كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

إن قبر ذي الرمة بأطراف عناق من وسط الدهناء مقابل الأواعس وهي أجبل شوارع يقابلن الصريمة صريمة النعام وهذا الموضع لبني سعد ويختلط معهم الرباب
قال هارون وحدثني هارون بن مسلم عن الزيادي عن العلاء بن برد قال
ما كان شيء أحب إلى ذي الرمة إذا ما ورد ماء من أن يطوي ولا يسقي فأخبرني مخبر أنه مر بالجفر وقد جهده العطش قال فسمعته يقول
( يا مخرجَ الرّوح من جِسْمي إذا احتُضِرتْ ... وفارجَ الكرْب زَحْزِحْنِي عن النار )
ثم قضى
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن عيسى بن عمر قال
كان ذو الرمة ينشد الشعر فإذا فرغ قال والله لأكسعنك بشيء ليس في حسابك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
أخبرني الحسن بن علي ووكيع عن أبي أيوب قال حدثني أبو معاوية الغلابي قال
كان ذو الرمة حسن الصلاة حسن الخشوع فقيل له ما أحسن صلاتك فقال إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يخشع

نسخت من كتاب عبيد الله اليزيدي قال حدثني عبد الرحمن عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء قال
كان مسعود أخو ذي الرمة يمشي معي كثيرا إلى منزلي فقال لي يوما وقد بلغ قريبا من منزلي أنا الذي أقول في أخي ذي الرمة
( إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... ولَيْلى كلانا مُوجَعٌ مات وافدُهْ )
فقلت له من ليلى فقال بنت أخي ذي الرمة

ذكر خبر إبراهيم في هذه الأصوات الماخورية
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن إسحاق الموصلي عن أبيه قال
صنعت لحنا فأعجبني وجعلت أطلب له شعرا فعسر ذلك علي فأريت في المنام كأن رجلا لقيني فقال لي يا إبراهيم أوقد أعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به قلت نعم قال فأين أنت من قول ذي الرمة
( ألا يا اسْلَمي يا دارَ ميّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلاَّ بجرعائكِ القَطَرُ )
قال فانتبهتُ فرحاً بالشعر فدعوت من ضرب علي فغنيته فإذا هو أوفق ما خلق الله فلما علمت هذا الغناء في شعر ذي الرمة نبهت عليه وعلى شعره فصنعت فيه ألحانا ماخورية منها
( أَمَنْزِلَتيْ مَيٍّ سلامٌ عليكما ... هل الأزمُنِ اللائي مَضَيْنَ رَواجعُ )

وغنيت بها الهادي فاستحسنها وكاد يطير فرحا وأمر لكل

صوت
بألف دينار
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
( ألا يا اسلَمي يا دارَ ميّ على البِلَى ... ولا زال مُنهلاً بجرعائكِ القَطْرُ )
( ولو لم تكوني غير شامٍ بقفرةٍ ... تجرُّ بها الأذيالُ صيفِيَّةٌ كُدرُ )
عروضه من الطويل وقوله يا اسلمي ها هنا نداء كأنه قال يا دار مي اسلمي ويا هذه اسلمي يدعو لها بالسلامة ومثله قول الله عز و جل ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ) فسره أهل اللغة هكذا كأنه قال يا قوم اسجدوا لله ومي ترخيم مية إلا أنه أقامه ها هنا مقام الاسم الذي لم يرخم فنونه وقوله على البلى أي اسلمي وإن كنت قد بليت والمنهل الجاري يقال انهل المطر انهلالا إذا سال والجرعاء والأجرع من الرمل الكثير الممتد والشام موضع يخالف لون الأرض وهو جمع واجدته شامة والقفر ما لم يكن فيه نبات ولا ماء تجر بها الأذيال صيفية يعني الرياح الصيفية الحارة وأذيالها مآخيرها التي تسفي التراب على وجه الأرض شبهها بذيل المرأة وعني بها أوائلها والكدر التي فيها الغبرة

من القتام والفجاج فهي تعفي الآثار وتدفنها غناه إبراهيم الموصلي ماخوريا بالوسطى ومنها

صوت
( أمَنزلَتيْ ميٍّ سَلامٌ عليكما ... هل الأزْمُنُ اللائي مَضينَ رواجعُ )
( وهل يرجعُ التّسليمَ أو يكشف العَمى ... ثلاثُ الأثافي والدِّيارُ البلاقع )
( توهمتُها يوماً فقلتُ لصاحبي ... وليس لها إلاَّ الظباءُ الخواضعُ )
( ومَوْشِيَّةٌ سُحْمُ الصّياصِي كأنها ... مُجَلَّلةٌ حُوٌّ عليها البراقعُ )
عروضه من الطويل غناه إبراهيم ماخوريا بالوسطى والأزمن والأزمان جمع زمان والعمى الجهالة والأثافي الثلاث هي الحجارة التي تنصب عليها القدر واحدتها أثفية والخواضع من الظباء اللاتي قد طأطأت رؤوسها والموشية يعني البقر والصياصي القرون واحدتها صيصية والمجللة التي كأن عليها جلالا سودا والحوة حمرة في سواد ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله
صوت
( قِفِ العَنْسَ ننظُرْ نظرةً في ديارها ... وهل ذاك من داء الصبابة نافعُ )
( فقال أما تغشى لِميّةَ منزلا ... من الأرض إلا قُلتَ هل أنا رابعُ )
( وقلّ لأطلالٍ لميٍَّ تحيَّةٌ ... تُحيَّا بها أو أن تُرِشّ المدامعُ )
العنس الناقة والرابع المقيم وقل لأطلال أي ما أقل لهذه الأطلال مما أفعله وترش المدامع أي تكثر نضحها الدموع غناه إبراهيم الموصلي ماخوريا

وذكر ابن الزيات عن محمد بن صالح العذري عن الحرمازي قال
مر الفرزدق على ذي الرمة وهو ينشد
( أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما ... )
فلما فرغ قال له يا أبا فراس كيف ترى قال أراك شاعرا قال فما أقعدني عن غاية الشعراء قال بكاؤك على الدمن ووصفك القطا وأبوال الإبل
حدثني ابن عمار والجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن إسحاق الموصلي عن مسعود بن قند قال
تذاكرنا ذا الرمة يوما فقال عصمة بن مالك إياي فاسألوا عنه قال كان حلو العينين حسن النغمة إذا حدث لم تسأم حديثه وإذا أنشدك بربر وجش صوته جمعني وإياه مربع مرة فقال لي هيا عصمة إن مية من منقر ومنقر أخبث حي وأقفاه لأثر وأثبته في نظر وأعلمه بشر وقد عرفوا آثار إبلي فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية قلت إي والله عندي الجؤذر بنت يمانية الجدلي قال فعلي بها فأتيته بها فركب وردفته فأتينا محلة مية والقوم خلوف والنساء في الرحال فلما رأين ذا الرمة اجتمعن إلى مي وأنخنا قريبا وأتيناهن فجلسن إليهن فقالت ظريفة منهن أنشدنا يا ذا الرمة فقال لي أنشدهن يا عصمة فأنشدت قصيدته التي يقول فيها
( نظرتُ إلى أظعانِ مَيٍّ كأنها ... ذُرا النّخْل أو أثلٌ تميل ذوائبُهْ )

( فأسبلت العينان والقلبُ كاتمٌ ... بمُغْرَوْرِقٍ نَمَّت عليه سَوَاكِبُهْ )
( بكاء فتًى خاف الفِراقَ ولم تُجِلْ ... حوائلَها أسرارُه ومعاتبُهْ )
قالت الظريفة فالآن فلتجل ثم أنشدت حتى أتيت على قوله
( وقد حلفتْ بالله ميّة ما الذي ... أحدّثها إلاّ الذي أنا كاذبُهْ )
( إذاً فرمانِي الله من حيثُ لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوٌّ أحارِبُهْ )
فقالت مية ويحك يا ذا الرمة خف الله وعواقبه ثم أنشدت حتى أتيت على قوله
( إذا سَرحَتْ من حبّ ميٍّ سوارحٌ ... على القلب أبَّتْه جميعاً عوازِبُهْ )
فقالت الظريفة قتلته قتلك الله فقالت مية ما أصحه وهنيئا له فتنفس ذو الرمة تنفيسة كاد حرها يطير بلحيتي ثم أنشدت حتى أتيت على قوله
( إذا نازعتْك القولَ ميّةُ أو بدَا ... لك الوجهُ منها أو نضا الدِّرعَ سالبُهْ )
( فما شئتَ من خدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خَلْقٍ تَعلّل جادبُه )
فقالت الظريفة فقد بدا لك الوجه وتنوزع القول فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه فقالت لها مية قاتلك الله فماذا تأتين به فتضاحكت الظريفة وقالت إن لهذين لشأنا فقوموا بنا عنهما فقامت وقمن معها وقمت فخرجت وكنت قريبا حيث أراهما وأسمع ما ارتفع من كلاميهما فوالله ما رأيته تحرك من مكانه الذي خلفته فيه حتى ثاب أوائل الرجال فأتيته فقلت انهض بنا فقد ثاب القوم فودعها فركب وردفته وانصرفنا ومنها

صوت
( إذا هَبَّتِ الأرْواحُ من أيِّ جانبٍ ... به أهلُ ميٍّ هاج قلبي هُبُوبُها )
( هوًى تذرِف العينانِ منه وإنما ... هوى كلُّ نفس حيثُ كان حبيبُها )
الغناء لابراهيم ماخوري بالوسطى عن الهشامي
صوت
( إني تُذكِّرني الزُّبيرَ حمامةٌ ... تدعُو بمجمعِ نخلتين هَديلا )
( أفَتى النَّدى وفَتَى الطِّعان قتلتُم ... وفَتَى الرِّياح إذا تَهُبُّ بَلِيلا )
( لو كنت حُرّاً يابن قينِ مجاشعٍ ... شيَّعْتُ ضيْفَك فَرْسخاً أو مِيلاً )
وفي أخرى فرسخين وميلا
( قالت قريشٌ ما أذلَّ مُجاشعاً ... جاراً وأكرم ذا القتيل قتيلا )
الشعر لجرير يهجو الفرزدق ويعيره بقتل عشيرته الزبير بن العوام يوم الجمل والغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو

ذكر مقتل الزبير وخبره
الزبير وعلي بن أبي طالب
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قالا حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي عن قتادة قال
سار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة وصاروا من الفرضة يريدونه فالتقوا عند قصر عبيد الله بن زياد يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس وعليه سلاحه فقيل لعلي صلوات الله عليه هذا الزبير فقال أما والله إنه أحرى الرجلين إن ذكر

بالله أن يذكره وخرج طلحة وخرج علي عليه السلام إليهما فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال لهما لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله ولا تكونا ( كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما فهل من حدث أحل لكما دمي فقال له طلحة ألبت الناس على عثمان فقال يا طلحة أتطلبني بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان يا زبير أتذكر يوم مررت مع رسول الله وآله في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه فقلت لا يدع ابن أبي طالب زهوه فقال مه ليس بمزهو ولتقاتلنه وأنت له ظالم فقال اللهم نعم ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا والله لا أقاتلك أبدا وانصرف علي صلوات الله عليه إلى أصحابه وقال أما الزبير فقد أعطى الله عهدا ألا يقاتلني
قال ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها ما كنت في موطن مذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا قالت وما تريد أن تصنع قال أدعهم وأذهب فقال له ابنه عبد الله أجمعت بين هذين الغارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تذهب وتتركهم أخشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد فأحفظه فقال إني حلفت ألا أقاتله قال كفر عن يمينك وقاتله فدعا غلاما له يدعى مكحولا فأعتقه فقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي
( لم أر كاليوم أخا إخوانِ ... أعجَبَ من مُكَفِّر الأيْمانِ )
( بالعِتقِ في مَعْصِيَةِ الرَّحمنِ ... )
وقال بعض شعرائهم

( يُعتِق مَكْحولاً لصَوْنِ دِينِهْ ... كفّارةً لِلَّه عن يمينهْ )
( والنَّكْثُ قد لاح على جَبِينِهْ ... )
حدثني ابن عمار والجوهري قال حدثنا ابن شبة عن علي بن محمد النوفلي عن الهذلي عن قتادة قال
وقف الزبير على مسجد بني مجاشع فسأل عن عياض بن حماد فقال له النعمان بن زمام هو بوادي السباع فمضى يريده
حدثني ابن عمار والجوهري عن عمر قال حدثني المدائني عن أبي مخنف عمن حدثه عن الشعبي قال
خرج النعمان مع الزبير حتى بلغ النجيب ثم رجع
قال وحدثنا عن مسلمة بن محارب عن عوف وعن أبي اليقظان قالا
مر الزبير ببني حماد فدعوه إلى أنفسهم فقال اكفوني خيركم وشركم فوالله ما كفوه خيرهم وشرهم ومضى ابن فرتنى إلى الأحنف وهو بعرق سويقة فقال هذا الزبير قد مر فقال الأحنف ما أصنع به جمع بين غارين من المسلمين فقتل بعضهم بعضا ثم مر يريد أن يلحق بأهله فقام عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع بن كعب أحد بني عوف - ويقال نفيع بن عمير - فلحقوه بالعرق فقتل قبل أن ينتهي إلى عياض قتله عمرو بن جرموز
حدثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي الكوفي وجعفر بن محمد بن الحسن العلوي الحسني والعباس بن علي بن العباس وأبو عبيد

الصيرفي قالوا حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار قال حدثنا عمرو بن عبد الغفار عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عليه السلام قال حدثني ابن عباس قال
قال لي علي صلوات الله عليه ائت الزبير فقل له يقول لك علي بن أبي طالب نشدتك الله ألست قد بايعتني طائعا غير مكره فما الذي أحدثت فاستحللت به قتالي
وقال أحمد بن يحيى في حديثه قل لهما إن أخاكما يقرأ عليكما السلام ويقول هل نقمتما علي جورا في حكم أو استئثارا بفيء فقالا لا ولا واحدة منهما ولكن الخوف وشدة الطمع
وقال محمد بن خلف في خبره فقال الزبير مع الخوف شدة المطامع فأتيت عليا عليه السلام فأخبرته بما قال الزبير فدعا بالبغلة فركبها وركبت معه فدنوا حتى اختلفت أعناق دابتيهما فسمعت عليا صلوات الله عليه يقول نشدتك الله يا زبير أتعلم أني كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان تعالجني وأعالجك فمر بي - يعني النبي فقال كأنك تحبه فقلت وما يمنعني قال أما إنه ليقاتلنك وهو لك ظالم فقال الزبير اللهم نعم ذكرتني ما نسيت وولى راجعا ونادى منادي علي ألا لا تقاتلوا القوم حتى يستشهدوا منكم رجلا فما لبث أن أتي برجل يتشحط في دمه فقال علي عليه السلام اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد وأمر الناس فشدوا عليهم وأمر الصراخ فصرخوا لا تذففوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا

حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المخزومي عن سعيد بن محمد الجرمي عن أبي الأحوص عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش ولا أحسبه إلا قال
كنت قاعدا عند علي عليه السلام فأتاه آت فقال هذا ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام يستأذن على الباب قال ليدخلن قاتل ابن صفية النار إني سمعت رسول الله يقول ( إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير )
أخبرني الطوسي وحرمي عن الزبير عن علي بن صالح عن سالم بن عبد الله بن عروة عن أبيه أن عمرا أو عويمر بن جرموز قاتل الزبير أتى مصعبا حتى وضع يده في يده فقذفه في السجن وكتب إلى عبد الله بن الزبير يذكر له أمره فكتب إليه عبد الله بئس ما صنعت أظننت أني أقتل أعرابيا من بني تميم بالزبير خل سبيله فخلاه

عاتكة ترثي الزبير
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه قال قتل الزبير وهو ابن سبع وستين أو ست وستين سنة فقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثيه
( غَدَر ابنُ جُرْمُوزٍ بفارس بُهْمَةٍ ... يوم اللقاء وكان غيرَ مُعَرِّدِ )
( يا عمرُو لو نَبَّهتَه لوجدَته ... لا طائشاً رَعِشَ اللسان ولا اليَدِ )
( شَلّتْ يمينُك إن قتلتَ لمُسلِماً ... حَلَّت عليك عقوبةُ المُسْتَشْهِدَ )
( إنَّ الزُّبير لذُو بلاءٍ صادقٍ ... سَمْحٌ سَجِيَّته كريمُ المَشْهَدِ )
( كم غمرةٍ قد خاضها لم يَثْنِه ... عنها طِرادُك يابْنَ فَقْعِ القَرْدَدِ )

( فاذهب فما ظَفِرت يداك بمثلِه ... فِيمن مضى مِمن يَروحُ ويَغْتَدِي )
وكانت عاتكة قبل الزبير عند عمر وقبل عمر عند عبد الله بن أبي بكر
أخبرني بخبرها محمد بن خلف وكيع عن أحمد بن عمرو بن بكر قال حدثنا أبي قال حدثنا الهيثم بن عدي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأخبرنا وكيع قال حدثني إسماعيل بن مجمع عن المدائني
وأخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير عن عمه عن أبيه وأخبرني اليزيدي عن الخليل بن أسد عن عمرو بن سعيد عن الوليد بن هشام بن يحيى الغساني
وأخبرني الجوهري عن ابن شبة قال حدثنا محمد بن موسى الهذلي وكل واحد منهم يزيد في الرواية وينقص منها وقد جمعت رواياتهم قالوا
تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت امرأة لها جمال وكمال وتمام في عقلها ومنظرها وجزالة رأيها وكانت قد غلبته على رأيه فمر عليه أبو بكر أبوه وهو في علية يناغيها في يوم جمعة وأبو بكر متوجه إلى الجمعة ثم رجع وهو يناغيها فقال يا عبد الله

أجمعت قال أوصلى الناس قال نعم - قال وقد كانت شغلته عن سوق وتجارة كان فيها - فقال له أبو بكر قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة وقد ألهتك عن فرائض الصلاة طلقها فطلقها تطليقة وتحولت إلى ناحية فبينا أبو بكر يصلي على سطح له في الليل إذ سمعه وهو يقول
( أعاتِكُ لا أنساكِ ما ذرَّ شارِقٌ ... وما ناح قُمْرِيُّ الحمامِ المُطَوَّقُ )
( أعاتِكُ قلبِي كلَّ يوم وليلة ... لديك بما تُخفي النفوسُ مُعلَّقُ )
( لها خُلُقٌ جَزْلٌ ورأيٌ ومنطقٌ ... وخَلْقَ مصونٌ في حياءٍ ومصدَقُ )
( فلم أرَ مثلي طلَّق اليوم مثلَها ... ولا مثلَها في غير شيءٍ تُطَلَّقُ )
فسمع أبو بكر قوله فأشرف عليه وقد رق له فقال يا عبد الله راجع عاتكة فقال أشهدك أني قد راجعتها وأشرف على غلام له يقال له أيمن فقال له يا أيمن أنت حر لوجه الله تعالى أشهدك أني قد راجعت عاتكة ثم خرج إليها يجري إلى مؤخر الدار وهو يقول
( أعاتِكُ قد طُلِّقتِ في غيرِ رِيبةٍ ... ورُوجعتِ للأمر الذي هو كائِنُ )
( كذلك أمرُ الله غادٍ ورائحٌ ... على الناس فيه أُلفةٌ وتبايُن )
( وما زال قلبي للتَّفرُّق طائراً ... وقلبِي لما قد قَرَّب اللهُ ساكِنُ )
( ليَهْنِكِ أني لا أرى فيكِ سَخْطةً ... وأنك قد تَمَّتْ عليك المحاسنُ )
( فإنك مِمَّنْ زيَّن اللهُ وجهَه ... وليس لِوَجْهٍ زانَه اللهُ شائنُ )
قال وأعطاها حديقة له حين راجعها على ألا تتزوج بعده فلما مات من السهم الذي أصابه بالطائف أنشأت تقول

( فلِلَّه عينَا مَنْ رأى مثلَه فتىً ... أكَرَّ وأحمَى في الهياجِ وأصْبَرا )
( إذا شُرِعت فيه الأسِنَّةُ خاضَها ... الى الموت حتى يترُك الرُّمح أحمرَا )
( فأقسمتُ لا تنفَكُّ عيني سَخِينَةً ... عليكَ ولا ينفكُّ جِلْدِيَ أغبرا )
( مَدَى الدَّهْرِ ما غنّت حمامةُ أيكةٍ ... وما طردَ الليلُ الصَّباحَ المُنَوَّرَا )

عمر بن الخطاب وعاتكة
فخطبها عمر بن الخطاب فقالت قد كان أعطاني حديقة على ألا أتزوج بعده قال فاستفتي فاستفتت علي بن أبي طالب عليه السلام فقال ردي الحديقة على أهله وتزوجي فتزوجت عمر فسرح عمر إلى عدة من أصحاب رسول الله فيهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه - يعني دعاهم - لما بنى بها فقال له علي إن لي إلى عاتكة حاجة أريد أن أذكرها إياها فقل لها تستتر حتى أكلمها فقال لها عمر استتري يا عاتكة فإن ابن أبي طالب يريد أن يكلمك فأخذت عليها مرطها فلم يظهر منها إلا ما بدا من براجمها فقال يا عاتكة
( فأقسمتُ لا تنفَكُّ عيني سخِينَةً ... عليكَ ولا ينفكُّ جِلْدِيَ أغبرا )
فقال له عمر ما أردت إلى هذا فقال وما أرادت إلى أن تقول ما لا تفعل وقد قال الله تعالى ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وهذا شيء كان في نفسي أحببت والله أن يخرج فقال عمر ما حسن الله فهو حسن فلما قتل عمر قالت ترثيه
( عينُ جُودِي بعَبْرةٍ ونَحيبِ ... لا تمَلِّي على الإِمامِ النَّجِيبِ )

( فجعتنا المَنُون بالفارِس المُعْلَم ... يوم الهِياجِ والتَّلْبِيبِ )
( عِصْمَة اللهِ والمُعِينِ على الدَّهْرِ ... غِياثِ المُنْتابِ والمَحْرُوبِ )
( قل لأَهْلِ الضَّرَّاء والبُؤْسِ مُوتُوا ... قد سَقتْه المَنونُ كأسَ شَعُوبِ )
قالت ترثيه أيضا

صوت
( مُنِع الرُّقادُ فعاد عَيْنِيَ عِيدُ ... مَمَّا تضمَّن قَلْبِيَ المَعْمودُ )
( يا ليلةً حُبِست عليَّ نُجُومُها ... فسَهِرْتُها والشامِتُون هُجودُ )
( قد كان يُسهِرُني حِذارُك مَرَّةً ... فاليوم حقَّ لِعَينِيَ التسهيدُ )
( أبكي أميرَ المُؤْمِنِين ودُونَه ... لِلزَّائرين صَفائِحٌ وصَعِيد )
غنى فيه طويس خفيف رمل عن حماد والهشامي
فلما انقضت عدتها خطبها الزبير بن العوام فتزوجها فلما ملكها قال يا عاتكة لا تخرجي إلى المسجد وكانت امرأة عجراء بادنة فقالت يا ابن العوام أتريد أن أدع لغيرتك مصلى صليت مع رسول الله وأبي بكر وعمر فيه قال فإني لا أمنعك فلما سمع النداء لصلاة الصبح توضأ وخرج فقام لها في سقيفة بني ساعدة فلما مرت به ضرب بيده على عجيزتها فقالت مالك قطع الله يدك ورجعت فلما رجع من المسجد قال يا عاتكة ما لي لم أرك في مصلاك قالت يرحمك الله أبا عبد الله فسد الناس بعدك الصلاة اليوم في القيطون أفضل منها في البيت وفي البيت أفضل منها في الحجرة فلما قتل عنها الزبير بوادي السباع رثته فقالت

( غَدرَ ابنُ جُرموزٍ بفارس بُهْمةٍ ... يوم اللقاء وكان غيرَ مُعَرِّدِ )
( يا عَمرُو لو نَبَّهْتَه لوجدْته ... لا طائِشاً رعِشَ اللِّسان ولا اليَدِ )
( هبِلَتْك أمُّك إن قَتلْت لَمُسْلِماً ... حلَّت عليك عُقوبةُ المُتَعَمِّدِ )
فلما انقضت عدتها تزوجها الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فكانت أول من رفع خده من التراب - صلى الله عليه وآله ولعن قاتله والراضي به يوم قتل - وقالت ترثيه
( وحُسَيْناً فلا نَسِيتُ حُسَيْناً ... أقصدَتْه أسِنَّةُ الأعداء )
( غادَروه بكَرْبلاءَ صَريعاً ... جادَتِ المُزنُ في ذَرَى كَرْبَلاء )
ثم تأيمت بعده فكان عبد الله بن عمر يقول من أراد الشهادة فليتزوج بعاتكة ويقال إن مروان خطبها بعد الحسين عليه السلام فامتنعت عليه وقالت ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري قال حدثنا أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد قال
لم يزل السهم الذي أصاب عبد الله بن أبي بكر عند ابي بكر حتى قدم وفد ثقيف فأخرجه إليهم فقال من يعرف هذا منكم فقال سعيد بن عبيد من بني علاج هذا سهمي وأنا بريته وأنا رشته وأنا عقبته وأنا رميت به يوم الطائف فقال أبو بكر فهذا السهم الذي قتل عبد الله والحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده

طويس يغني شعرا لعاتكة
أخبرني اليزيدي عن الزبير عن أحمد بن عبيد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير قال
لما قتل الزبير وخلت عاتكة بنت زيد خطبها علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت له إني لأضن بك على القتل يابن عم رسول الله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال حدثني أبي قال
بينا فتية من قريش ببطن محسر يتذاكرون الأحاديث ويتناشدون الأشعار إذ أقبل طويس وعليه قميص قوهي وحبرة قد ارتدى بها وهو يخطر في مشيته فسلم ثم جلس فقال له القوم يا أبا عبد الله غننا شعرا مليحا له حديث ظريف فغناهم بشعر عاتكة بنت زيد ترثي عمر بن الخطاب
( مُنِع الرُّقادُ فعادَ عَيْنِيَ عِيدُ ... مِمَّا تَضمَّن قَلبِي المَعمودُ )
الأبيات فقال القوم لمن هذه الأبيات يا طويس قال لأجمل خلق الله وأشأمهم فقالوا بأنفسنا أنت من هذه قال هي والله من لا يجهل نسبها ولا يدفع شرفها تزوجت بابن خليفة نبي الله وثنت بخليفة خليفة نبي الله وثلثت بحواري نبي الله وربعت بابن نبي الله وكلا قتلت قالوا جميعا

جعلنا فداك إن أمر هذه لعجيب بآبائنا أنت من هذه قال عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل فقالوا نعم هي على ما وصفت قوموا بنا لا يدرك مجلسنا شؤمها قال طويس إن شؤمها قد مات معها قالوا أنت والله أعلم منا

صوت
( يا دَنانِيرُ قد تَنَكّر عَقْلِي ... وتَحيَّرتُ بين وَعْدٍ ومَطْلِ )
( شَغَفِي شافِعِي إليكِ وإلاّ ... فاقتُلِيني إن كنتِ تَهْوَين قتْلِي )
الشعر والغناء لعقيد مولى صالح بن الرشيد خفيف ثقيل وفيه لعريب رمل بالوسطى وهذا الشعر يقوله في دنانير مولاة البرامكة وكان خطبها فلم تجبه وقيل بل قاله أحد اليزيديين ونحله إياه
ذكر أخبار دنانير وأخبار عقيد
كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكي وكانت صفراء مولدة وكانت من أحسن الناس وجها وأظرفهن وأكملهن أدبا وأكثرهن رواية للغناء والشعر

وكان الرشيد لشغفه بها يكثر مصيره إلى مولاها ويقيم عندها ويبرها ويفرط حتى شكته زبيدة إلى أهله وعمومته فعاتبوه على ذلك
ولها كتاب مجرد في الأغاني مشهور وكان اعتمادها في غنائها على ما أخذته من بذل وهي خرجتها وقد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل فليح وإبراهيم وابن جامع وإسحاق ونظرائهم
أخبرني جحظة قال حدثني المكي عن أبيه قال
كنت أنا وابن جامع نعايي دنانير جارية البرامكة فكثيرا ما كانت تغلبنا
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي عن ابن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال قال لي أبي قال لي يحيى بن خالد إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا اختارته وأعجبت به فقلت لها لا يشتد إعجابك حتى تعرضيه على شيخك فإن رضيه فارضيه لنفسك وإن كرهه فاكرهيه فامض حتى يتعرضه عليك قال فقال لي أبي فقلت له أيها الوزير فكيف إعجابك أنت به فإنك والله ثاقب الفطنة صحيح التمييز قال أكره أن أقول لك أعجبني فيكون عندك غير معجب إذ كنت عندي رئيس صناعتك تعرف منها ما لا أعرف وتقف من لطائفها على ما لا أقف وأكره أن أقول لك لا يعجبني وقد بلغ من قلبي مبلغا محمودا وإنما يتم السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة وتصويبا قال فمضيت إليها وقد تقدم إلى خدمه

يعلمهم أنه سيرسل بي إلى داره وقال لدنانير إذا جاءك إبراهيم فاعرضي عليه الصوت الذي صنعته واستحسنته فإن قال لك أصبت سررتني بذلك وإن كرهه فلا تعلميني لئلا يزول سروري بما صنعت قال إسحاق قال أبي فحضرت الباب فأدخلت وإذا الستارة قد نصبت فسلمت على الجارية من وراء الستارة فردت السلام وقالت يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدم لا شك إليك خبره وقد سمعت الوزير يقول إن الناس يفتنون بغنائهم فيعجبهم منه ما لا يعجب غيرهم وكذلك يفتنون بأولادهم فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحسن وقد خشيت على الصوت أن يكون كذلك فقلت هات فأخذت عودها وتغنت تقول

صوت
( نَفْسِي أكنتُ عليك مُدّعياً ... أم حين أزمع بَيْنَهم خُنتِ )
( إن كنت مولعةً بذكرهمُ ... فعلى فراقِهمُ ألا مُتِّ )
قال فأعجبني والله غاية العجب واستخفني الطرب حتى قلت لها أعيديه فأعادته وأنا أطلب لها فيه موضعا أصلحه وأغيره عليها لتأخذه عني فلا والله ما قدرت على ذلك ثم قلت لها أعيديه الثالثة فأعادته فإذا هو كالذهب المصفى فقلت أحسنت يا بنية وأصبت وقد قطعت عليك بحسن إحسانك وجودة إصابتك أنك قائدة للمعلمين إذ قد صرت تحسنين الاختيار وتجيدين الصنعة قال ثم خرج فلقيه يحيى بن خالد فقال كيف رأيت صنعة ابنتك دنانير قال أعز الله الوزير والله ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة ولقد قلت لها أعيديه وأعادته علي مرات كل ذلك أريد إعناتها لأجتلب لنفسي مدخلا يؤخذ عني وينسب إلي فلا والله ما وجدته فقال لي يحيى وصفك لها يقوم مقام تعليمك إياها وقد - والله - سررتني وسأسرك فوجه إليه بمال عظيم

يحيى بن خالد يشتريها والرشيد يعجب بها
وذكر محمد بن الحسن الكاتب قال حدثني ابن المكي قال
كانت دنانير لرجل من أهل المدينة وكان خرجها وأدبها وكانت أروى الناس للغناء القديم وكانت صفراء صادقة الملاحة فلما رآها يحيى وقعت بقلبه فاشتراها وكان الرشيد يسير إلى منزله فيسمعها حتى ألفها واشتد عجبه بها فوهب لها هبات سنية منها أنه وهب لها في ليلة عيد عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار فرد عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك وعلمت أم جعفر خبره فشكته إلى عمومته فصاروا جميعا إليه فعاتبوه فقال ما لي في هذه الجارية من أرب في نفسها وإنما أربي في غنائها فاسمعوها فإن استحقت أن يؤلف غناؤها وإلا فقولوا ما شئتم فأقاموا عنده ونقلهم إلى يحيى حتى سمعوها عنده فعذروه وعادوا إلى أم جعفر فأشاروا عليها ألا تلح في أمرها فقبلت ذلك وأهدت إلى الرشيد عشر جوار منهن ماردة أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أخبرني محمد بن عبد الله الخزاعي قال
حدثني عباد البشري قال مررت بمنزل من منازل طريق مكة يقال لها النباج فإذا كتاب على حائط في المنزل فقرأته فإذا هو النيك أربعة

فالأول شهوة والثاني لذة والثالث شفاء والرابع داء وحر إلى أيرين أحوج من أير إلى حرين وكتبت دنانير مولاة البرامكة بخطها
أخبرني إسماعيل بن يونس عن ابن شبة أن دنانير أخذت عن إبراهيم الموصلي حتى كانت تغني غناءه فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق وكان إبراهيم يقول ليحيى متى فقدتني ودنانير باقية فما فقدتني
قال وأصابتها العلة الكلبية فكانت لا تصبر عن الأكل ساعة واحدة فكان يحيى يتصدق عنها في كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لأنها كانت تلا تصومه وبقيت عند البرامكة مدة طويلة

الرشيد يأمر بصفعها بسبب رفضها الغناء
أخبرني ابن عمار وابن عبد العزيز وابن يونس عن ابن شبة عن إسحاق
وأخبرني جحظة عن أحمد بن الطيب أن الرشيد دعا بدنانير البرمكية بعد قتله إياهم فأمرها أن تغني فقالت يا أمير المؤمنين إني آليت ألا أغني بعد سيدي أبدا فغضب وأمر بصفعها فصفعت وأقيمت على رجليها وأعطيت العود وأخذته وهي تبكي أحر بكاء واندفعت فغنت
صوت
( يا دارَ سَلْمَى بنازحِ السَّنَدِ ... بين الثَّنايا ومَسْقَط اللِّبَدِ )
( لَمَّا رأيتُ الدِّيارَ قد دَرَسَتْ ... أيقنتُ أنَّ النّعيم لم يَعُدِ )

الغناء للهذلي خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وذكر علي بن يحيى المنجم وعمرو أنه لسياط في هذه الطريقة
قال فرق لها الرشيد وأمر بإطلاقها وانصرفت ثم التفت إلى إبراهيم بن المهدي فقال له كيف رأيتها قال رأيتها تختله برفق وتقهره بحذق
قال علي بن محمد الهشامي حدثني أبو عبد الله بن حمدون أن عقيدا مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير البرمكية وكان هويها وشغف بذكرها فردته واستشفع عليها مولاه صالح بن الرشيد وبذل والحسين بن محرز فلم تجبه وأقامت على الوفاء لمولاها فكتب إليها عقيد قوله
( يا دنانيرُ قد تَنَكَّر عَقْلِي ... وتحيّرت بين وَعْدٍ ومَطْلِ )
( شَفِّعي شافِعي إليك وإلاّ ... فاقتُلِيني إن كنت تَهْوَيْن قَتْلي )
( أنَا بالله والأمير وما آملُ ... من موعد الحُسَين وبَذْل )

( ما أُحِبُّ الحياةَ يا حِبُّ إن لم ... يجمع الله عاجلا بكِ شَمْلِي )
فلم يعطفها ذلك على ما يحب ولم تزل على حالها إلى أن ماتت
وكان عقيد حسن الغناء والضرب قليل الصنعة ما سمعنا منه بكبير صنعة ولكنه كان بموضع من الحذق والتقدم
قال محمد بن الحسن حدثني أبو حارثة عن أخيه أبي معاوية قال
شهدت إسحاق يوما وعقيد يغنيه
صوت
( هلاّ سألتِ ابنةَ العَبْسِيّ ما حَسبي ... عند الطِّعان إذا ما احمرَّت الحَدَقُ )
( وجالت الخَيلُ بالأبطال عابِسةً ... شُعْثَ النَّواصي عليها البيضُ تَأتَلِقُ )
الشعر يقال إنه لعنترة ولم يصح له والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى قال فجعل إسحاق يستعيده ويشرب ويصفق حتى والى بين أربعة أرطال وسأله بعض من حضر من أحسن الناس غناء قال من سقاني أربعة أرطال
وفي دنانير يقول أبو حفص الشطرنجي

صوت
( أشبهَكِ المسكُ وأشبهتِهِ ... قائمةً في لونه قاعدهْ )
( لا شك إذ لونُكما واحدٌ ... أنّكما من طينةٍ واحدةْ )
غناه ابن جامع هزجا بالبنصر وقيل إنه لأبي فارة
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن علي بن محمد النوفلي عن مولاة ابن جامع أن مولاها كان يهوى جارية صفراء فقال فيها هذا الشعر وغنى فيه وأظن هذا وهما لأنا لم نسمع لابن جامع بشعر قط ولعله غناه في شعر أبي حفص الشطرنجي فظننته له
ومما غناه عقيد في دنانير والشعر للموصلي إلا البيت الأول فليس له
صوت
( هَذِي دَنانيرُ تَنْسانِي فأَذْكُرها ... وكيف تنسى مُحِبّاً ليس يَنْساها )
( واللهِ واللهِ لو كانت إذا بَرَزَتْ ... نَفْسُ المُتَيَّمِ في كَفَّيْه ألْقاها )
والشعر والغناء لعقيد ولحنه من الرمل المطلق في مجرى الوسطى وفيه هزج خفيف محدث
قال أحمد بن أبي طاهر حدثني علي بن محمد قال حدثني جابر بن مصعب عن مخارق قال
مرت بي ليلة ما مر بي قط مثلها جاءني رسول محمد الأمين وهو

خليفة فأخذني وركض بي إليه ركضا فحين وافيت أتي بإبراهيم بن المهدي على مثل حالي فنزلنا وإذا هو في صحن لم أر مثله قد مليء شمعا من شمع محمد الأمين الكبار وإذا به واقف ثم دخل في الكرح والدار مملوءة بالوصائف يغنين على الطبول والسرنايات ومحمد في وسطهن يرتكض في الكرح فجاءنا رسوله فقال قوما في هذا الباب مما يلي الصحن فارفعا أصواتكما مع السرناي أين بلغ وإياكما أن أسمع في أصواتكما تقصيرا عنه قال فأصغينا فإذا الجواري والمخنثون يزمرون ويضربون
( هَذِي دَنانيرُ تَنْسانِي وأَذْكُرها ... وكيف تنسى مُحِبّاً ليس ينساها )
( أعوذُ بالله من هِجران جاريةٍ ... أصبحتُ من حبِّها أهذِي بذكراها )
( قد أُكمِلَ الحسن في تركيب صورتها ... فارتجَّ أسفلُها واهتزَّ أعلاها )
( قامت تَمشَّى فليت الله صَيَّرني ... ذاك الترابَ الذي مَسَّتْه رِجلاها )
( واللهِ واللهِ لو كانت إذا برزتْ ... نفْسُ المُتَيَّم في كَفَّيه ألْقاها )
فما زلنا نشق حلوقنا مع السرناي ونتبعه حذرا من أن نخرج عن طبقته أو نقصر عنه إلى الغداة ومحمد يجول في الكرح ما يسأمه يدنو إلينا مرة في جولانه ويتباعد مرة وتحول الجواري بيننا وبينه حتى أصبحنا

