كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

أخبار ابن الغريزة ونسبه
كثير بن الغريزة التميمي أحد بني نهشل
والغريزة أمه
وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وقال الشعر فيهما
وهذا الشعر يقوله ابن الغريزة في غزاة غزاها الأقرع بن حابس وأخوه بالطالقان وجوزجان وتلك البلاد فأصيب من أصحابه قوم بالطالقان فرثاهم ابن الغريزة
قصيدته في يوم الطالقان
أخبرني الصولي عن الحزنبل عن ابن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال بعث عمر بن الخطاب الأقرع بن حابس وأخاه على جيش إلى الطالقان وجوزجان وتلك البلاد فأصيب من أصحابه قوم بالطالقان فقال ابن الغريزة النهشلي وقد شهد تلك الوقعة يرثيهم ويذكر ذلك اليوم
( سَقَى مُزْنُ السَّحَابِ إذا اسْتهلّتْ ... مَصَارِعَ فِتْيةٍ بالجُوزَجانِ )

( إلى القَصْرَيْنِ من رُسْتاق خُوطٍ ... أبادَهُمُ هناكَ الأَقْرَعانِ )
( وما بي أنْ أكونَ جَزِعْتُ إلاّ ... حنينَ القلبِ للبَرْقِ اليَمَانِي )
( ومَحْبُورٍ بِرُؤْيَتِنا يُرَجِّي اللقاءَ ... ولن أَراه ولن يَرَانِي )
( ورُبَّ أخٍ أصاب الموتُ قَبْلي ... بَكَيْتُ ولو نُعِيتُ له بَكَانِي )
( دعاني دعوةً والخيلُ تَرْدِي ... فمَا أدْرِي أبِاسْمِي أمْ كَنَانِي )
( فكان إجابَتي إيَّاهُ أنِّي ... عَطَفْتُ عليه خَوَّارَ العِنَانِ )
( وأيَّ فَتًى دَعَوْتَ وقد تَوَلَّتْ ... بهنّ الخيلُ ذاتُ العنظوان )
( وأيَّ فَتًى إذا ما مُتُّ تدعُو ... يُطَرّفُ عنكَ غاشيةَ السِّنانِ )
( فإنْ أَهْلِكْ فلم أَكُ ذا صُدُوفٍ ... عن الأَقْرانِ في الحَرْبِ العَوَانِ )
( ولم أُدلِجُ لأَطْرُقَ عِرْسَ جاري ... ولم أجْعَلْ على قَوْمِي لِسَاني )
( ولكنِّي إذا ما هَايَجُونِي ... مَنِيعُ الجارِ مُرْتَفِعُ البَنَانِ )
( ويَكْرَهُني إذا اسْتَبْسَلْتُ قِرْني ... وأَقضِي واحداً ما قد قضاني )
( فلا تَسْتَبْعِدَا يَوْمِي فإنِّي ... سأُوشِكُ مَرّةً أنْ تَفْقِداني )
( ويُدْركُني الَّذي لا بُدَّ منه ... وإنْ أشْفقْتُ من خوفِ الجَنَانِ )

( وتَبْكِيني نوائحُ مُعْوَلاتٌ ... تُركْنَ بدار مُعْتَرَكِ الزَّمان )
( حَبَائسُ بالعراقِ مُنَهْنَهاتٌ ... سَوَاجي الطَّرْفِ كالبَقَرِ الهِجَانِ )
( أَعاذِلَتَيَّ مِنْ لَوْمٍ دَعَاني ... وللرَّشَدِ المُبَيَّنِ فَاهْدِياني )
( وعَاذِلَتَيَّ صَوْتُكما قريبٌ ... ونَفْعُكُما بعيدُ الخَيْرِ وانِي )
( فَرُدّا الموت عنِّي إن أتاني ... ولاَ وأبِيكُما لا تَفْعَلانِ )

