كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

يدعوه وإن أبطأ فقام الناس للرحيل وترحلوا إلا من كان في الخان الذي فيه عمرو فلما أبطأ صحنا به يا أبا ثور
فلم يجبنا وسمعنا علزا شديداً ومراسا في الموضع الذي دخله وقصدناه فإذا به حمرة عيناه مائلاً شدقه مفلوجاً فحملناه على فرس وأمرنا غلاماً شديد الذراع فارتدفه ليعدل ميله فمات بروذة ودفن على قارعة الطريق
فقالت امرأته الجعفية ترثيه - طويل -
( لقد غَادَرَ الركبُ الذين تحمَّلُوا ... بِرُوذَة شخصاً لا ضعيفاً ولا غُمْرا )
( فقل لزُبيدٍ بل لمذحِجَ كلِّها ... فَقَدْتُم أبا ثورٍ سِنانَكُمْ عَمْرا )
( فإن تجزعوا لا يُغْنِ ذلك عنكُمُ ... ولكن سَلُوا الرحمن يُعْقِبكُم صَبْرا )
والأبيات العينية التي فيها الغناء وبها افتتح ذكر عمرو يقولها في أخته ريحانة بنت معد يكرب لما سباها الصمة بن بكر وكان أغار على بني زبيد في قيس فاستاق أموالهم وسبى ريحانة وانهزمت زبيد بين يديه وتبعه عمرو وأخوه عبد الله ابنا معد يكرب ثم رجع عبد الله واتبعه عمرو
فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام أن عمراً اتبعه يناشده أن يخلي عنها فلم يفعل فلما يئس منها ولى وهي تناديه بأعلى صوتها يا عمرو فلم يقدر على انتزاعها وقال - وافر -
( أمِنْ ريحانَةَ الدَّاعِي السَّميعُ ... يؤرِّقني وأصحابي هُجوعُ )
( سَباها الصِّمَّةُ الجشميُّ غَصْباً ... كأنّ بياضَ غرَّتها صَدِيع )
( وحالت دونَها فُرسانُ قيسٍ ... تكشَّفُ عن سواعدها الدُّروع )
( إذا لم تستطِع شيئاً فَدَعْهُ ... وجاوِزْه إلى ما تستطيع )

وزاد الناس في هذا الشعر وغنّى فيه
( وكيف أحبُّ مَن لا أستطيع ... ومن هو للذي أهوى مَنوعُ )
( ومَن قد لامِني فيه صديقي ... وأهلي ثمَّ كُلاًّ لا أطيع )
( ومَن لو أظهرَ البغضاءَ نحوي ... أتاني قابضُ الموتِ السريعُ )
( فدىً لهُمُ معاً عمِّي وخالي ... وشَرْخُ شبابِهِمْ إن لم يُطيعوا )
وقد أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي وأما قصة ريحانة فإن عمرو بن معد يكرب تزوج امرأة من مراد وذهب مغيراً قبل أن يدخل بها فلما قدم أخبر أنه قد ظهر بها وضح وهو داء تحذره العرب فطلقها وتزوجها رجل آخر من بني مازن بن ربيعة وبلغ ذلك عمراً وأن الذي قيل فيها باطل فأخذ يشبب بها فقال قصيدته وهي طويلة - وافر -
( أمِنْ ريحانَةَ الدَّاعِي السَّميعُ ... يؤرِّقني وأصحابي هُجوعُ )
وكان عبد الله بن معد يكرب أخو عمرو رئيس بني زبيد فجلس مع بني مازن في شرب منهم
فتغنى عنده حبشي عبد للمخزم أحد بني مازن في امرأة من بني زبيد فلطمه عبد الله وقال له أما كفاك أن تشرب معنا حتى تشبب بالنساء فنادى الحبشي يا آل بني مازن فقاموا إلى عبد الله فقتلوه وكان الحبشي عبداً للمخزم فرئس عمرو مكان أخيه وكان عمرو غزا هو وأبي المرادي فأصابوا غنائم فادعى أبي أنه قد كان مسانداً فأبى عمرو أن يعطيه شيئاً وكره أبي أن يكون بينهما شر لحداثة قتل أبيه فأمسك عنه
وبلغ عمراً أنه توعده فقال عمرو في ذلك قصيدة له أولها - وافر

صوت
( أعاذلَ شِكتي بدني ورُمْحي ... وكلُّ مقلِّصٍ سَلسِ القِيادِ )
( أعاذلَ إنّما أفنى شبابي ... وأقْرَحَ عاتقي ثِقَلُ النِّجاد )
( تمنَّاني ليلقاني أُبَيٌّ ... وَدِدْتُ وأينَما منِّي ودادي )
( ولو لاقيتنِي ومعي سِلاحي ... تكشَّف شحْمُ قلِبَك عن سوادِ )
( أريد حِباءه ويريدُ قتْلي ... عذِيرك مِن خليلكَ من مرادِ )
وتمام هذه الأبيات
( تمنَّاني وسابغتي دِلاصٌ ... كأنَّ قَتِيرَها حَدَقُ الجرادِ )

( وسيفي كان من عهدِ ابن صدٍّ ... تخيَّره الفتى من قَوم عاد )
( ورمحي العنبريُّ تخال فيه ... سِناناً مثلَ مِقباس الزِّناد )
( وعِجْلِزَة يزلُّ اللِّبْدُ عنها ... أمَرَّ سَراتَها حَلْقُ الجياد )
( إذا ضُرِبَتْ سمعْتَ لها أزيزاً ... كوقع القَطْر في الأدم الجِلادِ )
( إذاً لوجدْتَ خالكَ غيرَ نِكْسٍ ... ولا مُتَعلِّماً قَتْلَ الوحاد )
( يقلِّب للأمور شَرنْبَثَاتٍ ... بأظفارٍ مَغارِزُها حِداد )
لابن سريج في الأول والثاني ثاني ثقيل بالبنصر ولابن محرز في السادس والخامس ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى وفي الرابع والخامس والسادس لحن للهذلي من رواية يونس
وهذا البيت الخامس كان علي بن أبي طالب عليه السلام إذا نظر إلى ابن ملجم تمثل به
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن بشر قال حدثنا جرير عن حمزة الزيات قال كان علي عليه السلام إذا نظر إلى ابن ملجم قال - وافر -
( أريد حِباءه ويريدُ قتْلي ... عذِيرك مِن خليلكَ من مرادِ )
حدثني العباس بن علي بن العباس ومحمد بن خلف وكيع قالا حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب

عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني قال كان علي بن أبي طالب إذا أعطى الناس فرأى ابن ملجم قال
( أريد حِباءه ويريدُ قتْلي ... عذِيرك مِن خليلكَ من مرادِ )
حدثني محمد بن الحسن الأشناني قال حدثنا علي بن المنذر الطريفي قال حدثنا محمد بن فضيل قال حدثنا فطر بن خليفة عن أبي الطفيل عامر بن واثلة والأصبغ بن نباتة قال قال علي عليه السلام ما يحبس أشقاها والذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا
قال أبو الطفيل وجمع علي الناس للبيعة فجاء عبد الرحمن بن ملجم المرادي فرده مرتين أو ثلاثاً ثم بايعه ثم قال ما يحبس أشقاها فوالذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا
ثم تمثل بهذين البيتين وافر
( أشْدُدْ حيازيمَكَ للموتِ ... فإِنَّ الموت يأتيكَ )
( ولا تجزعْ من القتلِ ... إذا حلَّ بواديكَ )

رجع الخبر إلى سياقة خبر عمرو
قال وجاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا إن أخاك قتله رجل منا سفيه وهو سكران ونحن يدك وعضدك فنسألك الرحم وإلا أخذت الدية ما أحببت فهم عمرو بذلك
وقال - بسيط -
( إحدى يديَّ أصابَتْني ولم تردِ ... )
فبلغ ذلك أختاً لعمرو يقال لها كبشة وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب فغضبت فلما وافى الناس من الموسم قالت شعراً تعير عمراً - طويل -
( أرسلَ عبدُ الله إذ حانَ يومُه ... إلى قومه لا تَعقِلوا لهُمُ دمِي )
( ولا تأخذوا مِنهمْ إفالاً وأبكُراً ... وأُتْرَكَ في بيتٍ بِصَعْدَةَ مظلمِ )
( ودَعْ عنك عَمْراً مُسالِمٌ ... وهل بطنُ عمرو غيرُ شبْرٍ لمِطعم )

( فإن أنتُمُ لم تقبلوا واتَّديْتُمُ ... فمشُّوا بآذان النَّعام المُصَلَّم )
( أَيقتُلُ عبدَ الله سيِّدَ قومه ... بنو مازنٍ أن سُبّ راعي المخزَّم )
فقال عمروٌ قصيدةً له عند ذلك يقول فيها - متقارب -

صوت
( أرِقتُ وأمسيْتُ لا أرقُدُ ... وساوَرَني المُوجِعُ الأَسْودُ )
( وبتُّ لذِكرى بني مازنٍ ... كأنِّيَ مرتفقٌ أرمدُ )
فيه لحن من خفيف الثقيل الأوّل بالوسطى نسبه يحيى المكي إلى ابن محرز وذكر الهشامي أنه منحول
ثم أكب على بني مازن وهم غارون فقتلهم وقال في ذلك شعراً - وافر -
( خُذُوا حُقُقاً مُخَطمَّة صفايا ... وكَيْدِي يا مخزَّم أن أكيدا )
( قتلتُمْ سادتِي وتركتموني ... على أكتافِكُمْ عِبئاً جديدا )
( فمن يأبى من الأقوام نَصْراً ... ويتركنَا فإنّا لن نريدا )
وأرادت بنو مازن أن ترد عليهم الدية لما آذنهم بحرب فأبى عمرو وكانت بنو مازن من أعداء مذحج وكان عبد الله أخا كبشة لأبيها وأمّها دون عمرو وكان

عمرو قد هم بالكف عنهم حين قتل من قتل منهم فركبت كبشة في نساء من قومها وتركت عمراً أخاها وعيرته فأحمته فأكب عليهم أيضاً بالقتل فلما أكثر فيهم القتل تفرقوا فلحقت بنو مازن بصاحبهم بتميم ولحقت ناشرة ببني أسد وهم رهط الصقعب بن الصحصح ولحقت فالج بسليم بن منصور
وفالج وناشرة ابنا أنمار بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة وأمهما هند بنت عدس ابن زيد بن عبد الله بن دارم
فقال كابية بن حرقوص بن مازن - كامل -
( يا ليلتي ما ليلتي بالبَلْدَةِ ... رُدَّتْ عليَّ نجومُها فارتدَّتِ )
( مَن كان أسرعَ في تفرُّق فالج ... فَلَبُونُه جَرِبَتْ معاً وأغدّتِ )
( هَلاّ كَنَاشِرَة الذي ضَيَّعْتُمُ ... كالغصن في غَلْوائه المتنبّت )
وقال عمرو في ذلك - وافر -
( تمنَّتْ مازِنٌ جَهْلاً خِلاطي ... فذاقت مازنٌ طَعْمَ الخِلاطِ )
( أطَلْتُ فِراطَكُمْ عاماً فعاماً ... وَدَيْنُ المَذحِجِيِّ إلى فِراطِ )
( أطلْتُ فِراطَكُمْ حتَّى إذا ما ... قتلْتُ سَراتكُمْ كانت قَطَاطَ )
( غَدَرْتُمْ غدرةً وغدرْتُ أخرى ... فما إنْ بَيْنَنَا أبداً يَعَاطِ )
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي قال المدائني حدثني رجل من قريش قال كنا عند فلان القرشي فجاءه رجل بجارية فغنته - سريع

( بالله يا ظبي بنِي الحارثِ ... هل مَن وَفَى بالعهدِ كالناكثِ )
وغنته أيضاً بغناء ابن سريج - منسرح -
( يا طولَ ليلِي وبتُّ لم أَنَمِ ... وسادي الهمُّ مُبطنٌ سَقَمي )
فأعجبته واستام مولاها فاشتط عليه فأبى شراءها وأعجبت الجارية بالفتى فلما امتنع مولاها من البيع إلا بشطط قال القرشي فلا حاجة لنا في جاريتك
فلما قامت الجارية للانصراف رفعت صوتها تغني وتقول - وافر -
( إذا لم تستطعْ شيئاً فدعْهُ ... وجاوزْه إلى ما تستطيعُ )
قال فقال الفتى القرشي أفأنا لا أستطيع شراءك والله لأشترينك بما بلغت
قالت الجارية فذاك أردت
قال القرشي إذا لأجبتك
وابتاعها من ساعته
والله أعلم

نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
سريع
( بالله يا ظَبيَ بني الحارثِ ... هل من وفى بالعهدِ كالناكِثِ )
( لا تخدَعَنِّي بالمنى باطلاً ... وأنت بي تلعبُ كالعابثِ )
عروضه من السريع الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج رمل بالبنصر وفيه لسياط خفيف ثقيل أول بالوسطى وفيه لإبراهيم الموصلي لحن من رواية بذل
ومنها - منسرح -
صوت
( يا طول ليلي وبتُّ لم أَنَم ... وسادِيَ الهَمُّ مُبْطَنٌ سَقمِي )

( إذْ قمْتُ ليلاً على البلاط فَأَبْصَرْتُ ... ربيباً فليْتَ لم أقْمِ )
( فقلتُ عُوجِي تُخبَّرِي خَبراً ... وأنتِ منه كصاحب الحُلُم )
( قالتْ بلَ اخشى العيونَ إذْ حضرتْ ... حَولي وقلبي مُباشِرُ الألم ) عروضه من المنسرح
والشعر والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وذكر محمد بن الفضل الهاشمي قال حدثنا أبي قال كان المأمون قد أطلق لأصحابه الكلام والمناظرة في مجلسه فناظر بين يديه محمد بن العباس الصولي علي بن الهيثم جونقا في الإمامة فتقلدها أحدهما ودفعها الآخر فلجت المناظرة بينهما إلى أن نبط محمد علياً فقال له علي إنما تكلمت بلسان غيرك ولو كنت في غير هذا المجلس لسمعت أكثر مما قلت فغضب المأمون وأنكر على محمد ما قاله وما كان منه من سوء الأدب بحضرته ونهض عن فرشه ونهض الجلساء فخرجوا وأراد محمد الانصراف فمنعه علي بن صالح صاحب المصلى وهو إذ ذاك يحجب المأمون وقال أفعلت ما فعلت بحضرة أمير المؤمنين ونهض على الحال التي رأيت ثم تنصرف بغير إذن اجلس حتى نعرف رأيه فيك
وأمر بأن يجلس
قال ومكث المأمون ساعة فجلس على سريره وأمر بالجلساء فردوا إليه فدخل إليه علي بن صالح فعرفه ما كان من قول علي بن محمد في الانصراف وما كان من منعه إياه فقال دعه ينصرف إلى لعنة الله
فانصرف وقال المأمون لجلسائه أتدرون لم دخلت إلى النساء في هذا الوقت قالوا لا
قال إنه لما كان من أمر هذا الجاهل ما كان لم آمن فلتات الغضب وله بنا حرمة فدخلت إلى النساء فعابثتهن حتى سكن غضبي

قال وما مضى محمد عن وجهه إلا إلى طاهر فسأله الركوب إلى المأمون وأن يستوهبه جرمه فقال طاهر ليس هذا من أوقاتي وقد كتب إلي خليفتي في الدار أنه دعا بالجلساء
فقال أكره أن أبيت ليلة وأمير المؤمنين علي ساخط
فلم يزل به حتى ركب طاهر معه فأذن له فدخل ومجير الخادم واقف على رأس المأمون فلما بصر المأمون بطاهر أخذ منديلاً فمسح به عينيه مرتين أو ثلاثاً إلى أن وصل إليه وحرك شفتيه بشيء أنكره طاهر ثم دنا فسلم فرد السلام وأمره بالجلوس فجلس في موضعه فسأله عن مجيئه في غير وقته فعرفه الخبر واستوهبه ذنب محمد فوهبه له وانصرف وعرّف محمداً ذلك
ثم دعا بهارون ابن خنعويه وكان شيخاً خراسانياً داهية ثقة عنده فذكر له فعل المأمون وقال له الق كاتب مجير والطف له واضمن له عشرة آلاف درهم على تعريفك ما قاله المأمون
ففعل ذلك ولطف له فعرفه أنه لما رأى طاهراً دمعت عيناه وترحم على محمد الأمين ومسح دمعه بالمنديل فلما عرف ذلك طاهر ركب من وقته إلى أحمد بن أبي خالد الأحول وكان طاهر لا يركب إلى أحد من أصحاب المأمون وكلهم يركب إليه فقال له جئتك لتوليني خراسان وتحتال لي فيها
وكان أحمد يتولى فض الخرائط بين يدي المأمون وغسان بن عباد يتولى إذ ذاك خراسان فقال له أحمد هلا أقمت بمنزلك وبعثت إلي حتى أصير إليك ولا يشهر الخبر فيما تريده بما ليس من عادتك لأن المأمون يعلم أنك لا تركب إلى أحد من أصحابه وسيبلغه هذا فينكره فانصرف واغض عن هذا الأمر وأمهلني مدة حتى أحتال لك
ولبث مدة وزور ابن أبي خالد كتابا عن غسان بن عباد إلى المأمون يذكر فيه أنه عليل وأنه لا يأمن على نفسه ويسأل أن يستخلف غيره على خراسان وجعله في خريطة وفضها بين يدي المأمون في خرائط وردت عليه فلما قرأ على المأمون الكتاب اغتم به وقال له ما ترى فقال لعل هذه علة عارضة تزول وسيرد بعد هذا غيره فيرى حينئذ أمير المؤمنين رأيه
ثم أمسك أياماً وكتب كتابا آخر

ودسه في الخرائط يذكر فيه أنه تناهى في العلة إلى ما لا يرجو معه نفسه فلما قرأه المأمون قلق وقال يا أحمد إنه لا مدفع لأمر خراسان فما ترى فقال هذا رأي إن أشرت فيه بما أرى فلم أصب لم أستقبله وأمير المؤمنين أعلم بخدمه ومن يصلح بخراسان منهم
قال فجعل المأمون يسمي رجالاً ويطعن أحمد على واحدٍ واحدٍ منهم إلى أن قال فما ترى في الأعور قال إن كان عند أحد قيام بهذا الأمر ونهوض فيه فعنده
فدعا به المأمون فعقد له على خراسان وأمره أن يعسكر فعسكر بباب خراسان
ثم تعقب الرأي فعلم أنه قد أخطأ فتوقف عن امضائه وخشي أن يوحش طاهراً بنقضه فمضى شهر تام وطاهر مقيم بمعسكره
ثم إن المأمون في السحر من ليلة أحد وثلاثين يوماً من عقده له عقد اللواء لطاهر ظاهراً وأمر بإحضار مخارق المغني فأحضر وقد صلى المأمون الغداة مع طلوع الفجر فقال يا مخارق أتغني - وافر -
( إذا لم تستطع شيئاً فدعْهُ ... وجاوزْهُ إلى ما تستطيعُ )
( وكيف تريدُ أن تُدعَى حكيماً ... وأنت لكلِّ ما تهوى تَبوع )
قال نعم
قال هاته
فغناه فقال ما صنعت شيئاً فهل تعرف من يقوله أحسن مما تقوله قال نعم علويه الأعسر
فأمر بإحضاره فكأنه كان وراء الستر فأمره أن يغنيه فغناه واحتفل فقال ما صنعت شيئاً أتعرف من يقوله أحسن مما تقوله قال نعم عمرو بن بانة شيخنا
فأمر بإحضاره فدخل في مقدار دخول علويه فأمر بأن يغنيه الصوت فغناه فأحسن فقال أحسنت ما شئت هكذا ينبغي أن يقال ثم قال يا غلام اسقني رطلا واسق صاحبيه رطلاً رطلاً
ثم دعا له بعشرة آلاف درهم وخلعة ثلاثة أثواب ثم أمره بإعادته فأعاده فرد القول الذي قاله وأمر له بمثل ما أمر حتى فعل ذلك عشراً وحصل لعمرو مائة ألف درهم وثلاثون ثوباً ودخل المؤذنون فأذنوه بالظهر فعقد إصبعه الوسطى بإبهامه وقال برق يمان برق يمان
وكذلك كان يفعل إذا أراد أن ينصرف من بحضرته من الجلساء
فقال عمرو يا أمير المؤمنين قد أنعمت علي وأحسنت إلي فإن رأيت أن تأذن لي في

مقاسمة أخوي ما وصل إليّ فقد حضراه فقال ما أحسن ما استمحت لهما بل نعطيهما نحن ولا نلحقهما بك
وأمر لكل واحد بمثل نصف جائزة عمرو وبكر إلى طاهر فرحله فلما ثنى عنان دابته منصرفاً دنا منه حميد الطوسي فقال اطرح على ذنبه تراباً
فقال اخسأ يا كلب ونفذ طاهر لوجهه وقدم غسان بن عباد فسأله عن علته وسببها فحلف له أنه لم يكن عليلاً ولا كتب بشيء في هذا
فعلم المأمون أن طاهراً احتال عليه بابن أبي خالد وأمسك على ذلك
فلما كان بعد مدة من مقدم طاهر إلى خراسان قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة فقال له عون بن مجاشع بن مسعدة صاحب البريد لم تدع في هذه الجمعة لأمير المؤمنين فقال سهو وقع فلا تكتب به
وفعل مثل ذلك في الجمعة الثانية وقال لعون لا تكتب به وفعله في الجمعة الثالثة فقال له عون إن كتب التجار لا تنقطع من بغداد وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيرنا لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي
فقال اكتب بما أحببت
فكتب إلى المأمون بالخبر فلما وصل كتابه دعا بأحمد بن أبي خالد وقال إنه لم يذهب علي احتيالك في أمر طاهر وتمويهك له وأنا أعطي الله عهداً لئن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي وتصلح ما أفسدته علي من أمر ملكي لأبيدن غضراءك فشخص أحمد وجعل يتلوم في الطريق ويقول لأصحاب البرد اكتبوا بخبر علة أجدها
فلما وصل الري لقيته الأخبار ووافاه رسل طلحة بن طاهر بوفاة طاهر فأغذ السير حتى قدم خراسان فلقيه طلحة على حد غفلة فقال له أحمد لا تكلمني ولا ترني وجهك فإن أباك عرضني للعطب وزوال النعمة مع احتيالي له وسعيي كان في محبته
فقال له أبي قد مضى لسبيله ولو أدركته لما خرج عن

طاعتك وأما أنا فأحلف لك بكل ما تسكن به نفسك وأبذل كل ما عندي من مال وغيره فاضمن له عني حسن الطاعة وضبط الناحية والإخلاص في النصيحة
فكتب أحمد بخبره وخبر طاهر وخبر طلحة إلى المأمون وأشار بتقليده فأنفذ المأمون إليه اللواء والخلع والعهد وانصرف أحمد إلى مدينة السلام
أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال مدح ابن هرمة رجلاً من قريش فلم يثبه فقال له ابن عم له لا تفعل فإنه شاعر مفوه
فلم يقبل منه فقال فيه ابن هرمة - وافر -
( فهلاَّ إذْ عجزْتَ عن المعالي ... وعمَّا يفعل الرجُل القريعُ )
( أخذتَ برأي عمروٍ حين ذَكَّى ... وشُبَّ لناره الشرفُ الرفيع )
( إذا لم تستطع شيئاً فدَعْه ... وجاوزْه إلى ما تستطيع )
ومما قاله عمرو بن معد يكرب في ريحانة أخته وغني فيه قولُه - بسيط -
( هاج لك الشوقُ من ريحانةَ الطربا ... إذْ فارقَتْكَ وأمستْ دارُها غُرُبَا )
( ما زلْتُ أحبِس يومَ البَيْنِ راحلتي ... حتَّى استمروا وأذْرَتْ دَمْعَها سَرَبا )
( حتَّى ترَفّعَ بالحُزَّان يركُضها ... مثلَ المَهاة مَرَتْه الريحُ فاضطربا )

( والغانياتُ يقتِّلْنَ الرجال إذا ... ضَرَّجْنَ بالزعفران الرَّيْطَ والنقّبَا )
( من كلِّ آنسةٍ لم يَغْذُها عُدُمٌ ... ولا تشدُّ لشيءٍ صوْتَها صَخَبَا )
( إنّ الغوانيَ قد أَهْلَكْنَنَي وأرى ... حِبالَهُنَّ ضعيفاتِ القُوى كُذُبا )
غنى في هذا الشعر ابن سريج خفيف ثقيل من رواية حماد وفيه رمل نسبه حبش إليه أيضاً
وقال الأصمعي هذا الشعر لسهل بن الحنظلية الغنوي ثم الضبيني ثم الجابري وهو جابر بن ضبينة
قال أبو الفرج الأصبهاني وسهل بن الحنظلية أحد أصحاب رسول الله وقد روى عنه حديثاً كثيراً
فذكر الأصمعي أن السبب في قوله هذا الشعر أنه اجتمع ناس من العرب بعكاظ منهم قرة بن هبيرة القشيري في سنين تتابعت على الناس فتواعدوا وتواقفوا أن لا يتغاوروا حتى يخصب الناس ثم قالوا ابعثوا إلى المنتشر بن وهب الباهلي ثم الوائلي فليشهد أمرنا ولندخله معنا
فأتاهم فأعلموه ما صنعوه قال فما يأكل قومي إلى ذاك فقال له ابن جارم الضبي إنك لهناك يا أخا باهلة قال أما أنا فالغسل والنساء علي حرام حتى آكل من قمع إبلك
فتفرقوا ولم يكن إلا ذلك
وقال ابن جارم للمنتشر عند قوله استك أضيق من ذاك فأغار

المنتشر على ابن جارم فلما رآه ابن جارم رمى بنفسه في وجار ضبع وأطرد المنتشر إبله ورعاءها فقال سهل في ذلك
( هاج لك الشَّوقُ من ريحانَةَ الطربا ... )
في قصيدة طويلة له حسنة
وقال في ذلك أعشى باهلة - طويل -
( فدىً لك نفسي إذْ تركْتَ ابنَ جَارِمٍ ... أجبَّ السَّنام بعدَ ما كان مُصْعَبَا )
وقال المخبل في ذلك - طويل -
( إنَّ قشيرا من لقاحِ ابن جارم ... كغاسلةٍ حَيْضاً وليست بطاهرِ )
( وأنبأتماني أنَّ قُرّةَ آمنٌ ... فناك أباه من مجير وخافر )
( فلا تُوكلوها الباهليَّ وتقعُدوا ... لَدى غَرَضٍ أرميكُمُ بالنواقر )
( إذا هي حلَّتْ بالذَّهاب وذي حُساً ... وراحت خِفافَ الوَطْء حُوْسَ الخواطر )
أخبرنا أحمد بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني قعنب

ابن المحرز قال أخبرنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال أخبرني من شهد الأشعث بن قيس وعمرو بن معد يكرب وقد تنازعا في شيء فقال عمرو للأشعث نحن قتلنا أباك ونكنا أمك فقال سعد قوما أف لكما فقال الأشعث لعمرو والله لأضرطنك
فقال كلا إنها عزوز موثقة
قال جرير بن عبد الله البجلي فأخذت بيد الأشعث فنترته فوقع على وجهه ثم أخذت بيد عمرو فجذبته فما تحلحل والله ولكأنما حركت أسطوانة القصر
وقال أبو عبيدة قدم عمرو بن معد يكرب والأجلح بن وقاص الفهمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتياه وبين يديه مال يوزن فقال متى قدمتما قالا يوم الخميس
قال فما حبسكما قالا شغلنا بالمنزل يوم قدمنا ثم كانت الجمعة ثم غدونا عليك اليوم
فلما فرغ من وزن المال نحاه ثم أقبل عليهما فقال هيه فقال عمرو يا أمير المؤمنين هذا الأجلح بن وقاص شديد المرة بعيد الفرة وشيك الكرة والله ما رأيت مثله من الرجال صارعاً ومصروعاً والله لكأنه لا يموت فقال عمر للأجلح بن وقاص وأقبل عليه هيه
قال وأنا أعرف الغضب في وجهه فقلت يا أمير المؤمنين الناس صالحون كثير نسلهم دارة أرزاقهم خصب نباتهم أجرياء على عدوهم جبان عدوهم عنهم صالحون بصلاح إمامهم والله ما رأينا مثلك إلا من تقدمك فنستمتع الله بك
فقال ما منعك أن تقول في صاحبك مثل الذي قال فيك قال منعني ما رأيت في وجهك
قال قد أصبت أما لو قلت له مثل الذي لك لأوجعتكما عقوبة فإن تركتك لنفسك فسوف أتركه لك والله لوددت لو سلمت لكم حالكم هذه أبداً أما إنه سيأتي عليك يوم تعضه وينهشك وتهره وينبحك ولست له يومئذ وليس لك فإن لم يكن بعهدكم فما أقربه منكم

قال أبو عبيدة حدثنا يونس وأبو الخطاب قالا لما كان يوم القادسية أصاب المسلمون أسلحة وتيجاناً ومناطق ورقابا فبلغت مالاً عظيماً فعزل سعد الخمس ثم فض البقية فأصاب الفارس ستة آلاف والراجل ألفان فبقي مال دثر
فكتب إلى عمر رضي الله عنه بما فعل فكتب إليه أن رد على المسلمين الخمس وأعط من لحق بك ممن لم يشهد الوقعة
ففعل فأجراهم مجرى من شهد وكتب إليه عمر بذلك فكتب إليه أن فض ما بقي على حملة القرآن
فأتاه عمرو بن معد يكرب فقال ما معك من كتاب الله تعالى فقال إني أسلمت باليمن ثم غزوت فشغلت عن حفظ القرآن
قال ما لك في هذا المال نصيب
قال وأتاه بشر بن ربيعة الخثعمي صاحب جبانة بشر فقال ما معك من كتاب الله قال بسم الله الرحمن الرحيم
فضحك القوم منه ولم يعطه شيئاً فقال عمرو في ذلك - بسيط -
( إذا قُتِلنا ولا يَبْكي لنا أحدٌ ... قالت قريشٌ إلاَ تِلْكَ المقاديرُ )
( نُعْطى السَّوِيّةَ من طَعْنٍ لَه نَفَذٌ ... ولا سوِيّةَ إذ تُعْطَى الدنانير )
وقال بشر بن ربيعة - طويل -
( أنختُ بباب القادسيّةٍ ناقتي ... وسَعْدُ بن وقّاصٍ عليَّ أميرُ )
( وسعدٌ أمير شرُّه دونَ خيره ... وخيرُ أميرٍ بالعراق جريرُ )

( وعند أمير المؤمنين نوافلٌ ... وعند المُثنَّى فضّة وحرير )
( تذكَّرْ هداكَ الله وَقْعَ سيوفِنا ... بباب قُديس والمَكرُّ عسير )
( عشيةَ وَدَّ القومُ لو أنَّ بعضَهُمْ ... يُعار جَناحَيْ طائر فيطير )
( إذا ما فرغنا من قِراعِ كتيبةٍ ... دَلَفْنَا لأخرى كالجبال تسير )
( ترى القومَ فيها واجمين كأنَّهُمْ ... جمالٌ بأحمالٍ لهنَّ زفير )
فكتب سعد إلى عمر رضي الله تعالى عنه بما قال لهما وما ردا عليه وبالقصيدتين فكتب أن أعطهما على بلائهما فأعطى كل واحد منهما ألفي درهم
قال وحدثني أبو حفص السلمي قال كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي إن في جندك عمرو بن معد يكرب وطلحة بن خويلد الأسدي فإذا حضر الناس فأدنهما وشاورهما وابعثهما في الطلائع وإذا وضعت الحرب أوزارها فضعهما حيث وضعا أنفسهما
يعني بذلك ارتدادهما وكان عمرو ارتد وطليحة تنبأ
قال وحدثنا أبو حفص السلمي قال عرض سلمان بن ربيعة جنده بأرمينية فجعل لا يقبل إلا عتيقاً فمر به عمرو بن معد يكرب بفرس غليظ فقال سلمان هذا هجين
فقال عمرو والهجين يعرف الهجين فبلغ عمر رضي الله تعالى عنه قوله فكتب إليه أما بعد فإنك القائل لأميرك ما قلت وإنه بلغني أن عندك سيفاً تسميه الصمصامة وعندي سيف أسميه مصمماً وأقسم لئن وضعته بين أذنيك لا أقلع حتى يبلغ قحفك
وكتب إلى سلمان يلومه في حلمه عنه

قال وزعموا أن عمراً شهد فتح اليرموك وفتح القادسية وفتح نهاوند مع النعمان بن مقرن المزني وكتب عمر إلى النعمان إن في جندك رجلين عمرو بن معد يكرب وطليحة بن خويلد الأسدي من بني قعين فأحضرهما الحرب وشاورهما في الأمر ولا تولهما عملاً
والسلام
صوت - طويل -
( خليليَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... أجِدَّكُما لا تَقْضِيان كَرَاكُمَا )
( سأبكيكما طولَ الحياةِ وما الذي ... يَرُدُّ على ذي لَوْعةٍ إنْ بكاكما )
ويروى ذي عولة
الشعر لقس بن ساعدة الإيادي فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي في خبر أنا ذاكره هاهنا
وذكر يعقوب بن السكيت أنه لعيسى بن قدامة الأسدي
وذكر العتبي أنه لرجل من بني عامر بن صعصعة يقال له الحسن بن الحارث
والغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو

15 -

ذكر خبر قس بن ساعدة ونسبه وقصته في هذا الشعر
هو قس بن ساعدة بن عمرو وقيل مكان عمرو شمر بن عدي بن مالك بن أيدعان بن النمر بن واثلة بن الطمثان بن زيد مناة بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد
خطيب العرب وشاعرها وحليمها وحكيمها في عصره
يقال إنه أول من علا على شرف وخطب عليه
وأول من قال في كلامه أما بعد وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا
وأدركه رسول الله قبل النبوة ورآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاماً سمعه منه وسئل عنه فقال يحشر أمة وحده
وقد سمعت خبره من جهات عدة إلا أنه لم يحضرني وقت كتبت هذا الخبر غيره وهو إن لم يكن من أقواها على مذهب أهل الحديث إسناداً فهو من أتمها

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو شعيب صالح بن عمران قال حدثني عمر بن عبد الرحمن بن حفص النسائي قال حدثني عبد الله بن محمد قال حدثني الحسن بن عبد الله قال حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال لما قدم وفد إياد على النبي قال ما فعل قس بن ساعدة قالوا مات يا رسول الله
قال كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه
فقال رجل من القوم أنا أحفظه يا رسول الله
قال كيف سمعته يقول قال سمعته يقول أيها الناس اسمعوا وعوا من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت
ليل داج وسماء ذات أبراج بحار تزخر ونجوم تزهر وضوء وظلام وبر وآثام ومطعم ومشرب وملبس ومركب
ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه وأدرككم أوانه فطوبى لمن أدركه فاتبعه وويل لمن خالفه
ثم أنشأ يقول - مجزوء الكامل -
( في الذَّاهبين الأَوَّلينَ ... من القُرون لنا بصائرْ )
( لمَّا رأيْتُ موارداً ... للموت ليس لها مَصادِرْ )
( ورأيتُ قومي نحوها ... يَمضِي الأصاغرُ والأكابرْ )
( أيقنْتُ أنِّي لا مَحالةَ ... حيثُ صار القومُ صائرْ )

فقال النبي ( يرحم الله قساً إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده )
فقال رجل يا رسول الله لقد رأيت من قس عجبا
قال وما رأيت قال بينا أنا بجبل يقال له سمعان في يوم شديد الحر إذ أنا بقس بن ساعدة تحت ظل شجرة عند عين ماء وعنده سباع كلما زأر سبع منها على صاحبه ضربه بيده وقال كف حتى يشرب الذي ورد قبلك
قال ففرقت فقال لا تخف
وإذا أنا بقبرين بينهما مسجد فقلت له ما هذان القبران قال هذان قبرا أخوين كانا لي فماتا فاتخذت بينهما مسجداً أعبد الله جل وعز فيه حتى ألحق بهما
ثم ذكر أيامهما فبكى ثم أنشأ يقول - طويل -
( خليليَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... أجِدَّكُما لا تَقْضِيان كَرَاكُمَا )
( ألم تعلما أنِّي بِسِمْعانَ مفرَدٌ ... وما ليَ فيه من حبيبٍ سِواكما )
( أقيمُ على قبرَيْكما لستُ بارحاً ... طَوَال الليالي أو يُجِيبَ صَداكما )
( كأنّكما والموتُ أقربُ غايةٍ ... بجسميَ في قبريْكما قد أتاكما )
( فلو جُعِلَتْ نفسٌ لنفسٍ وقاية ... لجُدْتُ بنفسي أن تكون فِداكما )
فقال النبي ( يرحم الله قساً )
وأما الحكاية عن يعقوب بن السكيت أن الشعر لعيسى بن قدامة الأسدي فأخبرني بها علي بن سليمان الأخفش عن السكوني قال قال يعقوب بن السكيت