صوت
( ألا طَرَقتْ أسماءُ لا حين مَطْرَقِ ... وأنَّى إذا حلَّتْ بنَجْرانَ نلتقِي )

( بِوَجِّ وما بالي بِوَجٍّ وبالُها ... ومَن يلقَ يوماً جِدَّة الحبّ يُخْلَقِ )
عروضه من الطويل الشعر لخفاف بن ندبة والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا وذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لعلوية خفيف رمل بالوسطى وفيه

للقاسم بن زرزور خفيف رمل آخر صحيح في غنائه وفيه لابن مسجح ثقيل أول عن إبراهيم ويحيى المكي والهشامي وفيه لمخارق رمل بالبنصر

أخبار خفاف ونسبه
هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار وندبة أمه وهي أمة سوداء وكان خفاف أسود أيضا وهو شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانهم وجعله ابن سلام في الطبقة الخامسة من الفرسان مع مالك بن نويرة ومع ابني عمه صخر ومعاوية ابني عمرو بن الشريد ومالك بن حمار الشمخي
كان أحد أغربة العرب
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال
كان خفاف بن ندبة - وهي أمه - فارسا شجاعا شاعرا وهو أحد أغربة العرب وكان هو ومعاوية بن الحارث بن الشريد أغار على بني ذبيان يوم حوزة فلما قتلوا معاوية بن عمرو قال خفاف والله لا أريم اليوم أو أقيد به سيدهم فحمل على مالك بن حمار وهو يومئذ فارس بني فزارة وسيدهم

فطعنه فقتله وقال
( فإن تكُ خَيلي قد أصيب صَمِيمُها ... فعمْداً على عيني تيممْتُ مالِكَا )
( رفعتُ له ما جرَّ إذ جَرَّ موته ... لأبْنِيَ مَجْداً أو لأثأر هالِكا )
( أقول له والرُّمح يأْطِر مَتْنه ... تأمَّل خُفافاً إنَّني أنا ذَلكا )
قال ابن سلام وهو الذي يقول
( يا هِندُ يا أُختَ بني الصّارِدِ ... ما أَنا بالباقي ولا الخالدِ )
( إن أُمسِ لا أملِكُ شيئاً فقد ... أملكُ أمر المَنْسِر الحارد )
في هذين البيتين لعبيد الله بن أبي غسان خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي

خفاف والعباس بن مرداس
أخبرني عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن عمر بن خالد بن عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الحجاج السلمي قال
كان بدء ما كان بين خفاف بن ندبة والعباس بن مرداس أن خفافا

كان في ملأ من بني سليم فقال لهم إن عباس بن مرداس يريد أن يبلغ فينا ما بلغ عباس بن أنس ويأبى ذلك عليه خصال قعدن به فقال له فتى من رهط العباس وما تلك الخصال يا خفاف قال اتقاؤه بخيله عند الموت واستهانته بسبايا العرب وقتله الأسرى ومكالبته للصعاليك على الأسلاب ولقد طالت حياته حتى تمنينا موته فانطلق الفتى إلى العباس فأخبره الخبر فقال العباس يا بن أخي إن لم أكن كالأصم في فضله فلست كخفاف في جهله وقد مضى الأصم بما في أمس وخلفني بما في غد فلما أمسى تغنى وقال
( خُفافٌ ما تزال تجرُّ ذيلاً ... الى الأمرِ المُفارِق للرَّشادِ )
( إذا ما عاينتك بنو سُلَيمٍ ... ثَنَيْت لهم بِداهيةٍ نآدِ )
( وقد علم المَعاشِرُ من سُلَيْم ... بأنّي فيهمُ حَسَنُ الأيادي )
( فأَورِدْ يا خُفافُ فقد بُلِيتم ... بني عوف بحَيَّة بَطْن وادي )
قال ثم أصبح فأتى خفافا وهو في ملأ من بني سليم فقال قد

بلغني مقالتك يا خفاف والله لا أشتم عرضك ولا أسب أباك وأمك ولكني رام سوادك بما فيك وإنك لتعلم أني أحمي المصاف وأتكرم على السلب وأطلق الأسير وأصون السبية وأما زعمك أني أتقي بخيلي الموت فهات من قومك رجلا اتقيت به وأما استهانتي بسبايا العرب فإني أحذو القوم في نسائهم بفعالهم في نسائنا وأما قتلى الأسرى فإني قتلت الزبيدي بخالك إذ عجزت عن ثأرك وأما مكالبتي الصعاليك على الأسلاب فوالله ما أتيت على مسلوب قط إلا لمت سالبه وأما تمنيك موتي فإن مت قبلك فأغن غنائي وإن سليما لتعلم أني أخف عليهم مؤونة وأثقل على عدوهم وطأة منك وإنك لتعلم أني أبحث حمى بني زبيد وكسرت قرني الحارث وأطفأت جمرة خثعم وقلدت بني كنانة قلائد العار ثم انصرف فقال خفاف أبياتا لم يحفظ الشيخ منها إلا قوله
( ولم تقتُل أسيرَك من زُبيدٍ ... بخالي بل غَدَرْتَ بمُسْتقادِ )
( فَزنْدُك في سُلَيْم شر زَنْدٍ ... وزادُك في سُلَيْم شَرُّ زادِ )
فأجابه العباس بقوله
( ألا مَنْ مُبلغٌ عنِّي خُفافاً ... فإنّي لا أحاشِي من خُفافِ )
( نكحتَ وليدةً ورضعتَ أخْرَى ... وكان أبوكَ تحْمِلهُ قَطافِ )
( فلستُ لحاصِنٍ إن لم نُزِرْها ... تُثيرُ النَّقعَ من ظَهْر النِّعافِ )
( سراعاً قد طواها الأينُ دُهْماً ... وكُمتاً لونُها كالوَرس صافِ )
قال ثم كف العباس وخفاف حتى أتى ابن عم للعباس يكنى أبا عمرو بن بدر وكان غائبا فقال يا عباس ما نقول فيك إلا خيرا إلا وهو

باطل قال وكيف ذلك ويحك قال أخبرني عنك أكل الذي أقررت به من خفاف في نفيه أباك وتهجينه عرضك ليأس من نصر قومك أو ضعف من نفسك قال لا ولا واحدة منهما ولكني أحببت البقيا قال فاسمع ما قلته قال هات فأنشأ يقول
( أرى العباس ينفضُ مِذْرَوَيْه ... دَهِينَ الرأس تَقْلِيه النساءُ )
( وقد أَزرَى بوالده خُفافٌ ... ويُحسَب مثله الداءُ العَياء )
( فلا تُهدِ السِّبابَ إلى خُفافٍ ... فإن السَّبَّ تُحسِنُه الإماءُ )
( ولا تكذِب وأهْدِ إليه حرباً ... مُعَجَّلَةً فإن الحرب داءُ )
( أذلّ الله شرَّكما قَبِيلاً ... ولا سَقَّت له رَسْماً سَماءُ )
قال العباس قد آذنت خفافا بحرب ثم أصبحا فالتقيا بقومهما فاقتتلوا قتالا شديدا يوما إلى الليل وكان الفضل للعباس على خفاف فركب إليه مالك بن عوف ودريد بن الصمة الجشمي في وجوه هوازن فقام دريد خطيبا فقال يا معشر بني سليم إنه أعجلني إليكم صدر واد ورأى جامع وقد ركب صاحباكم شر مطية وأوضعا إلى أصعب غاية فالآن قبل أن يندم الغالب ويذل المغلوب ثم جلس فقال مالك بن عوف فقال يا معشر بني سليم إنكم نزلتم منزلا بعدت فيه هوازن وشبعت منكم فيه بنو تميم وصالت عليكم فيه بكر بن وائل ونالت فيه منكم بنو كنانة فانزعوا وفيكم

بقية قبل أن تلقوا عدوكم بقرن أعضب وكف جذماء قال فلما أمسينا تغنى دريد بن الصمة فقال
( سُلَيمُ بنَ منصور ألمَّا تُخَبَّرُوا ... بما كان من َحرْبَيْ كُلَيْبٍ وداحِسِ )
( وما كان في حرب اليَحابِر من دم ... مباحٍ وجَدْعٍ مؤلمٍ للمَعاطِسِ )
( وما كان في حَرْبيْ سُلَيم وقبلهم ... بحرب بُعاثٍ من هلاك الفوارسِ )
( تسافهت الأحلامُ فيها جهَالةً ... وأُضرِم فيها كلُّ رَطب ويابِس )
( فكُفُّوا خُفافاً عن سفاهَةِ رأيهِ ... وصاحِبَه العبّاسَ قبل الدَّهارسِ )
( وإلاّ فأنتم مثلُ مَنْ كان قبلكم ... ومَنْ يعقِل الأمثالَ غيرُ الأكايسِ )
وقال مالك بن عوف النصري
( سُليم بن منصور دعوا الحربَ إنما ... هي الهُلك للأقْصَيْن أو لِلأَقارِبِ )
( ألم تعلمُوا ما كانَ في حرب وائِلٍ ... وحرب مُرادٍ أَو لُؤَيّ بن غالبِ )
( تفرّقت الأحياء منهم لَجاجَةً ... وهم بين مغلوبٍ ذليلٍ وغالبِ )
( فما لِسُلَيمٍ ناصرٌ من هَوازنٍ ... ولو نُصِرُوا لم تُغنِ نُصرةُ غائبِ )
قال ثم أصبحنا فاجتمعت بنو سليم وجاء العباس وخفاف فقال لهما دريد بن الصمة ولمن حضر من قومهما يا هؤلاء إن أولكم كان خير أول وكل حي سلف خير من الخلف فكفوا صاحبيكم عن لجاج الحرب

وتهاجي الشعر قال فاستحيا العباس فقال فإنا نكف عن الحرب ونتهادى الشعر قال فقال دريد فإن كنتما لا بد فاعلين فاذكرا ما شئتما ودعا الشتم فإن الشتم طريق الحرب فانصرفا على ذلك فقال العباس بن مرداس
( فأبلغ لدَيْك بني مالكٍ ... فأنتم بأَنبائِنا أخْبَرُ )
( فأما النَّخِيلُ فليست لنا ... نخيلٌ تُسّقَّى ولا تُؤْبَرُ )
( ولكنَّ جَمعاً كجِذْل الحِكاك ... فيه المقَنَّع والحُسَّرُ )
( مغاويرُ تحمِل أبطالَنا ... الى الموت ساهِمةٌ ضُمَّرُ )
( وأعددتُ للحرْب خَيفانةً ... تُدِيم الجِراء إذا تَخْطِرُ )
( صَنِيعاً كقارورة الزّعفرانِ ... ممَّا تُصانُ ولا تُؤْثَرُ )
ويقال صبيغا قال فأجابه خفاف فقال
( أعبّاسُ إنّ استعارَ القَصِيدِ ... في غير مَعْشَره مُنكَرُ )
( علامَ تَناولُ ما لا تَنالُ ... فتقطَعُ نفسَك أو تَخسرُ )
( فإنَّ الرِّهانَ إذا ما أُريد ... فصاحبهُ الشامخُ المُخْطِر )
( تَخاوَصُ لم تستطعْ عُدَّةً ... كأنك من بُغضِنا أعوَرُ )
( فقصرُك مَأثورةٌ إن بَقِيتُ ... أصحو بها لك أو أسكرُ )
( لساني وسيفي معاً فانظُرَنْ ... الى تلك أيُّهما تُبْدَرُ )
قال فلما طال الأمر بينهما من الحرب والتهاجي قال عباس إني والله ما رأيت لخفاف مثلا إلا شبام بني زبيد فإنه كان يلقى من ابن عمه ثروان بن مرة من الشتم والأذى ما ألقى من خفاف فلما لج في شتمه تركه وما هو فيه فقال

( وهبتُ لثَروانَ بن مُرَّةَ نفسَه ... وقد أمكَنَتني من ذُؤابَتِه يدِي )
( وأحمِل ما في اليوم من سُوء رأيهِ ... رَجاء التي يأتي بها الله في غدِ )
فقال خفاف إني والله ما وجدت لعباس مثلا إلا ثروان بني زبيد فإنه كان يلقى من شبام ما ألقى من العباس من الأذى فقال ثروان
( رأيتُ شِباماً لا يزال يَعيبُني ... فلِلَّه ما بالي وبالُ شِبامِ )
( فقَصْرُك منّي ضربةٌ مازِنِيَّةٌ ... بكفِّ فتىً في القوم غيرِ كَهامِ )
( فتُقصِر عني يا شِبامُ بنَ مالكٍ ... وما عَضَّ سيفي شاتمي بحرَامِ )
فقال عباس جزاك الله عني يا خفاف شرا فقد كنت أخف بني سليم من دمائها ظهرا وأخمصها بطنا فأصبحت العرب تعيرني بما كنت أعيب عليها من الاحتمال وأكل الأموال وصرت ثقيل الظهر من دمائها منفضج البطن من أموالها وأنشأ يقول
( ألم ترَ أني تركتُ الحروبَ ... وأنّي نَدِمت على ما مَضَى )
( ندامةَ زارٍ على نفسه ... لتِلك التي عارُها يُتَّقى )
( فلم أُوقِد الحربَ حتى رَمَى ... خُفافٌ بأسهُمه مَنْ رَمَى )
( فإن تَعطِف القومَ أحلامُهم ... فيرجِعَ من وُدِّهم ما نأى )
( فلستُ فَقِيراً إلى حَرْبِهِم ... وما بيَ عن سَلْمِهِم من غِنَى )
فقال خفاف
( أعبَّاسُ إمَّا كَرِهْتَ الحروبَ ... فقد ذُقْتَ من عَضِّها ما كَفَى )
( أَأَلْقَحْتَ حَرباً لها شِدَّة ... زَماناً تُسعِّرُها باللَّظَى )
( فلمّا تَرَقَّيْتَ في غَيِّها ... دَحَضْت وزَلَّ بكَ المرْتَقَى )

( فلا زلتَ تَبكي على زَلَّة ... وماذا يرُدُّ عليك البُكَا )
( فإن كنتَ أخطأتْ في حَرْبنا ... فلَسْنا نُقِيلُك هذا الخَطَا )
( وإن كُنتَ تَطْمَعُ في سَلْمِنا ... فزاوِلُ ثَبِيراً ورُكْنَيْ حِرَا )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى العبدي عن يحيى بن عبد الله بن الفضل الفزاري وكان علامة بأمر قيس قال
كان خفاف بن ندبة في جماعة من قومه فقال إن عباس بن مرداس ليريد أن يبلغ فينا مبلغ عباس بن أنس وتأبى عليه خصال قعدن به عن ذلك فقال فتى من رهط عباس ما تلك الخصال يا خفاف فقال اتقاؤه بخيله عند الموت ومكالبة الصعاليك على الأسلاب وقتله الأسرى واستهانته بسبايا العرب وايم الله لقد طالت حياته حتى تمنينا موته فانطلق الفتى إلى العباس فحدثه الحديث فقال العباس يابن أخي إلا أكن كالأصم في فضله فلست كخفاف في جهله وقد مضى الأصم بما في أمس وخلفني لما في غد فلما أمسى تغنى فقال
( خُفافُ أما تزال تجرُّ ذَيلاً ... الى الأمر المقرِّب للفسادِ )
( وقد علم المعاشِرُ من سُلَيْم ... بأنّي فيهمُ حَسَنُ الأيادي )
( وأنّي يوم جَمْعِ بني عُطَيْفٍ ... حملت بحالكٍ وَهِج المرَادِي )
( وأنّي لا أُعَيَّر في سُلَيْم ... بردِّ الخيلِ سالمةَ الهوادِي )

( وأنِّي في مُلِمَّةِ كلّ يومٍ ... أَقِي صَحْبي وفي خيلِي تعادِي )
( ولم أسلِب بحمد الله كَبْشاً ... سِلاحاً بين مختلف الصِّعادِ )
( ولم أحلُل لمُحْصَنَةٍ نِطاقاً ... ولم أرَ عِتْقَها إلا مُرادي )
( فأَوردْ يا خُفاف فقد مُنِيتم ... بني عوفٍ بحيّة بطن وادي )
فلما أصبح أتى خفافا وهو في ملأ من قومه فقال قد بلغني مقالك يا خفاف وايم الله إنك لتعلم أني أحمي المصاف وأكره السلب وأطلق الأسير وأصون السبية
فأما زعمك أني أتقي بخيلي عند الموت فهات لي من قومك رجلا اتقيت به وأما قتلي الأسرى فإني قتلت الزبيدي بخالك وأما سلبي الأسير فوالله ما أتيت على مسلوب قط إلا لمت سالبه وأما استهانتي بالسبايا فإني أحذو القوم في سباياهم فعالهم في سبايانا وأما تمنيك موتي فإن مت قبلك فأغن غنائي ثم انصرف فقال خفاف مجيبا للعباس عن قوله
( لعمرُ أبيك يا عبّاسُ إني ... لمُنْقَطِع الرِّشاء من الأعادِي )
( وإني قد تعاتبني سُلَيْم ... على جَرِّ الذيولِ إلى الفسادِ )
( أكُلَّ الدهر لا تَنْفَكّ تجرِي ... إلى الأمر المفارِق للسَّدادِ )
( إذا ما عاينَتْكَ بَنُو سُلَيم ... تَبيتُ لهم بداهية نآدِ )
( فزَندك في سُلَيْم شَرّ زَنْدٍ ... وزادُك في المعاشِر شَرّ زادِ )
( ألا لله دَرُّك من رئيسٍ ... إذَا عادَيْتَ فانظرُ مَنْ تُعَادِي )
( جريْتُ مُبَرِّزاً وجَريتَ تكبو ... على تَعَبٍ فهل لك من مَعادِ )
( ولم تقتل أسيرَك من زُبَيْدٍ ... بخالي بل غدرت بِمُستَقادِ )

ومستقاد الزبيدي
وإن رهط خفاف لاموه وقالوا اكفف عن الرجل فقال كيف أكف عن رجل يريد أن يترنا أمرنا بغير فضل وقال رهط العباس له أيها الرجل اكفف فقال قولا جميلا وقال العباس عند ذلك
( هل تعرف الطَّلَل القديمَ كأنّه ... وشْمٌ بأسفل ذي الخيام مُرَجَّعُ )
( بقِيتْ معارِفُه على مَرّ الصَّبا ... بعد الجميع كأنه قد يمْرُعُ )
( دارُ التي صادت فؤادك بعدما ... شمِل المَفارِقَ منك شيبٌ أروعُ )
( وزعمتَ أنّك لا تُراحُ إلى الصَّبا ... وعَلَتْك منه شبيبةُ لا تَرجعُ )
( يا أيها المرءُ السفيهُ ألاَ ترى ... أني أضرُّ إذا هَوِيتُ وأنفعُ )
( وأعيش ما قَدَر الإِلهُ على القِلَى ... وأعِفُّ نفسي عن مطامع تُطمِعُ )
( كرماً على الخطر اليسير ولا ترى ... نفسي إلى الأمر الدنيّ تطلَّعُ )
( وأردُّ ذا الضِّغن اللئيمَ برأيه ... حتى يموت وليس فينا مَطمعُ )
( لله دَرُّك لا تَمَنَّ مماتَنا ... فالموتُ وَيْحك قصْرُنا والمرجعُ )
( لو كان يَهلِك مَنْ تَمَنَّى موتَه ... حلّت عليك دُهَية لا تُرْقَعُ )
( ومكثت في دار الهوان موطَّأً ... بالذّلِّ ليس لداركم مَنْ يمنعُ )
فقال خفاف مجيبا له
( عَجبَتْ أُمامَةُ إذ رَأتْنِيَ شاحباً ... خَلَق القميص وأنّض رأسي أصلَعُ )
( وتنفست صُعُداً فقلتُ لها اقصرِي ... إني امرؤ فيما أضرّ وأنفعُ )
( مهلاً أبا أنس فإني للذّي ... خلّى عليك دُهَيَّةً لا تُرْفَعُ )
( وضَرَبْتُ أُمَّ شؤون رأسك ضربةً ... فاستكَّ منها في اللِّقاء المسمَعُ )
( نَعْلَىَّ حَذْوُ نِعالها ولربَّما ... أحذو العِدَا ولكلِّ عادٍ مَصرعُ )

( لا تفخرَنّ فإنَّ عُودِيَ نبعَةٌ ... أعيت أبا كَرِبٍ وعُودُك خِرْوَعُ )
( ولقد أقود إلى العدوّ مُقَلِّصاً ... سَلِسَ القِيادِ له تَلِيلٌ أتْلَعُ )
( نَهْدَ المراكل والدَّسيع يَزينُه ... شَنِجُ النَّسا وأباجِلٌ لا تُقْطَعُ )
( وعَليَّ سابِغَةٌ كأنَّ قَتِيرَها ... حَدَقَ الجنادب لَيْسَ فيها مطمعُ )
( زَغَفٌ مُضاعَفَة تَخَيَّر سَرْدَها ... ذو فائشٍ وبنو المُرار وتُبَّعُ )
( في فِتْيةٍ بِيضِ الوجوه كأنهم ... أُسْدٌ على لحم ببِيشَةُ طُلَّعُ )
( لا ينكَلون إذَا لَقُوا أعدَاءهَم ... إنّ الحِمامَ هو الطريق المهْيَعُ )
كان خفاف قد كف عن العباس حتى أتاه غلام من قومه فقال أبي العباس إلا جرأة عليك وعيبا لك فغضب خفاف ثم قال ما يدعوه إلى ذلك فوالله إن أباه لرابط السهم وإن أمه لخفية الشخص ولئن طلب مسعاي ليعلمن أنه قصير الخطوة أجذم الكف وما ذنبنا إليه إلا أنا استنقذنا أباه من عصي بني حزام وكافحنا دونه يوم بني فراس ونصرنا أباه على حرب بن أمية وقال خفاف في ذلك

( لن يترك الدهرَ عَبَّاسٌ تَقَحُّمَه ... حتى يذوق وبالَ البَغْي عَبَّاسُ )
( أمسكتُ عن رَمْيِه حولاً ومَقْتَلُه ... بادٍ لتعذرني في حَرْبِه الناس )
( عمداً أجرّ له ثوبي لأخدَعه ... عن رأيه ورجائي عنده ياسُ )
( فالآن إذ صَرَّحت منه حقيقَتُه ... ظُلْماً فليس بشتمي شاتمي بَاسُ )
( أجُدّ يوماً بقولي كُلَّ مبتَدىء ... كما يَجُدُّ بكفّ الجازرِ الفاسُ )
( تأبى سُلَيْم إذا عَدّت مساعِيَها ... أن يُحرِزَ السَّبقَ عبّاسٌ ومِرداسُ )
( أودى أبو عامر عبّاس مُعْتَرِفاً ... أنّا إذا ما سُلَيم حَصَّلت راسُ )
فبلغ العباس أمر خفاف فأتاه فالتقيا عند أسماء بن عروة بن الصلت بن حزام بن عبد الله بن حازم بن الصلت وكان مأمونا في بني سليم فقال العباس قد بلغني قولك يا خفاف ولعمري لا أشتم أباك ولا أمك ولكني رام سوادك بما فيك والله ما كنت إلى ذمك بالهيمان ولا إلى لحمك بالقرم وإن سليما لتعلم أني أبحت حمي بني زبيد وأطفأت جمرة خثعم وكسرت قرني بني الحارث بن كعب وقلدت بني كنانة قلائد العار وإني يا خفاف لأخف منك على بني سليم مؤونة وأثقل منك على عدوهم وطأة وقال مجيبا له
( إني رأيت خُفافاً ليس يُهنئُه ... شيء سوى شتم عبّاس بنِ مرداسِ )
( مهلاً خُفافُ فإنَّ الحق مَعْضَبَةٌ ... والحمق ليس له في الناس من آسي )
( سائلْ سُلَيماً إذا ما غارة لَحِقتْ ... منها فوارسُ حُشْدٌ غيرُ أنكاسِ )

( مِن خَثعَم وزُبَيْدٍ أو بِني قَطَنٍ ... أو رَهْط فروةَ دهراً أو شحا الناسِ )
( يُنْبوا منِ الفارسُ الحامي حقيقَتَه ... إذا أتوْك بحامٍ غيرِ عبّاس )
( لا يحسب النّاس قولَ الحق مُعترفاً ... فانظر خُفاف فما في الحق من باس )
( مَنْ زار خيل بني سعد مُسَوَّمة ... يُهدِي لأولها لأْيُ بن شمّاسِ )
( يوم اعترضتُ أبا بدر بجائفةٍ ... تعوِي بعرق من الأحشاء قلاّسِ )
( أُدعَى الرئيسُ إذا ما حربكم كشَفَت ... عن ساقها لَكُم والأمر للرَّاسِ )
( حتى إذا انكشفت عنكم عَمايتُها ... أنشأت تضرِب أخماساً لأسداسِ )
وسعى أهل الفساد إلى خفاف فقالوا إن عباسا قد فضحك فقال خفاف
( أَلاَ أيُّها المُهْدِي لِيَ الشَّتْمَ ظالِماً ... ولستُ بأَهْلٍ حين أُذْكَر للشَّتْمِ )
( أبَى الشَّتْمَ أنِّي سَيِّدٌ وابنُ سادةٍ ... مطاعِينَ في الهَيْجا مَطاعِيمَ لِلَّحْمِ )
( همُ مَنَحوا نَصْراً أباك وطاعَنوا ... وذَلِك إذْ تُرْمَى ذَلِيلاً ولا تَرْمِي )
( كمُسْتَلْحِمٍ في ظُلمةِ الَّليْل بَعْدَ ما ... رأى المَوتَ صِرْفاً والسيوفُ بها تَهْمي )
( أدِبُّ على أنماط بيضاء حُرَّةٍ ... مقابَلَة الجِدَّين ماجدةَ العَمِّ )
( وأنت لَحَنْفاء اليَدَيْن لَوَ انَّها ... تُباع لما جاءت بزَنْدٍ ولا سَهْم )
( وإني على ما كان أولُ أوّلٍ ... عليه كذاك القَرْم يُنْتَجُ للقَرْم )
( وأُكرِم نَفسِي عن أمور دَنِيئة ... أصونُ بها عِرْضِي واسو بها كَلْمي )
( وأصفحُ عَمَّن لو أشاءُ جَزَيتُه ... فيمنعني رُشْدِي ويُدركُني حِلْمِي )

( وأغفر للمولَى وإنْ ذو عَظيمَةٍ ... على البَغْي منها لا يَضِيقُ بها حَزْمِي )
( فَهذِي فَعالي ما بَقيِتُ وإنَّنيِ ... لمُوصٍ به عَقْبي إذا كُنتُ في رَجْمي )
فقال له قومه لو كان أول قولك كآخره يا خفاف لأطفأت النائرة وأذهبت سخائم النمائم فقال العباس مجيبا له
( ألاَ أيُّها المُهْدِي لَيَ الشَّتْم ظالماً ... تَبَيَّنْ إذا راميتَ هَضَبَة من تَرْميِ )
( أبي الذَّمَّ عِرضِي إنَّ عرضي طاهرٌ ... وإني أَبيٌّ من أُباةٍ ذوي غَشْم )
( وإنّي من القوم الذين دماؤُهُم ... شِفاءٌ لطُلاَّب التراثِ من الوَغْمِ )
وقال أيضا
( إن تَلْقَني تَلقَ ليثاً في عَرينَتِه ... من أُسْد خِفّانَ في أَرساغه فَدَعُ )
( لا يبرح الدهرَ صيداً قد تقنّصه ... من الرجال على أشداقه القَمَعُ )
وكان العباس وخفاف قد هما بالصلح وكرهت بنو سليم الحرب فجاء غوي من رهط العباس فقال للعباس إن خفافا قد أنحى عليك وعلى والديك فغضب العباس ثم قال قد والله هجاني فكان أعظم ما عابني به أصغر عيب فيه ثم هجا والدي فما ضرهما ولا نفعه ثم برزت له فأخفى شخصه واتقاني بغيره ولو شئت لشتمت أباه وثلبت عرضه ولكني وإياه كما قال شبام بن زبيد لابن عم له يقال له ثروان بن مرة كان أشبه الناس بخفاف

( وهبتُ لثَرْوانَ بنِ مُرَّة نفسَه ... وقد أمكنتني من ذُؤابَتِه يدِي )
( وأحمِلُ ما في اليوم من سُوء رأيه ... رجاءَ الذي يأتي به الله في غد )
( ولستُ عليه في السِّفاه كنفسه ... ولَستُ إذا لم أهجُه بمُوعِّدِ )
وقال
( أراني كُلما قاربتُ قومي ... نأَوْا عني وقَطعُهم شدِيدُ )
( سئمت عِتابَهم فصفحتُ عنهم ... وقلتُ لعلَّ حلمَهُم يعودُ )
( وعلَّ الله يُمْكِنُ من خُفافٍ ... فأسقِيَه التي عنها يَحِيدُ )
( بما اكتسبت يداهُ وجَرَّ فينا ... من الشَّحْنا التي ليست تَبيدُ )
( وأنَّى لي يؤدِّبُني خُفافٌ ... وعوْفٌ والقلوبُ لها وَقودُ )
( وإني لا أزال أُريدُ خيراً ... وعند الله من نَعَمٍ مَزيدُ )
( فضاقت بي صدورُهمُ وغصَّت ... حُلوقٌ ما يَبِضُّ لها ورِيدُ )
( متى أبعُدْ فشرُّهُمُ قريبٌ ... وإن أقرُبْ فوُدُّهم بعيد )
( أقول لهم وقد لَهِجُوا بشَتمِي ... ترّقَّوْا يا بني عوفٍ وزِيدُوا )
( فما شَتْمي بنافع حَيِّ عَوفٍ ... أينقُصُني الهبُوطُ أم الصُّعودُ )
( أتجعلُني سَراةُ بني سُلَيم ... ككلبٍ لا يهرُّ ولا يصيدُ )
( كأنِّي لم أقُد خيلاً عِتاقاً ... شَوازبَ ما لها في الأرض عودُ )
( أَجَشَّمها مَهامِهَ طامِساتٍ ... كأَنَّ رمالَ صَحصَحِها قُعودُ )
( عليها من سَراة بني سُليم ... فوارسُ نجدةٍ في الحربِ صِيدُ )
( فأُوطِي مَنْ تُريد بني سُلَيم ... بِكَلْكَلِها ومن ليست تُريدُ )

فلما بلغ خفافا قول العباس قال والله ما عبت العباس إلا بما فيه وإني لسليم العود صحيح الأديم ولقد أدنيت سوادي من سواده فلم أحجم ولا نكصت عنه وإني وإياه كما قال ثروان لشبام بني زبيد وكان يلقى منه ما لقي من العباس قال
( رأيتُ شِباماً لا يزال يَعيبني ... فللهِ ما بالي وبالُ شِبام )
( فقَصرُك منّي ضَربةٌ مازِنيَّةٌ ... بكفّ امرىء في الحرب غير كَهامِ )
( من اليوم أو من شَيْعِه بمهنَّدٍ ... خَصومٍ لهامات الرجال حُسامِ )
( فتُقصِر عني يا شِبامُ بنَ مالكٍ ... وما عضَّ سيفي شاتمي بحَرامِ )
وقال خفاف
( أرى العباسَ ينقصُ كلَّ يوم ... ويزعم أنه جَهلاً يَزيدُ )
( فلو نُقِضَت عزائمُه وزادت ... سلامتُه لكان كما يُريد )
( ولكنَّ المَعالمَ أفسدته ... وخُلْقٌ في عشيرته زَهيدُ )
( فعبّاسُ بن مِرْداس بن عمْرو ... وكِذْبُ المرء أقبحُ ما يُفِيدُ )
( حلفتُ بربِّ مكةَ والمُصلَّى ... وأشياخٍ محلِّقة تَنُودُ )
( بأنك من مودَّتِنا قريبٌ ... وأنتَ من الذي تَهوَى بَعيدُ )
( فأبشِر أن بقِيتَ بيوم سوء ... يَشيبُ له من الخوف الوليدُ )
( كيومك إذ خرجت تَفوق ركضاً ... وطار القلبُ وانتفَخ الورِيدُ )
( فدَعْ قولَ السّفاهةِ لا تَقُلْه ... فقد طال التَّهَدُّدُ والوعيدُ )
( رأينا من نُحاربُه شَقِياً ... ومن ذَا في بني عَوْف سَعيدُ )

وقال خفاف أيضا
( أعبّاسُ إنّا وما بينَنا ... كصَدْع الزُّجاجة لا يُجبَرُ )
( فلستَ بكفءٍ لأعراضِنا ... وأنت بشَتْمِكَنا أجدرُ )
( ولسنا بأهلٍ لما قُلُتُم ... ونحن بِشَتْمِكُمُ أعذر )
( أراكَ بَصيراً بتلك التي ... تُريدُ وعن غيرها أعورُ )
( فقصرُك مني رَقيقُ الذُّبابِ ... عضب كَريهتُه مِبْتَرُ )
( وأزرقُ في رأسِ خَطِّيَّة ... إذا هُزَّ أكعُبُها تَخطُر )
( يَلوح السِّنان علَى متْنِها ... كنار على مَرْقَب تُسعرُ )
( وزَغْفٌ دِلاَصٌ حَباها العَزيزُ ... توارثها قبلَه حِمْيَرُ )
( فتلك وجرداءُ خَيْفَانَةٌ ... إذا زُجِر الخيلُ لا تُزجرُ )
( إذا ألقت الخيلُ أذيالَها ... فأنت على جريها أقدرُ )
( متى يبلُلِ الماء أعطافَها ... تبُذُّ الجِيادَ وما تُبْهَرُ )
( أُنهِنه بالسوط من غَرْبها ... وأُقدِمُها حيث لا يُنكَرُ )
( وأرحَضُها غيرَ مذمومةٍ ... بلِّباتها العَلَق الأحمرُ )
( أقولُ وقد شكَّ أقرابَها ... غدرتَ ومِثلي لا يغدِر )
( وأُشهدُها غمراتِ الحروب ... فسِيَّانِ تَسلَم أو تُعقر )
وقال العباس
( خُفاف ألم ترَ ما بيننا ... يزيدُ استعاراً إذا يُسعَرُ )
( ألم ترَ أنا نُهينُ التِّلادَ ... للسائلين وما نُعذِرُ )

( لأنا نُكلَّفُ فوق التي ... يُكلَّفها الناسُ لو تخبُرُ )
( لنا شِيَمٌ غَيرُ مجهولةٍ ... تَوارثها الأكبرُ الأكبرُ )
( وخيلٌ تكدَّسُ بالدَّارعين ... تُنْحَر في الرَّوع أو تُعقرُ )
( عليها فوارِسُ مَخبورةٌ ... كجنِّ مساكنُها عَبقرُ )
( ورَجْرَاجةٌ مثلُ لونِ النجومِ ... لا العُزْلُ فيها ولا الحُسَّرُ )
( وبِيضٌ سوابغُ مَسرودةٌ ... مواريثُ ما أورثت حِمْيَرُ )
( فقد يعلم الحيُّ عند الصِّياح ... بأن العَقِيلةَ بي تُسترُ )
( وقد يعلم الحَيُّ عند الرهانِ ... أنِّي أنا الشامخ المُخْطِر )
( وقد يعلم الحيُّ عند السؤالِ ... أنّي أجودُ وأُسْتَمْطَرُ )
( فأنَّى تعيِّرني بالفخارِ ... فها أنا هذا هو المُنْكَر )

صوت
( ألا لا أُبالي بعد رَيَّا أوافقتْ ... نَوَانا نَوَى الجِيران أم لم تُوافِقِ )
( هِجانُ المُحَيَّا حُرَّةُ الوجه سُرْبِلَتْ ... من الحُسن سِربالاً عتيقَ البنائقِ )
الشعر لجبهاء الأشجعي والغناء لإسحاق رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبار جبهاء ونسبه
جبهاء لقب غلب عليه يقال جبهاء وجبيهاء جميعا واسمه يزيد بن عبيد ويقال يزيد بن حميمة بن عبيد بن عقيلة بن قيس بن رويبة بن سحيم بن عبيد بن هلال بن زبيد بن بكر بن أشجع شاعر بدوي من مخاليف الحجاز نشأ وتوفي في أيام بني أمية وليس ممن انتجع الخلفاء بشعره ومدحهم فاشتهر وهو مقل وليس من معدودي الفحول ومن الناس من يروي هذه الأبيات لأبي ربيس الثعلبي وليس ذلك بصحيح وهي في شعر جبهاء موجودة
جبهاء والفرزدق
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو الحسن الأحول عن الطوسي عن أبي عمرو الشيباني قال
قدم جبيهاء الأشجعي البصرة بجلوبة له يريد بيعها فلقيه الفرزدق بالمربد فقال ممن الرجل قال من أشجع قال أتعرف شاعرا منكم يقال له جبهاء أو جبيهاء قال نعم قال أفتروي قوله

( أمِنَ الجَمِيع بذي البقاع ربُوعُ ... هاجت فؤادك والرُّبوعُ تَروعُ )
قال نعم قال فأنشدنيها فأنشده قوله منها
( من بعد ما نَكِرت وغَيَّر آيَها ... قَطْرٌ ومُسبِلَةُ الدّموع خَريعُ )
( يا صاحِبَيَّ ألا ارْفَعا لي آيةً ... تَشْفي الصُّداع فيُذهَل المرفوعُ )
( ألواح ناجِيَة كأنَّ تَلِيلَها ... جذْعٌ تُطِيف به الرُّقاةُ مَنيِعُ )
حتى أتى على آخرها فقال الفرزدق فأقسم بالله إنك لجبهاء أو إنك لشيطانه
قال الأخفش في خبره عن أصحابه الخريع الذاهبة العقل شبه السحابة بها لأنها لا تتمالك من المطر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبيد المكتب قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
قدم جبيهاء الأشجعي المدينة بجلوبة له فبينا هو يبيعها والفرزدق يومئذ بالمدينة إذ مر به فقال له ممن أنت قال من أشجع قال أتعرف شاعرا منكم يقال له جبهاء أو جبيهاء قال نعم قال أتروي قصيدته
( أَلاَ لا أُبالي بعد رَيَّا أوافَقَتْ ... نَوانَا نَوى الجِيران أم لم تُوافِقِ )
قال نعم قال أنشدنيها فأنشده إياها فقال الفرزدق أقسم بالله إنك لجبيهاء أو إنك لشيطانه

جبهاء يهاجر إلى المدينة ويجاور بني تميم
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن سليمان بن عياش قال