صوت
( دارٌ لقاتلةِ الغَرانِق ما بها ... غيرُ الوُحوشِ خلتْ له وخلاَ لهَا )
( ظَلَّتْ تُسائل بالمُتَيَّمِ ما به ... وهِيَ الّتي فعلتْ به أفعالَها )
الشعر لأعشى بني تغلب من قصيدة يمدح بها مسلمة بن عبد الملك ويهجو جريرا ويعين الأخطل عليه
ويروى ربع لقانصة الغرانق وهو الصحيح هكذا ويغنى دار لقاتلة لأنه يقول في آخر البيت خلت له وخلا لها
والغناء لعبد الله بن العباس ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة وابن المكي
وفيه لمخارق رمل من جميع أغانيه

أخبار أعشى بني تغلب ونسبه
قال أبو عمرو الشيباني اسمه ربيعة
وقال ابن حبيب اسمه النعمان بن يحيى بن معاوية أحد بني معاوية بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار شاعر من شعراء الدولة الأموية وساكني الشأم إذا حضر وإذا بدا نزل في بلاد قومه بنواحي الموصل وديار ربيعة
وكان نصرانيا وعلى ذلك مات
خبره مع الحر بن يوسف
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال
كان أعشى بني تغلب ينادم الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم
فشربا يوما في بستان له بالموصل فسكر الأعشى فنام في البستان
ودعا الحر بجواريه فدخلن عليه قبته
واستيقظ الأعشى فأقبل ليدخل القبة فمانعه الخدم ودافعهم حتى كاد أن يهجم على الحر مع جواريه فلطمه خصي منهم فخرج إلى قومه فقال لهم لطمني الحر
فوثب معه رجل من بني تغلب يقال له ابن أدعج وهو شهاب بن همام بن ثعلبة بن أبي سعد فاقتحما

الحائط وهجما على الحر حتى لطمه الأعشى ثم رجعا
فقال الأعشى
( كأنِّي وابنَ أدْعَجَ إذ دَخَلْنا ... على قُرَشِيِّكَ الوَرَعِ الجَبَانِ )
( هِزَبْرَا غَابةٍ وَقَصَا حِماراً ... فَظلاَّ حَوْلَه يَتَناهشان )
( أنا الجُشَمِيُّ من جُشَمَ بنِ بَكْرٍ ... عَشِيَّةَ رُعْتُ طَرْفَكَ بالبَنَانِ )
أي لطمتك
وقوله أنا الجشمي أي مثلي يفعل ذلك بمثلك
( فما يسطيع ذو مُلْكٍ عِقَابِي ... إذا اجتَرمتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي )
( عَشِيَّةَ غاب عنك بنو هشامٍ ... وعثمانُ اسْتُها وبنو أَبَانِ )
( تَرُوحُ إلى مَنَازِلها قُرَيْشٌ ... وأنت مُخَيِّمٌ بالزَّرَّقان )
والزرقان قرية كانت للحر بسنجار

مدح وأسيء ثوابه
قال ابن حبيب مدح أعشى بني تغلب مدرك بن عبد الله الكناني أحد بني أقيشر بن جذيمة بن كعب فأساء ثوابه فقال الأعشى
( لَعَمْرُكَ إنّي يَوْمَ أمْدَحُ مُدْرِكاً ... لَكَالْمُبْتَني حَوْضاً على غيرِ مَنْهَلِ )
( أمَرَّ الهَوَى دُوني وفَيَّلَ مِدْحَتِي ... ولَوْ لكَريمٍ قُلْتُها لم تُفَيَّلِ )

