منكم أضل بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير )
( ولَلصاحب المتروك أعظم حُرمة ... على صاحب من أن يضلّ بعير )

منطوية عليها فلم ألبث أن صغَرت الحية فإذا الوادي يسيل علينا حيات فنهشنها حتى بقيت عظاماً فطال تعجبنا من ذلك وأرينا ما لم نر مثله قط فقلت لجارية كانت معها ويحك أخبرينا عن هذه المرأة قالت نعم أثكلت ثلاث مرات كل مرة تلد ولداً فإذا وضعته سجرت التنور ثم ألقته فذكرت قول الغريض حين سألها عن الحية فقالت في النار فقال ستعلمين من في النار

نسبة ما في هذه الأصوات من الغناء
فمنها
صوت
( مرِضتُ فلم تحفل عليّ جنَوبُ ... وأُدنفتُ والمَمشَى إليّ قريبُ )
( فلا يُبعد الله الشباب وقولَنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب )
عروضه من الطويل الشعر لحميد بن ثور الهلالي والغناء للغريض من رواية حماد عن أبيه وفيه لعلويه ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة ومنها
صوت
( عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وليت حكماً عليّ تجور )
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور )
عروضه من الطويل والشعر يقال لأبي دهبل الجمحي ويقال

إنه لمجنون بني عامر ويقال إنه لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى وفي الثاني والأول خفيف ثقيل أول بالبنصر مجهول
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال أبو دهبل
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبورُ )
( هبوني امرأ منكم أضلَّ بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير )
( ولَلصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يَضلّ بعير )
قال الزبير وقال عمي هذه الأبيات لمجنون بني عامر
قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي محمد الشيباني قال قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة أنت القائل
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور )
قال نعم قال فبئس المحبّ أنت تركتها وبينها وبينك غدوة قال يا أمير المؤمنين إنها من غدوات سليمان غدوها شهر ورواحها شهر
أخبرني اليزيدي عن أحمد بن يحيى وابن زهير قال حدثني عمر بن القاسم بن المعتمر الزهري قال قلت لأبي السائب المخزومي أما أحسن الذي يقول
( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور )
( هبوني امرأ منكم أضل بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير )
( ولَلصاحب المتروك أعظم حُرمة ... على صاحب من أن يضلّ بعير )

فقال بأبي أنت كنت والله أجنبك وتثقل علي فأنا الآن أحبك وتخف علي حيث تعرف هذا

صوت
( مِن الخفِرات لم تفضح أخاها ... ولم تَرفع لوالدها شَنارا )
( كأنّ مَجامع الأرداف منها ... نقاً دَرجتْ عليه الريح هارا )
( يعاف وصال ذات البَذل قلبي ... ويتَّبع الممنَّعة النَّوارا )
الخفرة الحيية والخفر الحياء والشّنار العار والنقا الكثيب من الرمل درجت عليه الريح مرت هار تهافت وتداعى قال الله تبارك وتعالى ( على شفَا جُرُف هارٍ ) ويعاف يكره والنوار الصعبة الممتنعة الشديدة الإباء
عروضه من الوافر الشعر للسليك بن السّلكة والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن الهربذ لحن من رواية بذل ولم يذكر طريقته وفيه لابن طنبورة لحن ذكره إبراهيم في كتابه ولم يجنسه

أخبار السليك بن السلكة ونسبه
هو السليك بن عمرو وقيل ابن عمير بن يثربي أحد بني مقاعس وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم والسلكة أمه وهي أمة سوداء
وهو أحد صعاليك العرب العدائين الذين كانوا لا يلحقون ولا تعلق بهم الخيل إذا عدوا وهم السليك بن السلكة و الشنفري وتأبط شراً وعمرو بن براق ونفيل بن براقة وأخبارهم تذكر على تواليها ها هنا إن شاء الله تعالى في أشعار لهم يغنى فيها لتتصل أحاديثهم
فأما السليك فأخبرني بخبره الأخفش عن السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال وقرىء لي خبره وشعره على محمد بن الحسن الأحول عن الأثرم

عن أبي عبيدة أخبرني ببعضه اليزيدي عن عمه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل وقد جمعت رواياتهم فإذا اختلفت نسبت كل مروي إلى راويه
قال أبو عبيدة حدثني المنتجع بن نبهان قال
كان السليك بن عمير السعدي إذا كان الشتاء استودع ببيض النعام ماء السماء ثم دفنه فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل أغار وكان أدل من قطاة يجيء حتى يقف على البيضة وكان لا يغير على مضر وإنما يغير على اليمن فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة
وقال المفضل في روايته
وكان السليك من أشد رجال العرب وأنكرهم وأشعرهم وكانت العرب تدعوه سليك المقانب وكان أدل الناس بالأرض وأعلمهم بمسالكها وأشدهم عدوا على رجليه لا تعلق به الخيل وكان يقول اللهم إنك تهيىء ما شئت لما شئت إذا شئت اللهم إني لو كنت ضعيفاً كنت عبداً ولو كنت امرأة كنت أمة اللهم إني أعوذ بك من الخيبة فأما الهيبة فلا هيبة

من أنباء غارات السليك الصعلوك
فذكروا أنه أ ملق حتى لم يبق له شيء فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة فاشتمل الصماء ثم نام واشتمال الصماء أن يرد فضلة ثوبه على عضده اليمنى ثم ينام عليها

فبينا هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه فقال استأسر فرفع السليك إليه رأسه وقال الليل طويل وأنت مقمر فأرسلها مثلاً فجعل الرجل يلهزه ويقول يا خبيث استأسر
فلما آذاه بذلك أخرج السليك يده فضم الرجل إليه ضمة ضرط منها وهو فوقه فقال السليك أضرطا وأنت الأعلى فأرسلها مثلاً ثم قال من أنت فقال أنا رجل افتقرت فقلت لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني فآتيهم وأنا غني قال
انطلق معي فانطلقا فوجد رجلاً قصته مثل قصتهما فاصطحبوا جميعاً حتى أتوا الجوف جوف مراد
فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها فيلحقهم الطلب
فقال لهما سليك
كوناً قريباً مني حتى آتي الرعاء فأعلم لكما علم الحي أقريب أم بعيد
فإن كانوا قريباً رجعت إليكما وإن كانوا بعيداً قلت لكما قولاً أومىء إليكما به فأغيرا
فانطلق حتى أتى الرعاء فلم يزل يستنطقهم حتى أخبروه بمكان الحي فإذا هم بعيد إن طلبوا لم يدركوا
فقال السليك للرعاء ألا أغنيكم فقالوا بلى غننا فرفع صوته وغنى
( يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي ... سوى عَبيد وآمٍ بين أذواد )
( أتنظران قريباً رَيثَ غفلتِهم ... أم تغدوان فإن الريح للغادي )
فلما سمعا ذلك أتيا السليك فأطردوا الإبل فذهبوا بها ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل
قال المفضل وزعموا أن سليكاً خرج ومعه رجلان من بني الحارث بن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم لهما عمرو وعاصم وهو يريد الغارة

فمر على حي بني شيبان في ربيع و الناس مخصبون في شعية فيها ضباب ومطر فإذا هو ببيت قد انفرد من البيوت وقد أمسى فقال لأصحابه كونوا بمكان كذا حتى آتي أهل هذا البيت فلعلي أن أصيب لكم خيراً أو آتيكم بطعام قالوا افعل فانطلق وقد أمسى وجن عليه الليل فإذا البيت بيت رويم وهو جد حوشب بن يزيد بن رويم وإذا الشيخ وامرأته بفناء البيت
فأتى السليك البيت من مؤخره فدخله فلم يلبث أن راح ابنه بإبله فلما أراحها غضب الشيخ وقال لابنه هلا عشيتها ساعة من الليل فقال له ابنه إنها أبت العشاء فقال العاشية تهيج الآبية فأرسلها مثلا ثم غضب الشيخ ونفض في وجهها فوجعت إلى مراتعها ومعها الشيخ حتى مالت بأدنى روضة فرتعت وجلس الشيخ عندها لتتعشى وغطى وجهه بثوبه من البرد وتبعه سليك
فلما وجد الشيخ مغتراً ختله من ورائه فضربه فأطار رأسه وصاح بالإبل فطردها فلم يشعر صاحباه وقد ساء ظنهما وتخوفا عليه حتى إذا هما بالسليك يطردها فطرداها معه وقال سليك في ذلك
( وعاشيةٍ راحت بِطانا ذعَرتُها ... بسوط قتيل وسْطها يُتسيف )
( كأنّ عليه لونَ بُرد محبَّر ... إذا ما أتاه صارخ يتلهف )
( فبات لها أهل خلاءُ فناؤهم ... ومرّت بهمْ طير فلم يتعيفوا )
( وباتوا يظنون الظنون وصُحبتي ... إذا ما علَوا نشزا أهلوا وأوجفوا )
( وما نلتُها حتى تصعلكتُ حِقبة ... وكدِتُ لأسباب المنية أعرِف )

( وحتى رأيتُ الجوع بالصيف ضرّني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدِف )
وقال الأثرم في روايته عن أبي عبيدة
خرج سليك في الشهر الحرام حتى أتى عكاظ فلما اجتمع الناس ألقى ثيابه ثم خرج متفضلاً مترجلاً فجعل يطوف الناس ويقول من يصف لي منازل قومه وأصف له منازل قومي فلقيه قيس بن مكشوح المرادي فقال أنا أصف لك منازل قومي وصف لي منازل قومك فتواقفا وتعاهدا ألا يتكاذبا
قال قيس بن المكشوح خذ بين مهب الجنوب والصبا ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة فإذا انقطعت المياه فسر أربعاً حتى تبدو لك رملة وقف بينها الطريق فإنك ترد على قومي مراد وخثعم
فقال السليك خذ بين مطلع وسهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء فثم منازل قومي بني سعيد بن زيد مناة
فانطلق قيس إلى قومه فأخبرهم الخبر فقال أبوه المكشوح ثكلتك أمك هل تدري من لقيت قال رجلاً فضلاً كأنما خرج من أهله فقال هو والله سليك بن سعد

فاستعلق واستعوى السليك قومه فخرج أحماس من بني سعد وبني عبد شمس وكان في الربيع يعمد إلى بيض النعام فيملؤه من الماء ويدفنه في طريق اليمن في المفاوز قال فإذا غزا في الصيف مر به فاستثاره فمر بأصحابه حتى إذا انقطعت عنهم المياه قالوا يا سليك أهلكتنا ويحك قال قد بلغتم الماء ما أقربكم منه حتى إذا انتهى إلى قريب من المكان الذي خبأ الماء فيه طلبه فلم يجده وجعل يتردد في طلبه فقال بعض أصحابه لبعض أين يقودكم هذا العبد قد والله هلكتم وسمع ذلك ثم أصاب الماء بعد ما ساء ظنهم فهم السليك بقتل بعضهم ثم أمسك
فانصرفت عنه بنو عبد شمس في طوائف من بني سعد قال ومضى السليك في بني مقاعس ومعه رجل من بني حرام يقال له صرد فلما رأى أصحابه قد انصرفوا بكى ومضى به السليك حتى إذا دنوا من بلاد خثعم ضلت ناقة صرد في جوف الليل فخرج في طلبها فأصابه أناس حين أصبح فإذا هم مراد وخثعم فأسروه ولحقه السليك فاقتتلوا قتالاً شديداً
وكان أول من لقيه قيس بن مكشوح فأسره السليك بعد أن ضربه ضربة أشرفت على نفسه وأصاب من نعمهم ما عجز عنه هو وأصحابه وأصاب أم الحارث بنت عوف بن يربوع الخثعمية يومئذ واستنفذ صرد من أيدي خثعم ثم انصرف مسرعاً فلحق بأصحابه الذين انصرفوا عنه قبل أن يصلوا إلى الحي وهم أكثر من الذين شهدوا معه فقسمها بينهم على سهام الذين شهدوا وقال السليك في ذلك
( بكى صُرَدٌ لما رأى الحيّض أعرضَت ... مهامةُ رملٍ دونْهم وسُهوبُ )

( وخوفه ريبَ الزمان وفقرَه ... بلادُ عدوّ حاضر وجَدوب )
( ونأيٌ بَعيد عن بلاد مقاعس ... وأن مخاريق الأمور ترٍيب )
( فقلت له لا تبك عينك إنها ... قضية ما يُقضى لها فتثوب )
( سيكفيك فَقدَ الحي لحمٌ مغرَّض ... وماء قدُور في الجِفان مشوب )
( ألم تر أن الدهر لونان لونهُ ... وطَوران بشْر مرة وكَذوب )
( فما خير من لا يرتجي خير أوبة ... ويُخشى عليه مِرية وحروب )
( رددتُ عليه نفسه فكأنما ... تلاقى عليه منسِر وسَرُوب )
( فما ذرّ قرن الشمس حتى أرٍيته ... قُصار المنايا والغبار يثوب )
( وضاربتُ عنه القوم حتى كأنما ... يصعّد في آثارهم ويصُوب )
( وقلت له خذ هَجْمة حِميريّةٍ ... وأهلاً ولا يبُعد عليك شَروب )
( وليلةَ جابانٍ كررتُ عليهمُ ... على ساعة فيها الإياب حبيب )
( عشيةَ كرّت بالحراميِّ ناقة ... بحيّ هلاً تُدعى به فجيب )
( فضاربت أُولى الخيل حتى كأنما ... أُميل عليها أيدَع وصبيب )
الأيدع دم الأخوين والصبيب الحناء

السليك القادر على الإحتمال
قال أبو عبيدة وبلغني أن السليك بن السلكة رأته طلائع جيش لبكر بن

وائل وكانوا جازوا منحدرين ليغيروا على بني تميم ولا يعلم بهم أحد فقالوا إن علم السليك بنا أنذر قومه فبعثوا إليه فارسين على جوادين فلما هايجاه خرج يمحص كأنه ظبي وطارداه سحابة يومه ثم قالا إذا كان الليل أعيا ثم سقط أو قصر عن العدو فنأخذه
فلما أصبحنا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرة فنزعها فندرت قوسه فانحطمت فوجدا قصدة منها قد ارتزت بالأرض فقالا ما له أخزاه الله ما أشده وهما بالرجوع ثم قالا لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر فتبعاه فإذا أثره متفاج قد بال فرغا في الأرض وخذها فقالا ما له قاتله الله ما أشد متنه والله لا نتبعه أبداً فانصرفا
ونمى إلى قومه وأنذرهم فكذبوه لبعد الغاية فأنشأ يقول
( يكذّبني العَمْران عمرَو بن جندب ... وعمرو بن سعد والمكِّذب أكذب )
( لعمرُك ما ساعيتُ من سعي عاجز ... ولا أنا بالواني ففيم أكذِّب )
( ثكلتكما إن لم أكن قد رأيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكِب )
( كراديس فيها الحَوْفَزان وقومه ... فوارس همَّام متى يَدْعُ يركبوا )
يعني الحوفزان بن شريك الشيباني
( تفاقدتمُ هل أنكرنّ مغيرة ... مع الصبح يهدين أشقر مغرب )
تفاقدتم يدعو عليهم بالتفاقد

قال وجاء الجيش فأغاروا على جمعهم قال وكان يقال للسليك سليك المقانب وقد قال في ذلك فرار الأسدي وكان قد وجد قوماً يتحدثون إلى امرأته من بني عمها فعقرها بالسيف فطلبه بنو عمها فهرب ولم يقدروا عليه فقال في ذلك
( لَزُوار ليلَى منكم آل برثُن ... على الهول أمضى من سُليك المقانب )
( يزورونها ولا أزور نساءهم ... ألهفى لأولاد الإماء الحواطب )
وقال أبو عبيدة أغار السليك على بني عوار بطن من بني مالك بن ضبيعة فلم يظفر منهم بفائدة وأرادوا مساورته
فقال شيخ منهم إنه إذا عدا لم يتعلق به فدعوه حتى يرد الماء فإذا شرب وثقل لم يستطع العدو وظفرتم به
فأمهلوه حتى ورد الماء وشرب ثم بادروه فلما علم أنه مأخوذ خاتلهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم يقال لها فكيهة فاستجار بها فمنعته وجعلته تحت درعها واخترطت السيف وقامت دونه فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها وصاحت بإخوتها فجاؤوا ودفعوا عنه حتى نجا من القتل فقال السليك في ذلك
( لعمر أبيك والأنباء تنمي ... لنعم الجار أخت بني عُوارا )
( من الخفرات لم تفضح أباها ... ولم ترفع لإخوتها شَنارا )
( كأن مجامع الأرداف منها ... نَقاً درَجت عليه الريح هارا )
( يعاف وِصال ذاتِ البَذل قلبي ... ويّتبع الممنعَّة النَّوارا )

( وما عجزت فُكَيهة يوم قامت ... بنصل السيف واستبلوا الخِمارا )
أخبرني الأخفش عن السكري عن أبي حاتم عن الأصمعي أن السليك أخذ رجلاً من بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب يقال له النعمان بن عقفان ثم أطلقه وقال
( سمعتُ بجمعهم فرضختُ فيهم ... بنُعمان بن عُقْفان بنِ عمرو )
( فإن تكفر فإني لا أبالي ... وإن تشكر فإني لست أدري )
قال ثم قدم بعد ذلك على بني كنانة وهو شيخ كبير وهم بماء لهم يقال له قباقب خلف البشر فأتاه نعمان بابنيه الحكم وعثمان وهما سيدا بني كنانة ونائلة ابنته فقال هذان وهذه لك وما أملك غيرهم فقالوا صدق فقال قد شكرت لك وقدرددتهم عليك
فجمعت له بنو كنانة إبلاً عظيمة فدفعوها إليه ثم قالوا له إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك قال نعم وأبغوني أربعين شاباً وأبغوني درعاً ثقيلة فأتوه بذلك فلبس الدرع وقال للشبان الحقوا بي إن شئتم وعدا فلاث العدو لوثاً وعدوا جنبته فلم يلحقوه إلا قليلاً ثم غاب عنهم وكر حتى عاد إلى الحي هو وحده يحضر والدرع في عنقه تضرب كأنها خرقة من شدة إحضاره
أخبرني به هاشم بن محمد الخزاعي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه فذكر فيه نحو ما تقدم

خبر مقتله
وقال السكري في خبر مقتله إنه لقي رجلاً من خثعم في أرض يقال لها فخة بين أرض عقيل وسعد تميم وكان يقال للرجل مالك بن

عمير نب أبي ذراع بن جشم بن عوف فأخذه ومعه امرأة له من خفاجة يقال لها النوار فقال له الخثعمي أنا أفدي نفسي منك فقال له السليك ذلك لك على ألا تخيس بي ولا تطلع علي أحداً من خثعم فحالفه على ذلك ورجع إلى قومه وخلف امرأته رهينة معه فنكحها السليك وجعلت تقول احذر خثعم فإني أخافهم عليك فأنشأ يقول
( تحذّرني كي أحذَرَ العام خثعما ... وقد علمَت أني امرؤ غير مُسلَم )
( وما خثعم إلا لئام أذلّة ... إلى الذل والإسحاق تنمي وتنتمي )
قال وبلغ ذلك شبل بن قلادة بن عمر بن سعد وأنس بن مدرك الخثعميين فخالفا إلى السليك فلم يشعر إلا وقد طرقاه في الخيل فأنشأ يقول
( مَن مبلغ جِذمي بأنِي مقتولْ ... )
( يا رُب نَهب قد حويتُ عُثكول ... )
( ورُبّ قِرن قد تركت مجدولْ ... )
( وربَّ زوج قد نكحت عُطبول ... )
( وربَّ عانٍ قد فككتُ مكبول ... )
( ورب واد قد قطعت مسبول ... )
قال أنس للشبل إن شئت كفيتك القوم واكفني الرجل وإن شئت اكفني القوم أكفك الرجل قال بل أكفيك القوم فشد أنس على السليك فقتله وقتل شبل وأصحابه من كان معه
وكاد الشر يتفاقم بين أنس وبين عبد الملك لأنه كان أجاره حتى

ودّاه أنس لما خاف أن يخرج الأمر من يده وقال
( كم مِن أخ لي كريم قد فُجعتُ به ... ثم بقيتُ كأني بعده حَجَرُ )
( لا أستكين على ريب الزمان ولا ... أُغضي على المر يأتي دونه القدر )
( مِرْدَى حُروب أُدير الأمر حابلَه ... إذ بعضُهم لأمور تعتري جَزَر )
( قد أطعن الطعنة النجلاءُ أُتْبعها ... طَرْفاً شديداً إذا ما يَشخَص البصر )
( ويوم حمضة مطلوب دلفتُ له ... بذات وَدْقين لما يٌعفها المطر )
وذكر باقي الأبيات التي تتلو هذه
( إني وقتلي سُلَيكاً ثم أعقٍلَه ... )
كما ذكره من روينا عنه ذلك
أخبرني هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه فذكر ما تقدم
قال أبو عبيدة وحدثني المنتجع بن نبهان قال كان السليك يعطي عبد الملك بن مويلك الخثعمي إتاوةً من غنائمه على أن يجيره فيتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل اليمن فيغير عليهم فمر قافلاً من غزوة فإذا بيت من خثعم أهله خلوف وفيه امرأة شابة بضة فسألها عن الحي فأخبرته فتسنمها أ ي علاها ثم جلس حجرة ثم التقم المحجة

فبادرت إلى الماء فأخبرت القوم فركب أنس بن مدرك الخثعمي في طلبه فلحقه فقتله فقال عبد الملك والله لأقتلن قاتله أو ليدينه فقال أنس والله لا أديه ولا كرامة ولو طلب في ديته عقالاً لما أعطيته وقال في ذلك
( إني وقتلي سُلَيكاً ثم أعقِلَه ... كالثور يُضرب لما عافت البقر )
( غضبتُ للمرء إذ نيكت حليلتهُ ... وإذ يُشَد على وجعائها الَثَّفَر )
( إني لتاركُ هامات بمجزَرة ... لا يزدهيني سواد الليل والقمرُ )
( أغشى الحروب وسِر بالي مضاعفَة ... تغشى البنانَ وسيفي صارم ذكر )
أخبرني ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن فليح بن أبي العوراء قال
كان لي صديق بمكة وكنا لا نفترق ولا يكتم أحد صاحبه سراً فقال لي ذات يوم يا فليح إني أهوى ابنة عم لي ولم أقدر عليها قط وقد زارتني اليوم فأحب أن تسرني بنفسك فإني لا أحتشمك فقلت أفعل وصرت إليهما وأحضرالطعام فأكلنا ووضع النبيذ فشربنا أقداحاً فسألني أن أغنيهما فكأن الله عز و جل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت
( من الخفِرات لم تفضح أباها ... ولم تُلحق بإخوتها شَنارا )
فلما سمعته الجارية قالت يا أخي أعد فأعدته فوثبت وقالت أحسنت أنا إلى الله تائبة والله ما كنت لأفضح أ بي ولا لأرفع لإخوتي شنارا
فجهد الفتى في رجوعها فأبت وخرجت فقال لي ويحك ما حملك على ما صنعت فقلت والله ما هو شيء اعتمدته ولكنه ألقي على لساني لأمر أريد

بك وبها وهكذا في الخبر المذكور
وقد رواه غير من ذكرته عن فليح بن أبي العوراء فأخبرني اليزيدي عن عمه عبيد الله قال كان إبراهيم بن سعدان يؤدب ولد علي بن هشام وكان يغني بالعود تأدباً ولعباً قال فوجه إلي يوماً علي بن هشام يدعوني فدخلت فإذا بين يديه امرأة مكشوفة الرأس تلاعبه بالنرد فرجعت عجلاً فصاح بي ادخل فدخلت فإذا بين أيديهما نبيذ يشربان منه فقال خذ عوداً وغن لنا ففعلت ثم غنيت في وسط غنائي
( مِن الخفِرات لم تَفضح أباها ... ولم ترفع لإخوتها شَنارا )
فوثبت من بين يديه وغطت رأسها وقالت إني أشهد الله أني تائبة إليه ولا أفضح أبي ولا أرفع لإخوتي شناراً ففتر علي بن هشام ولم ينطق وخرجت من حضرته فقال لي ويلك من أين صبك الله علي هذه مغنية بغداد وأنا في طلبها منذ سنة لم أقدر عليها إلى اليوم فجئتني بهذا الصوت حتى هربت فقلت والله ما اعتمدت مساءتك ولكنه شيء خطر على غير تعمد

صوت
( أمَسلَم إني يا بنَ كلّ خليفة ... ويا جبَل الدنيا ويا ملِكَ الأرضِ )
( شكرتُك إن الشكر حظ من التقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يَقضي )
الشعر لأبي نخيلة الحماني والغناء لابن سريج ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي

أخبار أبي نخيلة ونسبه
أبو نخيلة اسمه لا كنيته ويكنى أبا الجنيد ذكر الأصمعي ذلك وأبو عمرو الشيباني وابن حبيب لا يعرف له اسم غيره وله كنيتان أبو الجنيد وأبو العرماس وهو ابن حزن بن زائدة بن لقيط بن هرم بن يثربي وقيل ابن أثربي بن ظالم بن مجاسر بن حماد بن عبد العزى بن كعب بن لؤي بن سعد بن زيد مناة بن تميم
وكان عاقاً بأبيه فنفاه أبوه عن نفسه فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه ثم عاد وبقي مشكوكاً في نسبه مطعوناً عليه
وكان الأغلب عليه الرجز وله قصيد ليس بالكبير
ولما خرج إلى الشام اتصل بمسلمة بن عبد الملك فاصطنعه وأحسن إليه وأوصله إلى الخلفاء واحداً بعد واحد واستماحهم له فأغنوه وكان بعد ذلك قليل الوفاء لهم
انقطع إلى بني هاشم ولقب نفسه شاعر بني هاشم فمدح الخلفاء من بني العباس وهجا بني أميه فأكثر

وكان طامعاً نحمله ذلك أن قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى ويعقد العهد لابنه محمد المهدي فوصله المنصور بألفي درهم وأمره أن ينشدها بحضرة عيسى بن موسى ففعل فطلبه عيسى فهرب منه وبعث في طلبه مولى له فأدركه في طريق خراسان فذبحه وسلخ جلده
أخبرني هاشم الخزاعي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
رأى أبو نخيلة على شبيب حلة فأعجبته فسأله إياها فوعده ومطله فقال فيه
( يا قومِ لا تُسوّدوا شبيبا ... الخائنَ ابن ا لخائن الكذوبا )
( هل تلد الذِّيبة إلا الذيبا ... )
قال فبلغه ذلك فبعث إليه بها فقال
( إذا غَدتْ سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها )
( من مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبتَ من كثرتها وطيبها )
حدثني حبيب بن نصر المهلبي عن عمر بن شبة قال حدثني الرعل بن الخطاب قال
بنى أبو نخيلة داره فمر به خالد بن صفوان وكان بينهما مداعبة قديمة ومودة وكيدة فوقف عليه

فقال أبو نخيلة يا بن صفوان كيف ترى داري قال رأيتك سألت فيها إلحافاً وأنفقت ما جمعت إسرافاً
جعلت إحدى يديك سطحاً وملأت الأخرى سلحاً فقلت من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي ثم ولى وتركه
فقيل له ألا تهجوه فقال إذن والله يركب بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف أبنيتي بما يعيبها
ما عسى أن يضر الإنسان صفة أبنيته بما يعيبها سنة ثم لا يعيد فيها كلمة

أبو نخيلة ومسلمة بن عبد الملك
أخبرني الحسن بن علي الخفاف عن ابن مهرويه عن أبي مسلم المستملي عن الحرمازي عن يحيى بن نجيم قال
لما انتفى أبو نخيلة من أبيه خرج يطلب الرزق لنفسه فتأدب بالبادية حتى شعر وقال رجزاً كثيراً وقصيداً صالحاً وشهر بهما وسار شعره في البدو والحضر ورواه الناس
ثم وفد إلى مسلمة بن عبد الملك فرفع منه وأعطاه وشفع له وأوصله إلى الوليد بن عبد الملك فمدحه ولم يزل به حتى أغناه قال يحيى بن نجيم فحدثني أبو نخيلة قال وردت على مسلمة بن عبد الملك فمدحته وقلت له
( أَمَسْلَم إِني يابنَ كلِّ خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرضِ )
( شكرتُك إنّ الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليتَه نعمة يَقضي )
( وألقيت لما أن أتيتكَ زائراً ... عليّ لحافاً سابغ الطول والعرض )
( وأحييت لي ذكرى وما كان خاملاً ... ولكنّ بعض الذكر أنبهُ من بعض )

قال فقال لي مسلمة ممن أنت فقلت من بني سعد فقال مالكم يا بني سعد والقصيد وإنما حظكم في الرجز قال فقلت له أنا والله أرجز العرب قال فأنشدني من رجزك فكأني والله لما قال ذلك لم أقل رجزاً قط أنساينه الله كله فما ذكرت منه ولا من غيره شيئاً إلا أرجوزة لرؤبة كان قالها في تلك السنة فظننت أنها لم تبلغ مسلمة فأنشدته إياها فنكس رأسه وتتعتعت فرفع رأسه إلي وقال لا تتعب نفسك فأنا أروى لها منك قال فانصرفت وأنا أكذب الناس عنده وأخزاهم عند نفسي حتى تلطفت بعد ذلك ومدحته برجز كثير فعرفني وقربني
وما رأيت ذلك أثر فيه يC ولا قرعني به حتى افترقنا
وحدثني أبو نخيلة قال لما انصرف مسلمة من حرب يزيد بن المهلب تلقيته فلما عاينته صحت به
( مَسْلَم يا مَسْلمَةَ الحروبَ ... أنت المصفَّى من أذى العيوبِ )
( مُضَاضةٌ من كَرم وطيب ... لولا ثقاف ليس بالتدبيب )
( تفري به عن حُجُب القلوب ... لأمست الأمّة شاء الذيب )
ضحك وضمّني إليه وأجزل صلتي
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبيد الله بن عمار قال

حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وقد جمعت روايتهما وأكثر اللفظ الأصمعي قال قال أبو نخيلة
وفدت على هشام بن عبد الملك فصادفت مسلمة قد مات وكنت بأخلاق هشام غرا وأنا غريب فسألت عن أخص الناس به فذكر لي رجلان أحدهما من قيس والآخر من اليمن فعدلت إلى القيسي بالتؤدة فقلت هو أقربهما إلي وأجدرهما بما أحب فجلست إليه ثم وضعت يدي على ذراعه وقلت له إني مسستك لتمسني رحمك
أنا رجل غريب شاعر من عشيرتك وأنا غير عارف بأخلاق هذا الخليفة وأحببت أن ترشدني إلى ما أعمل فينفعني عنده وعلى أن تشفع لي وتوصلني إليه فقال ذلك كله لك علي وفي الرجل شدة ليس كمن عهدت من أهله وإذا سئل وخلط مدحه بطلب حرم الطالب فأخلص له المدح فإنه أجدر أن ينفعك واغد إليه غداً فإني منتظرك بالباب حتى أوصلك والله يعينك فصرت من غد إلى باب هشام فإذا بالرجل منتظر لي فأدخلني معه وإذا بأبي النجم قد سبقني فبدأ فأنشده قوله
( إِلى هشام وإِلى مروانِ ... بيتان ما مثلهما بيتانِ )
( كفّاك بالجود تَباريان ... كما تبارى فرسا رِهان )
( مال عليّ حَدَث الزمان ... وبيعَ مايغلو من الغلمان )
( بالثمن الوَكسْ من الأثمان ... والمُهر بعد المُهر والحصان )
أبو نخيلة يمدح هشاماً فيجيزه
قال فأطال فيها وأكثر المسألة حتى ضجر هشام وتبينت الكراهة في وجهه ثم استأذنت فأذن لي فأنشدته

( لما أتتني بغيةٌ كالشّهد ... والعسل الممزوج بعد الرقد )
( يا بَرْدَها لمُشْتَفٍ بالبَرْد ... رفعْت من أطمار مستعِدّ )
( وقلت لِلْعِيس اعتلي وجِدي ... فَهْي تًخدي أبرح التخدي )
( كم قد تعسّفُت بها من نجد ... ومًجْرَ هدّ بعد مُجْرَ هِدٌ )
( قد ادّرَعْن في مَسير سَمْد ... ليلاً كلَون الطيلسان الجَرْد )
( إلى أمير المؤمنين المُجدي ... رَبِّ مَعَدّ وسوى معدّ )
( ممن دعا مِن أصيدٍ وعبد ... ذي المجد والتشريف بعد المجد )
( في وجهه بدر بدا بالسعد ... أنت الهُمام القَرْمُ عند الجِد )
( طُوِّقتَها مجتمِع الأشُد ... فانهلّ لما قمتَ صوبُ الرعد )
قال حتى أتيت عليها وهممت أن أسأله ثم عزفت نفسي وقلت قد استنصحت رجلاً وأخشى أن اخالفه فأخطىء وحانت مني التفاتة فرأيت وجه هشام منطلقاً فلما فرغت أقبل على جلسائه فقال الغلام السعدي أشعر من الشيخ العجلي وخرجت فلما كان بعد أيام أتتني جائزته ثم دخلت عليه بعد ذلك وقد مدحته بقصيدة فأنشدته إياها فألقى علي جبة خز من جبابه مبطنة بسمور ثم دخلت عليه يوماً آخر فكساني دواجاً كان عليه من خز

أحمر مبطن بسمور ثم دخلت عليه يوماً ثالثاً فلم يأمر لي بشيء فحملتني نفسي على أن قلت له
( كسوتنيها فهي كالتِّجفاف ... من خزك المصونة الكِثاف )
( كأنني فيها وفي اللّحاف ... من عبد شمس أبو بني مناف )
( والخَزّ مشتاق إلى الأفواف ... )
قال فضحك وكانت عليه جبة أفواف وأدخل يده فيها ونزعها ورمى بها إلي وقال خذها فلا بارك الله لك فيها
قال محمد بن هشام في خبره خاصة فلما أفضت الخلافة إلى السفاح نقلها إليه وغيرها وجعلها فيه يعني الأرجوزة الدالية فهي الآن تنسب في شعره إلى السفاح

أبو نخيلة والفرزدق
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني أبو عمر الخصاف عن العتبي قال
لما حبس عمر بن هبيرة الفرزدق وهو أمير العراق أبى أن يشفع فيه أحداً فدخل عليه أبو نخيلة في يوم فطر فوقف بين يديه وأنشأ يقول

( أطلقتَ بالأمس أسير بَكر ... فهل فَداك نَفَري وَوفْري )
( مِن سببٍ أو حُجة أو عذر ... يُنْجي التميمي َّ القليلَ الشكر )
( من حَلَق القيد الثِّقال السُّمر ... ما زال مجنوناً على آست الدهر )
( ذا حسب ينمو وعقل يحري ... هبه لأخوالك يوم الفطر )
قال فأمر بإطلاقه وكان قد أطلق قبله رجلاً من عِجل جيء به من عين التمر قد أفسد فشفعت فيه بكر بن وائل فأطلقه وإياه عنى أبو نخيلة فلما أخرج الفرزدق سأل عمن شفع له فأخبر فرجع إلى الحبس وقال لا أريمه ولو مت انطلق قبلي بكري وأخرجت بشفاعة دعي والله لا أخرج هكذا ولو من النار فأخبر ابن هبيرة بذلك فضحك ودعا به فأطلقه وقال وهبتك لنفسك وكان هجاه فحبسه لذلك فلما عزل ابن هبيرة وحبس مدحه الفرزدق فقال ما رأيت أكرم منه هجاني أميراً ومدحني أسيراً
وجدت هذا الخبر بخط القاسم بن يوسف فذكر أن أبا القاسم الحضرمي حدثه أن هذه القصة كانت لأبي نخيلة مع يزيد بن عمر بن هبيرة وأنه أتي بأسيرين من الشراة أخذا بعين التمر أحدهما أبو القاسم بن بسطام بن ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة والآخر رجل من بكر بن وائل فتكلم في البكري قومه فأطلقه ولم يتكلم في التميمي أحد فدخل عليه أبو نخيلة فقال

( الحمد لله وليَّ الأمرِ ... هو الذي أخرج كلّ غَمْرِ )
( وكلَّ عُوّار وكلّ وَغْر ... من كلّ ذي قلب نقيِّ الصدر )
( لما أتتْ من نحو عين التمر ... سْتُّ أَثاف لا أثافي القِدر )
( فظلّت القضبان فيهم تجري ... هَبْرا هو الهبر وفوق الهبر )
( إني لمهدٍ للإمام الغَمْر ... شعري ونُصحَ الحب بعد الشعر )
ثم ذكر باقي الأبيات كما ذُكرت في الخبر المتقدم
أخبرني أبو الحسن الأسدي أحمد بن محمد قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح قال
ذكر عن العتبي أن أبا نخيلة حج ومعه جريب من سويق قد حلاه بقند فنزل منزلاً في طريقه فأتاه أعرابي من بني تميم وهو يقلب ذلك السويق واستحيا منه فعرض عليه فتناول ما أعطاه فأتى عليه ثم قال زدني يا بن أخ فقال أبو نخيلة
( لمَا نزلنا منزلاً ممقوتا ... نُريد أن نَرحلَ أو نبيتا )
( جئتَ ولم نَدْر من أين جيتا ... إذا سقيتَ المُزبد السّحتيتا )

( قلت ألا زدني وقد رويتا ... )
فقام الأعرابي وهو يسبه
وحدثني بهذا الخبر هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
كان أبو نخيلة إذا نزل به ضيف هجاه فنزل به يوماً رجل من عشيرته فسقاه سويقاً قد حلاه فقال له زدني فزاده فلما رحل هجاه وذكر الأبيات بعينها وقال في الخبر قال أبو عبيدة السحتيت السويق الدقاق

أبو نخيلة يعتذر لأبي العباس السفاح
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني ابن عائشة قال
دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح فسلم واستأذن في الإنشاد فقال له أبو العباس لا حاجة لنا في شعرك إنما تنشدنا فضلات بني مروان فقال يا أمير المؤمنين
( كنا أناساً نرهب الملاكَا ... إذ ركبوا الإعناق والأوراكا )
( قد ارتَجَينا زمناً أباكا ... ثم ارتجينا بعده أخاكا )
( ثم ارتجينا بعده إياكا ... وكان ما قلتُ لِمَن سواكا )
( زُوراً فقد كفّر هذا ذا كا ... )
فضحك أبو العباس وأجازه جائزة سنية وقال أجل إن التوبة لتكفر ما قبلها وقد كفر هذا ذاك
وأخبرنا أبو الفياض سوار بن ابي شراعة قال حدثني أبي عن عبد الصمد بن المعذل عن أبيه قال

دخل أبو نخيلة على أبي العباس قال وكان لا يجترىء عليه مع ما يعرفه به من اصطناع مسلمة إياه وكثرة مديحه لبني مروان حتى علم أنه قد عفا عمن هو أكبر محلا من القوم وأعظم جرماً منه فلما وقف بين يديه سلم عليه ودعا له وأثنى ثم استأذنه في الإنشاد فقال له ومن أنت قال عبدك يا أمير المؤمنين أبو نخيلة الحماني فقال لا حياك الله ولا قرب دارك يا نضو السوء ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بالأمس
( أمَسْلَم يا من ساد كلّ خليفةٍ ... ويا فارس الهيجا ويا قمرَ الأرض )
والله لولا أني قد أمنت نظراءك لما ارتد إليك طرفك حتى أخضبك بدمك فقال أبو نخيلة
( كنّا أناساً نرهب الأملاكا ... )
وذكر الأبيات المتقدمة كلها مثل ما مضى من ذكرها فتبسم أبو العباس ثم قال له أنت شاعر وطالب خير وما زال الناس يمدحون الملوك في دولهم والتوبة تكفر الخطيئة والظفر يزيد الحقد وقد عفونا عنك واستأنفنا الصنيعة لك وأنت الآن شاعرنا فاتسم بذلك فيزول عنك ميسم بني مروان فقد كفر هذا ذاك كما قلت ثم التفت إلى أبي الخصيب فقال يا مرزوق أدخله دار الرقيق فخيره جارية يأخذها لنفسه ففعل واختار جارية وطفاء كثيرة اللحم فلم يحمدها فلما كان من غد دخل على أبي العباس وعلى رأسه وصيفة حسناء تذب عنه فقال له قد عرفت خبر الجارية التي أخذتها بالأمس وهي كذناكونه فاحتفظ بها فأنشأ يقول

( إني وجدت الكذناذَنُوّكا ... غيرَ مَنيك فابغني مُنَيَّكا )
( حتى إذا حركتُه تَحَرَّكا ... )
فضحك أبو العباس وقال خذ هذه الوصيفة فإنك إذا خلوت بها تحرك من غير أن تحركه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
ادّان أبو نخيلة من بقّال له يقال له ماعز الكلابي باليمامة وكان يأخذ منه أولاً أولاً حتى كثر ما عليه وثقل فطالبه ماعز فمطله ثم بلغه أنه قد استعدى عليه عامل اليمامة فارتحل يريد الموصل وخرج عن اليمامة ليلاً فلم يعد به ماعز إلا بعد ثلاث وقد نجا أبو نخيلة وقال في ذلك
( يا ماعزَ الكُرّاث خزيتا ... لقد خدعت ولقد هجيتنا )
( كِدتَ تَخصينا فقد خُصيتا ... وكنت ذا حظ فقد مُحيتا )
( ويحكَ لم تعلم بمن صُليتا ... ولا بأيّ حَجَر رُميتا )
( إذا رأيت المُزيدَ الهَبوتا ... يركب شِدْقاً شَدْقماً هَريتا )
( طِرْ بجناحك فقد أُتيتا ... حَرّان حَرّان فهِيتا هِيتا )
والموصَل الموصَل أَو تكْريتا ... حيث تبيع النبَطُ البيوتا )

( ويأكلون العدَسَ المَريتا ... )
وقال أيضاً لماعز هذا
( يا ماعزَ القَمل وبَيتَ الذّلَ ... بِتْنا وبات البغل في الإصطبل )
( وبات شيطان القوافي يُمْلي ... على امرئ فَحْلٍ وغير فحل )
( لا خير في عِلمي ولا في جهلي ... لو كان أودَى ماعز بنخلي )
( ما زال يَقلِيني وعَيْمي يغلي ... حتى إذا العَيم رمَى بالجفل )
( طبّقت تطبيق الجُزاز النصل ... )
نماذج من مدحه وهجائه
نسخت من كتاب اليوسفي حدثني المنمق بن جماع عن أبيه قال
كان أبو نخيلة يرضيه القليل ويسخطه وكان الربيع ينزله عنده ويأمر سائساً يتفقد فرسه فمدح الربيع بأرجوزة ومدح فيها معه سائسه فقال
( لولا أبو الفضل ولولا فضلهُ ... ما اسْطِيع باب لا يُسنّى قُفْلُهُ )
( ومن صلاح راشد إصطبلُه ... نعم الفتى وخيرُ فعل فعله )
( يَسْمَن منه طِرفه وبغله ... )
فضحك الربيع وقال يا أبا نخيلة أترضى أن تقرن بي السائس في مديح كأنك لو لم تمدحه معي كان يضيع فرسك
قال ونزل أبو نخيلة بسليمان بن صعصعة فأمر غلامه بتعهده وكان

يغاديه ويراوحه في كل يوم بالخبز والحم فقال أبو نخيلة يمدح خباز سليمان بن صعصعة
( بارَك ربّي فيك من خباز ... ما زلت إذ كنتَ على أوفاز )
( تنصبّ باللحم انصباب الباز ... )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثنا أحمد بن المعذل عن علي بن أبي نخيلة الحماني قال
دخلت مع أبي إلى أرض له وقد قدم من مكة فرآها وقد أضر بها جفاء القيم عليها وتهاونه بها وكلما رآه الذين يسقونها زادوا في العمل والعمارة حتى سمعت نقيض الليف فقلت الساعة يقول في هذا شعراً فلم ألبث أن التفت إلي وقال
( شاهد مالاً رَبُّ مال فساسَه ... سياسة شهم حازم وابن حازم )
( أقام بها العصْرين حيناً ولم يكن ... كمن ضنّ عن عُمرانها بالدراهم )
( كأنَّ نقيض الليف عن سعفاته ... نقيضُ رحال الميَس فوق العياهم )
( وأضحت تغالي بالبنات كأنها ... على متن شيخ من شيوخ الأعاجم )
( وما الأصل ما روّيتَ مضرب عِرقه ... من الماء عن إصلاح فرع بنائم )
أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن النضر بن حديد عن أبي محضة عن الأزرق بن الخميس بن أرطأة وهو ابن أخت أبي نخيلة فذكر قريباً مما ذكر في الخبر الذي قبله

وأخبرني عيسى بن الحسن الوراق المروزي قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال
ابتاع أو نخيلة داراً في بني حمان ليصحح بها نسبه وسأل في بنائها فأعطاه الناس اتقاء للسانه وشره فسأل شبيب بن شبة فلم يعطه شيئاً واعتذر إليه فقال
( يا قومِ لا تسوّدوا شبيبا ... المَلَذانَ الخائن الكذوبا )
( هل تلد الذَيبة إلا الذبيا ... )
فقال شبيب ما كنت لأعطيه على هذا القول شيئاً فإنه قد جعل إحدى يديه سطحاً وملأ الأخرى سلحاً وقال من وضع شيئاً في سطحي وإلا ملأته بسلحي من أجل دار يريد أن يصحح نسبه بها فسفر بينهما مشايخ الحي حتى يعطيه فأبى شبيب أن يعطيه شيئاً وحلف أبو نخيلة ألا يكف عن عرضه أو يأخذ منه شيئاً يستعين به فلما رأى شبيب ذلك خافه فبعث إليه بما سأل وغدا أبو نخيلة عليه وهو جالس في مجلسه مع قومه فوقف عليهم ثم أنشأ يقول
( إذا عدَتْ سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها )
( مِن مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبْت من كثرتها وطيبها )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
دخل أبو نخيلة على عمر بن هبيرة وعنده رؤبة قد قام من مجلسه فاضطجع خلف ستر فأنشد أبو نخيلة مديحه له ثم قال ابن هبيرة يا أبا

نخيلة أي شيء أحدثت بعدنا فاندفع ينشده أرجوزة لرؤبة فلما توسطها كشف رؤبة الستر وأخرج رأسه من تحته فقال له كيف أنت يا أبا نخيلة فقطع إنشاده وقال بخير أبا العجاج فمعذرة إليك ما علمت بمكانك فقال له رؤبة أم ننهك أن تعرض لشعري إذا كنت حاضراً فإذا ما غبت فشأنك به فضحك أبو نخيلة وقال هل أنا إلا حسنة من حسناتك وتابع لك وحامل عنك فعاد رؤبة إلى موضعه فاضطجع ولم يراجعه حرفاً والله أعلم
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة
أن أبا نخيلة قدم على المهاجرين بن عبد الله الكلابي وكان أبو نخيلة أشبه خلق الله به وجهاً وجسماً وقامة لا يكاد الناظر إلى أحدهما أن يفرق بينه وبين الآخر فدخل عليه فأنشده قوله فيه
( يا دارَ أمِّ مالك ألا أسلمي ... على التنائي من مُقام وأنعَمي )
( كيف أنا إن أنت لم تَكّلمي ... بالوحْي أو كيف بأن تجمجمي )
( تقول لي بنتي ملامَ الُلُّوَّم ... يا أبتا إنك يوماً مؤتِمي )
( فقلت كلاّ فاعلمي ثم اعلمي ... أني لِميقات كتاب محكَم )
( لو كنتُ في ظلمة شِعب مظلم ... أو في السماء أرتقي بسلَّم )
( لا نصبّ مقداري إلى مُجْرَنثَمي ... إني وربّ الراقصات الرسَّم )
( وربِّ حوض زمزم وزمزم ... لأستبين الخير عند مَقدَمي )
( وعند تَرحاليَ عن مُخَيَّمي ... علَى ابنِ عبد الله قَرْمِ الأقرم )
( فإنني بالعِلمِ ذو ترسُّم ... لم أدر ما مهاجِرُ التكرم )

حتى تبينت قضايا الغشّم ... مُهاجِرُ يا ذا النوال الخِضرِم )
( أنت إذا انتَجعتَ خيرُ مُغنِم ... مُشترَك النائل جمُّ الأنعم )
( ولِتَميمٍ منك خير مُقْسَم ... إذا التقوا شتى معاً كالهُيّم )
( قد علِم الشأم وكلّ موسم ... أنك تحلو لي كحلو المعجَم )
( طوراً وطوراً أنت مثل العلقم ... )
قال فأمر له المهاجر بناقة فتركها ومضى مغضباً وقال يهجوه
( إن الكلابيَّ اللئيم الأثرما ... أعطى على المِدْحَةِ ناباً عِرْزِماً )
( ما جبر العظم ولكن تمّما ... )
فبلغ ذلك المهاجر فبعث فترضاه وقام في أمره بما يحب ووصله فقال أبو نخيلة هذه صلة المديح فأين صلة الشبه فإن التشابه في الناس نسب فوصله حتى أرضاه فلم يزل يمدحه بعد ذلك حتى مات ورثاه بعد وفاته فقال
( خليليّ مالي باليمامة مقعدٌ ... ولا قُرّةٌ للعين بعد المهاجرِ )
( مضى ما مضى من مصالح العيش فاربعا ... على ابنِ سبيل مزمِع البين عابر )
( فإن تك في مَلحودة يا بن وائل ... فقد كنتَ زين الوفد زين المنابر )
( وقد كنتَ لولا سَلُّك السيف لم يَنم ... مقيم ولم تأمن سبيلُ المسافر )
( لَعَزّ على الحيّين قيسٍ وخِندفٍ ... تَبكَّي عليَّ والوليد وجابر )
( هوى قمر من بينهم فكأنما ... هوى البدر من بين النجوم الزواهر )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذُ عن أبي عبيدة قال

تزوجت أخت أبي نخيلة برجل يقال له ميار وكان أبو نخيلة يقوم بمالها مع ماله ويرعى سوامها مع سوامه ويستبد عليها بأكثر منافعها فخاصمته يوماً من وراء خدرها في ذلك فأنشأ يقول
( أظلُّ أرعى وتراً هزينا ... مُلَملَماً ترى له غضونا )
( ذا أُبَنِ مقوماً عُثنوناً ... يطعن طعناً يقضب الوتينا )
( ويهتك الأعفاج والرُّبينا ... يذهب ميّار وتقعدينا )
( وتفسدين أو تُبَذِّرينا ... وتمنحين استك آخرينا )
( أير الحمار في است هذا دينا ... )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال
تزوج أبو نخيلة امرأة من عشيرته فولدت له بنتاً فغمه ذلك فطلقها تطليقة ثم ندم وعاتبه قومه فراجعها فبينما هو في بيته يوما إذ سمع صوت ابنته وأمها تلاعبها فحركه ذلك ورق لها فقام إليها فأخذها وجعل ينزيها ويقول
( يا بنتَ مَن لم يك يهوَى بنتاً ... ما كنتِ إلا خمسة أو سِتاً )
( حتى حللتِ في الحشى وحتى ... فتَتِّ قلبي مِنْ جوىً فانفتَّا )
( لأنت خيرٌ من غلام أنْتا ... يُصبح مخموراً ويمسي سَبتا )

جمال شعره يجمل النساء
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا أبو هفان قال حدثني أصحابنا الأهتميون قالوا
دخل عقال بن شبة المجاشعي على المهدي فقال له يا أبا الشيظم ما بقي من حبك بنات آدم وما بعجبك منهن التي عصبت عصب الجان وجلدت جدل العنان واهتزت اهتزاز البان أم التي بدنت فعظمت وكملت فتمت فقال يا أمير المؤمنين أحبهما إلي التي وصفها أبو نخيلة فإنه كانت له جارية صغيرة وهبها له عمك أبو العباس السفاح فكان إذا غشيها صغرت عنه وقلت تحته فقال
( إني وجتُ الكذناذَنّوكا ... غير منيك فابغني منيَّكا )
( شيئاً إذا حرّكته تحركا ... )
قال فوهب له المهدي جراية كاملة فائقة متأدبة ربعة فلما أصبح عقال غدا على المهدي متشكراً فخرج المهدي وفي يده مشط يسرح به لحيته وهو يضحك فدعا له عقال وقال له يا أمير المؤمنين مم تضحك أدام الله سرورك قال يا أبا الشيظم إني اغتسلت آنفاً من شيء إذا حركته تحرك وذكرت قولك الآن لما رأيتك فضحكت
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أحمد بن القاسم العجلي البرتي قال حدثني أبو هفان قال حدثتني رقية بنت حمل عن أبيها قال

كان أبو نخيلة مداحاً للجنيد بن عبد الرحمن المري وكان الجنيد له محباً يكثر رفده ويقرب مجلسه ويحسن إليه فلما مات الجنيد قال أبو نخيلة يرثيه
( لعمري لئن رَكبُ الجنيد تحملوا ... إلى الشأم من مرَّ وراحَت ركائبه )
( لقد غادر الركب الشآمون خلفهم ... فتى غطفانياً يُعلل جانبه )
( فتى كان يسري للعدو كأنما ... سُروب القطا في كلّ يوم كتائبه )
( وكان كأن البدر تحت لوائه ... إذا راح في جيش وراحت عصائبه )
أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثني أحمد بن القاسم قال حدثني أبو هفان عن عبد الله بن داود عن علي بن أبي نخيلة قال
كان أبي شديد الرقة علي معجباُ بي فكان إذا أكل خصني بأطيب الطعام وإذا نام أضجعني إلى جنبه فغاظ ذلك امرأته أم حماد الحنفية فجعلت تعذله وتؤنبه وتقول قد أقمت في منزلك وعكفت على هذا الصبي وتركت الطلب لولدك وعيالك فقال أبي في ذلك
( ولولا شهوتي شَفَتي عليَّ ... رَبعتُ على الصحابة والركاب )
( ولكنّ الوسائل من عليَّ ... خلَصن إلى الفؤاد من الحجاب )
قال فازدادت غضباً فقال لها
( وليس كأمّ حمّاد خليلٌ ... إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب )
( منعمةً أرى فتقرّ عيني ... وتكفيني خلائقُها عتابي )

فرضيت وأمسكت عنا
حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الله قال حدثني سهل بن زكريا قال حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال
قال أبان بن عبد الله النميري يوماً لجلسائه وفيهم أبو نخيلة والله لوددت أنه قيل في ما قيل في جرير بن عبد الله
( لولا جرير هَلَكتْ بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيلة )
وإنني أثبت على ذلك مالي كله فقال له أبو نخيلة هلم الثواب فقد حضرني من ذلك ما تريد فأمر له بدراهم فقال اسمع يا طالب ما يجزيه
( لولا أَبانٌ هلكت نُمَيرُ ... نعم الفتى وليس فيهم خَيرُ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا سلمة بن خالد المازني عن أبي عبيدة قال
وقف أبو نخيلة على باب أبي جعفر واستأذن فلم يصل وجعلت الخراسانية تدخل وتخرج فتهزأ به فيرون شيخاً أعرابياً جلفاً فيبعثون به فقال له رجل عرفه كيف أنت أبا نخيلة فأنشأ يقول
( أصبحتُ لا يملك بعضي بعضاً ... أشكو العُروق الآبضات أبضاً )
( كما تَشكى الأرحبيُّ الغرْضا ... كأنما كان شبابي قَرضَا )
فقال له الرجل وكيف ترى ما أنت فيه هذه الدولة فقال
( أكثرُ خلق الله من لا يُدرَى ... مِن أيّ خلق الله حين يُلْقى )
( وحُلةٌ تُنشر ثم تُطوَى ... وطيلسانٌ يُشتَرى فيُغْلى )

( لِعبد عبدٍ أو لمولى مولى ... يا ويحَ بيتِ المال ماذا يَلقِى )
وبهذا الإسناد عن أبي عبيدة أن أبا نخيلة قدم علىأبان بن الوليد فامتدحه فكساه ووهب له جارية جميلة فخرج يوماً من عنده فلقيه رجل من قومه فقيل له كيف وجدت أبان بن الوليد يا أبا نخيلة فقال
( أكثرَ والله أبانٌ مَيْري ... ومِن أبانِ الخيرِ كلُّ خيري )
( ثوبٌ لجلدي وحرٌ لأيري ... )
نسخت من كتاب اليوسفي حدثني خالد بن حميد عن أبي عمرو الشيباني قال أقحمت السنة أبا نخيلة فأتى القعقاع بن ضرار وهو يومئذٍ على شُرطة الكوفة فمدحه وأنزله القعقاع بن ضرار وابنيه وعبديه وركابهم في دار وأقام لهم الأنزال ولركابهم العلوفة
وكان طباخ القعقاع يجيئهم في كل يوم بأربع قصاع فيها ألوان مطبوخة من لحوم الغنم ويأتيهم بتمر وزبد فقال له يوماً القعقاع كيف منزلك أبا نخيلة فقال
( مَا زال عنّا قَصَعاتٌ أربعُ ... شَهرين دَأْباً ذُوّد ورجع )
( عَبداي وابناي وشيخ يرفع ... كما يقوم الجَمل المطبّع )

قال وكان أبو نخيلة يكثر الأكل فأصابته تخمة فدخل على القعقاع فسأله كيف أصبحت أبا نخيلة فقال أصبحت والله بشماً أمرت خبازك فأتاني بهذاالرقاق الذي كأنه الثياب المبلولة قد غمسه في الشحم غمساً وأتبعه يزيد كرأس النعجة الخرسية وتمر كأنه عنز رابضة إذا أخذت التمرة من موضعها تبعها من الرب كالسلوك الممدودة فأمعنت في ذلك وأعجبني حتى بشمت فهل من أقداح جياد وبين يدي القعقاع حجام واقف وسفرة موضوعة فيها المواسي فإذا أتي بشراب النبيذ حلق رؤوسهم ولحاهم
فقال له القعقاع أتطلب مني النبيذ وأنت ترى ما أصنع بشرابه عليك بالعسل والماء البارد فوثب ثم قال
( قد علم المظَلّ والمبيت ... أني مِن القعقاع فيما شِيت )
( إذا أتتْ مائدة أُتيت ... ببِدَع لست بها غُذيت )
( وُلّيتَ فاستشفيتُ واستُعدِيتُ ... كأني كنت الذي ولِّيتُ )
( ولو تمنَّيتُ الذي أعطيت ... ما ازددتُ شيئاً فوق ما لقيتُ )
( أيا بن بيتٍ دونه البيوت ... أَقصرْ فقد فوق القِرى قُريتُ )
( ما بين شرابي عسلٌ منعوت ... ولا فُرات صرد بيّوت )
( لكنني في النوم قد أْريت ... رطلَ نبيذ مُخفِس سُقيت )
( صلباً إذا جاذبته رويت ... )
فغمزه على إسماعيل ابن أخيه وأومأ إلى إسماعيل فأخذ بيده ومضى به إلى منزله فسقاه حتى صلح

أبو نخيلة يمدح السفاح
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا قعنب بن المحرز وأبو عمرو الباهلي قالا حدثنا الأصمعي قال
دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح وعنده أبو صفوان إسحاق بن مسلم العقيلي فأنشده قوله
( صادتْك يومَ الرملتين شَعْفَرُ ... وقد يصيد القانصَ المزعفَرُ )
( يا صورةً حسّنها المصّور ... للِرِّيم منها جيدُها والمَحجَرُ )
يقول فيها في مدح أبي العباس
( حق إذا ما الأوصياء عسكروا ... وقام من تِبر النبيّ الجوهرُ )
( ومِن بني العْباس نَبع أصفر ... ينميه فرعٌ طيّب وعنصر )
( أقبل بالناس الهوى المستبِهر ... وصاح في الليل نهار أنور )
( أنا الذي لو قيل إني أشعرُ ... جلّى الضبابَ الرجز المخبِّر )
( لمّا مضت لي أشهر و أشهر ... قلت لنفس تُزدَهَى فتصبر )
( لا يستخفنَّك ركب يَصدر ... لا مُنجد يَمضي ولا مُغَّور )
( وخالفي الأنباءَ فهي المحشر ... أو يسمعَ الخليفة المطهَّر )
( مِنَّي فإني كلَّ جنح أحضر ... وإن بالأنبار غيثاً يهمرُ )
( والغيث يُرجَى والديار تنضُر ... ما كان إلا أن أتاها العسكر )
( حتى زهاها مسجد ومِنبر ... لم يبقَ من مروانَ عين تنظر )