قالت زوجة جبهاء الأشجعي له لو هاجرت بنا إلى المدينة وبعت إبلك وافترضت في العطاء كان خيرا لك قال أفعل فأقبل بها وبإبله حتى إذا كان بحرة واقم من شرقي المدينة شرعها بحوض واقم ليسقيها فحنت ناقة منها ثم نزعت وتبعتها الإبل وطلبها ففاتته فقال لزوجته هذه إبل لا تعقل تحن إلى أوطانها ونحن أحق بالحنين منها أنت طالق إن لم ترجعي وفعل الله بك وفعل وردها وقال
( قالت أُنيْسَةُ دَعْ بلادَك والتمِس ... دَاراً بطَيْبَة رَبَّةِ الآطامِ )
( تَكتُب عِيالَك في العَطاءِ وتَفْتَرِض ... وكذاك يفعلُ حازِمُ الأَقوامِ )
( فهمَمْتُ ثم ذكرتُ ليلَ لِقاحِنا ... بِلِوَى عُنَيْزَة أو بقُفِّ بشَامِ )
( إذ هُنَّ عن حَسَبي مَذَاوِد كُلَّما ... نزل الظلامُ بعُصْبةٍ أغْتامِ )
( إن المَدينةَ لا مَدِينَة فالْزِمي ... حِقْفَ السِّناد وقُبَّة الأَرجامِ )
( يُحْلب لكِ اللَّبنُ الغَرِيض ويُنْتَزع ... بالعيس من يَمنٍ إليكِ وشامِ )
( وتُجاورِي النفَر الذين بِنَبْلهم ... أَرمِي العَدُوَّ إذا نهضت أُرَامِي )

( الباذلين إذا طلبت تِلادَهم ... والمانِعي ظَهْرِي من الغُرَّامِ )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال جاور جبهاء الأشجعي في بني تيم بطن من أشجع فاستمنحه مولى لهم عنزا فمنحه إياها فأمسكها دهرا فلما طال على جبهاء ألا يردها قال جبهاء
( أَموْلَى بَنِي تَيْمٍ ألستَ مُؤَدِّياً ... مَنِيحتَنا فيما تُرَدُّ المَنائِحُ )
( لها شَعَرٌ صافٍ وجِيدٌ مُقلِّص ... وجسم زُخارِيٌّ وضِرْسٌ مُجالحُ )
فأرسل إليه التيمي يقول
( بَلَى سنؤدِّيها إليكَ ذمِيمَةً ... لِلتَنْكِحها إن أعْوَزَتْكَ المَناكِحُ )
فعمد به جبهاء فنزل وقال
( لو كنتُ شيخاً من سَواةَ نكحتُها ... نِكاحَ يَسارٍ عنزه وهْيَ سارِحُ )
قال وهم يعيرون بنكاح العنز

جبهاء وموسى بن زياد
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني عن مصعب قال استطرق جبهاء الأشجعي موسى بن زياد الأشجعي كبشا فوعده ثم مطله فقال جبهاء
( واعَدَني الكبشَ مُوسَى ثم أخلفَني ... وما لمِثْليَ تُعتَلُّ الأكاذِيبُ )
( يا ليتَ كَبشَك يا مُوسَى يُصادِفُه ... بين الكُراعِ وبين الوَجْنَةِ الذِّيبُ )

( أمسى بذي الغُصر أو أمسى بذي سَلَمٍ ... فَقَحَّمَتْه إلى أبياتِك اللُّوبَ )
( فجاء والحيُّ أيقاظٌ فطاف بهم ... طوفيْن ثم أقرَّته الأحاليبُ )
( فبات ينظُره حرّانَ مُنطَوِياً ... كأنه طالبٌ للوِتْر مَكروبُ )
( وقام يَشْتَدّ حتى نال غِرَّتَه ... طاوي الحَشَا ذَرِبُ الأنيابِ مذْبُوبُ )
( بغَفْلةٍ من زُرَيقٍ فاستمرّ به ... ودونه آكمُ الحِقْفِ الغرابيبُ )
( سَلْ عنْه أرخمةً بِيضاً وأغرِبةً ... سوداً لهنّ حَنًى أَطْمَى سَلاهيبُ )
( يَردين رُدْي العَذارَى حول دمنتِهِ ... كما يطوف على الحوض المعاقيبُ )
( فجاء يحمل قرنيه ويندبه ... فكلُّ حيٍّ إذا ما مات مندوبُ )

صوت
( وَلها ولا ذَنْبَ لها ... حُبٌّ كأَطْراف الرِّماحِ )
( في القَلْب يَجْرَحُ والحَشا ... فالقَلْبُ مَجروحُ النَّواحِي )
الشعر لوالبة بن الحباب والغناء ليزيد رمل بالوسطى عن الهشامي وعمرو وفيه لسبك الزامر لحن عن ابن خرداذبة

أخبار والبة بن الحباب
والبة بن الحباب أسدي صليبة كوفي شاعر من شعراء الدولة العباسية يكنى أبا أسامة وهو أستاذ أبي نواس وكان ظريفا شاعرا غزلا وصافا للشراب والغلمان المرد وشعره في غير ذلك مقارب ليس بالجيد وقد هاجى بشارا وأبا العتاهية فلم يصنع شيئا وفضحاه فعاد إلى الكوفة كالهارب وخمل ذكره بعد
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي وأخبرني محمد بن القاسم الأنباري والحسن بن علي الأدمي جميعا عن القاسم بن محمد الأنباري قال حدثنا يعقوب بن عمر قال حدثني أحمد بن سلمان قال حدثني أبو عدنان السلمي الشاعر قال
قال المهدي لعمارة بن حمزة من أرق الناس شعرا قال

والبة بن الحباب الأسدي وهو الذي يقول
( ولها ولا ذنْبَ لها ... حُبٌّ كأَطْراف الرِّماحِ )
( في القَلْب يَقْدحُ والحَشا ... فالقلبُ مَجروحُ النَّواحِي )
قال صدقت والله قال فما يمنعك عن منادمته يا أمير المؤمنين قال يمنعني قوله
( قُلتُ لِساقِينا على خَلوةٍ ... أَدْنِ كذا رأسَك من راسِي )
( ونَمْ على صَدْركِ لي ساعةً ... إنّي امرؤٌ أنكَحُ جُلاَّسِي )
أفتريد أن نكون من جلاسه على هذه الشريطة
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة حدثني عبد الله بن مسلم بن قتيبة
ووجدته في بعض الكتب عن ابن قتيبة وروايته أتم فجمعتهما قال
حدثني الدعجلي غلام أبي نواس قال أنشدت يوما بين يدي أبي نواس قوله
( يا شقيقَ النفْسِ من حَكمِ ... نمتَ عنْ ليْلِي ولم أنمِ )
وكان قد سكر فقال أخبرك بشيء على أن تكتمه قلت نعم قال أتدري من المعني بقوله يا شقيق النفس من حكم قلت لا قال أنا والله المعني بذلك والشعر لوالبة بن الحباب قال وما علم بذلك غيرك وأنت أعلم فما حدثت بهذا حتى مات
قال وقال الجاحظ كان والبة بن الحباب ومطيع بن إياس ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي وحفص بن أبي وردة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الراوية وابن

الزبرقان وعمارة بن حمزة ويزيد بن الفيض وجميل بن محفوظ وبشار المرعث وأبان اللاحقي ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا وكلهم متهم في دينه

والبة وأبو العتاهية يتهاجيان
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني إسحاق بن إبراهيم بن محمد السالمي الكوفي التيمي قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال
رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له إن والبة بن الحباب قد هجاني ومن أنا منه أنا جرار مسكين وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه فأحب أن تكلمه أن يمسك عني قال فكلم أبي والبة وعرفه أن أبا العتاهية جاءه وسأله ذلك فلم يقبل وجعل يشتم أبا العتاهية فتركه ثم جاء أبو العتاهية فسأله عما عمل في حاجته فأخبره بما رد عليه والبة فقال لأبي لي الآن إليك حاجة قال وما هي قال لا تكلمني في أمره قال قلت له هذا أول ما يجب لك قال فقال أبو العتاهية يهجوه
( أوالِبُ أنت في العرَبِ ... كمِثْل الشِّيصِ في الرُّطَبِ )
( هَلُمَّ إلى المَوالِي الصِّيدِ ... في سعَةٍ وفي رَحَبِ )
( فأنتَ بنا لعَمْرُ الله ... أشبهُ منك بالعرَبِ )
( غضِبْتُ عليك ثم رأيتُ ... وجهَك فانْجَلى غَضبِي )
( لَمَا ذكَّرتني من لون أَجْدادي ... ولونِ أبِي )

( فقُل ما شئتَ أقبْله ... وإن أطْنبتَ في الكَذِب )
( لقد أُخبِرت عنك وعن ... أبيك الخالص العرَبي )
( فقال العارِفُون به ... مُصاصٌ غيرُ مُؤْتَشِبِ )
( أتانا من بلاد الرُّومِ ... مُعْتَجِراً على قَتَبِ )
( خفيفَ الحَاذِ كالصّمْصامِ ... أطلسَ غيرَ ذي نَشَبِ )
( أوالبُ ما دهاكَ وأنتَ ... في الأَعراب ذو نَسبِ )
( أراك وُلدتَ بالمِرِّيخ ... يابنَ سَبائِك الذهب )
( فجئتَ أُقَيْشِرَ الخدَّيْن ... أزرقَ عارِمَ الذَّنَبِ )
( لقد أخطأتَ في شَتمِي ... فخبِّرْني ألم أُصِبِ )
وقال في والبة أيضا
( نَطقتْ بنو أسَدٍ ولم تَجهرْ ... وتكلَّمَت خَفْيا ولم تَظهرْ )
( وأما وربِّ البيت لو نطقتْ ... لتركتها وصبَاحُها أغبرْ )
( أيرومُ شتمِي منهمُ رجلٌ ... في وجهه عِبَرٌ لِمَن فكَّرْ )
( وابنُ الحُبابِ صَلِيبةً زعموا ... ومن المحالِ صليبةٌ أشقَرْ )
( ما بال مَنْ آباؤه عُرُب الألْوان ... يُحسب من بني قيصرْ )
( أترون أهلَ البدوِ قد مُسِخوا ... شُقراً أما هذا من المُنْكَرْ )
قال وأول هذه القصيدة

( صَرِّح بما قد قلته واجهَرْ ... لابن الحُباب وقل ولا تَحْصَرْ )
( ما لي رأيتُ أباك أسوادَ غِربيب ... القَذَالِ كأنه زُرْزُرْ )
( وكأنّ وجهَك حُمرةً رِئةٌ ... وكأنَّ رأسَك طائرٌ أصفرْ )
قال وبلغ الشعر والبة فجاء إلى أبي فقال قد كلمتني في أبي العتاهية وقد رغبت في الصلح قال له أبي هيهات إنه قد أكد علي إن لم تقبل ما طلب أن أخلي بينك وبينه وقد فعلت فقال له والبة فما الرأي عندك فإنه فضحني قال تنحدر إلى الكوفة فركب زورقا ومضى من بغداد إلى الكوفة وأجود ما قاله والبة في أبي العتاهية قوله
( كان فينا يُكنى أبا إسحاقِ ... وبها الرَّكْبُ سار في الآفاق )
( فتَكنَّى معتوهُنا بعَتاهٍ ... يا لها كُنيةً أتت باتفاقِ )
( خلق الله لِحْيةً لك لا تَنْفكُّ ... معقودةً لدى الحلاَّقً )
وله فيه وهو ضعيف سخيف من شعره
( قل لابنِ بائعةِ القِصار ... وابنِ الدَّوارقِ والجرارِ )
( تَهوى عُتَيْبَةَ ظاهراً ... وهواك في أَيْرِ الحِمارِ )
( تهجو موالِيك الأُلَى ... فَكُّوك من ذلِّ الإِسارِ )

والبة وعلي بن ثابت
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني ابن أبي فنن قال
كان والبة بن الحباب خليلا لعلي بن ثابت وصديقا ودودا وفيه يقول

( حَيّ بها والبَةَ المُصْطَفَى ... حَيِّ كَرِيماً وابن حُرِّ هِجانِ )
( وقاسِماً نَفْسِي فدَتْ قاسِماً ... من حَدَث المَوْتِ ورَيْبِ الزَّمانِ )
قال ولما مات والبة رثاه فقال
( بكت البَرِيَّة قاطِبَهْ ... جَزَعاً لِمَصْرع والِبَهْ )
( قامَتْ لِمَوْتِ أبي أُسامةَ ... في الرِّفاق النَّادِبَهْ )
قال وكان والبة أستاذ أبي نواس وعنه أخذ ومنه اقتبس قال وكان والبة قد قصد أبا بجير الأسدي وهو يتولى للمنصور الأهواز فمدحه وأقام عنده فألفى أبا نواس هناك وهو أمرد فصحبه وكان حسن الوجه فلم يزل معه فيقال إنه كشف ثوبه ليلة فرأى حمرة أليتيه وبياضهما فقبلهما فضرط عليه أبو نواس فقال له لم فعلت هذا ويلك قال لئلا يضيع قول القائل ما جزاء من يقبل الاست إلا ضرطة
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني أبو سلهب الشاعر قال
كان والبة بن الحباب صديقي وكان ماجنا طبعا خفيف الروح خبيث الدين وكنا ذات يوم نشرب بغمى فانتبه يوما من سكره فقال لي يا أبا سلهب اسمع ثم أنشدني قال

( شَرِبتُ وفاتِكٌ مِثْلي جَمُوحٌ ... بِغُمَّى بالكؤوس وبالبَواطِي )
( يُعاطِيني الزُّجَاجَةَ أرْيَحِيٌّ ... رَخِيمُ الدلِّ بُورِك من مُعاطِي )
( أقول له على طَرَبٍ ألِطْني ... ولو بمُؤاجِرٍ عِلْجٍ نَباطِي )
( فما خَيرُ الشَّرابِ بغَيْر فِسْقٍ ... يُتابَعُ بالزِّناء وباللِّواطِ )
( جعلتُ الحجَّ في غُمَّى وبِنَّا ... وفي قُطْربُّلٍ أبداً رِباطِي )
( فقل للخَمْسِ آخرُ مُلتَقانا ... إذا ما كان ذاك على الصِّراطِ )
يعني الصلوات
قال وحدثني أنه كان ليلة نائما وأبو نواس غلامه إلى جانبه نائم إذ أتاه آت في منامه فقال له أتدري من هذا النائم إلى جانبك قال لا قال هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس أما والله لأفتنن بشعره الثقلين ولأغرين به أهل المشرق والمغرب قال فعلمت أنه إبليس فقلت له فما عندك قال عصيت ربي في سجدة فأهلكني ولو أمرني أن أسجد له ألفا لسجدت

حكم الوادي يغني شعره
أخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق قال
قرأت على أبي عن أبيه أن حكم الوادي أخبره أنه دخل على

محمد بن العباس يوما بالبصرة وهو يتململ خمارا وبيده كأس وهو يجتهد في شربها فلا يطيقه وندماؤه بين يديه في أيديهم أقداحهم وكان يوم نيروز فقال لي يا حكم غنني فإن أطربتني فلك كل ما أهدي إلي اليوم قال وبين يديه من الهدايا أمر عظيم فاندفعت أغني في شعر والبة بن الحباب

صوت
( قد قابلتنا الكؤوسُ ... ودابَرَتْنا النُّحوسُ )
( واليوم هرمزروز ... قد عَظَّمتْه المَجوسُ )
( لم نُخطِه في حِسابٍ ... وذاك ممّا نَسوسُ )
فطرب واستعاد فأعدته ثلاث مرات فشمرت قدحه واستمر في شربه وأمر بحمل كل ما كان بين يديه إلي فكانت قيمته ثلاثين ألف درهم
لحن حكم الوادي في هذا الشعر هزج بالبنصر عن الهشامي وإبراهيم وغيرهما
صوت
( لقد زادَ الحَياةَ إليَّ حُبًّا ... بناتِي إنَّهُنَّ من الضِّعافِ )
( مخافَةَ أن يَذُقْنَ البُؤسَ بَعدِي ... وأن يَشْرَبْنَ رَنْقاً بعد صافِ )
( وأن يَعرَيْن إن كُسِيَ الجَوارِي ... فيُبدي الصُّرُّ عن هُزْلٍ عِجافِ )

( ولولاهنّ قد سَوَّمْتُ مُهري ... وفي الرَّحْمان للضُّعفاءِ كافِ )
الشعر لعمران بن حطان فيما ذكر أبو عمرو الشيباني وذكر المدائني أنه لعيسى الحبطي وكلاهما من الشراة والغناء لمحمد بن الأشعث الكوفي خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة

أخبار عمران بن حطان ونسبه
هو عمران بن حطان بن ظبيان بن لوذان بن عمرو بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل
وقال ابن الكلبي هو عمران بن حطان بن ظبيان بن معاوية بن الحارث ابن سدوس ويكنى أبا شهاب شاعر فصيح من شعراء الشراة ودعاتهم والمقدمين في مذهبهم وكان من القعدة لأن عمره طال فضعف عن الحرب وحضورها فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه
وكان قبل أن يفتن بالشراة مشتهرا بطلب العلم والحديث ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك لعنه الله وقد أدرك صدرا من الصحابة وروي عنهم وروى عنه أصحاب الحديث فما روي عنه ما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي عمرو بن العلاء عن أبي صالح بن سرح اليشكري عن عمران بن حطان قال
كنت عند عائشة فتذاكروا القضاة فقالت قال رسول الله ( يؤتى بالقاضي العدل فلا يزال به ما يرى من شدة الحساب حتى يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة )

وكان أصله من البصرة فلما اشتهر بهذا المذهب طلبه الحجاج فهرب إلى الشام فطلبه عبد الملك فهرب إلى عُمان وكان يتنقل إلى أن مات في تواريه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا منيع بن أحمد السدوسي عن أبيه عن جده قال
كان عمران بن حطان من أهل السنة والعلم فتزوج امرأة من الشراة من عشيرته وقال أردها عن مذهبها إلى الحق فأضلته وذهبت به

الحجاج يطلبه فيهرب إلى الشام
وأخبرني بخبره في هربه من الحجاج عمر بن عبد الله بن جميل العتكي ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الحكم بن مروان قال حدثنا الهيثم بن عدي قال
طلب الحجاج عمران بن حطان السدوسي وكان من قعدة الخوارج فكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك
وأخبرني بهذا الخبر أيضا الحسن بن علي الخفاف ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد الدارع قال حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عن أخيه يزيد بن

المثنى أن عمران بن حطان خرج هاربا من الحجاج فطلبه وكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك فهرب ولم يزل يتنقل في أحياء العرب وقال في ذلك
( حَلَلْنا في بني كَعْبٍ بن عَمْرٍو ... وفي رِعْلٍ وعامرِ عَوْثَبانِ )
( وفي جَرْمٍ وفي عمرو بن مُرٍّ ... وفي زيدٍ وحيّ بني الغُدان )
ثم لحق بالشام فنزل بروح بن زنباع الجذامي فقال له روح ممن أنت قال من الأزد أزد السراة قال وكان روح يسمر عند عبد الملك فقال له ليلة يا أمير المؤمنين إن في أضيافنا رجلا ما سمعت منك حديثا قط إلا حدثني به وزاد فيما ليس عندي قال ممن هو قال من الأزد قال إني لأسمعك تصف صفة عمران بن حطان لأنني سمعتك تذكر لغة نزارية وصلاة وزهدا ورواية وحفظا وهذه صفته فقال روح وما أنا وعمران ثم دعا بكتاب الحجاج فإذا فيه
أما بعد فإن رجلا من أهل الشقاق والنفاق قد كان أفسد علي أهل العراق وحببهم بالشراية ثم إني طلبته فلما ضاق عليه عملي تحول إلى الشام فهو ينتقل في مدائنها وهو رجل ضرب طوال أفوه أروق قال قال روح هذه والله صفة الرجل الذي عندي ثم أنشد عبد الملك يوما قول عمران يمدح عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله - بقتله علي بن أبي طالب

صلوات الله عليه
( يا ضَربةً من كَرِيمٍ ما أرادَ بها ... إلا ليبلُغ من ذِي العَرْشِ رِضوانا )
( إني لأُفْكرِ فيه ثم أحْسَبه ... أوفَى البَرِيَّةِ عند اللهِ مِيزانَا )
ثم قال عبد الملك من يعرف منكم قائلها فسكت القوم جميعا فقال لروح سل ضيفك عن قائلها قال نعم أنا سائله وما أراه يخفي على ضيفي ولا سألته عن شيء قط فلم أجده إلا عالما به وراح روح إلى أضيافه فقال إن أمير المؤمنين سألنا الذي يقول
( يا ضَرْبَةَ من كَرِيمٍ ما أراد بِها ... . . . . . . . . . . . . . . . )
ثم ذكر الشعر وسألهم عن قائله فلم يكن عند أحد علم فقال له عمران هذا قول عمران بن حطان في ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب قال فهل فيها غير هذين البيتين تفيدنيه قال نعم
( لله دَرُّ المُرَادِيِّ الذي سَفَكت ... كُفّاه مُهْجَة شَرّ الخَلْقِ إنسانا )
( أمسى عَشِيّة غشَّاه بضَرْبَتِه ... ممّا جَناهُ من الآثام عُرْيانا )
- صلوات الله على أمير المؤمنين ولعن الله عمران بن حطان وابن ملجم - فغدا روح فأخبر عبد الملك فقال من أخبرك بذلك فقال ضيفي قال أظنه عمران بن حطان فأعلمه أني قد أمرتك أن تأتيني به قال أفعل فراح روح إلى أضيافه فأقبل على عمران فقال له إني ذكرتك لعبد الملك فأمرني أن آتيه بك قال كنت أحب ذلك منك وما منعني من ذكره إلا الحياء منك وأنا متبعك فانطلق فدخل روح على عبد الملك فقال له أين أجد صاحبك فقال قال لي أنا متبعك قال أظنك والله سترجع فلا تجده فلما رجع روح إلى منزله إذا عمران قد مضى وإذا هو قد خلف رقعة في كوة عند فراشه وإذا فيها يقول

( يا رَوحُ كم من أخِي مَثْوىً نزلت به ... قد ظنَّ ظنَّك من لخمٍ وغسَّانِ )
( حتى إذا خِفتُه فارقتُ منزِلَه ... من بعد ما قِيلَ عمرانُ بنُ حِطَّانِ )
( قد كنتُ ضيفَك حَولاً لا تروِّعَنِي ... فيه الطوارِقُ من إنْسٍ ولا جانِ )
( حتى أردت بِيَ العُظْمى فأوحَشَني ... ما أوحشَ الناسَ من خوفِ ابنِ مَرْوانِ )
( فاعذِر أخاكَ ابنَ زِنْباعٍ فإنّ له ... في الحادثاتِ هَناتٍ ذاتَ ألْوانِ )
( يوما يَمانٍ إذا لاقيتُ ذا يَمنٍ ... وإن لَقِيتُ مَعَدِّياً فعَدْنانِي )
( لو كنتُ مُستغفِراً يوماً لطاغِيةٍ ... كُنتَ المُقدَّم في سِرِّي وإعلاني )
( لكن أبتْ ذاك آياتٌ مُطَهَّرةٌ ... عند التِّلاوة في طَهَ وعِمران )

عمران ينزل بزفر بن الحارث بقرقيسيا
قال ثم أتى عمران بن حطان الجزيرة فنزل بزفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا فجعل شباب بني عامر يتعجبون من صلاته وطولها وانتسب لزفر أوزاعيا فقدم على زفر رجل من أهل الشام قد كان رأى عمران بن حطان بالشام عند روح بن زنباع فصافحه وسلم عليه فقال زفر للشامي أتعرفه قال نعم هذا شيخ من الأزد فقال له زفر أزدي مرة وأوزاعي أخرى إن كنت خائفا آمناك وإن كنت عائلا أغنيناك فقال إن الله هو المغني وخرج من عنده وهو يقول
( إن الَّتي أصبحَتْ يَعْيَا بها زُفَرٌ ... أعْيت عَياءً على رَوْحِ بن زِنباعِ )

( أمسي يُسائِلني حولاً لأُخْبِرَه ... والناسُ من بين مَخدوعٍ وخَدَّاعِ )
( حتى إذا انْجَذَمَتْ مِنِّي حَبائِلُه ... كَفَّ السُّؤالَ ولم يُولَع بإهلاعِي )
( فاكْفُف كما كَفَّ روْحٌ إنَّنِي رجلٌ ... إمّا صرِيحٌ وإمّا فَقْعَةُ القاعِ )
( أمَّا الصَّلاةُ فإني غيرُ تارِكِها ... كلُّ امرىءٍ للَّذي يُعنَى به ساعي )
( فاكفف لِسانَك عن هَزِّي ومَسْألتي ... ماذا تُريد إلى شيخٍ لأوزاعِ )
( أكرِمْ برَوْحِ بنِ زِنباعٍ وأُسرتِه ... قوماً دَعا أوّلِيهم للعُلا داعي )
( جاورتُهم سنَةً فيما دَعوتُ به ... عِرضِي صَحيحٌ ونَوْمي غيرُ تَهجاعِ )
( فاعمَلْ فإنك مَنْعِيُّ بحاذِثَةٍ ... حَسْبُ اللَّبيبِ بهذا الشيبِ من ناعِي )

وصوله إلى روذميسان ووفاته بها
ثم خرج فنزل بعمان بقوم يكثرون ذكر أبي بلال مرداس بن أدية ويثنون عليه ويذكرون فضله فأظهر فضله ويسر أمره عندهم وبلغ الحجاج مكانه فطلبه فهرب فنزل في روذميسان - طسوج من طساسيج السواد إلى جانب الكوفة - فلم يزل به حتى مات وقد كان نازلا هناك على رجل من الأزد فقال في ذلك
( نَزلتُ بحَمْدِ الله في خَيْر أُسرةٍ ... أُسَرُّ بما فيهم من الإِنْس والَخفَرْ )
( نزلتُ بقومٍ يجمَعُ اللهُ شملَهم ... وما لهم عُودٌ سِوَى المَجْدُ يُعْتَصرْ )
( ومن الأَزْدِ إنْ الأزْدَ أكرمُ أسرةٍ ... يمانية قَرْبوا إذا نُسِب البَشَرْ )
قال اليزيدي الإنس بالكسر الاستئناس وقال الرياشي أراد قربوا

فخفف قال
( وأصبحتُ فيهم آمِناً لا كَمَعْشَرٍ ... بَدَوْنِي فقالوا من ربيعةَ أو مُضَرْ )
( أو الحيِّ قَحْطانٍ وتلْك سَفاهةٌ ... كما قال لِي رَوْحٌ وصاحِبُه زُفَر )
( وما مِنهمُ إلا يُسَرُّ بنسبةٍ ... تُقَرِّبني منهم وإن كان ذا نَفر )
( فنحن بَنو الإسلام والله واحدٌ ... وأولى عِباد الله بالله مَن شكر )
أخبرنا اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن المعتمر بن سليمان قال
كان عمران بن حطان رجلا من اهل السنة فقدم عليه غلام من عمان كأنه نصل فقلبه عن مذهبه في مجلس واحد
أخبرني اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا بشر بن المفضل عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا عمرو بن علي القلاس وعباس العنبري ومحمد بن عبد الله المخزومي قالوا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن بشر بن المفضل عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال
تزوج عمران بن حطان امرأة من الخوارج فقيل له فيها فقال أردها عن مذهبها فذهبت هي به
نسخت عن بعض الكتب حدثنا المدائني عن جويرية قال
كتب عيسى الحبطي إلى رجل منهم يقال له أبو خالد كان تخلف عن الخروج مع قطري أو غيره منهم
( أبا خالدٍ انفرْ فلستَ بخالدٍ ... وما تركَ الفُرقانُ عُذْراً لِقاعدِ )

( أتزعم أنّا الخارجون على الهدى ... وأنت مُقيمٌ بين لِصٍّ وجاحدِ )
فكتب إليه ما منعني عن الخروج إلا بناتي والحدب عليهن حين سمعت عمران بن حطان يقول
( لقد زاد الحياةَ إليَّ حُبَّاً ... بناتي إنّهن من الضِّعافِ )
( ولولا ذاك قد سَوَّمتُ مُهرِي ... وفي الرَّحمن للضُّعفاء كاف )
قال فجلس عيسى يقرأ الأبيات ويبكي ويقول صدق أخي إن في ذلك لعذرا له وإن في الرحمن للضعفاء كافيا

الأخطل يقول عمران أشعر الشعراء
وقال هارون أخذت من خط أبي عدنان أخبرني أبو ثروان الخارجي قال سمعت أشياخ الحي يقولون
اجتمعت الشعراء عند عبد الملك بن مروان فقال لهم أبقي أحد أشعر منهم قالوا لا فقال الأخطل كذبوا يا أمير المؤمنين قد بقي من هو أشعر منهم قال ومن هو قال عمران بن حطان قال وكيف صار أشعر منهم قال لأنه قال وهو صادق ففاقهم فكيف لو كذب كما كذبوا
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن أحمد بن محمد بن علي بن حمزة الخراساني عن محمد بن يعقوب بن عبد الوهاب عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن القارئ عن الزهري عن أبيه
أن غزالة الحرورية لما دخلت على الحجاج هي وشبيب الكوفة

تحصن منها وأغلق عليه قصره فكتب إليه عمران بن حطان وقد كان الحجاج لج في طلبه قال
( أسَدٌ عليَّ وفي الحروبِ نَعامةٌ ... ربداءُ تَجْفَلُ من صَفير الصافر )
( هلاّ بَرزتَ إلى غَزالة في الوغَى ... بل كان قَلبك في جَناحَيْ طَائرِ )
( صدعَتْ غَزالةُ قلبه بفوارسٍ ... تركتْ مدابِرَه كأمْس الدَّابر )
ثم لحق بالشام فنزل على روح بن زنباع
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن خالد أبو حرب قال حدثنا محمد بن عباد المهلبي قال حدثنا جرير بن حازم قال
كان عمران بن حطان أشد الناس خصومة للحرورية حتى لقيه أعرابي حروري فخاصمه فصار عمران حروريا ورجع عن رأيه
قال جرير بن حازم كان الفرزدق يقول لقد أحسن بنا ابن حطان حيث لم يأخذ فيما أخذنا فيه ولو أخذ فيما أخذنا فيه لأسقطنا يعني لجودة شعره
نسخت من كتاب ابن سعد قال أخبرني الحسن بن عليل العنزي قال أخبرني أحمد بن عبد الله بن سويد بن منجوف السدوسي قال أخبرني أحمد بن مؤرج عن أبيه قال حدثني به تميم بن سوادة وهو ابن أخت مؤرج قال حدثني أبو العوام السدوسي قال
كان مالك المذموم رجلا من بني عامر بن ذهل وكان من الخوارج وكان الحجاج يطلبه قال أبو العوام فدخلت عليه يوما وهو في تواريه فأنشدني يقول

( ألم ياْنِ لي يا قَلبُ أن أتْركَ الصِّبا ... وأن أزجرَ النفسَ اللَّجُوجَ عن الهَوَى )
( وما عُذرُ مَنْ يَعْمَى وقد شاب رأسُه ... ويُبصِر أبوابَ الضَّلالةِ والهُدَى )
( ولو قُسِم الذَّنبُ الذي قد أصبْتُه ... على النَّاسِ خاف النَّاسُ كُلّهم الرَّدَى )
( فإن جُنَّ ليلٌ كُنتُ باللَّيل نائما ... وأُصبِح بَطَّالَ العَشِيَّاتِ والضُّحى )
قال فلما فرغ من إنشادها قال سيغلبني عليها صاحبكم يعني عمران بن حطان فكان كذلك لما شاعت رواها الناس لعمران وكان لا يقول أحد من الشعراء شعرا إلا نسب إليه لشهرته إلا من كان مثله في الشهرة مثل قطري وعمرو القنا وذويهما قال ثم هرب إلى اليمامة من الحجاج فنزل بحجر فأتاه آل حكام الحنفيون فقال
( طَيَّروني من البلاد وقالوا ... مالَكَ النِّصفُ من بني حَكَّامِ )
( ناقَ سِيري قد جَدّ حَقّاً بنا السَّيرُ ... وكونِي جَوَّالةً في الزِّمامِ )
( فَمَتى تَعْلَقِي يَدَ المَلِك الأسْودِ ... تَسْتَيْقِني بألاّ تُضامِي )
( قد أُرانِي ولي من الحاكم النِّصْفُ ... بحَدّ السِّنانِ أو بالحُسامِ )
قال والملك الأسود إبراهيم بن عربي والي اليمامة لعبد الملك وكان ابن حكام على شرطته قال
( ومُنينا بِطمْطِمٍ حَبَشيٍّ ... حالكِ الوَجْنَتَيْنِ من آلِ حامِ )
( لا يُبالِي إذا تَضلَّع خَمْراً ... أبِحِلٍّ زَماك أم بِحرامِ )
قال العنزي فأخبرني محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة عن أبيه قال كان مالك المذموم من أحسن الناس قراءة للقرّآن فقرأ ذات ليلة فسمعت قراءته امرأة من آل حكام فرمت بنفسها من فوق سطح كانت عليه

فسمع الصوت أهلها فأتوه فضربوه ضربات فاستعدى عليهم إبراهيم بن عربي وكان عبد الله بن حكام على شرطته فلم يعده عليهم فهجاه بالأبيات الماضية وهجاه بقصيدته التي أولها
( دارَ سَلْمى بالجِزْع ذِي الآطام ... خَبِّرينا سُقِيتِ صوبَ الغَمامِ )
وهي طويلة ينسبونها أيضا إلى عمران بن حطان

الفرزدق يعترف بتفوقه
أخبرني أحمد بن الحسين الأصبهاني ابن عمي قال حدثني أبو جعفر بن رستم الطبري النحوي قال حدثنا أبو عثمان المازني قال حدثنا عمرو بن مرة قال
مر عمران بن حطان على الفرزدق وهو ينشد والناس حوله فوقف عليه ثم قال
( أيُّها المادِحُ العبادَ ليُعْطَى ... إنَّ لِلَّهِ ما بأيْدِي العِبادِ )
( فاسألِ اللهَ ما طلبتَ إليهم ... وارجُ فضل المُقسِّم العَوَّادِ )
( لا تقُل في الجَواد ما ليس فيه ... وتُسمِّي البخِيلَ باسم الجَواد )
فقال الفرزدق لولا أن الله عز و جل شغل عنا هذا برأيه للقينا منه شرا
وقال هارون بن الزيات أخبرني عبد الرحمن بن موسى الرقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان بن حفص بن عبد الله بن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدوي قال حدثنا يزيد بن مرة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عن عيسى بن يزيد بن بكر المدني قال

اجتمع عند مسلمة بن عبد الملك ناس من سماره فيهم عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر فقال مسلمة أي بيت قالته العرب أوعظ وأحكم فقال له عبد الله قوله
( صَبا ما صَبا حتى عَلاَ الشَّيبُ رأْسُه ... فلما علاه قال لِلْباطل أبْعُد )
فقال مسلمة إنه والله ما وعظني شعر قط كما وعظني شعر ابن حطان حيث يقول
( فيُوشِكُ يَومٌ أن يُقارِنَ لَيلَةً ... يَسوقانِ حَتْفاً راح نَحْوك أو غدا )
فقال بعض من حضر والله لقد سمعته أجل الموت ثم أفناه وما صنع هذا غيره فقال مسلمة وكيف ذاك قال قال
( لا يُعجزُ المَوتَ شيءٌ دُونَ خالِقِه ... والموتُ فانٍ إذا ما ناله الأجَلُ )
( وكُلُّ كَرْبٍ أمامَ الموتِ مُتَّضِعٌ ... للموت والمَوتُ فيما بَعْدَه جَلَلُ )
فبكى مسملة حتى اخضلت لحيته ثم قال رددهما علي فرددهما عليه حتى حفظهما
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا منيع بن أحمد بن مؤرج السدوسي عن ابيه عن جده قال
تزوج عمران بن حطان حمزة بنت عمه ليردها عن مذهب الشراية فذهبت به إلى رأيهم فجعل يقول فيها الشعر فمما قال فيها

( يا حَمْزَ إنّي على ما كان من خلقي ... مُثْنٍ بخَلاّت صِدْقٍ كُلُّها فيكِ )
( اللهُ يعلَم أنِّي لم أقُل كَذِباً ... فيما عَلِمْتُ وأنِّي لا أُزكِّيكِ )
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن موسى وحدثني بعض أصحابنا عن العمري عن الهيثم بن عدي
أن امرأة عمران بن حطان قالت له ألم تزعم أنك لا تكذب في شعرك قال بلى قالت أفرأيت قولك
( وكذاك مَجْزَأة بن ثَوْرٍ ... كان أشجعَ من أُسامَهْ )
أيكون رجل أشجع من الأسد قال نعم إن مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا والأسد لا يقدر على فتح مدينة

صوت
( نَدِيميَّ قد خَفَّ الشَّرابُ ولم أجد ... له سَورةً في عَظْم رأسي ولا جِلْدي )
( نَدِيميَّ هذِي غِبُّهُم فاشرَبا بها ... ولا خَيْر في شُرْب يكون على صَرْدِ )
الشعر لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي والغناء لابن سريج خفيف ثقيل

أخبار عمارة بن الوليد ونسبه
عمارة بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو أحد أزواد الركب ويقال له الوحيد وكان أزواد الركب لا يمر عليهم أحد إلا قروه وأحسنوا ضيافته وزودوه ما يحتاج إليه لسفره وكان عمارة بن الوليد فخورا معنا متعرضا لكل ذي عارضة من قريش فأخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا الزبير بن بكار عن الحزامي قال
مر عمارة بن الوليد بمسافر بن عمرو فوقف عليه وهو منتش فقال
( خُلق البيضُ الحِسان لنا ... وجِيادُ الرَّيْطِ والأُزُرُ )
( كابِراً كُنَّا أحقّ به ... حين صِيغ الشَّمْسُ والقَمَرُ )
فأجابه مسافر بن عمرو بن أمية فقال
( أعُمارَ بنَ الوليد لقد ... يذكُر الشَّاعِر مَنْ ذَكَره )
( هل أخو كَأْسٍ مُخَفِّفها ... ومُوَقٍّ صَحبه سَكَرهْ )
( ومُحَيِّيهم إذا شَرِبُوا ... ومُقِلٍّ فيهمُ هَذَرَهْ )
( خُلِق البِيضُ الحِسانُ لنا ... وجياد الرَّيْطِ والحَبَرهْ )

( كابراً كُنّا أحقَّ به ... كلُّ حيٍّ تابعٌ أثَرَهْ )
أخبرنا عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية أن عمارة بن الوليد خطب امرأة من قومه فقالت لا أتزوجك أو تترك الشراب والزنا قال أما الزنا فأتركه وأما الشراب فلا أتركه ولا أستطيع ثم اشتد وجده بها فحلف ألا يشرب فتزوجها ومكث حينا لا يشرب ثم إنه لبس ذات يوم حلته وركب ناقته وخرج يسير فمر بخمار وعنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم فقال للخمار أطعمهم ويلك فقال ليس عندي شيء فنحر لهم ناقته فأكلوا منها فقال اسقهم ولم يكن معهم شيء يشربون به فسقاهم ببردته ومكثوا أياما ذوات عدد ثم خرج فأتى أهله فلما رأته امرأته قالت له ألم تحلف ألا ترشب ولامته فقال
( ولسنا بشَرْبٍ أُمَّ عمرو إذا انتشوْا ... ثيابُ النَّدامَى عندهم كالغنائِم )
( ولكننا يا أُمَّ عَمْرٍو نديمُنا ... بمنزلة الرّيّان ليس بعائمِ )
( أسرَّك لما صرّع القومَ نشوةٌ ... أنَ اخرُجَ منها سالماً غير غارِمِ )
( خَلِيّاً كأنِّي لم أكن كُنتُ فيهمُ ... وليس الخِداعُ مُرتضًى في التّنادِم )