قال ابن حبيب كان شمعلة بن عامر بن عمرو بن بكر أخو بني فائد وهم رهط الفرس نصرانيا وكان ظريفا فدخل على بعض خلفاء بني أمية فقال أسلم يا شمعلة
قال لا والله أسلم كارها أبدا ولا أسلم إلا طائعا إذا شئت
فغضب فأمر به فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها
فقال أعشى بني تغلب في ذلك
( أمِنْ خُذَّةٍ بالفَخْذ منك تباشرتْ ... عُدَاكَ فلا عارٌ عليك ولا وزْرُ )
( وإنّ أميرَ المؤمنين وجَرْحَه ... لَكَا لدَّهْرِ لا عارٌ بما فعل الدهرُ )
وقال ابن حبيبَ قال أبو عمرو
كان الوليد بن عبد الملك محسنا إلى أعشى بني تغلب فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد إليه ومدحه فلم يعطه شيئا وقال ما أرى للشعراء في بيت المال حقا ولو كان لهم فيه حق لماكان لك لأنك امرؤ نصراني
فانصرف الأعشى وهو يقول
( لَعَمْرِي لقد عاش الوليدُ حياتَه ... إمامَ هُدًى لا مُسْتزادٌ ولا نَزْرُ )
( كأنّ بني مَرْوانَ بعدَ وفاته ... جلاميدُ لا تَنْدَى وإنْ بَلَّها القَطْرُ )
وقال ابن حبيب عن أبي عمرو كانت بين بني شيبان وبين تغلب حروب فعاون مالك بن مسمع بني شيبان في بعضها ثم قعد عنهم
فقال أعشى بني تغلب في ذلك
( بني أُمِّنا مَهْلاً فإنّ نفوسَنا ... تُمِيتُ عليكم عَتْبَها ومَصَالَها )
( وترعَى بلا جهلٍ قَرَابةَ بَيْنِنا ... وبَيْنِكُمُ لَمّا قَطَعْتُمْ وِصَالَها )

( جزى اللهُ شيباناً وتَيْماً مَلاَمةً ... جزاءَ المُسِيءِ سَعْيَها وفِعَالَها )
( أبَا مِسْمَعٍ مَنْ تُنْكِرِ الحقَّ نَفْسُه ... وتَعْجِزْ عن المعروفِ يَعْرِفْ ضَلاَلَها )
( أأوقدتَ نارَ الحرب حتّى إذا بَدَا ... لنفسِكَ ما تجني الحروبُ فهالَها )
( نَزَعْتَ وقد جَرّدْتَها ذاتَ مَنْظَرٍ ... قَبِيحٍ مُهِينٍ حيثُ ألقتْ حِلاَلَها )
( ألَسْنا إذا ما الحربُ شَبَّ سعيرُها ... وكان صَفِيحُ المَشْرَفيِّ صلاَلَها )
( أجارتنا حِلٌّ لكم أنْ تَنَاولوا ... مَحَارِمَها وأن تَمِيزُوا حَلاَلَها )
( كذبتم يَمِينُ اللهِ حتى تَعاوَرُوا ... صُدورَ العوالي بيننا وَنِصَالَها )
( وحتى ترى عينُ الذي كان شامتاً ... مَزَاحِفَ عَقْرَى بيننا ومَجالها )

صوت
( ويَفْرَحُ بالمولود من آل بَرْمَكٍ ... بُغَاةُ النَّدَى والرُّمْحِ والسَّيْفِ والنَّصْلِ )
( وتَنْبَسِطُ الآمالُ فيه لِفَضْلِه ... ولا سِيَّمَا إنْ كان من وَلَدِ الفَضْلِ )
الشعر لأبي النضير
والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع اسحاق
وقال حبش فيه لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع إسحاق
وقال حبش فيه لابراهيم الموصلي ثقيل آخر بالوسطى
ولقضيب وبراقش جاريتي يحيى بن خالد فيه لحنان

أخبار أبي النضير ونسبه
أبو النضير اسمه عمر بن عبد الملك بصري مولى لبني جمح
أخبرنا بذلك عمي عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النخعي عن إسحاق بن خلف الشاعر قال قلت لأبي النضير بن أبي الياس لمن أنت فقال لبني جمح
وذكر أبو يحيى اللاحقي أن اسمه الفضل بن عبد الملك
شاعر من شعراء البصريين صالح المذهب ليس من المعدودين المتقدمين ولا من المولدين الساقطين
وكان يغني بالبصرة على جوار له مولدات ويظهر الخلاعة والمجون والفسق ويعاشر جماعة ممن يعرف بذلك الشأن
وكان أبان اللاحقي يعاشره ثم تصارما وهجاه وهجا جواريه وافترقا على قلى ثم انقطع أبو النضير إلى البرامكة فأغنوه إلى أن مات
اسحاق الموصلي يشهد على ظرفه
أخبرنا ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول لو قيل لي من أظرف من رأيته قط أو عاشرته لقلت أبو النضير