( لا غائبٌ ولا أناس حُضّر ... هيهات أودى المنعم المعقّر )
( وأمست الأنبار داراً تُعمَر ... وخرِبتْ من الشآم أدوُر )
( حِمصٌ وبابُ التِّبن والموقِّر ... ودمّرت بعد امتناع تدمر )
( وواسط لم يبق إلا القرقر ... منها وإلا الديربان الأخضر )

ومنها
( أين أبو الورد وأين الكوثر ... )
أبو الورد بن هذيل بن زفر وكوثر بن الأسود صاحب شرطة مروان
( وأين مروان وأين الأشقر ... وأين فلّ لم يَفُت محيّر )
( وأين عادّيكم المُجَمْهَر ... وعامر وعامر وأعصُر )
قال يعني عامر بن صعصعة وعامر بن ربيعة وأعصر باهلة وغني قال فغضب إسحاق بن مسلم وقال هؤلاء كلهم في جر أمك أبا نخيلة فأنكر الخليفة عليه ذلك فقال إني والله يا أمير المؤمنين قد سمعت

منه فيكم شراً من هذا في مجالس بني مروان وما له عهد وما هو بوفي ولا كريم فبان ذلك في وجه أبي العباس وقال له قولاً ضعيفاً إن التوبة تغسل الحوبة والحسنات يذهبن السيئات وهذا شاعر بني هاشم
وقام فدخل وانصرف الناس ولم يعط أبا نخيلة شيئاً

أبو نخيلة والمنصور
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث قال
بينا أنا أسير مع أبي الفضل يعني سليمان بن عبد الله وحدي بين الحيرة والكوفة وهو يريد المنصور وقد هم بتولية المهدي العهد وخلع عيسى بن موسى وهو يروض ذلك إذا هو بأبي نخيلة الشاعر ومعه ابنان له وعبد وهم يحملون متاعه
فقال له يا أبا نخيلة ما هذا الذي أرى قال كنت نازلاً على القعقاع بن معبد أحد ولد معبد بن زرارة فقلت شعراً فيما عزم عليه أمير المؤمنين من تولية المهدي العهد ونزع عيسى بن موسى فسألني التحول عنه لئلا يناله مكروه من عيسى إذ كان صنيعته فقال سليمان يا عبد الله اذهب بأبي نخيلة فأنزله منزلاً وأحسن نزله وبره ففعلت
ودخل سليمان إلى المنصور فأخبره الخبر فلما كان يوم البيعة جاء بأبي نخيلة فأدخله على المنصور فقام فأنشد الشعر على رؤوس الناس وهي قصيدته التي يقول فيها
( بل يا أمين الواحد الموحَّدِ ... إنّ الذي ولاك ربُّ المسجدِ )
( ليس وليّ عهدنا بالأسعَد ... عيسى فزحلفها إلى محمد )
( من عند عيسى معهداً عن معهد ... حتى تُؤدَّى من يد إلى يد )

قال فأعطاه المنصور عشرة آلاف درهم قال وبايع لمحمد بالعهد فانصرف عيسى بن موسى إلى منزله قال فحدثني داود بن عيسى بن موسى قال جمعنا أبي فقال يا بني قد رأيتم ما جرى فأيما أحب إليكم أن يقال لكم يا بني المخلوع أو يقال لكم يا بني المفقود فقلنا لا بل يا بني المخلوع فقال وفقتم بني وأول هذه الأرجوزة التي هذه الأبيات منها
( لم يُنسني يا بنة آل معبَدِ ... ذكراكِ تكرارُ الليالي العُوّدِ )
( ولا ذواتُ العَصب الموَّرد ... ولو طَلْبن الوُدَّ بالتودّد )
( ورُحن في الدُّر وفي الزبرجد ... هيهات منهن وإن لم تَعهدي )
( نَجديةٌ ذاتُ مَعانٍ منجد ... كأنّ ريّاها بُعيد المَرقَد )
( ريّا الخُزامي في ثَرىً جَعْدٍ ندي ... كيفَ التصابي فِعلَ من لم يهتد )
( وقد علَتْني دِرة بادي بَدِي ... وَرْثيةٌ تنهض في تشددي )
( بعد انتهاَضي في الشباب الأملد ... )
يقول فيها
( إلى أمير المؤمنين فاعمِد ... إلى الذي يُندي ولا يَندَى نَدي )
( سيري إلى وبحر البحار المزْبد ... إلى الذي إن نفِدت لم ينفَد )
( أو ثَمَّدت أشراعها لم يَثمِد ... )

ويقول في ذكر البيعة لمحمد بعد الأبيات التي مضت في صدر الخبر
( فقد رضينا بالغلام الأمرد ... وقد فَرغنا غير أن لم نشهدِ )
( وغيرَ أنّ العَقد لم يؤكد ... فلو سمعنا قولك امدُدِ امدُد )
( كانت لنا كزعقة الوِرد الصدي ... فنادِ للبعية جمعاً نَحشدُ )
( في يومنا الحاضر هذا أوغد ... واصنع كما شئت ورُدّ يُردَد )
( ورَدَّه منك رداء يرتد ... فهو رِداء السابق المقلَّد )
( وكان يَروِي أنها كأن قد ... عادت ولو قد نقِلَت لم تُردد )
( أقول في كرى أحاديث الغد ... لله دَري من أخ ومنشد )
( لو نلتُ حظّ الحبشيِّ الأسود ... )
يعني أبا دلامة
فأخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال
حدثنا المدائني أن أبا نخيلة أظهر هذه القصيدة التي رواها الخدم والخاصة وتناشدتها العامة فبلغت المنصور فدعا به وعيسى بن موسى عنده جالس عن يمينه فأنشده إياها وأنصت له حتى سمعها إلىآخرها
قال أبو نخيلة فجعلت أرى فيه السرور ثم قال لعيسى بن موسى ولئن كان هذا عن رأيك لقد سررت عمك وبلغت من مرضاته أقصى ما يبلغه الولد البار السار
فقال عيسى لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين قال أبو

نخيلة فلما خرجت لحقني عقال بن شبة فقال أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين ولئن تم الأمر فلعمري لتصيبن خيراً ولئن لم يتم فابتغ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فقلت له
( علِقت معالقها وصرّ الجندُب ... )
قال المدائني وحدثني بعض موالي المنصور قال
لما أراد المنصور أن يعقد للمهدي أحب أن تقول الشعراء في ذلك فحدثني عبد الجبار بن عبيد الله الحماني قال
حدثني أبو نخيلة قال قدمت على أبي جعفر فأقمت ببابه شهراً لا أصل إليه فقال لي عبد الله بن الربيع الحارثي يا أبا نخيلة إن أمير المؤمنين يريد أن يقدم المهدي بين يدي عيسى بن موسى فلو قلت شيئاً تحثه على ما يريد فقلت
( ماذا على شَحْط النوى عناكا ... أم ما مرَى دمعَك من ذكراكا )
( وقد تبكّيتَ فما أبكاكا ... )
وذكر أرجوزة طويلة يقول فيها
( خليفةَ الله وأنت ذاكا ... أسنِدْ إلى محمدٍ عصاكا )
( فأحفَظُ الناس لها أدناكا ... وابنُك ما استكفيتَه كفاكا )
( وكلُّنا منتظر لذاكا ... لو قلتَ هاتوا قلتُ هاك هاكا )

قال فأنشدته إياها فوصلني بألفي درهم وقال لي احذر عيسى بن موسى فإني أخافه عليك أن يغتالك قال المدائني وخلع أبو جعفر عيسى بن موسى فبعث عيسى في طلب أبي نخيلة فهرب منه وخرج يريد خراسان فبلغ عيسى خبره فجرد خلفه مولى له يقال له قطري معه عدة من مواليه وقال له نفسك نفسك أن يفوتك أبو نخيلة فخرج في طلبه مغذاً للسير فلحقه في طريقه إلى خراسان فقتله وسلخ وجهه
ونسخت من كتاب القاسم بن يوسف عن خالد بن حمل أن علي بن أبي نخيلة حدثه أن المنصور أمر أبا نخيلة أن يهرب إلى خراسان فأخذه قطري وكتفه فأضجعه فلما وضع السكين على أوداجه قال إيه يا بن الخناء ألست القائل
( علِقَت معالقها وصر الجندب ... )
الآن صَر جندبك فقال لعن الله ذاك جندباً ما كان أشأم ذكره ثم ذبحه قطري وسلخ وجهه وألقى جسمه إلى النسور وأقسم لا يريم مكانه حتى تمزق السباع والطيور لحمه فأقام حتى لم يبق منه إلا عظامه ثم انصرف
أخبرنا جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو حاتم السجستاني قال حدثني

الأصمعي عن سعيد بن سلم عن أبيه قال
قلت لأبي الأبرش مات أبو نخيلة قال حتف أنفه قلت لا بل اغتيل فقتل فقال الحمد لله الذي قطع قلبه وقبض روحه وسفك دمه وأراحني منه وأحياني بعده
وكان أبو نخيلة يهاجي الأبرش فغلبه أبو نخيلة

صوت
( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدر في اليوم المطيرِ )
( فدفعتُها فتدافعت ... مشيَ القطاة على الغدير )
( فلثمتُها فتنفسَت ... كتنفس الظبي البهيرِ ) الشعر للمنخل اليشكري والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وأحمد المكي
تم الجزء العشرون من كتاب الأغاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي والعشرون وأوله أخبار المنخل ونسبه

بسم الله الرحمن الرحيم

أخبار المنخل ونسبه
هو المنخل بن عمرو - ويقال المنخل بن مسعود - بن أفلت بن عمرو بن كعب بن سواءة بن غنم بن حبيب بن يشكر بن بكر بن وائل
وذكر أبو محلم النسابة أنه المنخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوءة بن مالك بن ثعلبة بن حبيب بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر وقال ابن الأعرابي هو المنخل بن الحارث بن قيس بن عمرو بن ثعلبة بن عدي بن جشم بن حبيب بن كعب بن يشكر
اتهمه النعمان بامرأته المتجردة فقتله
شاعر مقل من شعراء الجاهلية وكان النعمان بن المنذر قد اتهمه بامرأته المتجردة وقيل بل وجده معها وقيل بل سعي به إليه في أمرها فقتله وقيل بل حبسه ثم غمض خبره فلم تعلم له حقيقة إلى اليوم فيقال إنه دفنه حيا ويقال إنه غرقه والعرب تضرب به المثل كما تضربه بالقارظ العنزي

ممن هلك ولم يعلم له خبر وقال ذو الرمة
( تُقارِب حتى تُطمِعَ التابعَ الصّبا ... وليست بأدنى من إياب المنخّلِ )
وقال النمر بن تولب
( وقَوْلِي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... تلاقونه حتى يؤوبَ لمنخّلُ )
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أحمد بن زهير قال أخبرني عبد الله بن كريم قال أخبرني أبو عمرو الشيباني قال
كان سبب قتل المنخل أن المتجردة - واسمها ملوية وقيل هند بنت المنذر بن الأسود الكلبية - كانت عند ابن عم لها يقال له حلم وهو الأسود بن المنذر بن حارثة الكلبي وكانت أجمل أهل زمانها فرآها المنذر ابن المنذر الملك اللخمي فعشقها فجلس ذات يوم على شرابه ومعه حلم وامرأته المتجردة فقال المنذر لحلم إنه لقبيح بالرجل أن يقيم على المرأة زمانا طويلا حتى لا يبقى في رأسه ولا لحيته شعرة بيضاء إلا عرفتها فهل لك أن تطلق امرأتك المتجردة وأطلق امرأتي سلمى قال نعم فأخذ كل واحد منهما على صاحبه عهدا قال فطلق المنذر امرأته سلمى وطلق حلم امرأته المتجردة فتزوجها المنذر ولم يطلق لسلمى أن تتزوج حلما

وهي أم ابنه النعمان بن المنذر - فقال النابغة الذبياني يذكر ذلك
( قد خادعوا حُلماً عن حرّة خَرِدٍ ... حتى تبطَّنها الخدّاع ذو الحُلُمِ )
قال ثم مات المنذر بن المنذر فتزوجها بعده النعمان بن المنذر ابنه وكان قصيرا دميما أبرش وكان ممن يجالسه ويشرب معه النابغة الذبياني - وكان جميلا عفيفا - والمنخل اليشكري - وكان جميلا - وكان يتهم بالمتجردة فأما النابغة فإن النعمان أمره بوصفها فقال قصيدته التي أولها
( ِمن آل ميّةَ رائح أو مُغْتدي ... عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّد )
ووصفها فأفحش فقال
( وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدِفٍ ... رابي المَجسّة بالعَبير مُقَرمَدِ )
( وإذا نزعتَ نزعتَ عن مستحصِفٍ ... نزع الحَزَوّر بالرشاء المحصَدِ )
فغار المنخل من ذلك وقال هذه صفة معاين فهم النعمان بقتل النابغة حتى هرب منه وخلا المنخل بمجالسته وكان يهوى المتجردة وتهواه وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل وكانت العرب تقول إنهما منه فخرج النعمان لبعض غزواته - قال ابن الأعرابي بل خرج متصيدا - فبعثت المتجردة إلى المنخل فأدخلته قبتها وجعلا يشربان فأخذت خلخالها وجعلته في رجله وأسدلت شعرها فشدت خلخالها إلى خلخاله الذي في رجله من شدة إعجابها به ودخل النعمان بعقب ذلك فرآها

تلك الحال فأخذه فدفعه إلى رجل من حرسه من تغلب يقال له عكب وأمره بقتله فعذبه حتى قتله فقال المنخل يحرض قومه عليه
( ألا مَن مبلِغ الحيّين عنّي ... بأن القوم قد قتلوا أُبَيّا )
( فإن لم تثأروا لي من عِكَبٍّ ... فلا رَوَّيْتُمُ أبدا صَدِيا )
وقال أيضا
( ظلّ وسْط النديّ قتلَى بلا جُرم ... وقومي يُنتِّجون السِّخالا )
وقال في المتجردة
( دِيارٌ لِلَّتي قتلتكَ غصباً ... بلا سيفٍ يُعَدُّ ولا نِبالِ )
( بطَرْفٍ مَيِّتٍ في عين حيٍّ ... له خَبَلٌ يزيدُ على الخَبالِ )
وقال أيضا
( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدرَ في اليومِ المَطيرِ )
( الكاعبِ الخسناءِ تر ... فُلَ في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ )
( دافعتُها فتدافَعَتْ ... مَشْيَ القطاةِ إلى الغديرِ )
( ولثمتُها فتنفَّست ... كتنفُّسِ الظبي البَهيرِ )
( ورَنَت وقالت يا مُنَخَّلُ ... هل بجسمك من فتورِ )

( ما مسَّ جسمي غيرُ حُبِّكَ ... فاهدئي عنِّي وسيرِي )
( يا هندُ هل من نائلٍ ... يا هند للعاني الأسير )
( وأُحبُّها وتُحِبُّنِي ... ويُحِبُّ ناقتَها بعِيري )
( ولقد شربتُ من المُدامَةِ ... بالكبيرِ وبالصغيرِ )
( فإذا سكِرْتُ فإنَّني ... ربُّ الخوَرْنَق والسَّديرِ )
( وإذا صحوتُ فإنَّني ... ربُّ الشُّوَيْهةِ والبعيرِ )
( يا رُبَّ يومٍ - للمنخَّلِ ... قد لها فيه - قصير )

رواية أخرى عن علاقته بالمتجردة وشعره فيها
وأخبرني بخبر المنخل مع المتجردة أيضا علي بن سليمان الأخفش قال
أخبرني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كانت المتجردة امرأة النعمان فاجرة وكانت تتهم بالمنخل وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل فكان يقال إنهما منه وكان جميلا وسيما وكان النعمان أحمر أبرش قصيرا دميما وكان للنعمان يوم يركب فيه فيطيل المكث وكان المنخل من ندمائه لا يفارقه وكان يأتي المتجردة في ذلك اليوم الذي يركب فيه النعمان فيطيل عندها حتى إذا جاء النعمان آذنتها بمجيئه وليدة لها موكلة بذلك فتخرجه
فركب النعمان ذات يوم وأتاها المنخل كما كان يأتيها فلاعبته وأخذت

قيداً فجعلت إحدى حلقتيه في رجله والأخرى في رجلها وغفلت الوليدة عن ترقب النعمان لأن الوقت الذي يجيء فيه لم يكن قرب بعد وأقبل النعمان حينئذ ولم يطل في مكثه كما كان يفعل فدخل إلى المتجردة فوجدها مع المنخل قد قيدت رجلها ورجله بالقيد فأخذه النعمان فدفعه إلى عكب صاحب سجنه ليعذبه - وعكب رجل من لخم - فعذبه حتى قتله وقال المنخل قبل أن يموت هذه الأبيات وبعث بها إلى ابنيه
( ألا َمن مبلغ الحُرّين عنّي ... بأن القوم قد قتلوا أُبيا )
( وإن لم تثأروا لي من عِكَبٍّ ... فلا أَرويتما أبداً صَدِيّا )
( يُطوّف بي عِكبٌ في معدٍّ ... ويطعن بالصُّملّة في قَفَيّا )
قال ابن حبيب وزعم ابن الجصاص أن عمرو بن هند هو قاتل المنخل والقول الأول أصح
وهذه القصيدة التي منها الغناء يقولها في المتجردة وأولها قوله
( إن كنتِ عاذلتي فسيري ... نحوَ العراق ولا تَحوري )
( لا تسألي عن جُلّ ما ... لي وأذكري كرَمي وخِيري )
( وإذا الرياح تناوحَتْ ... بجوانب البيت الكسير )
( ألفيتِني هشّ النديِّ ... بِمرّ قدِحي أو شجيري )
الشجير القدح الذي لم يصلح حسنا ويقال بل هو القدح العارية

( ونَهَى أبو أفعى فقلّدنِي ... أبو أفعى جريري )
( وجُلالة خطّارة ... هوجاءَ جائلةَ الضُّفور )
( تعدو بأشعثَ قد وَهَى ... سِربالُه باقي المسير )
( فُضُلاً على ظهر الطريقِ ... إليك علقمةَ بنَ صير )
( الواهب الكومِ الصّفا ... يا والأوانس في الخُدورِ )
( يُصفيك حين تجيئه ... بالعَصْب والحَلْي الكثير )
( وفوارسٍ كأُوار حرِّ ... النار أحلاسِ الذُّكورِ )
( شدُّوا دوابرَ بيضهم ... في كلّ محكمةِ الفتير )
( فاستلأموا وتَلبَّبُوا ... ان التلبّب للمغير )
( وعلى الجياد المضمَرا ... ت فوارسٌ مثل الصقور )
( يَخرجن من خَلَل الغبا ... ر يَجِفْن بالنَّعَم الكثير )
( فشفيتُ نفسي من أولئك ... والفوائح بالعبير )

( يرفُلن في المسك الذكيّ ... وصائكٍ كدَمِ النّحيرِ )
( يعكُفن مثل أساوِد التَّنُّومِ ... لم تُعكَف لِزور )
( ولقد دخلتُ على الفتا ... ة الخِدرَ في اليومِ المَطيرِ )
( الكاعبِ الحسناءِ تر ... فُلَ في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ )
( فدفعتُها فتدافَعَتْ ... مَشْيَ القطاةِ إلى الغديرِ )
( ولثمتُها فتنفَّست ... كتنفُّسِ الظبي البَهيرِ )
( فَدَنَت وقالت يا مُنَخَّلُ ... ما بجسمك من فتورِ )
( ما شفَّ جسمي غيرُ حُبِّكَ ... فاهدئي عنِّي وسيرِي )
( ولقد شربتُ من المُدا ... مَةِ وبالصغير بالكبير ِ )
( ولقد شرِبتُ الخمر بالخيل ... الإناث وبالذُّكورِ )
( ولقد شرِبتُ الخمر بال ... الصحيح وبالأَسِيرِ )
( فإذا سكِرْتُ فإنَّني ... ربُّ الخوَرْنَق والسَّديرِ )
( وإذا صحوتُ فإنَّني ... ربُّ الشُّوَيْهةِ والبعيرِ )
( يا رُبَّ يومٍ للمنخَّلِ ... قد لها فيه قصير )
( يا هندُ هل من نائلٍ ... يا هند للعاني الأسير )
ومن الناس من يزيد في هذه القصيدة
( وأُحبُّها وتُحِبُّنِي ... ويُحِبُّ ناقتَها بعِيري )
ولم أجده في رواية صحيحة

صوت
( لِمَن شيخان قد نَشَدا كلابا ... كتابَ الله لو قَبِل الكتابا )
( أُناشده فيُعرِض في إباءٍ ... فلا وأَبِي كلابٍ ما أصابا )
الشعر لأمية بن الأسكر الليثي والغناء لعبد الله بن طاهر رمل بالوسطى صنعه ونسبه إلى لميس جاريته وذكر الهشامي أن اللحن لها وذكره عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في جامع أغانيهم ووقع إلي فقال الغناء فيه للدار الكبيرة وكذلك كان يكني عن أبيه وعن إسحاق بن إبراهيم ابن مصعب وجواريهم ويكني عن نفسه وجاريته شاجي وما يصنع في دور إخوته بالدار الصغيرة

أخبار أمية بن الأسكر ونسبه
هو أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الموت بن زهرة ابن زبينة بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار
شاعر فارس مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان من سادات قومه وفرسانهم وله أيام مأثورة مذكورة
وكان له أخ يقال له أبو لاعق الدم وكان من فرسان قومه وشعرائهم وابنه كلاب بن أمية أيضا أدرك النبي فأسلم مع أبيه ثم هاجر إلى النبي فقال أبوه فيه شعرا ذكر أبو عمرو الشيباني أنه هذا الشعر وهو خطأ إنما خاطبه بهذا الشعر لما غزا مع أهل العراق لقتال الفرس وخبره في ذلك يذكر بعد هذا
قال أبو عمرو في خبره فأمره بصلة أبيه وملازمته طاعته
وكان عمر بن الخطاب استعمل كلابا على الأبلة فكان أبواه ينتابانه يأتيه أحدهما في كل سنة ثم أبطآ عليه وكبرا فضعفا عن لقائه فقال أبياتا وأنشدها عمر فرق له ورده إليهما فلم يلبث معهما إلا مدة حتى

نهشته أفعى فمات وهذا أيضا وهم من أبي عمرو وقد عاش كلاب حتى ولي لزياد الأبلة ثم استعفى فأعفاه وسأذكر خبره في ذلك وغيره هاهنا إن شاء الله تعالى

شعره لابنه كلاب لما طالت غيبته
فأما خبره مع عمر فإن الحسن بن علي أخبرني به قال حدثني الحارث بن محمد قال حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي عن الزبيري عن عروة بن الزبير قال
هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام فقالا الجهاد فسأل عمر فأغزاه في جيش وكان أبوه قد كبر وضعف فلما طالت غيبة كلاب عنه قال
( لِمَن شيخان قد نشدا كلابا ... كتابَ الله إن قَبِل الكتابا )
( أناديه فيُعرض في إباء ... فلا وأبي كلابٍ ما أصابا )
( إذا سجَعتْ حمامةُ بطنِ وادٍ ... إلى بَيْضاتها دعَوَا كلابا )
( أتاه مهاجران تكنّفاه ... ففارق شيخه خَطِئا وخابا )
( تركتَ أباك مُرعَشةً يداه ... وأُمَّك ما تُسيغ لها شرابا )
( تُمَسّح مُهره شفقَاً عليه ... وتجنُبه أباعرَها الصعابا )

قال تجنبه وتجنبه واحد من قول الله عز و جل ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) قال
( فإنك قد تركت أباك شيخاً ... يطارق أينُقا شُزُباً طِرابا )
( فإنك والتماسَ الأجرِ بَعدي ... كباغِي الماءِ يتّبع السرابا )

شعره في استرحام عمر لاسترداد ابنه
فبلغت أبياته عمر فلم يردد كلابا وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعا عليه ثم أتاه يوما وهو في مسجد رسول الله وحوله المهاجرون والأنصار فوقف عليه ثم أنشأ يقول
( أعاذلَ قد عذَلْتِ بغيرِ قدرٍ ... ولا تدرِين عاذلَ ما أُلاقي )
( فإمّا كنتِ عاذلتي فَرُدِّي ... كِلاباً إذ توجَّه للعراق )
( ولم أَقضِ اللُّبانة من كِلابٍ ... غداةَ غدٍ وأُذِّن بالفِراق )
( فتى الفِتيان في عُسْرٍ ويُسرٍ ... شديدُ الرُّكن في يوم التلاقِي )
( فلا والله ما باليتَ وَجدي ... ولا شفقي عليكَ ولا اشتياقِي )
( وإبقائي عليكَ إذا شتَونا ... وضمَّك تحت بحري واعتناقي )
( فلو فَلق الفؤادَ شَدِيدُ وجْدٍ ... لهَمَّ سوادُ قلبي بانفلاقِ )
( سأَستعدي على الفاروق ربًّا ... له دُفِعَ الحجيجُ إلى بُساقِ )

( وأدعو الله مجتهداً عليه ... ببطن الأخشَبين إلى دُفاق )
( إنِ الفاروقُ لم يردد كلاباً ... الى شيخين هامُهما زَواق )
قال فبكى عمر بكاء شديدا وكتب برد كلاب إلى المدينة فلما قدم دخل إليه فقال ما بلغ من برك بأبيك قال كنت أوثره وأكفيه أمره وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحتلب له فأسقيه فبعث عمر إلى أمية من جاء به إليه فأدخله يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى فقال له كيف أنت يا أبا كلاب قال كما تراني يا أمير المؤمنين قال فهل لك من حاجة قال نعم أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت فبكى عمر ثم قال ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها ففعل فناوله عمر الإناء وقال دونك هذا يا أبا كلاب فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال لعمر والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء فبكى عمر وقال هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله وجعل عمر يبكي ومن حضره وقال لكلاب الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما وأمر له بعطائه وصرفه مع أبيه فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه

أصيبت إبله بالهيام فأخرجه قومه
ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري أن أمية كانت له إبل هائمة - أي أصابها الهيام وهو داء يصيب الإبل من العطش - فأخرجته بنو بكر مخافة أن يصيب إبلهم فقال لهم يا بني بكر إنما هي ثلاث ليال ليلة بالبقعاء وليلة بالفرع وليلة بلقف في سامر من بني بكر فلم ينفعه ذلك وأخرجوه فأتى مزينة فأجاروه وأقام عندهم إلى أن صحت إبله وسكنت فقال يمدح مزينة
( تكنّفها الهُيام وأخرجوها ... فما تأوي إلى إبل صِحاحٍ )
( فكان إلى مُزَينةَ منتهاها ... على ما كان فيها من جُناح )
( وما يكن الجُناحُ فإنّ فيها ... خلائقَ ينتمين إلى صلاح )
( ويوما في بني ليث بن بكرٍ ... تُراعى تحت قعقعة الرماح )
( فإمَّا أُصبِحَنْ شيخاً كبيراً ... وراء الدار يُثقِلنِي سلاحي )
( فقد آتي الصريخَ إذا دعاني ... على ذي مَنْعة عَتِدٍ وَقاح )
( وشرُّ أخي مؤامرةٍ خَذولٌ ... على ما كان مؤتِكلٌ ولاح )
عمَّر حتى خرف وسُخِر منه
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي

عمرو الشيباني عن أبيه وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال عمر أمية بن الأسكر عمرا طويلا حتى خرف فكان ذات يوم جالسا في نادي قومه وهو يحدث نفسه إذ نظر إلى راعي ضأن لبعض قومه يتعجب منه فقام لينهض فسقط على وجهه فضحك الراعي منه وأقبل ابناه إليه فلما رآهما أنشأ يقول
( يا بْنَي أمية إني عنكما غانِ ... وما الغنى غير أني مُرعَشٌ فانِ )
( يابْنَي أمية إلاّ تحفظا كِبَري ... فإنما أنتما والثُّكْلُ سِيّانِ )
( هل لكما في تُراثٍ تذهبان به ... إن التراثَ لِهَيّان بنِ بَيّان )
- يقال هيان بن بيان وهي ترى للقريب والبعيد -
( أصبحت هُزْءاً لراعي الضأن يَسخَر بِي ... ماذا يَريبك مِنِّي راعيَ الضّان )
( اعجَبْ لغيريَ إني تابع سلفي ... أعمامَ مجد وأجدادي وإخواني )
( وانعَقْ بضأنك في أرض تُطِيف بها ... بين الأَساف وأنتجها بِجِلْذان )
- جلذان موضع بالطائف -
( ببلدة لا ينام الكالئان بها ... ولا يقَرُّ بها أصحابُ ألوان )

إعجاب الإمام علي بشعره
وهذه الأبيات تمثل بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في خطبة له على المنبر بالكوفة
حدثنا بها أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري

قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن أبي رجاء قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال قال عبد الله بن عدي بن الخيار
شهدت الحكمين ثم أتيت الكوفة وكانت لي إلى علي عليه السلام حاجة فدخلت عليه فلما رآني قال مرحبا بك يابن أم قتال أزائرا جئتنا أم لحاجة فقلت كل جاء بي جئت لحاجة وأحببت أن أجدد بك عهدا وسألته عن حديث فحدثني على ألا أحدث به واحدا فبينا أنا يوما بالمسجد في الكوفة إذا علي صلوات الله عليه متنكب قرنا له فجعل يقول الصلاة جامعة وجلس على المنبر فاجتمع الناس وجاء الأشعث بن قيس فجلس إلى جانب المنبر فلما اجتمع الناس ورضي منهم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم تزعمون أن عندي من رسول الله ما ليس عند الناس ألا وإنه ليس عندي إلا ما في قرني هذا ثم نكت كنانته فأخرج منها صحيفة فيها المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم من احدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فقال له الأشعث بن قيس هذه والله عليك لا لك دعها تترحل فخفض علي - صلوات الله عليه - إليه بصره وقال ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك ابن حائك منافق ابن منافق كافر ابن كافر والله لقد

الإسلام مرة والكفر مرة فما فداك من واحد منهما حسبك ولا مالك ثم رفع إلي بصره فقال يا عبيد الله
( أصبحتُ قِنًّا لراعي الضأن يلعب بي ... ماذا يَريبك منِّي راعيَ الضان )
فقلت بأبي أنت وأمي قد كنت والله أحب أن أسمع هذا منك قال هو والله ذلك قال
( فما قِيلَ لي من بعدها من مقالة ... ولا عَلِقتْ مني جديدا ولا دَرْسا )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث عن المدائني قال
لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة فكان يغزو مع المسلمين منها مغازيهم وشهد فتوحات كثيرة وبقي إلى أيام زياد فولاه الأبلة فسمع كلاب يوما عثمان بن أبي العاص يحدث أن داود نبي الله - عليه السلام - كان يجمع أهله في السحر فيقول ادعوا ربكم فإن في السحر ساحة لا يدعو فيها عبد مؤمن إلا غفر له إلا أن يكون عشارا أو عريفا
فلما سمع ذلك كلاب كتب إلى زياد فاستعفاه من عمله فأعفاه
قال المدائني ولم يزل كلاب بالبصرة حتى مات والمربعة المعروفة بمربعة كلاب بالبصرة منسوبة إليه
وقال أبو عمرو الشيباني كان بين بني غفار قومه وبني ليث حرب فظفرت بنو ليث بغفار فحالف رحضة بن خزيمة بن خلاف بن حارثة بن

وقومه جميعا بني أسلم بن أفصى بن خزاعة فقال أمية بن الأسكر في ذلك وكان سيد بني جندع بن ليث وفارسهم
( لقد طِبْتَ نفساً عن مواليك يا رَحْضا ... وآثرتَ أذناب الشوائل والحمضا )
( تُعللنا بالنّصر في كل شتوة ... وكلّ ربيع أنت رافضنا رفضا )
( فلولا تأسّينا وحدُّ رماحنا ... لقد جلاّ قومٌ لحمنا تَرِباً قَضَّا )
- القض والقضيض الحصا الصغار -

تمثل عبد الله بن الزبير بشعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال
افتعل عمرو بن الزبير كتابا عن معاوية إلى مروان بن الحكم بأن يدفع إليه مالا فدفعه إليه فلما عرف معاوية خبره كتب إلى مروان بأن يحبس عمرا حتى يؤدي المال فحبسه مروان وبلغ الخبر عبد الله بن الزبير فجاء إلى مروان وسأله عن الخبر فحدثه به فقال ما لكم في ذمتي فأطلق عمرا وأدى عبد الله المال عنه وقال والله إني لأؤديه عنه وإني لأعلم أنه غير شاكر ثم تمثل قول أمية بن الأسكر الليثي
( فلولا تأسّينا وحدّ رماحنا ... لقد جرّ قوم لحمنا تَرِبا قَضّا )
وقال ابن الكلبي حدثنا بعض بني الحارث بن كعب قال

سيدان يخطبان ابنة له جميلة
اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ فقدم أمية بن الأسكر ومعه بنت له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فقالت أم كلاب امرأة أمية من هذان الرجلان قال هذا ابن الديان وهذا عامر بن الطفيل قالت أعرف ابن الديان ولا أعرف عامرا قال هل سمعت بملاعب الأسنة قالت نعم والله قال فهذا ابن أخيه
وأقبل يزيد فقال يا أمية أنا ابن الديان صاحب الكثيب ورئيس

مذحج ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا قال أمية بخ بخ
فقال عامر جدي الأحزم وعمي أبو الأصبع وعمي ملاعب الأسنة وجدي الرحال وأبي فارس قرزل قال أمية بخ بخ مرعى ولا كالسعدان فأرسلها مثلا
فقال يزيد يا عامر هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحه إلى رجل من قومك قال لا قال فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدحهم إلى قومي قال نعم قال فهل لك نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان فقال لا قال فهل ملكناكم ولم تملكونا قال نعم فنهض يزيد وقام ثم قال
( أُمَيّ يابنَ الأسكر بنِ مُدلج ... لا تجعلَنْ هوازنا كَمذحِجِ )
( إنك إن تلهج بأمر تلجَجِ ... ما النّبع في مغرِسه كالعَوْسج )
( ولا الصّريحُ المحضُ كالممزَّج ... )
وقال مرة بن دودان العقيلي وكان عدوا لعامر بن الطفيل

( يا ليت شعري عنك يا يزيدُ ... ماذا الذي من عامر تريدُ )
( لكلّ قوم فخرُهم عتيدُ ... أمُطلَقون نحن أم عبيدُ )
( لا بل عَبيدٌ زادُنا الهَبيد ... )
فزوج أمية يزيد فقال يزيد في ذلك
( يا للرَجال لطارق الأحزان ... ولعامر بن طفيلٍ الوسنانِ )
( كانت إتاوةُ قومه لمحرِّق ... زمناً وصارت بعدُ للنعمان )
( عَدّ الفوارسَ من هوازن كلّهَا ... كثَفْا عليّ وجئتُ بالديان )
( فإذا ليَ الفضلُ المبين بوالدٍ ... ضخم الدَّسِيعة أزأنيٍّ ويمان )
( يا عامِ إنك فارسٌ متهوّرٌ ... غضُّ الشباب أخو نَديً وقيان )
( واعلم بأنك يابن فارس قرْزَل ... دون الذي تسمو له وتُداني )
( ليستْ فوارسُ عامرٍ بمُقِرَّةٍ ... لك بالفضيلة في بني عَيْلان )
( فإذا لقيتَ بني الخميس ومالكاً ... وبني الضَّباب وحيَّ آل قنان )
( فاسأل مَنِ المرةُ المُنَوَّء باسمه ... والدافعُ الأعداء عن نَجران )
( يُعطَى المَقادةَ في فوارس قومِه ... كرما لعمرك والكريم يمان )
فقال عامر بن الطفيل مجيبا له
( يا للرجال لطارق الأحزان ... ولما يجيء به بنو الدّيانِ )
( فخروا عليَّ بِحَبْوةٍ لمحَرِّق ... وإتاوة سلفت من النعمان )
( ما أنت وابنَ محرقٍ وقبيلَه ... وإتاوةَ اللخميِّ في عَيْلانِ )

( فاقصِد بذَرْعك قَصْد أمرك قصده ... ودعِ القبائل من بني قحطان )
( إذ كان سالفُنا الإِتاوة فيهم ... أولى ففخرك فخر كل يمان )
( وافخر بِرَهط بني الحَماس ومالك ... وابن الضِّباب وزعبل وقيان )
( وأنا المنخل وابنُ فارس قُرْزُلٍ ... وأبو نزار زانني ونماني )
( وإذا تعاظمت الأمور موازنا ... كنتُ المنوَّهَ باسمه والثاني )
فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرة بن دودان وقالوا أنت شاعر بني عامر ولم تهج بني الديان فقال
( تكلّفني هوازنُ فخْرَ قومٍ ... يقولون الأنامُ لنا عبيدُ )
( أبوهم مَذْحِج وأبو أبيهم ... إذا ما عُدّت الآباءُ - هودُ )
( وهل لي إن فخَرتُ بغير فخر ... مقالٌ والأنام لهم شهود )
( فإنّا لم نزل لهمُ قطينا ... تجيء إليهمُ منا الوفود )
( فإنّا نضرب الأحلام صفحا ... عن العلياء أو من ذا يكيد )
( فقولوا يا بني عَيلان كنا ... قِنَّاً وما عنكم محيد )
وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي والتوليد فيه بين وشعره شعر ركيك غث لا يشبه أشعار القوم وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي

شعره في يوم المريسيع
وقال محمد بن حبيب فيما روى عنه أبو سعيد السكري ونسخته من كتابه قال أبو عمرو الشيباني
أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن رهط أمية بن

الأسكر يقال لهم بنو زبينة أصابهم أصحاب النبي يوم المريسيع في غزوته بني المصطلق وكانوا جيرانه يومئذ - ومعهم ناس من بني لحيان من هذيل ومع بني جندع رجل من خزاعة يقال له طارق فاتهمه بنو ليث بهم وأنه دل عليهم وكانت خزاعة مسلمها ومشركها يميلون إلى النبي على قريش فقال أمية بن الأسكر لطارق الخزاعي
( لعمرك إني والخزاعيُّ طارقا ... كنَعجة عادٍ حتفَها تتحفّر )
( أثارت عليها شَفرةً بِكُراعها ... فظلّت بها من آخر الليل تجزَر )
( شَمِتَّ بِقومٍ هم صديقك أُهلِكوا ... أصابهمُ يوم من الدهر أعسر )
( كأنك لم تُنبأ بيوم ذُؤالة ... ويومٍ الرّجيع إذ تنحّر حبتر )
( فهلاّ أباكم في هذيل وعمَّكم ... ثأرتُمْ وهمْ أعدى قلوبا وأوتر )
( ويوم الأراك يوم أُردِف سبيكم ... صميمُ سَراة الدَّيل عبدٌ ويعمرُ )
( وسَعْد بن ليث إذ تُسلُّ نساؤكم ... وكلب بن عوف نحرّوكم وعقّروا )
( عجبت لشيخ من ربيعةَ مُهْتَرٍ ... أُمِرّ له يومٌ من الدهر منكَر )
فأجابه طارق الخزاعي فقال
( لعمرك ما أدري وإني لقائل ... ألى أيِّ مَن يظُنّني أتعذَّر )

( أُعنَّف أَنْ كانت زبِينة أُهلكت ... ونال بني لحيانَ شرّ ونُفّروا )
وهذه الأبيات الابتداء والجواب تمثل بابتدائها ابن عباس في رسالة إلى معاوية وتمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها
حدثني بذلك أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي العطار بالكوفة قال حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال حدثنا زيد بن المعذل النمري قال حدثنا يحيى بن شعيب الخراز قال حدثنا أبو مخنف قال
لما بلغ معاوية مصاب أمير المؤمنين علي - عليه السلام - دس رجلا من بني القين إلى البصرة يتجسس الأخبار ويكتب بها إليه فدل على القيني بالبصرة في بني سليم فأخذ وقتل
وكتب ابن عباس من البصرة إلى معاوية
أما بعد فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال الشاعر
( لعمرك إني والخزاعيَُّ طارقا ... كنَعجة عادٍ حتفَها تتحفّر )
( أثارت عليها شَفرةً بكُراعها ... فظلّت بها من آخر الليل تجزَرُ )
( شَمِتَّ بقومٍ هم صديقك أُهلِكوا ... أصابهمُ يوم من الدهر أمعر )
فأجابه معاوية أما بعد فإن الحسن قد كتب إلي بنحو مما كتبت به وأنبتني بما لم أجن ظنا وسوء رأي وإنك لم تصب مثلنا ولكن مثلنا ومثلكم كما قال طارق الخزاعي
( فوالله ما أدري وإني لصادق ... إلى أيِّ من يَظنُّني أتعذَّر )
( أُعنَّف أَنْ كانتَ زبِينةُ أُهلِكت ... ونال بني لِحيان شرّ ونُفِّروا )

صوت
( أبُنيّ إني قد كبِرتُ ورابني ... بَصرِي وفيّ لمُصلح مستمتَعُ )
( فلئن كبِرتُ لقد دنوتُ من البلى ... وحَلّتْ لكم منِّي خَلائقُ أربع )
عروضه من الكامل والشعر لعبدة بن الطبيب والغناء لابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها عن إسحاق وفيه لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها عنه أيضا

نسب عبدة بن الطبيب وأخباره
هو فيما ذكر ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبو نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعي وأبي عمرو الشيباني وأبي فروة العكلي عبدة بن الطبيب والطبيب اسمه يزيد بن عمرو بن وعلة بن أنس بن عبد الله بن عبد تيم بن جشم بن عبد شمس ويقال عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم
وقال ابن حبيب خاصة وقد أخبرني أبو عبيدة قال
تميم كلها كانت في الجاهلية يقال لها عبد تيم وتيم صنم كان لهم يعبدونه
أجاد الشعر ولم يكثر
وعبدة شاعر مجيد ليس بالمكثر وهو مخضرم أدرك الإسلام فأسلم وكان في جيش النعمان بن المقرن الذين حاربوا معه الفرس بالمدائن وقد ذكر ذلك في قصيدته التي أولها
( هل حَبلُ خَوْلَة بعد الهَجر موصولُ ... أم أنت عنها بَعيدُ الدار مشغولُ )

( حلّت خُويْلة في دارٍ مجاوِرةً ... أهلَ المدينة فيها الديك والفيل )
( يقارعون رؤوس العُجْم ضاحيةً ... منهم فوارس لا عُزْلٌ ولا مِيل )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال
أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطبيب
( فما كان قيس هُلكهُ هُلكَ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما )
وتمام هذه الأبيات أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن السكري والمبرد والأحول لعبدة يرثي قيسا
( عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصم ... ورحمتُه ما شاء أن يترحّما )
( تحيةَ من أوليتَه منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ بلادَك سلَّما )
( وما كان قيس هُلكهُ هلكَ واحد ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما )

كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال
قال رجل لخالد بن صفوان كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال لا تقل ذاك فوالله ما أبى من عي ولكنه كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة كما يرى تركه مروءة وشرفا قال

( وأجرأ من رأيتُ بِظَهْرِ غيبٍ ... على عيب الرجال أولوا العيوب )
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه
أي المناديل أشرف فقال قائل منهم مناديل مصر كأنها غرقىء البيض وقال آخرون مناديل اليمن كأنها نور الربيع فقال عبد الملك مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطبيب قال
( لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخبيةٍ ... وفارَ لِلقوم باللحم المراجيلُ )
( وَرْدٌ وأشقرُ ما يؤنيه طابخهُ ... ما غيَّر الغليُ منه فهو مأكول )
( ثُمّتَ قمنا إلى جُرُد مُسوَّمةٍ ... أعرافُهنّ لأيدينا مناديل )
يعني بالمراجيل المراجل فزاد فيها الياء ضرورة

صوت
( إن الليالي أسرعَت في نقضي ... أخذن بعَضِي وتركن بَعْضِي )
( حَنَيْنَ طُولي وطَوَيْن عَرْضِي ... أقعدْنَني من بعد طول نهض )
عروضه من الرجز الشعر للأغلب العجلي والغناء لعمرو بن بانة هزج بالبنصر

أخبار الأغلب ونسبه
هو فيما ذكر ابن قتيبة الأغلب بن جشم بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
وهو أحد المعمرين عمر في الجاهلية عمرا طويلا وأدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه وهاجر ثم كان فيمن توجه إلى الكوفة مع سعد بن أبي وقاص فنزلها واستشهد في وقعة بنهاوند فقبره هناك في قبور الشهداء
هو أول من رجز الأراجيز من العرب
ويقال إنه أول من رجز الأراجيز الطوال من العرب وإياه عن الحجاج بقوله مفتخرا
( إني أنا الأغلب أَمسى قد نشد ... )

قال ابن حبيب كانت العرب تقول الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة وما جرى هذا المجرى فتأتي منه بأبيات يسيرة فكان الأغلب أول من قصد الرجز ثم سلك الناس بعده طريقته
أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلينا قال أخبرنا محمد بن سلام قال حدثنا الأصمعي وأخبرنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا معمر بن عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء قال
كانت للأغلب سرحة يصعد عليها ثم يرتجز
( قد عرَفَتْني سَرْحتي فأطَّتِ ... وقد شَمِطتُ بعدها واشمطَّتِ )
فاعترضه رجل من بني سعد ثم أحد بني الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعد فقال له

أنشد من شعر الجاهلية فأنقص عمر عطاءه
( قَبُحتَ من سالِفةٍ ومن قفا ... عبدٌ إذا ما رسب القوم طفا )
( كما شِرار الرِّعْي أَطرافُ السّفَى ... )

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال حدثني نصر بن ناب عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال
كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء قومك ما قالوا في الإسلام فأرسل إلى الأغلب العجلي فاستنشده فقال
( لقد سألتَ هيِّناً موجودا ... أرجَزاً تريد أم قصيدا )
ثم أرسل إلى لبيد فقال له إن شئت مما عفا الله عنه يعني الجاهلية فعلت قال لا أنشدني ما قلت في الإسلام فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة وقال أبدلني الله عز و جل بهذه في الإسلام مكان الشعر
فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص عمر من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد فكتب إلى عمر يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة
أخبرني محمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال

حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا علي بن القاسم عن الشعبي قال
دخل الأغلب على عمر فلما رآه قال هيه أنت القائل
( أرجَزاً تريد أم قصيدَا ... لقد سألتَ هيِّناً موجودا )
فقال يا أمير المؤمنين إنما أطعتك فكتب عمر إلى المغيرة أن أردد عليه الخمس المائة وأقر الخمس المائة للبيد

شعره في سجاح حين تزوجت مسيلمة الكذاب
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال الأغلب العجلي في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب
( لقد لقيتْ سجاح من بعد العمى ... مُلَوَّحاً في العين مجلود القَرا )
( مثل العَتيق في شبابٍ قد أتى ... من اللُّجَيْميّين أصحابِ القِرَى )
( ليس بذي واهنةٍ ولا نَسا ... نشا بلحم وبخبز ما اشترى )

( حتى شتا يَنتح ذِفراه الندى ... خاظى البَضيع لحمهُ خظابظا )
( كأنما جمَّع من لحم الخُصى ... إذا تمطَّى بين بُرديه صأَى )
( كأنَّ عِرق أيره إذا ودى ... حَبلُ عجوز ضَفَّرت سبعَ قُوى )
( يمشي على قوائمٍ خمس زَكا ... يرفع وُسطاهنّ من بَرد النَّدى )
( قالت متى كنت أبا الخير متى ... قال حديثا لم يغيِّرني البِلى )
( ولم أفارق خُلَّة لي عن قِلَى ... فانتُسفَتْ فَيشتُه ذاتُ الشَّوى )
( كأن في أجلادها سبعَ كُلَى ... ما زال عنها بالحديث والمُنى )
( والخلُقِ السَّفسافِ يُردِي في الردى ... قال ألا ترَينَه قالت أرى )
( قال ألا أدخله قالت بلى ... فشام فيها مثلَ محارث الغضى )
( يقول لما غاب فيها واستوى ... لمِثلها كنتُ أُحسِّيك الحَسا )

من أخبار سجاح
وكان من خبر سجاح وادعائها النبوة وتزويج مسيلمة الكذاب إياها ما أخبرنا به إبراهيم بن النسوي يحيى عن أبيه عن شعيب عن سيف

أن سجاح التميمية ادعت النبوة بعد وفاة رسول الله واجتمعت عليها بنو تميم فكان فيما ادعت أنه أنزل عليها يأيها المؤمنون المتقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون
واجتمعت بنو تميم كلها إليها لتنصرها وكان فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن بدر ووجوه تميم كلها
وكان مؤذنها شبيب بن ربعي الرياحي فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذاب وهو باليمامة وقالت يا معشر تميم اقصدوا اليمامة فاضربوا فيها كل هامة وأضرموا فيها نارا ملهامة حتى تتركوها سوداء كالحمامة
وقالت لبني تميم إن الله لم يجعل هذا الأمر في ربيعة وإنما جعله في مضر فاقصدوا هذا الجمع فإذا فضضتموه كررتم على قريش فسارت في قومها وهم الدهم الداهم وبلغ مسيلمة خبرها فضاق بها ذرعا وتحصن في حجر حصن اليمامة وجاءت في جيوشها فأحاطت به فأرسل إلى وجوه قومه وقال ما ترون قالوا نرى أن نسلم هذا الأمر إليها وتدعنا فإن لم نفعل فهو البوار
وكان مسيلمة ذا دهاء فقال سأنظر في هذا الأمر ثم بعث إليها إن الله تبارك وتعالى أنزل عليك وحيا وأنزل علي فهلمي نجتمع فنتدارس ما أنزل الله علينا فمن عرف الحق تبعه واجتمعنا فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك

فبعثت إليه أفعل فأمر بقبة أدم فضربت وأمر بالعود المندلي فسجر فيها وقال أكثروا من الطيب والمجمر فإن المرأة إذا شمت رائحة الطيب ذكرت الباه ففعلوا ذلك
وجاءها رسوله يخبرها بأمر القبة المضروبة للاجتماع فأتته فقالت هات ما أنزل عليك فقال ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نطفة تسعى بين صفاق وحشا من بين ذكر وأنثى وأموات وأحيا ثم إلى ربهم يكون المنتهى قالت وماذا قال ألم تر أن الله خلقنا أفواجا وجعل النساء لنا أزواجا فنولج فيهن الغراميل إيلاجا ونخرجها منهن إذا شئن إخراجا قالت فبأي شيء أمرك قال
( أَلا قومي إلى النَّيكِ ... فقد هُيِّي لك المضجعْ )
( فإن شئتي ففي البيت ... وإن شئتي ففي المُخدعْ )
( وإن شئتي سلقناك ... وإن شئتي على أربعْ )
( وإن شئتي بثلثيه ... وإن شئتي به أجمعْ )
قال فقالت لا إلا به أجمع قال فقال كذا أوحى الله إلي فواقعها فلما قام عنها قالت إن مثلي لا يجري أمرها هكذا فيكون وصمة على قومي وعلي ولكني مسلمة النبوة إليك فاخطبني إلى أوليائي يزوجوك ثم أقود تميما معك

فخرج وخرجت معه فاجتمع الحيان من حنيفة وتميم فقالت لهم سجاح إنه قرأ علي ما أنزل عليه فوجدته حقا فاتبعته ثم خطبها فزوجوه إياها وسألوه عن المهر فقال قد وضعت عنكم صلاة العصر فبنو تميم إلى الآن بالرمل لا يصلونها ويقولون هذا حق لنا ومهر كريمة منا لا نرده قال وقال شاعر من بني تميم يذكر أمر سجاح في كلمة له
( أضحَتْ نَبِيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياءُ الله ذُكْرانا )
قال وسمع الزبرقان بن بدر الأحنف يومئذ وقد ذكر مسيلمة وما تلاه عليهم فقال الأحنف والله ما رأيت أحمق من هذا النبي قط فقال الزبرقان والله لأخبرن بذلك مسيلمة قال إذا والله أحلف أنك كذبت فيصدقني ويكذبك قال فأمسك الزبرقان وعلم أنه قد صدق
قال وحدث الحسن البصري بهذا الحديث فقال أمن والله أبو بحر من نزول الوحي قال فأسلمت سجاح بعد ذلك وبعد قتل مسيلمة وحسن إسلامها

صوت
( كم ليلةٍ فيكِ بِتُّ أسهرها ... ولوعةٍ من هواك أُضمِرُها )
( وحُرقةٍ والدموعُ تُطفئها ... ثم يعود الجوى فيُسعِرها )

( بيضاء رُود الشباب قد غُمِسَت ... في خَجل دائب يعصفرها )
( الله جارٌ لها فما امتلأَت ... عيناي إلا من حيثُ أُبصِرُها )
الشعر للبحتري والغناء لعريب رمل مطلق من مجموع أغانيها وهو لحن مشهور في أيدي الناس والله أعلم

أخبار البحتري ونسبه
هو الوليد بن عبيد الله بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عثمة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيىء بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
هجاؤه جيد على ندرته
ويكنى أبا عبادة شاعر فاضل فصيح حسن المذهب نقي الكلام مطبوع كان مشايخنا رحمة الله عليهم يختمون به الشعراء وله تصرف حسن فاضل نقي في ضروب الشعر سوى الهجاء فإن بضاعته فيه نزرة وجيده منه قليل وكان ابنه أبو الغوث يزعم أن السبب في قلة بضاعته في هذا الفن أنه لما حضره الموت دعابه وقال له اجمع كل شيء قلته في الهجاء ففعل فأمره بإحراقه ثم قال له يا بني هذا شيء قلته في وقت فشفيت به غيظي وكافأت به قبيحا فعل بي وقد أنقضى أربي في ذلك وإن بقي روي وللناس أعقاب يورثونهم العداء والمودة

وأخشى أن يعود عليك من هذا شيء في نفسك أو معاشك لا فائدة لك ولي فيه قال فعلمت أنه قد نصحني وأشفق علي فأحرقته
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي الغوث
وهذا كما قال أبو الغوث لا فائدة لك ولا لي فيه لأن الذي وجدناه وبقي في أيدي الناس من هجائه أكثره ساقط مثل قوله في ابن شير زاد
( نفقْتَ نُفُوق الحمار الذَّكَرْ ... وبان ضُراطُك عنا فمُرْ )
ومثل قوله في علي بن الجهم
( ولو أعطاك ربُّك ما تمَنَّى ... لزادك منه في غِلَظ الأيور )
( عَلامَ طَفِقْت تهجوني مليًّا ... بما لفَقِّت من كذبٍ وزُورِ )
وأشباه لهذه الأبيات ومثلها لا يشاكل طبعه ولا تليق بمذهبه وتنبىء بركاكتها وغثاثة ألفاظها عن قلة حظه في الهجاء وما يعرف له هجاء جيد إلا قصيدتان إحداهما قوله في ابن أبي قماش
( مرّت على عَزْمِها ولم تقفِ ... مُبديةً للشِّنان والشَّنَفِ )
يقول فيها لابن أبي قماش

( قد كان في الواجب المُحقَّق أن ... تعرف ما في ضميرها النّطفِ )
( بما تَعاطَيتَ في العيوب وما ... أُوتِيت من حكمة ومن لَطَفِ )
( أمَا رأيت المرّيخَ قد مازج الزّهرة ... في الجدّ منه والشّرَفِ )
( وأخبرتك النّحوسُ أنكما ... في حالتي ثابت ومُنْصَرَف )
( من أين أعملت ذا وأنت على ... التَّقْويم والزِّيج جِدّ مُنْعكفِ )
( أما زجرتَ الطّير العلا أو تَعَيَّفْت ... المها أَو نظرت في الكَتِفِ )
( رذُلت في هذه الصناعةِ أو ... أكديتَ أو رمتَها على الخَرَفِ )
( لم تَخْطُ باب الدّهليز منصرِفاً ... إلا وخَلخالُها مع الشَّنَفِ )
وهي طويلة ولم يكن مذهبي ذكرها إلا للإخبار عن مذهبه في هذا الجنس وقصيدته في يعقوب بن الفرج النصراني فإنها وإن لم تكن في أسلوب هذه وطريقتها تجري مجرى التهكم باللفظ الطيب الخبيث المعاني وهي
( تظنّ شُجُونِيَ لم تَعْتَلِجْ ... وقد خلج البَيْنُ من قد خَلَجْ )
وكان البحتري يتشبه بأبي تمام في شعره ويحذو مذهبه وينحو نحوه في البديع الذي كان أبو تمام يستعمله ويراه صاحبا وإماما ويقدمه على نفسه ويقول في الفرق بينه وبينه قول مصنف إن جيد أبي تمام خير من جيده ووسطه ورديئه خير من وسط أبي تمام ورديئه وكذا حكم هو على نفسه

من أشعر هو أو أبو تمام
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن علي الياقطاني قال
قلت للبحتري أيما أشعر أنت أو أبو تمام فقال جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني أبو الغوث يحيى بن البحتري قال
كان أبي يكنى أبا الحسن وأبا عبادة فأشير علي في أيام المتوكل بأن أقتصر على أبي عبادة فإنها أشهر فاقتصرت عليها
حدثني محمد قال
سمعت عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري وقد اجتمعنا في دار عبد الله بالخلد وعنده المبرد في سنة ست وسبعين ومائتين وقد أنشد البحتري شعرا لنفسه قد كان أبو تمام قال في مثله أنت والله أشعر من أبي تمام في هذا الشعر قال كلا والله إن أبا تمام للرئيس والأستاذ والله ما أكلت الخبز إلا به فقال له المبرد لله درك يا أبا الحسن فإنك تأبى إلا شرفا من جميع جوانبك
حدثني محمد قال حدثني الحسين بن إسحاق قال
قلت للبحتري إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام فقال والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت أن الأمر كان كما قالوا ولكني والله تابع له آخذ منه لائذ به نسيمي يركد عند هوائه وأرضي تنخفض عند سمائه
حدثني محمد بن يحيى قال حدثني سوار بن أبي شراعة عن

البحتري قال وحدثني أبو عبد الله الألوسي عن علي بن يوسف عن البحتري قال
كان أول أمري في الشعر ونباهتي أني صرت إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم فأقبل علي وترك سائر من حضر فلما تفرقوا قال لي أنت أشعر من أنشدني فكيف بالله حالك فشكوت خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق بالشعر وشفع لي إليهم وقال امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي اربعة آلاف درهم فكانت أول مال أصبته وقال علي بن يوسف في خبره فكانت نسخة كتابه يصل كتابي هذا على يد الوليد أبي عبادة الطائي هو على بذاذته شاعر فأكرموه
حدثني جحظة قال سمعت البحتري يقول كنت أتعشق غلاما من أهل منبج يقال له شقران واتفق لي سفر فخرجت فيه فأطلت الغيبة ثم عدت وقد التحى فقلت فيه وكان أول شعر قلته
( نبَتَتْ لِحْيةُ شُقرانَ ... شَقِيقِ النَّفْسِ بَعْدِي )
( حُلِقت كيف أتته ... قبل أن يُنجِزَ وعدِي )