عمارة وعمرو بن العاص
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن قادم مولى بني هاشم قال حدثني عمي أحمد بن جعفر عن ابن دأب قال

قدم رجل من تجار الروم بحلة من لباس قيصر على أهل مكة فأتى بها عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي فعرضها عليه بمائة حق من الإبل فاستغلاها فأتى بها عمرو بن العاص فقال له هل أتيت بها أحدا قال نعم عمارة بن الوليد فاستغلاها وقال لن تعدم لها غويا من بني سهم قال قد أخذتها فاشتراها بمائة حق يعني مائة بعير ثم أقبل يخطر فيها حتى أتى بني مخزوم فناداه عمارة أتبيع الحلة يا عمرو فغضب والتفت إلى عمارة فقال
( عليكَ بجزّ رأس أبيك إنّا ... كفيناك المُسَهَّمة الرِّقاقا )
( زَوَوْها عنكُم وغَلَتْ عليكم ... وأعطينا بها مائةً حِقاقا )
( وقلتم لا نطيق ثيابَ سَهْمٍ ... وكلُّ سوف يَلبُسُ ما أطاقا )
قال فغضب عمارة وقال يا عمرو ما هذا التهور إنك لست بعتبة بن ربيعة ولا بأبي سفيان بن حرب ولا الوليد بن المغيرة ولا سهيل بن عمر ولا أبي بن خلف فقال عمرو إلا أكن بعضهم فإن كل واحد منهم خير ما فيه في من عتبه حلمه ومن أبي سفيان رأيه ومن سهيل جوده ومن أبي بن خلف نجدته وأما الوليد فوالله ما أحب أن في كل ما فيه من خير وشر ولكنك والله مالك عقل الوليد ولا بأس الحارث بن هشام وخالد بن الوليد ولا لسان أبي الحكم يعني أبا جهل وانصر فأمر عمارة بجزور فنحرت على طريق عمرو وأقبل عمرو فقال لمن هذه الجزور قيل لعمارة فقال له أطعمنا منها يا عمارة فضحك منه ثم قال

( عليك بجَزْر أيرِ أبيك إنا ... كفيناك المُشَاشة والعُراقَا )
( ومَنسَبَة الأطايب من قريشٍ ... ولم تَر كأسَنا إلاَّ دِهاقا )
( ونلبس في الحوادث كلَّ زَغْفٍ ... وعند الأمن أبْراداً رقاقا )
فوقع الشر بينهم فقال عمرو
( لعَمْرُ أبيك والأخبار تَنْمِي ... لقد هَيَّجْتَني يا بنُ الوليدِ )
( فلا تعجل عُمارةُ إنَّ سَهْماً ... لمخزومِ بن يَقْظةَ في العديدِ )
( وأورِدْ يا عُمارة إنَّ عودِي ... منَ اعواد الأباطحِ خيرُ عودِ )
فأجابه عمارة فقال
( ألا يا عمرو هل لك في قُريشٍ ... أبٌ مثلٌ المُغيرة والوليدِ )
( وجَدٌّ مثلُ عبدِ الله يَنْمِي ... الى عمرِو بن مخزومٍ بِعُودِ )
( إذا ما عُدَّت الأعواد نَبْعاً ... فَمالِي في الأباطح من نَدِيدِ )
( وقد عَلِمتْ سَراةُ بني لُؤيٍّ ... بأنّي غيرُ مؤتَشِبٍ زهيدِ )
( وإني للمُنابذِ من قريشٍ ... شَجاً في الحَلْقِ من دون الوريدِ )
( أحوطُ ذِمارَهم وأكفُّ عنهم ... وأصبِر في وغى اليوم الشَّديدِ )
( وأبذُل ما يضنّ به رِجالٌ ... وتُطْمِعُني المروءةُ في المزيدِ )
( وإنك من بني سَهْمِ بنِ عَمرٍو ... مكان الرِّدْفِ من عَجُزِ القَعودِ )
( وكان أبوك جَزَّاراً . . وكانت ... له فأس وقِدْرٌ من حديدِ )

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير أن عمر بن الخطاب قسم برودا في المهاجرين
قال العمري هكذا ذكر أبو عوانة وقد حدثني الهيثم عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير قال أخبرني من شهد ذلك
أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعث إلى عمر بن الخطاب بحلل من اليمن فقال عمر علي بالمحمدين فأتي بمحمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن طلحة بن عبيد الله ومحمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة ومحمد بن حطاب أخي حاطب وكلهم سماه النبي محمدا فأقبلوا فاطلع محمد بن حطاب فيها فقال له عمر يا شيبة معمر - يعني عما له قتل يوم بدر - اكفف وكان زيد بن ثابت الأنصاري عنده فقال له عمر أعطهم حلة حلة فنظر إلى أفضلها وكانت أم أحدهم عنده فقال عمر ما هذا فقال هذه لفلان الذي هو ربيبه فقال عمر اردده وتمثل بقول عمارة بن الوليد
( أسرَّك لمّا صرَّع القومَ نشوةٌ ... أن اخرُجَ منها سالماً غيرَ غارمِ )
( خَلِيّاً كأني لم أكن فيهمُ ... وليس الخِداعُ مُرتضىً في التّنادمِ )
وقال أبو عوانة . . . . من تصافي التنادم
ثم أمر بالبرود فغطيت بثوب ثم خلطها ثم قال ليدخل كل امرىء يده فليأخذ حلته وما قسم له

صوت
( قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلِه ... ويأكلُ المالَ غيرُ من جَمعَهْ )
( فاقبَلْ من الدَّهر ما أتاك به ... مَنْ قرَّ عيناً بعيشه نَفَعهْ )
( لكلِّ همٍّ من الهموم سَعَهْ ... والصُّبح والمُسْيُ لا فلاحَ معه )
الشعر للأضبط بن قريع والغناء لأحمد بن يحيى المكي ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر من روايته وسمعناه يغني في طريقة خفيف رمل فسألت عنه ذكاء وجه الرزة فذكر أنه سمعه من محمد بن يحيى المكي في هذه الطريقة ولم يعرف صانعه ولا سأل عنه

أخبار الأضبط ونسبه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن طاهر قال قال أبو محلم أخبرني ضرار بن عيينة أحد بني عبد شمس قال كان الأضبط بن قريع مفركا وكان إذا لقي في الحرب تقدم أمام الصف ثم قال
( أنا الذي تفرُكه حلائلُهْ ... ألا فتىً مُعشَّقٌ أُنازلُهْ )
قال فاجتمع نساؤه ذات ليلة يسمرن فتعاقدن على أن يصدقن الخبر عن فرك الأضبط فأجمعن أن ذلك لأنه بارد الكمرة فقالت لإحداهن خالتها أتعجز إحداكن إذا كانت ليلته منها أن تسخن كمرته بشيء من دهن فلما سمع قولها صاح يا آل عوف يا آل عوف فثار الناس وظنوا أنه قد أتي فقال أوصيكم بأن تسخنوا الكمرة فإنه لا حظوة لبارد الكمرة فانصرفوا يضحكون وقالوا تبا لك ألهذا دعوتنا
قال أبو محلم كانت أم الأضبط عجيبة بنت دارم بن مالك بن حنظلة وخالته الطموح بنت دارم أم جشم وعبد شمس ابني كعب بن سعد فحارب بنو

الطموح قوما من بني سعد فجعل الأضبط يدس إليهم الخيل والسلاح ولا يصرح بنصرتهم خوفا من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه وكان يشير عليهم بالرأي فإذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه وأروه مع ذلك أنهم على رأيه فقال في ذلك
( لكل هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبح لا فلاحَ معه )
( لا تحقِرنَّ الفقيرَ علَّكَ أن ... تركع يوماً والدهرُ قد رَفعهْ )
( وصِلْ حِبال البعيد إن وَصلَ الحبْل ... واقْصِ القريبُ إن قطعهْ )
( قد يجمع المال غيرُ آكلِهِ ... ويأكل المالَ غيرُ من جَمعهْ )
( ما بال مَن غيُّه مُصِيبُك لا ... يملك شيئاً من أمره وَزعه )
( حتى إذا ما انجلَتْ غَوايتُه ... أقبل يَلحي وغيُّه فجعهْ )
( أذودُ عن نفسي ويخدَعُني ... يا قوم مَنْ عاذِرِي من الخُدَعهْ )
( فأقْبَلْ من الدّهر ما أتاك به ... مَنْ قرَّ عيناً بعيشه نفعهْ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال
كان الأضبط بن قريع قد تزوج امرأة على مال ووصيفة فنشزت عليه ففارقها ولم يعطها ما كان ضمن لها فلما احتملت أنشأ يقول
( ألم تَرَها بانت بغير وصيفةٍ ... إذا ما الغواني صاحبتها الوَصَائِفُ )
( ولكنها بانت شَموسٌ بَزِيَّة ... مُنعَّمةُ الأخلاق حدباءُ شارفُ )
( لو أنّ رسولَ اللّهْوِ سلّم واقِفا ... عليها لرامتْ وَصله وهو واقفُ )
أخبرنا وكيع قال حدثنا ابن أبي سعد قال

حدثنا الجماز قال أنشدت أبا عبيدة وخلفا الأحمر شعر الأضبط
وصل حبال البعيد إن وصل الحبل وأقص القريب إن قطعه
فما عرفا منه إلا بيتا وعجز بيت فالبيت الذي عرفاه
فاقبل من الدهر ما أتاك به
والعجز
( يا قوم مَنْ عاذِري من الخُدعَهْ ... )
والخدعة قوم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم

صوت
( وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمُهْتَضَمٍ حقِّي ولا قارع سِنِّي )
( ولا مُسلمٍ مولاي عند جنايةٍ ... ولا خائفٍ مولاي من شرٍّ ما أجْنِي )
الشعر لأعشى بني ربيعة والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو

أخبار الأعشى ونسبه
الأعشى اسمه عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة الحصين بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار شاعر إسلامي من ساكني الكوفة وكان مرواني المذهب شديد التعصب لبني أمية
الأعشى وعبد الملك بن مروان
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي محمد بن عبيد الله عن محمد بن حبيب وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عمه العباس بن هشام عن أبيه قالا
قدم أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك ما الذي بقي منك قال أنا الذي أقول
( وما أنا في أمري ولا في خُصومتِي ... بمُهْتَضَمٍ حقِّي ولا قارع سِنّي )
( ولا مُسلمٍ مولاي عند جنايةٍ ... ولا خائفٍ مولاي من شر ما أجني )
( وإن فُؤادي بين جَنبيَّ عالمٌ ... بما أبصرت عيني وما سَمِعَتْ أُذْنِي )
( وفضَّلني في الشِّعر واللُّبِّ أَنَّنِي ... أقولُ على عِلمٍ وأعرِفُ مَن أعْنِي )

( فأصبحتُ إذ فَضَّلتُ مروانَ وابنَه ... على الناسِ قد فضَّلتُ خيرَ أبٍ وابنِ )
فقال عبد الملك من يلومني على هذا وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشر فرائض من الإبل وأقطعه ألف جريب وقال له امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها وأجرى له على ثلاثين عيلا فأتى زيدا فقال له ائتني غدا فأتاه فجعل يردده فقال له
( يا زيدُ يا فِداكَ كُلُّ كاتبِ ... في الناس بين حاضرٍ وغائبِ )
( هل لك في حَقِّ عليكَ واجبِ ... في مثله يرغب كُلُّ راغِبِ )
( وأنت عَفٌّ طَيِّب المكاسبِ ... مُبَرَّأٌ من عَيْبِ كلّ عائِبِ )
( ولستَ - إن كفَيْتني وصاحِبي ... طُولَ غُدُوٍّ ورَواحٍ دائبِ )
( وسُدَّةَ الباب وعُنفَ الحاجِبِ ... - من نِعْمةٍ أسَديْتَها بخائبِ )
فأبطأ عليه زيد فأتى سفيان بن الأبرد الكبي فكلمه سفيان فأبطأ عليه فعاد إلى سفيان فقال له
( عُدْ إذ بدأْتَ أبا يَحيى فأنت لَها ... ولا تُكْن حين هاب النَّاسُ هيّابا )
( واشفَع شفاعةَ أنفٍ لم يكن ذَنَباً ... فإنَّ من شُفَعاءِ النَّاسِ أذْنابا )
فأتى سفيان زيدا الكاتب فلم يفارقه حتى قضى حاجته
قال محمد بن حبيب دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك وهو يتردد في الخروج لمحاربة ابن الزبير ولا يجد فقال له يا أمير المؤمنين ما لي أراك متلوما ينهضك الحزم ويقعدك العزم وتهم بالإقدام وتجنح إلى الإحجام انقد لبصيرتك وأمض رأيك وتوجه إلى عدوك فجدك مقبل

وجده مدبر وأصحابه له ماقتون ونحن لك محبون وكلمتهم مفترقة وكلمتنا عليك مجتمعة والله ما تؤتى من ضعف جنان ولا قلة أعوان ولا يثبطك عنه ناصح ولا يحرضك عليه غاش وقد قلت في ذلك أبياتا فقال هاتها فإنك تنطق بلسان ودود وقلب ناصح فقال
( آلُ الزُّبَير من الخلافة كالّتي ... عَجِلَ النِّتاجُ بحَمْلها فأَحالَها )
( أو كالضِّعاف من الحَمولة حُمِّلَت ... ما لا تُطِيق فضَيَّعت أحمالَها )
( قُوموا إليهم لا تَناموا عنهمُ ... كَم للغُواةِ أطَلْتُمو إِمْهالَها )
( إنَّ الخِلافةَ فيكمُ لا فيهمُ ... ما زِلْتُمُ أركانها وثِمَالها )
( أمسْوا على الخيرات قُفْلاً مغلقاً ... فانهض بيُمْنِك فافتَتِحْ أقفالَها )
فضحك عبد الملك وقال صدقت يا أبا عبد الله إن أبا خبيب لقفل دون كل خير ولا نتأخر عن مناجزته إن شاء الله ونستعين الله عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل وأمر له بصلة سنية

الأعشى والحجاج
قال ابن حبيب كان الحجاج قد جفا الأعشى واطرحه لحالة كانت عند بشر بن مروان فلما فرغ الحجاج من حرب الجماجم ذكر فتنة ابن الأشعث وجعل يوبخ أهل العراق ويؤنبهم فقال من حضر من أهل

البصرة إن الريب والفتنة بدآ من أهل الكوفة وهم أول من خلع الطاعة وجاهر بالمعصية فقال أهل الكوفة لا بل أهل البصرة أول من أظهر المعصية مع جرير بن هميان السدوسي إذ جاء مخالفا من السند وأكثروا من ذلك فقام أعشى بني أبي ربيعة فقال أصلح الله الأمير لا براءة من ذنب ولا ادعاء الله في عصمة لأحد من المصرين قد والله اجتهدوا جميعا في قتالك فأبى الله إلا نصرك وذلك أنهم جزعوا وصبرت وكفروا وشكرت وغفرت إذ قدرت فوسعهم عفو الله وعفوك فنجوا فلولا ذلك لبادوا وهلكوا فسر الحجاج بكلامه وقال له جميلا وقال تهيأ للوفادة إلى أمير المؤمنين حتى يسمع هذا منك شفاها انتهى
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال بلغ الحجاج أن أعشى بني أبي ربيعة رثى عبد الله بن الجارود فغضب عليه فقال يعتذر إليه
( أَبِيتُ كأَنِّي من حِذار ابنِ يُوسُفٍ ... طَريدُ دَمٍ ضاقتْ عليه المَسالكُ )
( ولو غَيْرُ حَجَّاجٍ أراد ظُلامتي ... حَمَتْني من الضَّيْم السُّيوفُ الفواتِكُ )
( وفِتيانُ صِدْقٍ من ربيعة قُصْرةً ... إذا اختلَفَت يومَ اللِّقاء النّيازِكُ )
( يُحامون عن أحسابِهم بِسيُوفهم ... وأرماحِهم واليَومُ أسودُ حالكُ )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني أحمد بن عبد الله بن علي بن

سويد بن منجوف عن ابن مؤرج عن أبيه قال
دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك بن مروان فأنشده قوله
( رَأيتُك أمسِ خيرَ بني معَدٍّ ... وأنتَ اليومَ خيرٌ منك أمسِ )
( وأنتَ غداً تَزيدُ الضِّعفَ ضِعفاً ... كذاك تزيد سادةُ عَبْدِ شَمْسِ )
فقال له من أي بني أبي ربيعة أنت قال فقلت له من بني أمامة قال فإن أمامة ولد رجلين قيسا وحارثة فأحدهما نجم والآخر خمل فمن أيهما أنت قال قلت أنا من ولد حارثة وهو الذي كانت بكر بن وائل توجته قال فقام بمخصرة في يده فغمز بها في بطني ثم قال يا أخا بني أبي ربيعة هموا ولم يفعلوا فإذا حدثتني فلا تكذبني فجعلت له عهدا ألا أحدث قرشيا بكذب أبدا

الأعشى يمدح أسماء بن خارجة
أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني أحمد بن الهيثم السلمي قال حدثني أبو فراس محمد بن فراس عن الكلبي قال
أتى أعشى بني أبي ربيعة أسماء بن خارجة فامتدحه فأعطاه وكساه فقال
( لأَسماءُ بنُ خارِجَة بنِ حِصْنٍ ... على عِبْء النَّوائِبِ والغَرامَهْ )

( أقَلُّ تَعَلُّلاً يوماً وبُخْلاً ... على السُّؤَّالِ من كَعْبِ بنِ مامَهْ )
( ومَصْقَلةُ الذي يَبْتاع بَيْعاً ... رَبِيحاً فوق ناجِية بنِ سامَهْ )
قال الكلبي جعل ناجية رجلا وهي امرأة لضرورة الشعر
قال أبو فراس فحدثني الكلبي عن خداش قال
دخل أعشى بني أبي ربيعة على سليمان بن عبد الملك وهو ولي عهد فقال
( أتَينا سُليمانَ الأميرَ نزورُه ... وكان امرأً يُحْبَى ويُكرِمُ زائِرُهْ )
( إذا كُنتَ في النَّجْوى به مُتَفرِّداً ... فلا الجُودُ مُخْلِيه ولا البُخْلُ حاضِرُه )
( كِلا شافعَيْ سُؤَّالِهِ من ضميرِه ... على البُخْل ناهِيه وبالجود آمِرُه )
فأعطاه وأكرمه وأمر كل من كان بحضرته من قومه ومواليه بصلته فوصلوه فخرج وقد ملأ يديه

صوت
( نَأَتْك أُمامةُ إلاّ سُؤالاً ... وإلاّ خيالاً يُوافِي خَيالاَ )
( يُوافِي مع الليل مِيعادُها ... ويأْبى مع الصُّبح إلا زيالاَ )
( فذلك يَبذُل من وُدَّها ... ولو شَهِدَت لم تُواتِ النَّوالا )
( فقد رِيعَ قَلبيَ إذْ أعلنُوا ... وقيل أجدَّ الخلِيطُ احْتِمالاَ )

الشعر لعمرو بن قميئة والغناء لحنين خفيف رمل بالوسطى من رواية احمد بن يحيى المكي وذكر الهشامي وغيره أنه من منحول يحيى إلى حنين

أخبار عمرو بن قميئة ونسبه
هو فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عن أبي برزة عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار
قال ابن الكلبي ليس من العرب من له ولد كل واحد منهم قبيلة مفردة قائمة بنفسها غير ثعلبة بن عكابة فإنه ولد أربعة كل واحد منهم قبيلة شيبان بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وقيس بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وذهل بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وتيم الله بن ثعلبة وهو أبو قبيلة

وكان عمرو بن قميئة من قدماء الشعراء في الجاهلية ويقال إنه أول من قال الشعر من نزار وهو أقدم من امرئ القيس ولقيه امرؤ القيس في آخر عمره فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه فمات معه في طريقه وسمته العرب عمرا الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب
نسخت خبره من روايتي أبي عمرو الشيباني ومؤرج وأخبرني ببعضه الحسن بن علي عن أبيه عن ابن أبي سعد عن ابن الكلبي فذكرت ذلك في مواضعه ونسبته إلى رواته قالوا جميعا
كان عمرو بن قميئة شاعرا فحلا متقدما وكان شابا جميلا حسن الوجه مديد القامة حسن الشعر ومات أبوه وخلفه صغيرا فكفله عمه مرثد بن سعد وكانت سبابتا قدميه ووسطياهما ملتصقتين وكان عمه محبا له معجبا به رقيقا عليه
وأخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط وذكر مثل ذلك سائر الرواة
أن مرثد بن سعد بن مالك عم عمرو بن قميئة كانت عنده امرأة ذات جمال فهويت عمرا وشغفت به ولم تظهر له ذلك فغاب مرثد لبعض أمره وقال لقيط في خبره مضى يضري بالقداح فبعثت امرأته إلى عمرو تدعوه على لسان عمه وقالت للرسول ائتني به من وراء البيوت ففعل فلما دخل أنكر شأنها فوقف ساعة ثم راودته عن نفسه فقال لقد جئت بأمر عظيم وما كان مثلي ليدعى لمثل هذا والله لو لم أمتنع من ذلك وفاء لأمتنعن منه خوف الدناءة والذكر القبيح الشائع عني في العرب قالت والله لتفعلن أو لأسوأنك قال إلى المساءة تدعينني ثم قام فخرج من عندها

وخافت أن يخبر عمه بما جرى فأمرت بجفنة فكفئت على أثر عمرو فلما رجع عمه وجدها متغضبة فقال لها مالك قالت إن رجلا من قومك قريب القرابة جاء يستامني نفسي ويريد فراشك منذ خرجت قال من هو قالت أما أنا فلا أسميه ولكن قم فافتقد أثره تحت الجفنة فلما رأى الأثر عرفه

هروبه من عمه مرثد إلى الحيرة
قال مؤرج في خبره فحدثني أبو برزة وعلقمة بن سعد وغيرهما من بني قيس بن ثعلبة قالوا
وكان لمرثد سيف يسمى ذا الفقار فأتى ليضربه به فهرب فأتى الحيرة فكان عند اللخميين ولم يكن يقوى على بني مرثد لكثرتهم وقال لعمرو بن هند أنا القوم اطردوني فقال له ما فعلوا إلا وقد أجرمت وأنا أفحص عن أمرك فإن كنت مجرما رددتك إلى قومك فغضب وهم بهجائه وهجاء مرثد ثم أعرض عن ذلك ومدح عمه واعتذر إليه انتهى
وأما أبو عمرو فإنه قال
لما سمع مرثد بذلك هجر عمرا وأعرض عنه ولم يعاقبه لموضعه من قلبه فقال عمرو ويعتذر إلى عمه
( خليليَّ لا تَسْتَعْجِلا أن تَزَوَّدا ... وأنْ تجمعا شَمْلِي وتَنْتَظِرا غَدا )
( فما لَبَثِي يوماً بسائِق مغْنَمٍ ... ولا سُرْعتِي يوماً بسائِقة الرَّدى )
( وإن تُنْظِراني اليومَ أقضِ لُبانةً ... وتستوجبا مَنَّا عليَّ وتُحْمدا )
( لعمرُك ما نَفْسٌ بجِدِّ رَشيدةٍ ... تؤامرني سُوءاً لأصرم مَرْثَدا )
( وإن ظهَرت مني قوارِصُ جَمّةً ... وأفرعَ من لَوْمِي مِراراً وأصعدا )
( على غير جُرْمٍ أن أكون جَنَيْتُه ... سِوَى قولِ باغٍ كادَنِي فتَجهَّدا )
( لعَمْرِي لنِعْم المَرْءُ تدعو بِخَيْلِه ... إذا ما المُنادِي في المَقامَةِ ندَّدا )

( عَظيمُ رَمادِ القدْر لا مُتعَبِّسٌ ... ولا مُؤيسٌ منها إذا هو أوقَدَا )
( وإن صَرَّحَت كَحْلٌ وهَبَّت عَرِيَّةٌ ... من الرّيح لم تَتْرُك من المال مِرْفدا )
( صَبَرتُ على وَطْء المَوالي وخَطْبِهم ... إذا ضَنَّ ذُو القُرْبى عليهم وأخْمدا )
يعني أخمد ناره بخلا وروى أجمدا المجمد البخيل
( ولم يحمِ فَرْجَ الحَيّ إلا مُحافظٌ ... كرِيم المُحَيَّا ماجِدٌ غَيرُ أجْرَدا )
الأجرد الجعد اليد البخيل

حماد الراوية يرى أنه أشعر الناس
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل بن إسحاق عن الهيثم بن عدي قال
سأل رجل حمادا الراوية بالبصرة وهو عند بلال بن أبي بردة من أشعر الناس قال الذي يقول
( رَمَتْني بَناتُ الدَّهْر من حَيثُ لا أرَى ... فما بالُ مَن يُرمَى ولَيْس بِرام )
قال والشعر لعمرو بن قميئة
قال علي بن الصباح في خبره عن ابن الكلبي
وعمر ابن قميئة تسعين سنة فقال لما بلغها
( كأنِّي وقد جاوزتُ تِسْعينَ حِجَّةً ... خلَعتُ بها عَنِّي عِنانَ لِجامي )
( على الرَّاحَتَيْن مَرَّةً وعلى العَصا ... أَنوءُ ثلاثاً بَعْدَهُنَّ قِيامِي )

( رمَتْنِي بناتُ الدَّهر من حَيْثُ لا أرَى ... فما بالُ من يُرْمَى وليس بِرامِ )
( فلو أنَّ ما أُرمَى بنَبلٍ رَمَيْتُها ... ولكنَّما أُرمَى بغَيرِ سِهامِ )
( إذا ما رآني النَّاسُ قالوا ألم يَكُن ... حَدِيثاً جَدِيدَ البَرْي غيرُ كَهامِ )
( وأفْنَى وما أُفنِي من الدهر ليلةً ... ولم يُفْنِ ما أفنيتُ سِلْكَ نِظامِ )
( وأهلكَنِي تأمِيلُ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ... وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ )
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي حدثنا الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال
دخلت على عبد الملك بن مروان في علته التي مات فيها فقلت كيف تجدك يا أمير المؤمنين فقال أصبحت كما قال عمرو بن قميئة
( كأنِّي وقد جاوزتُ تِسْعينَ حِجَّةً ... خَلعْتُ بها عَنِّي عِنانَ لِجام )
( رمَتْنِي بناتُ الدَّهر من حَيْثُ لا أرَى ... فكيف بمن يُرْمَى وليس بِرامِ )
( فلو أنَّها نَبْلٌ إذاً لاتَّقَيْتُها ... ولكنَّما أُرمَى بغَيرِ سِهامِ )
( وأهلكَنِي تأمِيلُ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ... وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ )
فقلت لست كذلك يا أمير المؤمنين ولكنك كما قال لبيد
( قامَتْ تَشَكَّى إليَّ الموتَ مُجْهِشَةً ... وقد حملتُك سَبْعاً بعد سَبْعِينا )
( فإِن تُزادِي ثَلاثاً تَبْلُغِي أمَلاً ... وفي الثّلاثِ وَفاءٌ للثمانِينا )
فعاش حتى بلغ التسعين فقال
( كأني وقد جاوزت تِسْعين حِجَّةً ... خلعتُ بها عن مَنْكِبيَّ رِدائيا )
فعاش حتى بلغ عشرا ومائة سنة فقال

( أليسَ في مائةٍ قد عاشها رَجُلٌ ... وفي تكامل عَشْرٍ بعدها عِبَرُ )
فعاش والله حتى بلغ مائة وعشرين سنة فقال
( وغَنِيتُ سَبْتاً قبل مجرَى داحِسٍ ... لو كان للنّفس اللجُوجِ خلُودُ )
ويروى دهرا قبل مجرى داحس فعاش حتى بلغ مائة وأربعين سنة فقال
( ولقد سَئِمتُ من الحياة وطُولِها ... وسُؤالِ هذا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ )
فتبسم عبد الملك وقال لقد قويت من نفسي بقولك يا عامر وإني لأجد خفا وما بي من بأس وأمر لي بصلة وقال لي اجلس يا شعمي فحدثني ما بينك وبين الليل فجلست فحدثته حتى أمسيت وخرجت من عنده فما أصبحت حتى سمعت الواعية في داره

خروجه إلى قيصر
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي عن إسحاق بن مرار الشيباني قال
نزل امرؤ القيس بن حجر ببكر بن وائل وضرب قبته وجلس إليه وجوه بكر بن وائل فقال لهم هل فيكم أحد يقول الشعر فقالوا ما فينا شاعر إلا شيخ قد خلا من عمره وكبر قال فأتوني به فأتوه بعمرو بن قميئة وهو شيخ فأنشده فأعجب به فخرج به معه إلى قيصر وإياه عني امرؤ القيس بقوله
( بَكَى صاحِبِي لَمَّا رأى الدَّرْبَ دُونَه ... وأيْقَن أنَّا لاحِقانِ بقَيْصَرا )
( فقُلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنَّما ... تُحاوِلُ مُلْكاً أو نَموتَ فتُعْذَرَا )

وقال مؤرج في هذا الخبر إن امرأ القيس قال لعمرو بن قميئة في سفره ألا تركب إلى الصيد فقال عمرو
( شَكوتُ إليه أنَّني ذُو جلالةٍ ... وأنِّي كَبِيرٌ ذُو عِيالٍ مُجَنِّبُ )
( فقال لنا أهلاً وسهلاً ومرحباً ... إذا سَرَّكم لحمٌ من الوَحْش فاركَبُوا )

صوت
( يا آحِ من حَرِّ الهَوَى إنَّما ... يَعرِف حَرَّ الحُبِّ مَنْ جَرَّبا )
( أصبحتُ للحُبِّ أسِيراً فقد ... صعَّدني الحُبُّ وقد صوَّبا )
( لا شكَّ أنّي مَيِّتٌ حَسْرَةً ... إن لم أزُر قَبْلَ غَدٍ زَيْنَبا )
( تِلْك الّتي إن نِلْتُها لم أُبَلْ ... مَنْ شَرَّقَ الدَّهْرَ أو غَرَّبا )
الشعر للمؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة بن عمرو بن مروان بن أبي حفصة والغناء لابن جامع رمل بالوسطى عن إبراهيم والهشامي

أخبار المؤمل بن جميل
قد مضى نسب أبي حفصة في أخبار مروان وكان يحيى بن أبي حفصة يكنى أبا جميل والمؤمل بن جميل يكنى أبا جميل وأم جميل أميرة بنت زياد بن هوذة بن شماس بن لؤي من بني أنف الناقة الذين يمدحهم الحطيئة وأم المؤمل شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري وكان جميل يلقب قتيل الهوى ولقب بذلك لقوله
( قُلن من ذا فَقُلتُ هذا اليمانيّ ... قَتيلُ الهوى أبو الخطابِ )
( قُلن بالله أنت ذاك يَقيناً ... لا تَقُل قولَ مازحٍ لَعابِ )
( إن تكن أنتَ هُو فأنت مُنانا ... خالِياً كنتَ أو مع الأصحابِ )
أخبرني بذلك يحيى بن علي إجازة عن محمد بن إدريس بن سليمان عن أبيه وحكى أبو أحمد - رحمه الله - عن محمد بهذا الإسناد
أن أبا جميل اشترى غلاما مدنيا مغنيا مجلوبا من مولدي السند

على البراءة من كل عيب يقال له المطرز فدعا أصحابا له ذات يوم ودعا شيخين من أهل اليمامة مغنيين يقال لأحدهما السائب وللآخر شعبة فلما أخذ القوم مجلسهم ومعهم المطرز اندفع الشيخان فغنيا فقال المطرز لأبي جميل مولاه ويلك يا أبا جميل يابن الزانية أتدري ما فعلت ومن عندك فقال له ويلك أجننت مالك قال أما أنا فأشهد أنك تأمن مكر الله حين أدخلت منزلك هذين
قال وبعثه يوما يدعو أصدقاء له فوجدهم عند رجل من أهل اليمامة يقال له بهلول وهو في بستان له فقال لهم مولاي أبو جميل قد أرسلني أدعوكم وقد بلغتكم رسالته وإن شاورتموني أشرت عليكم فقالوا أشر علينا قال أرى ألا تذهبوا إليه فمجلسكم والله أنزه من مجلسه وأحسن فقالوا قد أطعناك قال وأخرى قالوا وما هي قال تحلفون علي ألا أبرح ففعلوا فأقام عندهم
وغضب عليه أبو جميل يوما فبطحه يضربه وهو يقول ويلك أبا جميل اتق الله في الله الله في أمري أما علمت ويلك خبري قبل أن تشتريني قال وكان يبعثه إلى بئر لهم عذبة في بستان له يستقي منها لهم ماء فكان يستقيه ثم يصبه لجيران لهم في حيهم ثم يستقي مكانه من بئر لهم غليظة فإذا أنكر مولاه قال له سل الغلمان إذا أتيت البستان هل استقيت منه فيسألهم فيجده صادقا
حدثنا يحيى بن محمد بن إدريس عن أبيه
أن يحيى بن أبي حفصة زوج ابنه جميلا شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم فولدت له المؤمل بن جميل وكان شاعرا ظريفا غزلا وكان منقطعا إلى جعفر بن سليمان بالمدينة ثم قدم العراق فكان مع عبد الله بن مالك وذكره للمهدي فحظي عنده وهو الذي يقول في شكاة اشتكاها عبد الله بن مالك

( ظلّت عليَّ الأرضُ مُظلمةً ... إذْ قيلَ عبدُ الله قد وُعِكاَ )
( يا ليتَ ما بكَ بي وإن تَلِفت ... نفسِي لذاك وقلَّ ذاكَ لكاَ )
وهو الذي يقول
( يا آحِ من حَرِّ الهَوَى إنَّما ... يَعرِف حَرَّ الحُبِّ مَنْ جَرَّبا )
وذكر الأبيات التي تقدم ذكرها والغناء فيها

صوت
( إني وهَبتُ لظالِمي ظُلمِي ... وغفرتُ ذاكَ له على عِلْمِ )
( ما زال يَظلِمني وأَرْحَمُه ... حتَّى رَثيتُ له من الظّلم )
الشعر لمساور الوراق والغناء لإبراهيم بن أبي العبيس ثاني ثقيل بالوسطى أخبرني بذلك ذكاء وغيره

أخبار مساور ونسبه
هو مساور بن سوار بن عبد الحميد من آل قيس بن عيلان بن مضر ويقال إنه مولى خويلد من عدوان كوفي قليل الشعر من أصحاب الحديث ورواته وقد روى عن صدر من التابعين وروى عنه وجوه أصحاب الحديث
أخبرني علي بن طيفور بن غالب النسائي قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا حماد بن أسامة عن مساور الوراق قال حدثني جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال
كأني أنظر إلى النبي وهو على ناقته يخطب وعليه عمامة سوداء قد أرخاها بين كتفيه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا الأشنانداني عن الأصمعي قال
كان قوم يجلسون إلى ابن أبي ليلى فكتب قوما منهم لعيسى بن

موسى وأشار عليه أن يشغلهم ويصلهم فأتى مساور الوراق فكلمه أن يجعله فيهم فلم يفعل فأنشأ يقول
( أراكَ تُشير بأهل الصلاح ... فهل لك في الشاعرِ المُسلم )
( كَثيرِ العيالِ قليلِ السؤالِ ... عفٍّ مطاعِمُه مُعْدِمِ )
( يُقيم الصَّلاةَ ويؤْتي الزَّكاةَ ... وقد حَلَّق العامَ بالمَوْسِمِ )
( وأصبح واللهِ في قَومِه ... وأمسَى وليس بذي دِرْهَمِ )
قال فقال ابن أبي ليلى لا حاجة لنا فيه فقال فيه مساور أبياتا قال أبو بكر بن دريد كرهنا ذكرها صيانة لابن أبي ليلى
أخبرني محمد قال حدثني التوزي قال
كان مساور الوراق وحماد عحرد وحفص بن أبي بردة مجتمعين فجعل حفص يعيب شعر المرقش الأكبر فأقبل عليه مساور فقال
( لقد كان في عَيْنيك يا حَفْصُ شاغِل ... وأنفٌ كَثِيلِ العَوْدِ عما تَتَبَّعُ )
( تَتَبَّعْتَ لحناً في كلام مُرَقِّشٍ ... ووجهُك مبنيٌّ على اللحنِ أجمع )

فقام حفص من المجلس خجلا وهاجر مدة

وصية مساور لابنه
نسخت من كتاب عبيد الله اليزيدي بخطه حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال كان مساور الوراق من جديلة قيس ثم من عدوان مولى لهم فقال لابنه يوصيه
( شَمِّر ثيابَك واستعدَّ لقائلٍ ... واحْكُكْ جَبِينَك للعُهودِ بثُومِ )
( إنَّ العُهودَ صَفَتْ لكل مُشمِّرٍ ... دَبِرِ الجبين مُصَفِّرٍ موسومِ )
( أحسِنْ وصاحبْ كُلَّ قارٍ ناسكٍ ... حسنِ التَّعهُّد للصلاة صَؤُومِ )
( من ضَرْبِ حَمَّادٍ هُناك ومِسْعَرٍ ... وسِمَاكٍ العَتَكِيّ وابنِ حَكِيمِ )
( وعليك بالغَنَويِّ فاجلِسْ عنده ... حتى تصِيبَ وَدِيعَةً لِيَتيمِ )
( تَغنِيك عن طلب البُيوع نَسِيئةً ... وتكفّ عنك لِسانَ كُلِّ غَرِيمِ )
( وإذا دخلت على الرَّبيعِ مُسلِّماً ... فاخْصُصْ شَبابَةَ منك بالتَّسْليمِ )
قال ففعل ما أوصاه به أبوه فلم يلبث مساور أن ولاه عيسى بن موسى عملا ودفع إليه عهده فانكسر عليه الخراج فدفع إلى بطين صاحب عذاب عيسى يستأديه فقال مساور
( وجدت دواهِرَ البَقَّال أهْنَى ... من الفُرْنِيِّ والجَدْيِ السَّمينِ )
( وخَيراً في العَواقِب حين تُبلى ... إذا كان المَردُّ إلى بَطِينِ )
( فكُنْ يا ذا المُطِيفِ بقاضِيَيْنا ... غداً من عِلمِ ذاك على يَقينِ )

( وقُلْ لهما إذا عَرَضا بعَهْدٍ ... بَرئتُ إلى عُرَيْنةَ من عرِين )
( فإنك طالما بَهْرجْتَ فيها ... بمثل الخُنْفُساء على الجَبينِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال
مر مساور الوراق بمقبرة حميد الطوسي وكان له صديقا فوقف عليها مستعبرا وأنشأ يقول
( أبا غانِمٍ أمَّا ذَرَاك فواسِعٌ ... وقَبرُك مَعمورُ الجوانبِ مُحْكمُ )
( وما يَنْفَع المقبورَ عُمْرانُ قَبْرِه ... إذا كان فيه جِسْمُه يتَهَدَّمُ )
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة ونسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب أن حامد بن يحيى البلخي حدث عن سفيان بن عيينة وهذه الرواية أتم وقال
لما سمع مساور الوراق لغط أصحاب أبي حنيفة وصياحهم أنشأ يقول
( كنَّا من الدِّين قبل اليوم في سَعةٍ ... حتى بُلِينا بأصحاب المَقايِيسِ )
( قَومٌ إذا اْجتمعوا ضَجُّوا كأنّهمُ ... ثعالبٌ ضَبَحتْ بين النَّواويسِ )
فبلغ ذلك أبا حنيفة وأصحابه فشق عليهم وتوعدوه فقال أبياتا ترضيهم وهي وهي