أخبرني عيسى الوراق عن الفضل اليزيدي عن إسحاق وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه قال
ولد للفضل بن يحيى مولود فوفد عليه أبو النضير ولم يكن عرف الخبر فيعد له تهنئة فلما مثل بين يديه ورأى الناس يهنئونه نثرا ونظما قال ارتجالا
( ويَفْرحُ بالمولودِ من آلِ بَرْمَكٍ ... بُغَاةُ النَّدَى والسَّيْف والرُّمْحِ والنَّصْلِ )
( وتَنْبَسِطُ الآمالُ فيه لِفَضْلِه ... )
ثم أرتج عليه فلم يدر ما يقول
فقال الفضل يلقنه
( ولا سِيَّمَا إنْ كان من وَلَدِ الفَضْلِ ... )
فاستحسن الناس بديهة الفضل في هذا وأمر لأبي النضير بصلة
وأخبرني حبيب بن نصر عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني بعض الموالي قال
حضرت الفضل بن يحيى وقد قال لأبي النضير يا أبا النضير أنت القائل فينا
( إذا كنتُ من بَغْدادَ في رَأْسِ فَرْسَخ ... وجدتُ نسيمَ الجُودِ من آل بَرْمَكِ )
لقد ضيقت علينا جدا
قال أفلأجل ذلك أيها الأمير ضاقت علي صلتك وضاقت عني مكافأتك وأنا الذي أقول

( تشاغلَ النّاسُ ببُنْيانِهِمْ ... والفضلُ في بُنْيانه جَاهِدُ )
( كلُّ ذوي الفَضْلِ وأهلِ النُّهَى ... للفَضْلِ في تدبيره حامدُ )
وعلى ذلك فما قلت البيت الأول كما بلغ الأمير وإنما قلت
( إذا كنتُ من بَغْدادَ مُنْقَطِعَ الثَّرَى ... وجدتُ نسيمَ الجُودِ من آل برمك )
فقال الفضل إنما أخرت عنك لأمازحك وأمر له بثلاثين ألف درهم

خبره مع عنان الجارية
أخبرني ابن عمار عن أبي إسحاق الطلحي عن أبي سهيل قال
كان أبو النضير يهوى عنان جارية الناطفي وكتب إليها
( إنَّ لي حاجةً فرَأْيَكِ فيها ... لَكِ نفسي الفِدَا مِنَ الأوصاب )
( وهْيَ ليستْ ممّا يُبَلِّغُه غيرِي ... ولا أستطيعُه بكتابِ )
( غيرَ أنِّي أقولُها حين ألقاكِ ... رُوَيْداً أُسِرُّها من ثِيابي )
فأجابته وقالت
( أنا مشغولةٌ بمَنْ لستُ أهْوَاهُ ... وقلبي مِنْ دونِه في حِجَابِ )
( فإذا ما أردتَ أَمْراً فأسْرِرْهُ ... ولا تجعلنَّه في كتاب )
قال وقال أبو النضير فيها