قال عيسى بن قدامة الأسدي وكان قدم قاسان وكان له نديمان فماتا وكان يجيء فيجلس عند القبرين وهما براوند في موضع يقال له خزاق فيشرب ويصب على القبرين حتى يقضي وطره ثم ينصرف وينشد وهو يشرب - طويل -
( خليليَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... أجِدَّكما لا تقضيانِ كَراكُمَا )
( ألم تعلما ما لي براوَنْدَ هذهِ ... ولا بخُزاقٍ من نديمٍ سواكُما )
( مقيمٌ على قبرَيْكما لستُ بارحاً ... طِوَالَ الليالي أو يجِيبَ صَداكما )
( جَرى الموتُ مجرى اللحمِ والعظم منكما ... كأنّ الذي يَسقي العُقارَ سَقاكما )
( تحمَّل مَنْ يَهوي القُفولَ وغادَروا ... أخاً لكما أشجاه ما قد شجاكما )
( فأيُّ أخٍ يجفو أخاً بعد موتِه ... فلستُ الذي مِن بَعْد موتٍ جفاكما )
( أَصُبُّ على قبريْكما من مُدامةٍ ... فإلاّ تَذُوقا أُرْوِ منها ثَراكما )
( أناديكما كيما تجيبا وتَنْطقا ... وليس مجاباً صوتُه مَن دعاكما )
( أمِن طولِ نومٍ لا تُجيبان داعياً ... خليليَّ ما هذا الذي قد دهاكما )
( قضَيْتُ بأنِّي لا محالةَ هالِكٌ ... وأني سيعروني الذي قد عراكما )
( سأبكيكما طولَ الحياة وما الذي ... يردُّ على ذي عَوْلةٍ إنْ بكاكما )

وأخبرني ابن عمار أبو العباس أحمد بن عبيد الله بخبر هؤلاء عن أحمد بن يحيى البلاذري قال حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي قال بلغني أن ثلاثة نفر من أهل الكوفة كانوا في الجيش الذي وجهه الحجاج إلى الديلم وكانوا يتنادمون لا يخالطون غيرهم فإنهم لعلى ذلك إذ مات أحدهم فدفنه صاحباه وكانا يشربان عند قبره فإذا بلغه الكأس هراقاها على قبره وبكيا
ثم إن الثاني مات فدفنه الباقي إلى جنب صاحبه وكان يجلس عند قبريهما فيشرب ويصب الكأس على الذي يليه ثم على الآخر ويبكي وقال فيهما
( نديميَّ هُبَّا طالما قد رَقَدْتُما ... ) وذكر بعض الأبيات التي تقدم ذكرها
وقال مكان براوند هذه بقزوين وسائر الخبر نحو ما ذكرناه
قال ابن عمار فقبورهم هناك تعرف بقبور الندماء
ذكر العتبي عن أبيه أن الشعر للحزين بن الحارث أحد بني عامر بن صعصعة وكان أحد نديميه من بني أسد والآخر من بني حنيفة فلما مات أحدهما كان يشرب ويصب على قبره ويقول - رمل -
( لا تُصَرِّدْ هامةً من كأسها ... واسقِهِ الخمرَ وإن كان قُبِرْ )
( كان حُرّاً فهوى فيمن هوى ... كلُّ عودٍ ذي شُعُوبٍ يَنْكَسِرْ )
قال ثم مات الآخر فكان يشرب عند قبريهما وينشد
( خليليَّ هبا طالما قد رَقَدْتُما ... ) الأبيات
قال ثم قالت له كاهنة إنك لا تموت حتى تنهشك حية في شجرة بوادي كذا

وكذا
فورد ذلك الوادي في سفر له وسأل عنه فعرفه وقد كان خط في أصل شجرة ومد رجله عليه فنهشته حية فأنشأ يقول - طويل -
( خليليَّ هذا حيثُ رَمْسِي فَعَرِّجَا ... عليَّ فإنِّي نازلٌ فَمُعَرِّسُ )
( لَبِسْتُ رداءَ العيش أَحْوَى أجُّره العَشِيّاتِ ... حتَّى لم يكنْ فيه مَلْبَسُ )
( تَرَكْتُ خِبائي حيثُ أَرْسَى عمادَه ... عليَّ وهذا مَرْمَسِي حيث أُرْمَسُ )
( أَحَتْفِي الذي لا بدَّ أنَّك قاتلي ... هَلمَّ فما في غابر العيش مَنْفَس )
( أبعدَ نديميَّ اللذَيْن بعاقلٍ ... بَكَيْتُهما حولاً مَدى أتوجَّس )

16 -

ذكر هاشم بن سليمان وبعض أخباره
هو هاشم بن سليمان مولى بني أمية ويكنى أبا العباس وكان موسى الهادي يسميه أبا الغريض
وهو حسن الصنعة عزيزها وفيه يقول الشاعر - سريع -
( يا وَحشتي بعدك يا هاشمُ ... غِبْتَ فَشَجْوي بك لي دائمُ )
( اللهوُ واللذّةُ يا هاشمُ ... ما لم تكن حاضرَه مأتَمُ )
أخبرني علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه قال كان موسى الهادي يميل إلى هاشم بن سليمان ويمازحه ويلقبه أبا الغريض
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال بلغني أن هاشم بن سليمان دخل يوماً على موسى الهادي فغناه - مجزوء الكامل -
صوت
( لو يُرسِل الأَزْلُ الظِّباء ... تَرودُ ليس لهنَّ قائدْ )
( لَتَيَمَّمَتْكَ تدُلُّها ... رَيّاكَ للسُّبُل الموارد )

( وإذا الرياحُ تنكَّرتْ ... نُكْباً هواجرُها صَوَاردْ )
( فالناس سائلةٌ إليكَ ... فصادرا تُغنِي وواردْ )
الشعر لطريح بن إسماعيل الثقفي يقوله في الوليد بن يزيد بن عبد الملك
والغناء لهاشم بن سليمان خفيف ثقيل أول بالبنصر
فطرب موسى وكان بين يديه كانون كبير ضخم عليه فحم فقال له سلني ما شئت
قال تملأ لي هذا الكانون
فأمر له بذلك وفرغ الكانون فوسع ست بدور فدفعها إليه
وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن أبي توبة عن محمد بن جبر عن هاشم بن سليمان قال أصبح موسى أمير المؤمنين يوماً وعنده جماعة منا فقال يا هاشم غنني - كامل -
( أبَهَارُ قد هيَّجْتِ لي أوجاعا ... )
فإن أصبت مرادي فيه فلك حاجة مقضية
فغنيته فقال قد أصبت وأحسنت سل حاجتك
فقال يا أمير المؤمنين تأمر أن يملأ هذا الكانون دراهم
قال وبين يديه كانون عظيم فأمر به فملئ فوسع ثلاثين ألف درهم فلما حصلتها قال يا ناقص الهمة والله لو سألتني أن أملأه دنانير لفعلت
فقلت أقلني يا أمير

المؤمنين
فقال لا سبيل إلى ذلك فلم يسعدك الجد به
نسبة هذا الصوت - كامل -
( أبهارُ قد هيَّجْتِ لي أوجاعاً ... وتركتِني عبداً لكُمْ مِطْواعا )
( بحديثِكِ الحَسَنِ الذي لو كُلِّمتْ ... وَحْشُ الفلاةِ به لَجِئْنَ سِراعا )
( وإذا مررْتُ على البَهَار مُنَضَّدا ... في السُّوق هَيَّجَ لي إليكِ نزاعا )
( واللهِ لو عَلِم البَهارُ بأنَّها ... أضحَتْ سميَّتَه لصار ذِراعا )
الغناء لهاشم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وفيه ثقيل أول بالبنصر ينسب إلى إبراهيم الموصلي وإلى يحيى المكي وإلى إسحاق
أخبرني أحمد بن عبد العزيز واسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني بعض أصحابنا قال كنا في منزل محمد بن اسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس وكان عالماً بالغناء والفقه جميعاً وقد كان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه ووصفه أحمد بن يوسف بالعلم بالغناء فقال المأمون ما أعجب ما اجتمع فيه العلم بالفقه والغناء فكتبت إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن يتحول إلينا وكان في جوارنا وعندنا يومئذ محمد بن أيوب بن جعفر ابن سليمان وذكاء وصغير غلاما أحمد بن يوسف الكاتب فكتب إلينا إسحاق جعلت فداءكم قد أخذت دواء فإذا خرجت منه حملت قدري وصرت إليكم
وكتب في أسفل كتابه - رجز -
( أنا شماطيط الذي حُدِّثتَ بِهْ ... مَتَى أنبَّهْ للغَدَاءِ أنتبهْ )
( ثم أدور حولَه وأحتبِهْ ... حتّى يقال شِرْهٌ ولسْتُ بِهْ )

ثم جاءنا ومعه بديح غلامه فتغدينا وشربنا فغنى ذكاء غلام أحمد بن يوسف
( أبهارُ قد هيّجْتِ لي أوجاعا ... ) كامل
فسأله إسحاق أن يعيده فأعاده مراراً ثم قال له ممن أخذت هذا فقال من معاذ بن الطبيب
قال والصنعة فيه له
فقال له إسحاق أحب أن تلقيه على بديح
ففعل
فلما صليت العشاء انصرف ذكاء وقعد أبو جعفر يشرب يعني مولاه وعنده قوم وتخلف صغير فغنانا فقال له إسحاق أنت والله يا غلام ماخوري
وسكر محمد بن إسماعيل في آخر النهار فغنانا - متقارب -
( دَعُوني أغُضُّ إذا ما بَدَتْ ... وأملِكُ طَرْفِي فلا أنظرُ )
فقال إسحاق لمحمد بن الحسن آجرك الله في ابن عمك أي قد سكر فأقدم على الغناء بحضرتي

نسبة هذا الصوت
صوت - متقارب -
( هَبُوني أَغُضُّ إذا ما بَدَتْ ... وأملِك طَرْفي فلا أنظُرُ )
( فكيف احتيالي إذا ما الدموعُ ... نَطَقْنَ فَبُحْنَ بما أضمِرُ )
( أيا مَنْ سروري به شِقْوةٌ ... ومَنْ صفوُ عيشي به أكْدرُ )
( أَمِنِّي تخاف انتشارَ الحديثِ ... وحظِّيَ في سَتْره أوفَرُ )
( ولو لم أصُنْه لِبُقْيَا عليك ... نظرْتُ لنفسي كما تنظر )

الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للزبير بن دحمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الأبيات الثلاثة الأول
وفيها لعمرو بن بانة ماخوري
وفي
( أيا مَن سُروري به شِقْوَةٌ ... )
لسليم هزج
وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى حسين بن محرز وإلى عباس منقار
صوت - رجز -
( هذا أوانُ الشدِّ فاشتدِّي زِيَمْ ... قد لَفَّها الليلُ بسوّاقٍ حُطمْ )
( ليسَ براعي إبلٍ ولا غَنمْ ... ولا بجَزّارٍ على ظهرٍ وَضَمْ )
عروضه من الرجز
الشعر لرشيد بن رميض العنزي يقوله في الحطم وهو شريح بن ضبيعة وأمه هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد والغناء ليزيد حوراء - خفيف - ثقيل أول بالبنصر وفيه خفيف رمل يقال إنه لأحمد المكي
قال أبو عبيدة كان شريح بن ضبيعة غزا اليمن في جموع جمعها من ربيعة فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كندة أسر فيها فرعان بن مهدي بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس وأخذ على طريق مفازة فضل بهم دليلهم ثم هرب منهم ومات فرعان في أيديهم عطشاً وهلك منهم ناس كثير بالعطش
وجعل الحطم يسوق بأصحابه سوقاً عنيفاً
حتى نجوا ووردوا الماء
فقال فيه رشيد - رجز -
( هذا أوانُ الشدَّ فاشتدي زِيَمْ ... ليسَ براعي إبلٍ ولا غنمْ )

( ولا بجزّارَ على ظهرِ وضَمْ ... نامَ الحداةُ وابن هندٍ لم يَنَمْ )
( باتتْ يقاسِيها غلامٌ كالزَّلَمْ ... خَدلَّج السَّاقين خَفّافُ القدمْ )
( قد لفَّها الليلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ ... )
فلقب يومئذ الحطم لقول رشيد هذا فيه
وأدرك الحطم الإسلام فأسلم ثم ارتد بعد وفاة رسول الله
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا عبد الله بن سعد الزهري قال أخبرنا عمي يعقوب قال أخبرني سيف قال خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين وكان من حديث البحرين أن رسول الله لما مات ارتدوا ففاءت عبد القيس منهم وأما بكر فتمت على ردتها
وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود بن المعلى
فذكر سيف عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن أبي الحسن قال قدم الجارود بن المعلى على النبي مرتاداً وقال أسلم يا جارود فقال إن لي ديناً قال له النبي إن دينك يا جارود ليس بشيء وليس بدين
فقال له الجارود فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك قال نعم
فأسلم وأقام بالمدينة حتى فقه
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن أبي إسحاق قال اجتمعت ربيعة بالبحرين فقالوا ردوا الملك في آل المنذر فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر وكان يسمى الغرور ثم أسلم بعد ذلك وقال لست بالغرور ولكني المغرور
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا عبد الله بن سعد قال أخبرني عمي قال أخبرنا سيف عن إسماعيل بن مسلم عن عمير بن فلان العبدي قال لما مات

رسول الله خرج الحطم بن ضبيعة في بني قيس بن ثعلبة ومن اتبعه من بكر بن وائل على الردة ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافراً حتى نزل القطيف وهجر واستغوى الخط و من كان بهما من الزط والسيابجة وبعث بعثاً إلى دارين فأقا موا له ليجعل عبد القيس بينهم وبينه وكانوا مخالفين له يمدون المنذرو المسلمين وأرسل إلى الغرور بن سويد بن المنذر ابن أخي النعمان بن المنذر فقال له اثبت فإني إن ظفرت ملكتك البحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة
وبعث إلى رواثا وقيل إلى جؤاثا فحاصرهم وألح عليهم فاشتد الحصار على المحصورين من المسلمين وفيهم رجل من صالحي المسلمين يقال له عبد الله بن حذف أحد بني أبي بكر بن كلاب فاشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا يهلكون فقال عبد الله بن حذف - وافر -
( ألاَ أبلِغْ أبا بكرٍ رسولاً ... وفتيانَ المدينةِ أجمعينا )
( فهلْ لَكُمُ إلى قومٍ كرامٍ ... قُعُودٍ في جؤاثاً مُحْصَرِينا )
( كأنَّ دماءهُمْ في كل فَجٍّ ... شُعاعُ الشمس يُعشي الناظرينا )
( توكَّلْنا على الرحمن إنّا ... وجَدْنا النَّصْرَ للمتوكلينا )
حدثني محمد بن جرير قال كتب إلى السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم عن سيف بن عمر عن الصقعب بن عطية بن بلال عن سهم بن

منجاب عن منجاب بن راشد قال بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين فتلاحق به لم من لم يرتد من المسلمين وسلك بنا الدهناء حتى إذا كنا في بحبوحتها أراد الله عز و جل أن يرينا آية فنزل العلاء وأمر الناس بالنزول فنفرت الإبل في جوف الليل فما بقي بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء يعني الخيم قبل أن يحطوا فما علمت جمعاً هجم عليه من الغم ما هجم علينا وأوصى بعضنا إلى بعض ونادى منادي العلاء اجتمعوا
فاجتمعنا إليه فقال ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم فقال الناس وكيف نلام ونحن إن بلغنا غداً لم تحم شمسه حتى نصير حديثاً فقال أيها الناس لا تراعوا ألستم مسلمين ألستم في سبيل الله ألستم أنصار الله قالوا بلى
قال فأبشروا فوالله لا يخذل الله تبارك وتعالى من كان في مثل حالكم
ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر فصلى بنا ومنا المتيمم ومنا من لم يزل على طهوره فلما قضى صلاته جثا لركبتيه وجثا الناس معه فنصب في الدعاء ونصبوا فلمع لهم سراب فأقبل على الدعاء ثم لمع لهم آخر كذلك فقال الرائد ماء
فقام وقام الناس فمشينا حتى نزلنا عليه فشربنا واغتسلنا فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل وجه وأناخت إلينا فقام كل رجل إلى ظهره فأخذه فما فقدنا سلكا فأرويناها العلل بعد النهل وتروحنا
وكان أبو هريرة رفيقي فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي كيف علمك بموضع ذلك الماء فقلت أنا أهدى الناس بهذه البلاد
قال فكر معي حتى تقيمني عليه
فكررت به فأنخت على ذلك ُ

المكان بعينه فإذا هو لا غدير به ولا أثر للماء فقلت له والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان وما رأيت بهذا المكان ماء قبل ذلك
فنظر أبو هريرة فإذا إداوة مملوءة فقال يا سهم هذا والله المكان ولهذا رجعت ورجعت بك
وملأت إداوتي هذه ثم وضعتها على شفير الوادي فقلت إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها وإن كان غياثاً عرفته
فإذا من من المن وحمدت الله جل وعز
ثم سرنا حتى نزلنا هجر فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر أن انضما في عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما
وخرج هو فيمن معه وفيمن قدم عليه حتى ينزل مما يلي هجر
وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي ثم خندق المسلمون والمشركون فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم فكانوا كذلك شهراً
فبينا الناس ليلة كذلك إذ سمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة فكأنها ضوضاء هزيمة فقال العلاء من يأتينا بخبر القوم فقال عبد الله بن حذف أنا آتيكم بخبر القوم وكانت أمه عجلية فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له من أنت فانتسب لهم وجعل ينادي يا أبجراه فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال ما شأنك فقال لا أضيعن الليلة بين اللهازم علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وعنزة وقيس أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود فتخلصه وقال والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة
قال دعني من هذا وأطعمني فقد مت جوعاً
فقرب إليه طعاماً فأكل
ثم قال زودني واحملني وجوزني انطلق إلى طيتي
ويقول ذلك لرجل قد غلب عليه الشراب ففعل وحمله على بعير

وزوده وجوزه
وخرج عبد الله حتى دخل عسكر المسلمين فأخبرهم أن القوم سكارى فخرج القوم عليهم حتى اقتحموا عسكرهم فوضعوا فيهم السيوف حيث شاؤوا واقتحموا الخندق هرابا فمترد وناج ودهش ومقتول ومأسور واستولى المسلمون على ما في العسكر ولم يفلت رجل إلا بما عليه
فأما أبجر فأفلت وأما الحطم فإنه بعل ودهش وطار فؤاده فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجوسونهم ليركبه فلما وضع رجله في الركاب انقطع فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم والحطم يستغيث ويقول ألا رجل من بني قيس ابن ثعلبة يعقلني فرفع صوته فعرفه عفيف فقال أبو ضبيعة قال نعم
قال أعطني رجلك أعقلك
فأعطاه رجله يعقلها فنفحها فأطنها من الفخذ وتركه فقال أجهز علي
فقال إني لأحب أن لا تموت حتى أمضك
وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه فأصيبوا ليلتئذ وجعل الحطم يقول ذلك لمن لا يعرفه حتى مر به قيس بن عاصم فقال له ذلك فعرفه فمال عليه فقتله فلما رأى فخذه نادرة قال واسوأتاه لو عرفت الذي به لم أحركه
وخرج المسلمون بعد ما أحرزوا الخندق على القوم يطلبونهم فاتبعوهم فلحق قيس بن عاصم أبجر وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس فلما خشي أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب وسلم النسا
فقال عفيف بن المنذر في ذلك - طويل -
( فإن يَرْقَأِ العرقوبُ لا يرقأ النَّسا ... وما كلُّ مَن يبقى بذلك عالمُ )
( ألم تَرَ أنَّا قد فَلَلْنَا حُماتَهُمْ ... بأسرةِ عمروٍ والرِّباب الأكارِمِ )
وأسر عفيف بن المنذر الغرور ابن أخي النعمان بن المنذر فكلمته

الرباب فيه وكان ابن أختهم وسألوه أن يجيره فجاء به إلى العلاء قال إني أجرته
قال ومن هو قال الغرور
قال العلاء أنت غررت هؤلاء قال أيها الملك إني لست بالغرور ولكني المغرور
قال أسلم
فأسلم وبقي بهجر
وكان الغرور اسمه ليس بلقب
وقتل العفيف أيضاً المنذر بن سويد أخا الغرور لأمه وكان له يومئذ بلاء عظيم فأصبح العلاء يقسم الأنفال ونفل رجالاً من أهل البلاء ثيابا فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر وقيس بن عاصم وثمامة بن أثال
فأما ثمامة فنفل ثيابا فيها خميصة ذات أعلام وكان الحطم يباهي فيها
وباع الباقي وهرب الفل إلى دارين فركبوا إليها السفن فجمعهم الله عز و جل بها وندب العلاء الناس إلى دارين وخطبهم فقال إن الله عز و جل قد جمع لكم أحزاب الشيطان وشذاذ الحرب في هذا اليوم وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم فإن الله جل وعز قد جمعهم به
فقالوا نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولاً ما بقينا فارتحل وارتحلوا حتى أتى ساحل البحر فاقتحموا على الخيل هم والحمولة والإبل والبغال الراكب والراجل ودعا ودعوا وكان دعاؤه و دعاؤهم يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت يا ربنا
فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله يمشون على

مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل وبين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر
ووصل المسلمون إليها فما تركوا من المشركين بها مخبرا وسبوا الذراري واستاقوا الأموال فبلغ من ذلك نفل الفارس من المسلمين ستة آلاف والراجل ألفين
فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم وفي ذلك يقول عفيف - طويل -
( ألم تَرَ أنَّ الله ذلَّل بحرَه ... وأنزَلَ بالكفَّار إحدى الجلائلِ )
( دَعَوْنا الذي شَقَّ البحارَ فجاءنا ... بأعجبَ مِن شقّ البحار الأوائلِ )
وأقفل العلاء الناس إلا من أحب المقام فاختار ثمامة بن أثال الذي نفله العلاء خميصة الحطم حين نزل على ماء لبني قيس بن ثعلبة فلما رأوه عرفوا الخميصة فبعثوا إليه رجلاً فسألوه أهو الذي قتل الحطم قال لا ولوددت أني قتلته
قالوا فأنى لك حلته قال نفلتها
قالوا وهل ينفل إلا القاتل قال إنها لم تكن عليه إنما كانت في رحله
قالوا كذبت
فقتلوه وكان بهجر راهب فأسلم فقيل له ما دعاك إلى الإسلام فقال ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها إن أنا لم أفعل فيض في الرمال وتمهيد أثباج البحور ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر
قالوا وما هو قال اللهم إنك أنت الرحمن الرحيم لا إله غيرك والبديع ليس قبلك شيء والدائم غير الغافل والحي الذي لا يموت وخالق ما يرى وما لا يرى وكل يوم أنت في شأن وعلمت اللهم كل شيء بغير تعليم
فعلمت أن القوم لم يعاونوا بالملائكة إلا وهم على أمر الله جل وعز
فلقد كان أصحاب رسول الله يسمعون هذا من ذلك الهجري بعد

صوت - خفيف -
( يا خليليَّ من مَلامٍ دعانِي ... وألِمَّا الغداةَ بالأظعان )
( لا تَلوما في آل زينبَ إنّ القلبَ ... رَهْنٌ بآلِ زينبَ عانِ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف رمل بالبنصر
وهذا الشعر يقوله في زينب بنت موسى أخت قدامة بن موسى الجمحي
أخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة قال حدثني قدامة بن موسى قال خرجت بأختي زينب بنت موسى إلى العمرة فلما كنت بسرف لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم عليّ فقلت إني أراك متوجهاً يا أبا الخطاب قال ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال فأردت الحديث معها
قلت أما علمت أنها أختي قال لا والله
واستحيا وثنى عنق فرسه راجعاً إلى مكة
أخبرني حرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري قال نسب ابن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحي أخت قدامة بن موسى فقال - خفيف -
( يا خليليَّ من مَلامٍ دعانِي ... )
وذكر البيتين وبعدهما
( لمْ تَدَعْ للنِّساء عندي نَصِيباً ... غيرَ ما قلْتُ مازِحاً بلساني )

فقال له ابن أبي عتيق أما قلبك فمغيب عنا وأما لسانك فشاهد عليك
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري لما نسب عمر بن أبي ربيعة بزينب قال
( لمْ تَدَعْ للنِّساء عندي نَصِيباً ... غيرَ ما قلْتُ مازِحاً بلساني )
قال له ابن أبي عتيق رضيت لهما بالمودة وللنساء بالدهفشة
قال والدهفشة التجميش والخديعة بالشيء اليسير
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال أخبرني مثل ذلك عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال فبلغ ذلك أبا وداعة السهمي فأنكره فقيل لابن أبي عتيق أبو وداعة قد اعترض لعمر بن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى الجمحي وقال لا أقر له أن يذكر في الشعر امرأة من بني هصيص
فقال ابن أبي عتيق لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمرقند على أهل عدن
قال عبد الملك وفيها يقول أيضاً عمر - خفيف -
( طالَ عن آل زينب الإِعراضُ ... للتعزِّي وما بنا الإِبغاضُ )
( ووليداً قد كان عُلِّقها القلْبُ ... إلى أنْ علا الرؤوسَ البياض )
( حَبْلُها عندنا متينٌ وحَبلِي ... عندَها واهنُ القوى أنقاضُ )
غناه ابن محرز رمل بالبنصر عن حبش
وفيها يقول أيضاً - خفيف

صوت
( أيها الكاشِح المعيِّر بالصُّرْمِ ... تزحزَحْ فما بها الهِجرانُ )
( لا مطاعٌ في آل زينبَ فارِجعْ ... أو تكلَّمْ حتّى يملَّ اللسان )
( فاجعلِ الليلَ مَوْعِداً حين يمسي ... ويُعفِّي حديثَنا الكتمان )
( كيف صبري عن بَعضِ نفسي وهل يَصبِرُ ... عن بعضِ نفسِه إنسان )
( ولقد أشهدُ المحدّث عند القَصر ... فيه تعفُّفٌ وبَيان )
( في زمانٍ من المعيشة لَذِّ ... قد مضى عصرُه وهذا زمانُ )
عروضه من الخفيف غناه ابن سريج ولحنه رمل بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية ووافقته دنانير
وذكر يونس أن فيه لابن محرز ولابن عباد الكاتب لحنين ولم يجنسهما
وأول لحن عباد لا مطاع في آل زينب وأول لحن ابن محرز ولقد أشهد المحدث
قال وفيها يقول أيضاً طويل
صوت
( أحدِّثُ نفسي والأحاديثُ جَمْةٌ ... وأكْبَرُ همِّي والأحاديثُ زينبُ )
( إذا طَلَعَتْ شمسُ النهار ذكَرْتُها ... وأَحْدِثُ ذكراها إذا الشمسُ تَغرب )
ذكر حماد عن أبيه أن فيه للهذلي لحناً لم ينسبه
صوت - مجزوء الكامل -
( يا نُصْبَ عَيْنِيَ لا أرى ... حيثُ التَفَتُّ سواكِ شَيّا )
( إنِّي لَمَيْتٌ إنْ صَدَدْتِ ... وإن وَصَلْتِ رَجَعْتُ حيّا )
الشعر لعليّ بن أديم الجعفي الكوفي والغناء لعمرو بن بانة رمل بالوسطى

17 -

ذكر علي بن أديم وخبره
هو رجل من تجار أهل الكوفة كان يبيع البز وكان متأدبا صالح الشعر يهوى جارية يقال لها منهلة واستهيم بها مدة ثم بيعت فمات أسفاً عليها
وله حديث طويل معها في كتاب مفرد مشهور صنعه أهل الكوفة لهما فيه ذكر قصصهما وقتاً وقتا وما قال فيها من الأشعار
وأمرهما متعالم عند العامة وليس مما يصلح الإطالة به
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال قال دعبل بن علي كان بالكوفة رجل يقال له علي بن أديم وكان يهوى جارية لبعض أهلها فتعاظم أمره وبيعت الجارية فمات جزعاً عليها وبلغها خبره فماتت
قال وحدثني بعض أهل الكوفة أنه علقها وهي صبية تختلف إلى الكتاب فكان يجيء إلى ذلك المؤدب فيجلس عنده لينظر إليها فلما أن بلغت باعها مواليها لبعض الهاشميين فمات جزعاً عليها
قال وأنشدني له أيضاً - كامل -
صوت
( صاحُوا الرَّحيلُ وحثَّني صَحْبي ... قالوا الرواحُ فطيَّروا لُبِّي )

( واشتقْتُ شوقاً كاد يقتلني ... والنفْسُ مشرِفة على نَحْبِ )
( لم يَلْقَ عند البَيْنِ ذو كَلَفٍ ... يوماً كما لاقيْتُ من كَرب )
( لا صَبْرَ لي عند الفراق على ... فَقْدِ الحبيب ولوعةِ الحبِّ )
الشعر لعلي بن أديم الكوفي الجعفي والغناء لحكم الوادي
وذكر حبش أن لابراهيم بن أبي الهيثم فيه لحناً
والله أعلم
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العمري قال حدثني دعبل بن علي قال كان بالكوفة رجل من بني أسد يقال له علي بن أديم فهوي جارية لبعض نساء بني عبس فباعتها لرجل من بني هاشم فخرج بها عن الكوفة فمات علي بن أديم جزعاً عليها بعد ثلاثة أيام من خروجها وبلغها خبره فماتت بعده فعمل أهل الكوفة لهما أخباراً هي مشهورة عندهم
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو بكر العمري قال حدثنا محمد بن سماعة قال آخر من مات من العشق علي بن أديم الجعفي مر بمكتب في بني عبس بالكوفة فرأى فيه جارية تسمى منهلة عليها ثياب سواد فاستهيم بها وأعجبته وكلف بها وقال فيها - مجزوء الكامل -
( إنِّي لمَا يعتادني ... من حبِّ لابسةِ السوادِ )
( في فتنةٍ وبليّةٍ ... ما إنْ يطيقُهُما فُؤادي )
( فبقِيتُ لا دُنْيَا أصبْتُ ... وفاتني طلبُ المعَادِ )
وسأل عنها فإذا لها مالكة عبسية وكان ابن أديم خزازاً فتحمل أبوه بجماعة من التجار على مولاتها لتبيعها فأبت وخرج إلى أم جعفر ورفع إليها قصته يسألها فيها المعونة على الجارية فخرج له توقيع بما أحب وأقام يتنجز تمام أمره
فبينا هو

ذات يوم على باب أم جعفر إذ خرجت امرأة من دارها فقالت أين العاشق فأشاروا إليه فقالت أنت عاشق وبينك وبين من تحب القناطر والجسور والمياه والأنهار مع ما لا يؤمن من حدوث الحوادث فكيف تصبر على هذا إنك لجسور صبور فخامر قلبه هذا القول وجزع فبادر فاكترى بغلاً إلى الكوفة على الدخول فمات يوم دخول الكوفة

18 -

ذكر عمرو بن بانة
هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد مولى ثقيف
وكان أبوه صاحب ديوان ووجهاً من وجوه الكتاب وينسب إلى أمه بانة بنت روح القحطبية
وكان مغنياً محسناً وشاعراً صالح الشعر وصنعته صنعة متوسطة النادر منها ليس بالكثير وكان يقعده عن اللحاق بالمتقدم في الصنعة أنه كان مرتجلاً والمرتجل من المحدثين لا يلحق الضراب
وعلى ذلك فما فيه مطعن ولا يقصر جيد صنعته عن صنعة غيره من طبقته وإن كانت قليلة وروايته أحسن رواية
وكتابه في الأغاني أصل من الأصول وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدي في الغناء وتجنيسه ويخالف إسحاق ويتعصب عليه تعصباً شديداً ويواجهه بذلك وينصر إبراهيم بن المهدي عليه
وكان تياهاً معجبا شديد الذهاب بنفسه وهو معدود في ندماء الخلفاء ومغنيهم على ما كان به من الوضح
وفيه يقول الشاعر - متقارب -
( أقولُ لعمروٍ وقد مرَّ بي ... فَسَلَّمَ تَسْلِيمَةً جافيهْ )
( لئن فضَّلوك بفضْل الغناء ... لقد فضل الله بالعافيهْ )

وقال ابن حمدون كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ الغناء عنه حتى كان من يسمعه لو توارى عن عينه عمرو ثم غنى لم يشكك في أنه هو الذي أخذ عنه لحسن حكايته وكان محظوظا ممن يعلمه ما علم أحداً قط إلا خرج نادراً مبرزاً
فأخبرني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون قال قال لي عمرو بن بانة علمت عشرة غلمان كلهم تبينت فيهم الثقافة والحذق وعلمت أنه يتقدم أحدهم أنت وتمرة وما تبينت قط من أحد خلاف ذلك فعلمته
وقال محمد بن الحسن الكاتب حدثني أبو حارثة الباهلي عن أخيه أبي معاوية قال سمعت عمرو بن بانة يقول لإسحاق في كلام جرى بينهما ليس مثلي يقاس بمثلك لأنك تعلمت الغناء تكسبا وتعلمته تطربا وكنت أضرب لئلا أتعلمه وكنت تضرب حتى تتعلمه
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال اجتمع عمرو بن بانة والحسين بن الضحاك في منزل ابن شعوف وكان له خادم يقال له مفحم وكان عمرو يتهم به فلما أخذ فيه الشراب سأل عمرو الحسين بن الضحاك أن يقول في مفحم شعراً ليغني فيه فقال الحسين - منسرح -
( وا بأبي مُفْحَمٌ لِغرّته ... قلْتُ له إذ خَلَوْتُ مكتتما )
( تحبُّ بالله من يخصُّك بالحُبِّ ... فما قال لا ولا نعما )
الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالبنصر
قال فغنى فيه عمرو
ولم يزل هذا الشعر غناءهم وفيه طربهم إلى أن

تفرقوا
وأتاهم في عشيتهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسألوا ابن شعوف أن لا يأذن له فحجبه وانصرف إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى منزله فلما تفرقوا مر به الحسين بن الضحاك وهو سكران فأخبره بجميع ما دار بينهما في مجلسهم فكتب إسحاق إلى ابن شعوف - منسرح -
( يا ابن شعوفٍ أمَا سَمِعْتَ بما ... قد صار في الناس كلِّهِمْ عَلَما )
( أتاك عمروٌ فبات ليلتَه ... في كلِّ ما يُشتَهى كما زَعَما )
( حتَّى إذا ما الظلامُ خالطَه ... سرى دَبِيباً فجامع الخدَما )
( ثُمّتَ لم يَرْضَ أن يفوز بِذَا ... سِرّاً ولكن أبدى الذي كَتما )
( حتّى تَغَنَّى لفرط صَبْوَتِهِ ... صَوْتاً شفَى من فؤاده السَّقَما )
( وا بأبي مُفْحَمٌ لِغرّته ... قلْتُ له إذ خَلَوْتُ مكتتما )
( تحبُّ بالله من يخصُّك بالودّ ... فما قال لا ولا نعما )
فهجر ابن شعوف عمرو بن بانة مدة وقطع عشرته
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي بهذا الخبر قال حدثني ميمون بن الأزرق قال كان لمحمد بن شعوف الهاشمي ثلاثة غلمان مغنين ومنهم اثنان صقلبيان محبوبان خاقان وحسين وكان خاقان أحسن الناس غناء وكان حسين يغني غناء متوسطاً وهو مع ذلك أضرب الناس وكان قليل الكلام جميل الأخلاق أحسن الناس وجهاً وجسماً وكان الغلام الثالث فحلاً يقال له حجاج حسن الوجه رومي حسن الغناء فتعشق عمرو بن بانة منهم المعروف بحسين وقال فيه - منسرح -
( وا بأبي مُفْحَمٌ لِغرّته ... قلْتُ له إذ خَلَوْتُ مكتتما )
( تحبُّ بالله من يخصُّك بالوُدِّ ... فما قال لا ولا نعما )
ولم يذكر غير هذا
وقال محمد بن الحسن حدثني أبو الحسين العاصمي قال دخلت أنا

وصديق لي على عمرو بن بانة في يوم صائف فصادفناه جالساً في ظل طويل ممتع فدعاني إلى مشاركته فيه وجعل يغنينا يومه كله لحنه - وافر -