( إذا ما النَّاس يوماً قايسُونا ... بآبدَةٍ من الفُتْيَا ظَريفَهْ )
( أتيْناهُم بِمقْياسٍ ظَريفٍ ... مُصيبٍ من قِياسِ أبي حَنيفَهْ )
( إذا سَمِعَ الفَقِيهُ بها وَعاها ... وأثبتها بِحِبْرٍ في صَحيفَهْ )
فبلغ أبا حنيفة فرضي قال مساور ثم دعينا إلى وليمة بالكوفة في يوم شديد الحر فدخلت فلم أجد لرجلي موضعا من الزحام وإذا أبو حنيفة في صدر البيت فلما رآني قال إلي مساور فجئت فإذا مكان واسع وقال لي اجلس فجلست فقلت في نفسي نفعتني أبياتي اليوم قال وكان إذا رآني بعد ذلك يقول لي ها هنا ها هنا ويوسع لي إلى جنبه ويقول إن هذا من أهل الأدب والفهم انتهى
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو المعمر عبد الأول بن مزيد أحد بني أنف الناقة قال
كان مساور الوراق لا يضيع حقا لجار له فماتت بنته فلم يشهدها من جيرانه إلا نفر يسير فقال مساور في ذلك
( تَغيَّب عنِّي كُلُّ جافٍ ضرورةً ... وكلّ طُفَيلِي من القوْم عاجِزِ )
( سَريعٍ إذا يُدْعَى ليومِ وَلَيمةٍ ... بطيءٍ إذا ما كان حَمْلُ الجَنائِزِ )
أخبرني محمد بن الحسن قال حدثنا عبد الأول قال
قدم جار لمساور الوراق من سفر فجاءه يسلم عليه فقال يا جارية هاتي لأبي القاسم غداء فجاءت برغيف فوضعته على الخوان فمد يده يأكل مع مساور وقال له يا أبا القاسم كل من هذا الخبز فما أكلت خبزا أطيب منه فقال مساور في ذلك

( ما كنتُ أحسَبُ أنَّ الخُبزَ فاكهةٌ ... حتّى رأيتُك يا وَجْهَ الطَّبَرْزِينِ )
( كأنَّ لِحيَته في وجهه ذَنَبٌ ... أو شِعْرَةٌ فوق بَظرٍ غيرِ مَخْتونِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال دخل مساور الوراق على أبي العيص الجرمي يعوده وكان صديقه فكلمه فلم يجبه فبكى مساور جزعا عليه وأدنى رأسه منه يكلمه فقال أبو العيص
( أفي كلّ عامٍ مَرْضةٌ بعد نَقْهةٍ ... وتَنْعَى ولا تُنْعَى متَى ذا إلى مَتى )
( سيوشك يومٌ أن يجيء ولْيَلَةٌ ... يَسوقان حَتْفاً راح نحوك أو غَدَا )
( فتُمِسي صَريعاً لا تُجِيب لدَعوةٍ ... ولا تَسْمع الدّاعي وإن جَدَّ في الدُّعا )
ثم لم يلبث أن مات رحمه الله

صوت
( تَنامِينَ عن لَيْلِي وأسهَرهُ وَحْدِي ... وأنهَى جُفوني أن تَبُثَّكِ ما عِنْدِي )
( فإن كُنتِ ما تدْرِينَ ما قد فعلتِه ... بنا فانظُرِي ماذا على قاتل العَمْدِ )
الشعر لسعيد بن حميد الكاتب والغناء لعريب خفيف ثقيل مطلق بالسبابة في مجرى الوسطى

أخبار سعيد بن حميد ونسبه
سعيد بن حميد بن سعيد بن حميد بن بحر يكنى أبا عثمان من أولاد الدهاقين وأصله من النهروان الأوسط وكان هو يقول إنه مولى بني سامة بن لؤي من أهل بغداد بها ولد ونشأ ثم كان يتنقل في السكنى بينها وبين سر من رأى كاتب شاعر مترسل حسن الكلام فصيح وكان أبوه وجها من وجوه المعتزلة فخالف أحمد بن أبي دواد في بعض مذهبه فأغرى به المعتصم وقال إنه شعوبي زنديق فحبسه مدة طويلة ثم بانت براءته له أو للواثق بعده فخلى سبيله وكان شاعرا أيضا فكان يهجو أحمد بن

أبي دواد وأنشدنيها جماعة من أصحابنا قال
( لقد أصبحتَ تُنْسَب في إيادٍ ... بأن يُكْنَى أبوكَ أبا دُوادِ )
( فلو كان اسمُه عمرَو بنَ مَعْدِي ... دُعِيتَ إلى زُبَيْدٍ أو مُرادِ )
( لئن أفسدْتَ بالتَّخويِف عيْشِي ... لما أصلحتَ أصلَك في إيادِ )
( وإن تكُ قد أصبتَ طريف مالٍ ... فبُخْلُكَ باليَسيرِ من التِّلادِ )
فذكر محمد بن موسى أن أبا يوسف بن الدقاق اللغوي أخبره أن حميد بن سعيد بن حميد دفع إليه ابنه سعيدا وهو صبي فقال له امض به معك إلى مجلس ابن الأعرابي قال فحضرناه ذات يوم فأنشدنا أرجوزه لبعض العرب فاستحسنتها ولم تكن معنا محبرة نكتبها منها فلما انصرفنا قلت له فاتتنا هذه الآرجوزه فقال لم تفتك أتحب أن أنشدكها قلت نعم فأنشدنيها وهي نيف وعشرون بيتا قد حفظها عنه وإنما سمعها مرة واحدة فلقيت أباه من غد فقال لي كيف رأيت سعيدا قلت له إنك أوصيتني به وأنا أسألك الآن أن توصيه بي فضحك وسألني عن الخبر فأعلمته فسر به

خبره مع أبي العباس بن ثوابة
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني ابن أبي المدور قال
دخل سعيد بن حميد يوما على أبي العباس بن ثوابة وكان أبو العباس يعاتبه على الشغف بالغلمان المرد فرأى على رأسه غلاما أمرد حسن

الوجه عليه منطقة وثياب حسان فقال له يا أبا العباس
( أزعمْتَ أنَّك لا تَلوطُ فقُل لنا ... هذا المُقَرْطَقُ قائماً ما يَصنعُ )
( شَهِدَت مَلاحَتهُ عليكَ بِرِيبَةٍ ... وعلى المُريبِ شَواهدٌ لا تُدفَعُ )
فضحك أبو العباس وقال خذه لا بورك لك فيه حتى نستريح من عتبك
أخبرني عمي رحمه الله قال قال لي محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات الكاتب كان سعيد بن حميد يهوى غلاما له من أولاد الموالي فغاب عنه مدة ثم جاءه مسلما فقال له غبت عني هذه المدة ثم تجيئني فلا تقيم عندي فقال له قد أمسينا فقال تبيت قال لا والله لا أقدر ولم يزل به حتى اتفقا على أنه إذا سمع أذان العتمة انصرف فقال له قد رضيت ووضع النبيذ فجعل سعيد يحث السقي بالأرطال فلما قرب وقت العتمة أخذ رقعة فكتب فيها إلى إمام المسجد وهو مؤذنه قوله
( قل لداعي الفِراق أخِّرْ قليِلا ... قد قَضيْنا حَقَّ الصّلاةِ طويلا )
( أخر الوقْتَ في الأذانِ وقدِّم ... بعدها الوقت بُكرةً وأصيلا )
( ليس في ساعةِ تُؤْخِّرها وِزْرٌ ... فنحيا بها وتأتي جميلا )
( فتُراعي حقَّ الفُتُوَّةِ فينا ... وتُعافَى من أن تكون ثقيلا )
فلما قرأ المؤذن الرقعة ضحك وكتب إليه يحلف أنه لا يؤذن ليلته تلك العتمة وجعل الفتى ينتظر الأذان حتى أمسى وسمع صوت الحارس فعلم أنها حيلة وقعت عليه وبات في موضعه وقال سعيد في ذلك

( عَرَّضتُ بالحُبّ له وعرَّضا ... حتى طَوَى قلبي على جَمْر الغَضَى )
( وأظْهَرتْ نفسِي عَن الدَّهْر الرِّضا ... ثم جَفاني وتولَّى مُعرِضا )
( لم ينقضِ الحبُّ بَلَى صبرِي انقضى ... فِداكَ مَنْ ذاق الكرَى أو غَمَّضَا )
( حتى طرقتَ فنسيتُ ما مضى ... سألتُه حُوَيْجَةً فأعرضا )
( وقال لا قولَ مُجيبٍ بِرِضَا ... فكان ما كان وكابرْنا القضا )
في هذه الأبيات هزج لأحمد بن صدقة أخبرني بذلك ذكاء وجه الرزة
وجدت في بعض الكتب
حدثني أحمد بن سليمان بن وهب أنه كان في مجلس فيه سعيد بن حميد فلما سكروا قام سعيد قومة بعد العصر فلم نشعر إلا وقد أخذ ثيابه فلبسها وأخذ بعضدتي الباب وأنشأ يقول
( سلام عليكم حالت الرَّاحُ بيننا ... وألوتْ بنا عن كل مرأىً ومَسْمَعِ )
( ولم يَبْقَ إلا أن يَميلَ بنا الكَرَى ... ويجمع نومٌ بين جَنْبِ ومضْجع )
فقام له أهل المجلس وقالوا يا سيدنا اذهب في حفظ الله وفي ستره فانصرف وودعهم

اعتذاره لفضل الشاعرة وإخباره معها
حدثني محمد بن الطلاس أبو الطيب قال حدثني عبد الله بن طالب الكاتب قال
قرأت رقعة بخط سعيد بن حميد إلى فضل الشاعرة يعتذر إليها من تغير ظنته به وفي آخرها

( تَظنُّون أني قد تبدّلتُ بعدكم ... بديلاً وبعضُ الظّنِّ إثمٌ ومُنكَرُ )
( إذا كان قلبي في يديكِ رَهِينةً ... فكيف بلا قلب أُصافِي وأهْجُرُ )
في هذين البيتين لابن القصار الطنبوري رمل وفيهما لمحمد قريض خفيف رمل
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال حدثني أبو علي المادراني أنه كان في مجلس فيه كعب جارية أبي عكل المقين وكان بعض اهل المجلس يهواها قال فدخل إلينا سعيد بن حميد فقام إليه أهل المجلس جميعا سوى الجارية والفتى فأخذ سعيد الدواة فكتب رقعة وألقاها في حجرها فإذا فيها قوله
( ما على أحسن خلْق ... الله أن يحسُنَ فِعلُهْ )
( بأبِي أنتَ وأُمِّي ... من مَليكٍ قَلَّ عَدْله )
( وبَخيلٍ بالهَوَى لو ... كان يُسلَى عنه بخلُه )
( أكثَرَ العاذِلُ في حُبِّك ... لو ينفع عَذْلُه )
( فهو مَشْغولٌ بعَذْلِي ... وفؤادي بك شُغْلُه )
( أُكثِرُ الشَّكْوى وأستَعْدِي ... على مَنْ قَلَّ بذْلُه )
فوثبت الجارية فقبلت رأسه وجلست إلى جنبه فقال الرجل الذي كان يهواها هذا والله كلام الشياطين ورقية الزنا وبهذا يتم الأمر أما أنا فإني

أشهدكم لا قرأت اليوم في صلاتي غير هذه الأبيات لعلها تنفعني فضحك سعيد وقال بحياتي قومي فارجعي إليه حتى تكون الأبيات قد نفعته قبل أن يقرأها في صلاته وسريني بذلك فقامت فرجعت إلى موضعها
قال علي بن العباس وحدثني أبو علي المادراني أنه كان عنده يوما فدخلت إليه جارية - كان يهواها - غفلة على غير وعد فسر بذلك وقال لها قد كنت على عتابك فأما الآن فلا فقالت أما العتاب فلا طاقة لي به ووالله ما جئتك إلا عند غفلة البواب فقال سعيد في ذلك
( زاركَ زَوْرٌ على ارتقابِ ... مُغتَنماً غَفْلةَ الحُجّابِ )
( مُستَتِراً بالنِّقابِ يَبدُو ... ضِياءُ خَدَّيه في النِّقاب )
( كالشَّمْسِ تبدو وقد طَواها ... دُونَك سِتْرٌ من السَّحابِ )
( قد كان في النفس منك عَتْبٌ ... يدعو إلى شدَّة اجْتِنابِ )
( فمِلتُ بالعَتْب عن حبيبٍ ... يَضعُف عن موقف العِتابِ )
( والذَّنبُ منه وأنتَ تَخْشَى ... في هَجْرِه صولةَ العِقابِ )
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن داود قال كان أبي يستحسن قول سعيد بن حميد
( تَظُنُّون أنِّي قد تَبَدَّلْتُ بعدكم ... بدَيِلاً وبعَضُ الظَّنِّ إثمٌ ومُنْكَرُ )
( إذا كان قَلْبِي في يَدَيْكِ رَهِينةً ... فكيف بلا قْلبٍ أُصافِي وأهجُرُ )
ويقول لئن عاش هذا الغلام ليكونن له في الشعر شأن
في هذين البيتين غناء من خفيف الرمل وذكر قريض أنه له
أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثني إسحاق بن مسافر أنه كان عند سعيد بن حميد يوما إذ دخلت عليه فضل الشاعرة على غفلة فوثب إليها وسلم

عليها وسألها أن تقيم عنده فقالت قد جاءني وحياتك رسول من القصر فليس يمكنني الجلوس وكرهت أن أمر ببابك ولا أراك فقال سعيد من وقته على البديهة
( قَرُبتِ ولا نَرْجُو اللِّقاء ولا نَرَى ... لنا حِيلَةً يُدْنِيكِ منّا احْتيالُها )
( فأصبحْتِ كالشمس المُنيرةِ ضَوْءها ... قريبٌ ولكن أيْنَ مِنّاَ مَنَالُها )
( كَظاعِنةٍ ضنَّتْ بها غُرْبةُ النَّوَى ... علينا ولكن قد يُلِمُّ خيَالُها )
( تُقرِّبها الآمالُ ثم تَعُوقُها ... مُماطَلة الدّنيا بها واعتلالُها )
( ولكنها أُمنِيَّةٌ فلعلها ... يجودُ بها صَرْفُ النَّوَى وانْتِقالُها )
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال
تغاضب سعيد بن حميد وفضل الشاعرة أياما ثم كتب إليها
( تعالَيْ نُجدِّدُ عَهْدَ الرِّضا ... ونَصفَح في الحُبِّ عمَّا مَضَى )
( ونَجرِي على سُنَّةِ العاشقين ... ونضمن عني وعنكِ الرِّضا )
( ويَبذُل هَذا لِهَذا هَواهُ ... ويَصْبر في حُبِّه للقضا )
( ونخضع ذُلاًّ خُضوع العَبيدِ ... لمولىً عزيز إذا أعرضا )
( فإنّيَ مُذْ لَجَّ هذا العِتابُ ... كأنِّي أبطنْتُ جَمْرَ الغَضَى )
فصارت إليه وصالحته
في هذه الأبيات لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى وفيها لابن القصار خفيف رمل
أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثنا أبو العباس بن أبي المدور قال
بات سعيد بن حميد عند أبي الفضل بن أحمد بن إسرائيل واصطبحا

على غناء حسن كان عندهما فجاءه رسول الحسن بن مخلد وقد أمر ألا يفارقه لأمر مهم فقام فلبس ثيابه وأنشأ يقول
( يا ليلةً باتَ النُّحوسُ بَعيدةً ... عنها على رَغْم الرَّقِيب الرَّاصِدِ )
( تَدعُ العَواذِلَ لا يقُمْن لِحاجةٍ ... وتقوم بهجتُها بِعُذرِ الحاسدِ )
( ضَنَّ الزَّمانُ بها فلمَّا نِلْتُها ... وَردَ الفراقُ فكان أقبحَ واردِ )
( والدَّمعُ ينطق للضمير مُصدِّقاً ... قَوْلَ المُقِرّ مُكذِّباً للجاحدِ )
أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثني أبو العباس بن أبي المدور قال
كان سعيد بن حميد صديقا لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوما وجاءه رسول فضل الشاعرة يسأله المصير إليها فمضى معه وتأخر عن أبي العباس فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها معاتبة فيها بعض الغلظة فكتب إليه سعيد
( أقللْ عِتَابك فالبقاءُ قليلُ ... والدهرُ يَعدِل تارةً ويَميلُ )
( لم أَبكِ من زَمن ذَممتُ صروفَه ... إلا بكيتُ عليه حين يَزولُ )
( ولِكُلِّ نائبةٍ المَّت مُدَّةً ... ولكلِّ حالٍ أقبلت تحويلُ )
( والمُنتمُون إلى الإخاء جماعةً ... إن حصّلوا أفناهم التَّحصيلُ )
( ولعلَّ أحداثَ الليالي والرّدى ... يَوْماً ستَصْدَعُ بيننا وتحولُ )
( فلئن سبقتُ لتبكينَّ بحسرة ... وليكثُرن عليَّ منكَ عويلُ )
( ولتُفجَعَنَّ بمخلصٍ لك وامقٍ ... حبلُ الوفاء بحبله موصولُ )
( وليذهبنَّ جمالُ كلّ مروءة ... وليعفُونَّ فِناؤها المأهولُ )
( ولئن سَبقْتَ ولا سَبَقْتَ ليمْضِيَنْ ... مَنْ لا يشاكله لديَّ عديلُ )

( وأراك تَكْلَف بالعتاب وودُّنا ... باقٍ عليه من الوفاء دليلُ )
( ودٌّ بدا لذَوِي الإخاء جميلُه ... وبدت عليه بهجةٌ وقبولُ )
( ولعلَّ أيام الحياة قصيرةٌ ... فَعلام يكثُر عتبنا ويطولُ )
أخبرني الطلحي قال حدثني أبو علي بن أبي الرعد أن سعيد بن حميد كان يهوى مظلومة جارية الدقيقي فبلغه أنها تواصل بعض أعدائه فهجرها مدة فكتبت إليه تعاتبه وتتشوقه فكتب إليها
( أمرِي وأمرُك شيءٌ غير مُتَّفقِ ... والهجر أفضل من وصلٍ على مَلَقِ )
( لا أُكْذِبُ الله ما نفسِي بساليةٍ ... ولا خليقةُ أهل الغدْرِ مِنْ خُلُقِي )
( فإن وثقتِ بُودٍّ كنتُ أبذُله ... فعاوِدِي سوءَ ظن بي ولا تَثِقِي )
وذكر اليوسفي الكاتب أنه حضر سعيدا في منزل بعض إخوانه وعندهم هبة المغنية وكان سعيد يتعشقها ويهيم بها فغضبت عليه يوما لبعض الكلام على النبيذ ودخلت بعد ذلك وهو في القوم فسلمت عليهم سواه فقالوا لها أتهجرين أبا عثمان فقالت أحب أن تسألوه ألا يكلمني فقال سعيد
( اليوم أيقنتُ أنّ الهجرَ مَتلَفةٌ ... وأنَّ صاحبَه منه على خَطَرِ )
( كيف الحياة لِمَن أمسى على شَرفٍ ... من المنِيّة بين الخَوْفِ والحَذَرِ )
( يلومُ عَينَيه أحياناً بذَنْبهما ... ويحمِل الذنبَ أحياناً على القَدَرِ )
( تنأوْنَ عنه وَينأى قلبُه معكم ... فقلبُه أبداً منه على سَفَرِ )
فوثبت إليه وقبلت رأسه وقالت لا أهجرك والله أبدا ما حييت
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال

غضبت فضل الشاعرة على سعيد بن حميد فكتب إليها
( يا أيها الظالم ما لِي ولَكْ ... أهكذا تَهْجر مَنْ واصَلَكْ )
( لا تصرفِ الرّحمة عن أهلها ... قد يعطِف الموْلَى على منْ مَلّكْ )
( ظلمتَ نفساً فيكَ عَلْقتُها ... فدَارَ بالظُّلم عليَّ الفَلَكْ )
( تباركَ الله فما أعلم الله ... بما ألقَى وما أغفلَكْ )
فراجعت وصله وصارت إليه جوابا للرقعة
في هذه الأبيات لعريب ثاني ثقيل وهزج عن ابن المعتز وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن الثقيل لأحمد بن أبي العلاء
أخبرني الطوسي الطلحي قال حدثنا محمد بن السري أن سعيد بن حميد كان في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه الغلام برقعة فضل الشاعرة تشكو فيها شدة شوقها فقرأها وضحك فقال له الحسن بن مخلد بحياتي عليك أقرئنيها فدفعها إليه فقرأها وضحك وقال له قد وحياتي ملحت فأجب فكتب إليها
( يا واصفَ الشوق عندي من شواهده ... قلبٌ يهيم وعَينٌ دَمعُها يكِفُ )
( والنَّفسُ شاهدةٌ بالوُدّ عارفةٌ ... وأنفُسُ الناس بالأهواء تأتلفُ )
( فكن على ثِقَةٍ مِنِّي وبيِّنةٍ ... إنِّي على ثقةٍ من كل ما تصِف )
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال

لما عشقت فضل الشاعرة بنان بن عمرو المغني وعدلت عن سعيد بن حميد إليه أسف عليها وأظهر تجلدا ثم قال فيها
( قالوا تَعزّ وقد بانوا فقُلتُ لهم ... بانَ العزاءُ على آثارِ مَنْ بانا )
( وكيف يملكُ سلواناً لحبِّهِمُ ... مَنْ لم يُطِق للهَوى سَتْراً وكتمانا )
( كانت عزائمُ صَبْرِي أستعين بها ... صارتْ عليَّ بحمد الله أعوانا )
( لا خَيْرَ في الحبِّ لا تبدو شواكِلُهُ ... ولا تَرى منه في العينين عُنوانا )
قال أبو الحسن جحظة وغنى فيه بعض المحدثين لحنا حسنا وأظنه عنى نفسه
أخبرني الطلحي قال حدثني أبو عيسى الكاتب أن أبا هفان بلغه عن سعيد بن حميد كلام فيه جفاء وطعن على شعره فتوعد بالهجاء وكان الحاكي عن ذلك كاذبا فبلغ سعيدا ما جرى فكتب إلى أبي هفان
( أمسَى يُخَوِّفني العبديُّ صوْلَتَه ... وكيف آمنُ بأْسَ الضَّيْغَمِ الهَصِر )
( من ليس يُحرِزُني من سيفِه أجلي ... وليس يمنعني مِنْ كيده حذَرِي )
( ولا أُبارزُه بالأمرِ يَكرهه ... ولو أُعِنْتُ بأنصار من الغِيَرِ )
( له سِهامٌ بلا رِيشٍ ولا عَقَبٍ ... وقَوْسُه أبداً عُطْلٌ من الوَترِ )
( وكيف آمنُ مَنْ نَحْرِي له غَرضٌ ... وسَهمُه صائبٌ يَخْفَى عن البَصر )
أخبرني الطلحي قال حدثني محمد بن السري أنه سار إلى سعيد بن

حميد وهو في دار الحسن بن مخلد في حاجة له قال فإني عنده إذ جاءته رقعة فضل الشاعرة وفيها هذان البيتان

صوت
( الصبر ينقُص والسَّقامُ يزيدُ ... والدّارُ دانِيةٌ وأنتَ بعيدُ )
( أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سِواهُما المجهودُ )
أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تعدني ولا سألت عن خبري
فأخذ بيدي فمضينا إلينا فسأل عن خبرها فقالت هو ذا أموت وتستريح مني فأنشأ يقول
( لا مُتِّ قبلِي بل أحيا وأنتِ معاً ... ولا أعيشُ إلى يومِ تَمُوتِينا )
( لكن نَعيش بما نَهوَى ونأمُلُه ... ويُرغِمُ الله فينا أنْفَ واشينا )
( حتى إذا قدَّر الرحمنُ ميتتنا ... وحان من أمرنا ما ليس يَعْدُونا )
( مِتْنا جميعاً كغُصْنَيْ بانةٍ ذَبُلا ... مِنْ بعد ما نَضَرا وَاستوسقا حِينا )
( ثمَّ السَّلام علينا في مضاجعنا ... حتى نعودَ إلى ميزان مُنْشِينا )
أخبرني إبراهيم بن القاسم بن زرزور قال قال لي أبي
كانت فضل الشاعرة تتعشق سعيد بن حميد مدة طويلة ثم تعشقت بنانا وعدلت عنه فقال فيها قصيدته الدالية التي يقول فيها
( تَنامينَ عن ليلي وأسهَرُه وَحدِي ... )
فلم تتعطف عليه وبلغها بعد ذلك أنه قد عشق جارية من جواري القيان فكتبت إليه

( يا عاليَ السنِّ سَيِّءَ الأدَب ... شِبتَ وأنتَ الغُلام في الطّربِ )
( ويحك إنَّ القِيانَ كالشَّرك المَنْصوب ... بينَ الغُرور والعَطبِ )
( لا تَصدَّيْنَ للفقير ولا ... يَطْلُبْن إلا معادِنَ الذهبِ )
( بينا تَشَكَّى هواك إذ عدَلَتْ ... عن زفرات الشّكْوى إلى الطَّلبِ )
( تَلْحَظ هذا وذَاك وَذا ... لحظ مُحِبٍّ وفِعْلَ مُكْتسبِ )
أخبرني إبراهيم قال وحدثني أبي قال
افتصد سعيد بن حميد فسألتني فضل الشاعرة وسألت عريب أن نمضي إليه ففعلنا وأهدت إليه هدايا فكان منها ألف جدى وحمل وألف دجاجة فائقة وألف طبق ريحان وفاكهة ومع ذلك طيب كثير وشراب وتحف حسان فكتب إليها سعيد إن سروري لا يتم إلا بحضورك فجاءته في آخر النهار وجلسنا نشرب فاستأذن غلامه بنان فأذن له فدخل إلينا وهو يومئذ شاب طرير حسن الوجه حسن الغناء نظيف الثياب شكل فذهب بها كل مذهب وأقبلت عليه بحديثها ونظرها فتشمز سعيد واستطير غضبا وتبين بنان القصة فانصرف وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة ثم أمسك فكتبت إليه
( يا من أطلتُ تَفرُّسِي ... في وَجْهه وتَنفُّسِي )
( أَفديك من مُتَدَلِّلٍ ... يُزْهَى بقَتل الأنفُسِ )
( هَبْني أسأْتُ وما أسَأْتُ ... بَلَى أُقِرّ أنا المُسِي )
( أَحْلفْتَنِي ألاَّ أُسارق ... نَظْرةً في مَجْلِسي )
( فنظرتُ نظرةَ مُخطىءٍ ... أَتْبَعْتُها بتَفَرُّسِ )

( ونَسيتُ أَنِّي قد حَلَفْت ... فما عُقوبَةُ مَنْ نسي )
فقام سعيد فقبل رأسها وقال لا عقوبة عليه بل نحتمل هفوته ونتجافى عن إساءته وغنت عريب في هذا الشعر هزجا فشربنا عليه بقية يومنا ثم افترقنا وأثر بنان في قلبها وعلقت به فلم تزل حتى واصلته وقطعت سعيدا
وجدت في بعض الكتب عن عبد الله بن المعتز قال قال لي إبراهيم بن المهدي
كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطا وأفصحهم كلاما وأبلغهم في مخاطبة وأثبتهم في محاورة فقلت يوما لسعيد بن حميد أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتقيدها وتخرجها فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك فقال لي وهو يضحك ما أخيب ظنك ليتها تسلم مني ولا آخذ كلامها ورسائلها والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وأماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك
صوت
( كلُّ حَيٍّ لاقِي الحِمام فَمُودِي ... ما لِحَيٍّ مُؤمِّلٍ مِنْ خُلودِ )
( لا تَهابُ المَنونُ شَيئاً ولا تُبْقِي ... على والدٍ ولا مَوْلُودِ )
الشعر لابن مناذر والغناء لبنان ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى من كتابه الذي جمع فيه صنعته وفيه لساجي جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ثقيل أول أيضا على مذهب النوح ابتداؤه نشيد

أخبار ابن مناذر ونسبه
هو محمد بن مناذر مولى بني صبير بن يربوع ويكنى ابا جعفر وقيل إنه كان يكنى أبا عبد الله
ووجدت في بعض الكتب رواية عن ابن حبيب أنه كان يكنى أبا ذريح وقد كان له ابن يسمى ذريحا فمات وهو صغير وإياه عني بقوله
( كأنَّك للمنايا يا ... ذَرِيحُ اللهُ صَوَّركَا )
( فناطَ بوَجْهك الشِّعْرَى ... وبالإِكليل قَلَّدكَا )
ولعله اكنتى به قبل وفاته
وقال الجاحظ كان محمد بن مناذر مولى سليمان القهرمان وكان سليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله وكان أبو بكرة

عبدا لثقيف ثم ادعى عبيد الله بن أبي بكرة أنه ثقفي وادعى سليمان القهرمان أنه تميمي وادعى ابن مناذر أنه صليبة من بني صبير بن يربوع فابن مناذر مولى مولى مولى وهو دعي مولى دعي وهذا ما لا يجتمع في غيره قط ممن عرفناه وبلغنا خبره

كان فصيحا مقدما في العلم باللغة
ومحمد بن مناذر شاعر فصيح مقدم في العلم باللغة وإمام فيها وقد أخذ عنه أكابر أهلها وكان في أول أمره يتأله ثم عدل عن ذلك فهجا الناس وتهتك وخلع وقذف أعراض أهل البصرة حتى نفي عنها إلى الحجاز فمات هناك وهذه الأبيات يرثي بها ابن مناذر عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي وكان عبد الوهاب محدثا جليلا وقد روى عنه وجوه المحدثين وكبراء الرواة وكان ابن مناذر يهوى عبد المجيد هذا فكان في أيام حياته مستورا متألها جميل الأمر فلما مات عبد المجيد حال عن جميع ما كان عليه وأخبارهما تذكر في مواضعها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال
كان ابن مناذر مولى صبير بن يربوع وكان إماما في علم اللغة وكلام العرب وكان في أول أمره ناسكا ملازما للمسجد كثير النوافل جميل الأمر إلى أن فتن بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك بعد ستره وفتك بعد نسكه ثم ترامى به الأمر بعد موت عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي إلى أن شتم الأعراض وأظهر البذاء وقذف المحصنات ووجبت عليه حدود فهرب إلى مكة وبقي بها حتى مات

وكان يجالس سفيان بن عيينة فيسأله سفيان عن معاني حديث النبي فيخبره بها ويقول له كذا وكذا مأخوذ من كذا فيقول سفيان كلام العرب بعضه يأخذ برقاب بعض قال وأدرك المهدي ومدحه ومات في أيام المأمون
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد وغيره أن محمد بن مناذر كان إذا قيل له ابن مناذر بفتح الميم يغضب ثم يقول أمناذر الصغرى أم مناذر الكبرى وهما كورتان من كور الأهواز إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر مثل ضارب فهو مضارب وقاتل فهو مقاتل
قال محمد بن يزيد ولما عدل محمد بن مناذر عما كان عليه من النسك والتأله وعظته المعتزلة فلم يتعظ وأوعدته بالمكروه فلم يزدجر ومنعوه من دخول المسجد فنابذهم وطعن عليهم وهجاهم وكان يأخذ المداد بالليل فيطرحه في مطاهرهم فإذا توضؤوا به سود وجوههم وثيابهم وقال في توعد المعتزلة إياه
( أبلِغْ لديك بني تَميمٍ مَأْلُكاً ... عَنِّي وعَرِّج في بَني يَرْبُوعِ )

( أَنِّي أخٌ لكُمُ بِدارِ مَضِيعَةٍ ... بُومٌ وغِرْبانٌ عليه وُقوعُ )
( يا لَلْقبائل من تَميمٍ ما لكُم ... رَوْبَى ولَحْمَ أَخِيكم بمَصِيعِ )
( هُبُّوا له فلقد أُراه بنَصْرُكُم ... يَأْوِي إلى جَبَلٍ أَشَمَّ مَنِيعِ )
( وإذا تحزَّبت القَبائلُ كُنْتُمُ ... ثِقَتِي لِكُلّ مُلِمَّةٍ وفظِيعِ )
( إن أنتمُ لن تَثْأرُوا لأخيكُم ... حتى يُباءَ بوِتْرِه المَتْبُوعِ )
( فخُذوا المَغازِل بالأَكُفّ وأيقِنوا ... ما عِشْتُمُ بمَذَلَّةٍ وخضوعِ )
( إن كنتمُ حُدُباً على أحسابكم ... سُمُعاً فقد أسمعتُ كُلَّ سَمِيعِ )
( أين الصُّبَيْريُّون لم أرَ مِثْلَهم ... في النائبات وأين رَهْطَ وَكِيعِ )
قال ثم استحيا من قوله أين الصبيريون لقلة عددهم فقال أين الرياحيون
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسن بن علي قال حدثني مسعود بن بشر قال
قال لي ابن مناذر ولع بي قوم من المعتزلة ففرقت منهم قال وكان مولى صبير بن يربوع فقلت بنو صبير نفسان ونصف فمن أدعو منهم فقلت ليس إلا إخوتهم بنو رياح فقلت أبياتا حرضتهم فيها وحضضت بنو رياح فقلت
( أين الرِّياحِيُّون لم أَرَ مِثلَهم ... في النَّائبات وأينَ رَهْط وكيع )
قال فجاء خمسون شيخا من بني رياح فطردوهم عني

أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني الجاحظ عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال
ما زادت بنو صبير بن يربوع قط على سبعة نفر كلما ولد منهم مولود مات منهم ميت
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني أبو عثمان المازني قال
كان ابن مناذر من أهل عدن وإنما صار إلى البصرة في طلب الأدب لتوافر العلماء فيها فأقام فيها مدة ثم شغل بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتطاول أمره إلى أن خرج عنها وكان مقيما بمكة فلما مات عبد المجيد نسك وقوم يقولون إنه كان دهريا

خلاعته وكره الناس له
وذكر أبو دعامة عن عطاء الملط قال
كان ابن مناذر يؤم الناس في المسجد الذي في قبيلته فما أظهر ما أظهره من الخلاعة والمجون كرهوا أن يصلي بهم وأن يأتموا به فقالوا شعرا وذكروا ذلك فيه وهجوه وألقوا الرقعة في المحراب فلما قضى صلاته قرأها ثم قلبها وكتب فيها يقول
( نُبِّئْت قافيةً قِيلت تَناشَدَها ... قومٌ سأترك في أعراضهم نَدَبا )
( نَاك الذين رَوَوْها أُمَّ قائِلها ... وناك قائلُها أُمَّ الذي كَتَبا )
ثم رمى بهم إليهم ولم يعد إلى الصلاة بهم

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال
حدثنا أبو الفضل بن عبدان بن ابي حرب الصفار قال حدثني الفضل بن موسى مولى بني هاشم قال
دخل ابن مناذر المسجد الجامع بالبصرة فوقعت عينه على غلام مستند ألى سارية فخرج والتمس غلاما ورقعة ودواة فكتب أبياتا مدحه بها وسأل الغلام الذي التمسه أن يوصل الرقعة إلى الفتى المستند إلى السارية فذهب بها إلى الغلام فلما قرأها قلبها وكتب على ظهرها يقول
( مِثلُ امْتِداحِك لي بلا وَرِقٍ ... مثلُ الجِدار بُنِي على خُصِّ )
( وألذُّ عِنْدي من مديحك لي ... سُودُ النِّعالِ ولَيِّن القُمْصِ )
( فإذا عَزَمْتَ فهَيِّ لي وَرِقاً ... فإذا فعلت فلستُ أستَعْصِي )
فلما قرأها ابن مناذر قام إليه فقال له ويلك أأنت أبو نواس قال نعم فسلم عليه وتعانقا وكان ذلك أول المودة بينهما
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم قال
اجتمع أبو العتاهية ومحمد بن مناذر فقال له أبو العتاهية يا ابا عبد الله كيف أنت في الشعر قال أقول في الليلة إذا سنح القول لي واتسعت القوافي عشرة أبيات إلى خمسة عشر فقال له أبو العتاهية لكنى لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت فقال ابن مناذر أجل والله إذا أردت أن أقول مثل قولك

( ألا يا عُتُبةَ السَّاعَةْ ... أموتُ السَّاعةَ السَّاعَةْ )
قلت ولكني لا أعود نفسي مثل هذا الكلام الساقط ولا أسمح لها به فخجل أبو العتاهية وقام يجر رجله
أخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني سهل بن محمد أبو حاتم وأحمد بن يعقوب بن المنير ابن أخت أبي بكر الأصم قال ابن مهرويه وحدثني به يحيى بن الحسن الربيعي عن غسان بن المفضل قال
اجتمع أبو العتاهية وابن مناذر فاجتمع الناس إليهما وقالوا هذان شيخا الشعراء فقال أبو العتاهية لابن المناذر يا أبا عبد الله كم تقول في اليوم من الشعر وذكر باقي الخبر مثل المتقدم سواء
أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون طائع قال
سمعت الأصمعي يقول حضرنا مأدبة ومعنا أبو محرز خلف الأحمر وحضرها ابن مناذر فقال لخلف الأحمر يا أبا محرز إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة فقس شعري إلى شعرهم واحكم فيها بالحق فغضب خلف ثم أخذ صحفة مملوءة مرقا فرمى بها عليه فملأه فقام ابن مناذر مغضبا وأظنه هجاه بعد ذلك أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال لقيني ابن مناذر بمكة فأنشدني قصيدته
( كُلُّ حَيٍّ لاقِي الحِمام فمُودِي ... )

ثم قال لي أقرىء أبا عبيدة السلام وقل له يقول لك ابن مناذر اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد ولا تقل ذلك جاهلي وهذا إسلامي وذاك قديم وهذا محدث فتحكم بين العصرين ولكن حكم بين الشعرين ودع العصبية قال وكان ابن مناذر ينحو نحو عدي بن زيد في شعره ويميل إليه ويقدمه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عثمان الكزبري قال أخبرني محمد بن الحجاج الجراداني قال
قلت لابن مناذر من أشعر الناس قال من كنت في شعره فقلت له ومن ذاك فقال عدي بن زيد وكان ينحو نحوه في شعره ويقدمه ويتخذه إماما
والأبيات التي فيها الغناء أول قصيدة لمحمد بن مناذر رثى بها عبد المجيد بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وكان يهواه وكان عبد المجيد هذا فيما يقال من أحسن الناس وجها وأدبا ولباسا وأكملهم في كل حال وكان على غاية المحبة لابن مناذر والمساعدة له والشغف به وكان يبلغ خبره أباه على جلالته وسنه وموضعه في العلم فلا ينكر ذلك لأنه لم تكن تبلغه عنه ريبة وكان ابن مناذر حينئذ حميد الأمر حسن المروءة عفيفا فحدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن حدان قال حدثني قدامة بن نوح قال

قيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي إن ابن مناذر قد أفسد ابنك وذكره في شعره وشبب به فقال عبد الوهاب أولا يرضى ابني أن يصحبه مثل ابن مناذر ويذكره في شعره
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال
أم عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي الذي كان يشبب به ابن مناذر بانة بنت أبي العاصي وهي مولاة جنان التي يشبب بها أبو نواس قال فحدثني من رأى محمد بن مناذر يوم ثالث بانة هذه وقد خرج جواريها إلى قبرها فخرج معهن نحو الجبانة بالبصرة قال فقلت له يا أبا عبد الله أين تريد فقال
( اليومُ يومُ الثُّلاثا ... وَيومُ ثالثِ بانَهْ )
( اليوم تَكثُر فيه الظِّباءُ ... في الجَبَّانَهْ )
قال أبو الحسن ولدت بانة من عبد الوهاب بن عبد المجيد أولاده عبد المجيد وأبا العاصي وزيادا وزياد الذي عناه أبو نواس في قوله يشبب بجنان
( جَفْنُ عيني قد كاد يَسْقط ... من طول ما اختلَجْ )
( وفُؤادِي مِنْ حَرّ حُبِّكِ ... قد كاد أو نَضَجْ )
( خَبِّرِيني فَدَتْكِ نَفْسِي ... وأهْلِي مَتَى الفَرَج )
( كان ميعادُنا خُروجَ ... زيادٍ فقد خَرَجْ )
قال ابن عمار قال لي النوفلي في هذه الأبيات غناء حلو مليح لو سمعته لشربت عليه أربعة أرطال

قال النوفلي وكان لعبد الوهاب ابن يقال له محمد كان أسن ولده ويقال إنه كان يتعشق بانة ابنة أبي العاصي هذه امرأة ابيه وإن زياد بن عبد الوهاب منه وكان أشبه الناس به
حدثني ابن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبي قال
خرج ابن مناذر يوما من صلاة التراويح وهو في المسجد بالبصرة وخرج عبد المجيد بن عبد الوهاب خلفه فلم يزل يحدثه إلى الصبح وهما قائمان إذا انصرف عبد المجيد شيعة ابن مناذر إلى منزله فإذا بلغه وانصرف ابن مناذر شيعة عبد المجيد لا يطيب أحدهما نفسا بفراق صاحبه حتى أصبحا فقيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد ابن مناذر قد أفسد ابنك فقال أو ما يرضي ابني أن يرضى بما يرضى به ابن مناذر

ابن مناذر وعبد المجيد بن عبد الوهاب
وفي عبد المجيد يقول ابن مناذر يمدحه وهو من مختار ما قاله فيه أنشدنيها علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن زيد من قصيدة أولها
( شَيَّب رَيبُ الزَّمان رأسِي ... لَهْفي على ريبِ ذَا الزّضمانِ )
( يَقدَحُ في الصُّمِّ من شَرَوْرَى ... ويَحْدُر الصُّمَّ من أبانِ )
يقول فيها يمدح عبد المجيد
( مِنّي إلي الماجد المُرَجَّى ... عبدِ المَجِيد الفَتَى الهِجانِ )

( خَيرِ ثَقِيفٍ أباً ونَفْساً ... إذا التَقَت حَلْقتَا البِطانِ )
( نفسِي فِداءٌ له وأَهْلِي ... وكُلُّ ما تَمْلِك اليَدانِ )
( كأنَّ شَمسَ الضُّحَى وبدر الدُّجَى ... عليه مُعلَّقان )
( نِيطا معاً فوق حاجِبَيْه ... والبدرُ والشَّمسُ يَضْحَكانِ )
( مُشمِّرٌ همُّه المَتعالِي ... ليس بِرَثٍّ ولا بِوانِي )
( بَنَى له عَزَّةً وَمْجداً ... في أولِ الدَّهرِ بانيان )
( بانٍ تَلقَّاه من ثَقِيفٍ ... ومن ذُرَا الأزدِ خَيرُ باني )
( فاسأَلْه ممَّا حَوَت يَداَه ... يَهْتَزُّ كالصَّارِم اليَماني )
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد قال
مرض عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي مرضا شديدا بالبصرة وكان ابن مناذر ملازما له يمرضه ويخدمه ويتولى أمره بنفسه لا يكله إلى أحد فحدثني بعض أهلهم قال حضرت يوما عنده وقد أسخن له ماء حار ليشربه واشتد به الأمر فجعل يقول آه بصوت ضعيف فغمس ابن مناذر يده في الماء الحار وجعل يتأوه مع عبد المجيد ويده تحترق حتى كادت يده تسقط فجذبناها وأخرجناها من الماء وقلنا له أمجنون أنت أي شيء هذا أينتفع به ذاك فقال أساعده وهذا جهد من مقل ثم استقل من علته تلك وعوفي مدة طويلة ثم تردى من سطح فمات فجزع عليه جزعا شديدا حتى كاد يفضل أهله وإخوته في البكاء والعويل وظهر منه من الجزع ما عجب الناس له ورثاه بعد ذلك بقصيدته المشهورة فرواها أهل البصرة ونيح بها على عبد المجيد وكان الناس يعجبون بها ويستحسنونها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم النوشجاني قال سمعت أبي يقول

حضرت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر أنشدني ما قلت في عبد المجيد فأنشده قصيدته الطويلة الدالية قال سفيان بارك الله فيك فلقد تفردت بمراثي أهل العراق
فأخبرني عمي قال حدثني أبو هفان قال قال الجماز
تزوج عبد المجيد امرأة من أهله فأولم عليها شهرا يجتمع عنده في كل يوم وجوه أهل البصرة وأدباؤها وشعراؤها فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنبا من أطناب الستارة قد انحل فأكب عليه ليشده فتردى على رأسه ومات من سقطته فما رأيت مصيبة قط كانت أعظم منها ولا أنكأ للقلوب
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان قال حدثني محمد بن عمر الخراز قال
قال لي ابن مناذر ويحك لست أرى نساء ثقيف ينحن على عبد المجيد نياحة على استواء قلت فما تحب قال تخرج معي حتى أطارحك فطارحني القصيدة التي يقول فيها
( إنَّ عبدَ المجيد يوم تَوَلَّى ... هَدَّ رُكناً ما كان بالمَهْدُودِ )
( هَدَّ عبدُ المجيد رُكْنِي وقد كُنْتُ ... بِرُكْنٍ أبوءُ منه شَديدِ )
قال فما زلت حتى حفظتها ووعيتها ووضعنا فيها لحنا فلما كان في الليلة التي يناح بها على عبد المجيد فيها صلينا العشاء الآخره في المسجد الجامع ثم خرجنا إلى دارهم وقد صعد النساء على السطح ينحن عليه فسكتن سكتة لهن فاندفعنا أنا وهو ننوح عليه فلما سمعننا أقبلن يلطمن

ويصحن حتى كدن ينقلبن من السطح إلى أسفل من شدة تشرفهن علينا وإعجابهن بما سمعنه منا وأصبح أهل المسجد ليس لهم حديث غيرنا وشاع الخبر بالبصرة وتحدث به الناس حتى نقل من مجلس إلى مجلس
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال لي حدثني موسى بن حماد بن عبد الله القرشي قال حدثني محمد بن النعمان بن جبلة الباهلي قال لما قال ابن مناذر
( لأُقِيَمَنَّ مأتماً كَنُجوم اللّيْل ... زُهْراً يَلْطُمْن حُرَّ الخُدُودِ )
( مُوجَعاتٍ يَبْكِين للكَبِدِ ... الحَرَّى عليه وللفُؤادِ العَمِيدِ )
قالت أم عبد المجيد والله لأبرن قسمه فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواربه مأتما عليه وقامت تصيح عليه واي ويه واي ويه فيقال إنها أول من فعل ذلك وقاله في الإسلام
وأخبرني بهذا الخبر ابن عمار عن علي بن محمد النوفلي عن عمه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن محمد بن عامر النخعي قال
أنشدني محمد بن مناذر لنفسه يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب يقول
( يا عَينُ حَقَّ لك البُكاءُ ... لحادِثِ الرُّزء الجَليلِ )
( فابْكي على عبد المجيد ... وأَعوِلِي كلَّ العَوِيل )
( لا يُبْعِدُ اللهُ الفَتى الله الفَيَّاضَ ... ذَا الباعِ الطَّوِيل )
( عَجِل الحِمامُ به فودَّ ... عَنا وآذنَ بالرَّحِيل )
( لَهفِي على الشَّعَر المُعَفّر ... منكَ والخَدِّ الأَسيلِ )
( كَسَفتْ لِفقْدِك شَمسُنا ... والبدْرُ آذن بالأُفولِ )

حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني النضر بن عمرو عن المازني قال حدثنا حيان
أن ابن مناذر دفع قصيدته الدالية إليه وقال اعرضها على ابي عبيدة فأتيته وهو على باب أبي عمرو بن العلاء فقرأت عليه منها خمسة أبيات فلم تعجبه وقال دعني من هذا فإني قد تشاغلت بحفظ القرآن عنه وعن مثله قال وكان أبو عبيدة يبغضه ويعاديه لأنه هجاه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال ابن مناذر قلت
( يَقدَحُ الدهرُ في شماريخ رَضْوَى ... )
ثم مكثت حولا لا أدري بن أتممه فسمعت قائلا يقول هبود قلت وما هبود فقال لي جبيل في بلادنا فقلت
( ويحُطُّ الصُّخورَ من هَبُّودِ ... )
قال إسحاق وسمع أعرابي هذا البيت فقال ما أجهل قائله بهبود والله إنها لأكيمة ما توارى الخارىء فكيف يحط منها الصخور
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني أبو حاتم قال سمعت أبا مالك عمرو بن كركرة يقول
أنشدني ابن مناذر قصيدته الدالية التي رثى فيها عبد المجيد فلما بلغ إلى قوله
( يَقدَحُ الدهرُ في شماريخ رَضْوَى ... ويحُطَّ الصُّخورَ مِنْ هَبُّودِ )

قلت له هبود أي شيء هو فقال جبل فقلت سخنت عينك هبود والله بئر باليمامة ماؤها ملح لا يشرب منه شيء خلقه الله وقد والله خريت فيها مرات فلما كان بعد مدة وقفت عليه في مسجد البصرة وهو ينشدها فلما بلغ هذا البيت أنشدها
( ويحُط الصُّخورَ من عَبُّود ... )
فقلت له عبود أي شيء هو ذا فقال جبل بالشام فلعلك يا بن الزانية خريت عليه أيضا فضحكت ثم قلت لا ما خريت عليه ولا رأيته وانصرفت عنه وأنا أضحك
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال
كان يحيى بن زياد يرمى بالزندقة وكان من أظرف الناس وأنظفهم فكان يقال أظرف من الزنديق
وكان الحاركي واسمه محمد بن زياد يظهر الزندقة تظارفا فقال فيه ابن مناذر
( يا بنَ زيادٍ يا أبا جعفَرٍ ... أظهرتَ دِيناً غيرَ ما تُخفي )
( مُزَنْدَق الظاهِر باللفظ في ... باطنِ إسلامٍ فَتىً عَف )
( لسْتَ بزِنديقٍ ولكنّما ... أرَدْت أن تُوسَم بالظَّرْفِ )

وقال فيه أيضا
( يا أبا جَعْفرٍ كأنك قد صِرْت ... على أجْردٍ طَويلِ الجِرانِ )
( من مَطايا ضَوامرٍ ليس يَصْهَلْنَ ... إذا ما رُكِبْنَ يوم رِهانِ )
( لم يُذلَّلنَ بالسُّرُوج ولا أقْرَح ... أََشداقَهنَّ جذبُ العِنان )
( قائماتٍ مُسوَّمات لدى الجِسْر ... لأمثالِكم من الفِتْيان )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة قال
كان عتبة النحوي من أصحاب سيبويه وكان صاحب نحو فهما بما يشرحه ويفسره على مذاهب أصحابه وكان ابن مناذر يتعاطى ذلك ويجلس إليه قوم يأخذونه عنه فجلس عتبة قريبا من حلقته فتقوض الناس إليه وتركوا ابن مناذر فلما كان في يوم الجمعة الأخرى قام ابن مناذر من حلقته فوقف على عتبة ثم أنشأ يقول
( قُوموا بنا جميعاً ... لحَلْقَة العَذارِي )
( تَجمعن للشقاء ... إلى عُتْبةِ الخَسارِ )
( ما لي ومَا لِعُتْبَة ... إذ يبتغي ضِرارِي )
قال فقام عتبة إليه فناشده ألا يزيد ومنع من كان يجلس إلى ابن مناذر من حضور حلقته وجلس هو بعيدا من ابن مناذر بعد ذلك
حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال
كان لابن مناذر جار يقال له ابن عمير من المعتزلة فكان يسعى بابن

مناذر إليهم ويسبه ويذكره بالفسق ويغريهم به فقال يهجوه
( بَنو عُمَيرْ مَجدُهم دارُهْم ... وكُلّ قَوْم فلَهُم مَجْدُ )
( كأنهم فَقْعٌ بِدَوِّيَّةٍ ... وليس لهم قَبْلٌ ولا بَعْدُ )
( بَثّ عُمَيرٌ لؤمَه فيهمُ ... فكُلُّهم من لُؤْمه جُعْدُ )
وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن النوفلي بمثله وزاد فيه وعبد الله بن عمير - أبو هؤلاء الذين هجاهم - أخو عبد الله بن عامر لأمه أمهما دجاجة بنت إسماعيل بن الصلت السلمي
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الخليل بن أسد قال
كان ابن مناذر من أحضر الناس جوابا قال له رجل ما شانك قال عظم في أنفي
قال وسأله رجل يوما ما الجرباء فأومأ بيده إلى الأرض قال هذه يهزأ به وإنما الجرباء السماء

ابن مناذر والخليل بن أحمد
أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني جعفر بن محمد عن دماذ قال
دار بين الخليل بن أحمد وبين ابن مناذر كلام فقال له الخليل

إنما أنتم معشر الشعراء تبع لي وأنا سكان السفينة إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم فقال ابن مناذر والله لأقولن في الخليفة قصيدة أمتدحه بها ولا أحتاج إليك فيها عنده ولا إلى غيرك فقال في الرشيد قصيدته التي أولها
( ما هَيَّجَ الشوقَ من مُطَوَّقَةٍ ... أوفَتْ على بانةٍ تُغَنِّينَا )
يقول فيها
( ولو سألْنا بحُسْن وَجْهك يا ... هارونُ صَوْبَ الغمام أُسقِينَا )
قال وأراد أن يفد بها إلى الرشيد فلم يلبث أن قدم الرشيد البصرة حاجا ليأخذ على طريق النباج وكان الطريق قديما فدخلها وعديله إبراهيم الحراني فتحمل عليه ابن مناذر بعثمان بن الحكم الثقفي وأبي بكر السلمي حتى أوصلاه إلى الرشيد فأنشده إياها فلما بلغ آخرها كان فيها بيت يفتخر فيه وهو
( قومي تَمِيمٌ عند السِّماك لهم ... مَجْدٌ وعِزٌّ فما يُنالونا )
فلما أنشده هذا البيت تعصب عليه قوم من الجلساء فقال له بعضهم يا جاهل أتفخر في قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين وقال آخر هذه حماقة بصرية فكفهم عنه الرشيد ووهب له عشرين ألف درهم

الرشيد يبعث له بجائزة وهو بالحجاز
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثني سهيل السلمي أن الرشيد استسقى في سنة قحط فسقي الناس فسر

بذلك وقال لله در ابن مناذر حيث يقول
( ولو سألْنا بحُسْن وَجْهك يا ... هارونُ صَوْبَ الغمام أُسقِينَا )
وسأل عن خبره فأخبر أنه بالحجاز فبعث إليه بجائزة
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال حدثني محمد بن عباد المهلبي قال
شهد بكر بن بكار عند عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن الحر العنزي بشهادة فتبسم ثم قال له يا بكر مالك ولابن مناذر حيث يقول
( أَعوذُ بالله من النّار ... ومنكَ يا بَكْرَ بنَ بَكَّارِ )
فقال أصلح الله القاضي ذاك رجل ماجن خليع لا يبالي ما قال فقال له صدقت وزاد تبسمه وقبل شهادته وقام بكر وقد تشور وخجل قال العنزي فحدثني أبو غسان دماذ قال
أنشدني ابن مناذر هذا الشعر الذي قاله في بكر بن بكار وهو
( أَعوذُ بالله من النّارِ ... ومنكَ يا بكرُ بنَ بَكَّارِ )
( يا رَجُلاً ما كان فيما مَضَى ... لآلِ حِمْران بِزَوَّارِ )
( ما مَنزِلٌ أحدثْتُه رابِعاً ... مُعْتَزلاً عن عَرْصَة الدَّارِ )
( ما تَبْرحُ الدَّهرَ على سَوْأَةٍ ... تطرحُ حَبّاً للخُشَنْشارِ )
( يا معشَر الأحداثِ يا وَيْحَكم ... تَعَوَّذُوا بالخالِق البارِي )

( مِن حَرْبةٍ نِيطَت على حَقْوِه ... يَسْعَى بها كالبَطَل الشّارِي )
( يوم تَمنَّى أنَّ في كَفِّه ... أَيْرَ أَبِي الخِضْر بدِينارِ )
قال ابن مهرويه في خبره والخشنشار هو معاوية الزيادي المحدث ويكنى أبا الخضر وكان جميل الوجه
وقال العنزي في حديثه حدثني إسحاق بن عبد الله الحمراني وقد سألته عن معنى هذا الشعر فقال الخشنشار غلام أمرد جميل الوجه كان في محلتنا وهذا لقبه وكان بكر بن بكار يتعشقه فكان يجيء إلى أبي فيذاكره الحديث ويجالسه وينظر إلى الخشنشار
قال العنزي حدثني عمر بن شبة قال
بلغني أن عبيد الله بن الحسن لقي ابن مناذر فقال له ويحك ما أردت إلى بكر بن بكار ففضحته وقلت فيه قولا لعلك لم تتحققه فبدأ ابن مناذر يحلف له بيمين ما سمعت قط أغلظ منها أن الذي قاله في بكر شيء يقوله معه كل من يعرف بكرا ويعرف الخشنشار ويجمع عليه ولا يخالفه فيه فانصرف عبيد الله مغموما بذلك قد بان فيه فلما بعد عنا قلت لابن مناذر برىء الله منك ويلك ما أكذبك أكل من يعرف بكر بن بكار يقول فيه مثل قولك حتى حلفت بهذه اليمين فقال سخنت عينك فإذا كنت أعمى القلب أي شيء أصنع أفتراني كنت أكذب نفسي عند القاضي إنما موهت عليه وحلفت له أن كل من يعرفها يقول مثل قولي وعنيت ما ابتدأت به من الشعر

وهو قولي
( أَعوذُ بالله من النّارِ ... )
أفتعرف أنت أحدا يعرفهما أو يجهلهما إلا يقول كما قلت أعوذ بالله من النار إنما موهت على القاضي وأردت تحقيق قولي عنده
قال مؤلف هذا الكتاب وبكر بن بكار رجل محدث قد روى عن ورقاء عن ابن أبي نجيح تفسير مجاهد وروى حديثا صالحا
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا بكر بن بكار عن عبد الله بن المحرز عن قتادة عن أنس أن النبي قال ( زينوا القرآن بأصواتكم )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الأحوص بن الفضل البصري قال حدثنا ابن معاوية الزيادي وأبوه الخشنشار الذي يقول فيه ابن مناذر
( تطرحُ حبّاً للخُشَنْشارِ ... )
قال حدثني من لقي ابن مناذر بمكة فقال ألا تشتاق إلى البصرة فقال له
أخبرني عن شمس الوزانين أعلى حالها قال نعم قال وثيق بن يوسف الثقفي حي قال نعم قال فغسان بن الفضل الغلابي حي قال نعم قال لا والله لا دخلتها ما بقي فيها واحد من الثلاثة قال وشمس الوزانين في طرف المربد بحضرة مسجد الأنصار في موضع حيطانه قصار

لا تكاد الشمس تفارقه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان محمد بن عبد الوهاب الثقفي أخو عبد المجيد يعادي محمد بن مناذر بسبب ميله إلى أخيه عبد المجيد وكان ابن مناذر يهجوه ويسبه ويقطعه وكل واحد منهما يطلب لصاحبه المكروه ويسعى عليه فلقي محمد بن عبد الوهاب ابن مناذر في مسجد البصرة ومعه دفتر فيه كتاب العروض بدوائره ولم يكن محمد بن عبد الوهاب يعرف العروض فجعل يلحظ الكتاب ويقرؤه فلا يفهمه وابن مناذر متغافل عن فعله ثم قال له ما في كتابك هذا فخبأه في كمه وقال وأي شيء عليك مما فيه فتعلق به ولببه فقال له ابن مناذر يا أبا الصلت الله الله في دمي فطمع فيه وصاح يا زنديق في كمك الزندقة فاجتمع الناس إليه فأخرج الدفتر من كمه وأراهم إياه فعرفوا براءته مما قذفه به ووثبوا على محمد بن عبد الوهاب واستخفوا به وانصرف بخزي وقال ابن مناذر يهجوه
( إذا أنتَ تَعلَّقْتَ ... بحَبْلٍ من أبي الصَّلْتِ )
( تَعلَّقْتَ بحَبْل واهن ... القُوَّة مُنْبَتِّ )
( إذا ما بَلغ المجدَ ... ذَوُو الأحساب بالمَتِّ )
( تقاصَرْتَ عن المَجْد ... بأَمرٍ رائبٍ شَخْتِ )
( فلا تَسْمُو إلى المَجْد ... فما أمرُك بالثَّبْتِ )
( فلا فَرُعك في العِيدَانِ ... عُودٌ ناضِرُ النَّبْتِ )
( وما يُبقِي لكم ياقوْمُ ... من أثْلَتِكم نَحْتِي )

( فها فاْسمَع قَرِيضاً من ... رقيقٍ حَسَنِ النَّعْتِ )
( يقول الحقَّ إن قال ... ولا يرميك بالبَهْتِ )
( وفي نَعْتٍ لِوَجْعاء ... قد استَرْخَت من الفَت )
( فعِنْدِي لك يا مَأْبُونُ ... مِثلُ الفالجِ البُخْتِي )
( عُتُلٌّ يُعمِلُ الكُومَ ... من السَّبْتِ إلى السَّبْتِ )
( له فَيْشَلَةٌ إن أُدْ ... خِلَتْ واسعةُ الخَرْت )
( وإلإ فاطْلِ وجعاءكَ ... بالخَضْخاضِ والزِّفْتِ )
( ألم يبلغْك تَسآلِي ... لدى العَلاَّمَةِ المَرْتِ )
( فقال الشيخُ سَرْجُويه ... داءُ المرء من تَحْتِ )
( فخُذْ من وَرَق الدِّفْلَى ... وخذ من ورق القَتِّ )
( وخذ من جَعْرِ كَيْسانٍ ... ومن أظفار نِسَّخْتِ )
( فغَرْغِرْه به واسْعَطْ ... بِذَا في دَائِه أُفْتِي )
قال ونسخت لقب أبي عبيدة وهو اسم من أسماء اليهود لقب به تعريضا بأن جده كان يهوديا وكان أبو عبيدة وسخا طويل الأظفار أبدا والشعر وكان يغضب من هذا اللقب

فأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن محمد النوفلي قال لما قال ابن مناذر هذه الأبيات
( إذا أنت تعلَّقْتَ ... بحَبْل من أبي الصَّلْتِ )
( تَعلّقْتَ بحبْل واهن ... القُوَّة مُنْبَتِّ )
( وقال الشيخُ سَرْجُويه ... داء المَرْء من تَحت )
فبلغ ذلك سرجويه فجاء إلى محمد بن عبد الوهاب فوقف عليه في مجلسه وعنده جماعة من أهله وإخوانه وجيرانه فسلم عليه وكان أعجميا لا يفصح ثم قال له بركست كمن كفتم أن كسر مناذر كفت داء المرء من تحت فكاد القوم أن يفتضحوا من الضحك وصاح به محمد اعزب قبحك الله فظن أنه لم يقبل عذره فأقبل يحلف له مجتهدا ما قال ذاك ومحمد يصيح به ويلك اعزب عني وهو في الموت منه وكلما زاده من الصياح إليه زاده في العذر واجتهد في الأيمان وضحك الناس حتى غلبوا وقام محمد خجلا فدخل منزله وتفرقوا
قال أبو الحسن النوفلي ثم مضى لذلك زمان وهجا أبو نعامة أبا عبد الله هريسة الكاتب فقال فيه
( ورَوَى شَيخُ تَمِيمٍ ... خالدٌ أنَّ هَرِيسَهْ )
( يُدْخِلُ الأصلعَ ذا الخُرْجَيْن ... في جَوْفِ الكَنِيسَهْ )
فلقي خالد بن الصباح هذا هريسة وكان يعاديه وأراد أن يخجله فحلف له مجتهدا أنه لم يقل فيه ما قاله أبو نعامة فقال هريسة يا بارد لم

ترد أن تعتذر إنما أردت أن تتشبه بابن مناذر ومحمد بن عبد الوهاب وبأبي الشمقمق وأحمد بن المعذل ولست من هؤلاء في شيء
قرأت في بعض الكتب عن ابن أبي سعد قال حدثني أبو الخطاب الحسن بن محمد عن محمد بن إسحاق البلخي قال
دخلت على ابن مناذر يوما وعنده رجل ضرير جالس عن يمينه ورجل بصير جالس عن شماله ساكت لا ينطق قال فقلت له ما خبرك فقال
( بين أَعْمَى وأخْرَسٍ أخْرَس الله ... لسانَ الأَعمَى وأعْمَى البَصِيرا )
قال فوثبا فخرجا من عنده وهما يشتمانه

اخباره مع سفيان بن عيينة
ونسخت من كتاب ابن أبي الدنيا حدثني أبو محمد التميمي قال حدثني إبراهيم بن عبد الله عن الحسن بن علي قال
كنا عند باب سفيان بن عيينة وقد هرب منا وعنده الحسن بن علي التختاخ ورجل من الحجبة ورجل من أصحاب الرشيد فدخل بهم وليس يأذن لنا فجاء ابن مناذر فقرب من الباب ثم رفع صوته فقال
( بعَمْرٍو وبالزُّهْريّ والسَّلَفِ الأُلَى ... بهم ثَبَتَتْ رِجْلاك عند المَقاوِمِ )
( جعلتَ طَوالَ الدهر يَوْماً لصالِحٍ ... ويوْماً لصبَّاحٍ ويوماً لحاتِمِ )
( وللحسَنِ التَّخْتاخ يوماً ودونهم ... خَصصتَ حُسَيْناً دُونَ أهل المواسمِ )

( نظرتُ وطالَ الفِكْر فيك فلم أَجِد ... رَحاك جَرَت إلاّ لأَخْذِ الدَّراهمِ )
فخرج سفيان وفي يده عصا وصاح خذوا الفاسق فهرب ابن مناذر منه وأذن لنا فدخلنا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو بكر المؤدب قال حدثني محمد بن قدامة قال
سمعت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر يا أبا عبد الله ما بقي أحد أخافه غيرك وكأني بك قد مت فرثيتني فلما مات سفيان بن عيينة قال ابن مناذر يرثيه
( راحوا بسُفيانَ على نَعْشِه ... والعِلْمُ مَكسُوّيْن أكْفانا )
( إنّ الذي غُودِرَ بالمُنْحَنَى ... هَدَّ من الإِسلام أَركانا )
( لا يُبعِدَنْكَ اللهُ من مَيّتٍ ... وَرَّثْنا عِلْماً وأحزانا )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال
حدثني شيخ من أهل الكوفة يقال له عوام قال سمعت سفيان بن عيينة وقد تكلم بكلام استحسن فسأله محمد بن مناذر أن يمليه عليه فتبسم سفيان وقال له هذا كلام سمعتك تتكلم به فاستحسنته فكتبته عنك قال وعلى ذلك أحب أن تمليه علي فإني إذا رويته عنك كان أنفق له من أن أنسبه إلى نفسي
قال عوام وأنشدني ابن عائشة لابن مناذر يرثي سفيان بن عيينة بقوله
( يَجْنِي من الحِكْمة نُوّارَها ... ما تَشْتَهي الأنْفُسُ ألوانا )
( يا واحدَ الأمَّة في عِلْمِه ... لَقِيتَ من ذِي العَرش غُفرانا )
( راحوا بسُفْيانَ على نَعْشِه ... والعلمِ مَكْسُوَّين أكفانا )

أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد عن محمد بن عامر الحنفي قال
لما مات عبد المجيد بن عبد الوهاب خرج ابن مناذر إلى مكة وترك النسك وعاد للمجون والخلع وقال في هذا المعنى شعرا كثيرا حتى إذا مدح أو فخر لم يجعل افتتاح شعره ومباديه إلا المجون وحتى قال في مدحه للرشيد
( هل عندكم رُخْصةٌ عن الحسن الْبصْرِيّ ... في العِشْقِ وابن سِيرِينا )
( إنَّ سَفاهاً بذِي الجَلاَلَة والشَّيْبَة ... ألاّ يزالَ مَفْتونا )
وقال أيضا في هذا المعنى
( ألا يا قمر المَسْجد ... هل عنْدَك تَنْويلُ )
( شِفائي منك - إن ... نَوَّلْتَنِي - شَمٌّ وتَقْبِيلُ )
( سَلاَ كُلُّ فُؤادٍ و ... فُؤادي بك مَشْغُولُ )
( لقد حُمِّلْت من حُبِّيك ... مالا يَحمِل الفِيلُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثنا العباس بن الفضل الربعي قال حدثني التوزي قال
قال ابن مناذر ليونس النحوي يعرض به أخبرني عن جبل

أتنصرف أم لا وكان يونس من أهلها فقال له قد عرفت ما أردت يا بن الزانية فانصرف ابن مناذر فأعد شهودا يشهدون عليه بذلك وصار إليه وسأله هل تنصرف جبل وعلم يونس ما أراد فقال له الجواب ما سمعته أمس

اخباره مع حجاج الصواف
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني إسحاق بن عمرو السعدي قال حدثني الحجاج الصواف وأخبرني الحسن بن علي أيضا قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثني أمية بن أبي مروان قال حدثني حجاج الصواف الأعور قال
خرجت إلى مكة فكان هجيراي في الطريق ابن مناذر وكان لي إلف وخدنا وصديقا فدخلت مكة فسألت عنه فقالوا لا يبرح المسجد فدخلت المسجد فالتمسته فوجدته بفناء زمزم وعنده أصحاب الأخبار والشعراء يكتبون عنه فسلمت وأنا أقدر أن يكون عنده من الشوق إلي مثل ما عندي فرفع رأسه فرد السلام ردا ضعيفا ثم رجع إلى القوم يحدثهم ولم يحفل بي فقلت في نفسي أتراه ذهبت عنه معرفتي فبينا أنا أفكر إذ طلع أبو الصلت بن عبد الوهاب الثقفي من باب بني شيبة داخلا المسجد فرفع رأسه فنظر إليه ثم أقبل علي فقال أتعرف هذا فقلت نعم هذا الذي يقول فيه من قطع الله لسانه
( إذا أنتَ تعلَّقْتَ ... بحَبْلٍ من أبي الصَّلْتِ )
( تَعلّقتَ بحَبلٍ واهنِ ... القُوَّةِ مُنْبَتِّ )

قال فتغافل عني وأقبل عليهم ساعة ثم أقبل علي فقال من أي البلاد أنت قلت من أهل البصرة فقال وأين تنزل منها قلت بحضرة بني عائش الصوافين قال أتعرف هناك ابن زانية يقال له حجاج الصواف قلت نعم تركته ينيك أم ابن زانية يقال له ابن مناذر فضحك وقام إلي فعانقني
قال مؤلف هذا الكتاب ولابن مناذر هجاء في حجاج الصواف على سبيل العبث وهو قوله
( إنَّ ادِّعاءِّ الحجَّاجِ في العَرَبِ ... عنْدَ ثَقِيفٍ من أَعْجَبِ العَجُبِ )
( وهو ابنُ زانٍ لألف زَانيةٍ ... وألف عِلْجٍ مُعَلْهَجِ النَّسبِ )
( ولو دَعاهُ داعٍ فقال له ... يا ألأم النَّاسِ كُلّهم أَجِبِ )
( إذاً لقالَ الحجَّاج لبّيْكَ مِنْ ... داعٍ دَعاني بالحَقِّ لا الكَذِب )
( ولو دَعاه دَاعٍ فقال له ... مَنِ المُعَلَّى في اللؤمِ قال أبي )
( أبوه زَانٍ والأمُّ زَانيَةٌ ... بِنتُ زُناةٍ مَهْتُوكَةُ الحُجُبِ )
( تقول عَجِّلْ أدْخِلْ لِنائِكها ... اترُكْه في اسْتي إن شئْتَ أو ركَبِي )
( مَنْ ناكَنِي فيهما فأوْسَعَنِي ... رَهْزاً دِراكاً أعطيتُه سَلَبِي )
( هَمُّ حِري النَّيكُ فابتَغُوا لِحرِي ... أَيْرَ حِمارٍ أقضي به أَرَبِي )
( أُحِبُّ أيرَ الحِمارِ وا بِأبِي ... فَيْشةُ أيْر الحِمار وابِأبِي )

( إذا رأتْه قالت فديتُك يا ... قُرَّة عَيْنِي ومُنْتَهى طَلَبِي )
( إذا سَمعْتُ النَّهِيقَ هاج حِرِي ... شَوْقاً إليه وهاج لي طَرَبِي )
( يَأْخُذُني في أسافِلي وحِرِي ... مِثلُ اضْطرام الحريقِ في الحَطَبِ )
( شَكَتْ إلى نِسْوة فقُلْن لها ... وهي تنادي بالوَيْل والحَرَبِ )
( كُفِّي قَليلاً قالت وكَيْفَ وبِي ... في جَوفِ صَدْعي كَحِكَّة الجَرَبِ )
( أرى أُيورَ الرّجال من عصبٍ ... لَيتَ أُيورَ الرِّجال من خَشَبِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن محمد الرازي أبو عبد الله قال حدثني أبو بجير قال كان ابن مناذر يجلس إلى إسكاف بالبصرة فلا يزال يهجوه بالأبيات فيصيح من ذلك ويقول له أنا صديقك فاتق الله وأبق على الصداقة وابن مناذر يلح فقال الإسكاف فإني أستعين الله عليك وأتعاطى الشعر فلما أصبح غدا عليه ابن مناذر كما كان يفعل فأخذ يعبث به ويهجوه فقال الإسكاف
( كَثُرَتْ أُبوَّتُه وقَلَّ عَديدُه ... ورمى القَضاء به فِراشَ مُناذِرِ )
( عبدَ الصُّبيْرِيِّين لم تَكُ شاعِراً ... كيف ادَّعيتَ اليومَ نِسْبَة شاعِرِ )
فشاع هذان البيتان بالبصرة ورواهما أعداؤه وجعلوا يتناشدونهما إذا رأوه فخرج من البصرة إلى مكة وجاور بها فكان هذا سبب هربه من البصرة
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن أبي حاتم قال
قال ابن مناذر ما مر بي شيء قط أشد علي مما مر بي من قول أبي العسعاس في
( كَثُرت أُبوَّتُه وقَلَّ عَديدُه ... وَرَمى القَضاءُ به فِراشَ مُناذِرِ )

انظر بكم صنف قد هجاني في هذا البيت قبحه الله ثم منعني من مكافأته أنى لم أجد له نباهة فأغضها ولا شرفا فأهدمه ولا قدرا فأضعه
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني بشر بن دحية الزيادي أبو معاوية قال
سمعت ابن مناذر يقول إن الشعر ليسهل علي حتى لو شئت ألا أتكلم إلا بشعر لفعلت
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون طايع قال حدثني بعض أصحابنا قال
رأيت ابن مناذر بمكة وهو يتوكأ على رجل يمشي معه وينشد
( إذا ما كِدْتُ أشْكُوها ... إلى قَلْبِي لها شَفَعَا )
( ففرَّق بيننا دَهْرٌ ... يُفرِّقُ بين ما اجْتَمَعا )
فقلت إن هذا لا يشبه شعرك فقال إن شعري برد بعدك
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أبو أيوب المديني قال
حدثنا بعض أصحابنا أن محمد بن عبد الوهاب الثقفي تزوج امرأة من ثقيف يقال لها عمارة وكان ابن مناذر يعاديه فقال في ذلك
( لمّا رأيتُ القَصْفَ والشَّارَهْ ... والبَزَّ قد ضاقَتْ به الحارَهْ )
( والآسَ والرّيحان يُرْمَى بهِ ... من فَوْقِ ذِي الدَّارَةِ والدَّارَه )
( قُلتُ لمَنْ ذا قِيلَ أعجوبةٌ ... مُحمَّدٌ زُوِّج عَمّارَهْ )
( لا عَمَّر اللهُ بها رَبْعَه ... فإنّ عَمَّارة بَدْ كاَره )

( وَيْحَك فرِّي واعصُبِي فاكِ لي ... فهذه أُختُكِ فَرَّارَهْ )
قال فوالله ما لبثت عنده إلا مديدة حتى هربت وكانت لها أخت قبلها متزوجة إلى بعض أهل البصرة ففركته وهربت منه فكانوا يعجبون من موافقة فعلها قول ابن مناذر
قال أبو أيوب وحدثت أن أبا امية واسمه خالد - وهو الذي يقول فيه أبو نواس
( أيها المُقْبِلان من حَكَمان ... كيف خَلَّفْتُما أبا عُثْمان )
( وأبا أُمَيَّة المُهَذَّب والمَاجِد ... والمُرتَجَى لرَيْبِ الزّمانِ )
- كان خطب امرأة من ثقيف ثم من ولد عثمان بن أبي العاصي فرد عنها وتصدى للقاضي أن يضمنه مالا من اموال اليتامى فلم يجبه إلى ذلك ولم يثق به فقال فيه ابن مناذر
( أبا أُميَّة لا تَغْضَبْ عليَّ فَما ... جَزاءُ ما كان فيما بيننا الغَضبُ )
( إن كان رَدَّك قومٌ عن فَتاتِهمُ ... ففي كَثير من الخُطّاب قد رَغِبُوا )
( قالوا عَلَيْك دُيورٌ ما تَقومُ بها ... في كلّ عام بها تُسْتَحْدَثُ الكُتُبُ )
( وقد تَقَحَّم من خَمْسِينَ غايَتُها ... معْ أنه ذو عيال بَعْدَ ما انْشَعَبُوا )
( وفي الَّتي فَعَل القاضي فلا تَجدَنْ ... فلَيْس في تلك لي ذَنْبٌ ولا ذَنَبُ )