كيف تم التعارف بينه وبين أبي تمام
وقد روي في غير هذه الحكاية أن اسم الغلام شندان
حدثني علي بن سليمان قال حدثني أبو الغوث بن البحتري عن

أبيه وحدثني عمي قال حدثني علي بن العباس النوبختي عن البحتري وقد جمعت الحكايتين وهما قريبتان قال
أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي
( أأفاق صبٌّ من هَوىً فأُفِيقَا ... أو خان عهداً أو أطاع شفيقا )
فسر بها أبو سعيد وقال أحسنت والله يا فتى وأجدت قال وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه فوق كل من حضر عنده تكاد تمس ركبته ركبته فأقبل علي ثم قال يا فتى أما تستحي مني هذا شعر لي تنتحله وتنشده بحضرتي فقال له أبو سعيد أحقا تقول قال نعم وإنما علقه مني فسبقني به إليك وزاد فيه ثم اندفع فأنشد أكثر هذه القصيدة حتى شككني علم الله في نفسي وبقيت متحيرا فأقبل علي أبو سعيد فقال يا فتي قد كان في قرابتك منا وودك لنا ما يغنيك عن هذا فجعلت أحلف له بكل محرجة من الأيمان أن الشعر لي ما سبقني إليه أحد ولا سمعته منه ولا انتحلته فلم ينفع ذلك شيئا وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتى تمنيت أني سخت في الأرض فقمت منكسر البال أجر رجلي فخرجت فما هو إلا أن بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان فردوني فأقبل علي الرجل فقال الشعر لك يا بني والله ما قلته قط ولا سمعته إلا منك ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك ولوددت ألا تلد أبدا طائية إلا مثلك وجعل أبو سعيد يضحك ودعاني أبو تمام وضمني إليه وعانقني وأقبل

ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به هذه رواية من ذكرت
وقد حدثني علي بن سليمان الأخفش أيضا قال حدثني عبد الله بن الحسين بن سند القطربلي
أن البحتري حدثه أنه دخل على أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري وقد مدحه بقصيدة وقصده بها فألفى عنده أبا تمام وقد أنشده قصيدة له فيه فاستأذنه البحتري في الإنشاد وهو يومئذ حديث السن فقال له يا غلام أتنشدني بحضرة أبي تمام فقال تأذن ويستمع فقام فأنشده إياها وأبو تمام يسمع ويهتز من قرنه إلى قدمه استحسانا لها فلما فرغ منها قال أحسنت والله يا غلام فممن أنت قال من طيء فطرب أبو تمام وقال من طيء الحمد لله على ذلك لوددت أن كل طائية تلد مثلك وقبل بين عينيه وضمه إليه وقال لمحمد بن يوسف قد جعلت له جائزتي فأمر محمد بها فضمت إلى مثلها ودفعت إلى البحتري وأعطى أبا تمام مثلها وخص به وكان مداحا له طول أيامه ولابنه بعده ورثاهما بعد مقتليهما فأجاد ومراثيه فيهما أجود من مدائحه وروي أنه قيل له في ذلك فقال من تمام الوفاء أن تفضل المراثي المدائح لا كما قال الآخر وقد سئل عن ضعف مراثيه فقال كنا نعمل للرجاء نحن نعمل اليوم للوفاء وبينهما بعد
حدثني حكم بن يحيى الكنتحي قال

بعض من صفاته
كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة وأبخلهم على كل شيء وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا ويقول كلا أجاع الله أكبادكما وأعرى أجلادكما وأطال إجهادكما
قال حكم بن يحيى وأنشدته يوما من شعر أبي سهل بن نوبخت فجعل يحرك رأسه فقلت له ما تقول فيه فقال هو يشبه مضغ الماء ليس له طعم ولا معنى
وحدثني أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني الكاتب قال
دخلت على البحتري يوما فاحتبسني عنده ودعا بطعام له ودعاني إليه فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا أعرفه فدعاه إلى الطعام فتقدم وأكل معه أكلا عنيفا فغاظه ذلك والتفت إلي فقال لي أتعرف هذا الشيخ فقلت لا قال هذا شيخ من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر
( وَبنو الهُجَيْم قبيلةٌ مَلْعونةٌ ... حُصُّ اللِّحَى مُتشابهو الأَلْوانِ )
( لو يسمعون بأكلة أو شَرْبة ... بعُمَانَ أصبح جَمعُهم بعُمانِ )
قال فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك
وحدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال

اجتازت جارية بالمتوكل معها كوز ماء وهي أحسن من القمر فقال لها ما اسمك
قالت برهان قال ولمن هذا الماء قالت لستي قبيحة قال صبيه في حلقي فشربه عن آخره ثم قال للبحتري قل في هذا شيئا فقال البحتري
( ما شَرْبَةٌ من رَحِيق كأْسُها ذَهَبُ ... جاءت بها الحُورُ من جَنَّات رِضْوان )
( يوما بأطيبَ من ماءٍ بلا عَطَشٍ ... شربتُه عبثاً من كف بُرْهان )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش وأحمد بن جعفر جحظة قالا حدثنا أبو الغوث بن البحتري قال
كتبت إلى أبي يوما أطلب منه نبيذا فبعث إلي بنصف قنينة دردي وكتب إلي دونكها يا بني فإنها تكشف القحط وتضبط الرهط قال الأخفش وتقيت الرهط

خبره مع أحمد بن علي الاسكافي
حدثني أبو الفضل عباس بن أحمد بن ثوابة قال
قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الإسكافي مادحا له فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدته عنده فهجاه بقصيدته التي يقول فيها
( ما كسبنا من أَحمدَ بنِ عَليٍّ ... ومن النَّيلِ غيرَ حُمَّى النَّيلِ )

وهجاه بقصيدة أخرى أولها
( قِصَّةُ النّيلِ فاسمعوهَا عُجابَه ... )
فجمع إلى هجائه إياه هجاء أبي ثوابة وبلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم وثياب ودابة بسرجها ولجامها فرده إليه وقال قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول رفدكم فكتب إليه أبي أما الإساءة فمغفورة وأما المعذرة فمشكورة والحسنات يذهبن السيئات وما يأسو جراحك مثل يدك وقد رددت إليك ما رددته علي وأضعفته فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا فقبل ما بعث به وكتب إليه كلامك والله أحسن من شعري وقد أسلفتني ما أخجلني وحملتني ما أثقلني وسيأتيك ثنائي ثم غدا إليه بقصيدة أولها
( ضَلالٌ لها ماذا أرادت إلى الصّد ... )
وقال فيه بعد ذلك
( برقٌ أضاء العقيقَ من ضَرَمِه ... )
وقال فيه أيضا
( دانٍ دعا داعي الصَّبا فأجابَهْ ... )
قال ولم يزل أبي يصله بعد ذلك ويتابع بره لديه حتى افترقا

شعره في نسيم غلامه
أخبرني جحظة قال
كان نسيم غلام البحتري الذي يقول فيه

( دَعا عَبْرتي تجرِي على الجَور والقصد ... ظنُّ نسيماً قارفَ الهمَّ من بعدي )
( خلاَ ناظِري من طيفِه بعد شخصِه ... فيا عجبا للدَّهْر فقدٌ على فَقْدِ )
غلاما روميا ليس بحسن الوجه وكان قد جعله بابا من أبواب الحيل على الناس فكان يبيعه ويعتمد أن يصيره إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب فإذا حصل في ملكه شبب به وتشوقه ومدح مولاه حتى يهبه له فلم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم فكفي الناس أمره
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال
كتب البحتري إلى أبي محمد بن علي القمي يستهديه نبيذا فبعث إليه نبيذا مع غلام له أمرد فجمشه البحتري فغضب الغلام غضبا شديدا دل البحتري على أنه سيخبر مولاه بما جرى فكتب إليه
( أبا جعفرٍ كان تَجْمِيشُنا ... غلامَك إحدى الهَنات الدَّنِيّهْ )
( بعثتَ إلينا بشمس المُدامِ ... تضيء لنا مع شمس البَرِيّهْ )
( فليت الهديّة كان الرّسول ... وليتَ الرسولَ إلينا الهَدِيّهْ )
فبعث إليه محمد بن علي الغلام هدية فانقطع البحتري عنه بعد ذلك مدة خجلا مما جرى فكتب إليه محمد بن علي
( هجرتَ كأنّ البِرّ أعقب حِشْمَةً ... ولم أَرَ وَصْلاً قبل ذا أعقب الهَجْرا )
فقال فيه قصيدته التي أولها

( فتى مَذْحج عَفْواً فتى مذحجٍ غُفْرا ... )
وهي طويلة وقال فيه أيضا
( أمواهبٌ هاتيك أم أَنواءُ ... هُطُلٌ وأخذٌ ذَاكَ أم إعطاءُ )
( إن دَامَ ذا أو بَعضُ ذا من فعل ذا ... ذهب السخاءُ فلا يُعَدُّ سَخاءُ )
( ليس الذي حلّت تمِيمٌ وسْطَه الدّهناء ... لكن صدرُكَ الدهناءُ )
( ملك أغرّ لآل طَلحة مَجدُه ... كفّاه بحرُ سماحةٍ وسماءُ )
( وشريف أشراف إِذا احتكَّت بهم ... جُرْبُ القبائل أحسنوا وأساءوا )
( أمحمدُ بنَ عليٍّ اسمَعْ عُذْرَةً ... فيها شفاءٌ للمُسيء ودَاءُ )
( مالي إذا ذُكِر الكرامُ رأيتُني ... مالي مع النّفر الكرام وَفاءُ )
( يضفو عليَّ العَذْلُ وهو مُقاربٌ ... ويَضيق عني العُذْرُ وهْو فَضاءُ )
( إنّي هجرتُك إذ هجرتُك حِشْمةً ... لا العَوْدُ يُذْهِبُها ولا الإِبداءُ )
( أخجلتَني بِنَدَى يديْك فسَّودت ... ما بيننا تلك اليدُ البَيضاءُ )
( وقطَعَتني بالبرّ حتى إنّني ... متوهّم أن لا يكونَ لقاءُ )
( ِصلَةٌ غَدَت في الناس وَهْي قطِيعَةٌ ... عجباً وبِرٌّ راح وَهْو جَفاء )
( ليواصِلنَّك رَكْبُ شِعرِيَ سائراً ... تُهدَى به في مدحك الأَعداءُ )
( حتى يتمّ لك الثّناءُ مُخَلَّداً ... أبداً كما دامت لك النّعماءُ )
( فتظلَّ تَحسُدك الملوكُ الصيدُ بي ... وأظَلَّ يحْسدُني بك الشُّعراء )

مات في السكتة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال سألني القاسم بن عبيد الله عن

خبر البحتري وقد كان أسكت ومات من تلك العلة فأخبرته بوفاته وأنه مات في تلك السكتة فقال ويحه رمي في أحسنه
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن علي الأنباري قال
سمعت البحتري يقول أنشدني أبو تمام يوما لنفسه
( وسابحٍ هطلِ التَّعداء هَتّان ... على الجراء أمِينٍ غير خوَّان )
( أظْمى الفصُوصِ ولم تظمأ قوائِمهُ ... فخلِّ عينيك في ظمآنَ رَيّانِ )
( فلو تراه مُشِيحاً والحصى زِيَمٌ ... بين السّنابك من مثنىً ووُحدان )
( أيقنتَ إنْ لم تثَبَّتْ أنّ حافِرَه ... من صَخْر تَدْمُر أو من وَجْه عثمان )
ثم قال لي ما هذا الشعر قلت لا أدري قال هذا هو المستطرد أو قال الاستطراد قلت وما معنى ذلك قال يريك أنه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان وقد فعل البحتري ذلك فقال في صفة الفرس
( ما إن يعاف قذىً ولو أوردته ... يوما خلائقَ حمْدَويْه الأحْول )
وكان حمدويه الأحول عدوا لمحمد بن علي القمي الممتدح بهذه القصيدة فهجاه في عرض مدحه محمدا والله أعلم

رأي أبي تمام في شاعريته
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو الغوث بن البحتري قال حدثني أبي قال قال لي أبو تمام بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا فيما مدحتهم به فأنشدني شيئا منه فأنشدته بعض ما قلته فيهم فقال لي كم أعطوك فقلت كذا وكذا فقال ظلموك والله ما وفوك حقك فلم استكثرت ما دفعوه إليك والله لبيت منها خير مما أخذت ثم أطرق قليلا ثم قال لعمري لقد استكثرت ذلك واستكثر لك لما مات الناس وذهب الكرام وغاضت المكارم فكسدت سوق الأدب أنت والله يا بني أمير الشعراء غدا بعدي فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه وقلت له والله لهذا القول أسر إلى قلبي وأقوى لنفسي مما وصل إلي من القوم
حدثني محمد بن يحيى عن الحسن بن علي الكاتب قال قال لي البحتري أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري فتمثل ببيت أوس بن حجر
( إذا مُقرَمٌ منا ذرا حدُّ نابِه ... تخمَّطَ فينا نابُ آخَر مُقرَمِ )
ثم قال لي نعيت والله إلي نفسي فقلت أعيذك بالله من هذا القول فقال إن عمري لن يطول وقد نشأ في طيء مثلك أما علمت أن خالد

ابن صفوان رأى شبيب بن شيبة وهو من رهطه يتكلم فقال يا بني لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قط إلا مات من قبله فقلت له بل يبقيك الله ويجعلني فداءك قال ومات أبو تمام بعد سنة

شعره في المتوكل
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال كنت عند المتوكل والبحتري ينشده
( عن أيّ ثغر تبتَسِمْ ... وبأيّ طرفٍ تحتكمْ )
حتى بلغ إلى قوله
( قل للخليفَة جعفر المتوكِّلِ ... بنِ المعتصم )
( المُبْتَدِي للمُجْتَدِي ... والمنعِمِ بنِ المُنْتقِمِ )
( اسلَمْ لدِينِ محمدٍ ... فإذا سلمتَ فقد سَلِمْ )
قال وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا ومرة القهقري ويهز رأسه مرة ومنكبيه أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت والله ثم يقبل على المستمعين فيقول ما لكم لا تقولون أحسنت هذا والله ما لا يحسن أحد

أن يقول مثله فضجر المتوكل من ذلك وأ قبل علي وقال أما تسمع يا صيمري ما يقول فقلت بلى يا سيدي فمرني فيه بما أحببت فقال بحياتي اهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه فقلت تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول فدعا بدواة وقرطاس وحضرني على البديهة أن قلت

المتوكل يأمر الصيمري أن يهجوه
( أدخلتَ رأسك في الرّحم ... وعلمتَ أنّك تنهَزمْ )
( يا بحتريُّ حَذارِ وَيْحكَ ... من قُضاقِضةٍ ضُغُمْ )
( فلقد أَسَلْتَ بواديَيْك ... من الهِجاسَيْلَ العَرِمْ )
( فبأيِّ عِرْضٍ تَعتصمْ ... وبَهْتِكه جَفَّ القَلَمْ )
( والله حِلْفَةَ صادقٍ ... وبقبر أحمد والحَرَمْ )
( وبحقّ جعفرٍ الإما ... مِ ابنِ الإمامِ المعتَصِمْ )
( لأصيِّرَنَّك شُهرةً ... بين المَسيِل إلى العَلَمْ )
( حَيّ الطَّلول بذي سلَمْ ... حيث الأراكةُ والخِيَمْ )
( يابنَ الثَّقِيلَة والثقيل ... على قُلوبِ ذَوِي النَّعَمْ )
( وعلى الصغير مع الكبير ... من المَوالي والحَشَمْ )
( في أي سَلْح ترتطمْ ... وبأيّ كفٍّ تلتَقِمْ )
( يابنَ المُباحةِ للوَرَى ... أمن العفاف أم التُّهَمْ )
( إذ رَحْلُ أختك للعَجَمْ ... وفراشُ أمِّك في الظُّلَمْ )

( وبباب دَارِك حانَةٌ ... في بَيْتِه يُؤْتَى الحَكَمْ )
قال فغضب وخرج يعدو وجعلت أصيح به
( أدخلت رأسك في الرَّحِمْ ... وعلمتَ أنَّكَ تَنْهَزِمْ )
والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عن عينه
هكذا حدثني جحظة عن أبي العنبس
ووجدت هذه الحكاية بعينها بخط الشاهيني حكاية عن أبي العنبس فرأيتها قريبة اللفظ موافقة المعنى لما ذكره جحظة والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس قال هذه الأبيات ارتجالا وكان واقفا خلف البحتري فلما ابتدأ وأنشد قصيدته
( عن أيّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْفٍ تحتكِمْ )
صاح به أبو العنبس من خلفه
( في أَيّ سَلْح ترتَطِمْ ... وبأيّ كَفٍّ تَلْتَقِمْ )
( أدخلتَ رأسَكَ في الرّحِم ... وعلمتَ أنك تنهزِمْ )
فغضب البحتري وخرج فضحك المتوكل حتى أكثر وأمر لأبي العنبس بعشرة آلاف درهم والله أعلم
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن يحيى الصولي وحدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون عن أبيه قال وحدثني يحيى بن علي عن أبيه
أن البحتري أنشد المتوكل وأبو العنبس الصيمري حاضر قصيدته
( عن أيّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْفٍ تحتكِمْ )
إلى آخرها وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به فإذا فرغ من القصيدة رد البيت الأول فلما رده بعد فراغه منها وقال

( عن أيّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْفٍ تحتكِمْ )
قال أبو العنبس وقد غمزه المتوكل أن يولع به
( في أَيّ سَلْحٍ ترْتَطِمْ ... وبأيّ كَفٍّ تَلْتَقِمْ )
( أدخلتَ رأسَكَ في الرّحِم ... وعلمتَ أنك تَنْهَزِمْ )
فقال نصف البيت الثاني فلما سمع البحتري قوله ولى مغضبا فجعل أبو العنبس يصيح به
( وعلمتَ أنك تنهزم ... )
فضحك المتوكل من ذلك حتى غلب وأمر لأبي العنبس بالصلة التي أعدت للبحتري
قال أحمد بن زياد فحدثني أبي قال
جاءني البحتري فقال لي يا أبا خالد أنت عشيرتي وابن عمي وصديقي وقد رأيت ما جرى علي أفتأذن لي أن أخرج إلى منبج بغير إذن فقد ضاع العلم وهلك الأدب فقلت لا تفعل من هذا شيئا فإن الملوك تمزح بأعظم مما جرى ومضيت معه إلى الفتح فشكا إليه ذلك فقال له نحوا من قولي ووصله وخلع عليه فسكن إلى ذلك

الصيمري يصر على هجائه بعد موت المتوكل
حدثني جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال
لما قتل المتوكل قال أبو العنبس الصيمري

( يا وحشةَ الدنيا على جَعْفَرٍ ... على الهمام الملك الأزْهَرِ )
( على قتيلٍ من بني هاشمٍ ... بين سرير المُلْك والمِنْبَرِ )
( واللهِ ربِّ البَيْتِ والمَشْعَرِ ... والله أن لو قُتِل البُحْتُرِي )
( لثارَ بالشّام له ثائِرٌ ... في ألف نَغْلٍ من بني عَضْ خَرى )
( يقدُمهم كُلُّ أخي ذِلَّة ... على حمارٍ دابِرٍ أعورِ )
فشاعت الأبيات حتى بلغت البحتري فضحك ثم قال هذا الأحمق يرى أني أجيبه على مثل هذا فلو عاش امرؤ القيس فقال من كان يجيبه

ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة
منزلتها في الغناء والشعر والخط
كانت عريب مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب وإتقان الصنعة والمعرفة بالنعم والأوتار والرواية للشعر والأدب لم يتعلق بها أحد من نظرائها ولا رئي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن على قلة عددهن نظير لها وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في

قصور الخلافة وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه عيش الحجاز والنش بين العامة والعرب الجفاة ومن غلظ طبعه وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره
أخبرني محمد بن خلف وكيع عن حماد بن إسحاق قال قال لي أبي
ما رأيت امرأة أضرب من عريب ولا أحسن صنعة ولا أحسن وجها ولا أخف روحا ولا أحسن خطايا ولا أسرع جوابا ولا ألعب بالشطرنج والنرد ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها قال حماد فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي فقال صدق أبو محمد هي كذلك قلت أفسمعتها قال نعم هناك يعني في دار المأمون قلت أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق فقال يحيى هذه مسألة الجواب فيها على أبيك فهو أعلم مني بها فأخبرت بذلك أبي فضحك ثم قال ما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي قال
قال لي إسحاق كانت عندي صناجة كنت بها معجبا واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذ أتاني إنسان يدق الباب دقا شديدا فقلت أنظروا من هذا فقالوا رسول أمير المؤمنين فقلت ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إلي فيها فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مثخن فدخلت فسلمت فرد علي السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال لي اسكن فسكنت فقال

لي غن صوتا وقال لي أتدري لمن هو فقلت أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله ذلك فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت فإذا هي قد شبهته بالغناء القديم فقلت زدني معها عودا آخر فإنه أثبت لي فزادني عودا آخر فقلت هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة قال من أين قلت ذاك قلت لما سمعت لينه عرفت أنه محدث منغناء النساء ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه ثم طلبت عودا آخر فلم أشك فقال صدقت الغناء لعريب

عدت أصواتها فكانت ألفا
قال ابن المعتز وقال يحيى بن علي
أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فكتبته فكان ألف صوت
وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه
أنه سال عريب عن صنعتها فقالت قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت
وحدثني محمد بن إبراهيم قريض أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز وأبي العبيس بن حمدون وما أخذه عن بدعة جاريتها التي أعطاها إياها بنو هاشم فقابل بعضه ببعض فكان ألفا ومائة وخمسة وعشرين صوتا
وذكر العتابي أن أحمد بن يحيى حدثه قال

سمعت أبا عبد الله الهشامي يقول وقد ذكرت صنعة عريب صنعتها مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول
( يا عينُ بَكى خالِداً ... أَلْفا ويُدْعَى واحدَا )
يريد أن غناءها ألف صوت في معنى واحد فهي بمنزلة صوت واحد
وحكى عنه أيضا هذه الحكاية ابن المعتز
وهذا تحامل لا يحل ولعمري إن في صنعتها لأشياء مرذولة لينة وليس ذلك مما يضعها ولا عري كبير أحد من المغنين القدماء والمتأخرين من أن يكون في صنعته النادر والمتوسط سوى قوم معدودين مثل ابن محرز ومعبد في القدماء ومث ل إسحاق وحده في المتأخرين وقد عيب بمثل هذا ابن سريج في محله فبلغه أن المغنين يقولون إنما يغني ابن سريج الأرمال والخفاف وغناؤه يصلح للأعراس والولائم فبلغه ذلك فتغنى بقوله
( لقد حبَّبَتْ نُعمٌ إلينا بوجهها ... مساكنَ ما بين الوتائِر فالنَّقْعِ )
ثم توفي بعدها وغناؤه يجري مجرى المعيب عليه وهذا إسحاق يقول في أبيه على عظيم محله في هذه الصناعة وما كان إسحاق يشيد به من

ذكره وتفضيله على ابن جامع وغيره ولأبي ستمائة صوت منها مائتان تشبه فيها بالقديم وأتى بها في نهاية من الجودة ومائتان غناء وسط مثل أغاني سائر الناس ومائتان فلسية وددت أنه لم يظهرها وينسبها لنفسه فأسترها عليه فإذا كان هذا قول إسحاق في أبيه فمن يعتذر بعده من أن يكون له جيد ورديء وما عري أحد في صناعة من الصناعة من حال ينقصه عن الغاية لأن الكمال شيء تفرد الله العظيم به والنقصان جبلة طبع بني آدم عليها وليس ذلك إذا وجد في بعض أغاني عريب مما يدعو إلى إسقاط سائرها ويلزمه اسم الضعف واللين وحسب المحتج لها شهادة إسحاق بتفضيلها وقلما شهد لأحد أو سلم خلق وإن تقدم وأجمع على فضله من شينه إياه وطعنه عليه لنفاسته في هذه الصناعة واستصغاره أهلها فقد تقدم في أخباره مع علوية ومخارق وعمرو بن بانة وسليم بن سلام وحسين بن محرز ومن قبلهم ومن فوقهم مثل ابن جامع وإبراهيم بن المهدي وتهجينه إياهم وموافقته لهم على خطئهم فيما غنوه وصنعوه مما يستغنى به عن الإعادة في هذا الموضع فإذا انضاف فعله هذا بهم وتفضيله إياها كان ذلك أدل دليل على التحامل ممن طعن عليها وإبطاله فيما ذكرها به ولقائل ذلك وهو أبو عبد الله الهشامي سبب كان يصطنعه عليها فدعاه إلى ما قال نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى
ومما يدل على إبطاله أن المأمون أراد أن يمتحن إسحاق في المعرفة

بالغناء القديم والحديث فامتحنه بصوت من غنائها من صنعتها فكاد يجوز عليه لولا أنه أطال الفكر والتلوم واستثبت مع علمه بالمذاهب في الصنعة وتقدمه في معرفة النغم وعللها والإيقاعات ومجاريها
وأخبرنا بذلك يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي عن إسحاق
فأما السبب الذي كان من أجله يعاديها الهشامي فأخبرني به يحيى بن محمد بن عبد الله بن طاهر قال ذكر لأبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عمي أن الهشامي زعم أن أحسن صوت صنعته عريب
( صَاحِ قد لمتَ ظالما ... )
وأن غناءها بمنزلة قول ابي دلف في خالد
( يا عينُ بَكى خالِداً ... أَلْفا ويُدْعَى واحدَا )
فقال ليس الأمر كما ذكر ولعريب صنعة فاضلة متقدمة وإنما قال هذا فيها ظلما وحسدا وغمطها ما تستحقه من التفضيل بخبر لها معه طريف فسألناه عنه فقال أخرجت الهشامي معي إلى سر من رأى بعد وفاة أخي يعني أبا محمد بن عبد الله بن طاهر فأدخلته على المعتز وهو يشرب وعريب تغني فقال له يا بن هشام غن فقال تبت من الغناء مذ قتل سيدي المتوكل فقالت له عريب قد والله أحسنت حيث تبت فإن غناءك كان قليل المعنى لا متقن ولا صحيح ولا مطرب فأضحكت أهل المجلس جميعا منه فخجل فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها ويعيب

صنعتها ويقول هي ألف صوت في العدد وصوت واحد في المعنى
وليس الأمر كما قاله إن لها لصنعة تشبهت فيها بصنعة الأوائل وجودت وبرزت فيها منها
( أئن سكنت نَفْسِي وقلَّ عَويلُها ... )
ومنها
( تقول هَمِّي يومَ وَدَّعتها ... )
ومنها
( إذا أردت انتصافا كان ناصركم ... )
ومنها
( بأبي من هو دائي ... )
ومنها
( أسلموها في دمشقَ كما ... )
ومنها
( فلا تتعنّتي ظلما وزورا ... )
ومنها
( لقد لام ذا الشوق الخَلِيُّ من الهوى ... )
ونسخت ما أذكره من أخبارها فأنسبه إلى ابن المعتز من كتاب دفعه إلي محمد بن إبراهيم الجراحي المعروف بقريض وأخبرني أن عبد الله بن المعتز دفعه إليه من جمعه وتأليفه فذكرت منها ما استحسنته من أحاديثها إذ كان فيها حشو كثير وأضفت إليه ما سمعته ووقع إلي غير مسموع مجموعا ومتفرقا ونسبت كل رواية إلى راويها

نسبها
قال ابن المعتز حدثني الهاشمي أبو عبد الله وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قالا
كانت عريب لعبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد وهو الذي رباها وأدبها وعلمها الغناء
قال ابن المعتز وحدثني غير الهشامي عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها بنت جعفر بن يحيى وأن البرامكة لما انتهبوا سرقت وهي صغيرة
قال فحدثني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب قال
حدثني من أثق به عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي أن أم عريب كانت تسمى فاطمة وكانت قيمة لأم عبد الله بن يحيى بن خالد وكانت صبية نظيفة فرآها جعفر بن يحيى فهويها وسأل أم عبد الله أن تزوجه إياها ففعلت وبلغ الخبر يحيى بن خالد فأنكره وقال له أتتزوج من لا تعرف لها أم ولا أب اشتر مكانها مائة جارية وأخرجها فأخرجها وأسكنها دارا في ناحية باب الأنبار سرا من أبيه ووكل بها من يحفظها وكان يتردد إليها فولدت عريب في سنة إحدى وثمانين ومائة فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا وتسعين سنة قال وماتت أم عريب في حياة جعفر فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من سنبس النخاس فباعها من المراكبي

قال ابن المعتز وأخبرني يوسف بن يعقوب
أنه سمع الفضل بن مروان يقول كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى قال وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب فقال فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى
وأخبرني جحظة قال دخلت إلى عريب مع شروين المغني وأبي العبيس بن حمدون وأنا يومئذ غلام علي قباء ومنطقة فأنكرتني وسألت عني فأخبرها شروين وقال هذا فتى من أهلك هذا ابن جعفر بن موسى ابن يحيى بن خالد وهو يغني بالطنبور فأدنتني وقربت مجلسي ودعت بطنبور وأمرتني بأن أغني فغنيت أصواتا فقالت قد أحسنت يا بني ولتكونن مغنيا ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك بين عوديهما وأمرت لي بخمسين دينارا
قال ابن المعتز وحدثني ميمون بن هارون قال
حدثتني عريب قالت بعث الرشيد إلى أهلها تعني البرامكة رسولا يسألهم عن حالهم وأمره ألا يعلمهم أنه من قبله قالت فصار إلى عمي الفضل فساله فأنشأ عمي يقول