صوت
( أنا واللهِ أهْوَاكِ ... وأهواكِ وأهواكِ )
( وأهوَى قُبْلةً مِنْكِ ... على بَرْدِ ثَنَاياك )
( وأهوَى لكِ ما أهْوَى ... لِنَفْسِي وكَفَى ذاكِ )
( فهَلْ يَنْفَعُني ذلِكِ ... يوماً حين ألقاكِ )
( أنا والله أهواك ... وما يَشْعُرُ مولاك )
( فإيّاك بأنْ يَعْلَمَ ... إيّاكِ وإيّاكِ )
فيه لعلي بن المارقي رمل بالبنصر عن الهشامي
حدثنا ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
كان أبو النضير يغني غناء صالحا فغنى ذات يوم صوتا كان استفاده ببغداد
فقالت له قينة كانت ببغداد يقال لها مكتومة اطرح علي هذا الصوت يا أبا النضير
فقال لا تطيب نفسي به محابيا ولكني أبيعك إياه
قالت بكم قال برأس ماله
قالت وما رأس ماله قال ناكني فيه الذي أخذته منه
فغطت وجهها وقالت عليك وعلى هذا الصوت الدمار
أخبرني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
قال أبو النضير وفيه غناء لإبراهيم
صوت
( أيصحو فُؤادُكَ أمْ يَطْرَبُ ... وكيف وقد شَحَطتْ زينبُ )
( جرى الناسُ قبل أبي جعفرٍ ... زماناً فلم يُدْرَ مَنْ غَلَّبُوا )
( فلمَّا جرى بأبي جعفرٍ ... بنو تَغْلِبٍ سَبَقتْ تَغْلِبُ )

قال أبو سهيل وأبو جعفر الذي عناه أبو النضير هو عبد الله بن هشام بن عمرو التغلبي الذي يذكره العتابي في شعره ورسائله وكان جوادا سخيا
وكان ابن هشام ولي السند وفيه يقول أبو النضير
( ألاَ أيُّها الغيثُ الّذي سحَّ وَبْلُه ... كأنّك تَحْكِي راحةَ ابنِ هشامِ )
( كأنّك تَحْكِيها ولكنّ جُودَه ... يدومُ وقد تأتي بغير دوامِ )
( وفيك جَهَامٌ ربَّما كان مُخْلِفاً ... وراحتُه تَغدُو بغير جَهَامِ )

خالفه ابراهيم الموصلي في قوله ان الغناء على تقطيع العروض
أخبرني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
كان أبو النضير يزعم أن الغناء على تقطيع العروض ويقول هكذا كان الذين مضوا يقولون وكان مستهزئا بالغناء حتى تعاطى أن يغني وكان ابراهيم الموصلي يخالفه في ذلك ويقول العروض محدث والغناء قبله بزمان
فقال إسحاق بن إبراهيم ينصر أباه
( سَكَتُّ عن الغِناء فلا أُمَارِي ... بَصِيراً لاَ ولا غيرَ البصيرِ )
( مخافةَ أنْ أُجَنِّنَ فيه نَفْسِي ... كما قد جُنَّ فيه أبو النَّضِيرِ )
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه قال حدثني أبو طلحة الخزاعي عن اللاحقي قال
كان جدي أبان يشرب مع إخوان له على شاطىء دجلة بعد مصارمته أبا

النضير وكان القوم أصدقاء له ولأبي النضير فذكروه
فقال جدي إن حضر انصرفت فأمسكوا
فقال جدي فيه
( رُبَّ يومٍ بشَطِّ دِجْلةَ لَذٍّ ... ولَيَالٍ نَعِمتُ فِيها لِذَاذِ )
( غَيْبةٌ لم تَطُلْ عليّ وماذا ... خيرُ قُرْبِ المُطَرْمِذِ المَلاَّذِ )
( تركَ الأشْرِباتِ ليس بعَاطٍ ... لِرَساطُوِنها ولا الرّاقياذ )
( وحكَى الأحْمَقَ الذي ليس يَدْرِي ... أنَّ خيرَ الشرابِ هذا اللذاذ )
( ضَلَّ رَأْيٌّ أَراِه ذاك كما ضَلّ ... غُوَاةٌ لاذُوا بشَرِّ مَلاَذِ )
( أنت أعْمَى فيما ادَّعَيْتَ كما لَسْتَ ... لِصَوْغِ الألحانِ بالأُسْتاذ )
( كان ذنباً أتوبُ منه إلى الله ... اختيارِيكَ صاحباً وأتِّخاذي )
( إنّ للهِ صومَ شَهْرَيْنِ شُكْراً ... أنْ قَضَى منك عاجلاً إنْقَاذي )
( لا لِدينٍ ولا لِدُنْيَا ولا يَصْلُحُ ... في علم ما ادَّعَى بنَفَاذِ )
حدثني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال
كتب أبو النضير الى حماد عجرد يسأل عن حاله في الشراب وشربه إياه ومن يعاشر عليه
فكتب إليه حماد
( أبَا النَّضِيرِ اسْمَعْ كَلامِي ولا ... تَجْعَلْ سوَى الإِنصافِ من بالكا )
( سألتَ عن حالي وما حالُ مَنْ ... لم يَلْقَ إلاّ عابداً ناسكا )