صوت
( نِقابُكِ فاتنٌ لا تفتنينا ... ونَشْرُكِ طيّبٌ لا تحرِمينا )
( وخاتَمك اليمانِي غيرَ شَكٍّ ... خَتمْتِ به رقابَ العالمينا )
الغناء لعمرو بن بانة هزج خفيف بالبنصر
قال فما طربت لغناء قط طربي له ولا سمعت أشجى ولا أكثر نغما ولا أحسن من غنائه
أخبرني جحظة قال حدثني أبو حشيشة قال كنت يوماً عند عمرو بن بانة فزاره خادم كان يحبه فأقام عنده فطلب عمرو في الدنيا كلها من يضرب عليه فلم يجد أحداً فقال له جعفر الطبال إن أنا غنيتك اليوم على عود يضرب به عليك أي شيء لي عندك قال مائة درهم ودستيجة نبيذ
وكان جعفر حاذقاً متقدماً نادراً طيباً وكان نذل الهمة فقال أسمعني مخرج صوتك
ففعل فسوى عليه طبله كما يسوى الوتر واتكأ عليه بركبته فأوقع عليه
ولم يزل عمرو يغني بقية يومه على إيقاعه لا ينكر منه شيئاً حتى انقضى يومنا ودفع إليه مائة درهم وأحضر الدستيجة فلم يكن له من يحملها فحملها جعفر على عنقه وغطاها بطيلسانه وانصرفنا
قال أبو حشيشة فحدثت بهذا الحديث إسحاق بن عمرو بن بزيع وكان صديق إبراهيم بن المهدي فحدثني أن إبراهيم بن المهدي قال له يا جعفر حذق فلانة جاريتي ضرب الطبل ولك مائة دينار أعجل لك منها خمسين
قال نعم
فعجلت له الخمسون وعلمها فلما حذقت طالب إبراهيم بتتمة المائة فلم يعطه فاستعدى عليه أحمد بن أبي دواد الحسني خليفته فأعداه ووكل إبراهيم

وكيلاً فلما تقدم مع الوكيل إلى القاضي أراد الوكيل أن يكسر حجة جعفر فقال أصلح الله القاضي سله من أين له هذا الذي يدعي وما سببه فقال جعفر أصلح الله القاضي أنا رجل طبال وشارطني إبراهيم على مائة دينار على أن أحذق جاريته فلانة وعجل لي بخمسين ديناراً ومنعني الباقي بعد أن رضي حذقها فيحضر القاضي الجارية وطبلها وأحضر أنا طبلي ويسمعنا القاضي فإن كانت مثلي قضى لي عليه وإلا حذقتها فيه حتى يرضى القاضي
فقال له القاضي قم عليك وعليها لعنة الله وعلى من يرضى بذلك منك ومنها
فأخذ الأعوان بيده فأقاموه
وقال علي بن محمد الهشامي حدثني جدي ابن حمدون قال كنت عند عمرو بن بانة يوماً ففتح باب داره فإذا بخادم أبيض شيخ قد دخل يقود بغلاً له عليه مزادة فلما رآه عمرو صرخ لا إله إلا الله ما أعجب أمرك يا دنيا فقلت له ما لك قال يا أبا عبد الله هذا الخادم رزق غلام علويه المغني الذي يقول فيه الحسين بن الضحاك الشاعر - سريع -
( يا ليت رزقاً كان من رزقي ... يا ليته حظي من الخَلْقِ )
قد صار إلى ما ترى
ثم غناني لحناً له في هذا الشعر فما سمعت أحسن منه منذ خلقت

نسبة هذا اللحن
صوت
( يا ليْتَ رزقاً كان من رِزقي ... يا ليتَه حظَّي من الخَلْقِ )
( يا شادناً ملَّكْتُه رقِّي ... فلسْتُ أرجُو راحةَ العِتْقِ )
الشعر للحسين بن الضحاك والغناء لعمرو بن بانة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى
وقال علي بن محمد الهشامي حدثني جدي يعني ابن حمدون قال

كنا عند المتوكل ومعنا عمرو بن بانة في آخر يوم من شعبان فقال له عمرو يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك تأمر لي بمنزل فإنه لا منزل لي يسعني
فأمر المتوكل عبيد الله بن يحيى بأن يبتاع له منزلاً يختاره
قال وهجم الصوم وشغل عبيد الله وانقطع عمرو عنا فلما أهل شوال دعا بنا المتوكل فكان أول صوت غناه عمرو في شعر هذا - منسرح -
صوت
( ملاَّكَ ربِّي الأَعيادِ تُخْلِقُها ... في طولُ عمرٍ يا سيدَ الناسِ )
( دُفِعْتُ عن منزل أمرْتَ به ... فإِنَّني عنه مباعَد خاس )
( فمرْ بتسليمِهِ إليّ على ... رَغْم عدوِّي بحرمة الكاس )
( أعوذ بالله والخليفة أن ... يرجع ما قلته على راسي )
لحن عمرو في هذا الموضع هزج بالبنصر
فدعا المتوكل بعبيد الله بن يحيى فقال له لم دافعت عمراً بابتياع المنزل الذي كنت أمرتك بابتياعه فاعتل بدخول الصوم وتشعب الأشغال
فتقدم إليه أن لا يؤخر ابتياع ذلك إليه فابتاع له الدور التي في دور سر من رأى بحضرة المعلى بن أيوب
وفيها توفي عمرو
أخبرني محمد بن إبراهيم قريص قال سمعت أحمد بن أبي العلاء يحدث أستاذي يعني محمد بن داود بن الجراح قال جمع عبد الله بن طاهر بين المغنين وأراد أن يمتحنهم وأخرج بدرة دراهم سبقاً لمن تقدم منهم وأحسن فحضره

مخارق وعلويه وعمرو بن بانة ومحمد بن الحارث بن بسخنر فغنى فلم يصنع شيئاً وتبعه محمد بن الحارث فكانت هذه سبيله وامتدت الأعين إلى مخارق وعمرو فبدأ مخارق فغنى مجزوء الكامل
( إني امرؤٌ من خيرهمْ ... عمِّي وخالي من جذامْ )
فما نهنهه عمرو مع انقطاع نفسه حتى غنى سريع
( يا ربْعَ سلاّمة بالمنحنى ... بخَيف سلْعٍ جادكَ الوابلُ )
وكان إبراهيم بن المهدي حاضراً فبكى طرباً وقال أحسنت والله واستحققت فإن أعطيته وإلا فخذه من مالي يا حبيبي عني أخذت هذا الصوت وقد والله زدت علي فيه وأحسنت غاية الإحسان ولا يزال صوتي عليك أبداً
فقال له عبد الله من حكمت له بالسبق فقد حصل
وأمر له بالبدرة فحملت إلى عمرو
ثم حدثنا بعد ذلك أن إسحاق لقي عمرو بن راشد الخناق فقال له قد بلغني خبر المجلس الذي جمع عبد الله فيه المغنين يمتحنهم ولو شاء لكان في راحة من ذلك
قلت وكيف قال أما مخارق فأحسن القوم غناء إذا اتفق له أن يحسن وقلما يتفق له ذلك
وأما محمد بن الحارث فأحسنهم شمائل وأملحهم إشارة بأطراف وجهه في الغناء وليس له غير ذلك
وأما عمرو بن بانة فأعلم القوم وأرقاهم
وأما علويه فمن أدخله ابن الزانية مع هؤلاء

نسبة هذين الصوتين
صوت مجزوء الكامل
( إني امرؤٌ من خيرهمْ ... عمِّي وخالي من جذامْ )

( خَوْدٌ كضوء البدر أو ... أضْوَا لدَى الليل التمامْ )
( يجرِي وِشاحاها على ... نَحْرٍ نقيٍّ كالرُّخام )
والغناء لابن جامع رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق

صوت خفيف
( يا خليليَّ من بني شيبانِ ... أنا لا شكَّ ميّتٌ فابكياني )
( إنّ روحي لم يَبْقَ منها سِوى شيءٍ ... يسيرٍ مُعَلّقٍ بلساني )
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي وإبراهيم
وهذا الشعر يخاطب به أبو العتاهية عبد الله وزائدة بن معن بن زائدة الشيباني وكان صديقاً وخاصاً بهما
ثم إن يزيد بن معن غضب لمولاة لهم يقال لها سعدى وكان أبو العتاهية يشبب بها فضربه مائة سوط فهجاه وهجا إخوته ثم أصلح بينهم مندل بن علي العبدي وهو مولى أبي العتاهية فعاد إلى ما كان عليه لهم
فأخبرني وكيع قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قالا قول أبي العتاهية
( يا خَليليَّ من بني شيبان ... )
يخاطب به عبد الله ويزيد ابني معن بن زائدة أو قال عبد الله وزائدة
أخبرني ابن عمار قال حدثني زيد بن موسى بن حماد
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن سعيد قال حدثني أبو سويد عبد القوي بن محمد ابن أبي العتاهية قال

كان أبو العتاهية في حداثته يهوى امرأة من أهل الحيرة نائحة لها حسن وجمال ودماثة وكان ممن يهواها أيضاً عبد الله بن معن بن زائدة أبو الفضل وكانت مولاة لهم يقال لها سعدى وكان أبو العتاهية مغرماً بالنساء فقال فيها - طويل -
( ألا يا ذَواتِ السّحْق في الغرب والشرق ... أَفِقْنَ فإِنّ النَّيْكَ أشهى من السحقِ )
( أَفِقْنَ فإِنَّ الخبز بالأُدْم يُشْتَهى ... وليس يسوغ الخبزُ بالخبز في الخَلْقِ )
( أراكنَّ تَرْقَعْنَ الخروقَ بمثلها ... وأيُّ لبيب يرقع الخَرْق بالخَرْق )
( وهل يَصلُح المِهراسُ إلاّ بعوده ... إذا احتيج منه ذاتَ يومٍ إلى الدقّ )
قال وقال فيه أيضاً - خفيف -
( قلتُ للقلب إذْ طوى وَصْلَ سُعدَى ... لهواهُ البعيدة الأنسابِ )
( أنت مثل الذي يفرُّ من القَطْر ... حِذارَ الندى إلى الميزاب )
قال محمد بن محمد في خبره فغضب عبد الله بن معن لسعدى فضرب أبا العتاهية مائة فقال - مجزوء الخفيف -
( جلَدَتْني بكفِّها ... بنْتُ مَعْن بن زائدَه )
( جَلَدَتْني بكفِّها ... بأبي أنتِ جالدَه )
( جلدتني وبالغَتْ ... مائةً غيرَ واحده )
( إجْلدي إجلدي اجلدِي ... إنّما أنتِ والده )
أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني قال احتال عبد الله بن معن فضرب أبا العتاهية ضرباً غير مبرح إشفاقاً مما يغنّى به فقال

( إجْلدي إجلدي اجلدِي ... إنّما أنتِ والده )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا الغلابي قال حدثني مهدي قال تهدد عبد الله بن معن أبا العتاهية وخوفه ونهاه أن يعرض لمولاته سعدى فقال أبو العتاهية قوله - مجزوء الوافر -
( ألا قلْ لابن مَعْنٍ والذي ... في الودِّ قد حالا )
( لقد بُلِّغْتُ ما قال ... فما باليْتُ ما قالا )
( ولو كان من الأُسْد ... لما راعَ ولا هالا )
( فَصُغْ ما كنْتَ حلَّيْتَ ... به سيْفَك خَلخالا )
( فما تصنع بالسيف ... إذا لم تَكُ قَتّالا )
( ولو مَدّ إلى أُذُنَيْه ... كَفَّيْه لما نالا )
( قَصير الطُّول والطَّوْل ... فلا شبَّ ولا طالا )
( أرى قومَك أبطالا ... وقد أصبحْتَ بطّالا )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن علي الرازي قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال كنا عند ابن الأعرابي فذكر قول يحيى بن نوفل في عبد الملك بن عمير القاضي - طويل -
( إذا كَلَّمَتْهُ ذاتُ دَلٍّ لحاجةٍ ... فهمَّ بأن يقضي تنحنحَ أو سعَلْ )
وأن عبد الملك بن سليمان بن عمير قال تركني والله وإن السعلة لتعرض لي في الخلاء فأذكر قوله فأتركها
قال فقلت له هذا عبد الله بن معن بن زائدة يقول له أبو العتاهية - مجزوء الوافر

( فصُغْ ما كنْتَ حلَّيْتَ ... به سيفك خلخالا )
( وما تصنعُ بالسيف ... إذا لم تكُ قتَّالا )
قال فقال عبد الله ما لبست السيف قط فلمحني إنسان إلا قلت إنه يحفظ شعر أبي العتاهية فيّ فينظر إليّ بسببه
فقال ابن الأعرابي اعجبوا إليه لعنه الله يهجو مولاه وكان أبو العتاهية من موالي بني شيبان
وقال محمد بن موسى في خبره وقال أبو العتاهية يهجو عبد الله بن معن - سريع -
( لا تُكثرا يا صاحبَيْ رحلِي ... في شَتْمِ مَنْ أكثرَ من عَذْلِي )
( سبحانَ من خصَّ ابنَ معنٍ بما ... أرى به من قلّة العقل )
( قال ابن مَعْنٍ وَجَلاَ نفسَه ... علَى مَنِ الجِلوةُ يا أهلي )
( أنا فتاةُ الحيِّ من وائلٍ ... في الشّرَف الباذخ والنُّبْلِ )
( ما في بني شيبانَ أهلِ الحِجى ... جاريةٌ واحدةٌ مثلي )
( يا ليتَني أبصرْتُ دلاّلة ... تدلُّني اليوم على فحلِ )
( والَهْفَتَا اليومَ على أَمْرَدٍ ... يُلْصِق منِّي القُرْط بالحجْلِ )
( أتيْتُه يوماً فصافحْتُهُ ... فقال دَعْ كَفِّي وخذْ رِجلي )
( يُكنَى أبا الفضل فيا مَن رأى ... جاريةً تكنى أبا الفضل )
( قد نقّطتْ في خدِّها نقطةً ... مخافةَ العين من الكُحْلِ )
( إنْ زُرْتموها قال حُجّابُها ... نحنُ عن الزوّارِ في شُغْلِ )
( مولاتُنا خاليةٌ عندَها ... بَعْلٌ ولا إذْنَ على البعلِ )
( قولا لعبد الله لا تجهلَنْ ... وأنتَ رأس النُّوْك والجهلِ )

( أتجلِد الناسَ وأنت امرؤٌ ... تُجلَد في الدُّبر وفي القبَل )
( تبذُل ما يمنع أهلُ الندى ... هذا لعمري مُنتهى البَذْلِ )
( ما ينبغي للناس أن يَنسبُوا ... من كان ذا جُودٍ إلى البخلِ )
وقال في ضربه إياه - خفيف -
( ضربَتْني بكفِّها بنت معنِ ... أَوْجَعَتْ كفَّها وما أَوْجَعتْني )
( ولعمري لولا أذى كفِّها إذ ... ضربَتْني بالسَّوط ما تركَتْني )
أخبرني ابن عمار قال حدثني محمد بن موسى
وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثني جبلة بن محمد قالا لما اتصل هجاء أبي العتاهية بعبد الله بن معن غضب من ذلك أخوه يزيد بن معن فهجاه أبو العتاهية فقال - وافر -
( بَنَى مَعْنٌ ويهدِمُه يزيدُ ... كذاك الله يفعلُ ما يريدُ )
( فمعنٌ كان للحساد غَمّاً ... وهذا قد يُسَرُّ به الحسود )
( يزيدُ يزيدُ في مَنْعٍ وبُخل ... وينقُصُ في النوال ولا يزيد )
أخبرني محمد بن يحيى عن جبلة بن محمد قال حدثني أبي قال لما هجا أبو العتاهية بني معن فمضوا إلى مندل وحيان ابني علي العنزيين الفقيهين وكانا من سادات أهل الكوفة وهما من بني عمرو بن عمرو بطن من يقدم بن عنزة فقالوا لهما نحن بيت واحد وأهل ولا فرق بيننا وقد أتانا من مولاكم هذا ما لو أتى من بعيد الولاء لوجب أن تردعاه
فأحضرا أبا العتاهية ولم يكن يمكنه الخلاف عليهما فأصلحا بينه وبين عبد الله ويزيد ابني معن وضمنا عنه خلوص النية وعنهما ألا يتتبعاه بسوء وكانا ممن لا يمكن خلافهما فرجعت الحال إلى المودة والصفاء وجعل الناس يعذلون أبا العتاهية فيما فرط منه ولامه آخرون على صلحه لهم فقال - مجزوء الرمل -
( ما لعذَّالي وما لي ... أمَروني بالضلالِ )

( عَذلوني في اغتفاري ... لابن معنٍ واحتماِلي )
( أنا منه كنت أكْبَى ... زَندةً في كل حالِ )
( كلُّ ما قد كان منه ... فِلِقُبْحٍ من فِعالي )
( إنّما كانت يميني ... صَرَمتْ جهلاً شِمالي )
( مالُه بل نفسُه لي ... وله نفسي ومالي )
( قل لمن يعجَب من حسن ... رُجوعي وانتقالي )
( قد رأينا ذا كثيراً ... جارِياً بين الرجال )
( رُبَّ وَصْلٍ بعد صَدٍّ ... وقِلىً بعد وصال )
أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن موسى قال كان أبو العباس زائدة بن معن صديقاً لأبي العتاهية ولم يعن أخويه عليه فمات فرثاه فقال - وافر -
( حَزِنْتُ لموت زائدةَ بنِ مَعْنِ ... حقيقٌ أن يطولَ عليه حزني )
( فَتى الفتيانِ زائدةُ المصفَّى ... أبو العباس كان أخي وخِدْني )
( فَتَى قومِي وأيُّ فتىً توارت ... به الأكفانُ تحت ثرىً ولِبْنِ )
( ألا يا قبرَ زائدةَ بنِ مَعْن ... دَعَوْتُك كي تجيْبَ فلم تجبني )
( سلِ الأيامَ عن أركان قومي ... أُصِبْتُ بهنّ ركناً بعد ركن )

صوت طويل
( فما روضةٌ بالحَزْن طيّبةُ الثرى ... يمجُّ الندى جَثجاثُها وعَرارُها )

( بأطيبَ من أردانِ عَزّة مَوْهِناً ... وقد أُوْقِدَتْ بالمَنْدَلِ الرَّطْبِ نارُها )
( فإنْ خَفِيَتْ كانت لعينيك قُرّةً ... وإن تَبْدُ يوماً لم يُعَمِّمْك عارها )
( من الخفِرات البيض لم تَرَ شِقوةً ... وفي الحسب المكنون صافٍ نِجارُها )
الشعر لكثير والغناء لمعبد في الأول والثاني ولحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وذكر عمرو بن بانة أنه لابن سريج
وللغريض في الرابع والثالث ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وحبش
وذكر الهشامي أن في الأول والثاني رملاً لابن سريج بالوسطى
وذكر عمرو وحبش أن فيه رملاً لابن جامع بالبنصر
وفي الأبيات خفيف ثقيل يقال إنه لمعبد ويقال إنه للغريض وأحسبه للغريض
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة هكذا موقوفاً لم يتجاوز
وأخبرني أن كثير بن عبد الرحمن كان غالياً في التشيع
وأخبر عن قطام صاحبة ابن ملجم في قدمة قدمها الكوفة فأراد الدخول عليها ليوبخها فقيل له لا تردها فإن لها جواباً
فأبى وأتاها فوقف على بابها فقرعه فقالت من هذا فقال كثير بن عبد الرحمن الشاعر
فقالت لبنات عم لها تنحين حتى يدخل الرجل
فولجن البيت وأذنت له فدخل وتنحت من بين يديه فرآها وقد ولت فقال لها أنت قطام قالت نعم
قال صاحبة علي بن أبي طالب عليه السلام قالت

صاحبة عبد الرحمن بن ملجم
قال أليس فيك قتل علي بن أبي طالب قالت بل مات بأجله
قال أما والله لقد كنت أحب أن أراك فلما رأيتك نبت عيني عنك فما احلوليت في خلدي
قالت والله إنك لقصير القامة عظيم الهامة قبيح المنظر وإنك لكما قال الأول تسمع بالمعيدي خير من أن تراه
فقال - طويل -
( رأتْ رجلاً أودَى السِّفارُ بوجهه ... فلم يَبْقَ إلا منظرٌ وجَناجِنُ )
( فإنْ أكُ معروقَ العظام فإنني ... إذا وُزِنَ الأقوامُ بالقوم وازن )
( وإنّي لِمَا استَوْدَعْتِني من أمانةٍ ... إذا ضاعت الأسرار للسر دافن )
فقلت أنت لله أبوك كثير عزة قال نعم
قالت الحمد لله الذي قصر بك فصرت لا تعرف إلا بامرأة فقال الأمر كذلك فوالله لقد سار بها شعري وطار بها ذكري وقرب من الخليفة مجلسي وأنا لكما قلت - طويل -
( فإن خَفِيَتْ كانت لعينك قُرّةً ... وإن تَبْدُ يوماً لم يَعُمَّك عارُها )
( فما روضةٌ بالحَزْنِ طَيِّبَةُ الثَّرَى ... يمجُّ الندى جَثْجاثُها وعَرارُها )
( بأطيبَ من أردانِ عزّةَ موهِنا ... وقد أُوقِدتْ بالمَنْدَلِ اللَّدْنِ نارُها )
فقالت بالله ما رأيت شاعراً قطّ أنقص عقلاً منك ولا أضعف وصفاً أين أنت من سيدك امرئ القيس حيث يقول - طويل

( ألم تَرَياني كلّما جئْتُ طارقا ... وَجَدْتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ )
فخرج وهو يقول - كامل -
( ألحقُّ أبلجُ لا يُخِيل سبيلُه ... والحقُّ يعرفه ذوو الألباب )
صوت - مجزوء الرمل -
( هاكَ فاشربها خليلي ... في مَدَى الليلِ الطويلِ )
( قهوةً في ظلِّ كَرْمٍ ... سُبِيَتْ مِن نهر بِيْل )
( في لسانِ المرء منها ... مثلُ طَعْمِ الزنجبيل )
( قل لمن يَلْحاكَ فيها ... مِن فقيهٍ أو نبيل )
( أنتَ دعْها وارجُ أخرى ... مِن رحيق السلسبيل )
( تَعطش اليومَ وتُسقَى ... في غَدٍ نَعْتَ الطُّلول )
الشعر لآدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز والغناء لإِبراهيم الموصلي هزج بالنصر عن حبش
ولإبراهيم بن المهدي في الخامس والسادس والأول خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي
ولهاشم فيها ثاني ثقيل بالبنصر وقيل لعبد الرحيم

ذكر آدم بن عبد العزيز وأخباره
آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف
وأمه أم عاصم بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أيضاً
وهو أحد مَن منّ عليه أبو العباس السفاح من بني أمية لما قتل من وجد منهم
وكان آدم في أول أمره خليعاً ماجناً منهمكاً في الشراب ثم نسك بعد ما عمر ومات على طريقة محمودة
وأخبرني الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي عن الزبير بن بكار عن عمه أن المهدي أنشد هذه الأبيات وغني فيها بحضرته - مجزوء الرمل -
( أنتَ دعْها وارجُ أخرى ... مِن رحيق السلسبيل )
فسأل عن قائلها فقيل آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فدعا به فقال له ويلك تزندقت قال لا والله يا أمير المؤمنين ومتى رأيت قرشياً تزندق والمحنة

في هذا إليك ولكنه طرب غلبني وشعر طفح على قلبي في حال الحداثة فنطقت به
فخلى سبيله
قال وكان المهدي يحبه ويكرمه لظرفه وطيب نفسه
وروي هذا الخبر عن مصعب الزبيري وإسحاق بن إبراهيم الموصلي قال كان آدم بن عبد العزيز يشرب الخمر ويفرط في المجون وكان شاعراً فأخذه المهدي فضربه ثلاثمائة سوط على أن يقر بالزندقة فقال والله ما أشركت بالله طرفة عين ومتى رأيت قرشياً تزندق قال فأين قولك - مجزوء الرمل -
( اسقِني واسقِ غُصَيْنَا ... لا تبعْ بالنقد دَيْنَا )
( اسقِنِيها مُزة الطعم ... تُريك الشّيْنَ زَيْنا )
في هذين البيتين لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى ولإبراهيم هزج بالبنصر قال فقال لئن كنت ذاك فما هو مما يشهد على قائله بالزندقة
قال فأين قولك - مجزوء الرمل -
( اسقني واسقِ خليلي ... في مَدَى الليلِ الطويلِ )
( قهوةً صَهْباءَ صِرْفاً ... سُبِيَتْ من نهر بِيلِ )
( لونُها أصفرُ صافٍ ... وهْي كالمسك الفتيلِ )
( في لسانِ المرء منها ... مثلُ طعم الزنجبيل )

( ريحُها يَنفَح منها ... ساطعاً من رأس ميلِ )
( مَن يَنَلْ منها ثلاثاً ... يَنْسَ مِنهاجَ السبيل )
( فمتى ما نال خَمْساً ... تركَته كالقَتيل )
( ليس يَدري حينَ ذاكمْ ... ما دَبِيرٌ من قَبِيل )
( إنَّ سمعي عن كلام اللائِم ... فيها الثقيلِ )
( لشَدِيدُ الوَقْر إنِّي ... غير مِطْواعٍ ذليلِ )
( قلْ لمن يلحاك فيها ... مِن فقيهٍ أو نبيل )
( أنتَ دَعْها وارجُ أخرى ... مِن رحيق السلسبيل )
( نعطش اليومَ ونُسْقَى ... في غدٍ نَعْتَ الطلول )
فقال كنت فتى من فتيان قريش أشرب النبيذ وأقول ما قلت على سبيل المجون والله ما كفرت بالله قط ولا شككت فيه
فخلى سبيله ورقّ له
قال مصعب وهو الذي يقول - مجزوء الخفيف -

صوت
( اسقني يا معاويْة ... سبعةً أو ثمانيهْ )
( اسقنيها وغَنِّني ... قبلَ أخذِ الزَّبانيهْ )
( اسقنيها مُدامةً ... مُزّةَ الطعم صافيه )
( ثمَّ مَن لامَنا عليها ... فذاك ابنُ زانيه )
فيه خفيف رمل بالبنصر ينسب إلى أحمد بن المكي وإلى حكم الوادي
قال وآدم الذي يقول - وافر

( أقولُ وراعنَي إيوانُ كسرى ... برأس مَعَانَ أو أدْرُوسِفانِ )
( وأبصرْتُ البِغالَ مُرَبَّطاتٍ ... به من بعد أزمِنةٍ حسان )
( يعزُّ على أبي ساسان كسرى ... بموقِفكنَّ في هذا المكانِ )
( شربْتُ على تذكُّر عيشِ كسرى ... شراباً لونُه كالزعفرانِ )
( ورحْتُ كأنّني كسرى إذا ما ... عَلاهُ التاجُ يوم المِهْرجانِ )
قال وهو الذي يقول - متقارب -
( أحبُّك حُبّينِ لي واحدٌ ... وآخر أنَّكِ أهلٌ لذاكِ )
( فأما الذي هو حبُّ الطباعِ ... فشيءٌ خُصِصْتِ به عن سواكِ )
( وأما الذي هو حبُّ الجمال ... فلسْتُ أرى ذاك حتّى أراكِ )
( ولستُ أمنُّ بهذا عليكِ ... لك المنُّ في ذا وهذا وذاكِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن فليح بن سليمان قال مررنا يوماً مع خالصة في موكبها فوقفت على آدم بن عبد العزيز فقالت يا أخي طلبت منا حاجة فرفعناها لك إلى السيدة وأمرت بها وهي في الديوان فساء ظنك بها فقعدت عن تنجزها
قال فموه لها عذراً اعتذر به فوقفت عن الموكب حتى مضت ثم قلت له أخملت نفسك والله ما أحسب أنه حبسك عنها إلا الشراب أنت ترى الناس يركضون خلفها وهي ترف عليك لحاجتك
فقال والله هو ذاك إذا أصبحت فكل كسرة ولو بملح وافتح دنك فإن

كان حامضاً دبغ معدتك وإن كان حلواً خرطك وإن كان مدركاً فهو الذي أردت
قلت لا بارك الله عليك
ومضيت ثم أقلع بعد ذلك وتاب
فاستأذن يوماً على يعقوب بن الربيع وأنا عنده فقال يعقوب ارفعوا الشراب فإن هذا قد تاب وأحسبه يكره أن يراه
فرفع وأذن له فلما دخل قال ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون )
قال يعقوب هو الذي وجدت ولكننا ظننا أن يثقل عليك لتركك الشراب
قال إي والله إنه ليثقل عليّ ذاك
قال فهل قلت في ذلك شيئاً منذ تركته قال قلت طويل
( ألا هل فتىً عن شُربها اليومَ صابر ... لِيَجْزِيَهُ يوماً بذلك قادِرُ )
( شربْتُ فلمَّا قيل ليس بنازعٍ ... نَزعْتُ وثوبي من أذَى اللُّوم طاهرُ )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق قال كان مع المهدي رجل من أهل الموصل يقال له سليمان بن المختار وكانت له لحية عظيمة فذهب يوماً ليركب فوقعت لحيته تحت قدمه في الركاب فذهب عامتها فقال آدم بن عبد العزيز قوله - مجزوء الوافر -
( قدِ استوجَبَ في الحكمِ ... سليمانُ بنُ مختارِ )
( بما طَوَّل من لحيتهِ ... جَزّاً بمنشارِ )
( أو السيفِ أو الحَلْقِ ... أو التحريق بالنارِ )
( فقد صار بها أشهرَ ... من رايةِ بَيطار )
فقال ثم أنشدها عمر بن بزيغ المهدي فضحك وسارت الأبيات فقال أسيد بن أسيد وكان وافر اللحية ينبغي لأمير المؤمنين أن يكف هذا الماجن عن الناس

فبلغت آدم بن عبد العزيز فقال - مجزوء الرمل -
( لحيةٌ تمَّتْ وطالت ... لأَسِيد بن أَسِيدِ )
( كشِراعٍ من عَباءٍ ... قطعت حَبْلَ الوريد )
( يَعجب الناظرُ منها ... مِن قريبٍ وَبعيدِ )
( هي إنْ زادت قليلاً ... قطَعَتْ حبلَ الوريدِ )
وقال وكان المهدي يدني آدم ويحبه ويقربه وهو الذي قال لعبد الله بن علي لما أمر بقتله في بني أمية بنهر أبي فطرس إن أبي لم يكن كآبائهم وقد علمت مذهبه فيكم
فقال صدقت وأطلقه
وكان طيب النفس متصوفاً ومات على توبة ومذهب جميل

صوت مجزوء الوافر
( ألا يا صاحِ للعَجبِ ... دَعوْتُكَ ثم لم تُجِبِ )
( إلى القَيْناتِ والَلذّاتِ ... والصَّهباءِ والطَّربِ )
( ومنهنَّ التي تَبَلَتْ ... فؤادَك ثمّ لم تتبِ )
الشعر ليزيد بن معاوية يقوله للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام
والغناء لسائب خاثر خفيف رمل بالوسطى عن حبش
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال قدم سلم بن زياد على يزيد فنادمه فقال له ليلة ألا أوليك خراسان قال بلى وسجستان
فعقد له في ليلته فقال - خفيف

( اسقِني شربةً فروِّ عظامي ... ثم عُدْ واسقِ مثلَها ابنَ زيادِ )
( موضع السرِّ والأمانةِ منِّي ... وعلى ثغر مَغْنمي وجِهادي )
قال ولما رجع في خلافة أبيه جلس بالمدينة على شراب فاستأذن عليه عبد الله بن العباس والحسين بن علي فأمر بشرابه فرفع وقيل له إن ابن عباس إن وجد ريح شرابك عرفه
فحجبه وأذن للحسين فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال لله در طيبك هذا ما أطيبه وما كنت أحسب أحداً يتقدمنا في صنعة الطيب فما هذا يا ابن معاوية فقال يا أبا عبد الله هذا طيب يصنع لنا بالشأم
ثم دعا بقدح فشربه ثم دعا بقدح آخر فقال اسق أبا عبد الله يا غلام
فقال الحسين عليك شرابك أيها المرء لا عين عليك مني
فشرب وقال - مجزوء الوافر -
( ألا يا صاحِ للعَجبِ ... دَعوْتُكَ ثم لم تُجِبِ )
( إلى القَيْناتِ والَلذّاتِ ... والصَّهباءِ والطَّربِ )
( وباطيةٍ مُكلَّلَة ... عليها سادةُ العرب )
( وفيهن التي تَبَلَتْ ... فؤادَك ثمّ لم تتبِ )
فوثب الحسين عليه السلام وقال بل فؤادك يا ابن معاوية
صوت - وافر -
( أإن نادَى هدِيلاً يومَ فَلْج ... مع الإِشراق في فَنَنٍ حَمامُ )
( ظلِلْتَ كأنّ دمعَك دُرُّ سِلْكٍ ... وَهَى خيطاً وأسلمه النِّظامُ )

( تموتُ تشوُّقاً طوراً وتحيا ... وأنت جديرُ أنكَ مُستهامُ )
( كأنّك من تذكُّرِ أمِّ عمروِ ... وحَبْلُ وصالها خَلَقٌ رِمام )
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلام )
( فإنْ يكن النكاحُ أحلَّ أنثى ... فإنَّ نكاحها مطراً حرام )
( ولا غفرَ الإله لمُنكِحِيها ... ذنُوبَهُمُ وإنْ صلَّوا وصاموا )
( فطلِّقْها فلسْتَ لها بكُفْء ... وإلاّ عضَّ مَفرِقَك الحُسام )
الشعر للأحوص والغناء لمعبد من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجرى الوسطى
ولإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول ثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن ثابت بن إبراهيم ابن خلاد الأنصاري قال حدثني أبو عبد الله بن سعد الأنصاري قال قدم الأحوص البصرة فخطب إلى رجل من تميم ابنته وذكر له نسبه فقال هات لي شاهداً واحداً يشهد أنك ابن حمي الدبر وأزوجك
فجاءه بمن شهد له على ذلك فزوجه إياها وشرطت عليه ألا يمنعها من أحد من أهلها فخرج إلى المدينة وكانت أختها عند رجل من بني تميم قريباً من طريقهم فقالت

له اعدل بي إلى أختي
ففعل فذبحت لهم وأكرمتهم وكانت من أحسن الناس وكان زوجها في إبله فقالت زوجة الأحوص له أقم حتى يأتي
فلما أمسوا راح مع إبله ورعائه وراحت غنمه فراح من ذلك أمر كثير
وكان يسمى مطراً فلما رآه الأحوص ازدراه واقتحمته عينه وكان قبيحاً دميماً فقالت له زوجته قم إلى سلفك وسلم عليه
فقال وأشار إلى أخت زوجته بإصبعه - وافر -
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلام )
وذكر الأبيات وأشار إلى مطر بإصبعه فوثب إليه مطر وبنوه وكاد الأمر يتفاقم حتى حجز بينهم
قال الزبير قال محمد بن ثابت أبو عبد الله بن سعد الذي حدث بهذا الحديث أمه بنت الأحوص وأمها التميمية أخت زوجة مطر
وأخبرنا الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد عن أبيه أن امرأة الأحوص التي تزوجها إحدى بني سعد بن زيد مناة بن تميم
وذكر باقي القصيدة وهو قوله - وافر -
( كأنكَ مِن تذكُّرِ أمِّ عمروٍ ... وحَبْلُ وِصالها خَلَقٌ رِمامُ )
( صَريع مُدامةٍ غَلَبَتْ عليه ... تموتُ لها المفاصِلُ والعِظام )
( وأنَّى مِن بلادِك أمَّ عمروٍ ... سقَى داراً تُحلُّ بها الغمام )
( تحلُّ النَّعْفَ من أُحُدٍ وأدنى ... مَساكِنها الشُّبيكة أو سَنام )
( فلو لم ينكِحوا إلا كفِيّاً ... لكان كفيَّها الملكُ الهمام )

أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي حدثنا ابن كناسة قال مر بنا أشعب ونحن جماعة في المجلس فأتى جار لنا صاحب جوار يقال له أبان بن سليمان وعليه رداء خلق قد بدا منه ظهره وبه آثار فسلم علينا فرددنا عليه السلام فلما مضى قال بعض القوم مدني مجلود فأراه سمعها أو سمعها رجل يمشي معه فأخبره فلما انصرف وانتهى إلى المجلس قال - وافر -
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ )
فقلت للقوم أنتم والله مطر
ومثل ما جرى في هذا الخبر من قوله في المرأة خبر له آخر شبيه به مع ابن حزم
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن فضالة عن جميع ابن يعقوب قال خطب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بنت عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر إلى أخيها معمر بن عبد الله فزوجه إياها فقال الأحوص أبياتاً وقال لفتى من بني عمرو بن عوف أنشدها معمر بن عبد الله في مجلسه ولك هذه الجبة
فقال الفتى نعم
فجاءه وهو في مجلسه فقال - بسيط -
( يا معمرٌ يا ابن زيدٍ حين تَنكحها ... وتستبدُّ بأمر الغيِّ والرشَدِ )
فقال كان ذلك الرجل غائباً
فقال الفتى - بسيط -
( أما تذكّرْتَ صيفيَاً فتحفظه ... أو عاصماً أو قتيلَ الشِّعْب من أُحُدِ )
قال ما فعلتُ ولا تذكّرتُ
فقال الفتى
( أكنْتَ تجهل حزماً حين تَنكِحها ... أم خفْتَ لا زلتَ فيها جائع الكبدِ )

قال معمر لم أجهل حزماً
فقال الفتى
( أَبعدَ صهرِ بني الخطّاب تجعلهُمْ ... صِهراً وبعد بني العوّامِ من أسدِ )
فقال معمر قد كان ذلك
فقال الفتى
( هَبْها سليلَة خَيلٍ غيرِ مُقْرِفةٍ ... مظلومةً حُبِسَتْ للعَيْر في الجَددِ )
قال نعم أعانها الله وصبّرها
فقال الفتى
( فكلُّ ما نالنَا من عارِ مَنكَحها ... شَوىً إذا فارقَتْه وهي لم تلدِ )
قال نعم إلى الله عز و جل في ذلك الرغبة
قال الزبير أما قوله صهر بني الخطاب فإن جميلة بنت أبي الأقلح كانت عند عمر بن الخطاب فولدت له عاصم بن عمر
وأما صهر بني العوام فإن نهيسة بنت النعمان بن عبد الله بن أبي عقبة كانت عند يحيى بن حمزة بن عبد الله ابن الزبير فولدت له أبا بكر ومحمداً
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب قال قال الهدير كرهت أم جعفر أصواتاً من الغناء القديم فأرسلت لها رسولاً يلقيها في البحر ثم غنتها جارية بعد ذلك - وافر -
( سلامُ الله يا مطرٌ عليها ... وليس عليكَ يا مطرُ السلامُ )
فقالت هذا أرسلوا به رسولاً مفرداً إلى دهلك ليلقيه في البحر خاصة
قال والذي حمل أم جعفر على هذا التطير على ابنها محمد الأمين من هذه

الأصوات أيام محاربته المأمون فمنها قوله - طويل -
( كُليْبٌ لَعَمْرِي كان أكثرَ ناصراً ... وأيسَرَ جُرْماً منك ضُرِّج بالدمِ )
ومنها قوله - طويل -
( هُمُ قتَلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غَدَرَتْ يوماً بِكسرى مَرازِبُهْ )
ومنها قوله - طويل -
( رأيت زهيراً تحت كلكل خالدٍ ... فأقبلْتُ أسعى كالعَجُول أبادِرُ )
ومنها قوله - طويل -
( أبا منذرٍ أفنيْتَ فاستَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهْوَنُ من بعضِ )
مضى الحديث

صوت طويل
( وكنّا كنَدْمانَيْ جَذِيمةَ حِقْبَةً ... من الدَّهر حتَّى قيل لن يتصدَّعا )

( فلما تفرَّقنا كأني ومالكاً ... لطِولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا )
الشعر لمتمم بن نويرة يرثي أخاه مالكاً
والغناء لسياط

20 -

ذكر متمم وأخباره وخبر مالك ومقتله
هو متمم بن نويرة بن عمرو بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار
ويكنى متمم بن نويرة أبا نهشل
ويكنى أخوه مالك أبا المغوار
وكان مالك يقال له فارس ذي الخمار قيل له ذلك بفرس كان عنده يقال له ذو الخمار وفيه يقول وقد أحمده في بعض وقائعه - طويل -
( جزاني دَوائي ذُو الخِمار وصَنْعتي ... بما باتَ أطْواءً بنيَّ الأصاغرُ )
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال كان مالك بن نويرة شريفاً

فارساً وكان فيه خيلاء وتقدم وكان ذا لمة كبيرة وكان يقال له الجفول
وكان مالك قتل في الردة قتله خالد بن الوليد بالبطاح في خلافة أبي بكر وكان مقيماً بالبطاح فلما تنبأت سجاح اتبعها ثم أظهر أنه مسلم فضرب خالد عنقه صبراً فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وأبو قتادة الأنصاري لأنه تزوج امرأة مالك بعده وقد كان يقال إنه يهواها في الجاهلية واتهم لذلك أنه قتله مسلماً ليتزوج امرأته بعده
حدثنا بالسبب في مقتل مالك بن نويرة محمد بن جرير الطبري قال كتب إليّ السري بن يحيى يذكر عن شعيب بن إبراهيم التيمي عن سيف ابن عمر عن الصقعب بن عطية عن أبيه أن رسول الله استعمل عماله على بني تميم فكان مالك بن نويرة عامله على بني يربوع
قال ولما تنبأت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان وسارت من الجزيرة راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة فأجابها وقناها عن غزوها وحملها على أحياء من بني تميم فأجابته وقالت نعم فشأنك بمن رأيت وإنما أنا امرأة من بني يربوع وإن كان ملك فهو ملككم
فلما تزوجها مسيلمة الكذاب ودخل بها انصرفت إلى الجزيرة وصالحته أن يحمل عليها النصف من غلات اليمامة فارعوى حينئذ مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره فلحق بالبطاح ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما بقي من أمر مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح فهو على حاله متحير ما يدري ما يصنع

وقال سيف فحدثني سهل بن يوسف عن القاسم بن محمد وعمرو بن شعيب قالا لما أراد خالد بن الوليد المسير خرج من ظفر وقد استبرأ أسداً وغطفان وطيئاً فسار يريد البطاح دون الحزن وعليها مالك بن نويرة وقد تردد عليه أمره وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه وقالوا ما هذا بعهد الخليفة إلينا فقد عهد إلينا إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن يكتب إلينا بما نعمل
فقال خالد إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إليّ أن أمضي وأنا الأمير وإليّ تنتهي الأخبار ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها
وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ونعمل به
وهذا مالك بن نويرة بحيالنا وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان ولست أكرههم
ومضى خالد وبرمت الأنصار وتذامروا وقالوا لئن أصاب القوم خيراً إنه لخير حرمتموه ولئن أصابتهم مصيبة ليجتنبنكم الناس
فأجمعوا على اللحاق بخالد وجردوا إليه رسولاً فأقام عليهم حتى لحقوا به ثم سار حتى لحق البطاح فلم يجد به أحداً
قال السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة بن شجرة العقفاني عن عثمان بن سويد عن سويد بن المنعبة الرياحي قال قدم خالد بن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحداً ووجد مالك بن نويرة قد فرقهم في أموالهم ونهاهم

عن الاجتماع فبعث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام فمن أجاب فسالموه ومن لم يجب وامتنع فاقتلوه
وكان فيما أوصاهم أبو بكر إذا نزلتم منزلاً فأذنوا وأقيموا فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة
ثم اقتلوهم كل قتلة الحرق فما سواه
فإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فسائلوهم فإن هم أقروا بالزكاة قبلتم منهم وإلا فلا شيء إلا الغارة ولا كلمة
فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع ومن بني عاصم وعبيد وعرين وجعفر واختلفت السرية فيهم وفيهم أبو قتادة
وكان ممن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا
فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم في ليلة باردة لا يقوم لها شيء وجعلت تزداد برداً فأمر خالد منادياً فنادى دافئوا أسراكم
وكان في لغة كنانة إذا قالوا دافأنا الرجل وأدفئوه فذلك معنى اقتلوه من الدفء
فظن القوم أنه يريد القتل فقتلوهم
فقتل ضرار بن الأزور مالكاً فسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال إذا أراد الله أمراً أصابه
وقد اختلف القوم فيهم فقال أبو قتادة هذا عملك
فزبره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه عمر بن الخطاب فيه فلم يرض إلا بأن يرجع إليه فرجع إليه فلم يزل معه حتى قدم المدينة وقد كان تزوج خالد أم تميم بنت المنهال وتركها لينقضي طهرها وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره فقال عمر لأبي بكر إن في سيف خالد رهقاً وحق عليه أن

تقيده
وأكثر عليه في ذلك
وكان أبو بكر لا يقيد من عماله ولا من وزعته فقال هبه يا عمر تأول فأخطأ
فارفع لسانك عن خالد
وودى مالكاً وكتب إلى خالد أن يقدم عليه ففعل وأخبره خبره فعذره
وقبل منه وعنفه بالتزويج الذي كانت العرب تعيب عليه من ذلك
فذكر سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء فقتلوا
وقدم أخوه متمم ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم فكتب له برد السبي وألح عليه عمر في خالد أن يعزله وقال إن في سيفه لرهقاً فقال له لا يا عمر لم أكن لأشيم سيفاً سله الله على الكافرين
حدثنا محمد بن إسحاق قال كتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة عن عثمان عن سويد قال كان مالك من أكثر الناس شعراً وإن أهل العسكر أثفوا القدور برؤوسهم فما منها رأس إلا وصلت النار إلى بشرته ما خلا مالكاً فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره ووقى الشعر البشرة من حر النار أن تبلغ منه ذلك
قال وأنشد متمم عمر بن الخطاب ذكر خمصه يعني قوله - طويل -
( لقد كَفَّن المِنهالُ تحت رِدائه ... فتىً غيرَ مِبطانِ العشيّاتِ أرْوَعا )

فقال أكذاك كان يا متمم قال أما ما أعني فنعم
أخبرني اليزيدي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب
وحدثنيه أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب أن مالك بن نويرة كان من أكثر الناس شعراً وأن خالداً لما قتله أمر برأسه فجعل أثفية لقدر فنضج ما فيها قبل أن تبلغ النار إلى شواته
أخبرني محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا مسلمة عن ابن إسحاق عن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا وإذا لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة واقتلوا وحرقوا
فكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري واسمه الحارث بن ربعي أخو بني سلمة وقد كان عاهد الله أنه لا يشهد حرباً بعدها أبداً
وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح
قال فقلنا لهم إنا المسلمون
فقالوا ونحن المسلمون
قلنا فما بال السلاح معكم فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح
ففعلوا ثم صلينا وصلوا
وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه ما إخال صاحبكم يعني النبي إلا وقد كان يقول كذا وكذا
فقال خالد أو ما تعده صاحباً ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر رضي الله عنه وقال عدو الله عدا على امرىء مسلم

فقتله ثم نزا على امرأته
وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباء له وعليه صدأ الحديد معتجراً بعمامة قد غرز فيها أسهما فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال أقتلت امرأ مسلماً ثم نزوت على امرأته والله لأرجمنك بأحجارك ولا يكلمه خالد بن الوليد ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه فعذره أبو بكر وتجاوز له عما كان في حربه تلك
فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر وعمر جالس في المسجد الحرام فقال هلم إلي يا ابن أم شملة
فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه ودخل بيته
وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدي
وقال محمد بن جرير قال ابن الكلبي الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور
وهكذا روى أبو زيد عمر بن شبة عن أصحابه وأبو خليفة عن محمد بن سلام قال قدم مالك بن نويرة على النبي فيمن قدم من أمثاله من العرب فولاه صدقات قومه بني يربوع فلما مات النبي اضطرب فيها فلم يحمد أمره وفرق ما في يده من إبل الصدقة فكلمه الأقرع بن حابس المجاشعي والقعقاع بن معبد بن زرارة الدارمي فقالا له إن لهذا الأمر قائماً وطالباً فلا تعجل بتفرقة ما في يدك
فقال - وافر -
( أَراني الله بالنَّعَمِ المُنَدَّى ... بِبُرْقَةِ رَحْرَحانَ وقد أراني )

( تُمَشِّي يابنَ عَوْذَةَ في تميم ... وصاحِبُك الأُقَيْرَعُ تَلْحَيَاني )
( حَمَيْتُ جميعَها بالسَّيف صَلْتاً ... ولم تُرعَشْ يداي ولا بَناني )
يعني أم القعقاع وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو
وقال أيضاً - طويل -
( وقلْتُ خُذوا أموالَكُمْ غيرَ خائفٍ ... ولا ناظرٍ فيما يجيءُ من الغدِ )
( فإنْ قامَ بالأمر المُخَوِّفِ قائمٌ ... مَنَعْنا وقلنا الدِّينُ دين محمَّدِ )
قال ابن سلام فمن لا يعذر خالداً يقول إنه قال لخالد وبهذا أمرك صاحبك يعني النبي وأنه أراد بهذه القرشية
ومن يعذر خالداً يقول إنه أراد انتفاء من النبوة ويحتج بشعريه المذكورين آنفاً
ويذكر خالد أن النبي لما وجهه إلى ابن جلندى قال له يا أبا سليمان إن رأت عينك مالكاً فلا تزايله أو تقتله
قال محمد بن سلام وسمعني يوماً يونس وأنا أراد التميمية في خالد وأعذره فقال لي يا أبا عبد الله أما سمعت بساقي أم تميم يعني زوجة مالك التي تزوجها خالد لما قتله وكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها
قال وأحسن ما سمعت من عذر خالد قول متمم بأن أخاه لم يستشهد
ففيه دليل على عذر خالد
أخبرنا اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني محمد بن الحكم البجلي عن الأنصاري قال صلى متمم بن نويرة مع أبي بكر الصبح ثم أنشده قوله - كامل

( نِعْمَ القتيلُ إذا الرياحُ تَنَاوحَتْ ... تحت الإِزار قَتلْتَ يا ابن الأزورِ )
( أَدَعَوْتَه بالله ثُمّ قَتَلْتَهُ ... لو هُوْ دَعاكَ بِذمّةٍ لم يَغدرِ )
فقال أبو بكر والله ما دعوته ولا قتلته
فقال - كامل -
( لا يُضمِر الفحشاءَ تحت ردائه ... حلوٌ شمائله عفيفُ المِئزرِ )
( ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرعِ أنت وحاسراً ... ولنعمْ مَأوى الطارقِ المتنوِّر )
قال ثم بكى حتى سالت عينه ثم انخرط على سية قوسه متكئاً
يعني مغشياً عليه
أخبرني اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني محمد بن صخر بن خلخلة قال
ذكر متمم بن نويرة أخاه في المدينة فقيل له إنك لتذكر أخاك فما كانت صفته أوصفه لنا فقال كان يركب الجمل الثفال في الليلة الباردة يرتوي

لأهله بين المزادتين المضرجتين عليه الشملة الفلوت يقود الفرس الجرور ثم يصبح ضاحكاً
أخبرني اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير عن الزبير بن حبيب بن بدر الطائي وغيره أن المنهال رجلاً من بني يربوع مر على أشلاء مالك بن نويرة لما قتله خالد فأخذ ثوباً وكفنه فيه ودفنه ففيه يقول متمم - طويل -

صوت
( لعمري وما دَهْري بتأبينِ مالكٍ ... ولا جَزعٍ مما أصابَ فأوجَعا )
( لقد كَفَّن المِنهالُ تحت رِدائه ... فتىً غيرَ مِبطانِ العشيّاتِ أرْوَعا )
غناه عمرو بن أبي الكنات ثقيل أول بالوسطى عن حبش
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا الحسن بن محمد البصري قال حدثنا الحسن بن إسماعيل القضاعي قال حدثني أحمد بن عمار العبدي وكان من العلم بموضع قال حدثني أبي عن جدي قال صليت مع عمر ابن الخطاب الصبح فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكباً قوساً وبيده هراوة فقال من هذا فقال متمم بن نويرة
فاستنشده قوله في أخيه فأنشده - طويل

( لعمري وما دَهْري بتأبينِ مالكٍ ... ولا جَزعٍ مما أصابَ فأوجَعا )
( لقد كَفَّن المِنهالُ تحت ثيابه ... فتىً غيرَ مِبطانِ العشيّاتِ أرْوَعا )
حتى بلغ إلى قوله - طويل -
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتّى قِيل لن يتصدّعا )
( فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لِطُول اجتماعِ لم نَبِتْ ليلةً معا )
فقال عمر هذا والله التأبين ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيداً بمثل ما رثيت به أخاك
فقال متمم لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته وكان قتل باليمامة شهيداً وأمير الجيش خالد بن الوليد فقال لعمر ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم
قال وكان عمر يقول ما هبت الصبا من نحو اليمامة إلا خيل إليّ أني أشم ريح أخي زيد
قال وقيل لمتمم ما بلغ من وجدك على أخيك فقال أصبت بإحدى عيني فما قطرت منها دمعة عشرين سنة فلما قتل أخي استهلت فما ترقأ
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا عبد الله بن لاحق عن ابن أبي مليكة قال مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي خارج مكة فحمل فدفن بمكة فقدمت عائشة فوقفت على قبره وقالت متمثلة - طويل -
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتّى قِيل لن يتصدّعا )
( فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لِطُول اجتماعِ لم نَبِتْ ليلةً معا )

أما والله لو حضرتك لدفنت حيث مت ولو شهدتك ما زرتك
أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة أن متمم بن نويرة دخل على عمر بن الخطاب فقال له عمر ما أرى في أصحابك مثلك
فقال يا أمير المؤمنين أما والله إني مع ذلك لأركب الجمل الثفال وأعتقل الرمح الشطون وألبس الشملة الفلوت
ولقد أسرتني بنو تغلب في الجاهلية فبلغ ذلك أخي مالكاً فجاء ليفديني منهم فلما رآه القوم أعجبهم جماله وحدثهم فأعجبهم حديثه فأطلقوني له بغير فداء
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني النوفلي عن أبيه وأهله قالوا لما أنشد متمم بن نويرة عمر بن الخطاب قوله يرثي أخاه مالكاً - طويل -
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... من الدهر حتّى قِيل لن يتصدّعا )
( فلما تفرَّقنا كأنِّي ومالكاً ... لِطُول اجتماعِ لم نَبِتْ ليلةً معا )
قال له عمر هل كان مالك يحبك مثل محبتك إياه أم هل كان مثلك فقال وأين أنا من مالك وهل أبلغ مالكاً والله يا أمير المؤمنين لقد أسرني حي من العرب فشدوني وثاقاً بالقد وألقوني بفنائهم فبلغه خبري فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم وهم جلوس في ناديهم فلما نظر إليّ أعرض عني ونظر القوم إليه فعدل إليهم وعرفت ما أراد فسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سروراً وحضر غداؤهم فسألوه ليتغدى معهم فنزل وأكل ثم نظر إلي وقال إنه لقبيح بنا أن نأكل ورجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا وأمسك يده عن الطعام
فلما رأى ذلك القوم نهضوا وصبوا الماء على قدي حتى لان وخلوني ثم جاؤوا فأجلسوني معهم على الغداء فلما أكلنا قال لهم

أما ترون تحرم هذا بنا وأكله معنا إنه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد
فخلوا سبيلي فكان كما وصفت
وما كذبت في شيء من صفته إلا أني وصفته خميص البطن وكان ذا بطن
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن نصر العتيقي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي عن أبيه عن مروان بن موسى
ووجدت هذا الخبر أيضاً في كتاب محمد بن علي بن حمزة العلوي عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لمتمم بن نويرة إنكم أهل بيت قد تفانيتم فلو تزوجت عسى أن ترزق ولداً يكون فيه بقية منكم
فتزوج امرأة بالمدينة فلم ترض أخلاقه لشدة حزنه على أخيه وقلة حفله بها فكانت تماظه وتؤذيه فطلقها وقال - طويل -
( أقول لهندٍ حينَ لم أرْضَ فِعلَها ... أهذا دلالُ الحب أم فعلُ فاركِ )
( أمِ الصَّرْمُ ما تبغي وكلُّ مَفارقٍ ... يسيرٌ علينا فَقْدُهُ بعدَ مالكِ )
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن معاوية عن سلمويه بن أبي صالح عن عبد الله بن المبارك عن نعيم بن أبي عمرو الرازي قال بينا طلحة والزبير يسيران بين مكة والمدينة إذ عرض لهما أعرابي فوقفا ليمضي فوقف فتعجلا ليسبقاه فتعجل فقالا ما أثقلك يا أعرابي تعجلنا لنسبقك فتعجلت فوقفنا لتمضي فوقفت فقال لا إله إلا الله مفني أغدر الناس أغدر بأصحاب محمد هباني خفت الضلال فأحببت أن أستدل بكما أو

خفت الوحشة فأحببت أن أستأنس بكما
فقال طلحة من أنت قال أنا متمم ابن نويرة
فقال طلحة واسوأتاه لقد مللنا غير مملول
هات بعض ما ذكرت في أخيك من البكاء
فزوجوه أم خالد فبينا هو واضع رأسه على فخذها إذ بكى فقالت لا إله إلا الله أما تنسى أخاك فأنشأ يقول - طويل -
( أقولُ لها لما نهتني عن البُكا ... أفي مالكٍ تَلْحَيْنني أمَّ خالدِ )
( فإنْ كان إخواني أصيبوا وأخطأتْ ... بني أمك اليومَ الحُتوفُ الرواصدُ )
( فكلُّ بني أمّ سيُمْسُونَ ليلةً ... ولم يَبْقَ من أعيانِهِمْ غيرُ واحِد )
أما معنى قول متمم
( وكنا كَندمانَيْ جَذيمةَ حِقْبةً ... )
فإنه يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك وهو جذيمة بن مالك بن فهم ابن غانم بن دوس بن عدثان الأسدي
وكان الخبر في ذلك ما أخبرنا به علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب
وذكر ابن الكلبي عن أبيه والشرقي وغيره من الرواة أن جذيمة الأبرش وأصله من الأزد وكان أول من ملك قضاعة بالحيرة وأول من حدا النعال وأدلج من الملوك ورفع له الشمع قال يوماً لجلسائه قد ذكر لي عن غلام من لخم مقيم في أخواله من إياد له ظرف ولب فلو بعثت إليه يكون في ندماني ووليته كأسي والقيام بمجلسي كان الرأي
فقالوا الرأي ما رأى الملك فليبعث إليه
ففعل فلما قدم فعل به ما أراد له فمكث كذلك مدة طويلة ثم أشرفت عليه يوماً رقاش ابنة الملك أخت جذيمة فلم تزل تراسله

حتى اتصل بينهما ثم قالت له يا عدي إذا سقيت القوم فامزج لهم واسق الملك صرفاً فإذا أخذت منه الخمر فاخطبني إليه فإنه يزوجك وأشهد القوم عليه إن هو فعل
ففعل الغلام ذلك فخطبها فزوجه وانصرف الغلام بالخبر إليها فقالت عرس بأهلك
ففعل فلما أصبح غدا مضرجاً بالخلوق فقال له جذيمة ما هذه الآثار يا عدي قال آثار العرس
قال أي عرس قال عرس رقاش
قال فنخر وأكب على الأرض ورفع عدي جراميزه فأسرع جذيمة في طلبه فلم يحسسه وقيل إنه قتله وكتب إلى أخته - خفيف -
( حَدّثِيني رَقاشِ لا تَكذِبيني ... أَبِحُرٍّ زنيتِ أم بهجينِ )
( أم بعبدٍ فأنتِ أهلٌ لِعَبْدٍ ... أم بِدُونٍ فأنت أهلٌ لدونِ )
قالت بل زوجتني امرأ عربياً
فنقلها جذيمة وحصنها في قصره واشتملت على حمل فولدت منه غلاماً وسمته عمراً وربته فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة مثله ثم أرته خاله فأعجب به وألقيت عليه منه محبة ومودة حتى إذا وصف خرج الغلمان يجتنون الكمأة في سنة قد أكمأت وخرج معهم وقد خرج جذيمة فبسط له في روضة فكان الغلمان إذا أصابوا الكمأة أكلوها وإذا أصابها عمرو خبأها ثم أقبلوا يتعادون وهو معهم يقدمهم ويقول - سريع -
( هذا جنايَ وخياره فيهْ ... إذْ كلُّ جانٍ يده إلى فيهْ )

فالتزمه جذيمة وحباه وقرب من قلبه وحل منه بكل مكان
ثم إن الجن استطارته فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه فلم يسمع له بخبر فكفّ عنه
ثم أقبل رجلان يقال لأحدهما عقيل والآخر مالك ابنا فالج وهما يريدان الملك بهدية فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها أم عمرو فنصبت قدراً وأصلحت طعاماً فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجل أشعث أغبر قد طالت أظفاره وساءت حاله حتى جلس مزجر الكلب فمد يده فناولته شيئاً فأكله ثم مد يده فقالت إن يعط العبد كراعاً يتسع ذراعاً فأرسلتها مثلاً
ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكأت دنها فقال عمرو بن عدي - وافر -
صوت
( صَددْتِ الكأسَ عنا أمَّ عمروٍ ... وكان الكأسُ مَجراها اليمينا )
( وما شرُّ الثلاثة أمَّ عمرو ... بصاحبِك الذي لا تَصْبَحِينا )
غناه معبد فيما ذكر عن إسحاق في كتابه الكبير
وقد زعم بعض الرواة أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب
وأخبرنا اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا حفص بن عمرو عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب في ربيعة بن نصر اللخمي

رجع الحديث إلى سياقه
فقال الرجلان ومن أنت فقال إن تنكراني أو تنكرا نسبي فإنني عمرو وعدي أبي فقاما إليه فلثماه وغسلا رأسه وقلما أظفاره وقصرا من لمته وألبساه من طرائف ثيابهما وقالا ما كنا لنهدي إلى الملك هدية أنفس عنده ولا هو عليها أحسن صفداً من ابن أخته فقد رده الله عز و جل إليه فخرجا حتى إذا دفعا إلى باب الملك بشراه به فصرفه إلى أمه فألبسته ثياباً من ثياب الملوك وجعلت في عنقه طوقاً كانت تلبسه إياه وهو صغير وأمرته بالدخول على خاله فلما رآه قال شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلاً
وقال للرجلين اللذين قدما به احكما فلكما حكمكما
قالا منادمتك ما بقيت وبقينا
قال ذلك لكما
فهما نديما جذيمة اللذان ذكرهما متمم وضربت بهما الشعراء المثل
قال أبو خراش الهذلي - طويل -
( ألم تَعلمي أنْ قد تفرَّقَ قبلنا ... خليلاَ صفاءٍ مالكٌ وعقيلُ )

قال ابن حبيب في خبره وكان جذيمة من أفضل الملوك رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وكانت منازله ما بين الأنبار وبقة وهيت وعين التمر وأطراف البر والقطقطانة والحيرة فقصد في جموعه عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي من عاملة العماليق فجمع عمرو جموعه ولقيه فقتله جذيمة وفض جموعه فانفلوا وملكوا عليهم ابنته الزباء وكانت من أحزم الناس فخافت أن تغزوها ملوك العرب فاتخذت لنفسها نفقاً في حصن كان لها على شاطئ الفرات وسكرت الفرات في وقت قلة الماء وبنت أزجا من الآجر والكلس متصلاً بذلك النفق وجعلت نفقاً آخر في البرية متصلاً بمدينة لأختها ثم أجرت الماء عليه فكانت إذا خافت عدواً دخلت النفق
فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثائرة بأبيها فقالت لها أختها وكانت ذات رأي وحزم إنك إن غزوت جذيمة فإنه امرؤ له ما يصده فإن ظفرت أصبت ثأرك وإن ظفر بك فلا بقية لك والحرب سجال ولا تدرين كيف تكون ألك أم عليك ولكن ابعثي إليه فأعلميه أنك قد رغبت في أن تتزوجيه وتجمعي ملكك إلى ملكه وسليه أن يجيبك إلى ذلك لأنه إن اغتر ففعل ظفرت به بلا مخاطرة
فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له إنها قد رغبت في صلة بلدها ببلده وإنها في ضعف من سلطانها وقلة ضبط لمملكتها وإنها لم تجد كفأ غيره وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه
فلما وصل ذلك إليه استخفه وطمع

فيه فشاور أصحابه فكل صوب رأيه في قصدها وإجابتها إلا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة بن لخم فقال هذا رأي فاتر وغدر حاضر فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها وقد وترتها في أبيها
فلم يوافق جذيمة ما قال وقال له أنت امرؤ رأيك في الكن لا في الضح
ورحل فقال له قصير في طريقه انصرف ودمك في وجهك
فقال جذيمة ببقة قضي الأمر فأرسلها مثلاً
ومضى حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير ما الرأي قال ببقة تركت الرأي
قال فما ظنك بالزباء قال القول رداف والحزم عيرانة لا تخاف
واستقبله رسلها بالهدايا والألطاف فقال يا قصير كيف ترى قال خطر يسير في خطب كبير وستلقاك الخيول فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون
فلقيته الخيول فأحاطت به فقال له قصير اركب العصا فإنها لا تدرك ولا تسبق يعني فرساً له كانت تجنب قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك
فلم يفعل فجال قصير في ظهرها فمرت به تعدو في أول أصحاب جذيمة
ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيراً على فرسه العصا في أول القوم فقال لحازم من يجري العصا في أول القوم
فذكر أبو عبيدة والأصمعي

أنها لم تكن تقف حتى جرت ثلاثين ميلاً ثم وقفت فبالت هناك فبني على ذلك الموضع برج يسمى العصا وأخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن فرجها فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه فقالت يا جذيم أذات عروس ترى قال بل أرى متاع أمة لكعاء غير ذات خفر
ثم قال بلغ المدى وجف الثرى وأمر غدر أرى
قالت والله ما ذلك من عدم مواس ولا قلة أواس ولكنها شيمة ما أناس
ثم قالت لجواريها خذن بعضد سيدكن
ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته عليه وأمرت برواهشه فقطعت في طست من ذهب يسيل دمه فيه وقالت له يا جذيم لا يضيعن من دمك شيء فإني أريده للخبل
فقال لها وما يحزنك من دم أضاعه أهله وإنما كان بعض الكهان قال لها إن نقط من دمه شيء في غير الطست أدرك بثأره
فلم يزل دمه يجري في الطست حتى ضعف فتحرك فنقطت من دمه نقطة على أسطوانة رخام ومات
قال والعرب تتحدث في أن دماء الملوك شفاء من الخبل
قال المتلمس - طويل -
( من الدارِميِّينَ الذين دماؤهُمْ ... شِفاءٌ من الداءِ المجَنَّةِ والخَبْلِ )
قال وجمعت دمه في برنية وجعلته في خزانتها ومضى قصير إلى عمرو بن

عبد الحر التنوخي فقال له اطلب بدم ابن عمك وإلا سبتك به العرب
فلم يحفل بذلك فخرج قصير إلى عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فقال هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بثأر خالك فجعل ذلك له فأتى القادة والأعلام فقال لهم أنتم القادة والرؤساء وعندنا الأموال والكنوز
فانصرف إليه منهم بشر كثير فالتقى بعمرو التنوخي فلما صافوا القتال تابعه التنوخي ومالك بن عمرو بن عدي فقال له قصير انظر ما وعدتني في الزباء
فقال وكيف وهي أمنع من عقاب الجو فقال أما إذ أبيت فإني جادع أنفي وأذني ومحتال لقتلها فأعني وخلاك ذم
فقال له عمرو وأنت أبصر
فجدع قصير أنفه ثم انطلق حتى دخل على الزباء فقالت من أنت قال أنا قصير ولا ورب البشر ما كان على ظهر الأرض أحد أنصح لخدمته مني ولا أغش لك حتى جدع عمرو بن عدي أنفي وأذني فعرفت أني لن أكون مع أحد أثقل عليه منك
فقالت أي قصير نقبل ذلك منك ونصر لك في بضاعتنا
وأعطته مالاً للتجارة فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها وانصرف إليها به فلما رأت ما جاء به فرحت وزادته ولم يزل حتى أنست به فقال لها إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقاً يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها
فقالت أما أني قد فعلت واتخذت نفقاً تحت سريري هذا يخرج إلى نفق تحت سرير أختي
وأرته إياه فأظهر لها سروراً بذلك وخرج في تجارته كما كان يفعل وعرف عمرو بن عدي ما فعله فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل ودخل على الزباء فقال لها اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك وتقدمي إلى بوابك فلا يعرض لشيء من أعكامنا فإني قد جئت بمال صامت
وقد كانت أمنته فلم تكن تتهمه ولا تخافه

فصعدت كما أمرها فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت وقيل إنه مصنوع منسوب إليها رجز
( ما لِلجمالِ مَشْيُها وئيدا ... أَجَنْدلاً يَحْمِلْنَ أم حديدا )
( أم صَرَفاناً بارداً شديداً ... أم الرجالُ جُثَّما قُعودا )
فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعجام بمنخسة معه فأصابت خاصرة رجل فضرط فقال البواب شر والله عكمتم به في الجوالقات
فثاروا بأهل المدينة ضرباً بالسيف فانصرفت راجعة فاستقبلها عمرو بن عدي فضربها فقتلها وقيل بل مصت خاتمها وقالت بيدي لا بيد عمرو وخربت المدينة وسبيت الذراري وغنم عمرو كل شيء كان لها ولأبيها وأختها وقال الشعراء في ذلك تذكر ما كان من قصير في مشورته على جذيمة وفي جدعه أنفه فأكثروا
قال عدي بن زيد - وافر -
( ألا يا أَيُّها المُثْرِي المُرَجَّى ... ألم تَسمعْ بِخَطْبِ الأوّلينا )
( دَعا بالبَقَّة الأمراءُ يَوْماً ... جذيمةَ ينتحي عُصَباً ثُبِينا )
( فطاوَعَ أمرَهُمْ وعصى قصيراً ... وكان يقول لو سَمِع اليقينا )

وهي طويلة
وقال المتلمس يذكر جدع قصير أنفه - طويل -
( ومِن حَذَر الأيام ما حَزَّ أنفَه ... قصيرٌ وخاضَ الموتَ بالسيف بيهسُ )
وكان جذيمة الملك شاعراً وإنما قيل له الوضاح لبرص كان به وكان يعظم أن يسمى بذلك فجعل مكانه الأبرش والوضاح
وهو الذي يقول - مجزوء الكامل -
( والمُلْكُ كان لذي نُواسٍ ... حَوله تَردِي يُحابرْ )
( بالسابغات وبالقَنا ... والبِيض تَبرق والمَغَافر )
( أزمانَ لا مُلكٌ يُجير ... ولا ذِمامَ لمن يُجاورْ )
( أوْدَى بهمْ غِيَرُ الزمانِ ... فمنجدٌ منهمْ وغائرْ )
وهو الذي يقول - مديد -
( ربَّما أوفيْتُ في عَلَم ... تَرْفَعْن ثوبي شمالاتُ )
( في شبابٍ أنا رابئهمْ ... همْ لذي العَورة صِمّات )
( ليتَ شعري ما أطافَ بهمْ ... نحن أدْلَجْنا وهُم باتوا )
( ثُمَّ أبْنا غانِمِينَ وكم ... كَرَّ ناسٌ قبلنا ماتوا )
فيه غناء يقال إنه ليمانٍ ويقال إنه لمعبد ولم يصح

صوت بسيط
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُه عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغضي حياءً ويُغْضَى من مَهابته ... فما يُكلَّمُ4 إلا حين يبتسمُ )
الشعر لحزين بن سليمان الديلي والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش وفيه لعريب رمل عمله على لحن ابن سريج

21 -

أخبار الحزين ونسبه
ذكر الواقدي أنه من كنانة وأنه صليبة وأن الحزين لقب غلب عليه وأن اسمه عمرو بن عبيد بن وهيب بن مالك ويكنى أبا الشعثاء بن حريث بن جابر بن بجير وهو راعي الشمس الأكبر بن يعمر بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة
أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن الواقدي
قال وأما عمر بن شبة فإنه ذكر أن الحزين مولى وأنه الحزين بن سليمان ويكنى سليمان أبا الشعثاء ويكنى الحزين أبا الحكم
من شعراء الدولة الأموية حجازي مطبوع ليس من فحول طبقته
وكان هجاء خبيث اللسان ساقطاً يرضيه اليسير ويتكسب بالشر وهجاء الناس وليس ممن خدم الخلفاء ولا انتجعهم بمدح ولا كان يريم الحجاز حتى مات
وهذا الشعر يقوله الحزين في عبد الله بن عبد الملك بن مروان
وكان