صوت
( سأَلُونا عن حالنا كيف أنتمُ ... مَنْ هَوَى نَجمهُ فكيفَ يكونُ )
( نحن قومٌ أصابنا حادث الدَّهْرِ ... فَظَلْنا لريبه نَسْتكِينُ )

ذكرت عريب أن هذا الشعر للفضل بن يحيى ولها فيه لحنان ثاني ثقيل وخفيف ثقيل كلاهما بالوسطى وهذا غلط من عريب ولعله بلغها أن الفضل تمثل بشعر غير هذا فأنسيته وجعلت هذا مكانه
فأما هذا الشعر فللحسين بن الضحاك لا يشك فيه يرثي به محمدا الأمين بعد قوله
( نحن قومٌ أصابنا عَنَتُ الدَّهْ ... فَظَلْنا لريبه نَسْتَكِينُ )
( نتمَنَّى من الأَمين إياباً ... كلَّ يوم وأينَ منّا الأَمينُ )
وهي قصيدة

هربت إلى معشوقها ومكثت عنده زمانا
قال ابن المعتز وحدثني الهشامي
أن مولاها خرج إلى البصرة وأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء فبرعت في ذلك كله وتزايدت حتى قالت الشعر وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان وقيل إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه ثم ركبه دين فاستتر عنده فمد عينه إلى عريب فكاتبها فأجابته وكانت المواصلة

بينهما وعشقته عريب فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلما من عقب وقيل من خيوط غلاظ وسترته حتى إذا همت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمدة وقد أعد لها موضعا لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل ودثرتها بدثارها ثم تسورت من الحائط حتى هربت فمضت إليه فمكثت عنده زمانا قال وبلغني أنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنيه به فأعاره عودها وهو لا يعلم أنها عنده ولا يتهمه بشيء من أمرها فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي وهو عيسى ابن زينب يهجو أباه ويعيره بها وكان كثيرا ما يهجوه
( قاتلَ الله عَرِيبَا ... فعَلت فِعْلاً عَجِيبَا )
( رَكِبَتْ والليلُ دَاجٍ ... مركباً صَعْباً مهوبا )
( فارتقَتْ مُتَّصِلاً بالنَّجم ... أو منه قريبا )
( صبرت حتى إذا ما ... أقصد النّومُ الرَّقيبا )
( مَثَّلت بين حَشَايَاها ... لِكيلا تَسْترِيبَا )
( خَلفاً منها إذا نودِي ... َ لم يُلفَ مُجيبَا )
( ومضت يحملها الخوفُ ... قَضِيبَاً وكَثِيبا )
( مُحَّةً لو حُرِّكَت خِفْتَ عليها أن تَذُوبا )
( فتدلَّتْ لمُحِبٍّ ... فتلقّاها حَبِيبَا )
( جَذِلاً قد نال في الدُّنْيا ... من الدُّنيا نصِيبا )
( أيّها الظَّبْي الذي تَسْحَرُ ... عيناه القُلُوبَا )
( والذي يأكل بعضاً ... بَعضُه حُسناً وطِيبا )

( كُنتَ نَهْباً لذئابٍ ... فَلَقَدْ أطعمْتَ ذِيَبا )
( وكذا الشاةُ إذا لم ... يَكُ راعيها لَبيبَا )
( لا يُبالِي وَبأَ المَرْعَى ... إذا كان خَصِيبا )
( فلقد أصبح عبدُ الله ... كشخانَ حَريبَا )
( قد لعمري لَطَم الوَجهَ ... وقد شَقَّ الجُيوبَا )
( وجرت منه دُموعٌ ... بلَّت الشَّعْر الخَضِيبَا )
وقال ابن المعتز حدثنا محمد بن موسى بن يونس
أنها ملته بعد ذلك فهربت منه فكانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد وهي متسترة متخفية فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني فسمع غناءها فعرفه فبعث إلى عمه من وقته وأقام هو بمكانه فلم يبرح حتى جاء عمه فلببها وأخذها فضربها مائة مقرعة وهي تصيح يا هذا لم تقتلني أنا لست أصبر عليك أنا امرأة حرة إن كنت مملوكة فبعني لست أصبر على الضيقة فلما كان من غد ندم على فعله وصار إليها فقبل رأسها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها منه قال وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه فطلبها منه فلم يجبه إلى ما سأل وقبل ذلك ما كان طلب منه خادما عنده فاضطغن لذلك عليه فلما ولي الخلافة جاء المراكبي ومحمد راكب ليقبل يده فأمر بمنعه ودفعه ففعل ذلك الشاكري فضربه المراكبي له أتمنعني من يد سيدي أن أقبلها فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه فدعا محمد بالمراكبي وأمر بضرب عنقه فسئل في أمره

فأعفاه وحبسه وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي فكانت عنده قال وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه ثم ملته فهربت منه وهي أبيات عدة هذان منها
( ورُشُّوا على وَجْهي من الماء واندُبُوا ... قتيلَ عَريبٍ لا قتيلَ حُروبِ )
( فليتكِ إن عجَّلتني فقتَلتِني ... تَكونِين من بعد الممات نصِيبي )
قال ابن المعتز وأما رواية إسماعيل بن الحسين خال المعتصم فإنها تخالف هذا وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحد قواد خراسان قال وكان أشقر أصهب الشعر أزرق وفيه تقول عريب ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس
( بأبي كلّ أزرقٍ ... أَصهبِ اللون أشقرِ )
( جُنّ قلبي به وليسَ ... جُنُوني بمُنْكَرِ )

تقول الشعر الفاحش
قال ابن المعتز وحدثني ابن المدبر قال
خرجت مع المأمون إلى أرض الروم أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق فكنا نسير مع العسكر فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم

في العماريات على الجمازات وكنا رفقة وكنا أترابا فقال لي أحدهم على بعض هذه الجمازات عريب فقلت من يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات وأنشد أبيات عيسى بن زينب
( قاتلَ الله عَرِيبَا ... فعَلت فِعْلاً عَجِيبَا )
فراهنني بعضهم وعدل الرهنان وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها حتى أتممتها فإذا أنا بامرأة قد أخرجت رأسها فقالت يا فتى أنسيت أجود الشعر وأطيبه أنسيت قوله
( وعَرِيبٌ رَطْبَةُ الشَّفْرَيْنِ ... قد نِيكَتْ ضُرُوبَا )
اذهب فخذ ما بايعت فيه ثم ألقت السجف فعلمت أنها عريب وبادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم

شعر في مظلومة رقيبة عريب
أخبرني إسماعيل بن يونس قال قال لنا عمر بن شبة
كانت للمراكبي جارية يقال لها مظلومة جميلة الوجه بارعة الحسن فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه فقال فيها بعض الشعراء وقد رآها عنده
( لقد ظلموكِ يا مظلومَ لمّا ... أقاموكِ الرَّقيبَ على عَريبِ )

( ولو أَوْلَوكِ إنصافاً وَعَدْلا ... لما أخلوْكِ أنت من الرّقيبِ )
( أتَنْهَيْنَ المُريبَ عن المعاصي ... فكيف وأنتِ من شأنِ المُريبِ )
( وكيف يُجانِبُ الجاني ذنوباً ... لديك وأنت داعِيَةُ الذُّنوبِ )
( فإن يَسْتَرْقِبُوكِ على عَرِيبٍ ... فما رَقَبُوك من غيبِ القلوبِ )
وفي هذا المعنى وإن لم يكن من جنس ما ذكرته ما أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش في رقيبة مغنية استحسنت وأظنه للناشىء
( فديتُكِ لو أنهم أنصَفُوا ... لقد منعوا العينَ عن ناظَرَيْكِ )
( ألم يقرءوا ويحهم ما يرون ... من وحي طَرْفك في مُقْلَتَيْكِ )
( وقد بعثوك رَقِيباً لنا ... فمن ذا يكون رَقِيباً عليكِ )
( تصُدِّين أعْيُنَنا عن سواك ... وهل تنظر العينُ إلا إليكِ )

محمد الأمين يبعث في إحضارها واحضار مولاها
قال ابن المعتز وحدثني عبد الواحد بن إبراهيم عن حماد بن إسحاق عن أبيه وعن محمد بن إسحاق البغوي عن إسحاق بن إبراهيم
أن خبر عريب لما نمي إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا وغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول
( لكلّ أُناسٍ جَوْهَر متنافسٌ ... وأنتِ طِرازُ الآنساتِ المَلائح )
فطرب محمد واستعاد الصوت مرارا وقال لإبراهيم يا عم كيف سمعت قال يا سيدي سمعت حسنا وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا فقال للفضل بن الربيع خذها إليك وساوم بها ففعل فاشتط مولاها في السوم ثم أوجبها له بمائة ألف دينار وانتقض

أمر محمد وشغل عنها وشغلت عنه فلم يأمر لمولاها بثمنها حتى قتل بعد أن أفتضها فرجعت إلى مولاها ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي وذكر باقي الخبر كما ذكره من تقدم
وقال في خبره إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد فأمر بإحضاره فأحضر فسأله عنها فأنكر فقال له المأمون كذبت قد سقط إلي خبرها وأمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة ويضع عليه السياط حتى يردها فأخذه وبلغها الخبر فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرد ليضرب وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح أنا عريب إن كنت مملوكة فليبعني وإن كنت حرة فلا سبيل له علي فرفع خبرها إلى المأمون فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضي فعدلت عنده وتقدم إليه المراكبي مطالبا بها فسأله البينة على ملكه إياها فعاد متظلما إلى المأمون وقال قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق ولا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدا أو أمة
وتظلمت إليه زبيدة وقالت من أغلظ ما جرى علي بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبا منها فقال المراكبي إنما أخذت ملكي لأنه لم ينقدني الثمن فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي فأخذها من قتيبة بن زياد فأمر ببيعها ساذجة فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم فذهبت به كل مذهب ميلا إليها ومحبة لها
قال ابن المعتز ولقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبل

في بعض الأيام رجلها قال فلما مات المأمون بيعت في ميراثه ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم وأعتقها فهي مولاته
وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنها لما هربت من دار محمد حين قتل تدلت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدي
وأخبرني جحظة عن ميمون بن هارون
أن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار ودعا بعبد الله بن إسماعيل فدفعها إليه وقال لولا أني حلفت ألا أشتري مملوكا بأكثر من هذا لزدتك ولكني سأوليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار وخلع عليه خلعا سنية فقال يا سيدي إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا وأما أنا فإني ميت لا محالة لأن هذه الجارية كانت حياتي وخرج عن حضرته فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يوما
قال ابن المعتز فحدثني علي بن يحيى قال حدثني كاتب الفضل بن مروان قال
حدثني إبراهيم بن رباح قال
كنت أتولى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها فاشتراها بمائة ألف درهم فأمرني المأمون بحملها وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى ففعلت ذلك ولم أدر كيف أثبتها فحكيت في الديوان أن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة والمائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلالها فجاء الفضل بن مروان إلى

المأمون وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه فقلت نعم هو ما رأيت فسأل المأمون عن ذلك وقال أوجب وهب لدلال وصائغ مائة ألف درهم وغلظ القصة فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه وأخبرته أن المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق وقلت أيما أصوب يا أمير المؤمنين ما فعلت أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية فضحك المأمون وقال الذي فعلت أصوب ثم قال للفضل بن مروان يا نبطي لا تعترض على كاتبي هذا في شيء

بعض من أخبارها
وقال ابن المكي حدثني أبي عن نحرير الخادم قال
دخلت يوما قصر الحرم فلمحت عريب جالسة على كرسي ناشرة شعرها تغتسل فسألت عنها فقيل هذه عريب دعا بها سيدها اليوم فافتضها
قال ابن المعتز فأخبرني ابن عبد الملك البصري
أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد وكانت قد عشقته وكاتبته بصوت قالته ثم احتالت في الخروج إليه وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حبلت منه وولدت بنتا وبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها
وأخبرنا إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه وحدثني به المظفر بن كيغلغ عن القاسم بن زرزور قال
لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة

صوف وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم ثم ذكرها فرق لها وأمر بإخراجها فلما فتح الباب عنها وأخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني
( حجبوه عن بصري فمُثِّل شَخصُه ... في القلب فهْو محجَّبٌ لا يُحَجبُ )
فبلغ ذلك المأمون فعجب منها وقال لن تصلح هذه أبدا فزوجها إياه

نسبة هذا الصوت
صوت
( لو كان يَقدرُ أن يَبُثَّك ما به ... لرأيتَ أحسن عاتب يتعَتَّبُ )
( حجبوه عن بَصَري فمُثِّل شَخصُه ... في القَلْب فهو مُحَجَّب لا يُحجَبُ )
الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى
قال ابن المعتز وحدثني لؤلؤ صديق علي بن يحيى المنجم قال حدثني أحمد بن جعفر بن حامد قال
لما توفي عمي محمد بن حامد صار جدي إلى منزله فنظر إلى تركته وجعل يقلب ما خلف ويخرج إليه منها الشيء بعد الشيء إلى أن أخرج إليه سفط مختوم ففض الخاتم وجعل يفتحه فإذا فيه رقاع عريب إليه فجعل يتصفحها ويبتسم فوقعت في يده رقعة فقرأها ووضعها في يده وقام لحاجة فقرأتها فإذا فيها قوله

صوت
( وبلي عليكَ ومِنْكَا ... أوقعت في الحق شَكّا )
( زعمتَ أنّي خئونٌ ... جَوْراً عليّ وإِفْكَا )
( إن كان ما قلتَ حقّا ... أو كنت أزمعتُ تَرْكَا )
( فأبدلَ الله ما بي ... من ذِلَّة الحبّ نُسْكَا )
لعريب في هذه الأبيات رمل وهزج عن الهشامي والشعر لها

قصة بيت من الشعر
قال ابن المعتز وحدثني عبد الوهاب بن عيسى الخراساني عن يعقوب الرخامي قال
كنا مع العباس بن المأمون بالرقة وعلى شرطته هاشم - رجل من أهل خراسان - فخرج إلي وقال يا أبا يوسف ألقي إليك سرا لثقتي بك وهو عندك أمانة قلت هاته قال كنت واقفا على رأس الأمين وبي حر شديد خرجت عريب فوقفت معي وهي تنظر في كتاب فما ملكت نفسي أن أومأت إليها بقبلة فقالت كحاشية البرد فوالله ما أدري ما أرادت فقلت قالت لك طعنة
قال وكيف ذاك قلت أرادت قول الشاعر
( رَمَى ضرعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم )
وحكى هذه القصة أحمد بن أبي طاهر عن بشر بن زيد عن عبد الله

ابن أيوب بن أبي شمر أنهم كانوا عند المأمون ومعهم محمد بن حامد وعريب تغنيهم فغنت تقول
( رَمَى ضرعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم )
فقال لها المأمون من أشار إليك بقبلة فقلت له طعنة فقالت له يا سيدي من يشير إلي بقبلة في مجلسك فقال بحياتي عليك قالت محمد بن حامد فسكت

أحبت أميرا وتزوجت خادما
قال ابن المعتز وحدثني محمد بن موسى قال
اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنين وعريب معه على مصلاه فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة فاندفعت تغني ابتداء
( رَمَى ضَرْع نابٍ فاستَمرَّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم )
تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له طعنة فقال لها المأمون أمسكي فأمسكت ثم أقبل على الندماء فقال من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه فقام محمد فقال أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها والعفو أقرب للتقوى فقال قد عفوت
فقال كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك قال ابتدأت صوتا وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى فعلمت أنها لم تبتدىء بهذا الصوت إلا لشيء أومىء به إليها ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة فعلمت أنها أجابت بطعنة

قال ابن المعتز وحدثني علي بن الحسين
أن عريب كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد وروى غيره أنها كانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحسن غنائه وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم وأصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه
قال ابن المعتز وحدثني بعض جوارينا
أن عريب كانت تتعشق صالحا المنذري الخادم وتزوجته سرا فوجه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له فقالت فيه شعرا وصاغت لحنه في خفيف الثقيل وهو

صوت
( أَمَّا الحبيبُ فقد مضى ... بالرغم منّي لا الرّضا )
( أخطأتُ في تركِي لمن ... لم ألق منه مُعَوّضا )
قال فغنته يوما بين يدي المتوكل فاستعاده وجعل جواريه يتغامزن ويضحكن فأصغت إليهن سرا من المتوكل فقالت يا سحاقات هذا خير من عملكن
قال وحدثت عن بعض جواري المتوكل أنها دخلت يوما على عريب فقالت لها تعالي ويحك إلي فجاءت قال فقالت قبلي هذا الموضع مني فإنك تجدين ريح الجنة فأومأت إلى سالفتها ففعلت ثم قالت لها ما السبب في هذا قالت قبلني صالح المنذري في ذلك الموضع

قال ابن المعتز وأخبرني أبو عبد الله الهشامي قال حدثني حمدون بن إسماعيل قال
حدثني محمد بن يحيى الواثقي قال
قال لي محمد بن حامد ليلة أحب أن تفرغ في مضربك فإني أريد أن أجيئك فأقيم عندك ففعلت ووافاني فلما جلس جاءت عريب فدخلت
وقد حدثني به جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون
أن عريب زارت محمد بن حامد وجلسا جميعا فجعل يعاتبها ويقول فعلت كذا وفعلت كذا فقالت لي يا محمد هذا عندك رأي ثم أقبلت عليه فقالت يا عاجز خذ بنا فيما نحن فيه وفيما جئنا إليه
وقال جحظة في خبره
اجعل سراويلي مخنقتي وألصق خلخالي بقرطي فإذا كان غد فاكتب إلي بعتابك في طومار حتى أكتب إليك بعذري في ثلاثة ودع هذا الفضول فقد قال الشاعر
صوت
( دَعِي عَدَّ الذّنوب إذا التقينا ... تعاليْ لا أعدُّ ولا تعدِّي )
وتمام هذا قوله
( فأقسِم لو هممت بمدّ شعري ... إلى نار الجحيم لقُلْتِ مُدّيِ )

الشعر للمؤمل والغناء لعريب خفيف رمل وفيه لعلوية رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة

عاشرت ثمانية من الخلفاء
أخبرني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب قال
حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات قال كنت يوما عند أخي أبي العباس وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها وجواريها يغنين بين يدينا وخلف ستارتنا فقلت لأخي وقد جرى ذكر الخلفاء قالت لي عريب ناكني منهم ثمانية ما اشتهيت منهم أحدا إلا المعتز فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد قال ابن الفرات فأصغيت إلى بعض بني أخي فقلت له فكيف ترى شهوتها الساعة فضحك ولمحته فقالت أي شيء قلتم فجحدتها فقالت لجواريها أمسكن ففعلن فقالت هن حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعا وهن حرائر إن حردت من شيء جرى ولو أنها تسفيل فصدقتها فقالت وأي شيء في هذا أما الشهوة فبحالها ولكن الآلة قد بطلت أو قالت قد كلت عودوا إلى ما كنتم فيه
شرطان فاحشان
وحدثني الحسن بن علي بن مودة قال حدثني إبراهيم بن أبي العبيس قال حدثنا أبي قال
دخلنا على عريب يوما مسلمين فقالت أقيموا اليوم عندي حتى

أطعمكم لوزينجة صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب وما حضر من الوظيفة وأغنيكم أنا وهي قال فقلت لها على شريطة قالت وما هي قلت شيء أريد أن أسألك عنه منذ سنين وأنا أهابك قالت ذاك لك وأنا أقدم الجواب قبل أن تسأل فقد علمت ما هو فعجبت لها وقلت فقولي فقالت تريد أن تسألني عن شرطي أي شرط هو فقلت إي والله ذاك الذي أردت قالت شرطي أير صلب ونكهة طيبة فإن انضاف إلى ذلك حسن يوصف وجمال يحمد فقد زاد قدره عندي وإلا فهذان ما لا بد لي منهما
وحدثني الحسن بن علي عن محمد بن ذي السيفين إسحاق بن كنداجيق عن أبيه قال
كانت عريب تولع بي وأنا حديث السن فقالت لي يوما يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث إلي نصيبي منها قال فاستأنفت طعاما كثيرا وبعثت إليها منه شيئا كثيرا فأقبل رسولي من عندها مسرعا فقال لي لما بلغت إلى بابها وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد وجهت إليك برسول وهو معي فتحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي فدخل الخادم ومعه شيء مشدود في منديل ورقعة فقرأتها فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم يا عجمي يا غبي ظننت أني من الأتراك ووخش الجند فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء الله المستعان عليك يا فدتك نفسي قد وجهت إليك زلة من حضرتي فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوه من الأفعال ولا تستعمل أخلاق العامة في رد الظرف فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله فكشفت المنديل فإذا طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلاف

وفيه زبدية فيها لقمتان من رقاق وقد عصبت طرفيهما وفيها قطعتان من صدر دراج مشوي ونقل وطلع وملح وانصرف رسولها

تحلم ثلاث مرات في النوم بحبيبها
قال ابن المعتز حدثني الهشامي أبو عبد الله عن رجل ذكره عن علويه قال
أمرني المأمون وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح فغدونا ولقيني المراكبي مولى عريب وهي يومئذ عنده فقال لي يأيها الرجل الظالم المعتدي أما ترق ولا ترحم ولا تستحي عريب هائمة تحلم بك في النوم ثلاث مرات في كل ليلة قال علويه فقلت أم الخلافة زانية ومضيت معه فحين دخلت قلت استوثق من الباب فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب وإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ وبين يديها ثلاث قدور من دجاج فلما رأتني قامت تعانقني وتقبلني ثم قالت أيما أحب إليك أن تأكل من هذه القدور أو تشتهي شيئا يطبخ لك فقلت بل قدر من هذه تكفينا فغرفت قدرا منها وجعلتها بيني وبينها فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب حتى سكرنا ثم قالت يا أبا الحسن صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية فقلت وما هو فقالت هو
( عَذِيري من الإِنسان لا إن جفوته ... صَفا لي ولا إن كنت طوعَ يديه )

وقالت لي قد بقي فيه شيء فلم نزل نردده أنا وهي حتى استوى ثم جاء الحجاب فكسروا باب المراكبي واستخرجوني فدخلت على المأمون فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت فسمع وسمع من عنده ما لم يعرفوه واستظرفوه وسألني المأمون عن خبره فشرحته له فقال لي ادن وردده فرددته عليه سبع مرات فقال في آخر مرة يا علويه خذ الخلافة واعطني هذا الصاحب

نسبة هذا الصوت
صوت
( عَذِيري من الإِنسان لا إن جفوته ... صَفا لي ولا إن كنت طوعَ يديه )
( وإنّي لمشتاقٌ إلى قُربِ صاحِبٍ ... يَرُوق ويَصْفُو إن كَدرْتُ عليه )
الشعر من الطويل وهو لأبي العتاهية والغناء لعريب خفيف ثقيل أول بالوسطى ونسبه عمرو بن بانة في هذه الطريقة والأصبغ إلى علوية
سبب غضب الواثق والمعتصم عليها
قال ابن المعتز وحدثني القاسم بن زرزور قال حدثتني عريب قالت كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة وأنا حينئذ أصوغ الغناء
قال القاسم وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا فيكون أجود من لحنه فمن ذلك
( لم آتِ عامدةً ذَنْباً إليك بَلَى ... أُقِرُّ بالذنب فاعفُ اليوم عن زَلَلِي )
لحنها فيه خفيف ثقيل ولحن الواثق رمل ولحنها أجود من لحنه ومنها

( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بِرَبِّي ولا أشكو إلى أحَدِ )
لحنها ولحن الواثق جميعا من الثقيل الأول ولحنها أجود من لحنه

نسبة هذين الصوتين
صوت
( لم آتِ عامدةً ذَنْباً إليك بَلَى ... أُقِرُّ بالذّنب فاعفُ اليوم عن زَلَلِي )
( فالصّفح من سَيّدٍ أولى لمُعْتَذرٍ ... وقاك رَبُّك يوم الخوفِ والوَجَلِ )
الغناء للواثق رمل ولعريب خفيف ثقيل وذكر ذكاء وجه الرزة أن لطالب ابن يزداد فيه هزجا مطلقا
صوت
( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بِربي ولا أشكُو إلى أحَدِ )
( أين الزمان الذي قد كنت ناعمةً ... في ظِلِّه بدنُوّي منك يا سَندي )
( وأَسأَلُ الله يوماً منك يُفْرِحني ... فقد كحلتُ جفونَ العين بالسَّهَد )
( شوقاً إليك وما تدري بما لقيت ... نفسي عليك وما بالقلب من كمد )
الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى وللواثق ثقيل أول بالبنصر
قال ابن المعتز وكان سبب انحراف الواثق عنها وكيادها إياه وانحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون ببلد الروم اقتل أنت العلج ثم حتى أقتل أنا الأعور الليلي ها هنا تعني الواثق وكان يسهر بالليل وكان المعتصم استخلفه ببغداد
قال وحدثني أبو العبيس بن حمدون قال

غضبت عريب على بعض جواريها المذكورات - وسماها لي - فجئت إليها يوما وسألتها أن تعفو عنها فقالت في بعض ما تقوله مما تعتد به عليها من ذنوبها يا أبا العبيس إن كنت تشتهي أن ترى زناي وصفاقة وجهي وجراءتي على كل عظيمة أيام شبابي فانظر إليها واعرف أخبارها

أجادت ركوب الخيل
قال ابن المعتز وحدثني القاسم بن زرزور قال حدثني المعتمد قال
حدثتني عريب أنها كانت في شبابها يقدم إليها برذون فتطفر عليه بلا ركاب
قال وحدثني الأسدي قال حدثني صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة قال
تمارى خالي أبو علي مع المأمون في صوت فقال المأمون أين عريب فجاءت وهي محمومة فسألها عن الصوت فقالت فيه بعلمها فقال لها غنيه فولت لتجيء بعود فقال لها غنيه بغير عود فاعتمدت على الحائط للحمى وغنت فأقبلت عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت ثم سقطت وقد غشي عليها
قال ابن المعتز وحدثني أبو العباس بن الفرات قال

قالت لي تحفة جارية عريب كانت عريب تجد في رأسها بردا فكانت تغلف شعرها مكان العلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا وتغسله من جمعة إلى جمعة فإذا غسلته أعادته وتتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان
حدثني أحمد بن جعفر جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال
دخلت يوما على عريب مسلما عليها فلما اطمأننت جالسا هطلت السماء بمطر عظيم فقالت أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وأبعث إلي من أحببت من إخوانك فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة ومن كان يغنينا وأي شيء استحسنا من الغناء فأخبرتها أن

صوت
الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخوري فقالت وما هو فأخبرتها أنه
صوت
( تُجافِي ثم تَنطَبِقُ ... جفونٌ حَشوُها الأرقُ )
( وذي كَلَفٍ بكى جَزَعاً ... وسَفْرُ القوم مُنطلِقُ )
( به قَلَقٌ يُمَلْمِلُه ... وكان وما به قَلَقُ )
( جوانحُهُ على خَطَرٍ ... بِنارِ الشَّوق تَحترِقُ )
فوجهت رسولا إلى بنان فحضر من وقته وقد بلته السماء فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه وقدم له طعام فاخر فأكل وجلس يشرب معنا وسألته عن الصوت فغناها إياه فأخذت دواة ورقعة وكتبت فيها
( أجاب الوابِلُ الغَدِقُ ... وصاح النّرجس الغَرقُ )

( وقد غنَّى بنان لنَا ... جُفونٌ حَشوُها الأَرقُ )
( فهاتِ الكأسَ مُترعةً ... كَأَنَّ حُبابَها حدَقُ )
قال علي بن يحيى فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات

ترد على من دعاها برموز
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان عن عبد الله بن محمد المروزي قال
قال لي الفضل بن العباس بن المأمون زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها فوافتنا ونحن على شرابنا فتحادثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندي فأبت وقالت دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى بن منارة وقد عزمت على المسير إليهم فحلفت عليها فأقامت عندنا ودعت بدواة وقرطاس فكتبت
بسم الله الرحمن الرحيم وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها وهي
أردت ولولا ولعلي
ووجهت به إليهم فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة فكتب تحت أردت ليت وتحت لولا ماذا وتحت لعلي

أرجو ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلا وقالت لنا أأترك هؤلاء وأقعد عندكم إذا تركني الله من يديه ولكني أخلف عندكم من جواري من يكفيكم وأقوم إليهم ففعلت ذلك وخلفت عندنا بعض جواريها وأخذت معها بعضهن وانصرفت
أخبرنا محمد بن خلف عن سعيد بن عثمان بن أبي العلاء عن أبيه قال
عتب المأمون على عريب فهجرها أياما ثم اعتلت فعادها فقال لها كيف وجدت طعم الهجر فقالت يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ومن ذم بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا قال فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة ثم قال أترى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيرا

هجرت المأمون أياما لأنها غضبت منه
حدثني محمد بن خلف عن أبي العيناء عن أحمد بن أبي دؤاد قال
جرى بين عريب وبين المأمون كلام فكلمها المأمون بشيء غضبت منه فهجرته أياما قال أحمد بن أبي داود فدخلت على المأمون فقال لي

يا أحمد اقض بيننا فقالت عريب لا حاجة لي في قضائه ودخوله فيما بيننا وأنشأت تقول
( وتخلِط الهجرَ بالوصال ولا ... يدْخُل في الصُّلح بَينَنا أَحدُ )
حدثني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن عبد الرحمن عن أحمد بن حمدون عن أبيه قال
كنت حاضرا مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي المأمون اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق يعني المعتصم فأد إليه رسالتي في كيت وكيت قال فركبت ولم تثبت معي شمعة وسمعت وقع حافر دابة فرهبت ذلك وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي ركاب تلك الدابة وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب فإذا عريب فقلت عريب قالت نعم حمدون قلت نعم ثم قلت ومن أين أقبلت في هذا الوقت قالت من عند محمد ابن حامد قلت وما صنعت عنده قالت عريب ياتكش عريب تجيء من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه تقول لها أي شيء عملت عنده صليت معه التراويح أو قرأت عليه أجزاء من القرآن أو دارسته شيئا من الفقه يا أحمق تعاتبنا وتحادثنا واصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنينا وتنايكنا وانصرفنا فأخجلتني وغاظتني وافترقنا ومضيت فأديت الرسالة ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار وهممت والله أن أحدثه حديثها ثم هبته فقلت أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر فأنشدته