( أردتَ أموالَ أيتام تُضَمِّنُها ... وما يُضَمِّنُ إلاَّ مَنْ له نَشَبُ )

نماذج من شعره في الرثاء والهجاء والمدح
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال سمعت إبراهيم بن المنذر الخزامي يقول
بلغ ابن مناذر عن ابن دأب قول قبيح قال فدعاني وقال اكتب
( فمن يَبْغِ الوَصاةَ فإنَّ عِنْدي ... وَصاةً للكُهولِ ولِلشَّبابِ )
( خُذُوا عنْ ماِلكٍ وعن ابْنِ عَوْنٍ ... ولا تَرْوُوا أحادِيثَ ابنِ دابِ )
( ترى الغاوِين يَتَّبعون منها ... ملاهِيَ من احادِيثٍ كِذابِ )
( إذا التُمِسَت مَنافِعُها اضمَحَلَّتْ ... كما يَرْفَضُّ رَقْراقُ السَّحابِ )
قال فرويت وافتضح بها ابن دأب قال الحزامي فلما قدمت العراق وجدتهم قد جعلوها
( خُذُوا عن يُونُسٍ وعَنِ ابن عَوْن ... )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا أبو حاتم قال
كان الرشيد قد وصل ابن مناذر مرات صلات سنية فلما مات الرشيد رثاه ابن مناذر فقال
( مَنْ كان يَبكِي للعُلا ... مَلِكاً وللهِمَمِ الشَّرِيفَهْ )

( فليَبْكِ هارونَ الخَلِيفةَ ... للخَلِيفَة والخَلِيفَة )
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلام قال
كان محمد بن طليق وسائر بني طليق أصدقاء لابن مناذر فلما ولي المهدي الخلافة استقضى خالد بن طليق وعزل عبيد الله بن الحسن بن الحر فقال ابن مناذر يهجو خالدا مجونا وخبثا منه
( أصبح الحاكمُ يا للناسِ ... من آلِ طَلِيقِ )
( جالِسَاً يَحْكُم في النّا ... سِ بِحُكْمِ الجاثَلِيقِ )
( يدع القَصْدَ ويَهْوِي ... في بُنَيَّاتِ الطَّرِيق )
( يا أَبَا الهَيْثَمِ ما كنتَ ... لهذا بخَليقِ )
( لا ولا كنتَ لما حُمِّلتَ ... منه بمُطيِق )
( حَبْلُه حَبْلُ غرورٍ ... عنده غيرُ وَثِيقِ )
قال ابن سلام فقلت لابن مناذر ويحك إذا بلغ إخوانك وأصدقاءك من آل طليق أنك هجوتهم ما يقولون لك وبأي شيء تعتذر إليهم فقال لا يصدقون إذا بلغهم أني هجوتهم بذلك لأنهم يثقون بي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسن بن عليل عن مسعود بن بشر قال حدثنا محمد بن مناذر قال
كنت بمكة فاشتكيت فلم يعدني من قريش إلا بنو مخزوم وحدهم فقلت أمدحهم

( جاءت قُريشٌ تعودُنِي زُمَراً ... فقد وَعَى أجرَها لها الحَفَظَهْ )
( ولم تَعُدْنِي تَيْمٌ وإخوتُها ... وزارَنِي الغُرُّ من بني يقَظَهْ )
( لن يَبْرَحَ العِزُّ منهمُ أبداً ... حتى تَزُولَ الجِبالُ من قُرَظَهْ )
أخبرني الحسن عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النخعي قال
كنا عند ابن عائشة فقال لعبد الرحمن ابنه أنشدني مرثية ابن مناذر عبد المجيد فجعل ينشدها فكلما أتى على بيت استحسنه حتى أتى على هذا البيت
( لأَقِيمَنَّ مَأْتماً كَنُجومِ اللَّيْل ... زُهْراً يَخْمِشْنَ حُرَّ الخُدودِ )
فقال ابن عائشة هذا كلام لين كأنه من كلام المخنثين فلما أتى على هذا البيت
( كُنتَ لي عِصْمةً وكُنتَ سماءً ... بك تَحْيا أرضِي ويَخْضرُّ عُودِي )
فقال هذا بيتها ثم أنشد
( إنَّ عبدَ المَجِيد يوم تَولَّى ... هَدَّ رُكْناً ما كان بالمَهْدُودِ )
( ما دَرَى نَعشُه ولا حامِلُوه ... ما على النَّعشِ من عفَافٍ وجُودِ )
( وَأُرانا كالزَّرع يَحصُدُنا الدَّهْر ... فمِن بَيْن قائمٍ وحَصيدِ )
فقال ابن عائشة أحصلنا زرعا يحصدنا الله فليس هذا من كلام المسلمين ألا ترى إلى قوله إنه يقول
( يَحكُم الله ما يشاءَ فَيُمْضِي ... ليس حُكم الإِله بالمَرْدُودِ )
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى ولم يتجاوزه بالإسناد

ونسخت هذا الخبر من كتاب ابن أبي مريم الحاسب حدثني ابن القداح وعبد الله بن إبراهيم بن قدامة الجمحي قالا حدثنا ابن مناذر قال
حج الرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة وحج معه الفضل بن الربيع وكنت مضيقا مملقا فهيأت فيه قولا أجدت تنميقه وتنوقت فيه فدخلت إليه في يوم التروية وإذا هو يسأل عني ويطلبني فبدرني الفضل بن الربيع قبل أن أتكلم فقال يا أمير المؤمنين هذا شاعر البرامكة وما دحهم وقد كان البشر ظهر لي في وجهه لما دخلت فتنكر وعبس في وجهي فقال الفضل مره يا أمير المؤمنين أن ينشدك قوله فيهم
( أتانا بَنُو الأَملاك من آلِ بَرْمك ... )
فقال لي أنشد فأبيت فتوعدني واكرهني فأنشدته
( أتانَا بَنُو الأملاكِ من آلِ بَرْمَكٍ ... فيا طِيبَ أخبارٍ ويا حُسْن مَنْظرِ )
( إذا ورَدوا بطحاءَ مكةَ أشرقت ... بيَحْيَى وبالفضل بن يحيى وجَعْفَرِ )
( فتُظلم بَغدادٌ ويَجْلُو لنا الدُّجى ... بمكّةَ ما حجّوا ثلاثةُ أقْمُرِ )
( فما صلَحت إلا لِجُودٍ أكُفُّهم ... وأرجلُهم إلا لأعوادِ مِنْبَرِ )
( إذا راضَ يحيى الأمرَ ذَلَّتْ صِعَابُه ... وحَسْبُكَ مِنْ رَاعٍ له ومُدَبِّر )
( ترى الناسَ إجلالاً له وكأنَّهم ... غرانِيقُ ماءٍ تحت بازٍ مُصَرْصَرِ )

ثم أتبعت ذلك بأن قلت كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم وفي طاعتك لم يلحقهم سخطك ولم تحلل بهم نقمتك ولم أكن في ذلك مبتدعا ولا خلا أحد من نظرائي من مدحهم وكانوا قوما قد أظلني فضلهم وأغناني رفدهم فأثنيت بما أولوا فقال يا غلام الطم وجهه فلطمت والله حتى سدرت وأظلم ما كان بيني وبين أهل المجلس ثم قال اسحبوه على وجهه ثم قال والله لأحرمنك ولا تركت أحدا يعطيك شيئا في هذا العام فسحبت حتى أخرجت وانصرفت وأنا أسوأ الناس حالا في نفسي وحالي وما جرى علي ولا والله ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعيدهم فإذا بشاب قد وقف علي ثم قال أعزز علي والله يا كبيرنا بما جرى عليك ودفع إلي صرة وقال تبلغ بما في هذه فظننتها دراهم فإذا هي مائة دينار - قال الصولي في خبره فإذا هي ثلاثمائة دينار - فقلت له من أنت جعلني الله فداءك قال أنا أخوك أبو نواس فاستعن بهذه الدنانير واعذرني فقبلتها وقلت وصلك الله يا أخي وأحسن جزاءك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا يحيى بن الحسن الربيعي قال حدثنا أبو معاوية الغلابي قال قال سفيان بن عيينة
كلمني ابن مناذر في أن أكلم له جعفر بن يحيى فكلمته له وقد كان ابن مناذر ترك الشعر فقال إن أحب أن يعود إلى الشعر أعطيته خمسين ألفا وإن أحب أن أعطيه على القراءة أعطيته عشرة آلاف فذكرت ذلك له فقال لي خذ لي على القراءة فإني لا آخذ على الشعر وقد تركته
أخبرني عمي عن الكراني عن الرياشي قال قال العتبي
جاءت قصيدة لا يدرى من قائلها فقال ابن مناذر
( هَذِه الدَّهماءُ تَجرِي فِيكُم ... أُرْسِلَتْ عَمْداً تَجُرُّ الرَّسَنَا )

قال الكراني وحدثني الرياشي قال سمعت خلف بن خليفة يقول
قال لي ابن مناذر قال لي جعفر بن يحيى قل في وفي الرشيد شعرا تصف فيه الألفة بيننا فقلت
( قد تُقطَع الرَّحِمُ القريبُ وتُكفَر ... النُّعمَى ولا كَتَقارُب القَلْبينِ )
( يُدْنِي الهَوَى هذا ويُدْنِي ذَا الهَوَى ... فإذا هُما نَفْسٌ تُرَى نَفْسَيْنِ )
قال مؤلف هذا الكتاب هذا أخذه من كلام رسول الله نقلا فإن ابن عيينة روى عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أن النبي قال ( إن الرحم تقطع وإن النعم تكفر ولن ترى مثل تقارب القلوب )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا العباس بن ميمون قال حدثنا سليمان الشاذكوني قال
كنا عند سفيان بن عيينة فحدث عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز و جل ( قالوا سلاما ) قالوا سدادا قال فقال ابن مناذر وهو إلى جنبي التنزيل أبين من التفسير

ابن مناذر وخبره مع أبي حية النميري
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن أبي حاتم عن العتبي عن أبي معبد قال

مر بنا أبو حية النميري ونحن عند ابن مناذر فقال لنا علام اجتمعتم فقلنا هذا شاعر المصر فقال له أنشدني فأنشده ابن مناذر فلما فرغ قال له أبو حية
ألم أقل لك أنشدني فقالوا له أنشدنا أنت يا أبا حية فأنشدهم قوله
( ألا حَيِّ من أجْل الحَبيبِ المَغانِيا ... لَبِسْن البِلَى ممّا لَبِسْنَ اللَّيالِيا )
( إذا ما تَقَاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌ ... تَقاضاه شيء لا يَملَّ التَّقَاضِيَا )
فلما فرغ قال له ابن مناذر ما أرى في شعرك شيئا يستحسن فقال له ما في شعري شيء يعاب إلا استماعك إياه فكادا أن يتواثبا ثم افترقا
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن ابن عائشة قال
ولي خالد بن طليق القضاء بالبصرة وعيسى بن سليمان الإمارة بها فقال محمد بن مناذر يهجوهما بقوله
( الحمدُ لله على ما أرى ... خالدٌ القاضي وعيسَى أمير )
( لكنّ عيسَى نوكُه ساعة ... ونوكُ هذا مَنْجَنُونٌ يدُور )
وقال في شيرويه الزيادي وشيرويه لقب واسمه أحمد وسأله حاجة فأبى أن يقضيها إلا على أن يمدحه

( يا سَمِيَّ النَّبِيِّ بالعَربِيَّهْ ... وسَمِيَّ اللّيُوثِ بالفارِسيَّهْ )
( إن غَضِبْنَا فأنت عَبدُ ثَقِيفٍ ... أو رَضِينا فأنتَ عبدُ أُمَيَّهْ )
فغضب شيرويه وجعل يشتمه وشاع الشعر بالبصرة فكان بعد ذلك إذا قيل لشيرويه ابن مناذر عليك غضبان أو عنك راض يشتم من يقول له ذلك
أخبرني الحسن بن القاسم الكوكبي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال سمعت محمد بن قدامة الجوهري يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول لمحمد بن مناذر كأنك بي قد مت فرثيتني فلما مات قال ابن مناذر يرثيه
( إنّ الذي غُودِر بالمُنْحَنى ... هَدّ من الإسلام أركانا )
( راحوا بسُفيانَ على نَعْشِه ... والعِلم مَكسُوَّيْنِ أكفانا )
( لا يُبعِدَنْك اللهُ من هالِكٍ ... وَرَّثَتنا عِلْماً وأحزانا )
أخبرنا عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن مروان بن معاوية الفزاري قال حدثنا سفيان قال
سمعت أعرابية تقول من يشتري مني الحزاة فقلت لها وما الحزاة قالت تشتريها النساء للطشة والخافية والإقلات قال عبد الله بن مروان فسألت ابن مناذر عن تفسير ذلك فقال الطشة وجع يصيب الصبيان في رؤوسهم كالزكام والخافية ما خفي من العلل المنسوبة إلى أذى الجن والإقلات قلة الولد وأنشدني ابن مناذر بعقب ذلك
( بُغاثُ الطَّيْر أكثرُها فِراخاً ... وأُمُّ الصَّقْرِ مِقْلاَتٌ نَزُورُ )
أي قليلة الفراخ
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم قال
سمعت محمد بن مناذر يقول العذراء البتول والبتور والبتيل واحد

وهي المنقطعة إلى ربها
قال وسأله - يعني ابن مناذر - أبو هريرة الصيرفي بحضرتي فقال كيف تقول أما لا أو إمالا فقال له مستهزئا به أمالا ثم التفت إلي فقال أسمعت أعجب من هذه المسألة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني العباس بن الفضل الربعي قال حدثنا التوزي قال
سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ما كانت العرب تسميه قال ليس عندي من ذلك علم فلقيت ابن مناذر بمكة فأخبرته بذلك فعجب وقال أيسقط هذا عن مثل أبي عبيدة هي أربعة أيام متواليات كلها على الراء أولها يوم النحر والثاني يوم القر والثالث يوم النفر والرابع يوم الصدر فحدثته - يعني أبا عبيدة - فكتبه عن ابن مناذر وقد روى ابن مناذر الحديث المسند ونقله عنه المحدثون

بعض روايات له
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا الخليل بن أسد عن محمد بن مسعدة الدراع أبي الجهجاه قال
حدثني محمد بن مناذر الشاعر قال حدثني سفيان الثوري عن الأغر عن وهب بن منبه قال كان يقال الحياء من الإيمان والمذى مكسور الميم مقصور من النفاق فقلت إن الناس يقولون المذاء فقال هو كما أخبرتك فقلت له وما المذا قال اللين في أمر النساء ومنه درع ماذي وعسل ماذي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني

إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال حدثني حامد بن يحيى البلخي قال
حدثني محمد بن مناذر الشاعر قال حدثني يحيى بن عبد الله بن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال لما نظر رسول الله يوم بدر إلى القتلى وهم مصرعون قال لأبي بكر لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأماثل يعني قول أبي طالب
( كذبتُم وبَيْتِ الله إن جَدَّ ما أرى ... لتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثِلِ )
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال
حدثنا ابن مناذر حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال علي عليه السلام ما قام بي من النساء إلا الحارقة أسماء قال ابن مناذر الحارقة التي تجامع على جنب
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن العباس بن عبد الواحد عن محمد بن عمرو عن محمد بن مناذر عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة قال جاء الشيطان إلى عيسى قال ألست تزعم أنك صادق قال بلى قال فأوف على هذه الشاهقة فألق نفسك منها فقال ويلك ألم يقل الله يا بن آدم لا تبلني بهلاكك فإني أفعل ما أشاء
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال
نظر محمد بن مناذر إلى غلام حسن الوجه في مسجد البصرة فكتب إليه بهذه الأبيات
( وجدتُ في الآثارِ في بَعْض ما ... حدَثنا الأشياخُ في المُسْنَدِ )
( مِمّا رَوَى الأعمَشُ عن جابرٍ ... وعامِر الشَّعبي والأَسودِ )

( وما روى شُعْبةُ عن عاصمٍ ... وقاله حَمّاد عن فَرْقَدِ )
( وصيَّةً جاءت إلى كل ذي ... خدٍّ خَلا من شَعْرٍ أسودِ )
( أن يقْبَلُوا الرّاغب في وَصْلِهم ... فاقبَلْ فإني فيك لم أزْهَدِ )
( نَوِّلْ فكَمْ من جمْرَةٍ ضَمَّها ... قَلْبِي من حُبَّيك لم تبْرُدِ )
فلما قرأها الفتى ضحك وقلب الرقعة وكتب في ظهرها لست شاعرا فأجيبك ولا فاتكا فأساعدك وأنا أعوذ بالله ربك من شرك
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الله العبدي قال حدثنا علي بن المبارك الأحمر قال
لقي أبو العتاهية ابن مناذر بمكة فجعل يمازحه ويضاحكه ثم دخل على الرشيد فقال يا أمير المؤمنين هذا ابن مناذر شاعر البصرة يقول قصيدة في سنة وأنا أقول في سنة مائتي قصيدة فقال الرشيد أدخله إلي فأدخله إليه وقدر أنه يضعه عنده فدخل فسلم ودعا فقال ما هذا الذي يحكيه عنك أبو العتاهية فقال ابن مناذر وما ذاك يا أمير المؤمنين قال زعم أنك تقول قصيدة في سنة وأنه يقول كذا وكذا قصيدة في السنة فقال يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول
( ألا يا عُتْبَة السَّاعةْ ... أموتُ السَّاعةَ السَّاعةْ )
لقلت منه كثيرا ولكني الذي أقول
( إنَّ عبدَ المَجِيدِ يوم تَولَّى ... هَدَّ رُكْناً ما كان بالمَهْدُودِ )
( ما دَرَى نَعْشُه ولا حامِلُوه ... ما عَلَى النَّعْشِ مِنْ عَفافٍ وجُودِ )
فقال له الرشيد هاتها فأنشدنيها فأنشده فقال الرشيد ما كان ينبغي

أن تكون هذه القصيدة إلا في خليفة أو ولي عهد ما لها عيب إلا أنك قلتها في سوقة وأمر له بعشرة آلاف درهم فكاد أبو العتاهية يموت غما وأسفا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال
سألت يحيى بن معين عن محمد بن مناذر الشاعر فقال لم يكن بثقة ولا مأمون رجل سوء نفي من البصرة ووصفه بالمجنون والخلاعة فقلت إنما تكتب شعره وحكايات عن الخليل بن أحمد فقال هذا نعم وأما الحديث فلست أراه موضعا له

خبر وفاته
أخبرني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال
رأيت ابن مناذر في الحج سنة ثمان وتسعين ومائة قد كف بصره وتقوده جويرية حرة وهو واقف يشتري ماء قربة فرأيته وسخ الثوب والبدن فلما صرنا إلى البصرة أتتنا وفاته في تلك الأيام
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا خلاد الأرقط قال
تذاكرنا ابن مناذر في حلقة يونس فقدح فيه أكثر أهل الحلقة حتى نسبوه إلى الزندقة فلما صرت في السقيفة التي في مقدم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة فدنوت فإذا ابن مناذر قائم يصلي فرجعت إلى الحلقة فقلت لأهلها قلتم في الرجل ما قلتم وها هو ذا قائم يصلي حيث لا يراه إلا الله عز و جل
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البرقي قال حدثنا أحمد بن يعقوب قال حدثني أحمد بن يحيى

الهذلي التمار عن عبد الله بن عبد الصمد الضبي قال
كنا يوما جلوسا في حلقة هبيرة بن جرير الضبي إذ أقبل محمد بن مناذر في برد قد كسته إياه بانة بنت أبي العاصي فسلم علي وحدي ولم يعرف منهم أحدا ثم قام فجلس إلى أبي خيرة فخاطبه مخاطبة خفيفة وقام مغضبا فقال لي هبيرة من هذا فقلت محمد بن مناذر فقال إنا لله قوموا بنا فقام إلى أبي خيرة فقال له ماذا قال لك ابن مناذر قال سألني عن شيء وكنت مشغولا عنه فقال يا أبا خيرة إن العشائر تغبطنا لعلمك وما جعل الله عندك فنشدناك الله أن تكون لنا كما كان عرادة لبني نمير فإنه تعرض لجرير فهجاه فعمهم فقال
( عَرادَةُ من بَقيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ... ألاَ تَبّاً لِمَا فَعَلوا تَبابا )
أتدري من كان عندك آنفا قال لا قال ابن مناذر وما تعرض لأعراض قوم قط إلا هتكها وهتكهم فإذا جاءك يسألك عن شيء فأجبه ولا تعتل عليه بالبول ولا تطلب منه شيئا وكل ما أردت من جهته ففي مالي قال أفعل قال وكان أبوه خيرة إذا سأله إنسان عن شيء ولم يعطه شيئا يعتل عليه بالبول فما شعرنا من غد إلا بابن مناذر وقد أقبل فعلمنا أنه قصد أبا خيرة فأتيناه فلما رأى جمعنا استحيا منا وسلم علينا وتبسم ثم قال يا أبا خيرة قد قلت شعرا وقبيح بمثلي أن يسأل عنه فلا يدري ما فيه وإني ذكرت فيه إنسانا فشبهته بالأفار فأي شيء هو فاحمر وجه أبي خيرة واضطرب وقال هو التيس الوثاب الذي ينزو وقضيبه رخو فلا يصل فقال جزيت خيرا ووثب وهو يضحك فقمنا إليه وقلنا قد علمنا أنك عنيت هذا الشيخ فإن رأيت أن تهبه لنا فافعل فإنه شيخنا قال والله ما عنيت غيره وقد وهبته لكم وكرامة والله لا يسمع مني أحد ما قلت فيه ولا أذكره إلا بخير أبدا وإن كان قد أساء العشرة أمس

صوت
( لا زلتَ تَنشُرُ أعياداً وتَطْوِيها ... تمضي بها لَكَ أَيَّامٌ وتُمْضِيها )
( ولا تَقضَّت بك الدنيا ولا بَرِحَتْ ... تَطْوِي لك الدهرَ أياماً وتُفْنِيها )
الشعر لأشجع السلمي والغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وفيه لمحمد قريض لحن من الثقيل الأول وهو من مشهور غنائه ومختاره

نسب أشجع وأخباره
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن الفضل السلمي قال
كان أشجع بن عمرو السلمي يكنى أبا الوليد من ولد الشريد بن مطرود السلمي تزوج أبوه امرأة من أهل اليمامة فشخص معها إلى بلدها فولدت له هناك أشجع ونشأ باليمامة ثم مات أبوه فقدمت به أمه البصرة تطلب ميراث أبيه وكان له هناك مال فماتت بها وربي أشجع ونشأ بالبصرة فكان من لا يعرفه يدفع نسبه ثم كبر وقال الشعر وأجاد وعد في الفحول وكان الشعر يومئذ في ربيعة واليمن ولم يكن لقيس شاعر معدود فلما نجم أشجع وقال الشعر افتخرت به قيس وأثبتت نسبه وكان له أخوان أحمد وحريث ابنا عمرو وكان أحمد شاعرا ولم يكن يقارب أشجع ولم يكن لحريث شعر ثم خرج أشجع إلى الرقة والرشيد بها فنزل على بني سليم فتقبلوه وأكرموه ومدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصة وأصفاه مدحه فأعجب به ووصله إلى الرشيد ومدحه فأعجب به أيضا فأثرى وحسنت حاله في أيامه وتقدم عنده
أخباره مع الرشيد
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني

صخر بن أسد السلمي قال حدثني أبي أسد بن جديلة قال حدثني أشجع السلمي قال شخصت من البصرة إلى الرقة فوجدت الرشيد غازياً ونالتني خَلَّة فخرجت حتى لقيته منصرفا من الغزو وكنت قد اتصلت ببعض أهل داره فصاح صائح ببابه من كان ها هنا من الشعراء فليحضر يوم الخميس فحضرنا سبعة وأنا ثامنهم وأمرنا بالبكور في يوم الجمعة فبكرنا وأدخلنا وقدم واحد منا ينشد على الأسنان وكنت أحدث القوم سنا وأرثهم حالا فما بلغ إلي حتى كادت الصلاة أن تجب فقدمت والرشيد على كرسي وأصحاب الأعمدة بين يديه سماطان فقال لي أنشدني فخفت أن أبتدىء من أول قصيدتي بالتشبيب فتجب الصلاة ويفوتني ما أردت فتركت التشبيب وأنشدته من موضع المديح في قصيدتي التي أولها
( تذكَّر عهدَ البِيضِ وَهْو لها تِرْبُ ... وأيَّامُ يُصبي الغَانياتِ ولا يَصْبُو )
فابتدأت قولي في المديح
( إلى مَلِك يَستغْرِقُ المالَ جُودُه ... مكارِمُه نَثْر ومَعْروفُه سَكْبُ )
( وما زالَ هارونُ الرِّضا بنُ مُحمَّد ... له من مياهِ النَّصْر مَشْرَبُها العَذْبُ )
( متى تَبلُغ العِيسُ المَراسيلُ بابَه ... بنا فهناك الرُّحبُ والمنزلُ الرَّحْبُ )
( لقد جُمِعت فيكَ الظُّنون ولم يكن ... بغيرك ظَنٌّ يسترِيح له القَلْبُ )
( جَمعتَ ذَوِي الأهواء حتى كأنَّهُم ... على مَنهجٍ بَعْد افتراقِهم رَكْبُ )
( بَثَثْتَ على الأعداء أبناءَ دُرْبةٍ ... فلم يَقِهم منهم حُصونٌ ولا دَرْبُ )

( وما زلتَ تَرْمِيهم بهم مُتَفَرّداً ... أنِيسَاك حَزْمُ الرَّأيِ والصَّارمُ العضب )
( جَهَدْتُ فلم أبلغ عُلاكَ بِمدْحَةٍ ... وليس على مَنْ كان مُجتهِداً عَتْبُ )
فضحك الرشيد وقال لي خفت أن يفوت وقت الصلاة فينقطع المديح عليك فبدأت به وتركت التشبيب وأمرني بأن أنشده التشبيب فأنشدته إياه فأمر لكل واحد من الشعراء بعشرة آلاف درهم وأمر لي بضعفها
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن سيار الجرجاني وكان راوية شاعرا مداحا ليزيد بن مزيد قال
دخلت أنا وأشجع والتيمي وابن رزين الخراساني على الرشيد في قصر له بالرقة وكان قد ضرب أعناق قوم في تلك الساعة فجعلنا نتخلل الدماء حتى وصلنا إليه فأنشده أبو محمد التيمي قصيدة له يذكر فيها نقفور ووقعته ببلاد الروم فنثر عليه مثل الدر من جودة شعره وأنشده أشجع قوله
( قَصْرٌ عليه تَحِيَّةٌ وسَلامُ ... ألقَتْ عليه جَمالَها الأيَّامُ )
( قَصُرتْ سُقوفُ المزن دُون سُقُوفِه ... فيه لأعلام الهُدَى أعلامُ )
( تُثنِي على أيَّامِك الأيَّامُ ... والشاهِدانِ الحِلُّ والإِحْرامُ )
( أدنتك من ظل النبي وصيّة ... وقرابةٌ وشَجَت بها الأرحام )
( برقت سماؤك في العدو وأمطرت ... هاماً لها ظلّ السيوف غمام )
( وإذا سيوفك صافحت هام العِدَى ... طارت لهن عن الرؤوس الهامُ )

( وعلى عَدُوِّك يابْن عَمِّ مُحمَّد ... رَصَدانِ ضوءُ الصُّبْح والإِظَلامُ )
( فإذا تَنَبَّه رُعْتَه وإذا غَفَا ... سَلَّت عليه سيُوفَك الأحْلامُ )
وأنشدته أنا قولي
( زَمَنٌ بأعْلى الرَّقْمَتَيْن قَصِير ... )
حتى انتهيت إلى قولي
( لا تَبْعَدِ الأيَّامُ إذ وَرَقُ الصِّبا ... خَضِلٌ وإذ غَضُّ الشبابِ نضِيرُ )
فاستحسن هذا البيت ومضيت في القصيدة حتى أتممتها فوجه إلي الفضل بن الربيع أنفذ إلي قصيدتك فإني أريد أن أنشدها الجواري من استحسانه إياها
قال وركب الرشيد يوما قبة وسعيد بن سالم معه في القبة فقال أين محمد البيذق وكان رجلا حسن الصوت ينشد الشعر فيطرب بحسن صوته أشد من إطراب الغناء فحضر فقال أنشدني قصيدة الجرجاني فأنشده فقال الشعر في ربيعة سائر اليوم فقال له سعيد بن سالم يا أمير المؤمنين استنشده قصيدة أشجع بن عمرو فأبى فلم يزل به حتى أجاب إلى استماعها فلما أنشده هذين البيتين
( وعلى عَدُوِّك يابْن عَمّ مُحمَّد ... )
والذي بعده قال له سعيد بن سالم والله يا أمير المؤمنين لو خرس بعد هذين لكان أشعر الناس
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن

مهرويه قال حدثني أبي قال
بلغني أن أشجع لما أنشد الرشيد هذين البيتين
( وعلى عَدُوِّك يابْنَ عَمِّ مُحمَّد ... )
والذي بعده طرب الرشيد وكان متكئا فاستوى جالسا وقال أحسن والله هكذا تمدح الملوك
أخبرني أحمد بن إسحاق العسكري والحسن بن علي قالا حدثنا أحمد بن سعيد بن سالم الباهلي عن أبيه قال
كنت عند الرشيد فدخل إليه أشجع ومنصور النمري فأنشده أشجع قوله
( وعلى عَدُوِّك يابْن عَمِّ مُحمَّد ... رَصَدانِ ضوءُ الصُّبْح والإِظلامُ )
( فإذا تَنَبَّه رُعتَه وإذا غفَا ... سلَّت عليه سيُوفَك الأحْلامُ )
فاستحسن ذلك الرشيد وأومأت إلى أشجع أن يقطع الشعر وعلمت أنه لا يأتي بمثلهما فلم يفعل ولما أنشده ما بعدهما فتر الرشيد وضرب بمخصرة كانت بيده الأرض واستنشد منصورا النمري فأنشده قوله
( ما تنْقَضِي حَسْرةٌ مِنِّي ولا جَزَعُ ... إذا ذَكرتُ شباباً ليس يُرْتَجعُ )

فمر والله في قصيدة قل ما تقول العرب لها فجعل الرشيد يضرب بمخصرته الأرض ويقول الشعر في ربيعة سائر اليوم فلما خرجنا قلت لأشجع غمزتك أن تقطع فلم تفعل ويلك ولم تأت بشيء فهلا مت بعد البيتين أو خرست فكنت تكون أشعر الناس

أخباره مع جعفر بن يحيى
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني موسى بن عيسى قال
اشترى جعفر بن يحيى المرغاب من آل الرشيد بعشرين ألف ألف درهم ورده على أصحابه فقال أشجع السلمي يمدحه بذلك ويقول
( ردَّ السِّباخَ نَدَى يَدَيْه وأهلُها ... منها بمنزلة السِّماكِ الأعزَلِ )
( قد أيقَنُوا بذهابِها وهلاكِهم ... والدَّهرُ يُوعِدُهم بيَوْمٍ أعضَلِ )
( فافتكَّها لهُم وهم من دَهْرِهم ... بين الجِرانِ وبين حَدِّ الكَلْكَل )
( ما كان يُرجَى غَيرُه لفَكاكِها ... يُرجَى الكَرِيمُ لكل خَطْبٍ مُعضِلِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن محمد حران عن قدامة بن نوح قال
جلس جعفر بن يحيى بالصالحية يشرب على مستشرف له فجاءه

أعرابي من بني هلال فاشتكى واستماح بكلام فصيح ولفظ مثله يعطف المسؤول فقال له جعفر بن يحيى أتقول الشعر يا هلالي فقال قد كنت أقوله وأنا حدث أتملح به ثم تركته لما صرت شيخا قال فأنشدنا لشاعركم حميد بن ثور فانشده قوله
( لِمَنِ الدِّيارُ بجانب الحُمْسِ ... كمَحَطِّ ذي الحاجاتِ بالنّفْسِ )
حتى أتى على آخرها فاندفع أشجع فأنشده مديحا له فيه قاله لوقته على وزنها وقافيتها فقال
( ذهبَتْ مكارِمُ جَعْفَرٍ وفِعالُه ... في النّاس مِثْلَ مذاهب الشمْسِ )
( مَلك تسوسُ له المَعَالِي نفسُه ... والعقلُ خَيْرُ سياسةِ النّفْسِ )
( فإذا تراءتْه المُلوكُ تراجَعوا ... جَهْرَ الكلام بمَنْطِقٍ هَمْسِ )
( سادَ البرامِكَ جَعْفرٌ وهم الأُلى ... بعد الخلائف سادَةُ الإنْسِ )
( ما ضرَّ مَنْ قَصَدَ ابنَ يَحيى راغباً ... بالسّعْدِ حلَّ به أم النَّحسِ )
فقال له جعفر صف موضعنا هذا فقال
( قُصُورُ الصالِحيَّة كالعَذارَى ... لَبِسْنَ ثيابَهُنَّ ليَوْمِ عُرْسِ )

( مطلاّتٌ على بَطْنٍ كَسَتْه ... أيادي الماء وَشْياً نَسْجَ غَرْسِ )
( إذا ما الطّلُّ أثّر في ثَراه ... تَنفّس نَوْرُه من غير نَفْسِ )
( فتَغْبِقُه السَّماءُ بِصبْغِ وَرْسٍ ... وتُصْبحهُ بأكؤُس عَين شَمسٍ )
فقال جعفر للأعرابي كيف ترى صاحبنا يا هلالي فقال أرى خاطره طوع لسانه وبيان الناس تحت بيانه وقد جعلت له ما تصلني به قال بل نقرك يا أعرابي ونرضيه وأمر للأعرابي بمائة دينار ولأشجع بمائتين
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو دعامة قال حدثني أشجع السلمي قال
كنت ذات يوم في مجلس بعض إخواني أتحدث وأنشد إذ دخل عليهم أنس بن أبي شيخ النصري صاحب جعفر بن يحيى فقام له جميع القوم غيري ولم أعرفه فأقوم له فنظر إلي وقال من هذا الرجل قالوا أشجع السلمي الشاعر قال أنشدني بعض قولك فأنشدته فقال إنك لشاعر فما يمنعك من جعفر بن يحيى فقلت ومن لي بجعفر بن يحيى فقال أنا فقل أبياتا ولا تطل فإنه يمل الإطالة فقلت لست بصاحب إطالة فقلت أبياتا على نحو ما رسم لي وصرت إلى أنس فقال تقدمني إلى الباب فتقدمت فلم يلبث أن جاء فدخل وخرج أبو رمح الهمذاني حاجب جعفر بن يحيى فقال أشجع فقمت فقال ادخل فدخلت فاستنشدني فأنشدته أقول
( وتَرَى المُلوكَ إذا رَأيْتَهُمُ ... كُلٌّ بعيد الصَّوْت والجَرْس )
( فإذا بَدَا لَهُم ابنُ يَحْيى جعفرٌ ... رَجَعوا الكلاَمَ بمَنْطِقٍ هَمْسِ )
( ذَهَبَتْ مكارِمُ جَعْفرٍ وفِعالُه ... في النَّاسِ مِثْلَ مذاهِبِ الشَّمْسِ )

قال فأمر له بعشرة آلاف درهم قال وكان أشجع يحب الثياب وكان يكتري الخلعة كل يوم بدرهمين فيلبسها أياما ثم يكتري غيرها فيفعل بها مثل ذلك قال فابتعت أثوابا كثيرة بباب الكرخ فكسوت عيالي وعيال إخوتي حتى أنفقتها

أشجع والفضل بن يحيى
ثم لقيت المبارك مؤدب الفضل بن يحيى بعد أيام فقال لي أنشدني ما قلته في جعفر فأنشدته فقال ما يمنعك من الفضل فقلت ومن لي بالفضل فقال أنا لك به فأدخلني عليه فأنشدته
( وما قدَّم الفَضْلَ بنَ يَحيى مكانُه ... على غيرِه بل قدَّمَتْه المَكارِمُ )
( لقد أرهَبَ الأعداءَ حتى كأنما ... على كل ثَغْرٍ بالمَنِيَّةِ قائمُ )
فقال لي كم أعطاك جعفر فقلت عشرة آلاف درهم فقال أعطوه عشرين ألفا
أخبرني علي بن صالح قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال حدثني داود بن مهلهل قال
لما خرج جعفر بن يحيى ليصلح أمر الشام نزل في مضربه وأمر بإطعام الناس فقام أشجع فأنشده قوله
( فِئتان بَاغِيةٌ وطاغِيةٌ ... جلَّت أُمورُهما عن الخَطْبِ )
( قد جاءكُم بالخيل شازِبَةً ... ينقلن نحوكم رَحَى الحرْبِ )
( لم يَبْقَ إلا أن تَدُورَ بكم ... قد قام هاديها على القُطْبِ )
قال فأمر له بصلة ليست بالسنية وقال له دائم القليل خير من

منقطع الكثير فقال له ونزره أكثر من جزيل غيره فأمر له بمثلها قال وكان يجري عليه في كل جمعة مائة دينار مدة مقامه ببابه
أخبرني محمد بن النحوي صهر المبرد قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا إسحاق الموصلي قال
دخلت إلى الرشيد يوما وهو يخاطب جعفر بن يحيى بشيء لم أسمع ابتداءه وقد علا صوته فلما رآني مقبلا قال لجعفر بن يحيى أترضى بإسحاق قال جعفر والله ما في علمه مطعن إن أنصف فقال لي أي شيء تروي للشعراء المحدثين في الخمر أنشدني من أفضل ما عندك وأشده تقدما فعلمت أنهما كانا يتماريان في تقديم أبي نواس فعدلت عنه إلى غيره لئلا أخالف أحدهما فقلت لقد أحسن أشجع في قوله
( ولقد طَعنتُ الليلَ في أعجازِه ... بالكأْسِ بين غَطارفٍ كالأنْجُمِ )
( يَتَمايلُون على النعيم كأنّهُم ... قُضُبٌ من الهِنديّ لم تتثلّمِ )
( وسَعَى بها الظَّبيُ الغَرير يزيدُها ... طِيباً ويَغْشِمُها إذا لم تَغْشِمِ )
( والليلُ مُنْتَقِبٌ بفَضْل رِدائِه ... قد كاد يَحْسَر عن أغرٍّ أرثَمِ )
( فإذا أدارَتْها الأكفُّ رأيتَها ... تَثْنِي الفصيحَ إلى لسان الأعجمِ )
( وعلى بَنانِ مُديرها عِقْيانَةٌ ... من سَكْبها وعلى فضول المِعْصَمِ )
( تَغْلي إذا ما الشِّعْريانِ تَلَظّيا ... صيفا وتَسْكُن في قلوع المِرْزَم )
( ولقد فَضَضْناها بخاتَم رَبّها ... بِكْراً وليس البِكْرُ مثلَ الأَيِّمُ )
( ولها سُكونٌ في الإِناء وخلفَها ... شَغَبٌ يُطوِّحُ بالكَمِيّ المُعْلِمِ )