عبد الله من فتيان بني أمية وظرفائهم وكان حسن الوجه حسن المذهب وأمه أم ولد
وزوجة عبد الله رملة بنت عبد الله بن عبد الله وعبد الله هذا هو عبد الحجر بن عبد المدان بن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن عمرو
وزوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن مطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي تزوجها لما كان يقال إنها ناتق في ولادها فمات عنها ولم تلد له فخلفه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على رملة فولدت له محمداً وإبراهيم وموسى وبنات
أخبرني بذلك عمر بن عبد الله بن جميل العتكي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري ويحيى بن علي بن يحيى قالوا حدثنا عمر بن شبة عن ابن رواحة وغيره
وأخبرني به الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني الزبير قال حدثني عمي أن عبد الله بن عبد الملك حج فقال له أبوه سيأتيك الحزين الشاعر بالمدينة وهو ذرب اللسان فإياك أن تحتجب عنه وأرضه
وصفته أنه أشعر ذو بطن عظيم الأنف
فلما قدم عبد الله المدينة وصفه لحاجبه وقال له إياك أن ترده
فلم يأت الحزين حتى قام فدخل لينام فقال له الحاجب قد ارتفع
فلما ولى ذكر فلحقه فقال ارجع فاستأذن له فأدخله فلما صار بين يديه ورأى جماله وبهاءه وفي يده قضيب خيزران وقف ساكتاً فأمهله عبد الله حتى ظن أنه قد أراح ثم قال له السلام رحمك الله أولاً
فقال عليك السلام وحيا الله وجهك أيها الأمير إني قد كنت مدحتك بشعر فلما دخلت عليك ورأيت جمالك وبهاءك أذهلني عنه فأنسيت ما كنت قلته وقد قلت في مقامي هذا بيتين
فقال ما هما قال - بسيط

( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أرَْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغضي حياءً ويُغْضَى من مَهابته ... فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسمُ )
فأجازه فقال أخدمني أصلحك الله فإنه لا خادم لي
فقال اختر أحد هذين الغلامين
فأخذ أحدهما فقال له عبد الله أعلينا ترذل خذ الأكبر
والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي يمدح بها علي بن الحسين بن أبي طالب عليه السلام التي أولها - بسيط -
( هذا الذي تعرِف البطحاءُ وطأتَه ... والبيْتُ يعرفه والحِلُّ والحرمُ )
وهو غلط ممن رواه فيها
وليس هذان البيتان مما يمدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد
حدثني محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال حدثني محمد بن عمر العدني قال حدثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال ما رأيت هاشمياً أفضل من علي بن الحسين
حدثني محمد قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال حدثنا جرير بن المغيرة قال كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة
حدثني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن معرس قال حدثنا محمد ابن ميمون قال حدثنا سفيان عن ابن أبي حمزة الثمالي قال كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ويقول إن صدقة الليل تطفئ غضب الرب
حدثني أبو عبد الله الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسين المصري قال

حدثنا أحمد بن سليمان قال حدثنا ابن عائشة قال حدثنا سعد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن نافع قال قال علي بن الحسين ما أكلت بقرابتي من رسول الله شيئاً قط
حدثنا الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني إسحاق بن موسى الأنصاري قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال كان ناس من أهل المدينة يعيشون ما يدرون من أين عيشهم فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل
وأما الأبيات التي مدح بها الفزردق علي بن الحسين وخبره فيها فحدثني بها أحمد بن محمد بن الجعد ومحمد بن يحيى قالا حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا ابن عائشة قال حج هشام بن عبد الملك في خلافة الوليد أخيه ومعه رؤساء أهل الشام فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس وأقبل علي بن الحسين وهو أحسن الناس وجهاً وأنظفهم ثوباً وأطيبهم رائحة فطاف بالبيت فلما بلغ الحجر الأسود تنحى الناس كلهم وأخلوا له الحجر ليستلمه هيبة وإجلالاً له فغاظ ذلك هشاماً وبلغ منه فقال رجل لهشام من هذا أصلح الله الأمير قال لا أعرفه وكان به عارفاً ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه
فقال الفرزدق وكان لذلك كله حاضراً أنا أعرفه فسلني يا شامي
قال ومن هو قال - بسيط -
( هذا الذي تعرفُ البطحاء وَطْأَتَهُ ... والبيْتُ يعرِفه والحِلُّ والحَرَمُ )
( هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهِمُ ... هذا التَّقِيُّ النقي الطاهرُ العلمُ )
( إذا رأته قُرَيْشٌ قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكَرَمُ )
( يكاد يُمسِكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحَطيم إذا ما جاء يستلمُ )

( فليس قولُك مَن هذا بضائِرِه ... العُرْبُ تَعْرِفُ من أنكرْتَ والعجم )
( أيُّ الخلائق ليست في رقابِهِمُ ... لأوّليةِ هذا أو لَهُ نِعَم )
( مَن يعرِف الله يعرفْ أوّليةَ ذا ... فالدينُ من بيتِ هذا ناله الأمم )
فحبسه هشام فقال الفرزدق - طويل -
( أيحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوبُ الناس يَهوِي مُنِيبُها )
( يُقلِّب رأساً لم يكن رأسَ سيدٍ ... وعيناً له حَولاءَ بادٍ عيوبُها )
فبعث إليه هشام فأخرجه ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم وقال اعذر يا أبا فراس فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به
فردها وقال ما قلت ما كان إلا لله وما كنت لأرزأ عليه شيئاً
فقال له علي قد رأى الله مكانك فشكرك ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئاً ما نرجع فيه
فأقسم عليه فقبلها
ومن الناس أيضاً من يروي هذه الأبيات لداود بن سلم في قثم بن العباس ومنهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه فهي في روايته
- بسيط -
( كم صارخٍ بك من راجٍ وراجيةٍ ... يَرجُوك يا قُثَمَ الخيراتِ يا قُثَمُ )
( أيُّ العمائر ليست في رقابِهِمُ ... لأوّليةِ هذا أَوْ لَهُ نِعَمُ )
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغضِي حياءً ويُغْضَى من مَهابته ... فما يُكلَّمُ إلا حين يبتسِمُ )
وممن ذكر لنا ذلك الصولي عن الغلابي عن مهدي بن سابق أن داود بن سلم قال هذه الأبيات الأربعة سوى البيت الأول في شعره في علي بن الحسين عليه السلام
وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلاً من العرب يقال له داود وقف لقثم

فناداه وقال - بسيط -
( يكاد يُمسِكه عِرْفانَ راحتِه ... رُكْنُ الحَطيم إذا ما جاء يستلمُ )
( كما صارخٍ بك من راجٍ وراجيةٍ ... في الناس يا قُثَمَ الخيراتِ يا قُثَمُ )
فأمر له بجائزة سنية
والصحيح أنها للحزين في عبد الله بن عبد الملك
وقد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات
وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة تنبئ عن نفسها
وهي - بسيط -
( الله يعلمُ أنْ قد جُبْتُ ذا يَمَنٍ ... ثمَّ العراقَيْن لا يَثْنِينِيَ السَّأَمُ )
( ثم الجزيرةَ أعلاها وأسفَلها ... كذاك تَسرِي على الأهوال بِي القدمُ )
( ثم المواسمَ قد أوْطَنْتُها زمناً ... وحيث تُحلَقُ عند الجمرة اللِّممُ )
( قالوا دِمشقُ يُنبِّيك الخبيرُ بها ... ثم ائتِ مصرَ فثَمَّ النائلُ العَمَم )
( لمَّا وقفت عليها في الجموع ضُحىً ... وقد تَعَرَّضَتِ الحجّابُ والخَدَمُ )
( حَيّيته بسَلامٍ وهو مرتفقٌ ... وضَجَّةُ القومِ عند الباب تَزدحمُ )
( في كَفِّه خيزُرانٌ ريحُها عَبِقٌ ... من كفِّ أرْوَعَ في عِرْنينه شَمَمُ )
( يُغْضَي حياءً ويُغْضَى مِنْ مَهابته ... فما يُكلَّمُ إلاّ حينَ يبتسمُ )
( ترى رؤوسَ بني مَرْوانَ خاضعةً ... يمشُون حولَ ركابَيْهِ وما ظلموا )
( إنْ هشَّ هشُّوا له واستبشَروا جَذَلا ... وإنْ هُمُ آنسوا إعراضَه وجَموا )
( كلتا يديه ربيعٌ عند ذي خُلُفٍ ... بحرٌ يَفيض وهادِي عارضٍ هَزِم )
ومن الناس من يقول إن الحزين قالها في عبد العزيز بن مروان لذكره

دمشق ومصر
وقد كان ثم عبد الله بن عبد الملك أيضاً في مصر والحزين بها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن عبد العزيز بن عمران الزهري قال وفد الحزين على عبد الله بن عبد الملك وفي الرقيق أخوان فقال عبد الله للحزين أي الرقيق أعجب إليك قال ليختر لي الأمير
قال عبد الله قد رضيت لك هذا لأحدهما فإني رأيته حسن الصلاح
قال الحزين لا حاجة لي به فأعطني أخاه
فأعطاه إياه
قال والغلامان مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز وتميم أبو محمد بن تميم وهو الذي اختاره الحزين
قال فقال في عبد الله يمدحه - بسيط -
( الله يعلمُ أنْ قد حَيَّيْت ذا يَمَنٍ ... )
وذكر القصيدة بطولها على هذا السبيل
أخبرني وكيع عن محمد بن علي بن حمزة العلوي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال كان على المدينة طائف يقال له صفوان مولى لآل محرمة بن نوفل فجاء الحزين الديلي إلى شيخ من أهل المدينة فاستعاره حماره وذهب إلى العقيق فشرب وأقبل على الحمار وقد سكر فجاء به الحمار حتى وقف به على باب المسجد كما كان صاحبه عوده إياه فمر به صفوان فأخذه فحبسه وحبس الحمار فأصبح والحمار محبوس معه
فأنشأ يقول - وافر -
( أيا أهل المدينة خبِّروني ... بأيِّ جريرة حُبِس الحمارُ )
( فما للعَيْر من جُرْمٍ إليكُمْ ... وما بالعير إنْ ظُلِم انتصارُ )
فردوا الحمار على صاحبه وضربوا الحزين الحد فأقبل إلى مولى صفوان وهو في المسجد فقال - طويل

( نَشَدْتُك بالبيت الذي طِيفَ حولَه ... وزمزمَ والبيتِ الحرامِ المحجّبِ )
( لِزانيةٍ صفوانُ أمْ لعفيفةٍ ... لأعلمَ ما آتي وما أتجنّبُ )
فقال مولاه هو لزانية
فخرج وهو ينادي إن صفوان ابن الزانية فتعلق به صفوان فقال هذا مولاك يشهد أنك ابن زانية
فخلى عنه
وقال محمد بن علي بن حمزة وأخبرني الرياشي أن ابن عم للحزين استشاره في امرأة يتزوجها فقال له إن لها إخوة مشائيم وقد ردوا عنها غير واحد وأخشى أن يردوك فتطلق عليك ألسنا كانت عنك خرساً فخطبها ولم يقبل منه فردوه فقتال الحزين - طويل -
( نَهَيْتُكَ عن أمرٍ فلم تَقْبَلِ النُّهَى ... وحذَّرتك اليومَ الغُواةَ الأشائما )
( فصرْتَ إلى ما لم أكنْ منه آمِناً ... وأشْمَتَّ أعدائي وأنطقْتَ لائما )
( وما بِهِمُ مِن رغبةٍ عنك قلْ لَهُمْ ... فإن تسألوني تسألوا بِيَ عالما )
نسخت من كتاب لعلي بن محمد الشامي حدثني أبو محلم
ولم يتجاوزه
وأخبرني عيسى بن الحسن قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني عمر بن سلام مولى عمر بن الجعاب أن الحزين الديلي خرج مع ابن لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف إلى منتزه لهم فسكر الحزين وانصرف فبات في الطريق وسلب ثيابه فأرسل إلى سهيل يخبره الخبر ويستمنحه فلم يمنحه وبلغ الخبر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان فأرسل إليه بجميع ما يحتاج إليه وعوضه ثمن ثيابه فقال الحزين في ذلك - منسرح -
( هَلاَّ سُهيلاً أشبهْتَ أو بعض أعْمامِكَ ... يا ذا الخلائِقِ الشَّكِسَهْ )

( ضَيَّعْتَ نَدْمانك الكريمَ ولم ... تُشْفِقْ عليه من ليلةٍ نَحِسَهْ )
( ثم تعالَلْتَ إذ أتاك له ... صُبْحاً رسولٌ بعِلّة طفِسَهْ )
( لكنّ سفيانَ لم يكن وَكَلاً ... لمَّا أتتْنا صِلاتُه سَلِسَهْ )
( سما به أَرْوَعٌ ونفسُ فتىً ... أَرْوَعَ ليست كنفسك الدَّنِسَهْ )
حدثنا الصولي قال حدثنا ثعلب قال حدثني عبد الله بن شبيب قال
مرّ الحزين الديلي على مجلس لبني كعب بن خزاعة وهو سكران فضحكوا عليه فوقف عليهم وقال - بسيط -
( لا بارَكَ الله في كَعْبٍ ومجلِسِهِمْ ... ماذا تجمَّعَ من لؤمٍ ومن ضَرَعِ )
( لا يدرُسون كتابَ الله بَيْنَهُمُ ... ولا يصومون من حِرْص على الشبعِ )
فوثب إليه مشايخهم فاعتذروا منه وسألوه الكف وأن لا يزيد شيئاً على ما قاله فأجابهم وانصرف
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمرو بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال كان الحزين قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين درهمين في كل شهر منهم ابن أبي عتيق فجاءه لأخذ درهميه وهو على حمار أعجف قال وكثير مع ابن أبي عتيق فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال له الحزين من هذا معك قال هذا أبو صخر كثير بن أبي جمعة
قال وكان قصيراً دميماً فقال له الحزين أتأذن لي أن أهجوه ببيت قال لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي ولكن أشتري عرضه منك بدرهمين

آخرين
ودعا له بهما فأصغى ثم قال لا بد لي من هجائه ببيت
قال أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين ودعا له بهما فأخذهما وقال ما أنا بتاركه حتى أهجوه
قال أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين فقال له كثير ائذن له وما عسى أن يقول فيّ فأذن له ابن أبي عتيق فقال - طويل -
( قصير القميص فاحشٌ عند بيته ... يَعَضُّ القُرادَ باستِه وهو قائمُ )
فوثب كثير إليه فوكزه فسقط هو والحمار وخلص ابن أبي عتيق بينهما وقال لكثير قبحك الله أتأذن له وتبسط إليه يدك قال كثير وأنا ظننته يبلغ في هذا كله في بيت واحد ولكثير مع الحزين أخبار أخر قد ذكرت في أخبار كثير
أخبرني الحرمي قال حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال حدثني ابن عروة بن أذينة قال كان الحزين صديقاً لأبي وعشيراً على النبيذ وكان كثيراً ما يأتيه وكان بالمدينة قينة يهواها الحزين ويكثر غشيانها فبيعت وأخرجت عن المدينة فأتى الحزين أبي وهو كئيب حزين كاسمه فقال له أبي ما لك يا أبا حكيم قال أنا والله يا أبا عامر كما قال كثير - طويل -
( لعمرِي لئن كانَ الفؤادُ من الهوى ... بَغَى سَقَماً إني إذاً لسقيمُ )
( سألْتُ حكيماً أين شَطَّتْ بها النوى ... فخبَّرني ما لا أحبُّ حكيمُ )
فقال له أبي أنت مجنون إن أقمت على هذا
أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب قال
مر الحزين على جعفر بن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث وعليه

أطمار فقال له يا ابن أبي الشعثاء إلى أين أصبحت غادياً قال أمتع الله بك نزل عبد الله بن عبد الملك الحرة يريد الحج وقد كنت وفدت إليه بمصر فأحسن إلي
قال أفما وجدت شيئاً تلبسه غير هذه الثياب قال قد استعرت من أهل المدينة فلم يعرني أحد منهم غير هذه الثياب
فدعا جعفر غلاماً فقال ائتني بجبة صوف وقميص ورداء
فجاءه بذلك فقال أبل وأخلق
فلما ولى الحزين قال جلساء جعفر له ما صنعت إنه يعمد إلى هذه الثياب التي كسوته إياها فيبيعها ويفسد بثمنها
قال ما أبالي إذا كافأته بثيابه ما صنع بها
فسمع الحزين قولهم وما رد عليهم ومضى حتى أتى عبد الله بن عبد الملك فأحسن إليه وكساه
فلما أصبح الحزين أتى جعفراً ومعه القوم الذين لاموه بالأمس وأنشده - طويل -
( وما زال ينمو جعفرُ بنُ محمّدٍ ... إلى المجد حتّى عَبْهَلَتْهُ عواذلهْ )
( وقُلْنَ له هلْ مِن طريفٍ وتالدٍ ... من المال إلاّ أنت في الحقِّ باذلهْ )
( يُحاوِلْنَه عن شِيمةٍ قد علِمْنَها ... وفي نفسه أمرٌ كريمٌ يُحاولهْ )
ثم قال له بأبي أنت وأمي سمعت ما قالوا وما رددت عليهم
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال صحب الحزين رجلاً من بني عامر بن لؤي يلقب أبا بعرة وكان استعمل على سعايات فلم يصنع إليه خيراً وكان قد صحب قبله عمرو بن مساحق وسعد بن نوفل فأحمدهما فقال له - طويل

( صحبتُك عاماً بعد سَعدِ بن نوفلٍ ... وعمروٍ فما أشبهْتَ سَعْداً ولا عَمْرَا )
( وجادا كما قَصَّرْتَ في طلب العلا ... فحُزْتَ به ذمّاً وحازا به شكرا )
قال وأبو بعرة هذا هو الذي كان يعبث بجارية لابن أبي عتيق فشكته إليه فقال لها عديه فإذا جاءك فأدخليه إليّ
ففعلت فأدخلته عليه وهو وشيخ من نظرائه جالسان في حجلة فلما رآهما قال أقسم بالله ما اجتمعتما إلا على ريبة
فقال له ابن أبي عتيق استر علينا ستر الله عليك
قال وآل أبي بعرة هم موالي آل أبي سمير
قال فلما ولي المهدي باعوا ولاءهم منه
قال الزبير وأنشدني عمي تمام الأبيات التي هجا بها أبا بعرة وسماه لي فقال وكان اسمه عيسى وهي - طويل -
( أولاك الجِعاد البيض من آل مالكٍ ... وأنتُمْ بنو قَيْنٍ لَحِقْتُمْ به نَزْرَا )
نصب نزرا على الحال كأنه قال لحقتم به نزراً قليلاً من الرجال
( نسوق بَيَعْوَراً أميرا كأنما ... نَسوق به في كلِّ مَجمعةٍ وَبْرا )
( فإن يكن البَيْعُورُ ذمَّ رفيقُه ... قراه فقد كانت إمارتُه نكْرا )
( ومُتَّبِعُ البَيْعُورِ يرجُو نوالَه ... فقد زاده البَيْعُورُ في فَقْره فَقْرا )
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني صالح عن عامر بن صالح قال مدح الحزين عمرو بن عمرو بن الزبير فلم يعطه شيئاً
وأخبرني بهذا الخبر عمي تاما واللفظ له ولم يذكر الزبير منه إلا يسيراً قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري قال حدثني عطاء بن مصعب عن

عاصم بن الحدثان قال دخل الحزين على عمرو بن عمرو بن الزبير بن العوام منزله فامتدحه وسأله حاجة فقال له ليس إلى ما تطلب سبيل ولا نقدر أن نملأ الناس معاذير وما كل من سألنا حاجة استحق أن نقضيها ولرب مستحق لها قد منعناه حاجته
فقال الحزين أفمن المستحقين أنا قال لا والله وكيف تكون مستحقا لشيء من الخير وأنت تشتم أعراض الناس وتهتك حريمهم وترميهم بالمعضلات إنما المستحق من كف أذاه وبذل نداه ووقم أعداه
فقال له الحزين أفمن هؤلاء أنت فقال له عمرو أين تبعدني لا أم لك من هذه المنزلة وأفضل منها فوثب الحزين من عنده وأنشأ يقول - وافر -
( حَلَفْتُ وما صَبَرْتُ على يمينٍ ... ولو أُدعى إلى أيمانِ صَبْرِ )
( بربِّ الراقصاتِ بِشُعْثِ قومٍ ... يُوافون الجِمارَ لصُبحِ عشرِ )
( لوَ انَّ اللؤم كان مع الثريَّا ... لكان حليفَه عمرُو بنُ عمرو )
( ولو أنِّي عرَفْتُ بأنّ عَمْراً ... حليفُ اللؤم ما ضيَّعْتُ شِعري )
فقال العمري وحدثني لقيط أن الحزين قال فيه أيضاً يهجوه ويمدح محمد بن مروان بن الحكم وجاءه فشكا إليه عمراً فوصله وأحسن إليه
قال - طويل -
( إذا لم يكنْ للمرء فضلٌ يَزِينُهُ ... سِوى ما ادَّعَى يوماً فليس له فَضْلُ )
( وتَلْقَى الفتى ضخماً جميلاً رُواؤه ... يَرُوعك في النَّادي وليس له عَقْلُ )
( وآخرُ تنبو العين عنه مهذَّبٌ ... يجود إذا ما الضَّخم نَهْنَهَهُ البخل )

( فيا راجياً عمرو بنَ عمروٍ وسَيْبَه ... أتعرف عَمْراً أم أتاهُ بك الجهل )
( فإن كنْتَ ذا جهلٍ فقد يُخطئ الفتى ... وإن كنْتَ ذا حزم إذاً حارتِ النّبل )
( جَهِلْتَ ابنَ عمرو فالتمسْ سَيْبَ غيره ... ودونك مَرْمىً ليس في جِدِّه هَزْلُ )
( عليك ابنَ مروانَ الأغرَّ محمداً ... تجدْه كريماً لا يطيش له نَبْلُ )
قال لقيط فلما أنشد الحزين محمد بن مروان هذا الشعر أمر له بخمسة آلاف درهم وقال له اكفف يا أخا بني ليث عن عمرو بن عمرو ولك حكمك
فقال لا والله ولا بحمر النعم وسودها لو أعطيتها ما كففت عنه لأنه ما علمت كثير الشر قليل الخير متسلط على صديقه فظ على أهله
وخير ابن عمرو بالثريا معلق
فقال له محمد بن مروان هذا شعر
فقال بعد ساعة يصير شعراً ولو شئت لعجلته
ثم قال - طويل -
( شَرُّ ابنِ عمروٍحاضرٌ لصديقه ... وخَيرُ ابن عمروٍ بالثريّا معلَّقُ )
( ووجهُ ابن عمروٍ باسرٌ إنْ طَلَبْتَهُ ... نوالاً إذا جاد الكريم الموفّق )
( فبئس الفتى عمرو بن عمرو إذا غَدَتْ ... كتائب هيجاء المنيّة تبرق )
( فلا زال عمروٌ للبلايا دّرِيَّةً ... تباكِره حتّى يموت وتطرُق )
( يهرُّ هرير الكلب عمروٌ إذا رأى ... طعاماً فما ينفكّ يبكي ويَشهَقُ )
قال فزجره محمد عنه وقال له أفٍّ لك قد أكثرت الهجاء وأبلغت في الشتيمة

قال العمري وحدثني عطاء بن مصعب عن عبد الله بن الليث الليثي قال قال الحزين الديلي يهجو عمرو بن عمرو بن الزبير - طويل -
( لعمرك ما عمرو بن عمروٍ بماجدٍ ... ولكنّه كَزُّ اليدينِ بخيلُ )
( ينام عن التقوى ويُوقِظه الخِنا ... فيخبطُ أثناءَ الظلام يجولُ )
( فلا خَير في عمروٍ لجارٍ ولا له ... ذِمامٌ ولكنْ للئام وصولُ )
( مواعيدُ عمروٍ تُرَّهاتٌ ووجهُهُ ... على كلِّ ما قد قلْت فيه دليل )
( جبانٌ وفحَّاشٌ لئيمٌ مذمَّمٌ ... وأكذبُ خَلْقِ الله حين يقول )
( كلام ابن عمروٍ صُوفةُ وسطَ بَلْقَعٍ ... وكفُّ ابنِ عمروٍ في الرَّخاء تطول )
( وإنْ حَزَبَتْه الحازباتُ تَشنَّجتْ ... يداه ورمحٌ في الهياج كليلُ )
فبلغ شعره عمراً فقال ما له لعنه الله ولعن من ولده لقد هجاني بنية صادقة ولسان صنع ذلق وما عداني إلى غيري
قال فلقي الحزين عروة بن أذينة الليثي فأنشده هذه الأبيات فقال له ويحك بعضها كان يكفيك فقد بنيتها ولم تقم أودها وداخلتها وجعلت معانيها في أكمتها
قال الحزين ذلك والله أرغب للناس فيها
فقال له عروة خير الناس من حلم عن الجهال وما أراه إلا قد حلم عنك
فقال الحزين حلم والله عني شاء أو أبى برغمه وصغره
قال العمري فحدثنا عطاء عن عاصم بن الحدثان قال لقي شبان من ولد الزبير الحزين فتناولوه بألسنتهم وهموا بضربه فحال بينهم وبينه ابن لمصعب

ابن الزبير فقال الحزين يهجوهم ويهجو جماعة من بني أسد بن عبد العزى سوى بني مصعب الذين منعوهم منه قال - طويل -
( لحا الله حيّاً من قُريشٍ تحالفوا ... على البُخل بالمعروف والجودِ بالنُّكْرِ )
( فصاروا لخلق اللهِ في اللؤمِ غاية ... بهمْ تُضْرَبُ الأمثالُ في النثر والشعرِ )
( فيا عمرو لو أشبهت عَمْرا ومصعبا ... حُمِدْتَ ولكنْ أنت منقبضُ البِشْرِ )
( بني أسدٍ سادَتْ قريشٌ بجودها ... معدّاً وسادتْكُمْ معدٌّ يَدَ الدّهرِ )
( تجود قريشٌ بالنَّدى ورضِيتُمُ ... بني أسد باللُّؤم والذّلّ والغدْرِ )
( أعمرو بنَ عمروٍ لست ممن تَعدُّه ... قريشٌ إذا ما كاثَروا الناسَ بالفخرِ )
( أَبَتْ لك يا عمرو بنَ عمروٍ دناءةٌ ... وخُلْقٌ لئيم أن تَرِيش وأن تَبرِي )
أخبرني الحرمي قال حدّثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك الحزامي قال حدثني أبي قال كان الحزين سفيهاً نذلاً يمدح بالنّزر إذا أعطيه ويهجو على مثله إذا منع فنزل بعاصم بن عمرو بن عثمان فلم يقره فقال يهجوه بقوله - طويل -
( سِيروا فقد جُنَّ الظّلامُ عليكُمُ ... فَبِاسْتِ الذي يرجو القِرى عند عاصمِ )
( ظَلِلنا عليه وهو كالتّيس طاعماً ... نَشُدّ على أكبادِنا بالعمائم )
( وما ليَ من ذَنْبٍ إليه عَلِمْتُهُ ... سوى أنّني قد جِئْتُه غيرَ صائم )
فقيل له إنّ عاصماً كثيراً ما تسمّي به قريش
فقال أمَا والله لأبيِّننَّه لهم فقال - طويل

( إليك ابن عثمان بن عفان عاصم بنَ ... عمروٍ سَرَتْ عَنْسِي فخابَ سُراها )
( فقد صادَفَتْ كزَّ اليدَينِ مبخَّلا ... جباناً إذا ما الحرب شُبَّ لظاها )
( بخيلا بما في رحلِه غير أنهُ ... إذا ما خَلَتْ عِرْسُ الخليل أتاها )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال الحزين لهلال بن يحيى بن طلحة قوله - طويل -
( هلالُ بن يحيى غُرّةٌ لا خفَا بها ... على الناس في عُسرِ الزمان ولا اليُسرِ )
( وسَعْدٌ بن إبراهيمَ ظُفْرٌ موسَّخٌ ... فهل يستريح الناسُ من وَسَخَ الظُّفْرِ )
يعني سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وكان ولي قضاء المدينة من هشام بن عبد الملك فلم يعط الحزين شيئاً فهجاه
وقال فيه أيضاً - طويل -
( أتيْتُ هلالاً أرتجي فَضْلَ سَيْبِه ... فأفلتَنِي ممّا أحبُّ هِلالُ )
( هِلال بن يحيى غُرّةٌ لا خفا بها ... لكلِّ أُناسٍ غُرَّةٌ وهلال )
صوت - طويل -
( ألم تَشهدِ الجَوْنينِ والشِّعْبَ ذا الصَّفا ... وكَرَّاتِ قَيْسٍ يَوْمَ دَيْرِ الجماجِمِ )

( تحرِّضُ يابنَ القَيْن قيساً ليَجعلوا ... لقومك يوماً مثلَ يوم الأَراقمِ )
( بسيف أبي رَغْوانَ سيْفِ مُجاشعٍ ... ضربْتَ ولم تَضربْ بسيفِ ابنِ ظالمِ )
( ضربْتَ به عند الإِمام فأُرعِشَتْ ... يداك وقالوا مُحدَثٌ غير صارمِ ) الشعر لجرير والغناء لابن محرز ثقيل أول بالبنصر
وهذه الأبيات يقولها جرير يهجو الفرزدق ويعيره بضربة ضربها بسيفه رجلاً من الروم فحضره سليمان بن عبد الملك فلم يصنع شيئاً
فحدثنا بخبره في ذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا صالح بن سليمان عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي وكان شيخاً كبيراً وكان من أصحاب عبد الملك بن مروان ثم كان من أصحاب المنصور قال كنت حاضراً سليمان بن عبد الملك
وأخبرنا علي بن سليمان الأخفش واليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة وعن قتادة عن أبي عبيدة في كتاب النقائض عن رؤبة بن العجاج قال حج سليمان بن عبد الملك ومعه الشعراء وحججت معهم فمر بالمدينة منصرفاً فأتي بأسرى من الروم نحو من أربعمائة فقعد سليمان وعنده عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلساً فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن الحسن قم فاضرب عنقه
فقام فما أعطاه أحد سيفاً حتى دفع إليه حرسي سيفاً كليلاً فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده وبعض الغل
فقال له سليمان اجلس فوالله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك
وجعل يدفع الأسرى إلى

الوجوه وإلى الناس فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلاً فدست إليه بنو عبس سيفاً قاطعاً في قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسيراً فدست إليه القيسية سيفاً كليلاً فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً فضحك سليمان وضحك الناس معه
هذه رواية أبي عبيدة عن رؤبة
وأما سليمان بن أبي شيخ فإنه ذكر في خبره أن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفاً وقال له اقتله به
فقال لا بل أضربه بسيف مجاشع واخترط سيفه فضربه به فلم يغن شيئاً فقال له سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها ومنها الصوت المذكور وأولها قوله - طويل -
( ألاَ حيِّ رَبْعَ المنزلِ المتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذْ حَلَّتْ به أمُّ سالِم )
وهي طويلة
فقال الفرزدق
صوت - طويل -
( فهل ضَربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكُمْ ... أباً عن كُليبٍ أو أباً مِثلَ دارمِ )
( كذاك سيوفُ الهِندِ تَنْبو ظُباتُها ... وتَقطع أحياناً مَنَاط التمائم )
( ولا نَقتُل الأسرى ولكنْ نفكُّهمْ ... إذا أثَقَلَ الأعناقَ حملُ المَغَارِم )
ذكر يونس أن في هذه الأبيات لحناً لابن محرز ولم يجنسه
وقال يعرّض بسليمان ويعيّره بنبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس أخوال سليمان قال - طويل

( فإنْ يكُ سيفٌ خانَ أو قدَرٌ أتى ... بتعجيل نفسٍ حَتْفُها غير شاهِد )
( فسيفُ بني عَبسٍ وقد ضَربوا به ... نَبَا بيدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالدِ )
( كذاك سيوفُ الهند تنبو ظُباتُها ... وتقطع أحياناً مَناطَ القلائدِ )
وروي هذا الخبر عن عوانة بن الحكم قال فيه إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير
فوهبه له فأعتقه وقال الأبيات التي تقدم ذكرها ثم أقبل على رواته وأصحابه فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال - طويل -
( بَسيفِ أبي رَغْوانَ سيفِ مُجاشعٍ ... ضَربتَ ولم تضرِبْ بسيفِ ابنِ ظالِم )
( ضَرَبْتَ به عِند الإِمام فأُرعِشَتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ )
قال فما لبثنا غير مدة يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها هذان البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن عيسى بن حمزة العلوي قال حدثنا أبو عثمان المازني قال زعم جهم بن خلف أن رؤبة بن العجاج حدثه
فذكر هذه القصيدة وزاد فيها
قال واستوهب الفرزدق الأسير فوهبه له سليمان فأعتقه وكساه وقال قصيدته التي يقول فيها - طويل -
( ولا نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهمْ ... إذا أثقَلَ الأعناقَ حملُ المغارمِ )
قال وقال في ذلك - طويل

( تَباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ... ضَربْتُ بها بين الطُّلاَ والحراقدِ )
( ولو شئْتُ قدَّ السيْفُ ما بين عُنْقه ... إلى عَلَق بين الحجابَيْنِ جامدِ )
( فإنْ يَنْبُ سيفٌ أو تراخَتْ منيّةٌ ... لميقاتِ نَفْسٍ حتفُها غيرُ شاهدِ )
( فسيفُ بني عبسٍ وقد ضَربوا به ... نَبَا بِيَدَيْ ورقاءَ عن رأسِ خالدِ )
قال وقال في ذلك - بسيط -
( أيَضْحَكُ الناسُ أن أضحكْتُ سيِّدَهُمْ ... خليفةَ الله يُستَسْقَى به المَطَرُ )
( فما نبا السيفُ عن جُبنٍ ولا دَهَش ... عند الإِمام ولكنْ أخَّرَ القَدَرُ )
( ولو ضَربْتُ به عمراً مقلَّدَه ... لخرَّ جُثمانُه ما فوقَه شَعَر )
( وما يقدِّم نفساً قبل مِيتَتها ... جمعُ اليدَينِ ولا الصَّمصامةُ الذَّكَرُ )
فأما يوم الجونين الذي ذكره جرير فهو اليوم الذي أغار فيه عتيبة بن الحارث بن شهاب على بني كلاب وهو يوم الرغام
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي عن السكري عن ابن حبيب ودماذ عن أبي عبيدة وعن إبراهيم بن سعدان عن أبيه أن عتيبة بن الحارث بن شهاب أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب يوم الجونين فاطرد إبلهم وكان أنس بن العباس الأصم أخو بني رعل من بني سليم مجاوراً في بني كلاب وكان بين بني ثعلبة بن يربوع وبين بني رعل عهد لا يسفك دم ولا يؤكل مال
فلما سمع الكلابيون الدعوى يال ثعلبة يال

عبيد يال جعفر عرفوهم فقالوا لأنس بن العباس قد عرفنا ما بين بني رعل وبني ثعلبة بن يربوع فأدركهم فاحبسهم علينا حتى نلحق
فخرج أنس في آثارهم حتى أدركهم فلما دنا منهم قال عتيبة بن الحارث لأخيه حنظلة أغن عنا هذا الفارس فاستقبله حنظلة فقال له أنس إنما أنا أخوكم وعقيدكم وكنت في هؤلاء القوم فأغرتم على إبلي فيما أغرتم عليه وهو معكم
فرجع حنظلة إلى أخيه فأخبره الخبر فقال له حياك الله وهلم فوال إبلك أي اعزلها
قال والله ما أعرفها وبنو أخي وأهل بيتي معي وقد أمرتهم بالركوب في أثري وهم أعرف بها مني
فطلع فوارس بني كلاب فاستقبلهم حنظلة بن الحارث في فوارس فقال لهم أنس إنما هم بني وبنو أخي
وإنما يربثهم لتلحق فوارس بني كلاب
فلحقوا فحمل الحوثرة بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر على حنظلة فقتله وحمل لأم ابن سلمة أخو بني ضبارى بن عبيد بن ثعلبة على الحوثرة هو وابن مزنة أخو بني عاصم بن عبيد فأسراه ودفعاه إلى عتيبة فقتله صبراً وهزم الكلابيون ومضى بنو ثعلبة بالإبل وفيها إبل أنس فلم تقر أنساً نفسه حتى اتبعهم رجاء أن يصيب منهم غرة وهم يسيرون في شجراء
فتخلف عتيبة لقضاء حاجته وأمسك برأس فرسه فلم يشعر إلا بأنس قد مر في آثارهم فتقدم حتى وثب عليه فأسره فأتى به عتيبة أصحابه فقال بنو عبيدة قد عرفنا أن لأم بن سلمة وابن مزنة قد أسرا الحوثرة فدفعاه إليك فضربت عنقه فأعقبهما في أنس بن عباس فمن قتلته خير من أنس
فأبى عتيبة أن يفعل ذلك حتى افتدى أنس نفسه بمائتي بعير
فقال العباس بن مرداس يعير عتيبة بن الحارث بفعله - كامل