( يُظْهِرُ لي ذا فمتى يَفْتَرضْ ... شيئاً تِجِدْه عادياً فاتكا )
يعني حريث بن عمرو
وكان حماد نزل عليه وكان حريث هذا مشهورا بالزندقة وكذلك حماد هذا كان مشهورا بها فنزل عليه لذلك
أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي طلحة الخزاعي عن أبي يحيى اللاحقي قال
كتب أبو النضير إلى عمي حمدان بن أبان وكان له صديقا يشكو إليه عمر بن يحيى الزيادي وكان عربد عليه وشتمه
( أَقْرِ حمْدانَ سلامَ اللّهِ ... مِن فَضْلٍ وقُلْ لَهْ )
( يا فَتًى لستُ بحمدِ اللّهِ ... أَخْشَى أنْ أَمَلَّهْ )
( ذاك أنّ اللهَ قد أنْهَله ... الظَّرْفَ وعَلَّهْ )
( وذُرَا بيت رَقَاشٍ ... وعُلاَها قد أحَلَّهْ )
( إنّ شَتْمَ السِّفلَةِ الكَشخان ... ذي القَرْنَيْنِ ضَلَّهْ )
( ولَو أنّ القلبَ هاجَى ... عُمَراً يوماً لَغَلَّهْ )
( ذاك أنّ الله قد أخزى ... ابنَ يحيى وأذَلَّهْ )
( مَنْ يُهاجِي رَجُلاً يَسْتوعِبُ ... الجُرْدانَ كُلَّهْ )
( ما يسيلُ الأَيْرُ إلاّ ... أدخلَ الأَيْرَ وبَلَّهْ )
( وإذا عايَنَ أَيْراً ... وَافِيَ الفَيْشَةِ غَلَّهْ )
( هذه قِصَّةُ مَنْ قد ... جعَل المُرْدانَ شُغْلَهْ )

شعره في طليقته
حدثني عمى عن أبي العيناء عن أبي النضير قال
دخلت على الفضل بن الربيع فقال هل أحدثت بعدي شيئا قلت نعم قلت أبياتا في امرأة تزوجتها وطلقتها لغير علة إلا بغضي لها وإنها لبيضاء بضة كأنها سبيكة فضة
فقال لي وما قلت فيها فقلت قلت
( رَحَلتْ سُكَيْنةُ بالطَّلاَقِ ... فأَرَحْتُ من غُلِّ الوَثاقِ )
( رحلتْ فَلَمْ تَأْلَمْ لها ... نَفْسي ولم تَدْمَعْ مَآقِي )
( لو لَمْ تَبِنْ بطَلاَقِها ... لأبنتُ نفسي بالإِباقِ )
( وشِفاءُ ما لا تَشْتَهِيهِ ... النَّفْسُ تعجيلُ الفِرَاقِ )
فقال يا غلام الدواة والقرطاس فأتي بهما فأمرني فكتبت له الأبيات ثم قلت له أنت والله تبغض بنت أبي العباس الطوسي
فقال اسكت أخزاك الله ثم ما لبث أن طلقها
صوت
( ما بالُ عَيْنِكَ جائلاً أقذاؤها ... شَرِقتْ بعَبْرَتِها وطال بُكاؤها )
( ذكرتْ عَشِيرتَها وفُرْقةَ بَيْنِها ... فطوتْ لذلك غُلَّةً أحشاؤها )
الشعر لعبد الله بن عمر العبلي
والغناء لأبي سعيد مولى فائد رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وقيل إنه من منحول يحيى الى أبي سعيد