( ألا حيِّ أطلالاً لواسعة الحبل ... أَلوفٍ تسوّي صالح القوم بالرَّذْل )
( فلو أَن من أَمسَى بجانب تلعَة ... الى جبليْ طيٍّ فساقطة الحَبْلِ )
( جلوس إلى أَنْ يَقْصر الظِّلُّ عندها ... لراحوا وكُلّ القوم منها على وصْل )
فقال لي المأمون اخفض صوتك لا تسمعك عريب فتغضب وتظن أنا في حديثها فأمسكت عما أردت أن أخبره وخار الله في ذلك
حدثني محمد بن أحمد الحكيمي قال أخبرني ميمون بن هارون قال قال لي ابن اليزيدي
حدثني أبي قال خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الروم فرأيت عريب في هودج فلما رأتني قالت لي يا يزيدي أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا فأنشدتها
( ماذا بقلبي من دوامِ الخفْق ... إذَا رأَيتُ لمعانَ البَرْقِ )
( من قِبَل الأردُنِّ أو دِمشْق ... لأَنَّ من أَهوَى بذاك الأفْق )
( فإنّ فيه وهو أَعزّ الخَلْق ... عليّ والزّورُ خلاف الحقّ )
( ذاك الَّذي يَملِك رِقِّي ... ولست أَبغِي ما حَييتُ عِتْقِي )
قال فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه فقلت هذا والله تنفس عاشق فقالت اسكت يا عاجز أنا أعشق والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا طريفا

شعر لعباس بن الأحنف يصلح بينها وبين حبيبها
حدثني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن حمدون قال

وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شر وكان يجد بها الوجد كله فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة وكان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها فلقيته يوما فقالت له كيف قلبك يا محمد قال أشقى والله ما كان وأقرحه فقالت له استبدل تسل فقال لها لو كانت البلوى باختيار لفعلت فقالت لقد طال إذا تعبك فقال وما يكون أصبر مكرها أما سمعت قول العباس بن الأحنف
( تَعَبٌ يطول مع الرجاء بذي الهَوى ... خَيرٌ له من رَاحةٍ في الياسِ )
( لولا كرامتكُم لما عاتَبتكُم ... ولكنتُمُ عندي كبَعْضِ النّاس )
قال فذرفت عيناها واعتذرت إليه وأعتبته واصطلحا وعادا إلى أفضل ما كانا عليه

اختلاف في تقييم فنها
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال قال لي أبو العباس بن حمدون - وقد تجاذبنا غناء عريب - ليس غناؤها مما يعتد بكثرته لأن سقطه كثير وصنعتها ساذجة فقلت له ومن يعرف في الناس كلهم من مغني الدولة العباسية سلمت صنعته كلها حتى تكون مثله ثم جعلت أعد ما أعرفه من جيد صنعتها ومتقدمها وهو يعترف بذلك حتى عددت نحوا من مائة صوت مثل لحنها في
( يا عزّ هل لك في شيخٍ فتىً أبدا ... )

و ( سيسليك عما فات دولةَ مفضل ... )
و ( صاح قد لمت ظالما ... )
و ( ضحك الزمان وأشرقت ... )
ونحو هذا ثم قال لي ما خلفت عريب بعدها امرأة مثلها في الغناء والرواية والصنعة فقلت له لا ولا كثيرا من الرجال أيضا
ولعريب في صنعتها
( يا عزّ هل لك في شيخٍ فتىً أبدا ... )
خبر أخبرني ببعضه أحمد بن عبيد الله بن عمار عن ميمون بن هارون
وذكر ابن المعتز أن عبد الواحد بن إبراهيم بن الخصيب حدثه عمن يثق به عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي قال
قالت لي عريب حج بي أبوك وكان مضعوفا فكان عديلي وكنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار وأكتب عنهم النوادر وسائر ما أسمعه منهم فوقف شيخ من الأعراب علينا يسأل فاستنشدته فأنشدني
( يا عزّ هل لكِ في شيخٍ فتىً أبدا ... وقد يكون شَبابٌ غَيرُ فِتيانِ )
فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك قلت فأنشدني باقي الشعر فقال لي هو يتيم فاستحسنت قوله وبررته وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك إنه يتيم أنشدينيه إن كنت حفظته فأنشدته إياه وأعلمته أني قد غنيت فيه ثم غنيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب وفرح بالصوت فرحا شديدا
قال ابن المعتز قال ابن الخصيب
فحدثني هذا المحدث أنه قد حضر بعد ذلك بمجلس أبي عيسى بن المتوكل

ومن هاهنا تتصل رواية ابن عمار عن ميمون وقد جمعت الروايتين إلا أن ميمون بن هارون ذكر أنهم كانوا عند جعفر بن المأمون وعندهم أبو عيسى وكان عندهم علي ابن يحيى وبدعة جارية عريب تغنيهم - فذكر علي بن يحيى أن الصنعة فيه لغير عريب وذكر أنها لا تدعي هذا وكابر فيه فقام جعفر بن المأمون فكتب رقعة إلى عريب - ونحن لا نعلم - يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة ففعلت فكتبت إليه بخطها
بسم الله الرحمن الرحيم
( هَنِيًّا لأرباب البيوت بُيوتُهم ... وللعَزَب المسكين ما يَتَلَمَّسُ )
أنا المسكينة وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيما أنتم فيه وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني - تعني جاريتيها بدعة وتحفة - فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف ذلك هناكم الله وأبقاكم وسألت - مد الله في عمرك - عما اعترض فيه فلان والقصة في هذا الصوت كذا وكذا وقصت قصتها مع الأعرابي كما حدثت به ولم تخرم حرفا منها فجاء الجواب إلى جعفر بن المأمون فقرأه وضحك ثم رمى به إلى أبي عيسى ورمى به أبو عيسى إلي وقال اقرأه وكان علي بن يحيى جالسا إلى جنبي فأراد أن يستلب الرقعة فمنعته وقمت ناحية فقرأتها فأنكر ذلك وقال ما هذا فورينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة وكان - عفا الله عنا وعنه - مبغضا لها

تعرف خبر صوت لا يعرفه أحد على وجه الأرض
قال ابن المعتز وحدثني أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات قال حدثني أبي قال
كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذ غنى بعض من كان هناك

( يا بدرُ إنّك قد كُسِيت مشابِهاً ... من وجه ذاك المستنيرِ اللاّئحِ )
( وأَراك تمصَح بالمحاق وحسنُها ... باقٍ على الأيام ليس ببارح )
فضحكت عريب وصفقت وقالت ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصوت غيري فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري فسألتها فقالت أنا أخبركم بقصته ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم إن أبا محلم قدم بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما فرأته يبول فأعجبها متاعه وأحبت مواصلته فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا وتعلمه أنها في ضيقة وأنها ترده إليه بعد جمعة فبعث إليها عشرة آلاف درهم وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث به فاستحسنت ذلك وواصلته وجعلت القرض سببا للوصلة فكانت تدخله إليها ليلا وكنت أنا أغني لهم فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه ثم دعا بدواة ورقعة وكتب فيها قوله
( يا بدرُ إنّك قد كُسِيتَ مشابِهاً ... من وَجْه أُمِّ محمد ابنةِ صَالحِ )
والبيت الآخر وقال لي غني فيه ففعلت واستحسناه وشربنا عليه فقالت لي أم محمد في آخر المجلس يا أختي قد تنبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر فقال أبو محلم وأنا أغيره فجعل مكان أم محمد ابنة صالح ذاك المستنير اللائح وغنيته كما غيره وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر

فأما نسبة هذا الصوت
فإن الشعر لأبي محلم النسابة والغناء لعريب ثقيل أول مطلق في مجرى

الوسطى من رواية الهشامي وغيره وأبو محلم اسمه عوف بن محلم

كتبت إلى حبيبها تستزيره
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن ميمون بن هارون قال
كتبت عريب إلى محمد بن حامد - الذي كانت تهواه - تستزيره فكتب إليها إني أخاف على نفسي فكتبت إليه
صوت
( إذا كنتَ تحذرُ ما تحذرُ ... وتزعُم أنك لا تَجسُرُ )
( فمالي أُقِيمُ على صَبْوَتي ... ويَومُ لِقائِك لا يُقدَرُ )
فصار إليها من وقته
لعريب في هذين البيتين وبيتين آخرين بعدهما لم يذكرا في الخبر رمل ولشارية خفيف رمل جمعا من رواية ابن المعتز والبيتان الآخران
( تبيَّنتَ عذري وما تَعذِر ... وأبليتَ جسمي وما تشعرُ )
( ألِفْتَ السُّرورَ وخَلَّيْتنَي ... ودَمْعِي من العين ما يَفترُ )
وذكر ميمون في هذا الخبر أن محمد بن حامد كتب إليها يعاتبها في شيء كرهه فكتبت إليه تعتذر فلم يقبل فكتبت إليه بهذين البيتين الآخرين اللذين ذكرتهما بعد نسبة هذا الصوت
صوت
( أَحببتُ من شعر بَشّار لحبكمُ ... بَيْتا كلِفت به من شِعْرِ بَشّارِ )

( يا رحمةَ اللهِ حُلِّي في مَنازِلنا ... وجاوِرِينا فدَتْكِ النَّفْسُ من جارِ )
( إذا ابتهلتُ سألتُ اللهَ رحمتَه ... كنيتُ عنك وما يَعدُوك إِضمارِي )
الشعر لأبي نواس منه البيت الأول والثاني لبشار ضمنه أبو نواس والغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر ولعمرو بن بانة في الثاني والثالث رمل
وهذا الشعر يقوله أبو نواس في رحمة بن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد النحوي قال
كان بشار يشبب بامرأة يقال لها رحمة وكان أبو نواس يتعشق غلاما اسمه رحمة ابن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب وكان متقدما في جماله وكان أبوه قد ألزمه وأخاه رجلا مدنيا وكان معهم كأحدهم وأكثر أبو نواس التشبيب برحمة في إقامته ببغداد وشخوصه عنها وكان بشار قد قال في رحمة المرأة التي يهواها
( يا رحمةَ اللهِ حُلِّي في مَنازِلنا ... حسبي برائحة الفِرْدَوْس من فيك )
( يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مُخْتَبَرٍ ... إلا شِهادةَ أطرافِ المساويكِ )
فقال أبو نواس وضمن بيت بشار
( أحببت من شعر بشار لحُبِّكم ... بَيْتا كَلِفْت به من شِعْر بَشّار )
الأبيات الثلاثة
وقال فيه
( يا مَن تأهّب مُزْمعاً لِرواحِ ... مُتَيَمِّماً بغدادَ غيرَ مُلاحِ )
( في بَطْنِ جَارية كَفَتْكَ بسَيْرها ... رَمَلاً وكلَّ سِباحة السَّبّاحِ )
( بُنيت على قَدَرٍ ولاءم بينها ... صِنْفان من قارٍ ومن ألواحِ )

( وكأنها - والماء ينضح صدرَها ... والخَيزُرانة في يَدِ الملاَّحِ )
( جُونٌ من الغِربان يبتدر الدّجى ... يَهْوِي بصَوْتٍ واصطِفاقِ جَناحِ )
( سلّم على شاطى الصّراة وأهلِها ... واخصُصْ هناك مَدِينةَ الوَضَّاحِ )
( واقصد - هُديت - ولا تكن متحيّراً ... في مقصِدٍ عن ظَبْي آل نَجاحِ )
( عن رحمة الرحمن واسأل مَنْ تَرى ... سِيماه سِيما شارِب للرّاح )
( فإذا دُفِعْتَ إلى أغنَّ وألثغٍ ... ومُنَعَّمٍ ومُكَحَّلٍ ورَداحِ )
( وكشَمْسِنا وكبدرنا حاشى التي ... سَمَّيْتها منه بنَوْر أَقاحِي )
( فاقصِد لوقت لِقائه في خَلْوةٍ ... لِتَبُوحَ عني ثَمَّ كلّ مباحِ )
( واخبرْ بما أحبَبْت عن حالي التي ... ممسَايَ فيها واحدٌ وصَبَاحِي )
قال فافتدى أبو رحمة من أبي نواس ذكر ابنه بأن عقد بينه وبينه حرمة ودعاه إلى منزله فجاءه أبو نواس والمديني لا يعرفه فمازحه مزاحا أسرف عليه فيه فقام إليه رحمة فعرفه أنه أبو نواس فأشفق المديني من ذلك وخاف أن يهجوه ويشهر اسمه فسأل رحمة أن يكلمه في الصفح له والإغضاء عن الانتقام فأجابه أبو نواس وقال
( اذهبْ سلمتَ من الهجاء ولذعِه ... وأَمَا ولَثغةِ رحمةَ بنِ نجاح )
( لولا فُتورٌ في كلامك يُشتَهَى ... وتَرَفُّقِي لك بعدُ واستِملاحِي )
( وَتَكَسُّرٌ في مقلتيك هو الذي ... عَطَف الفُؤاد عليكَ بعد جِماح )

( لعَلِمت أنك لا تمازِح شاعِراً ... في ساعةٍ ليست بحينِ مُزاحِ )

صوت
( أَأَبكاك بالعُرُف المنزلُ ... وما أنت والطَّلَلُ المُحولُ )
( وما أنتَ ويْك ورسمُ الدِّيَارِ ... وسِنُّك قد قاربت تَكمُلُ )
عروضه من المتقارب والشعر للكميت بن زيد الأسدي والغناء لمعقل بن عيسى أخي أبي دلف العجلي ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر وهذان البيتان من قصيدة مدح الكميت بهما عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن علي بن هشام عن محمد بن عبد الأعلى بن كناسة قال
كان بين بني أسد وبين طيى بالحص - وهي قريبة من قادسية الكوفة - حرب فاصطلحوا وبقي لطيء دماء رجلين فاحتمل ذلك رجل من بني أسد فمات قبل أن يؤديه فاحتمله الكميت بن زيد فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة فمدحه بقوله
( أَأَبكاك بالعُرُف المنزلُ ... وما أنت والطَّلَل المُحولُ )
فأعانه الحكم بن الصلت الثقفي فمدحه بقصيدته التي أولها
( رأَيت الغوانيَ وحشاً نَفُورا ... )
وأعانه زياد بن المغفل الأسدي فمدحه بقصيدته التي أولها

( هل للشباب الذي قد فات من طلب ... )
ثم جلس الكميت وقد خرج العطاء فأقبل الرجل يعطي الكميت المائتين والثلاث المائة وأكثر وأقل قال وكانت دية الأعاربي حينئذ ألف بعير ودية الحضري عشرة آلاف درهم وكانت قيمة الجمل عشرة دراهم فأدى الكميت عشرين ألفا عن قيمة ألفي بعير

نسبة ما في أشعار الكميت هذه من الأغاني
صوت
منها
( هل للشباب الذي قد فات من طلبِ ... أم ليس غابرُه الماضي بمُنقلبِ )
( دَعِ البكاء على ما فات من طلب ... فالدّهر يأتي بألوان من العَجبِ )
غناه إبراهيم الموصلي خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية إسحاق

ذكر معقل بن عيسى
كان شاعرا ومغنيا
كان معقل بن عيسى فارسا شاعرا جوادا مغنيا فهما بالنغم والوتر وذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبي دلف وتقريظه في المعرفة بالنغم وقال إنه من أحسن أهل زمانه وأجود طبقته صنعة إذ سلم ذلك له أخوه معقل وإنما أخمل ذكره ارتفاع شأن أخيه وهو القائل لأبي دلف في عتب عتبه عليه
( أُخَيَّ مالكَ ترميني فتُقصِدَني ... وإن رَمَيْتُكَ سهماً لم يجزْ كبدِي )
( أُخيَّ مالَكَ مجبولاً على تِرتي ... كأن أجسادنا لم تُغْذَ من جسدِ )
وهو القائل لمخارق وقد كان زار أبا دلف إلى الجبل ثم رجع إلى العراق أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري
صوت
( لعمري لئن قَرَّتْ بقُربك أعينٌ ... لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ )

( فَسِرْ أو أقِم وقفٌ عليك محبَّتي ... مكانُك من قلبي عليك مَصونُ )
( فما أوحشَ الدنيا إذا كنتَ نازحاً ... وما أحسنَ الدنيا بحيثُ تكونُ )
عروضه من الطويل والشعر لمعقل بن عيسى والغناء لمخارق ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وفيه لحن لمعقل بن عيسى خفيف رمل وفيه ثاني ثقيل يقال إنه لمخارق ويقال إنه لمعقل
ومن شعر معقل قوله يمتدح المعتصم وفيه غناء للزبير بن دحمان من الثقيل الأول بالبنصر

صوت
( الدارُ هاجك رسمُها وطلولُها ... أم بَيْنَ سُعْدَى يوم جَدَّ رحِيلُها )
( كُلٌّ شجاك فقل لعينك أَعوِلي ... إن كان يُغنِي في الديار عَوِيلُها )
( ومحمدٌ زينُ الخَلائِف والذي ... سَنَّ المكارمَ فاستَبان سَبِيلُها )
صوت
( أليسَ إلى أجبال شمخٍ إلى اللّوى ... لِوَى الرَّمل يوما للنُّفوس مَعادُ )
( بلاد بها كنا وكنا من اهلها ... إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بلادُ )
الشعر لرجل من عاد فيما ذكروا والغناء لابن محرز ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر عن ابن المكي وقيل إنه من منحوله إليه
أخبرني ابن عمار عن أبي سعد عن محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن سلمة بن أبي الأشهب التيمي عن الهيثم بن عدي قال أخبرني حماد الراوية قال
حدثني ابن أخت لنا من مراد قال وليت صدقات قوم من العرب فبينا أنا أقسمها في أهلها إذ قال لي رجل منهم ألا أريك عجبا قلت بلى قال فأدخلني في

شعب من جبل فإذا أنا بسهم من سهام عاد من فتى قد نشب في ذروة الشعب وإذا على الجبل تجاهي مكتوب
( ألا هَلْ إلى أبياتِ شمخٍ إلى اللّوى ... لِوَى الرَّمل يوماً للنُّفوس مَعادُ )
( بلاد بها كنا وكنا من اهلها ... إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بلادُ )
ثم أخرجني إلى ساحل البحر وإذا أنا بحجر يعلوه الماء طورا ويظهر تارة وإذا عليه مكتوب يابن آدم يابن عبد ربه اتق الله ولا تعجل في أمرك فإنك لن تسبق رزقك ولن ترزق ما ليس لك ومن البصرة إلى الديل ستمائة فرسخ فمن لم يصدق بذلك فليمش الطريق على الساحل حتى يتحققه فإن لم يقدر على ذلك فلينطح برأسه هذا الحجر
صوت
( يا بيت عاتكَة الذي أَتعزَّل ... حَذَر العِدا وبه الفُؤادُ موكَّلُ )
( إني لأمنحُكَ الصُّدودَ وإنني ... قَسماً إليك مع الصُّدود لأميَلُ )
أتعزله أتجنبه وأكون بمعزل عنه العدا جمع عدو ويقال عدا بالضم وعدا بالكسر وأمنحك أعطيك والمنيحة العطية وفي الحديث أن رجلا منح بعض ولده شيئا من ماله فقال له النبي أكل ولدك منحت مثل هذا قال لا قال فارجعه
الشعر للأحوص بن محمد الأنصاري من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وغيرهما وفيه لابن سريج خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وعلي بن يحيى

الأحوص وبعض أخباره
سرق أبيات سليمان بأعيانها وأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط
أخبرني بخبر الأحوص في هذا الشعر الحرمي عن الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي وأخبرنا به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري عن المؤملي عن عمر بن أبي بكر الموصلي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال
خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى الحج فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن لو أرسلت إلى سليمان بن أ بي دباكل فأنشدنا شيئا من شعره فأرسل إليه فأتانا فاستنشدناه فأنشدنا قصيدته التي يقول فيها
( يا بيتَ خَنْساءَ الذي أتجنَّبُ ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يَذْهَبُ )
( أصبحت أمنَحُكِ الصدودَ وإنَّني ... قَسماً إليك مع الصُّدودِ لأجنُبُ )
( ما لي أحِنُّ إلى جِمالِكِ قُرِّبت ... وأصُدُّ عنك وأنت مِنِّيَ أقربُ )
( لله دَرُّك هل لديك مُعوَّلٌ ... لمتَيَّيمٍ أم هل لوُدّكِ مَطلبُ )

( فلقد رأيتك قبل ذاكَ وإنني ... لمُوكَّل بهواك أو مُتَقَرّب )
( إذ نحن في الزمن الرخيّ وأنتُم ... متجاورون كلامُكم لا يُرقَبُ )
( تبكي الحمامةُ شَجوها فتَهِيجُني ... عازبُ همِّيَ المتأَوِّبُ )
( وتَهبُّ جاريةُ الرياح مِنَ ارضكم ... فأرى البلاد لها تُطِلُّ وتُخصِب )
( وأرى السّمية باسمكم فيزيدُني ... شوقاً إليك رجاؤك المُتَنسّبُ )
( وأرى العدوَّ يودّكم فأودّه ... إن كان يُنسب منك أو لا يُنسبُ )
( وأُخالِف الوَاشِينَ فيك تجمُّلاً ... وهُم عليَّ ذَوُو ضغائِنَ دُؤَّبُ )
( ثم اتخذتِهم عليَّ وَليجةً ... حتى غَضِبت ومثلُ ذلك يُغضِبُ )
قال فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان فقدم المدينة فدخل عليه الأحوص واستصحبه فأصحبه فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده ماذا تريد بنفسك تقدم بالأحوص الشام وبها من ينافسك من بني أبيك وهو من الأفن والسفه على ما قد علمت فيعيبونك به فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص متنجزا لما وعده من الصحابة فدعا له بمائة دينار وأثواب وقال يا خال إني نظرت فيما سألتني من الصحابة فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين من غير إذنه فيجبهك فيشمت بك عدوي من أهل بيتي ولكن خذ هذه الثياب والدنانير وأنا مستأذن لك أمير المؤمنين فإذا أذن لك كتبت إليك فقدمت علي فقال له الأحوص لا ولكن قد سبعت عندك ولا حاجة لي بعطيتك ثم خرج من عنده فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فأرسل إلى الأحوص وهو يومئذ أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار وكساه ثيابا فأخذ ذلك ثم قال له

يا أخي هب لي عرض أبي بكر قال هو لك ثم خرج الأحوص فقال له عروض قصيدة سليمان بن أبي دبا كل قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز
وقال حماد قال أبي سرق أبيات سليمان بأعيانها فأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط فقال
( يا بيتَ عاتكة الذي أتعزَّل ... حذَر العِدَا وبه الؤاد موكَّل )
( أصبحتُ أمنحُك الصّدود وإنَّني ... قسَماً إليك مع الصّدود لأَمْيَلُ )
( فصددتُ عنك وما صددتُ لِبغْضةٍ ... أخشى مقالةَ كاشحٍ لا يعْقِلُ )
( هل عيشُنا بك في زمانك راجِعٌ ... فلقد تفاحش بعدك المتعلّل )
( إني إذا قُلتُ استقام يحُطُّه ... خُلْفٌ كما نظر الخِلافَ الأقبَلُ )
( لو بالّذي عالجت لِينَ فؤاده ... فأبَى يُلانُ بهِ لَلانَ الْجَنْدَلُ )
( وتَجنُّبي بَيتَ الحبيبِ أودُّه ... أُرضِي البغيضَ به حديثٌ مُعْضِلُ )
( ولئن صددتُ لأنتِ لولا رِقبتي ... أهوَى من اللائي أزورُ وأدْخُلُ )
( إنّ الشَّبابَ وعيشَنا اللذَّ الذي ... كُنَّا به زمناً نُسرُّ ونَجذَلُ )
( ذهبت بشاشتُه وأَصبَح ذكرُه ... حُزْناً يُعلُّ به الفؤاد وينهلُ )
( إلاَّ تَذَكُّرَ ما مضى وصبابة ... مُنِيَتْ لقلْب متيَّمٍ لا يَذْهَلُ )
( أودَى الشبابُ وأخلقَتْ لذَّاتُه ... وأنا الحزينُ على الشباب المُعْولُ )
( يبكِي لما قَلَبَ الزمانُ جديدَه ... خَلقاً وليس على الزّمان مُعوَّلُ )
( والرأس شامِلُه البَياضُ كأنه ... بعد السّواد به الثَّغامُ المُحْجِلُ )

( وسفيهةٍ هبَّت عليَّ بسُحْرةٍ ... جَهْلاً تلوم على الثّواء وتعذلُ )
( فأجبتُها أن قلتُ لستِ مُطاعةً ... فذرِي تنصُّحكَ الذي لا يُقبَلُ )
( إنّي كَفانِي أن أعالج رِحْلَةً ... عُمَرٌ ونبوةُ من يضنّ ويبخل )
( بِنَوالِ ذِي فجرٍ تكون سِجالُه ... عَمَمَّا إذا نزل الزَّمانُ الممحلُ )
( ماضٍ على حدث الأمور كأنه ... ذو رَوْنق عَضْبٌ جَلاهُ الصَّيْقَلُ )
( تُبدِي الرجال إذا بدا إعظامه ... حذَرَ البُغاث هَوَى لهنّ الأجْدَلُ )
( فيرون أنّ له عليهم سورةً ... وفضيلَةً سَبَقَتْ له لا تُجْهَلُ )
( مُتَحمِّلٌ ثِقَلَ الأمورِ حوى له ... سبقَ المكارم سابِقٌ مُتَمَهِّلُ )
( وله إذا نُسِبَتْ قريشٌ منهم ... مجد الأرومة والفَعالُ الأفضلُ )
( وله بمكة إذْ أميّة أهلُها ... إرثٌ إذا عُدَّ القديمُ مُؤثّلُ )
( أعيت قرابَتُه وكان لُزومُه ... أمْراً أبانَ رَشَادَه مَنْ يَعْقِلُ )
( وسموتَ عن أخلاقهم فتركتهم ... لنداك إنّ الحازمَ المتحوّلُ )
( ولقد بدأتُ أريدُ وُدَّ معاشِرٍ ... وَعَدُوا مواعِدَ أخلفت إن حُصِّلُوا )
( حتى إذا رجع اليقينُ مطامِعي ... يأساً وأخلَفَني الذين أُؤمّلُ )
( زايلتُ ما صَنَعوا إليك برحلةٍ ... عَجْلَى وعندك عنهمُ مُتَحوَّلُ )
( ووعدتني في حاجةٍ فصَدَقْتَنِي ... ووفيتَ إذ كَذَبُوا الحديثَ وبَدَّلوا )
( وشكوتُ غُرماً فادحاً فحملتَه ... عَنِّي وأنت لمثلِه مُتَحمِّل )
( فلأشكرنَّ لك الذي أوليتَني ... شُكراً تُحلُّ به المطيُّ وتُرحَلُ )

( مِدَحاً تكون لكم غرائبُ شعرها ... مَبْذُولَةً ولغيركم لا تبذل )
( فإذا تَنَحَّلْتُ القريضَ فإنّه ... لكم يكون خِيارُ ما أَتَنَحَّلُ )
( ولعمرُ مَن حَجَّ الحجيجُ لِبَيْته ... تَهْوِي به قُلُص المَطِيّ الذُّمَّلُ )
( إنَّ امرأً قد نال منك قرابةً ... يَبْغي منافِعَ غيرها لمُضَلَّلُ )
( تَعْفُو إذا جَهِلُوا بحلمك عنهم ... وتُنِيلُ إن طلبوا النّوال فتُجزِلُ )
( وتكون مَعْقِلَهُمْ إذا لم يُنجِهم ... من شَرّ ما يخشون إلاّ المَعْقِل )
( حتى كأنك يُتَّقى بك دونهمْ ... من أُسْد بِيشة خادِرٌ مُتَبَسِّل )
( وأَراكَ تفعلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعل )
( وأرى المدينةَ حين صِرْت أميرَها ... أمِنَ البَرِيءُ بها ونام الأعزلُ )
فقال عمر ما أراك أعفيتني مما استعفيت منه قال لأنه مدح عمر وعرض بأخيه أبي بكر

نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الأغاني
صوت
( ما لي أحِنُّ إذا جِمالُك قُرِّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقربُ )
( وأرى البلادَ إذا حللتِ بغيرها ... وَحْشاً وإن كانت تُظَلّ وتُخْصِبُ )
( يا بيت خنساءَ الذي أتجنَّب ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يذهَبُ )
( تبكي الحمامةُ شجوَها فتَهيجُني ... ويَرُوحُ عازب هَمِّيَ المتأوِّبُ )

الشعر لسليمان بن أبي دباكل والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو وقال ابن المكي فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز وأوله
( تبكي الحمامة شجوها فتهيجني ... )
من هي عاتكة التي يذكرها الأحوص في شعره
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي وقال محمد بن كناسة حدثني أبو دكين بن زكريا بن محمد بن عمار بن ياسر قال رأيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص
( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... )
وهي عجوز كبيرة وقد جعلت بين عينيها هلالا من نيلج تتملح به
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري قال عاتكة التي يشبب بها الأحوص عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية
أخبرني الحرمي عن الزبير عن إسحاق بن عبد الملك
أن الأحوص كان لينا وأن عاتكة التي ينسب بها ليست عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية وإنما هو رجل كان ينزل قرى كانت بين الأشراف كنى عنه بعاتكة
أخبرني الحرمي عن الزبيري عن يعقوب بن حكيم قال
كان الأحوص لينا وكان يلزم نازلا بالأشراف فنهاه أخوه عن ذلك فتركه فرقا من أخيه وكان يمر قريبا من خيمة النازل بالأشراف ويقول

( يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل )
يكنى عنه بعاتكة ولا يقدر أن يدخل عليه

الفرزدق وكثير يزوران الأحوص
أخبرني الحرمي عن الزبيري عن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم قال حدثني عبد العزيز بن عمران قال
قدم الفرزدق المدينة فقال لكثير هل لك بنا في الأحوص نأتيه ونتحدث عنده فقال له وما نصنع به إذا والله نجد عنده عبدا حالكا أسود حلوكا يؤثره علينا ويبيت مضاجعه ليلته حتى يصبح قال الفرزدق فقلت إن هذا من عداوة الشعراء بعضهم لبعض قال فانهض بنا إليه إذا لا أب لغيرك قال الفرزدق فأردفت كثيرا ورائي على بغلتي وقلت تلفف يا أبا صخر فمثلك لا يكون رديفا فخمر رأسه وألصق في وجهه فجعلت لا أجتاز بمجلس قوم إلا قالوا من هذا وراءك يا أبا فراس فأقول جارية وهبها لي الأمير فلما أكثرت عليه من ذلك واجتاز على بني زريق وكان يبغضهم فقلت لهم ما كنت أقول قبل ذلك كشف عن رأسه وأومض وقال كذب ولكني كرهت أن أكون له رديفا وكان حديثه لي معجبا فركبت وراءه ولم تكن لي دابة أركبها إلا دابته فقالوا لا تعجل يا أبا صخر ههنا دواب كثيرة تركب منها ما أردت فقال دوابكم والله أبغض إلي من ردفه فسكتوا عنه وجعل يتغشم عليهم حتى جاوز أبصارهم فقلت والله ما قالوا لك بأسا فما

الذي أغضبك عليهم فقال والله ما أعلم نفرا أشد تعصبا للقرشيين من نفر اجتزت بهم قال فقلت له وما أنت لا أم لك ولقريش قال أنا والله أحدهم قلت إن كنت أحدهم فأنت والله دعيهم قال دعيهم خير من صحيح نسب العرب وإلا فأنا والله من أكرم بيوتهم أنا أحد بني الصلت بن النضر قلت إنما قريش ولد فهر بن مالك فقال كذبت فقال ما علمك بابن الجعراء بقريش هم بنو النضر بن كنانة ألم تر إلى النبي انتسب إلى النضر بن كنانة ولم يكن ليجاوز أكرم نسبه قال فخرجنا حتى أتينا الأحوص فوجدناه في مشربة له فقلنا له أنرقى إليك أم تنزل إلينا قال لا أقدر على ذلك عندي أم جعفر ولم أرها منذ أيام ولي فيها شغل فقال كثير أم جعفر والله بعض عبيد الزرانيق فقلنا له فأنشدنا بعض ما أحدثت به فأنشدنا قوله
( يا بَيْتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... حذرَ العِدا وبه الفُؤادُ مُوكَّلُ )
حتى أتى على آخرها فقلت لكثير قاتله الله ما أشعره لولا ما أفسد به نفسه قال ليس هذا إفسادا هذا خسف إلى التخوم فقلت صدقت وانصرفنا من عنده فقال أين تريد فقلت إن شئت فمنزلي وأحملك على البغلة وأهب لك المطرف وإن شئت فمنزلك ولا أرزؤك شيئا فقال بل منزلي وأبذل لك ما قدرت عليه وانصرفنا إلى منزله فجعل يحدثني وينشدني حتى جاءت الظهر فدعا لي بعشرين دينارا وقال استعن بهذه يا أبا فراس على مقدمك قلت هذا أشد من حملان بني زريق قال والله إنك ما تأنف من أخذ هذا من أحد غير الخليفة قال الفرزدق فجعلت أقول في

نفسي تالله إنه لمن قريش وهممت ألا أقبل منه فدعتني نفسي وهي طمعة إلى أخذها منه فأخذتها
معنى قول كثير للفرزدق يابن الجعراء يعيره بدغة وهي أم عمرو بن تميم وبها يضرب المثل في الحماقة فيقال هي أحمق من دغة وكانت حاملا فدخلت الخلاء فولدت وهي لا تعلم ما الولد وخرجت وسلاها بين رجليها وقد استهل ولدها فقالت يا جارتا أيفتح الجعر فاه فقالت جارتها نعم يا حمقاء ويدعو أباه فبنو تميم يعيرون بذلك ويقال للمنسوب منهم يا بن الجعراء

ملاحاة بينه وبين السري بن عبد الرحمن
أخبرني الحرمي عن الزبير قال حدثني سليمان بن داود المجمعي قال
اجتاز السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري بالأحوص وهو ينشد قوله
( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... )
فقال السري
( يا بَيْتَ عاتكةَ المُنَوَّهَ باسْمِهِ ... اقعُد على مَنْ تحتَ سَقْفِك واعْجَل )
فواثبه الأحوص وقال في ذلك
( فأنت وشتمي في أَكارِيسِ مالك ... وسَبّي به كالكَلْب إذ يَنبح النَّجْما )

( تَداعَى إلى زَيْد وما أنتَ منهم ... تَحُقُّ أَباً إلاّ الولاءَ ولا أما )
( وإنَّك لو عَدَّدْتَ أَحسابَ مالك ... وأيامها فيها ولم تنطق الرَّجْما )
( أعادتْك عَبْداً أو تنَقَّلتَ كاذِباً ... تَلمَّسُ في حيٍّ سوى هالك جِذْما )
( وما أنا بالمحْسوس في جِذْمِ مالك ... ولا بالمُسمَّى ثم يلتزم الإِسْمَا )
( ولكن أَبي لَوْ قد سألتَ وجدَته ... توسَّطَ منها العِزَّ والحَسَب الضَّخْما )
فأجابه السري فقال
( سألتُ جميعَ هذا الخلق طُرًّا ... متى كان الأُحَيْوص من رجالي )
وهي أبيات ليست بجيدة ولا مختارة فألغيت ذكرها

شعره يسعف دليل المنصور
أخبرني محمد بن أحمد بن الطلاس أبو الطيب عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني وأخبرني به الحرمي عن الزبير قال حدثني عمي وقد جمعت روايتيهما
أن المنصور أمر الربيع لما حج أن يسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها ودورها وحيطانها فكان رجل من أهلها قد انقطع إلى الربيع زمانا وهو رجل من الأنصار فقال له تهيأ فإني أظني جسدك قد تحرك إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها وحيطانها

ودورها فتحسس موافقته ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك ولا تكتمه شيئا ولا تسأله حاجة فغدا عليه بالرجل وصلى المنصور فقال يا ربيع الرجل فقال ها هو ذا فسار معه يخبره عما سال حتى ندر من أبيات المدينة فأقبل عليه المنصور فقال من أنت أولا فقال من لا تبلغه معرفتك هكذا ذكر الخراز وليس في رواية الزبير فقال مالك من الأهل والولد فقال والله ما تزوجت ولا لي خادم قال فأين منزلك قال ليس لي منزل قال فإن أمير المؤمنين قد أمر لك بأربعة آلاف درهم فرمي بنفسه فقبل رجله فقال له اركب فركب فلما أراد الانصراف قال للربيع يا أبا الفضل قد أمر لي أمير المؤمنين بصلة قال إيه قال إن رأيت أن تنجزها لي قال هيهات قال فأصنع ماذا قال لا أدري والله وفي رواية الخراز أنه قال ما أمر لك بشيء ولو أمر به لدعاني فقال أعطه أو وقع إلي فقال الفتى هذا هم لم يكن في الحساب فلبثت أياما ثم قال المنصور للربيع ما فعل الرجل قال حاضر قال سايرنا به الغداة ففعل وقال له الربيع إنه خارج بعد غد فاحتل لنفسك فإنه والله إن فاتك فإنه آخر العهد به فسار معه فجعل لا يمكنه شيء حتى انتهى إلى مسيره ثم رجع وهو كالمعرض عنه فلما خاف فوته أقبل عليه فقال يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة قال وما بيت عاتكة قال الذي يقول فيه الأحوص
( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... )
قال فمه قال إنه يقول فيها
( إنّ امرأً قد نال منك وسيلةً ... يرجُو منافعَ غَيرِها لمضّللُ )
( وأراكَ تفعَلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعَلُ )
فقال الزبير في خبره فقال له لقد رأيتك أذكرت بنفسك يا سليمان

ابن مخلد أعطه أربعة آلاف درهم فأعطاه إياها وقال الخراز في خبره فضحك المنصور وقال قاتلك الله ما أظرفك يا ربيع أعطه ألف درهم فقال يا أمير المؤمنين إنها كانت أربعة آلاف درهم فقال ألف يحصل خير من أربعة آلاف لا تحصل
وقال الخراز في خبره حدثني المدائني قال
أخذ قوم من الزنادقة وفيهم ابن لابن المقفع فمر بهم على أصحاب المدائن فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيؤخذ فتمثل
( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزَّلُ ... حذَر العِدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ )
الأبيات ففطنوا لما أراد فلم يسلموا عليه ومضى

هو ومعبد المغني في حضرة يزيد بن عبد الملك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة قال
بلغني أن يزيد بن عبد الملك كتب إلى عامله أن يجهز إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني
فأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني أبي قال حدثنا سلمة بن صفوان الزرقي عن الأحوص الشاعر وذكر إسماعيل بن سعيد الدمشقي أن الزبير بن بكار حدثه عن ابن أبي أويس عن أبيه عن مسلمة بن صفوان عن الأحوص وأخبرني به الحرمي عن الزبير عن عمه عن جرير المديني المغني وأبو مسكين قالوا جميعا
كتب يزيد بن عبد الملك في خلافته إلى أمير المدينة وهو عبد الواحد ابن عبد الله النصري أن يحمل إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني مولى

ابن قطن قال فجهزنا وحملنا إليه فلما نزلنا عمان أبصرنا غديرا وقصورا فقعدنا على الغدير وتحدثنا وذكرنا المدينة فخرجت جارية من بعض تلك القصور ومعها جرة تريد أن تستقي فيها ماء قال الأحوص فتغنت بمدحي في عمر بن عبد العزيز
( يا بيت عاتكةَ الذي أتعزل ... )
فتغنت بأحسن صوت ما سمعته قط ثم طربت فألقت الجرة فكسرتها فقال معبد غنائي والله وقلت شعري والله فوثبنا إليها وقلنا لها لمن أنت يا جارية قالت لآل سعيد بن العاص وفي خبر جرير المعني لآل الوليد بن عقبة ثم اشتراني رجل من آل الوحيد بخمسين ألف درهم وشغف بي فغلبته بنت عم له طرأت عليه فتزوجها على أمري فعاقبت منزلتها بمنزلتي ثم علا مكانها مكاني فلم تزدها الأيام إلا ارتفاعا ولم تزدني إلا اتضاعا فلم ترض منه إلا بأن أخدمها فوكلتني باستقاء الماء فأنا على ما تريان أخرج أستقي الماء فإذا رأيت هذه القصور والغدران ذكرت المدينة فطربت إليها فكسرت جرتي فيعذلني أهلي ويلومونني قال فقلت لها أنا الأحوص والشعر لي وهذا معبد والغناء له ونحن ماضيان إلى أمير المؤمنين وسنذكرك له أحسن ذكر وقال جرير في خبره ووافقه وكيع ورواية عمر بن شبة قالوا فأنشأت الجارية تقول
( إن تروني الغداةَ أسعى بجرٍّ ... أستَقِي الماء نحو هذا الغدير )
( فلقد كنتُ في رخاء من العيش ... وفي كل نعمةٍ وسُرورِ )
( ثم قد تُبصِران ما فيه أمْسَيْتُ ... وماذا إليه صار مَصِيري )
( فإلى الله أَشتكي ما ألاقي ... من هَوانٍ وما يُجِنُّ ضَمِيري )
( أبلغا عَنّي الإمامَ وما يعرف ... صِدقَ الحَديث غيرُ الخَبير )

( إنني أَضْرَبُ الخَلائِق بالعُودِ ... وأَحْكاهُم بِبَمٍّ وزِير )
( فلعلّ الإله يُنقِذ مما ... أَنا فيه فإنّني كالأسير )
( ليتني مِتّ يوم فارقتُ أهلي ... وبلادي فزُرت أهلَ القُبورِ )
( فاسمعا ما أقول لفَّا كما ... الله نجاحاً في أحسن التيسير )
فقال الأحوص من وقته

صوت
( إنّ زينَ الغدير من كسر الجرْ ... وَغَنَّى غِناء فحلٍ مُجيد )
( قلتُ من أنتِ يا ظعينَُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل الوليدِ )
وفي رواية الدمشقي
( قلت من أَيْن يا خَلوبُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل سعيد )
( ثم أصبحْتُ بعد حَيِّ قريشٍ ... في بني خالد لآل الوحيد )
( فغِنائي لمعبَد ونَشِيدي ... لفتى الناس الأحْوَص الصِّنْديدِ )
( فتباكيْتُ ثم قلت أنا الأحْوص ... والشيخ مَعْبَدٌ فأعِيدي )
( فأعادت لنا بصوتٍ شجِيٍّ ... يتركُ الشيخَ في الصِّبا كالوَليدِ )
وفي رواية أبي زيد
( فأعادت فأحسنَتْ ثم ولَّتْ ... تَتهادَى فقلتُ قولَ عميدِ )
( يعجِزُ المالُ عن شِراكٍ ولكنْ ... أنتِ في ذِمَّة الهُمام يزيدِ )
( ولكِ اليومَ ذِمَّتي بوفاءٍ ... وعلى ذاكِ من عِظام العهودِ )

( أَنْ سَيَجْرِي لك الحديثُ بصوتٍ ... مَعبديّ يَرُدُّ حَبْلَ الوريدِ )
( يفعل الله ما يشاء فَظُنِّي ... كُلَّ خير بنا هناكَ وزيدِي )
( قالت القَينةُ الكَعَابُ إلى ... اللهِ أُمورِي وأرْتَجِي تَسْدِيدِي )
غناه معبد ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش والهشامي وغيرهما وهي طريقة هذا الصوت وأهل العلم بالغناء لا يصححونه لمعبد
قال الأحوص وضع فيه معبد لحنا فأجاده فلما قدمنا على يزيد قال يا معبد أسمعني أحدث غناء غنيت وأطراه فغناه معبد
( إنّ زَينَ الغدير من كَسَرَ الجرَّ ... وَغَنَّى غِناء فحلٍ مُجيدِ )
فقال يزيد إن لهذا لقصة فأخبراني بها فأخبراه فكتب لعامله بتلك الناحية إن لآل فلان جارية من حالها ذيت وذيت فاشترها بما بلغت فاشتراها بمائة ألف درهم وبعث بها هدية وبعث معها بألطاف كثيرة فلما قدمت على يزيد رأى فضلا بارعا فأعجب بها وأجازها وأخدمها وأقطعها وأفرد لها قصرا قال فوالله ما برحنا حتى جاءتنا منها جوائز وكسا وطرف
وقال الزبير في خبره عن عمه قال
أظن القصة كلها مصنوعة وليس يشبه الشعر شعر الأحوص ولا هو من طرازه وكذلك ذكر عمر بن شبة في خبره
أخبرني الحرمي عن الزبير قال
سمعت هشام بن عبد الله بن عكرمة يحدث عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال

ينذر بزوال الدولة الأموية
كنت مع يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الفرات فلما انهزم الناس التفت إلي فقال يا أبا الحارث أمسينا والله وهم كما قال الأحوص
( أبْكِي لما قَلَبَ الزمانُ جديدَه ... خَلَقاً وليس على الزمان مُعَوَّلُ )
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري
أن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية رئيت في النوم قبل ظهور دولة بني العباس على بني أمية كأنها عريانة ناشرة شعرها تقول
( أين الشَّبابُ وعيشُنا اللّذُّ الذي ... كُنَّا به يوما نُسَرُّ ونُجذَلُ )
( ذهبت بَشاشتُه وأصبَحَ ذِكْرُه ... حُزْناً يُعَلَّ به الفؤادُ ويُنْهَل )
فتأول الناس ذلك بزوال دنيا بني أمية فكان كما قالوا
أخبرني بهذا الخبر الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الجمحي عن شيخ من قريش
أنه رأى في النوم امرأة من ولد عثمان بن عفان على منايم على دار عثمان المقبلة على المسجد وهي حاسرة في يديها عود وهي تضرب به وتغني
( أين الشَّبابُ وعيشُنا اللّذُّ الذي ... كُنَّا به زَمناً نُسَرُّ ونُجذَلُ )
( ذهبت بَشاشتُه وأصبَحَ ذِكْرُه ... حُزْناً يُعَلُّ به الفؤادُ ويُنْهَل )
قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى خرج الأمر عن أيديهم وقتل مروان

قال إسحاق المنامة الدكان وجمعها منايم

صوت
( يا هندُ إنَّكِ لو علمتِ ... بعَاذِلَيْنِ تتابعا )
( قالا فلمْ أسْمَعْ لِمَا ... قالا وقلتُ بل اسْمَعا )
( هندٌ أحبُّ إليَّ من ... مالي وروحيَ فارْجِعَا )
( ولقد عَصَيْتُ عَواذِلي ... وأطعْتُ قلباً مُوجَعا )
الشعر لعبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام والغناء لابن سريج ولحنه فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر رمل بالوسطى عن عمرو وفيه خفيف ثقيل ذكر أبو العبيس أنه لابن سريج وذكر الهشامي وابن المكي أنه للغريض وذكر حبش أن لإبراهيم فيه رملا آخر بالبنصر وقال أحمد بن عبيد الذي صح فيه ثقيل الأول وخفيفه ورمله وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لابن عباد

ذكر عبد الله بن الحسن بن الحسن
عليهم السلام ونسبه وأخباره وخبر هذا الشعر
عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وقد مضى نسبه في أخبار عمه الحسين صلوات الله عليه في شعره الذي يقول فيه
( لعمرُكَ إنَّنِي لأُحِبُّ داراً ... تَحِلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ والرَّبابُ )
ويكنى عبد الله بن الحسن أبا محمد وأم عبد الله بن الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله وأمها الجرباء بنت قسامة بن رومان عن طيء
لماذا سميت جدته الجرباء
أخبرني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن قال
إنما سميت الجرباء لحسنها كانت لا تقف إلى جنبها امرأة وإن كانت جميلة إلا استقبح منظرها لجمالها وكان النساء يتحامين أن يقفن إلى جنبها فشبهت بالناقة الجرباء التي تتوقاها الإبل مخافة أن تعديها
وكانت أم إسحاق من أجمل نساء قريش وأسوئهن خلقا ويقال إن نساء بني تيم كانت لهن حظوة عند أزواجهن على سوء أخلاقهن ويروى أن

أم إسحاق كانت ربما حملت وولدت وهي لا تكلم زوجها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه بذلك قال
وقد كانت أم إسحاق عند الحسن بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليه قبل أخيه الحسين عليه السلام فلما حضرته الوفاة دعا بالحسين صلوات الله عليه فقال له يا أخي إني أرضى هذه المرأة لك فلا تخرجن من بيوتكم فإذا انقضت عدتها فتزوجها فلما توفي الحسن عنها تزوجها الحسين عليه السلام وقد كانت ولدت من الحسن عليه السلام ابنه طلحة بن الحسن فهو أخو فاطمة لأمها وابن عمها وقد درج طلحة ولا عقب له
ومن طرائف أخبار التيميات من نساء قريش في حظوتهن وسوء أخلاقهن ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن محمد بن عبد الله قال
كانت أم سلمة بنت محمد بن طلحة عند عبد الله بن الحسن وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له ويفرق منها ولا يخالفها فرأى يوما منها طيب نفس فأراد أن يشكو إليها قسوتها فقال لها يا بنت محمد قد أحرق والله قلبي . . . فحددت له النظر وجمعت وجهها وقالت له أحرق قلبك ماذا فخافها فلم يقدر على أن يقول لها سوء خلقك فقال لها حب أبي بكر الصديق فأمسكت عنه
وتزوج الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين في حياة عمه وهو عليه السلام زوجه إياها

زواجه فاطمة بنت الحسين
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه بذلك وحدثني أحمد

ابن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل بن يعقوب قال حدثني جدي عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن قال
خطب الحسن بن الحسن إلى عمه الحسين صلوات الله عليه وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه فقال له الحسين عليه السلام اختر يا بني أحبهما إليك فاستحيا الحسن ولم يحر جوابا فقال له الحسين عليه السلام فإني اخترت منهما لك ابنتي فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه مصعب
أن الحسن لما خيره عمه اختار فاطمة وكانوا يقولون إن امرأة سكينة مردودتها لمنقطعة القرين في الجمال
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى وأحمد بن زهير عن الزبير وأخبرني أحمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير بن بكار واللفظ للحسن بن علي وخبره أتم قال قال الزبير حدثني عمي مصعب ولم يذكر أحدا

ماذا قال حين حضرته الوفاة
وأخبرني محمد بن يحيى عن أيوب عن عمر بن أبي الموالي قال الزبير وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن يوسف بن الماجشون وقد دخل حديث بعضهم في بعض حديث الآخرين
أن الحسن بن الحسن لما حضرته الوفاة جزع وجعل يقول إني لأجد

كربا ليس إلا هو كرب الموت وأعاد ذلك دفعات فقال له بعض أهله ما هذا الجزع تقدم على رسول الله وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين صلوات الله عليهم وهم آباؤك فقال لعمري إن الأمر لكذلك ولكني كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان حين أموت وقد جاء في مضرجتين أو ممصرتين وهو يرجل جمته يقول أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي وما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين فإذا جاء فلا يدخل علي فصاحت فاطمة أتسمع قال نعم قالت أعتقت كل مملوك لي وتصدقت بكل ملك لي إن أنا تزوجت بعدك أحدا أبدا قال فسكن الحسن وما تنفس ولا تحرك حتى قضى فلما ارتفع الصياح أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها الحسن فقال بعض القوم ندخله وقال بعضهم لا يدخل وقال قوم لا يضر دخوله فدخل وفاطمة تصك وجهها فأرسل إليها وصيفا كان معه فجاء يتخطى الناس حتى دنا منها فقال لها يقول لك مولاي ابقي على وجهك فإن لنا فيه أربا قال فأرسلت يدها في كمها واختمرت وعرف ذلك منها فما لطمت وجهها حتى دفن صلوات الله عليه فلما انقضت عدتها خطبها فقالت فكيف لي بنذري ويميني فقال نخلف عليك بكل عبد عبدين وبكل شيء شيئين ففعل وتزوجته وقد قيل في تزويجه إياها غير هذا
أخبرني به أحمد بن محمد بن إسماعيل الهمداني عن يحيى بن الحسن العلوي عن أخيه أبي جعفر عن إسماعيل بن يعقوب عن محمد ابن عبد الله البكري

أن فاطمة لما خطبها عبد الله أبت أن تتزوجه فحلفت عليها أمها لتتزوجنه وقامت في الشمس وآلت لا تبرح حتى تتزوجته فكرهت فاطمة أن تحرج فتزوجته
وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن شيخ أهله وسيدا من ساداتهم ومقدما فيهم فصلا وعلما وكرما وحبسه أبو جعفر المنصور في الهاشمية بالكوفة لما خرج عليه ابناه محمد وإبراهيم فمات في الحبس وقيل إنه سقط عليه وقيل غير ذلك

انتهى كل حسن إليه
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعبا الزبيري يقول
انتهى كل حسن إلى عبد الله بن حسن وكان يقال من أحسن الناس فيقال عبد الله بن الحسن ويقال من أفضل الناس فيقال عبد الله بن الحسن
حدثني محمد بن الحسن الخثعمي الأشناني والحسن بن علي السلولي قالا حدثنا عباد بن يعقوب قال
حدثنا تلميذ بن سليمان قال رأيت عبد الله بن الحسن وسمعته يقول أنا أقرب الناس إلى رسول الله ولدتني بنت رسول الله مرتين
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل ابن يعقوب عن عبد الله بن موسى قال

أول من اجتمعت له ولادة الحسن عليه السلام والحسين صلوات الله عليهما عبد الله بن الحسن عليه السلام
حدثني محمد بن الحسن الأشناني عن عبد الله بن يعقوب عن بندقة ابن محمد بن حجازة الدهان قال
رأيت عبد الله بن الحسن فقلت هذا والله سيد الناس كان مكسوا نورا من قرنه إلى قدمه
قال علي بن الحسين وقد روي ذلك في أخبار أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي عليه السلام
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن القاسم ابن عبد الرزاق قال
جاء منظور بن زيان الفزاري إلى حسن بن حسن وهو جده أبو أمه فقال له لعلك أحدثت بعدي أهلا قال نعم تزوجت بنت عمي الحسين ابن علي عليهما السلام قال بئسما صنعت أما علمت أن الأرحام إذا التقت أضوت كان ينبغي أن تتزوج في الغرب قال فإن الله جل وعز قد رزقني منها ولدا قال أرنيه فأخرج إليه عبد الله بن الحسن فسر به وقال أنجبت هذا والله ليث غاب ومعدو عليه قال فإن الله تعالى قد رزقني منها ولدا ثانيا قال فأرنيه فأخرج إليه حسن بن حسن بن حسن فسر به وقال أنجبت وهذا دون الأول قال فإن الله قد رزقني منها ولدا ثالثا قال فأرنيه فأراه إبراهيم بن الحسن
حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد الصيرفي قال حدثنا محمد بن علي

ابن خلف قال حدثنا عمر بن عبد الغفار قال حدثنا سعيد بن أبان القرشي قال
كنت عند عمر بن عبد العزيز فدخل عبد الله بن الحسن عليه وهو يومئذ شاب في إزار ورداء فرحب به وأدناه وحياه وأجلسه إلى جنبه وضاحكه ثم غمز عكنة من بطنه وليس في البيت حينئذ إلا أموي فقيل له ما حملك على غمز بطن هذا الفتى قال إني لأرجو بها شفاعة محمد
حدثني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي عن عمر بن شبة عن إسماعيل بن جعفر الجعفري قال
حدثني سعيد بن عقبة الجهني قال إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاني آت فقال هذا رجل يدعوك فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الشاعر الأموي فقال أعلم أبا محمد فخرج إليه عبد الله وهم خائفون فأمر له بأربعمائة دينار وهند بمائتي دينار فخرج بستمائة دينار وقد روى مالك ابن أنس عن عبد الله بن الحسن الحديث

كان يسدل شعره
حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال
حدثنا علي بن أحمد الباهلي عن مصعب بن عبد الله قال سئل مالك

عن السدل قال رأيت من يرضى بفعله عبد الله بن الحسن يفعله والسبب في حبس عبد الله بن الحسن وخروج ابنيه وقتلهما يطول ذكره وقد أتى عمر بن شبة منه بما لا يزيد عليه أحد إلا اليسير ولكن من أخباره ما يحسن ذكره ها هنا فنذكره
أخبرني عمر بن عبد الله العتكي عن عمر بن شبة قال حدثني موسى ابن سعيد بن عبد الرحمن وأيوب بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرو قالوا

شعر تمثل به
لما بني أبو العباس بناءه بالأنبار الذي يدعى الرصافة رصافة أبي العباس قال لعبد الله بن الحسن ادخل فانظر ودخل معه فلما رآه تمثل
( أَلم ترَ حَوْشَباً أمْسَى يُبَنِّي ... بِناءً نَفعُه لبنِي نُفَيْله )
( يُؤمّل أن يُعَمَّر عُمْرَ نُوحٍ ... وأمرُ اللهِ يحدثُ كلَّ لَيْلَة )
فاحتمله أبو العباس ولم يبكته بها
أخبرني عمي عن ابن شبة عن يعقوب بن القاسم عن عمرو بن شهاب وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير عن محمد ابن الضحاك عن أبيه قالوا
إن أبا العباس كتب إلى عبد الله بن الحسن في تغيب ابنيه
( أرِيد حَياتَه ويُرِيد قَتلِي ... عَذيرَك من خَلِيلك من مُرادِ )
قال عمر بن شبة وإنما كتب بها إلى محمد قال عمر بن شبة فبعثوا إلى عبد الرحمن بن مسعود مولى أبي حنين فأجابه

( وكيف يُرِيدُ ذاكَ وأنتَ مِنْهُ ... بمنزلة النِّياط من الفُؤادِ )
( وكيف يُريدُ ذاكَ وأنتَ مِنْهُ ... وزَنْدُك حين تقدح من زِنادِ )
( وكيف يُريدُ ذاكَ وأنتَ مِنْهُ ... وأنتَ لِهَاشمٍ رأسٌ وَهادِ )
أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن الحسن بن زيد عن عبد الله بن الحسن قال
بينا أنا في سمر أبي العباس وكان إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده قمنا فألقاها ليلة فقمنا فأمسكني فلم يبق غيري فأدخل يده تحت فراشه وأخرج إضبارة كتب وقال اقرأ يا أبا محمد فقرأت فإذا كتاب من محمد ابن هشام بن عمرو التغلبي يدعوه إلى نفسه فلما قرأته قلت له يا أمير المؤمنين لك عهد الله وميثاقه ألا ترى منهما شيئا تكرهه ما كانا في الدنيا
أخبرنا العتكي عن ابن شبة عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمر عن عبد الله بن عبدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال
لما استخلف أبو جعفر ألح في طلب محمد والمسألة عنه وعمن يؤويه فدعا بني هاشم رجلا رجلا فسألهم عنه فكلهم يقول قد علم أمير المؤمنين أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم فهو يخافك على نفسه ولا يريد لك خلافا ولا يحب لك معصية إلا الحسن بن زيد فإنه أخبره خبره فقال والله ما آمن وثوبه عليك وأنه لا ينام فيه فر رأيك فيه قال ابن أبي عبيدة فأيقظ من لا ينام

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45