( كثُر الضَّجاجُ وما سمعْتُ بغادرٍ ... كعُتيبةَ بنِ الحارث بن شهاب )
( جَلّلْتَ حنظلةَ المخَانَة والخَنَا ... ودَنِسْتَ آخرَ هذه الأحقاب )
( وأسَرتُمُ أنساً فمَا حاولْتُمُ ... بإسارِ جارِكُمُ بني المِيقاب )
الميقاب التي تلد الحمقى
والوقب الأحمق
( باستِ التي ولدتك واستِ معاشرٍ ... تَرَكوك تحرسهمْ من الأحساب )
فقال عتيبة بن الحارث - وافر -
( غدرتمْ غدرةً وغدرْتُ أُخرى ... فليسَ إلى توافينا سبيلُ )
( كأنَّكُمُ غداة بني كلابٍ ... تفاقدتمْ عليَّ لكُمْ دليلُ )
قوله تفاقدتم دعاء عليهم أن يفقد بعضهم بعضاً
صوت - طويل -
( وبالعُفْر دارٌ مِن جميلَة هَيَّجَتْ ... سوالفَ حُبٍّ في فؤادكَ مُنْصِبِ )
( وكنتَ إذا ناءت بها غربة النوى ... شديدَ القوَى لم تَدْرِ ما قولُ مِشْغَبِ )
( كريمة حُرِّ الوجه لم تَدْعُ هالكاً ... من القوم هُلكاً في غدٍ غير مُعْقِبِ )
( أَسِيلةُ مَجرى الدمع خُمْصانةُ الحشا ... بَرُوق الثّنايا ذاتُ خَلْقٍ مُشَرْعَبِ )
العفر منازل لقيس بالعالية
سوالف مواض
يقول هيّجت حبّاً قد كان ثم انقطع
ومنصب ذو نصب
ونأت وناءت وبانت بمعنى واحد أي بعدت
ومشغب ذو شغب عليك وخلاف في حبها
ويروى مشعب أي متعدّد

يصرفك عنها
وقوله لم تدع هالكاً أي لم تندب هالكاً هلك فلم يخلف غيره ولم يعقب
ومعنى ذلك أنها في عدد وقوم يخلف بعضهم بعضا في المكارم لا كمن إذا مات سيد قومها أو كريم منهم لم يقم أحد منهم مقامه
والمشرعب الجسيم الطويل
والشرعبي الطويل
الشعر لطفيل الغنوي والغناء لجميلة ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي
وذكره حماد عن أبيه لها ولم يجنسه
وروى إسحاق عن أبيه عن سياط عن يونس أن هذا أحسن صوت صنعته جميلة

22 -

نسب الطفيل الغنوي وأخباره
قال ابن الكلبي هو طفيل بن عوف بن كعب بن خلف بن ضبيس بن خليف بن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن غنم بن غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان
ووافقه ابن حبيب في النسب إلا في خلف بن ضبيس فإنه لم يذكر خلفا وقال هو طفيل بن عوف بن ضبيس
قال أبو عبيدة اسم غني عمرو واسم أعصر منبه وإنما سمي أعصر لقوله - كامل -
( قالتْ عُميرةُ ما لرأسِكَ بعد ما ... فُقِدَ الشبابُ أتَى بلونٍ مُنْكَرِ )
( أعُميرَ إنّ أباكِ غيَّر رأسَه ... مرُّ الليالي واختلافُ الأعصر )
فسمي بذلك
وطفيل شاعر جاهلي من الفحول المعدودين ويكنى أبا قران يقال إنه من أقدم شعراء قيس
وهو من أوصف العرب للخيل

أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد الله بن مالك أبو دلف الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب الأنصاري قال قال لي عمي إن رجلاً من العرب سمع الناس يتذاكرون الخيل ومعرفتها والبصر بها فقال كان يقال إن طفيلاً ركب الخيل ووليها لأهله
وإن أبا دواد الأيادي ملكها لنفسه ووليها لغيره كان يليها للملوك وأن النابغة الجعدي لما أسلم الناس وآمنوا اجتمعوا وتحدثوا ووصفوا الخيل فسمع ما قالوه فأضافه إلى ما كان سمع وعرف قبل ذلك في صفة الخيل
وكان هؤلاء نعات الخيل
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثني عمي قال كان طفيل أكبر من النابغة وليس في قيس فحل أقدم منه
قال وكان معاوية يقول خلوا لي طفيلاً وقولوا ما شئتم في غيره من الشعراء
أخبرني عبد الله بن مالك النحوي قال حدثنا محمد بن حبيب قال كان طفيل الغنوي يسمى طفيل الخيل لكثرة وصفه إياها
أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثني الرياشي قال حدثني الأصمعي قال كان أهل الجاهلية يسمون طفيلاً الغنوي المحبر لحسن وصفه الخيل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال قال أبو عبيدة طفيل الغنوي والنابغة الجعدي وأبو دواد الإيادي أعلم العرب بالخيل وأوصفهم لها
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال قال قتيبة بن مسلم لأعرابي من غني قدم عليه من خراسان أي بيت قالته العرب أعف قال قول طفيل الغنوي - بسيط

( ولا أكونُ وِكاءَ الزاد أحبسه ... لقد علمْتُ بأنّ الزاد مأكولُ )
قال فأيُّ بيتٍ قالته العرب في الحرب أجود قال قول طفيل - طويل -
( بحيٍّ إذا قيل اركبوا لم يقل لهمْ ... عَواويرُ يَخْشَوْنَ الرَّدَى أين نَركبُ )
قال فأي بيت قالته العرب في الصبر أجود قال قول نافع بن خليفة الغنوي - طويل -
( ومِن خيرِ ما فينا من الأمر أنّنا ... متى ما نُوافِي مَوْطِنَ الصّبر نَصْبِر )
قال فقال قتيبة ما تركت لإخوانك من باهلة قال قول صاحبهم - طويل -
( وإنا أُناسٌ ما تَزالُ سَوامُنا ... تُنَوِّرُ نيرانَ العدوِّ مَناسمُهْ )
( وليس لنا حيٌّ نُضافُ إليْهِمُ ... ولكن لنا عَوْدٌ شديدٌ شكائمهْ )
( حرامٌ وإن صَلَّيْتَه ودَهَنْتَهُ ... تأوُّدُهُ ما كان في السيف قائمُهْ )
وهذه القصيدة المذكورة فيها الغناء يقولها طفيل في وقعة أوقعها قومه بطيئ وحرب كانت بينه وبينهم
وذكر أبو عمرو الشيباني والطوسي فيما رواه عن الأصمعي وأبي عبيدة أنّ رجلاً من غني يقال له قيس الندامى وفد على بعض الملوك

وكان قيس سيداً جواداً فلما حفل المجلس أقبل الملك على من حضره من وفود العرب فقال لأضعن تاجي على أكرم رجل من العرب
فوضعه على رأس قيس وأعطاه ما شاء ونادمه مدة ثم أذن له في الانصراف إلى بلده فلما قرب من بلاد طيىء خرجوا إليه وهم لا يعرفونه فلقوه برمان فقتلوه فلما علموا أنه قيس ندموا لأياديه كانت فيهم فدفنوه وبنوا عليه بيتاً
ثم إن طفيلاً جمع جموعاً من قيس فأغار على طيىء فاستاق من مواشيهم ما شاء وقتل منهم قتلى كثيرة
وكانت هذه الوقعة بين القنان وشرقي سلمى فذلك قول طفيل في هذه القصيدة - طويل -
( فذُوقوا كما ذُقْنا غَداةَ محجَّرٍ ... من الغَيْظ في أكبادنا والتحوُّبِ )
( فبِالقتلِ قَتْلٌ والسَّوامُ بمثله ... وبالشَّلّ شَلُّ الغائط المتصوِّبِ )
أخبرني علي بن الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن محمد عن المدائني عن سلمة بن محارب قال لما مات محمد بن الحجاج بن يوسف جزع عليه الحجاج جزعاً شديداً ودخل الناس عليه يعزونه ويسلونه وهو لا يسلو ولا يزداد إلا جزعاً وتفجعاً وكان فيمن دخل عليه رجل كان الحجاج قتل ابنه يوم الزاوية فلما رأى جزعه وقلة ثباته للمصيبة شمت به وسر لما ظهر له منه وتمثل بقول طفيل - طويل -
( فذُقوا كما ذُقْنا غَداةَ محجَّرٍ ... من الغَيْظ في أكبادنا والتحوُّبِ )

وفي هذه القصيدة يقول طفيل - طويل -
( تَرَى العينُ ما تَهوى وفيها زيادةٌ ... من اليُمْنِ إذْ تبدو ومَلْهىً لِمَلْعبِ )
( وبيتٍ تهبُّ الرِّيحُ في حَجَراته ... بأرضٍ فضاءٍ بابهُ لم يحجَّب )
( سَمَاوتُه أسمالُ بُرْدٍ مُحَبَّرٍ ... وصَهْوَتُهُ مِنْ أَتْحَمِيٍّ مُعَصَّبِ )
أخبرني عيسى بن الحسين بن الوراق قال حدثنا الرياشي عن العتبى عن عن أبيه قال قال عبد الملك بن مروان لولده وأهله أي بيت ضربته العرب على عصابة ووصفته أشرف حواء وأهلا وبناء فقالوا فأكثروا وتكلم من حضر فأطالوا فقال عبد الملك أكرم بيت وصفته العرب بيت طفيل الذي يقوله فيه - طويل -
( وبيتٍ تهبُّ الرِّيحُ في حَجَراته ... بأرضٍ فضاءٍ بابهُ لم يحجَّب )
( سَمَاوتُه أسمالُ بُرْدٍ مُحَبَّرٍ ... وصَهْوَتُهُ مِنْ أَتْحَمِيٍّ مُعَصَّبِ )
( وأطنابُه أرسانُ جُرْدٍ كأنّها ... صُدورُ القَنا من بادىءٍ ومُعَقِّبِ )
( نصبْتُ على قومٍ تُدِرّ رماحُهُمْ ... عروقَ الأعادِي من غَرِيرٍ وأشيْبِ )
وقال أبو عمرو الشيباني كانت فزارة لقيت بني أبي بكر بن كلاب وجيرانهم من محارب فأوقعت بهم وقعة عظيمة ثم أدركتهم غني فاستنقذتهم فلما قتلت طيىء قيس الندامى وقتلت بنو عبس هريم بن سنان بن عمرو بن يربوع بن طريف ابن خرشة بن عبيد بن سعد بن كعب بن جلان بن غنم بن غني وكان فارساً حسيباً

قد ساد ورأس قتله ابن هدم العبسي طريد الملك فقال له الملك كيف قتلته قال حملت عليه في الكبة وطعنته في السبة حتى خرج الرمح من اللبة
وقتل أسماء بن واقد بن رفيد بن رياح بن يربوع بن ثعلبة بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان وهو من النجوم وحصن بن يربوع بن طريف وأمهم جندع بنت عمرو بن الأغر بن مالك بن سعد بن عوف
فاستغاثت غني ببني أبي بكر وبني محارب فقعدوا عنهم فقال طفيل في ذلك يمن عليهم بما كان منهم في نصرتهم ويرثي القتلى قال - طويل -
( تأوَّبَني هَمٌّ من اللَّيل مُنْصِبُ ... وجاء من الأخبار ما لا أُكَذِّبُ )
( تتابَعْنَ حتّى لم تكنْ لِيَ رِيبةٌ ... ولم يكُ عمّا خَبَّروا مُتَعقَّب )
( وكان هُريمٌ من سِنانٍ خليفةً ... وحِصْنٍ ومن أسماءَ لمّا تَغَيَّبوا )
( ومن قيسٍ الثّاوي بِرَمّان بيتُه ... ويومَ حَقِيل فادَ آخرُ مُعْجِبُ )
( أَشَمُّ طويلُ السّاعدين كأنه ... فَنِيقُ هِجانٍ في يديه مُركّب )

( وبالسَّهْبِ ميمونُ النَّقيبة قولُه ... لملتمس المعروف أهلٌ ومَرْحَبُ )

صوت طويل
( كواكُب دَجْنٍ كلَّما انقضَّ كوكبٌ ... بَدا وانجَلَتْ عنه الدُّجُنَّةُ كَوكبُ )
الغناء لسليم أخي بابويه ثاني ثقيل عن الهشامي
وهي قصيدة طويلة وذكرت منها هذه الأبيات من أجل الغناء الذي فيها
ومن مختار مرثيته فيها قوله - طويل -
( لعمري لقد خَلَّى ابنُ جَنْدَعَ ثَلمةً ... ومن أينَ إنْ لم يرأبِ الله تُرأَبُ )
( ندامَايَ أمسَوْا قد تخلَّيْتُ عَنْهُمُ ... فكيف أَلَذُ الخمرَ أم كيف أشرب )
( مضَوْا سلَفاً قَصْدَ السَّبيل عليهِمُ ... وصَرْف المنايا بالرجال تقلّبُ )
صوت - سريع -
( فَدَيْتُ مَنْ باتَ يُغَنِّيني ... وبتُّ أسقِيهِ ويَسقيني )
( ثم اصطبَحْنا قَهوةً عُتِّقتْ ... مِن عَهِد سابورَ وشِيرينِ )
الشعر والغناء لمحمد بن حمزة بن نصير وجه القرعة ولحنه فيه رمل أول بالبنصر لا نعرف له صنعة غيره

23 - سب محمد بن حمزة بن نصير الوصيف وأخباره
هو محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور ويكنى أبا جعفر ويلقب وجه القرعة
وهو أحد المغنين الحذاق الضراب الرواة
وقد أخذ عن إبراهيم الموصلي وطبقته وكان حسن الأداء طيب الصوت لا علة فيه إلا أنه كان إذا غنى الهزج خاصة خرج بسبب لا يعرف إلا لآفة تعرض للحس في جنس من الأجناس فلا يصح له بتة
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن إسحاق بن محمد الهاشمي حدثه عن أبيه أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند عمه هارون بن عيسى وعنده محمد بن الحسن بن مصعب قال فأتانا محمد بن حمزة وجه القرعة فسر به عمي
وكان شرس الخلق أبيَّ النفس فكان إذا سئل الغناء أباه فإذا أمسك عنه كان هو المبتدئ به فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتي به فغنى وقال - مجزوء الرمل -
( مَرَّ بي سِرْبُ ظِباءِ ... رائحاتٍ من قُباءِ )
قال وكان يحسنه ويجيده فجعل إسحاق يشرب ويستعيده حتى شرب ثلاثة

أرطال ثم قال أحسنت يا غلام هذا الغناء لي وأنت تتقدمني فيه ولا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه
قال وحدثني إسحاق الهاشمي عن أبيه قال كنا في البستان المعروف ببستان خالص النصراني ببغداد ومعنا محمد بن حمزة وجه القرعة فيغنينا قوله - مجزوء الكامل -
( يا دارُ أَقَفَرَ رَسْمُها ... بين المُحَصَّب والحَجُونِ )
( يا بِشْرُ إنِّي فاعلمي ... واللهِ مجتهداً يميني )
فإذا برجل راكب على حمار يؤمنا وهو يصيح أحسنت يا أبا جعفر أحسنت والله فقلنا اصعد إلينا كائنا من كنت
فصعد وقال لو منعتموني من الصعود لما امتنعت
ثم سفر اللثام عن وجهه فإذا هو مخارق
فقال يا أبا جعفر أعد عليّ صوتك
فأعاده فشرب رطلاً من شرابنا وقال لولا أني مدعو الخليفة لأقمت عندكم واستمعت هذا الغناء الذي هو أحسن من الزهر غب المطر

نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
منها - مجزوء الرمل -
صوت
( مَرَّ بي سِرْبُ ظِباءِ ... رائحاتٍ من قُباءِ )

( زُمَراً نحوَ المُصَلَّى ... يَتَمشَّيْنَ حِذائي )
( فتجاسَرْتُ وأَلقيْتُ ... سَرابيلَ الحَياء )
( وقديماً كان لَهْوِي ... وفُتونِي بالنِّساءِ )
الغناء لإسحاق مما لا يشك فيه من صنعته ولحنه من ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى
وذكر محمد بن أحمد المكي أنه لجدّه يحيى
وذكر حبش أنّ فيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى
ومنها - مجزوء الكامل -
صوت
( يا بِشْرُ إني فاعلمِي ... واللهِ مُجتهداً يميني )
( ما إن صرَمْتُ حِبالَكمْ ... فَصِلِي حبالِي أو ذَرِيني )
( استبدَلُوا طَلَبَ الحِجازِ ... وسُرّةِ البلدِ الأمين )
( بحدائقٍ محفوفةٍ ... بالبيتِ من عِنَبٍ وتينِ )
( يا دارُ أقفَرَ رَسْمُها ... بين المُحَصَّب والحَجُون )
( أَقْوَتْ وغيَّرَ آيَها ... طُولُ التَّقادُم والسّنينِ )
الشعر للحارث بن خالد والغناء لابن جامع في الأربعة الأبيات الأول رمل بالوسطى ولابن سريج في الخامس والسادس والأول والثاني ثقيل أول بالبنصر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن مهرويه قال حدثنا عبد الله ابن أبي سعد قال حدثني الفضل بن المغنّي عن محمد بن جبر قال دخلنا على

إسحاق بن إبراهيم الموصلي نعوده من علة كان وجدها فصادفنا عنده مخارقاً وعلويه وأحمد بن المكي وهم يتحدثون فاتصل الحديث بينهم وعرض إسحاق عليهم أن يقيموا عنده ليتفرج بهم ويخرج إليهم ستارته يغنون من ورائها ففعلوا وجاء محمد بن حمزة وجه القرعة على بقية ذلك فاحتبسه إسحاق معهم ووضع النبيذ وغنوا فغنى مخارق أو علويه صوتاً من الغناء القديم فخالفه محمد فيه وفي صانعه وطال مراؤهما في ذلك وإسحاق ساكت ثم تحاكما إليه فحكم لمحمد وراجعه علويه فقال له إسحاق حسبك فوالله ما فيكم أدرى بما يخرج من رأسه منه
ثم غنى أحمد بن يحيى المكي قوله - بسيط -
( قل للجُمانةِ لا تَعجَلْ بإسراج ... )
فقال محمد هذا اللحن لمعبد ولا يعرف له هزج غيره
فقال أحمد أما على ما شرط أبو محمد آنفاً من أنه ليس في الجماعة أدرى بما يخرج من رأسه منك فلا معارض لك
فقال له إسحاق يا أبا جعفر ما عنيتك والله فيما قلت ولكن قد قال إنه لا يعرف لمعبد هزج غير هذا وكلنا نعلم إنه لمعبد فأكذبه أنت بهزج آخر له مما لا يشك فيه
فقال أحمد ما أعرف

نسبة هذا الصوت
قال محمد بن الحسن وحدثني إسحاق الهاشمي عن أبيه أن محمداً دخل معه على إسحاق الموصلي مهنئاً له بالسلامة من علة كان فيها فدعا بعود فأمر به إسحاق فدفع إلى محمد فغنى أصواتاً للقدماء وأصواتاً لإبراهيم وأصواتاً لإسحاق في إيقاعات مختلفة فوجه إسحاق خادماً بين يديه إلى جواري أبيه فخرجن حتى سمعنه من وراء حجاب ثم ودعه وانصرف فقال إسحاق

للجواري ما عندكن في هذا الفتى فقلن ذكرنا والله أباك فيما غناه
فقال صدقتن
ثم أقبل علينا فقال هو مغن محسن ولكنه لا يصلح للمطارحة لكثرة زوائده ومثله إذا طارح جسر الذي يأخذ عنه فلم ينتفع به ولكنه ناهيك به من مغن مطرب
قال إسحاق وحدثت أنه صار إلى مخارق عائداً فصادف عنده المغنين جميعا فلما طلع تغامزوا عليه فسلم على مخارق وسأله به فأقبل عليه مخارق ثم قال له يا أبا جعفر إن جواريك اللواتي في ملكي قد تركن الدرس من مدة فأحب أن تدخل إليهن وتأخذ عليهن وتصلح من غنائهن
ثم صاح بالخدم فسعوا بين يديه إلى حجرة الجواري ففعل ما سأله مخارق ثم خرج فأعلمه أنه قد أتى ما أحبه والتفت إلى المغنين فقال قد رأيت غمزكم فهل فيكم أحد رضي أبو المهنا أعزه الله حذقه وأدبه وأمانته ورضيه لجواريه غيري ثم ولى فكأنما ألقمهم حجراً فما أجابه أحد
صوت - كامل -
( عَفَتِ الدِّيارُ مَحلُّها فمُقامُها ... بِمَنى تأبّدَ غَوْلُها فرِجامُها )
( فَمَدَافُع الرّيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها )
( فاقنعْ بما قسمَ الإلهُ فإِنَّما ... قَسَم الخلائقَ بيننا عَلاّمُها )
عروضه من الكامل
عفت درست
ومنى موضع في بلاد بني عامر وليس منى مكة
تأبد توحش
والغول والرجام جبلان بالحمى
والريان واد
مدافعه مجاري الماء فيه
وعري رسمها أي ترك وارتحل عنه
يقول عري من أهله
وسلامها صخورها واحدتها سلمة

الشعر للبيد بن ربيعة العامري والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن محرز خفيف رمل أول بالوسطى عن حبش وذكر الهشامي أن فيه رملاً آخر للهذلي في الثالث والأول

24 -

نسب لبيد وأخباره
هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر
وكان يقال لأبيه ربيع المقترين لجوده وسخائه
وقتلته بنو أسد في الحرب التي كانت بينهم وبين قومهم وقومه
وعمه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة سمي بذلك لقول أوس بن حجر فيه - طويل -
( فلاعَبَ أطرافَ الأسنّة عامرٌ ... فراحَ له حظُّ الكتيبةِ أجمعُ )

وأم لبيد تامرة بنت زنباع العبسية إحدى بنات جذيمة بن رواحة
ولبيد أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها والمخضرمين ممن أدرك الإسلام وهو من أشراف الشعراء المجيدين الفرسان القراء المعمرين يقال إنه عمر مائة وخمسا وأربعين سنة
أخبرني بخبره في عمره أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن علي بن الصباح عن ابن الكلبي وعن علي بن المسور عن الأصمعي وعن المدائني وعن رجال ذكرهم منهم أبو اليقظان وابن دأب وابن جعدبة والوقاصي أن لبيد بن ربيعة قدم على رسول الله وفد بني كلاب بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل فأسلم وهاجر وحسن إسلامه ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقام بها
ومات بها هناك في آخر خلافة معاوية فكان عمره مائة وخمساً وأربعين سنة منها تسعون سنة في الجاهلية وبقيتها في الإسلام
قال عمر بن شبة في خبره فحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم أن لبيدا قال حين بلغ سبعاً وسبعين سنة بسيط -
( قامت تَشَكَّى إليَّ النَّفسُ مُجْهِشةً ... وقد حَمَلْتُك سبعاً بعد سبعينا )
( فإنْ تُزادِي ثلاثاً تبلُغي أملاً ... وفي الثّلاثِ وفاءٌ للثمانينا )
فلما بلغ التسعين قال - طويل

( كأنِّي وقد جاوزْتُ عِشرين حِجَّةً ... خَلَعْتُ بِها عن مَنكِبيَّ ردائيا )
فلما بلغ مائة وعشرا قال - بسيط -
( أليسَ في مائةٍ قد عاشَها رجلٌ ... وفي تكامُلِ عَشْرٍبعدَها عُمُرُ )
فلما جاوزها قال - كامل -
( ولقد سئِمْتُ من الحياةِ وطُولها ... وسُؤالِ هذا الناس كيفَ لبَيدُ )
( غَلَب الرّجالَ وكان غيرَ مغلَّبٍ ... دَهرٌ طويلٌ دائمٌ ممدود )
( يوماً أرى يأتي عليَّ وليلةٌ ... وكلاهما بَعدَ المضاءِ يعودُ )
( وأراه يأتي مثلَ يوم لقيتُه ... لم يُنتَقَصْ وضَعُفْتُ وهو يزيد )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم السجستاني قال حدثنا الأصمعي قال وفد عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان يكنى أبا البراء في رهط من بني جعفر ومعه لبيد بن ربيعة ومالك بن جعفر وعامر بن مالك عم لبيد على النعمان فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمه فاطمة بنت الخرشب وكان الربيع نديماً للنعمان مع رجل من تجار الشام يقال له زرجون بن توفيل وكان حريفاً للنعمان يبايعه وكان أديباً حسن الحديث والندام فاستخفه النعمان وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي متطبب كان له وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم وكانت بنو جعفر له أعداء فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم فدخلوا

عليه يوماً فرأوا منه جفاء وقد كان يكرمهم ويقربهم فخرجوا غضابا ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متاعهم ويغدو بإبلهم كل صباح يرعاها فأتاهم ذات ليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع فسألهم عنه فكتموه فقال والله لا حفظت لكم متاعاً ولا سرحت لكم بعيراً أو تخبروني فيم أنتم وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع فقالوا خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه
فقال لبيد هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول ممض لا يلتفت إليه النعمان أبداً فقالوا وهل عندك شيء قال نعم
قالوا فإنا نبلوك
قال وما ذاك قالوا تشتم هذه البقلة وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قلية الورق لاصقة بالأرض تدعى التربة فقال هذه التربة التي لا تذكي ناراً ولا تؤهل داراً ولا تسر جاراً عودها ضئيل وفرعها كليل وخيرها قليل أقبح البقول مرعى وأقصرها فرعاً وأشدهما قلعاً
بلدها شاسع وآكلها جائع والمقيم عليها قانع فالقوا بي أخا عبس أرده عنكم بتعس وأتركه من أمره في لبس
قالوا نصبح ونرى فيك رأينا
فقال عامر انظروا إلى غلامكم هذا يعني لبيداً فإن رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه وإن رأيتموه ساهراً فهو صاحبه
فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلاً وهو يكدم وسطه حتى أصبح فقالوا أنت والله صاحبه
فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا دؤابته وألبسوه حلة ثم غدا معهم وأدخلوه على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع بن زياد وهما يأكلان لا ثالث لهما والدار والمجالس مملوءة من الوفود فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه وقد كان أمرهم تقارب فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم فقال لبيد في ذلك - رجز

( أكلَّ يومٍ هامتي مُقَزَّعَهْ ... يا رُبَّ هيجا هي خيرٌ من دَعَهْ )
( نحن بني أمِّ البنينَ الأربعهْ ... سيوفُ حَزٍّ وَجِفان مُتْرَعَهْ )
( نحنُ خيارُ عامِربن صَعْصَعَهْ ... الضاربون الهامَ تحتَ الخَيْضَعَهْ )
( والمطمعون الجَفْنَة المُدَعْدَعهْ ... مهلاً أبيْتَ اللَّعْنَ لا تأكلْ معهْ )
( إنَّ استَه من بَرَصٍ مُلمَّعه ... وإِنّه يُدخِل فيها إصْبَعَهْ )
( يُدخِلها حتّى يُوارِي أَشْجَعَه ... كأنّه يطلُب شيئاً ضَيَّعَهْ )
فرفع النعمان يده من الطعام وقال خبثت والله علي طعامي يا غلام وما رأيت كاليوم
فأقبل الربيع على النعمان فقال كذب والله ابن الفاعلة ولقد فعلت بأمه كذا وكذا
فقال له لبيد مثلك فعل ذلك بربيبة أهله والقريبة من أهله وإن أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرت
وقضى النعمان حوائج الجعفريين ومضى من وقته وصرفهم ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه وأمره بالانصراف إلى أهله فكتب إليه الربيع إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد وإني لست بارحاً حتى تبعث إليّ من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال لبيد
فأرسل إليه إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على رد ما زلت به الألسن فالحق بأهلك
فلحق بأهله ثم أرسل إلى النعمان بأبيات شعر قالها وهي - بسيط -
( لئن رَحَلتُ جِمالي لا إلى سَعةٍ ... ما مثلُها سَعَةٌ عَرْضاً ولا طُولا )
( بحيثُ لو وَرَدَتْ لخمٌ بأَجْمَعِها ... لم يَعدِلوا ريشةً من رِيش سَمْويلا )

( ترعى الروائمُ أحرارَ البقولِ بها ... لا مثلَ رَعْيِكمُ مِلحاً وغَسْوِيلا )
( فاثبُتْ بأرضك بعدي واخلُ متكئاً ... مع النَّطاسيّ طوراً وابن تُوفيلا )
فأجابه النعمان بقوله - بسيط -
( شَرِّدْ برحلكَ عنِّي حيثُ شئْتَ ولا ... تُكثِر عليَّ وَدَعْ عنكَ الأباطيلا )
( فقد ذُكِرْتَ بشيءٍ لستُ ناسِيَه ... ما جاورت مصرُ أهلَ الشّام والنِّيلا )
( فما انتفاؤك منه بعد ما جَزَعَتْ ... هُوجُ المطيِّ به نحو ابن سَمْويلا )
( قد قيل ذلك إنْ حقّاً وإنْ كذباً ... فما اعتذارُك من قولٍ إذا قيلا )
( فالحقْ بحيثُ رأيتَ الأرضَ واسعةً ... فانْشر بها الطَّرْفُ إنْ عَرْضاً وإن طُولا )
قال وقال لبيد يهجو الربيع بن زياد ويزعمون أنها مصنوعة
قال - رجز -
( ربيعُ لا يَسُقْكَ نحوي سائقُ ... فتُطلَبَ الأذْحالُ والحقائقُ )
( ويُعلمَ المُعْيا به والسّابقُ ... ما أنتَ إن ضُمَّ عليك المازِقُ )
( إلاّ كشيءٍ عاقَه العوائق ... إنّك حاسٍ حُسْوَةً فذائقُ )
( لا بدّ أن يغمز منك العاتق ... غَمْزاً ترى أنك منه ذارق )
( إنّك شيخٌ خائن منافقُ ... بالمخزيات ظاهرٌ مطابق )
وكان لبيد يقول الشعر ويقول لا تظهروه حتى قال - كامل

( عَفَت اِلِّديارُ محلُّها فمُقامُها ... )
وذكر ما صنع الربيع بن زياد وضمرة بن ضمرة
ومن حضرهم من وجوه الناس فقال لهم لبيد حينئذ أظهروها
قال الأصمعي في تفسير قوله الخيضعة أصله الخضعة بغير ياء يعني الجلبة والأصوات فزاد فيها الياء
وقال في قوله بالمخزيات ظاهر مطابق يقال طابق الدابة إذا وضع يديه ثم رفعهما فوضع مكانهما رجليه وكذلك إذا كان يطأ في شوك
والمأزق المضيق
والنازق الخفيف
نسخت من كتاب مروي عن أبي الحكم قال حدثني العلاء بن عبد الله الموقع قال اجتمع عند الوليد بن عقبة سماره وهو أمير الكوفة وفيهم لبيد فسأل لبيدا عما كان بينه وبين الربيع بن زياد عند النعمان فقال له لبيد هذا كان من أمر الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام
فقال له عزمت عليك وكانوا يرون لعزمة الأمير حقاً فجعل يحدثهم فحسده رجل من غني فقال ما علمنا بهذا
قال أجل يا ابن أخي لم يدرك أبوك مثل ذلك وكان أبوك ممن لم يشهد تلك المشاهد فيحدثك
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري قال حدثني الهيثم عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال لم يسمع من لبيد فخره في الإسلام غير يوم واحد فإنه كان في رحبة غني مستلقياً على ظهره قد سجى نفسه بثوبه إذ أقبل شاب من غني فقال قبح الله طفيلاً حيث يقول - طويل -
( جَزَى الله عنّا جعفراً حيثُ أشرفَتْ ... بنا نَعْلُنا في الوَاطئينَ فَزَلَّتِ )
( أَبَوْا أن يَملُّونا ولو أنّ أُمَّنَا ... تُلاقِي الذي يَلقَوْن منّا لَمَلَّتِ )
( فذو المال موفورٌ وكل مُعَصِّبٍ ... إلى حُجُرات أَدْفَأَتْ وأظَلَّت )

( وقالت هَلُمُّوا الدار حتّى تَبَيَّنُوا ... وتنجليَ الغَمَّاءُ عمّا تجلَّت )
ليت شعري ما الذي رأى من بني جعفر حيث يقول هذا فيهم قال فكشف لبيد الثوب عن وجهه وقال يا ابن أخي إنك أدركت الناس وقد جعلت لهم شرطة يزعون بعضهم عن بعض ودار رزق تخرج الخادم بجرابها فتأتي برزق أهلها وبيت مال يأخذون منه أعطيتهم ولو أدركت طفيلاً يوم يقول هذا لم تلمه
ثم استلقى وهو يقول أستغفر الله
فلم يزل يقول أستغفر الله حتى قام
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال مر لبيد بالكوفة على مجلس بني نهد وهو يتوكأ على محجن له فبعثوا إليه رسولاً يسأله عن أشعر العرب فسأله فقال الملك الضليل ذو القروح
فرجع فأخبرهم فقالوا هذا امرؤ القيس
ثم رجع إليه فسأله ثم من فقال له الغلام المقتول من بني بكر
فرجع فأخبرهم فقالوا هذا طرفة
ثم رجع فسأله ثم من فقال ثم صاحب المحجن يعني نفسه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عبيدة قال لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتاً واحداً وهو - بسيط

( الحمدُ لله إذْ لم يأتني أجَلي ... حتّى لبسْتُ من الإسلام سِربالا )
أخبرني أحمد قال أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال حدثنا نصر بن دأب عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام
فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي فقال له أنشدني
فقال - رجز -
( أَرَجَزاً تريدُ أم قصيداً ... لقد طلبْتَ هيّناً موجودا )
ثم أرسل إلى لبيد فقال أنشدني
فقال إن شئت ما عفي عنه يعني الجاهلية فقال لا أنشدني ما قلت في الإسلام
فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها وقال أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر
فكتب بذلك المغيرة إلى عمر فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة فكتب الأغلب يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة
قال أبو زيد وأراد معاوية أن ينقصه من عطائه لما ولي الخلافة وقال هذان الفودان يعني الألفين فما بال العلاوة يعني الخمسمائة
فقال له لبيد إنما أنا هامة اليوم أو غد فأعرني اسمها فلعلي لا أقبضها أبداً فتبقى لك العلاوة والفودان
فرق له وترك عطاءه على حاله فمات ولم يقبضه
وقال عمر بن شبة في خبره الذي ذكره عن عبد الله بن محمد بن حكيم

وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالا كان لبيد من جوداء العرب وكان قد آلى في الجاهلية أن لا تهب صباً إلا أطعم وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم فهبت الصبا يوماً والوليد بن عقبة على الكوفة فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال إن أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية ألا تهب صباً إلا أطعم وهذا يوم من أيامه وقد هبت صباً فأعينوه وأنا أول من فعل
ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة وكتب إليه بأبيات قالها - وافر -
( أرى الجزّارَ يشحَذُ شَفْرَتَيْهِ ... إذا هبَّتْ رياحُ أبي عَقيلِ )
( أشَمُّ الأنفِ أصْيَدُ عامريٌّ ... طويلُ الباع كالسَّيفِ الصَّقيل )
( وفَى ابنُ الجعفريِّ بحَلْفَتَيْهِ ... على العِلاَّتِ والمالِ القليل )
( بِنَحْرِ الكُوم إذ سُحِبَتْ عليه ... ذيولُ صباً تَجَاوَبُ بالأصيل )
فلما بلغت أبياته لبيدا قال لابنته أجيبيه فلعمري لقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر
فقالت ابنته - وافر -
( إذا هبَّتْ رياحُ أبي عَقيلٍ ... دعَوْنا عند هَبَّتِها الوليدا )

( أشمَّ الأنفِ أَرْوَعَ عبشميّاً ... أعانَ على مروءته لَبيدا )
( بأمثالِ الهِضابِ كأنّ رَكْباً ... عليها من بني حامٍ قُعودا )
( أبا وَهْبٍ جَزَاكَ اللهُ خيراً ... نَحَرْناها فأطعَمْنا الثَّريدا )
( فَعُدْ إنَّ الكريمَ له مَعَادٌ ... وظنِّي يا ابنَ أروى أن تَعُودا )
فقال لها لبيد أحسنت لولا أنك استطعمته
فقالت إن الملوك لا يستحيا من مسألتهم
فقال وأنت يا بنية في هذه أشعر
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد ابن عمران الضبي قال حدثني القاسم بن يعلى عن المفضل الضبي قال قدم الفرزدق فمر بمسجد بني أقيصر وعليه رجل ينشد قول لبيد - كامل -
( وَجَلا السُّيولُ عن الطُّلول كأنها ... زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أقلامُها )
فسجد الفرزدق فقيل له ما هذا يا أبا فراس فقال أنتم تعرفون سجدة القرآن وأنا أعرف سجدة الشعر
أخبرنا أحمد بن عبد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب الثقفي وابن عياش ومسعر بن كدام كلهم عن عبد الملك بن عمير قال