( تُعطي على الظّلم الفَتى بِقِيادِها ... قُسْراً وتَظلمه إذا لم يَظْلِمِ )
فقال لي الرشيد قد عرفت تعصبك على أبي نواس وإنك عدلت عنه متعمدا ولقد أحسن أشجع ولكنه لا يقول أبدا مثل قول أبي نواس
( يا شَقِيقَ النَّفس من حَكَم ... نِمْتَ عن لَيْلي ولم أَنَمِ )
فقلت له ما علمت ما كنت فيه يا أمير المؤمنين وإنما أنشدت ما حضرني فقال حسبك قد سمعت الجواب
قال الفضل وكان في إسحاق تعصب على أبي نواس لشيء جرى بينهما

شعر أشجع يطرب الواثق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
اصطبح الواثق في يوم مطير واتصل شربه وشربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى وهو معنا على حالنا فما حرك أحد منا عن مضجعه وخدم الخاصة يطوفون علينا ويتفقدوننا وبذلك أمرهم وقال
لا تحركوا أحدا عن موضعه فكان هو أول من أفاق منا فقام وأمر بإنباهنا فأنبهنا فقمنا فتوضأنا وأصلحنا من شأننا وجئت إليه وهو جالس وفي يده كأس وهو يروم شربها والخمار يمنعه فقال لي يا إسحاق أنشدني في هذا المعنى شيئا فأنشدته قول أشجع السلمي
( ولقد طعنت الليلَ في أعْجازه ... بالكأس بين غَطارِفٍ كالأنجُم )
( يتمايلُون على النَّعيم كأنَّهم ... قُضُبٌ من الهنديّ لم تَتَثلّمِ )
( وسَعَى بها الظَّبيُ الغَرِيرُ يَزيدُها ... طيباً ويَغْشِمُها إذا لم تُغْشِم )

( والليل مُنْتَقِب بفضل رِدائِه ... قد كان يُحَسر عن أغرٍّ أرْثَمِ )
( وإذا أدارتها الأكفُّ رأيتها ... تثْنِي الفَصِيحَ إلى لِسانِ الأعْجَمِ )
( وعلى بَنانِ مُديرها عِقْيانَةٌ ... من لونها وعلى فُضُولِ المِعْصَمِ )
( تَغَلي إذا ما الشِّعريانِ تَلَظّياً ... صيفا وتسكُن في طُلوع المِرْزَم )
( ولقد فَضَضْناها بخاتَم رَبِّها ... بِكْراً وليس البِكْرُ مثلَ الأيِّمِ )
( ولها سُكونٌ في الإِناء وخلفَها ... شَغَبٌ يُطوِّحُ بالكَمِيّ المُعْلمِ )
( تُعطِي على الظّلْمِ الفَتَى بِقِيادِها ... قَسْراً وتَظلمه إذا لم يَظْلِمِ )
فطرب وقال أحسن والله أشجع وأحسنت يا أبا محمد بحياتي فأعدتها وشرب كأسه وأمر لي بألف دينار
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو هفان قال
ذكر أبو دعامة أن أشجع دخل على الفضل بن الربيع وقد توفي ابنه العباس والناس يعزونه فعزاه فأحسن ثم استأذنه في إنشاد مرثية قالها فيه فأذن له فأنشده
( لا تبكِينَّ بعَيْن غير جائدةٍ ... وكلُّ ذِي حَزَنٍ يبكِي كما يجِدُ )
( أيُّ امريءٍ كان عباسٌ لنائبةٍ ... إذا تَقَنَّع دونَ الوالد الوَلَدُ )
( لم يُدنِه طمعٌ من دار مُخْزِيَةٍ ... ولم يَعِزّ له من نعمة بلَدُ )
( قد كنتُ ذا جَلَدٍ في كلّ نائبةٍ ... فبانَ منِّي عليك الصبرُ والجلَدُ )
( لمَّا تسامتْ بِك الآمالُ وابتهجت ... بك المروءةُ واعتدَّت بك العُدَدُ )
( ولم يكُن لِفَتًى في نفسه أملٌ ... إلا إليك به من أرضه يَفِدُ )
( وحين جئت أمام السّابقين ولم ... يبلل عِذارَك مِيْدانٌ ولا أمدُ )

( وافاكَ يومٌ على نَكْراء مشتمِلٌ ... لم يَنْجُ من مِثلِه عادٌ ولا لُبَدُ )
( فما تَكشّف إلا عن مُوَلْوِلَةٍ ... حَرَّى ومُكْتئبٍ أحشاؤُه تَقِدُ )
قال فبكى الفضل وبكى الناس معه وما انصرفوا يومئذ يتذاكرون غير أبيات أشجع
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال حدثني علي بن الجهم قال
دخل أشجع على الرشيد وقد مات ابن له والناس يعزونه فأنشده قوله
( نقْصٌ من الدين ومن أهله ... نقصُ المنايا من بني هاشمِ )
( قدّمته - فاصبِر على فقدِه - ... إلى أبِيه وأبي القاسمِ )
فقال الرشيد ما عزاني اليوم أحد أحسن من تعزية أشجع وأمر له بصلة
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا العنزي قال حدثني عبد الرحمن بن النعمان السلمي قال كنا بباب جعفر بن يحيى وهو عليل فقال لنا الحاجب إنه لا إذن عليه فكتب إليه أشجع
( لمَّا اشتَكَى جعفرُ بنُ يَحيى ... فارقَني النَّومُ والقَرارُ )
( ومَرَّ عَيشِي عليَّ حتى ... كأنّما طَعمُه المُرارُ )
( خوفاً على جعفر بن يَحيَى ... لا حُقِّقَ الخَوفُ والحِذارُ )
( إن يُعفِه الله لا نُحاذِرْ ... ما أحدثَ الليلُ والنهارُ )
قال فأوصل الحاجب رقعته ثم خرج فأمره بالوصول وحده وانصرف سائر الناس

أخبرني الحسن قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن الحسين عن عمرو بن علي أن أشجع السلمي كتب إلى الرشيد وقد أبطأ عنه شيء أمر له به
( أبلِغْ أميرَ المؤمنين رسالَةً ... لها عَنَقٌ بين الرُّواةِ فسيحُ )
( بأنّ لسانَ الشعرِ يُنْطِقُه النَّدى ... ويُخرِسه الإبطاءُ وهو فصيحُ )
فضحك الرشيد وقال له لن يخرس لسان شعرك وأمر له بتعجيل صلته

مدحه محمد بن منصور
أخبرني الحسن ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد وكان يقال لأبيه فتى العسكر قال
أقبل أشجع إلى باب أبي فرأى ازدحام الناس عليه فقال
( على بابِ ابنِ منصور ... علاماتٌ من البَذْلِ )
( جماعات وحسْب البابِ ... نُبْلاً كثرةُ الأهلِ )
فبلغ أبي بيتاه هذان فقال هما والله أحب مدائحه إلي
أخبرني عمي والحسن بن علي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال

لما ولى الرشيد جعفر بن يحيى خراسان جلس للناس فدخلوا عليه يهنئونه ثم دخل الشعراء فأنشدوه فقام أشجع آخرهم فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده قوله
( أتصبِرُ للبَيْن أم تجزَعُ ... فإنّ الدِّيارَ غداً بَلْقَعُ )
( غداً يتفرَّق أهلُ الهوى ... ويكثُر باكٍ ومُسْتَرجِعُ )
حتى انتهى إلى قوله
( ودَوِّيَةٍ بين أقطارِها ... مقاطيعُ أرضِينَ لا تُقْطعُ )
( تَجاوزْتُها فوق عَيْرانَةٍ ... من الريح في سَيرها أَسرعُ )
( إلى جعفرٍ نزعتْ رَغبةٌ ... وأيّ فَتىً نحوه تَنْزِعُ )
( فما دُونه لامرىءٍ مَطْمَعٌ ... ولا لامرىءٍ غيره مقنعُ )
( ولا يرفع الناسُ مَنْ حَطَّه ... ولا يَضَعُون الذي يَرفعُ )
( يُريدُ الملوكُ مَدى جعفرٍ ... ولا يَصنعُون كما يَصْنَعُ )
( وليس بأوْسَعِهم في الغِنَى ... ولكنَّ معروفه أوسعُ )
( تلوذُ الملوكُ بآرائه ... إذا نالها الحدَثُ الأفظعُ )
( بَدِيهَتهُ مِثلُ تَدْبيره ... متى رُمْتَه فهو مُسْتَجْمِعُ )
( وكم قائلٍ إذْ رأى ثَرْوَتي ... وما في فضول الغنى أصنعُ )
( غدَا في ظِلال نَدَى جعفرٍ ... يَجُرُّ ثِيابَ الغِنَى أشجعُ )
( فقُلْ لخراسانَ تحيا فقد ... أتاها ابنُ يحيى الفَتَى الأروعُ )
فأقبل عليه جعفر بن يحيى ضاحكا واستحسن شعره وجعل يخاطبه

مخاطبة الأخ أخاه ثم أمر له بألف دينار
قال ثم بدا للرشيد في ذلك التدبير فعزل جعفرا عن خراسان بعد أن أعطاه العهد والكتب وعقد له العقد وأمر ونهى فوجم لذلك جعفر فدخل عليه أشجع فأنشده يقول
( أمست خُراسانُ تُعزَّى بما ... أخْطأها من جعفرِ المُرْتَجَى )
( كان الرشيدُ المُعتَلَى أمرُه ... ولى عليها المُشرِقَ الأبلَجَا )
( ثم أراه رأيُه أنّه ... أمسَى إليه منهمُ أحْوَجا )
( فكمْ به الرَّحمنُ من كُربة ... في مُدَّةٍ تقصُر قد فَرّجا )
فضحك جعفر ثم قال لقد هونت علي العزل وقمت لأمير المؤمنين بالعذر فسلني ما شئت فقال قد كفاني جودك ذلة السؤال فأمر له بألف دينار آخر

مدحه محمد الأمين وهو طفل
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن أبي دعامة عن أشجع قال
دخلت على محمد الأمين حين أجلس مجلس الأدب للتعليم وهو ابن أربع سنين وكان يجلس فيه ساعة ثم يقوم فأنشدته
( ملكٌ أَبُوه وأُمُّه من نَبْعَةٍ ... منها سِراجُ الأُمَّةِ الوَهَّاجُ )
( شَرِبَتْ بمكة في رُبا بَطْحائها ... ماءَ النُّبوّة ليس فيه مِزاجُ )
يعني النبعة قال فأمرت له زبيدة بمائة ألف درهم قال ولم

يملك الخلافة أحد أبوه وأمه من بني هاشم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومحمد بن زبيدة
أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا المهزمي قال
لما ولى إبراهيم بن عثمان بن نهيك الشرطة دخل عليه أشجع فأنشده قوله فيه
( لِمَن المنازلُ مثلُ ظَهْر الأرقَمِ ... قَدُمت وعَهْدُ أَنِيسِها لم يَقْدُمِ )
( فَتَكَتْ بها سَنَتانَ تَعْتَوِرانِها ... بالمُعْصِفات وكلّ أَسْحَم مُرزِم )
( دِمَنٌ إذا استَثْبَتَّ عينك عهدَها ... كرَّت إليك بنَطْرَة المُتَوّهِّم )
( ولقد طعَنْتُ الليلَ في أعْجَازِه ... بالكأسِ بين غَطارفٍ كالأَنْجُمِ )
( يَتمايَلُون على النَّعيم كأنَّهم ... قُضُبٌ من الهِنْدِيّ لم تَتَثلَّمِ )
( والليلُ مُشْتَمِلٌ بفَضْلِ رِدائِه ... قد كاد يَحْسُر عن أغرٍّ أرثَمِ )
( لِبَني نُهَيكٍ طاعةٌ لو أنها ... زُحِمت جَونِبها ببَأْسٍ مُحْطِم )
( في سَيْف إبراهيمَ خوفٌ واقِعٌ ... لِذَوِي النِّفاقِ وفيه أمْنُ المُسْلِمِ )
( ويَبيتُ يكْلاُّ - والعُيونُ هواجِعٌ - ... مَالَ المُضِيع ومُهْجَةَ المُسْتَسْلِم )
( لَيلٌ يُواصِلُه بضَوْءِ نَهارِه ... يَقظانُ ليس يَذُوق نَوْمَ النُّوَّمِ )
( شَدَّ الخِطامَ بأنفِ كلّ مُخالِفٍ ... حتى استَقام له الذي لم يُخْطَمِ )

( لا يُصلِح السُّلطانَ إلا شِدَّةٌ ... تَغْشَى البَرِيءَ بفضل ذَنْب المُجْرِمِ )
( مَنَعَتْ مهابَتُك النفوسَ حَدِيثَها ... بالشيء تكرهه وإن لم تَعْلَمِ )
( ونهَجْتَ في سُبُل السِّياسة مَسْلَكاً ... ففهِمتَ مذهبَها الذي لم يُفْهَمِ )
فوصله وحمله وخلع عليه
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال
أعطى جعفر بن يحيى مروان بن أبي حفصة - وقد مدحه - ثلاثين ألف درهم وأعطى أبا البصير عشرين ألفا وأعطى أشجع - وقد أنشده معهما - ثلاثة آلاف درهم وكان ذلك في أول اتصاله به فكتب إليه أشجع يقول
( أعطيتَ مروانَ الثَّلاثِينَ ... التي دَلَّت رِعاثَهْ )
( وأبا البَصِيرِ وإنما ... أعطيتَني منهم ثلاثَهْ )
( ما خانَنِي حَوْكُ القريضِ ... ولا اتّهمتَ سِوَى الحداثهْ )
فأمر له بعشرين ألف درهم أخرى
حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال حدثني أبو هفان قال حدثني سعيد بن هريم وأبو دعامة قالا
كان انقطاع أشجع إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن

العباس فقال الرشيد للعباس يوما يا عم إن الشعراء قد أكثروا في مدح محمد بسببي وبسبب أم جعفر ولم يقل أحد منهم في المأمون شيئا وأنا أحب أن أقع على شاعر فطن ذكي يقول فيه فذكر العباس ذلك لأشجع وأمره أن يقول فيه فقال
( بَيْعَةُ المأمون آخِذَةٌ ... بِعِنان الحَقِّ في أُفُقِهْ )
( أُحكِمتْ مِرَّاتُها عُقداً ... تمنع المُخْتال في نَفَقِهْ )
( لن يفكّ المرءُ رِبْقَتَها ... أو يفكَّ الدِّين من عُنُقهْ )
( وله من وَجه والِدِه ... صُورةٌ تمَّت ومن خُلُقِهْ )
قال فأتى بها العباس الرشيد وأنشده إياها فاستحسنها وسأله لمن هي فقال هي لي فقال قد سررتني مرتين بإصابتك ما في نفسي وبأنها لك وما كان لك فهو لي وأمر له بثلاثين ألف دينار فدفع إلى أشجع منها خمسة آلاف درهم وأخذ باقيها لنفسه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال
وعد يحيى بن خالد أشجع السلمي وعدا فاخره عنه فقال له قوله
( رَأَيْتُكَ لا تَسْتَلِذُّ المِطالَ ... وتُوفِي إذا غَدَرَ الخائنُ )
( فماذا تُؤخِّر من حاجَتِي ... وأنتَ لتَعْجِيلها ضامنُ )
( ألَمْ تَرَ أنَّ احتباسَ النَّوالِ ... لمَعْرُوفِ صاحِبِه شائِنُ )
فلم يتعجل ما أراد فكتب إليه
( رُويدَكَ إنَّ عِزَّ الفَقْر أدنَى ... إليَّ من الثّراء مع الهَوانِ )

( وماذا تَبلُغُ الأيَّامُ مِنِّي ... برَيْبِ صُرُوفِها ومَعِي لِسانِي )
فبلغ قوله جعفرا فقال له ويلك يا أشجع هذا تهدد فلا تعد لمثله ثم كلم أباه فقضى حاجته فقال
( كَفانِي صُروفَ الدَّهْر يَحْيى بنُ خَالد ... فأصبَحْتُ لا أَرتاعُ للحَدَثانِ )
( كَفانِي - كفاه الله كُلَّ مُلِمَّةٍ - ... طِلابَ فُلانٍ مَرَّةً وفُلانِ )
( فأصبَحْتُ في رغْدٍ من العَيْش واسعٍ ... أُقلِّب فيه ناظِري ولِسانِي )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي عن ابن النطاح قال
ولى جعفر بن يحيى أشجع عملا فرفع إليه أهله رفائع كثيرة وتظلموا منه وشكوه فصرفه جعفر عنهم فلما رجع إليه من عمله مثل بين يديه ثم أنشأ يقول
( أمُفسِدةٌ سُعادُ عليَّ دِينيِ ... ولائِمَتي على طُولِ الحَنِينِ )
( وما تَدرِي سُعاد إذا تَخَلَّتْ ... من الأَشْجان كَيْفَ أَخُو الشُّجُونِ )
( تَنامُ ولا أَنامُ لِطُول حُزْنِي ... وأَيْنَ أَخُو السُّرور من الحَزِين )
( لقد راعَتْك عند قَطِين سُعْدَى ... رواحلُ غادِياتٌ بالقَطِين )
( كأنَّ دُموعَ عَيْني يوم بانوا ... عِيانا سَحُّ مُطّرِدٍ مَعِين )
( لقد هَزَّت سِنانَ القَوْلِ منِّي ... رِجالُ رَفِيعَةٍ لم يَعْرِفُونِي )
( همُ جازُوا حِجابَك يا بْنَ يَحْيَى ... فقالوا بالذي يَهْوَوْنَ دُونِي )
( أَطافُوا بي لديك وغِبتُ عنهم ... ولو أدْنَيْتَنِي لتَجَنَّبُونِي )

( وقد شهدتْ عُيونُهُم فمالَت ... عليَّ وغُيِّبَتْ عنهم عيُونِي )
( ولَمَّا أن كَتبْتُ بما أَرادُوا ... تَدَرّع كُلُّ ذي غَمْزٍ دَفين )
( كَففتُ عن المقاتل بادياتٍ ... وقد هَيَّأْتُ صَخْرةَ مَنْجَنُون )
( ولو أرسلتُها دَمَغَتْ رِجالاً ... وصالَت في الأخِشَّة والشُّؤُون )
( وكنت إذا هززتُ حُسامَ قَوْلٍ ... قطعت بحُجَتَّيِ عَلَق الوَتِينِ )
( لعلّ الدهر يُطلِق من لساني ... لهم يوماً ويَبْسط من يَمِيني )
( فأقضِيَ دَيْنَهم بوفاء قَوْلٍ ... وأثقلهم لصدقي بالديونِ )
( وقد علموا جَمِيعاً أنّ قَولِي ... قَرِيب حينَ اَدْعُوه يَجِيني )
( وكُنتُ إذا هَجَوتُ رَئِيسَ قَوْمٍ ... وَسَمْتُ على الذُّؤابة والجَبِين )
( بخطٍّ مثلِ حَرْقِ النّارِ باقٍ ... يلوح على الحَواجِب والعُيُون )
( أمائِلَةٌ بوُدِّك يابْنَ يَحْيَى ... رِجالاتٌ ذَوُو ضِغْن كَمِينِ )
( يَشِيمون السُّيوفَ إذا رَأوْني ... فإن ولَّيْتُ سُلَّت من جُفونِ )
( ولو كُشِفَت سرائِرُنا جَمِيعاً ... علمتَ مَن البَرِيءُ من الظَّنينِ )
( علامَ - وأنتَ تَعْلَم نُصْحَ جَنْبي ... وأَخْذِي منك بالسَّبَب المتينِ )

( وعَسْفِي كُلَّ مَهْمَهَةٍ خلاءٍ ... إليك بكل يَعْمَلَةٍ أَمُونِ )
( وإحْيائي الدُّجَى لك بالقَوافِي ... أُقِيم صُدُورَهُنّ على المُتونِ )
( تُقرِّب منك أَعْدائي وأُنْأَى ... ويجلسُ مَجْلِسي مَنْ لا يَلِيني )
( ولو عاتبت نَفْسكَ في مكاني ... إذاً لنَزلتُ عندك باليَمِينِ )
( ولَكِنَّ الشُّكُوكَ نَأَيْنَ عَنِّي ... بودّك والمَصِيرُ إلى اليقِين )
( فإن أنَصفْتَنِي أحرقتَ منهم ... بنُضْج الكَيِّ أَثْباجَ البطونِ )

اتصاله بجعفر بن المنصور
أخبرني محمد بن يحيى الصولي والحسن بن علي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن الفضل السلمي قال
أول ما نجم به أشجع أنه اتصل بجعفر بن المنصور وهو حدث وصله به أحمد بن يزيد السلمي وابنه عوف فقال أشجع في جعفر بن المنصور قوله
( اذُكروا حُرمَة العَواتِك مِنّا ... يا بني هاشمِ بن عبدِ منافِ )
( قد وَلَدْناكُم ثَلاثَ ولاداتٍ ... خَلَطْنَ الأشرافَ بالأشرافِ )
( مَهَّدَت هاشِماً نجومُ قُصَىٍّ ... وبنو فَالحٍ حجُور عَفافِ )
( إنّ أرماحَ بُهْثَةَ بنَ سُلَيْمٍ ... لعِجافِ الأطراف غيرُ عِجافِ )
( ولأسيافهم فِرىً غَيْرُ لَذٍّ ... راجِعٌ في مَراجِع الأكتافِ )
( معشَرٌ يُطْعِمُون من ذِرْوَة الشَّول ... ويَسْقون خَمْرَة الأَقْحاف )

( يَضرِبُون الجَبَّار في أخدَعَيْه ... ويُسَقُّونه نَقِيعَ الذُّعافِ )
فشاع شعره وبلغ البصرة ولم يزل أمره يتراقى إلى أن وصلته زبيدة بعد وفاة أبيها بزوجها هارون الرشيد فأسنى جوائزه وألحقه بالطبقة العليا من الشعراء
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن أحمد بن هشام قال حدثني أحمد بن العباس الربيعي
أن الذي أوصل أشجع السلمي إلى الرشيد جده الفضل بن الربيع وأنه أوصله له وقال له هو أشعر شعراء أهل هذا الزمان وقد اقتطعته عنك البرامكة فأمره بإحضاره وإيصاله مع الشعراء ففعل فلما وصل إليه أنشده قوله
( قَصْرٌ عليه تَحِيَّةٌ وسَلامُ ... نَثَرَتْ عليه جَمالَها الأَيَّامُ )
( فيه اجْتَلَى الدُّنْيا الخليفَةُ والْتَقتْ ... للملك فيه سلامَةٌ وسَلامُ )
( قَصْرٌ سُقوفُ المُزْنِ دُونَ سُقُوفِه ... فيه لأعلام الهُدَى أعْلامُ )
( نَشَرت عليه الأَرضُ كُسوتَها التي ... نَسَجَ الرَّبيعُ وزخرَف الإرْهام )
( أدنَتْك من ظِلّ النَّبيِّ وَصِيَّةٌ ... وقرابَةٌ وُشِجَتْ بها الأَرحامُ )
( برقَتْ سَماؤُك في العَدُوِّ وأَمْطَرت ... هَاماً لها ظِلُّ السُّيوف غَمامُ )
( وإذا سُيوفُك صافَحتْ هامَ العِدَا ... طارت لهُنَّ عن الرؤوس الهامُ )
( تثني على أَيَّامِكَ الأَيَّامُ ... والشَّاهِدان الحِلُّ والإِحْرامُ )
( وعَلَى عَدُوِّك يابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ ... رَصَدان ضَوءُ الصُّبح والإظلامُ )
( فإذا تنَبَّه رُعتَه وإذا غَفَا ... سَلَّتْ عليه سُيوفَك الأَحْلامُ )

قال فاستحسنها الرشيد وأمر له بعشرين ألف درهم فمدح الفضل بن الربيع وشكر له إيصاله إياه إلى الرشيد فقال فيه قصيدته التي أولها
( غَلَب الرُّقادُ على جُفونِ المُسْهَدِ ... وغَرِقْتُ في سَهَرٍ وليلٍ سَرْمَدِ )
( قد جَدَّ بي سَهَرٌ فلم أرقُد له ... والنَّومُ يلعب في جُفون الرُّقَّدِ )
( ولَطَالَما سَهِرَتْ لِحُبِّيَ أَعْيُنٌ ... أهدَى السُّهاد لها ولَمَّا أسْهدِ )
( أيّامَ أرعى في رياضِ بِطالةٍ ... وِرْدَ الصِّبا منها الذي لم يُورَدِ )
( لَهْوٌ يُساعِده الشّبابُ ولم أجِدْ ... بعد الشَّبِيبَة في الهَوى من مُسْعِدِ )
( وخَفِيفَةِ الأحشاء غير خَفِيَفة ... مَجْدُولَة جَدْلَ العِنانِ الأَجْرَدِ )
( غَضِبَتْ على أعْطافِها أردافُها ... فالحَرْبُ بين إزارها والمِجْسَدِ )
( خالفتُ فيه عاذِلا ليَ ناصحا ... فرشَدْتُ حين عَصيْتُ قَول المُرْشِدِ )
( أَأُقِيمُ مُحْتَمِلاً لِضَيْم حَوادِثٍ ... مع هِمَّةٍ موصولة بالفَرْقَدِ )
( وأَرَى مخايِلَ ليس يُخلِفُ نَوؤُها ... للفضل إن رَعَدتْ وإن لم تَرْعَدِ )
( للفَضل أموالٌ أطافَ بها النَّدَى ... حتى جُهِدْن وجُودُه لم يَجْهَد )
( يابْنَ الرَّبيعَ حَسْرتُ شُكْرِي بالتي ... أوليْتَنيِ في عَوْدِ أمرك والبَدِي )
( أوصَلْتَني ورَفَدْتَنِي وكلاُهُما ... َشرفٌ فقأتُ به عيُونَ الحُسَّدِ )
( ووصَفْتَني عند الخَلِيفة غائِباً ... وأذِنْتَ لي فشَهِدْتُ أفخَر مَشْهَد )
( وكفَيْتَنِي مِنَنَ الرِّجال بنائلٍ ... أغنَى يَدِي عن أن تُمَدَّ إلى يَدِ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني صخر بن أحمد السلمي عن أبيه قال

كنت أنا وأشجع بالرقة جلوسا فمر بنا غلام أمرد رومي جميل الوجه فكلمه أشجع وسأله هل يبيعه مالكه فقال نعم فقال أشجع يمدح جعفر بن يحيى وسأله ابتياعه له فقال
( ومُضْطرِبِ الوِشاحِ لمُقْلَتَيْه ... علائِقُ ما لِوَصْلتِها انْقِطاعُ )
( تعرَّض لِي بنَظْرَةِ ذِي دَلالٍ ... يُرِيعُ بمُقْلَتيه ولا يُراعُ )
( لِحاظٌ ليس تُحجَب عن قُلُوبٍ ... وأمرٌ في الذي يهوى مُطاعُ )
( ووسْعِي ضَيِّقٌ عنه ومالَي ... وضِيقُ الأمر يَتْبَعُه اتِّساعُ )
( وتَعْوِيلِي على مال ابن يَحْيَى ... إليه حَنَّ شَوْقِي والنِّزاعُ )
( وَثِقْتُ بجَعْفَرٍ في كلِّ خَطْب ... فلا هُلْكٌ يُخافُ ولا ضَياعُ )
فأمر له بخمسة آلاف درهم وقال اشتره بها فإن لم تكفك فازدد
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال
كانت لأشجع جارية يقال لها ريم وكان يجد بها وجدا شديدا فكانت تحلف له إن بقيت بعده لم تعرض لغيره وكان يذكرها في شعره فمن ذلك قوله في قصيدته التي يرثي بها الرشيد
( وليس لأَحزان النِّساء تَطاولٌ ... ولكنَّ أحزانَ الرِّجال تَطولُ )
( فلا تَبْخَلِي بالدَّمْعِ عَنِّي فإنّ من ... يَضِنُّ بدَمْعٍ عن هَوىً لبَخِيلُ )
( فلا كُنتُ ممن يُتْبِع الرِّيح طَرفَه ... دَبُوراً إذا هَبَّت له وقَبُولُ )
( إذَا دارَ فَيءٌ أتبعَ الفَيْءَ طَرفَه ... يَمِيل مع الأَيَّام حَيْثُ تَمِيلُ )
قال وقال فيها أيضا
( إذا غَمَّضَتْ فَوْقي جفُونُ حَفيرَةٍ ... من الأرض فابْكِيني بما كُنتُ أصنَعُ )

( تُعَزِّكِ عَنّي عند ذلك سَلْوَةٌ ... وأَنْ ليس فِيمَن وَارَت الأرضُ مَطْمَعُ )
( إذا لم ترَىْ شَخْصِي وتُغْنِيكِ ثروتي ... ولم تَسْمَعِي منّي ولا منك أسمعُ )
( فحِينَئِذٍ تَسْلِينَ عنِّي وإن يكن ... بُكاءٌ فأقصى ما تُبكِّين أرْبَعُ )
( قَليلٌ ورَبِّ البيْتِ يا رِيمُ ما أرى ... فَتاةً بمَنْ وَلّى به الموتُ تَقْنَعُ )
( بمن تَدْفَعِين الحادِثاتِ إذا رَمَى ... عليك بها عامٌ من الجَدْبِ يَطلُعُ )
( فحينئذ تَدْرِين مَنْ قد رُزِيِتهِ ... إذا جَعَلتْ أركانٌ بينك تُنْزَعُ )
قال فشكته ريم إلى أخيه أحمد بن عمرو فأجابه عنها بشعر نسبه إليها ومدح فيه الفضل أيضا فاختير شعره على شعر أخيه وهو
( ذكرتُ فِراقاً والفراقُ يُصدِّعُ ... وأيُّ حياةٍ بعد مَوْتِك تَنْفَعُ )
( إذا الزَّمنُ الغَرَّار فَرَّق بيننا ... فما ليَ في طِيبٍ من العيش مَطْمَعُ )
( ولا كان يومٌ يابْنَ عَمْرٍو وليلةٌ ... يُبدَّدُ فيها شَمْلُنا ويُصَدَّعُ )
( ولا كان يومٌ فيه تَثْوِي رهينةً ... فتَرْوَى بجسمي الحادِثاتُ وتَشبعُ )
( وألطمُ وجهاً كنتُ فيكَ أصونُه ... وأخشعُ مما لم أكُن منه أخشعُ )
( ولو أنني غُيِّبْتُ في اللَّحْد لم تَبْلْ ... ولم تَزل الراؤون لي تتوجَّعُ )
( وهل رجلٌ أبصرته متوجِّعاً ... على امرأةٍ أو عينُه الدَّهرَ تدمعُ )
( ولكن إذا ولَّتْ يقولُ لها اذهبِي ... فمِثلُك أُخْرَى سوفَ أَهوَى وأتبَعُ )
( ولو أبصَرَتْ عيناك ما بي لأبْصَرَت ... صبابةَ قلب غيمُها ليس يُقْشَعُ )
( إلى الفَضل فارْحَلْ بالمدِيح فإنه ... مَنيعُ الحِمَى مَعروفُه ليس يُمْنَعُ )
( وزُرْه تَزُرْ حِلْماً وعِلْماً وسُودَداً ... وبأْساً به أنفُ الحوادث يُجدَعُ )
( وأبدِعْ إذا ما قلتَ في الفَضْل مِدْحَةً ... كما الفضل في بذل المواهِب يُبْدِعُ )
( إذا ما حِياضُ المجدِ قلّتْ مِياهُها ... فحوضُ أبي العَبَّاسِ بالجودِ مُتْرَعُ )
( وإن سَنةٌ ضَنَّتْ بخصبٍ على الوَرَى ... ففي جُودِه مرعىً خصيبٌ ومَشْرَعُ )

( وما بَعُدتْ أرضٌ بها الفَضْلُ نَازلٌ ... ولا خابَ مَنْ في نائِلِ الفَضْلِ يَطْمَعُ )
( فنِعم المُنادَى الفَضْلُ عند مُلِمَّةٍ ... لدفع خُطوبٍ مِثْلُها ليس يُدفعُ )
( إليكَ أَبا العَبَّاسِ سارَتْ نجائِبٌ ... لها هِمَمٌ تَسْمُو إليك وتَنْزِع )
( بِذكْرِك نَحدُوهَا إذا ما تأخَّرَتْ ... فتمضِي على هَوْلِ المُضِيّ وتُسرِعُ )
( وما لِلسانِ المدحِ دونك مَشْرَعٌ ... ولا للمطايا دُون بابك مَفْزَعُ )
( إليكَ أبا العَبَّاسِ أحملُ مِدْحَةً ... مَطِيَّتُها - حتى توافيك - أشجَعُ )
( فَزِعْتُ إلى جَدْواك فيها وإنما ... الى مَفزع الأملاكِ يُلْجا ويُفزَعُ )
قال فأنشدها أشجع الفضل وحدثه بالقصة فوصل أخاه وجاريته ووصله
وقال أحمد بن الحارث فقيل لأحمد بن عمرو أخي أشجع مالك لا تمدح الملوك كما يمدحهم أخوك فقال إن أخي بلاء علي وإن كان فخرا لأني لا أمدح أحدا ممن يرضيه دون شعري ويثيب عليه بالكثير من الثواب إلا قال أين هذا من قول أشجع فقد امتنعت من مدح أحد لذلك
قال أحمد بن الحارث وقال أحمد بن عمرو يهجو أخاه أشجع وقد كان أحمد مدح محمد بن جميل بشعر قاله فيه فسأل أخاه أشجع إيصاله ودفع القصيدة إليه فتوانى عن ذلك فقال يهجوه - أخبرني بذلك أحمد بن محمد بن جميل -
( وسائلةٍ لِيَ ما أَشْجَعُ ... فقلتُ يضر ولا يَنفعُ )
( قَرِيبٌ من الشَّرِّ واعٍ له ... أَصَمُّ عن الخير ما يَسمَعُ )
( بَطيءٌ عن الأمر أحظَى به ... إلى كل ما ساءني مُسرِعُ )
( شَرودُ الوِدادِ على قُربهِ ... يُفَرِّقُ منه الذي أجمَعُ )
( أُسَبُّ بأنّي شقِيقٌ له ... فأَنْفِي به أبداً أَجَدعُ )

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على الفضل بن يحيى وقد بلغ الرشيد إطلاقه يحيى بن عبد الله بن حسن وقد كان أمره بقتله فلم يظهر له أنه بلغه إطلاقه فسأله عن خبره هل قتلته فقال لا فقال له فأين هو قال ولم قال لأنه سألني بحق الله وبحق رسوله وقرابته منه ومنك وحلف لي أنه لا يحدث حدثا وأنه يجيبني متى طلبته فأطرق ساعة ثم قال امض بنفسك في طلبه حتى تجيئني به واخرج الساعة فخرج قال فدخلت عليه مهنئا بالسلامة فقلت له ما رأيت أثبت من جنانك ولا أصح من رأيك فيما جرى وأنت والله كما قال أشجع
( بدِيهَتُه وفكرتُه سَواءٌ ... إذا ما نابَه الخَطْبُ الكَبِيرُ )
( وأَحزمُ ما يَكونُ الدَّهرَ رأياً ... إذا عَيَّ المُشاوِرُ والمُشِيرُ )
( وصَدرٌ فيه للهمِّ اتِّساعٌ ... إذا ضاقَت بما تَحوِي الصُّدورُ )
فقال الفضل انظروا كم أخذ أشجع على هذه القصيدة فاحملوا إلى أبي محمد مثله قال فوجده قد أخذ ثلاثين ألف درهم فحملت إلي
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال حدثني محمد بن عجلان قال حدثنا ابن خلاد عن حسين الجعفي قال
كان أشجع إذا قدم بغداد ينزل على صديق له من أهلها فقدمها مرة فوجده قد مات والنوح والبكاء في داره فجزع لذلك وبكى وأنشأ يقول
( وَيْحَها هل دَرَتْ على مَنْ تَنوحُ ... أسَقيمٌ فُؤادُها أم صَحِيحُ )
( قَمَرٌ أطبَقُوا عليه ببغدَادَ ... ضريحاً ماذا أَجَنَّ الضَّرِيحُ )
( رحِمَ اللهُ صاحبِي ونَدِيمي ... رحمةً تَغْتدِي وأُخرى ترُوحُ )
وهذه القصيدة التي فيها الأبيات المذكورة والغناء فيها من قصيدة يمدح بها أشجع الرشيد ويهنئه بفتح هرقلة وقد مدحه بذلك وهنأه جماعة من

الشعراء وغنى في جميعها فذكرت خبر فتح هرقلة لذكر ذلك

سبب غزاه الرشيد هرقلة
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال
كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت قد ملكت امرأة لأنه لم يكن بقي في أهل زمانها من أهل بيتها - بيت المملكة - غيرها وكانت تكتب إلى المهدي والهادي والرشيد أول خلافته بالتعظيم والتبجيل وتدر عليه الهدايا حتى بلغ ابن لها فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد فخافت على ملك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته فاحتالت لابنها فسملت عينه فبطل منه الملك وعاد إليها فاستنكر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله فخرج عليها نقفور وكان كاتبها فأعانوه وعضدوه وقام بأمر الملك وضبط أمر الروم فلما قوي على أمره وتمكن من ملكه كتب إلى الرشيد
نقفور والرشيد
من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك العرب أما بعد فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك ووضعت نفسها موضع السوقة وإني واضعك بغير ذلك الموضع وعامل على من تطرق بلادك والهجوم على أمصارك أو تودي إلى ما كانت المرأة تودي إليك والسلام
فلما ورد كتابه على الرشيد كتب إليه
بسم الله الرحمن الرحيم - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك وجوابك عندي ما تراه عيانا لا ما تسمعه ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم في جمع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدة ورأيا فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وشاور في أمره وجد الرشيد يتوغل في بلاد الروم فيقتل ويغنم ويسبي ويخرب الحصون ويعفي الآثار حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينية فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمي به في تلك الطرق وألقيت فيه النار فكان أول من لبس ثياب النفاطين محمد بن يزيد بن مزيد فخاضها ثم أتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا وخضع له أشد الخضوع وأدى إليه الجزية عن رأسه فضلا عن أصحابه فقال في ذلك أبو العتاهية
( إمامَ الهُدَى أصَحْتَ بالدِّين مَعْنِيّاً ... وأصبحتَ تَسقِي كُلَّ مستمطِرٍ رِيا )
( لك اسمانِ شُقّا من رَشادٍ ومن هُدىً ... فأنت الذي تُدعَى رَشيداً ومَهْدِيَّا )
( إذا ما سَخِطْتَ الشيء كان مُسَخَّطاً ... وإن تَرضَ شَيْئاً كان في النَّاس مَرْضِيَّا )
( بَسَطَتْ لنا شَرْقاً وغَرْباً يَدَ العُلا ... فأوسعتَ شَرْقِيَّاً وأوسَعْتَ غَرْبِيَّا )
( ووشَّيْت وَجْهَ الأرضِ بالجُود والنَّدى ... فأصبَح وَجهُ الأرض بالجُودِ مَوْشِيَّا )
( وأنت - أمير المؤمنين - فَتَى التقَى ... نشرتَ من الإِحسان ما كان مَطْوِيَّا )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45