أخبرني من أرسله القراء الأشراف قال الهيثم فقلت لابن عياش من القراء الأشراف قال سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة الفزاري وخالد بن عرفطة الزهري ومسروق بن الأجدع الهمداني وهانئ بن عروة المرادي إلى لبيد ابن ربيعة وهو في المسجد وفي يده محجن فقلت يا أبا عقيل إخوانك يقرئونك السلام ويقولون أي العرب أشعر قال الملك الضليل ذو القروح
فردوني إليه وقولوا ومن ذو القروح قال امرؤ القيس
فأعادوني إليه وقالوا ثم من قال الغلام ابن ثماني عشرة سنة
فردوني إليه فقلت ومن هو فقال طرفة
فردوني إليه فقلت ثم من قال صاحب المحجن حيث يقول - رمل -
( إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ ... وبإِذن الله رَيثي وعَجَلْ )
( أَحْمَدُ اللهَ ولا نِدَّ لهُ ... بيديهِ الخيرُ ما شَاءَ فَعَلْ )
( مَن هَداه سُبُلَ الخيرِ اهتدى ... ناعمَ البالِ ومَنْ شاءَ أضلّ )
يعني نفسه
ثم قال أستغفر الله
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن ابن البواب قال جلس المعتصم يوماً للشراب فغناه بعض المغنين قوله - رمل -
( وبَنُو العباسِ لا يأتون لا ... وعلى ألسنهمْ خفّتْ نَعَمْ )
( زَيّنت أحلامُهُمْ أحسابَهُمْ ... وكذاك الحلمُ زَينٌ للكرمْ )
فقال ما أعرف هذا الشعر فلمن هو قيل للبيد
فقال وما للبيد وبني العباس قال المغنّي إنما قال
( وبنو الدّيّان لا يأتون ... )

فجعلته وبنو العباس
فاستحسن فعله ووصله
وكان يعجب بشعر لبيد فقال من منكم يروي قوله
( بَلِينا وما تَبْلَى النجومُ الطوالعُ ... ) - طويل -
فقال بعض الجلساء أنا
فقال أنشدنيها
فأنشد
( بَلِينا وما تَبلَى النُّجومُ الطوالعُ ... وتَبقَى الجبالُ بعدَنا والمصانِعُ )
( وقد كنتُ في أكنافِ جارِ مَضَنّةٍ ... ففارقني جارٌ بِأَرْبَدَ نافعُ )
فبكى المعتصم حتى جرت دموعه وترحم على المأمون وقال هكذا كان رحمة الله عليه ثم اندفع وهو ينشد باقيها ويقول
( فلا جَزَعٌ إنْ فَرَّقَ الدَّهرُ بيننا ... فكلُّ امرىءٍ يوماً له الدهرُ فاجعُ )
( وما الناسُ إلاّ كالدِّيارِ وأهلِها ... بها يومَ حَلُّوها وبَعْدُ بلاقعُ )
( ويَمضُون أرسالاً ونخلُف بعدَهمْ ... كما ضمَّ إحدى الراحتينِ الأصابعُ )
( وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضوئه ... يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هو ساطع )
( وما البرُّ إلا مُضْمَراتٌ من التُّقى ... وما المالُ إلا عارياتٌ ودائعُ )

( أليسَ ورائي إنْ تراخَتْ منيَّتي ... لُزُومُ العصا تُحنَى عليها الأصابعُ )
( أخبِّر أخبارَ القرونِ التي مضت ... أدِبُّ كأنِّي كلما قُمْتُ راكعُ )
( فأصبحْتُ مثلَ السَّيف أَخْلَقَ جَفْنَه ... تقادُمُ عهدِ القَيْن والنَّصْلُ قاطع )
( فلا تَبْعَدَنْ إنَّ المنيَّةَ مَوعِدٌ ... علينا فدانٍ للطُّلوع وطالع )
( أعاذلَ ما يُدْرِيكِ إلاّ تَظَنِّياً ... إذا رحَل الفِتيانُ مَنْ هو راجع )
( أتَجزعُ مما أحدَثَ الدهرُ بالفتى ... وأيُّ كريم لم تُصِبْه القوارع )
( لعمركَ ما تدري الضَّواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطَّيرِ ما الله صانع )
قال فعجبنا والله من حسن ألفاظه وصحة إنشاده وجودة اختياره
أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه
وحدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال كان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة فتفكر يوماً في نفسه فقال والله ما ينبغي لمسلم أن يكون آمنا في جوار كافر ورسول الله خائف
فجاء إلى الوليد بن المغيرة فقال له أحب أن تبرأ من جواري
قال لعله رابك ريب
قال لا ولكن أحب أن تفعل
قال فاذهب بنا حتى أبرأ منك حيث أجرتك
فخرج معه إلى المسجد الحرام فلما وقف على جماعة قريش قال لهم هذا ابن مظعون قد كنت أجرته ثم سألني أن ابرأ منه أكذاك يا عثمان قال نعم
قال اشهدوا أني منه بريء
قال وجماعة يتحدثون من قريش معهم لبيد بن ربيعة ينشدهم فجلس عثمان مع القوم فأنشدهم لبيد - طويل -
( ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... )

فقال له عثمان صدقت
فقال لبيد
( وكلُّ نعيمٍ لا محالةَ زائلُ ... )
فقال عثمان كذبت
فلم يدر القوم ما عنى
فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد فأعاد فصدقه في النصف الأول وكذبه في الآخر لأن نعيم الجنة لا يزول
فقال لبيد يا معشر قريش ما كان مثل هذا يكون في مجلسكم
فقام أبي بن خلف أو ابنه فلطم وجه عثمان فقال له قائل لقد كنت في منعة من هذا بالأمس
فقال له ما أحوج عيني هذه الصحيحة إلى أن يصيبها ما أصاب الأخرى في الله
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإشخاص الشعبي إليه فأشخصه فألزمه ولده وأمر بتخريجهم ومذاكرتهم قال فدعاني يوماً في علته التي مات فيها فغص بلقمة وأنا بين يديه فتساند طويلاً ثم قال أصبحت كما قال الشاعر - طويل -
( كأنِّي وقد جاوزْتُ سبعين حجّة ... خلعْتُ بها عنّي عذارَ لجامِ )
( إذا ما رآني الناسُ قالوا ألم يكنْ ... شديدَ مَحال البطشِ غيرَ كَهامِ )
( رمتني بناتُ الدَّهر من حيث لا أرى ... وكيف بمن يُرمَى وليس بِرامِ )
( ولو أنّني أُرْمَى بسهمٍ رأيتُه ... ولكنّني أرمى بغير سهامِ )
فقال الشعبي فقلت إنّا لله استسلم الرجل والله للموت فقلت أصلحك الله ولكن مثلك ما قال لبيد - بسيط -
( باتت تشكَّى إليّ الموتَ مُجْهشَةً ... وقد حَمَلْتُك سبعاً بعد سبعينا )

( فإن تُزادِي ثلاثاً تبلغي أملاَ ... وفي الثّلاث وفاءٌ للثمانينا )
فعاش إلى أن بلغ مائة تسعين سنة فقال - طويل -
( كأنِّي وقد جاوزْتُ تسعين حجة ... خلعْتُ بها عن مَنْكِبيَّ ردائيا )
فعاش إلى أن بلغ مائة وعشر سنين
قال - بسيط -
( أليس في مائةٍ قد عاشها رجلٌ ... وفي تكاملِ عَشْرٍ بعدها عُمُرُ )
فعاش إلى أن بلغ مائة وعشرين سنة فقال - كامل -
( ولقد سَئِمْتُ من الحياة وطولِها ... وسُؤَالِ هذا الناسِ كيفَ لبيدُ )
( غَلَبَ الرجالَ وكان غير مغلَّبٍ ... دَهْرٌ جديدٌ دائمٌ ممدودُ )
( يومٌ أرى يأتي عليه وليلةٌ ... وكلاهما بعدَ المضاءِ يَعودُ )
ففرِح واستبشر وقال ما أرَى بأساً وقد وجدت خفّاً
وأمر لي بأربعة آلاف درهم فقبضتها وخرجت فما بلغت الباب حتى سمعت الواعية عليه
وغنّى في هذه الأبيات التي أوّلها - كامل -
( غَلَب الرجالَ وكان غيرَ مغلَّبٍ ... )
عمر الوادي خفيف رمل مطلق بالوسطى عن عمرو
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا هارون بن مسلم عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال

نظر النابغة الذبياني إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر فسأل عنه فنسب له فقال يا غلام إن عينيك لعينا شاعر أفتقرض من الشعر شيئاً قال نعم يا عم
قال فأنشدني شيئاً مما قلته
فأنشده قوله - وافر -
( ألم تَربَعْ على الدِّمن الخوالي ... )
فقال له يا غلام أنت أشعر بني عامر زدني يا بنيّ
فأنشده
( طَلَلٌ لخولة بالرُّسَيس قديمُ ... ) - كامل -
فضرب بيديه إلى جنبيه وقال اذهب فأنت أشعر من قيسٍ كلها أو قال هوازن كلها
وأخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثنا العمري عن لقيط عن أبيه وحماد الراوية عن عبد الله بن قتادة المحاربي قال كنت مع النابغة بباب النعمان بن المنذر فقال لي النابغة هل رأيت لبيد بن ربيعة فيمن حضر قلت نعم
قال أيهم أشعر قلت الفتى الذي رأيت من حاله كيت وكيت
فقال اجلس بنا حتى يخرج إلينا
قال فجلسنا فلما خرج قال له النابغة إلي يا ابن أخي
فأتاه فقال أنشدني
فأنشده قوله - وافر -
( ألم تُلمِمْ على الدِّمن الخوالي ... لسَلْمَى بالمذَانِب فالقٌفالِ )
فقال له النابغة أنت أشعر بني عامر زدني
فأنشده - كامل -
( طَللٌ لخولةَ بالرُّسَيسِ قديمُ ... فبعاقلٍ فالأنعَمَيْن رُسومُ )

فقال له أنت أشعر هوازن زدني فأنشده قوله - كامل -
( عَفَتِ الدِّيارُ محلُّها فمُقامها ... بمنىً تأبَّدَ غَوْلُها فَرِجامُها )
فقال له النابغة اذهب فأنت أشعر العرب
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد أن لبيداً لما حضرته الوفاة قال لابن أخيه ولم يكن له ولد ذكر يا بني إن أباك لم يمت ولكنه فني
فإذا قبض أبوك فأقبله القبلة وسجه بثوبه ولا تصرخن عليه صارخة وانظر جفنتي اللتين كنت أصنعهما فاصنعهما ثم احملهما إلى المسجد فإذا سلم الإمام فقدمها إليهم فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم
ثم أنشد قوله - مجزوء الكامل -
( وإذا دَفَنْتَ أباك فاجعَلْ ... فوقَه خشباً وطِينا )
( وسَقائفاً صُمّاً رَوَاسِيها ... يُسَدِّدْن الغصونا )
( لِيَقِينَ حُرَّ الوجهِ سفساف ... التُّراب ولن يَقِينا )
قال وهذه الأبيات من قصيدة طويلة
وقد ذكر يونس أنّ لابن سريج لحناً في أبيات من قصيدة لبيد هذه ولم يجنسه
صوت - مجزوء الكامل -
( أبُنيَّ هل أَبْصَرْتَ أعمامي ... بني أمِّ البنينا )

( وأبي الذي كان الأراملُ ... في الشِّتاء له قَطينا )
( وأبا شَرِيكٍ والمُنازِلُ في المضِيق إذا لقينا )
( ما إنْ رأيتُ ولا سمعْتُ ... بمثلهمْ في العالَمينا )
( فبقيتُ بعدَهُمُ وكنتُ ... بطول صُحبتهم ضنَيِنا )
( دَعْني وما مَلَكَتْ يَميني ... إنْ سددْتُ بها الشؤونا )
( وافعلْ بمالِك ما بدا ... لك مُستعاناً أو مُعينا )
قال وقال لابنتيه حين احتُضر وفيه غناء - طويل -
( تمنَّى ابنتايَ أن يعيشَ أبوهما ... وهَلْ أنا إلاّ من ربيعةَ أو مُضَرْ )
( فإنْ حانَ يوماً أن يموت أبوكما ... فلا تَخمِشا وَجْهَا ولا تحلِقَا شَعَرْ )
( وقولا هو المرءُ الذي لا حليفَه ... أضاعَ ولا خانَ الصَّديقَ ولا غَدَرْ )
( إلى الحَوْلِ ثم اسمُ السَّلامِ عليكما ... ومَن يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فقد اعتذر )
في هذه الأبيات هزج خفيف مطلق في مجرى الوسطى
وذكر الهشامي أنه لإسحاق
وذكر أحمد بن يحيى أنه لإبراهيم
قال فكانت ابنتاه تلبسان ثيابهما في كل يوم ثم تأتيان مجلس بني

جعفر بن كلاب فترثيانه ولا تُعولان فأقامتا على ذلك حولاً ثم انصرفتا
صوت - وافر -
( سألناهُ الجزيلَ فما تأبَّى ... فأعطى فوقَ مُنْيتِنا وزادا )
( وأحسَنَ ثمّ أحسَنَ ثم عُدْنا ... فأحسَنَ ثم عُدْت له فعادا )
( مراراً ما دنوْتُ إليه إلاّ ... تبسَّم ضاحكاً وثَنَى الوِسادا )
الشعر لزياد الأعجم والغناء لشارية خفيف رمل بالبنصر مطلق

25 - خبار زياد الأعجم ونسبه
زياد بن سليمان مولى عبد القيس أحد بني عامر بن الحارث ثم أحد بني مالك بن عامر الخارجية
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عن ابن حبيب قال هو زياد بن جابر بن عمرو مولى عبد القيس وكان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه فقيل له الأعجم
وذكر ابن النطاح مثل ذلك في نسبه وخالف في بلده وذكر أن أصله ومولده ومنشأه بأصبهان ثم انتقل إلى خراسان فلم يزل بها حتى مات
وكان شاعراً جزل الشعر فصيح الألفاظ على لكنة لسانه وجريه على لفظ أهل بلده

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثت عن المدائني أن زياداً الأعجم دعا غلاماً له ليرسله في حاجة فأبطأ فلما جاءه قال له منذ لدن دأوتك إلى أن قلت لبي ما كنت تسنأ يريد منذ لدن دعوتك إلى إن قلت لبيك ماذا كنت تصنع
فهذه ألفاظه كما ترى في نهاية القبح واللُّكنة
وهو الذي يقول يرثي المغيرة بن المهلب بقوله - كامل -

صوت
( قُلْ للقَوافل والغَزِيِّ إذا غَزَوْا ... والباكرين وللمُجِدِّ الرائح )
( إنّ المروءةَ والسّماحةَ ضُمِّنا ... قبراً بمَرْوَ على الطَّريق الواضحِ )
( فإذا مررْتَ بقبرِهِ فاعقِرْ بهِ ... كُومَ الهِجانِ وكلَّ طِرْفٍ سابح )
( وانضحْ جوانب قبرِه بدِمائها ... فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح )

( يا مَن بمهوَى الشَّمس من حيٍّ إلى ... ما بين مَطلع قَرْنها المتنازِح )
( ماتَ المغيرةُ بعد طولِ تعرُّضٍ ... للموتِ بين أسنّةٍ وصفائح )
( والقتلُ ليس إلى القتال ولا أرى ... حَيَّاً يؤخَّر للشَّفيق الناصح )
وهي طويلة
وهذا من نادر الكلام ونقي المعاني ومختار القصيد وهي معدودة من مراثي الشعراء في عصر زياد ومقدمها
لابن جامع في الأبيات الأربعة الأول غناء أوله نشيد كله ثم تعود الصنعة إلى الثاني والثالث في طريقة الهزج بالوسطى
وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب أن من الناس من يروي هذه القصيدة للصلتان العبدي
وهذا قول شاذ والصحيح أنها لزياد قد دونها الرواة غير مدفوع عنها
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال رثى زياد الأعجم المغيرة بن المهلب فقال - كامل -
( إنّ الشَّجاعة والسَّماحةَ ضُمِّنا ... قبراً بمَرْوَ على الطَّرِيق الواضحِ )
( فإذا مررْتَ بقبرِهِ فاعقِرْ به ... كُومَ الهجان وكلَّ طِرْفٍ سابحِ )
فقال له يزيد بن المهلب يا أبا أمامة أفعقرت أنت عنده قال كنت على بنت

الهمار
يريد الحمار
أخبرني مالك بن محمد الشيباني قال كنت حاضراً في مجلس أبي العباس فقلت وقد قرئ عليه شعر زياد الأعجم فقرئت عليه قصيدته - كامل -
( قل للقوافِلِ والغزِيّ إذا غَزَوا ... والباكرين وللمجدِّ الرائحِ )
قال فقلت إنّها من مختار الشعر ولقد أنشدت لبعض المحدثين في نحو هذا المعنى أبياتاً حسنة
ثم أنشدنا - خفيف -
( أيُّها الناعيانِ مَنْ تنعيانِ ... وعلى مَنْ أراكما تبكيانِ )
( اندُبا الماجِدَ الكريمَ أبا إسْحاقَ ... ربَّ المعروفِ والإِحسانِ )
( واذهبا بي إنْ لم يكنْ لكما عَقْرٌ ... إلى جَنْب قَبرِه فاعقِراني )
( وانضحَا من دمِي عليه فقد كا ... ن دمي مِن نَداهُ لو تعلمانِ )
أخبرني وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه قال كان المهلب بن أبي صفرة بخراسان فخرج إليه زياد الأعجم فمدحه فأمر له بجائزة فأقام عنده أياماً
قال فإنا لبعشية نشرب مع حبيب بن المهلب في دار له وفيها حمامة إذ سجعت الحمامة فقال زياد - وافر -
( تَغَنَّيْ أنتِ في ذِممِي وعَهدي ... وذمّةِ والدي إنْ لم تُطارِي )
( وبيتُك فاصلِحيهِ ولا تخافي ... على صُفْرٍ مزغَّبة صِغارِ )

( فإنّكِ كلَّما غَنَّيْتِ صوتاً ... ذكرْتُ أحبَّتي وذكرْتُ داري )
( فإما يَقتلوكِ طلبْتُ ثأراً ... له نبأٌ لأنك في جِواري )
فقال حبيب يا غلام هات القوس
فقال له زياد ما تصنع بها قال أرمي جارتك هذه
قال والله لئن رميتها لأستعدين عليك الأمير
فأتى بالقوس فنزع لها سهماً فقتلها فوثب زياد فدخل على المهلب فحدثه الحديث وأنشده الشعر فقال المهلب علي بأبي بسطام فأتي بحبيب فقال له أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار
فقال أطال الله بقاء الأمير إنما كنت ألعب
قال أعطه كما آمرك
فأنشأ زياد يقول - طويل -
( فللّه عينَا مَنْ رأى كَقَضيّةٍ ... قَضَى لي بها قَرْمُ العِراق المهلَّبُ )
( رماها حبيبُ بن المهلَّب رميةً ... فأثبتَها بالسَّهم والسهمُ يغرب )
( فألْزَمَهُ عَقْلَ القَتيل ابنُ حُرّةٍ ... وقال حبيبٌ إنَّما كنت ألعبُ )
( فقال زيادٌ لا يروَّعُ جارُه ... وجارة جاري مثل جِلدي وأقربُ )
قال فحمل حبيب إليه ألف دينار على كره منه فإنه ليشرب مع حبيب يوماً إذ عربد عليه حبيب وقد كان حبيب ضغن عليه مما جرى فأمر بشق قباء ديباج كان عليه فقام فقال - طويل -
( لعمرِك ما الدِّيباجَ خرَّقْت وحدهُ ... ولكنّما خرَّقْت جلْد المهلَّب )
فبعث المهلب إلى حبيب فأحضره وقال له صدق زياد ما خرقت إلا جلدي تبعث هذا على أن يهجوني
ثم بعث إليه فأحضره فاستل سخيمته من صدره وأمر له بمال وصرفه

وقد أخبرني وكيع بهذا الخبر أيضاً
قال أحمد بن الهيثم بن فراس قال العمري عن الهيثم بن عدي قال تهاجى قتادة بن مغرب اليشكري وزياد الأعجم بخراسان وكان زياد يخرج وعليه قباء ديباج تشبها بالأعاجم فمر به يزيد بن المهلب وهو على حاله تلك فأمر به فقنع أسواطاً ومزقت ثيابه وقال له أبأهل الكفر والشرك تتشبه لا أم لك فقال زياد - طويل -
( لعمرِك ما الدِّيباجَ خرَّقْت وحدهُ ... ولكنّما خرَّقْت جلْد المهلَّب )
وذكر باقي الخبر مثله وقال فيه فدعا به المهلب فقال له يا أبا أمامة قلت شيئاً آخر قال لا والله أيها الأمير
قال فلا تقل
وأعتبه وكساه وحمله وأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له اعذر ابن أخيك يا أبا أمامة فإنه لم يعرفك
وهذه الأبيات التي فيها الغناء يقولها زياد الأعجم في عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي
أخبرني بخبره في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أتى زياد الأعجم عمر بن عبيد الله بن معمر بفارس وقدم عليه عراك بن محمد الفقيه من مصر فكان عراك يحدثه بحديث الفقهاء فقال زياد - طويل -
( يحدِّثنا أنَّ القيامةَ قد أتَتْ ... وجاء عِراكٌ يبتغي المالَ من مِصرِ )
( فكم بينَ بابِ النُّوبِ إنْ كنتَ صادقاً ... وإيوان كسرى من فَلاةٍ ومن قصْرِ )

وقال يمدح عمر بن عبيد الله - وافر -
( سألناه الجزيلَ فما تأبَّى ... وأعطى فوقَ مُنْيتِنا وزادا )
وذكر الأبيات الثلاثة
نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا أخبرني محمد بن زياد عن ابن عائشة
وأخبرني هاشم بن محمد قال حدثني عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة وخبر ابن أبي الدنيا أتم
قال كان زياد الأعجم صديقاً لعمر بن عبيد الله بن معمر قبل أن يلي فقال له عمر يا أبا أمامة لو قد وليت لتركتك لا تحتاج إلى أحد أبداً
فلما ولي فارس قصده فلما لقيه أنشأ يقول - طويل -
( أبلغْ أبا حفصٍ رسالةَ ناصح ... أتَتْ من زيادٍ مستبيناً كلامُها )
( فإنّكَ مثلُ الشَّمس لا سِتْرَ دونَها ... فكيف أبا حفص عليَّ ظَلامُها )
فقال له عمر لا يكون عليك ظلامها أبداً
فقال زياد - طويل -
( لقد كنتُ أدعو الله في السّرّ أن أرى ... أمورَ معدٍّ في يديك نظامُها )
فقال له قد رأيتَ ذلك
فقال
( فلما أتاني ما أردْتُ تباشرتْ ... بناتي وقلْنَ العامَ لا شكَّ عامُها )
قال فهو عامهنّ إن شاء الله تعالى
فقال
( فإنّي وأرْضاً أنت فيها ابنَ معمرٍ ... كمكّةَ لم يَطربْ لأرضٍ حَمامها )
قال فهي كذلك يا زياد
فقال
( إذا اخترْت أرضاً للمقامِ رضيتُها ... لنفسي ولم يثقُلْ عليَّ مُقامُها )

( وكنتُ أمنَّي النفسَ منك ابنَ معمر ... أمانيَّ أرجو أن يتمَّ تمامُها )
قال قد أتمَّها الله عليك
فقال
( فلا أكُ كالمُجْرِي إلى رأسِ غايةٍ ... يُرجِّي سَماءً لم يصِبْه غَمامُها )
قال لست كذلك فسل حاجتك
قال نجيبة ورحالتها وفرس رائع وسائسه وبدرة وحاملها وجارية وخادمها وتخت ثياب ووصيف يحمله
فقال قد أمرنا لك بجميع ما سألت وهو لك علينا في كل عام
فخرج من عنده حتى قدم على عبد الله بن الحشرج وهو بسابور فأنزله وألطفه فقال في ذلك - كامل -
( إنَّ السَّماحةَ والمروءةَ والنَّدَى ... في قُبّةٍ ضُرِبت على ابن الحَشْرَجِ )
( مَلِكٌ أغرُّ متوَّجٌ ذو نائلٍ ... للمُعْتَفِين يمينُه لم تَشنجِ )
( يا خَير من صعِد المنابر بالتقى ... بعد النبيِّ المصطفى المتحرِّج )
( لما أتيتُك راجياً لنوالكمْ ... ألفيتُ بابَ نوالكم لم يُرتَجِ )
فأمر له بعشرة آلاف درهم

أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الله بن محمد عن عبيد بن الحسن بن عبد الرحمن بهذا الخبر فقال فيه أتى زياد عبد الله بن عامر بن كريز
والخبر الأول أصح
وزاد في الشعر - وافر -
( أخٌ لك لا تراه الدّهرَ إلاَّ ... على العِلاَّتِ بسّاماً جَوادا )
فقال له عمر أحسنت يا أبا أمامة ولك لكل بيت ألف
قال دعني أتمها مائة
قال أما إنك لو كنت فعلت لفعلت ولكن لك ما رزقت
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا ابن عائشة قال حدثني أبي قال لما خرج ابن الأشعث أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبيد الله ابن معمر ليقدم عليه فلما كان بضمير وهي من الشأم مات بالطاعون فقام عبد الملك على قبره وقال أما والله لقد علمت قريش أن قد فقدت اليوم ناباً من أنيابها
وقال جد خلاد بن أبي عمرو الأعمى وكانوا موالي أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية أهو اليوم ناب لما مات وكان أمس ضرساً كليلة أما والله لوددت أن السماء وقعت على الأرض فلم يعش بينهما أحد بعده وسمعها عبد الملك فتغافل عنها
قال وقال الفرزدق يرثيه - بسيط -
( يا أيُّها الناس لا تَبكُوا على أحدٍ ... بعد الذي بضُمير وافق القدرا )
( كانت يداه لنا سَيْفاً نَصُول به ... على العدُوّ وغيْثاً ينبت الشَّجرا )
( أمّا قريشٌ أبَا حفصٍ فقد رُزئت ... بالشّام إذ فارقتك البأس والظّفرا )
( مَنْ يقتُل الجوعَ من بعد الشهِيدِ ومَنْ ... بالسيف يقتل كَبْش القوم إذ عَكرا )
( إنّ النوائح لم يَعدُدْنَ في عمرٍ ... ما كان فيه إذا المولى به افتخرا )
( إذَا عدَدْنَ فعالاً أو لَهُ حسباً ... ويومَ هيجاءَ يُعْشي بأسُه البصرا )

( كم مِن جَبانٍ إلى الهيجا دنوْتَ له ... يومَ اللِّقاء ولولا أنت ما صَبَرا )
أخبرنا أحمد حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرنا حميد عن سليمان بن قتة قال بعث عمر بن عبيد الله ابن معمر إلى ابن عمر والقاسم بن محمد بألف دينار فأتيت عبد الله بن عمر وهو يغتسل في مستحم له فأخرج يده فصببتها في يده فقال وصلت رحما وقد جاءتنا على حاجة
وأتيت القاسم فأبى أن يقبلها فقالت لي امرأته إن كان القاسم ابن عمه فأنا لابنة عمه
فأعطيتها
قال فكان عمر يبعث بهذه الثياب العمرية يقسمها بين أهل المدينة فقال ابن عمر جزى الله من اقتنى هذه الثياب بالمدينة خيراً
وقال لي عمر لقد بلغني عن صاحبك شيء كرهته
قلت وما ذاك قال يعطي المهاجرين ألفاً ألفاً ويعطي الأنصار سبعمائة سبعمائة
فأخبرته فسوى بينهم
أخبرنا أحمد قال حدثنا أبو زيد قال كانت لرجل جارية يهواها فاحتاج إلى بيعها فابتاعها منه عمر بن عبيد الله بن معمر فلما قبض ثمنها أنشأت تقول - طويل -
( هنيئاً لك المال الذي قد قَبَضْتَهُ ... ولم يَبْقَ في كَفَّيَّ غيرُ التَّحَسُّرِ )
( فإنّي لحُزْنٍ من فِراقكَ مُوْجَعٌ ... أناجِي به قلباً طويلَ التفكّر )
فقال لا ترحلي
ثم قال
( ولولا قُعود الدّهرِ بي عنكِ لم يكن ... يفرقنا شيءٌ سوى الموتِ فاعذرِي )
( عليك سلامٌ لا زيارةَ بيننا ... ولا وَصْلَ إلا أنْ يشاء ابنُ معمرِ )
فقال قد شئت خذ الجارية وثمنها
فأخذَها وانصرف
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن زياد

قال حدثني ابن عائشة قال استبطأ زياد الأعجم عمر بن عبيد الله بن معمر في زيارته إياه فقال - طويل -
( أصابت علينا جُودَكَ العينُ يا عُمرْ ... فنحنُ لها نبغي التمائم والنُّشَرْ )
( أصابتك عينٌ في سماحِك صلبةٌ ... ويا رُبّ عينٍ صُلبةٍ تَفْلِقُ الحَجَرْ )
( سنَرقيكَ بالأشعارِ حتّى تَملَّها ... فإنْ لم تُفِقْ يوماً رقَيْناكَ بالسُّوَر )
فبلغته الأبيات فأرضاه وسرحه
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري قال حدثني من سمع حماداً الراوية يقول امتدح زياد الأعجم عباد بن الحصين الحبطي وكان على شرطة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الذي يقال له القباع وطلب حاجة فلم يقضها فقال زياد - متقارب -
( سألْتُ أبا جَهْضَمٍ حاجةً ... وكنتُ أراه قريباً يسيرا )
( فلو أنني خِفْتُ منه الخِلافَ ... والمنْع لي لم أسلْهُ نقيرا )
( وكيف الرَّجاءُ لِمَا عندَه ... وقد خالط البخلُ منه الضميرا )
( أقِلْني أبا جهضم حاجتي ... فإني امرؤٌ كان ظَنِّي غُرُورا )
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال مرّ يزيد بن حبناء الضبي بزياد الأعجم وهو ينشد شعراً قد هجا به قتادة بن مغرب فأفحش فيه فقال له يزيد بن حبناء ألم يأن لك أن ترعوي وتترك تمزيق أعراض قومك ويحك حتى متى تتمادى في الضلال

كأنك بالموت قد صبحك أو مساك فقال زياد فيه - طويل -
( يحذّرني الموتَ ابنُ حبناءَ والفتى ... إلى الموت يَغدو جاهداً ويَرُوحُ )
( وكلُّ امرىءٍ لا بدّ للموتِ صائرٌ ... وإن عاشَ دهراً في البلاد يسيح )
( فقلْ ليزيدٍ يا ابنَ حَبْناء لا تَعِظْ ... أخاكَ وَعِظْ نَفْساً فأنت جَنوحُ )
( تركْتَ التُّقى والدينُ دينُ محمّدٍ ... لأهلي التُّقى والمسلمين يلوحُ )
( وتابَعْتَ مُرَّاقَ العراقَيْنِ سادراً ... وأنتَ غليظ القُصْرَيَيْنِ صحيح )
فقال له يزيد بن عاصم الشني قبحك الله أتهجو رجلاً وعظك وأمرك بمعروف بمثل هذا الهجاء هلا كففت إذ لم تقبل أراه والله سيأتي على نفسك ثم لا تحبق فيك عنزان اذهب ويحك فأته واعتذر إليه لعله يقبل عذرك
فمشى إليه بجماعة من عبد القيس فشفعوا إليه فيه فقال لا تثريب لست واجداً عليه بعد يومي هذا
أخبرني أحمد بن علي قال سمعت جدي علي بن يحيى يحدث عن أبي الحسن عن رجل من جعفي قال كنت جالساً عند المهلب إذ أقبل رجل طويل مضطرب فلما رآه المهلب قال اللهم إني أعوذ بك من شره فجاء فقال أصلح الله الأمير إني قد مدحتك ببيت صفده مائة ألف درهم
فسكت المهلب فأعاد القول فقال له أنشده
فأنشده - طويل -
( فتىً زادَهُ السُّلطانُ في الخير رغبة ... إذا غيَّرَ السُّلطانُ كلَّ خليلِ )

فقال له المهلب يا أبا أمامة مائة ألف فوالله ما هي عندنا ولكن ثلاثون ألفاً فيها عروض
وأمر له بها فإذا هو زياد الأعجم
أخبرني عمي قال حدثني الكراني وأبو العيناء عن القحذمي قال لقي الفرزدق زياداً الأعجم فقال له الفرزدق لقد هممت أن أهجو عبد القيس وأصف من فسوهم شيئاً
قال له زياد كما أنت حتى أسمعك شيئاً
ثم قال قل إن شئت أو أمسك
قال هات
قال - طويل -
( وما تَرَكَ الهاجون لي إن هجوْتُه ... مَصَحّاً أراه في أديمِ الفرزدقِ )
( فإنّا وما تُهدِي لنا إنْ هجوْتَنَا ... لكالبحر مَهما يُلْقَ في البحر يَغرقِ )
فقال له الفرزدق حسبك هلم نتتارك
قال ذاك إليك
وما عاوده بشيء
وأخبرني بهذا الخبر محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا العتبى عن العباس بن هشام عن أبيه قال حدثني خراش وكان عالماً راوية لأبي ولمؤرج ولجابر بن كلثوم قال أقبل الفرزدق وزياد ينشد الناس في المربد وقد اجتمعوا حوله فقال من هذا قيل الأعجم
فأقبل نحوه فقيل له هذا الفرزدق قد أقبل عليك
فقام فتلقاه وحيّا كل واحد منهما صاحبه فقال له الفرزدق ما زالت تنازعني نفسي إلى هجاء عبد القيس منذ دهر
قال زياد وما

يدعوك إلى ذلك قال لأني رأيت الأشقري هجاكم فلم يصنع شيئاً وأنا أشعر منه وقد عرفت الذي هيج بينك وبينه
قال وما هو قال إنكم اجتمعتم في قبة عبد الله بن الحشرج بخراسان فقلت له قد قلت شيئاً فمن قال مثله فهو أشعر مني ومن لم يقل مثله ومد إلي عنقه فإني أشعر منه فقال لك وما قلت فقلت قلت - طويل -
( وقافيةٍ حَذّاءَ بتُّ أحُوكُها ... إذا ما سُهيْلٌ في السّماء تَلاَلا )
فقال لك الأشقري - طويل -
( وأقلف صلَّى بعد ما ناك أمَّه ... يرى ذاك في دِين المجوسِ حَلالا )
فأقبلت على من حضر فقلت يا لأم كعب أخزاها الله تعالى ما أنمها حين تخبر ابنها بقلفتي فضحك الناس وغلبت عليه في المجلس
فقال له زياد يا أبا فراس هب لي نفسك ساعة ولا تعجل حتى يأتيك رسولي بهديتي ثم ترى رأيك
وظن الفرزدق أنه سيهدي إليه شيئاً يستكفه به فكتب إليه - طويل -
( وما ترَك الهاجُون لي إن أردْتُه ... مَصَحّاً أراهُ في أديم الفرزدقِ )
( وما تركوا لحماً يدقّون عَظْمَه ... لآكِلِه ألقَوْه للمتعرِّق )
( سأحطِمُ ما أبقَوْا له من عِظامه ... فأنكتُ عظمَ الساق منه وأنتقِي )

( فإنّا وما تُهدِي لنا إنْ هجوْتَنَا ... لكالبحر مَهما يُلْقَ في البحر يَغرقِ )
فبعث إليه الفرزدق لا أهجو قوماً أنت منهم أبداً
قال أبو المنذر زياد أهجى من كعب الأشقري وقد أوثر عليه في عدة قصائد
منها التي يقول فيها - متقارب -
( قُبَيِّلةٌ خيرُها شرُّها ... وأصدقُها الكاذب الآثمُ )
( وضَيفُهُمُ وَسْطَ أبياتهمْ ... وإن لم يكن صائماً صائمُ )
وفيه يقول - طويل -
( إذا عذَّبَ اللهُ الرجالَ بِشِعرهِمْ ... أمِنْتُ لكعبٍ أنْ يُعذَّبَ بالشعرِ )
وفيه يقول - وافر -
( أتتْكَ الأزدُ مصفَرّاً لِحَاها ... تَساقَطُ من مناخرها الجُوَافُ )
أخبرني وكيع قال حدثني أحمد بن عمر بن بكير قال حدثنا الهيثم عن ابن عياش قال دخل أبو قلابة الجرمي مسجد البصرة وإذا زياد الأعجم فقال زياد من هذا قال أبو قلابة الجرمي فقام على رأسه فقال - طويل -
( قمْ صاغراً يا كهلَ جَرْمٍ فإنّما ... يقال لكَهل الصِّدق قُمْ غيرَ صاغِرِ )

( فإنّك شَيخ مَيِّتٌ ومورِّثٌ ... قضاعةَ ميراثَ البَسوسِ وقاشِر )
( قضى الله خَلْقَ النّاسِ ثم خُلِقْتُمُ ... بقيّةَ خَلْق اللهِ آخِرَ آخرِ )
( فلم تسمعوا إلاّ بما كان قبلَكُمْ ... ولم تُدرِكوا إلاّ بِدَقِّ الحوافرِ )
( فلو ردّ أهلُ الحق مَن مات منكُمُ ... إلى حقَّه لم تُدفَنوا في المقابر )
فقيل له فأين كانوا يدفنون يا أبا أمامة قال في النواويس

أخبار شارية
قال أبو الفرج علي بن الحسين
كانت شارية مولدة من مولدات البصرة يقال إن أباها كان رجلا من بني سامة بن لؤي المعروفين ببني ناجية وأنه جحدها وكانت أمها أمة فدخلت في الرق وقيل بل سرقت فبيعت فاشترتها امرأة من بني هاشم فأدبتها وعلمتها الغناء ثم اشتراها إبراهيم بن المهدي فأخذت غناءها كله أو أكثره عنه وبذلك يحتج من يقدمها على عريب ويقول إن

إبراهيم خرجها وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه وبمعرفة ما يأخذها به ولم تكن هذه حال عريب لأن المراكبي لم يكن يقارب إبراهيم في العلم ولا يقاس به في بعضه فضلا عن سائره
أخبرني بخبرها محمد بن إبراهيم قريض
أن ابن المعتز دفع إليه كتابه الذي ألفه في أخبارها وقال له أن يرويه عنه فنسخت منه ما كان يصلح لهذا الكتاب على شرطي فيه وأضفت إليه ما وجدته من أخبارها عن غيره في الكتب وسمعته أنا عمن رويته عنه
قال ابن المعتز حدثني عيسى بن هارون المنصوري
أن شارية كانت لامرأة من الهاشميات بصرية من ولد جعفر بن سليمان فحملتها لتبيعها ببغداد فعرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأعطى بها ثلثمائة دينار ثم استغلاها بذلك ولم يردها فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي فعرضت عليه فساوم بها فقالت له مولاتها قد بذلتها لإسحاق بن إبراهيم بثلثمائة دينار وأنت أيها الأمير أعزك الله بها أحق فقال زنوا لها ما قالت فوزن لها ثم دعا بقيمته فقال خذي هذه الجارية ولا ترينيها سنة وقولي للجواري يطرحن عليها فلما كان بعد سنة أخرجت إليه فنظر إليها وسمعها فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي فدعاه وأراه إياها وأسمعه غناءها وقال هذه جارية تباع فبكم تأخذها

لنفسك قال إسحاق آخذها بثلاثة آلاف دينار وهي رخيصة بها قال له إبراهيم أتعرفها قال لا قال هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلثمائة دينار فلم تقبل فبقي إسحاق متحيرا يعجب من حالها وما انقلبت إليه
وقال ابن المعتز حدثني الهشامي عن محمد بن راشد أن شارية كانت مولدة البصرة وكانت لها أم خبيثة منكرة تدعي أنها بنت محمد بن زيد من بني سامة بن لؤي
قال ابن المعتز وحدثني غيره أنها كانت تدعي أنها من بني زهرة
قال الهشامي فجيء بها إلى بغداد وعرضت على إبراهيم بن المهدي فأعجب بها إعجابا شديدا فلم يزل يعطي بها حتى بلغت ثمانية آلاف درهم فقال لي هبة الله بن إبراهيم بن المهدي إنه لم يكن عند أبي درهم ولا دانق فقال لي ويحك قد أعجبتني والله هذه الجارية إعجابا شديدا وليس عندنا شيء فقلت له نبيع ما نملكه حتى الخزف ونجمع ثمنها فقال لي قد فكرت في شيء اذهب إلى علي بن هشام فأقرئه مني السلام وقل له جعلني الله فداءك قد عرضت علي جارية قد أخذت بمجامع قلبي وليس عندي ثمنها فأحب أن تقرضني عشرة آلاف درهم فقلت له إن ثمنها ثمانية آلاف درهم فلم تكثر على الرجل بعشرة آلاف

درهم فقال إذا اشتريناها بثمانية آلاف درهم لا بد أن نكسوها ونقيم لها ما تحتاج إليه
فصرت إلى علي بن هشام فأبلغته الرسالة فدعا بوكيل له وقال له ادفع إلى خادمه عشرين ألفا وقل له أنا لا أصلك ولكن هي لك حلال في الدنيا والآخرة قال فصرت إلى أبي بالدراهم فلو طلعت عليه بالخلافة لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم
وكانت أمها خبيثة فكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهي ذهبت إلى عبد الوهاب بن علي ودفعت إليه رقعة يرفعها إلى المعتصم تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم
قال ابن المعتز وأخبرني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب قال ذكر يوسف بن إبراهيم المصري صاحب إبراهيم بن المهدي
أن إبراهيم وجه به إلى عبد الوهاب بن علي في حاجة كانت له قال فلقيته وانصرفت من عنده فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى استقبلتني امرأة فلما نظرت في وجهي سترت وجهها فأخبرني شاكري أن المرأة هي أم شارية جارية إبراهيم فبادرت إلى إبراهيم وقلت له أدرك فإني رأيت أم شارية في دار عبد الوهاب وهي من تعلم وما يفجؤك

إلا حيلة قد أوقعتها فقال لي في جواب ذلك أشهدك أن جاريتي شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي ثم أشهد ابنة هبة الله على مثل ذلك وأمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد وإحضار من قدرت عليه من الشهود المعدلين عنده فأحضرته أكثر من عشرين شاهدا وأمر بإخراج شارية فخرجت فقال لها أسفري فجزعت من ذلك فأعلمها أنه إنما أمرها بذلك لخير يريده بها ففعلت فقال لها تسمي فقالت أنا شارية أمتك فقال لهم تأملوا وجهها ففعلوا ثم قال فإني أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى وأني قد تزوجتها وأصدقتها عشرة آلاف درهم يا شارية مولاة إبراهيم بن المهدي أرضيت قالت نعم يا سيدي قد رضيت والحمد لله على ما أنعم به علي فأمرها بالدخول وأطعم الشهود وطيبهم وانصرفوا
فما أحسبهم بلغوا دار ابن أبي دواد حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علي فأقرأ عمه سلام المعتصم ثم قال له يقول لك يا أمير المؤمنين من المفترض علي طاعتك وصيانتك عن كل ما يعرك إذ كنت عمي وصنو أبي وقد رفعت إلي امرأة من قريش قصة ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة وأنها أم شارية واحتجت بأنه لا تكون بنت امرأة من قريش أمة

فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية بنتها وأنها من بني زهرة فمن المحال أن تكون شارية أمة والآشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك وسترها عند من تثق به من أهلك حتى نكشف ما قالت هذه المرأة فإن ثبت ما قالته أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها وكان في ذلك الحظ لك في دينك ومروءتك وإن لم يصح ذلك أعيدت الجارية إلى منزلك وقد زال عنك القول الذي لا يليق بك ولا يحسن فقال له إبراهيم فديتك يا أبا إبراهيم هب شارية بنت زهرة بن كلاب أتنكر على ابن عباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها فقال عبد الوهاب لا فقال إبراهيم فأبلغ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه السلامة وأخبره أن شارية حرة وأني قد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول
وقد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم صاروا إلى ابن أبي دواد فشم منهم من رائحة الطيب ما أنكره فسألهم عنه فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية وتزوج إبراهيم إياها فركب إلى المعتصم فحدثه بالحديث معجبا له منه فقال ضل سعي عبد الوهاب ودخل عبد الوهاب على المعتصم فلما رآه يمشي في صحن الدار سد المعتصم أنف نفسه وقال يا عبد الوهاب أنا أشم رائحة صوف محرق وأحسب أن عمي لم يقنعه ردك إلا وعلى أذنك صوفة حتى أحرقها فشممت رائحتها منك فقال الأمر على ما ظن أمير المؤمنين وأقبح
ولما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم ابتاع إبراهيم من بنته ميمونة شارية بعشرة آلاف درهم وستر ذلك عنها فكان عتقه إياها وهي في ملك غيره ثم ابتاعها من ميمونة فحل له فرجها فكان يطؤها على أنها أمته وهي تتوهم أنه يطؤها على أنها حرة فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد بنت خالد زوجته في الثمن فأظهرت خبرها وسئلت ميمونة وهبة الله عن الخبر فأخبرا به المعتصم فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة فابتيعت بخمسة آلاف

وخمسمائة دينار فحولت إلى داره فكانت في ملكه حتى توفي
قال ابن المعتز وقد قيل إن المعتصم ابتاعها بثلثمائة ألف درهم
قال وكان منصور بن محمد بن واضح يزعم أن إبراهيم اقترض ثمن شارية من ابنته وملكها إبراهيم ولها سبع سنين فرباها تربية الولد حتى لقد ذكرت أنها كانت في حجره جالسة وقد أعجب بصوت أخذته منه إذ طمثت أول طمثها فأحس بذلك فدعا قيمة له فأمرها بأن تأتيه بثوب خام فلفه عليها فقال احمليها فقد اقشعرت وأحسب برد الحش قد آذاها
قال وحدثت شارية أنها كانت معه في حراقة قد توسط بها دجلة في ليلة مقمرة وهي تغني إذ اندفعت فغنت
( لقد حثوا الجِمال ليهربوا ... منا فلم يَئِلوا )
فقام إليها فأمسك فاها وقال أنت والله أحسن من الغريض وجها وغناء فما يؤمنني عليك أمسكي
قال وحدث حمدون بن إسماعيل أنه دخل على إبراهيم يوما فقال له أتحب أن أسمعك شيئا لم تسمعه قط قال نعم فقال هاتوا شارية فخرجت فأمرها أن تغني لحن إسحاق
( هل بالديار التي حَيَّيْتَها أحد ... )

قال حمدون فغنتني شيئا لم أسمع مثله قط فقلت لا والله يا سيدي ما سمعت هكذا فقال أتحب أن تسمعه أحسن من هذا فقلت لا يكون فقال بلى والله تقر بذاك فقلت على اسم الله فغناه هو فرأيت فضلا عجيبا فقلت ما ظننت أن هذا يفضل ذاك هذا الفضل قال أفتحب أن تسمعه أحسن من هذا وذاك فقلت هذا الذي لا يكون فقال بلى والله فقلت فهات قال بحياتي يا شارية قوليه وأحيلي حلقك فيه فسمعت والله فضلا بينا فأكثرت التعجب فقال لي يا أبا جعفر ما أهون هذا على السامع تدري بالله كم مرة رددت عليها موضعا في هذا الصوت قلت لا قال فقل وأكثر قلت مائة مرة قال اصعد ما بدا لك قلت ثلثمائة قال أكثر والله من ألف مرة حتى قالته كذا
قال وكانت ريق تقول إن شارية كانت إذا اضطربت في صوت فغاية ما عنده من عقوبتها أنه يقيمها تغنيه على رجليها فإن لم تبلغ الذي يريد ضربت ريق
قال ويقال إن شارية لم تضرب بالعود إلا في أيام المتوكل لما اتصل الشر بينها وبين عريب فصارت تقعد بها عند الضرب فضربت هي بعد ذلك

إبراهيم يمتنع من بيعها
قال ابن المعتز وحدث محمد بن سهل بن عبد الكريم المعروف بسهل الأحول وكان قاضي الكتاب في زمانه وكان يكتب لإبراهيم وكان شيخا ثقة قال أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار فامتنع من بيعها فعاتبته على ذلك فلم يجبني بشيء ثم دعاني بعد أيام فدخلت وبين يديه مائدة لطيفة فأحضره الغلام سفودا فيه ثلاث فراريج فرمى إلي بواحدة فأكلتها وأكل اثنتين ثم شرب رطلا وسقانيه ثم أتي بسفود آخر ففعل كما فعل وشرب كما شرب وسقاني ثم ضرب سترا كان إلى جانبه فسمعت حركة العيدان ثم قال يا شارية تغني فسمعت شيئا ذهب بعقلي فقال يا سهل هذه التي عاتبتني في أن أبيعها بسبعين ألف دينار لا والله ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار
قال وكانت شارية تقول إن أباها من قريش وإنها سرقت صغيرة فبيعت بالبصرة من امرأة هاشمية وباعتها من إبراهيم بن المهدي والله أعلم
أخبرني عمي قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال أمرني المعتز ذات يوم بالمقام عنده فأقمت فأمر فمدت الستارة وخرج

من كان يغني وراءها وفيهن شارية ولم أكن سمعتها قبل ذلك فاستحسنت ما سمعت منها فقال لي أمير المؤمنين المعتز يا عبيد الله كيف ما تسمع منها عندك فقلت حظ العجب من هذا الغناء أكثر من حظ الطرب فاستحسن ذلك وأخبرها به فاستحسنته
قال ابن المعتز وأخبرني الهشامي قال قالت لي ريق كنت ألعب أنا وشارية بالنرد بين يدي إبراهيم وهو متكىء على مخدة ينظر إلينا فجرى بيني وبين شارية مشاجرة في اللعب فأغلظت لها في الكلام بعض الغلظة فاستوى إبراهيم جالسا وقال أراك تستخفين بها فوالله لا أحد يخلفك غيرها وأومأ إلى حلقه بيده
قال وحدثني الهشامي قال حدثني عمرو بن بانة قال حضرت يوما مجلس المعتصم وضربت الستارة وخرجت الجواري وكنت إلى جانب مخارق فغنت شارية فأحسنت جدا فقلت لمخارق هذه الجارية في حسن الغناء على ما تسمع ووجهها وجه حسن فكيف لم

يتحرم بها إبراهيم بن المهدي فقال لي أحد الحظوظ التي رفعت لهذا الخليفة منع إبراهيم بن المهدي من ذلك
قال عبد الله بن المعتز وحدثني أبو محمد الحسن بن يحيى أخو علي بن يحيى عن ريق قالت
استزار المعتصم من إبراهيم بن المهدي جواريه وكان في جفوة من السلطان تلك الأيام فنالته ضيقة قالت فتحمل ذهابنا إليه على ضعف فحضرنا مجلس المعتصم ونحن في سراويلات مرقعة فجعلنا نرى جواري المعتصم وما عليهن من الجوهر والثياب الفاخرة فلم تستجمع إلينا أنفسنا حتى غنوا وغنينا فطرب المعتصم على غنائنا ورآنا أمثل من جواريه فتحولت إلينا أنفسنا في التيه والصلف وأمر لنا المعتصم بمائة ألف درهم

غناؤها وكرمها
قال وحدثني أبو العبيس عن أبيه قال كانت شارية أحسن الناس غناء منذ توفي المعتصم إلى آخر خلافة الواثق

قال أبو العبيس وحدثتني ريق أن المعتصم افتضها وأنها كانت معها في تلك الليلة
قال أبو العبيس وحدثتني طباع جارية الواثق أن الواثق كان يسميها ستي وكانت تعلم فريدة فلم تبق في تعليمها غاية إلى أن وقع بينهما شيء بحضرة الواثق فحلفت أنها لا تنصحها ولا تنصح أحدا بعدها فلم تكن تطرح بعد ذلك صوتا إلا نقصت من نغمه وكان المعتمد قد تعشق شرة جاريتها وكانت أكمل الناس ملاحة وخفة روح وعجز عن شرائها فسأل أم المعتز أن تشتريها له فاشترتها من شارية بعشرة آلاف دينار وأهدتها إليه ثم تزوجت بعد وفاة المعتمد بابن البقال المغني وكان يتعشقها فقال عبد الله بن المعتز وكان يتعشقها
( أقول وقد ضاقت بأحزانها نفسِي ... ألا رب تطليقٍ قريب من العُرسِ )
( لئن صِرتِ للبقال يا شر زوجة ... فلا عجب قد يربُض الكلب في الشمس )
وقال يعقوب بن بنان كانت شارية خاصة بصالح بن وصيف فلما بلغه رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده بسبب قتله المعتز أودع شارية جوهره فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك فلما أوقع موسى بصالح استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبري وكان أنظف خلق الله طعاما وأسراه مائدة وأوسخه كل شيء بعد ذلك وكان له بسر من رأى منزل فيه بستان

كبير وكانت شارية تسميه أبي وتزوره إلى منزله فتحتمل معها كل شيء تحتاج إليه حتى الحصير الذي تقعد عليه
قال وكانت شارية من أكرم الناس عاشرها أبو الحسن علي بن الحسين عند هارون هذا ثم أضاق في وقت فاقترض منها على غير رهن عشرة آلاف دينار ومكثت عليه أكثر من سنة ما أذكرته بها ولا طالبته حتى ردها ابتداء
قال يعقوب بن بنان وكان أهل سر من رأى متحازبين فقوم مع شارية وقوم مع عريب لا يدخل أصحاب هذه مع هؤلاء ولا أصحاب هذه في هؤلاء فكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل عريبيا فدعا علي بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر إسماعيل بن بلبل وعنده عريب وجواريها فاتصل الخبر بشارية فبعثت بجواريها إلى علي بن الحسين بعد يوم أو يومين وأمرت إحداهن وما أدري من هي مهرجان أو مطرب أو قمرية إلا أنها إحدى الثلاثة أن تغني قوله
( لا تعودنّ بعدها ... فترى كيف أصنع )
فلما سمع علي الغناء ضحك وقال لست أعود
قال وكان المعتمد قد وثق بشارية فلم يكن يأكل إلا طعامها فمكثت دهرا من الدهور تعد له في كل يوم جونتين وكان طعامه منهما في أيام المتوكل
قال ابن المعتز وحدثني أحمد بن نعيم عن ريق قالت كان مولاي إبراهيم يسمي شارية بنتي ويسميني أختي

حدثني جحظة قال كنت عند المعتمد يوما فغنته شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدي ولحنه
( يا طول عِلةِ قلبيَ المعتادِ ... إلفَ الكرامِ وصحبةَ الأمجادِ )
فقال لها أحسنت والله فقالت هذا غنائي وأنا عارية فكيف لو كنت كاسية فأمر لها بألف ثوب من جميع أنواع الثياب الخاصية فحمل ذلك إليها فقال لي علي بن يحيى المنجم اجعل انصرافك معي ففعلت فقال لي هل بلغك أن خليفة أمر لمغنية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية قلت لا فأمر بإخراج سير الخلفاء فأقبل بها الغلمان يحملونها في دفاتر عظام فتصفحناها كلها فما وجدنا أحدا قبله فعل ذلك

نسبة هذا الصوت
صوت
( يا طول عِلةِ قلبيَ المعتادِ ... إلفَ الكرامِ وصحبةَ الأمجاد )
( ما زلت آلف كل قَرْم ماجدٍ ... متقدِّم الآباء والأجداد )

الشعر لإبراهيم بن المهدي والغناء لعلويه - خفيف رمل - لشارية بالبنصر ولم يقع إلينا فيه طريقة غير هذه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني محمد بن مالك الخزاعي قال حدثتني ملح العطارة وكانت من أحسن الناس غناء وإنما سميت العطارة لكثرة استعمالها العطر المطيب قالت غنت شارية يوما بين يدي المتوكل وأنا واقفة مع الجواري
( بالله قولوا لي لمن ذا الرَّشا ... المثقلُ الردِف الهضيمُ الحشا )
( أظرف ما كان إذا ما صحا ... وأملح الناس إذا ما انتشى )
( وقد بنى برج حمام له ... أرسل فيه طائراً مُرعَشا )
( يا ليتني كنت حَماماً له ... أو باشَقاً يفعل بي ما يشا )
( لو لبس القُوهيّ من رقةٍ ... أوجعه القُوهيّ أو خدَّشا )
وهو - هزج - فطرب المتوكل وقال لشارية لمن هذا الغناء فقالت أخذته من دار المأمون ولا أدري لمن هو فقلت له أنا أعلم

لمن هو فقال لمن هو يا ملح فقلت أقوله لك سرا قال أنا في دار النساء وليس يحضرني إلا حرمي فقوليه فقلت الشعر والغناء جميعا لخديجة بنت المأمون قالته في خادم لأبيها كانت تهواه وغنت فيه هذا اللحن فأطرق طويلا ثم قال لا يسمع هذا منك أحد
صوت
( أحبك يا سَلْمى على غير ريبة ... وما خير حب لا تعف سرائرهْ )
( أحبك حباً لا أعنِّف بعده ... محباً ولكني إذا ليم عاذرهْ )
( وقد مات حُبِّي أول الحب فانقضى ... ولو مت أضحى الحب قد مات آخرهْ )
( ولما تناهى الحب في القلب وارداً ... أقام وسدّت فيه عنه مصادرهْ )
الشعر للحسين بن مطير الأسدي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر

أخبار الحسين بن مطير ونسبه
هو الحسين بن مطير بن مكمل مولى لبني أسد بن خزيمة ثم لبني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد وكان جده مكمل عبدا فأعتقه مولاه وقيل بل كاتبه فسعى في مكاتبته حتى أداها وأعتق وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية شاعر متقدم في القصيد والرجز فصيح قد مدح بني أمية وبني العباس
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن داود بن الجراح عن محمد بن الحسن بن الحرون أنه كان من ساكني زبالة وكان زيه وكلامه يشبه مذاهب الأعراب وأهل البادية وذلك بين في شعره
ومما يدل على إدراكه دولة بني أمية ومدحه إياهم ما أخبرنا به يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال أخبرني أبي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن مروان بن أبي حفصة قال دخلت أنا وطريح بن

الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في عدة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو في فرش قد غاب فيها وإذا رجل كلما أنشد شاعر شعرا وقف الوليد على بيت بيت منه وقال هذا أخذه من موضع كذا وكذا وهذا المعنى نقله من شعر فلان حتى أتى على أكثر الشعراء فقلت من هذا قالوا هذا حماد الراوية فلما وقفت بين يدي الوليد لأنشده قلت ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين وهو لحانة فتهانف الشيخ ثم قال يا بن أخي أنا رجل أكلم العامة وأتكلم بكلامها فهل تروي من أشعار العرب شيئا فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل فقلت نعم لابن مقبل فأنشدته
( سل الدار من جنبي جِبِرٍّ فواهبٍ ... الى ما رأى هضبَ القليب المُضَيحُ )

ثم جزت فقال قف ماذا يقول فلم أدر ما يقول فقال يا بن أخي أنا أعلم الناس بكلام العرب يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا

وفوده على معن بن زائدة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار والحسن بن علي ويحيى بن علي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي قال حدثني أبي
أن الحسين بن مطير وفد على معن بن زائدة لما ولي اليمن وقد مدحه فلما دخل عليه أنشده
( أتيتك إذ لم يبق غيرَك جابر ... ولا واهب يعطِي اللُّها والرغائبا )
فقال له معن يا أخا بني أسد ليس هذا بمدح إنما المدح قول نهار بن توسعة أخي بني تيم الله بن ثعلبة في مسمع بن مالك

( قلدّته عُرا الأمورِ نِزار ... قبل أن تهلِك السراة البحور )
قال وأول هذا الشعر
( اظعني من هراة قد مر فيها ... حِجج مذ سكنتِها وشهور )
( اظعني نحو مِسمع تجديهِ ... نعم ذو المُنثَنى ونعم المَزور )
( سوف يكفيك إن نبتْ بك أرض ... بخراسان أو جفاك أمير )
( من بني الحِصن عاملِ بن بريح ... لا قليلُ الندى ولا منزور )
( والذي يفزع الكماة إليه ... حين تدمى من الطعان النحور )
( فاصطنع يا بن مالك آل بكرٍ ... واجبرِ العظم إنه مكسور )
فغدا إليه بأرجوزته التي مدحه بها وأولها
( حديث ريا حَبّذا إدلالُها ... )
( تسأل عن حالي وما سؤالها ... )
( عن امرىء قد شفَّه خيالها ... )
( وهي شفاء النفس لو تنالها ... )
يقول فيها يمدحه
( سلَّ سيوفاً محدثاً صِقالُها ... )
( صاب على أعدائه وبالها ... )
( وعند معن ذي الندى أمثالها ... )

فاستحسنها وأجزل صلته
أخبرني ابن عمار ويحيى بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو المثنى أحمد ابن يعقوب ابن أخت أبي بكر الأصم قال
كنا في مجلس الأصمعي فأنشده رجل لدعبل بن علي
( أين الشبابُ وأيةً سلكا ... )
فاستحسنا قوله
( لا تعجبي يا سَلْمُ من رجلٍ ... ضحِك المشيب برأسِه فبكى )
فقال الأصمعي هذا أخذه من قول الحسين بن مطير
( أين أهل القِباب بالدهناءِ ... أين جِيراننا على الأحساءِ )
( فارقونا والأرض مُلبَسة نور ... الأقاحِي يُجَاد بالأنواء )
( كلَّ يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء )
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني محمد بن القاسم الدينوري قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال

أبياته تسهر المهدي
قال المهدي للمفضل الضبي أسهرتني البارحة أبيات الحسين بن مطير الأسدي قال وما هي يا أمير المؤمنين قال قوله
( وقد تغدر الدنيا فيضحِي فقيرها ... غنياً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرُها )
( فلا تقرب الأمر الحرام فإنه ... حلاوته تفنى ويبقى مَريرها )
( وكم قد رأينا من تغير عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها )
فقال له المفضل مثل هذا فليسهرك يا أمير المؤمنين
وقد أخبرني بهذا الخبر عمي رحمه الله أتم من هذا قال نسخت من كتاب المفضل بن سلمة قال أبو عكرمة الضبي قال المفضل الضبي
كنت يوما جالسا على بابي وأنا محتاج إلى درهم وعلي عشرة آلاف درهم إذ جاءني رسول المهدي فقال أجب أمير المؤمنين فقلت ما بعث إلي في هذا الوقت إلا لسعاية ساع وتخوفته لخروجي كان مع إبراهيم بن

عبد الله بن حسن فدخلت منزلي فتطهرت ولبست ثوبين نظيفين وصرت إليه فلما مثلت بين يديه سلمت فرد علي وأمرني بالجلوس فلما سكن جأشي قال لي يا مفضل أي بيت قالته العرب أفخر فتشككت ساعة ثم قلت بيت الخنساء وكان مستلقيا فاستوى جالسا ثم قال وأي بيت هو قلت قولها
( وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداة به ... كأنه عَلَم في رأسهِ نارُ )
فأومأ إلى إسحاق بن بزيع ثم قال قد قلت له ذلك فأباه فقلت الصواب ما قاله أمير المؤمنين ثم قال حدثني يا مفضل قلت أي الحديث أعجب إلى أمير المؤمنين قال حديث النساء فحدثته حتى انتصف النهار ثم قال لي
يا مفضل أسهرني البارحة بيتا ابن مطير وأنشد البيتين المذكورين في الخبر الأول ثم قال ألهذين ثالث يا مفضل قلت نعم يا أمير المؤمنين فقال وما هو فأنشدته قوله
( وكم قد رأينا من تغير عِيشةٍ ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها )
وكان المهدي رقيقا فاستعبر ثم قال يا مفضل كيف حالك قلت كيف يكون حال من هو مأخوذ بعشرة آلاف درهم فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال اقض دينك وأصلح شأنك فقبضتها وانصرفت

مدحه المهدي
أخبرني يحيى بن علي عن علي بن يحيى إجازة وحدثنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم عن عبد الله بن أبي سعد قال حدثني إسحاق بن عيسى بن موسى بن مجمع أحد بني سوار بن الحارث الأسدي قال أخبرني جدي موسى بن مجمع قال
قال الحسين بن مطير في المهدي قصيدته التي يقول فيها
( إليك أمير المؤمنين تعسفتْ ... بنا البيدَ هَوجاءُ النَّجاء خَبوب )
( ولو لم يكن قدامها ما تقاذفت ... جبال بها مغبرة وسُهوب )
( فتى هو من غير التخلق ماجد ... ومن غير تأديب الرجال أديب )
( علا خَلْقُه خَلق الرجال وخُلْقه ... إذا ضاق أخلاق الرجال رحيب )
( إذا شاهد القوّاد سار أمامهم ... جريء على ما يتقون وَثوب )
( وإن غاب عنهم شاهدتهم مهابة ... بها يقهر الأعداء حين يغيب )
( يعف ويستحيي إذا كان خالياً ... كما عف واستحيا بحيث رقيب )
فلما أنشدها المهدي أمر له بسبعين ألف درهم وحصان جواد
وكان الحسين من الثعلبية وتلك داره بها قال ابن أبي سعد وأرانيها الشيخ

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن إسحاق بن عيسى قال
دخل الحسين بن مطير على المهدي فأنشده قوله
( لو يعبد الناس يا مهدي أفضلهم ... ما كان في الناس إلا أنت معبود )
( أضحت يمينك مِن جودٍ مصوّرة ... لا بل يمينك منها صُوِّر الجود )
( لو أن من نوره مثقال خردلة ... في السود طراً إذن لابيضت السود )
فأمر له لكل بيت بألف درهم
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال حدثني أبي قال
خرج المهدي يوما فلقيه الحسين بن مطير فأنشده قوله
( أضحت يمينك من جود مصوّرة ... لا بل يمينك منها صوّر الجود )
فقال كذبت يا فاسق وهل تركت من شعرك موضعا لأحد بعد قولك في معن بن زائدة حيث تقول
( ألِمّا بمعنٍ ثم قولا لقبره ... سُقِيت الغوادي مَرْبَعاً ثم مربعا )

أخرجوه عني فأخرجوه
وتمام الأبيات
( أيا قبر معن كنت أوّل حفرةٍ ... من الأرض خُطت للمكارم مضجعا )
( أيا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترَعا )
( بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حياً ضِقت حتى تصدعا )
( فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه ممرِعا )
( أبَى ذكر معن أن تموت فِعاله ... وإن كان قد لاقى حِماماً ومصرعا )
أخبرني أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن عبيد الكوفي قال حدثني الحسين بن أبي الخصيب الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب قال
كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلق على قفاه فقال لعبد الله بن طاهر يا أبا العباس من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم قال أمير المؤمنين أعلم بهذا وأعلى عينا فقال له على ذاك فقل وتكلم أنت أيضا يا أحمد بن يوسف فقال عبد الله بن طاهر أشعرهم الذي يقول

( أيا قبر معن كنت أوّل خِطة ... من الأرض خطت للمكارم مضجعا )
فقال أحمد بن يوسف بل أشعرهم الذي يقول
( وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي ... متأخَّر عنه ولا متقدم )
فقال أبيت يا أحمد إلا غزلاً أين أنتم عن الذي يقول
( يا شقيق النفس من حكم ... نمتَ عن ليلى ولم أنم )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أبو خليفة عن التوزي قال قلت لأبي عبيدة ما تقول في شعر الحسين بن مطير فقال والله لوددت أن الشعراء قاربته في قوله
( مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودُها )
( فصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها )

شعره في وصف السحاب والمطر
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدنا محمد بن يزيد للحسين بن مطير قال
كان سبب قوله هذه الأبيات أن واليا ولي المدينة فدخل عليه الحسين بن مطير فقيل له هذا من أشعر الناس فأراد أن يختبره وقد كانت سحابة مكفهرة نشأت وتتابع منها الرعد والبرق وجاءت بمطر جود فقال له صف هذه السحابة فقال
( مستضحِك بلوامعٍ مستعبِر ... بمدامعٍ لم تَمْرِها الأقذاء )
( فله بلا حزن ولا بمسرة ... ضحِك يراوِح بينه وبكاء )
( كثرت لكثرة ودقه أطباؤه ... فإذا تَحَلَّبَ فاضتِ الأطباء )
( وكأن بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء )
( لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء )

صوت
( إذا ما أم عبد الله ... لم تحْلل بواديهِ )
( ولم تمسِ قريباً هيج ... الحزن دواعيه )
( غزال راعه القناص ... تحميه صياصيه )
( وما ذكري حبيباً وقليل ... ما أواتيه )
( كذي الخمرِ تمناها ... وقد أُنزِف ساقيه )
( عرفت الربع بالإكليل ... عفته سوافِيه )
( بجو ناعم الحوذان ... ملتف روابيه )
الشعر مختلط بعضه للنعمان بن بشير الأنصاري وبعضه ليزيد بن معاوية فالذي للنعمان بن بشير منه الثلاثة الأبيات الأول والبيت الأخير وباقيها ليزيد بن معاوية ورواه من يوثق به وبروايته لنوفل بن أسد بن عبد العزى فأما من ذكر أنه للنعمان بن بشير فأبو عمرو الشيباني وجدت ذلك عنه في كتابه وخالد بن كلثوم نسخته من كتاب أبي سعيد السكري في مجموع شعر النعمان وتمام الأبيات للنعمان بن بشير بعد الأربعة الأبيات التي نسبتها إليه فإنها متوالية قال

( فبحت اليوم بالأمر الْلَذي ... قد كنت تخفيهِ )
( فَإن أكتمه يوماً ... فإني سوف أبديهِ )
( وما زلت أفدّيهِ ... وأدنيهِ وأرقيهِ )
( وأسعى في هواه أبداً حتى ألاقيه )
( فبات الريم مني حذراً ... زلّت مراقيه )
والغناء لمعبد - خفيف رمل - بالوسطى عن عمرو وذكره إسحاق في - خفيف الرمل - بالسبابة في مجرى البنصر ولم ينسبه إلى أحد وفيه للغريض - ثقيل - أول بالوسطى عن الهشامي وحنين

أخبار النعمان بن بشير ونسبه
هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج وأمه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة التي يقول فيها قيس بن الخطيم
( أجَدَّ بعمرة غُنيانُها ... فتهجرَ أم شانُنا شانُها )
( وعمرة من سَروات النساء ... تنفح بالمسك أردانها )
وله صحبة بالنبي ولأبيه بشير بن سعد وكان جاء إلى النبي

ومعه آخر ليشهد معه غزوة له فيما قيل فاستصغرهما فردهما
وأبوه بشير بن سعد أول من قام يوم السقيفة من الأنصار إلى أبي بكر رضي الله عنه فبايعه ثم توالت الأنصار فبايعته وشهد بشير بيعة العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها واستشهد يوم عين التمر مع خالد بن الوليد
وكان النعمان عثمانيا وشهد مع معاوية صفين ولم يكن معه من الأنصار غيره وكان كريما عليه رفيعا عنده وعند يزيد ابنه بعده وعمر إلى خلافة مروان بن الحكم وكان يتولى حمص فلما بويع لمروان دعا إلى ابن الزبير وخالف على مروان وذلك بعد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك فهرب منهم وتبعوه فأدركوه فقتلوه وذلك في سنة خمس وستين
ويقال إن النعمان بن بشير أول مولود ولد بالمدينة بعد قدوم رسول الله إياها وقد قيل ذلك في عبد الله بن الزبير إلا أن النعمان أول مولود ولد بعد

مقدمه من الأنصار روى ذلك عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
وروى النعمان بن بشير عن النبي كثيرا
حدثني أحمد بن محمد بن الجعد الوشاء قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا عباد بن العوام عن الحصين عن الشعبي قال
سمعت النعمان بن بشير يقول أعطاني أبي عطية فقالت أمي عمرة لا أرضى حتى تشهد رسول الله فأتى رسول الله فقال ابني من عمرة أعطيته عطية فأمرتني أن أشهدك فقال أعطيت كل ولدك مثل هذا قال لا فقال فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال
أمر معاوية لأهل الكوفة بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم وعامله يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير وكان عثمانيا وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي عليه السلام فأبى النعمان أن ينفذها لهم فكلموه وسألوه بالله فأبى أن يفعل وكان إذا خطب على المنبر أكثر قراءة القرآن وكان يقول لا ترون على منبركم هذا أحدا بعدي يقول إنه سمع رسول الله فصعد المنبر يوما فقال يا أهل الكوفة فصاحوا ننشدك الله والزيادة فقال اسكتوا فلما أكثروا قال أتدرون ما مثلي ومثلكم قالوا لا قال مثل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45