أخبار العبلي ونسبه
اسمه عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف ويكنى أبا عدي شاعر مجيد من شعراء قريش ومن مخضرمي الدولتين وله أخبار مع بني أمية وبني هاشم تذكر في غير هذا الموضع
ويقال له عبد الله بن عمر العبلي وليس منهم لأن العبلات من ولد أمية الأصغر بن عبد شمس
سموا بذلك لأن أمهم عبلة بنت عبيد بن حارك بن قيس بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهؤلاء يقال لهم براجم بني تميم ولدت لعبد شمس بن عبد مناف أمية الأصغر وعبد أمية ونوفلا وأمه من بني عبد شمس فهؤلاء يقال لهم العبلات ولهم جميعا عقب
أما أمية الأصغر فإنهم بالحجاز وهم بنو الحارث بن أمية منهم علي بن عبد الله بن الحارث ومنهم الثريا صاحبة ابن أبي ربيعة
وأما بنو نوفل وعبد أمية فإنهم بالشام كثير
وعبد العزى بن عبد شمس كان يقال له أسد البطحاء
وإنما أدخلهم الناس في العبلات لما صار الأمر لبني أمية الأكبر وسادوا وعظم شأنهم في الجاهلية والإسلام وكثر أشرافهم فجعل سائر بني عبد شمس من لا يعلم قبيلة واحدة فسموهم أمية الصغرى ثم قيل لهم العبلات لشهرة الاسم
وعلي بن عدي جد هذا الشاعر شهد مع عائشة يوم الجمل
وله يقول شاعر بني ضبة لعنة الله عليه

( يا رَبِّ اكْبُبْ بِعَليٍّ جَمَلَهْ ... ولا تُبَارِكْ في بعيرٍ حَمَلَهْ )
( إِلاَّ عليَّ بن عَدِيٍّ ليس له ... )
ميله إلى بني هاشم حرمه من عطاء الخلفاء
فأما عبد الله بن عمر هذا الشاعر فكان في أيام بني أمية يميل إلى بني هاشم ويذم بني أمية ولم يكن منهم إليه صنع جميل فسلم بذلك في أيام بني العباس ثم خرج على المنصور في أيامه مع محمد بن عبد الله بن الحسن
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب الزبيري قال
العبلي عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس ويكنى أبا عدي وله أخبار كثيرة مع بني هاشم وبني أمية
وقسم هشام بن عبد الملك أموالا وأجاز بجوائز فلم يعطه شيئا
فقال
( خَسَّ حَظِّي أنْ كنتُ من عبد شمسٍ ... ليتنِي كنتُ من بني مَخْزُومِ )
( فأفوزَ الغداةَ منهم بسَهْمٍ ... وأبِيعَ الأبَ الشريفَ بلُومِ )
فلما استخلف المنصور كتب إلى السري بن عبد الله أن يوجه به إليه ففعل
فلما قدم عليه قال له أنشدني ما قلت في قومك فاستعفاه
فقال لا أعفيك
فقال أعطني الأمان فأعطاه فأنشده
( ما بال عَنْك جائلاً أقذاؤها ... شَرِقتْ بعَبْرَتِها فطال بُكاؤها )
حتى انتهى إلى قوله
( فبنو أمَيّةَ خيرُ مَنْ وَطِىء الحَصَى ... شَرَفاً وأفضلُ ساسةٍ أمراؤها )

فقال له اخرج عني لا قرب الله دارك فخرج حتى قدم المدينة فألفى محمد بن عبد الله بن حسن قد خرج فبايعه

مدح السفاح فأكرمه
أخبرني عمي الكراني عن العمري عن العتبي عن أبيه قال
كان أبو عدي الذي يقال له العبلي مجفوا في أيام بني مروان وكان منقطعا إلى بني هاشم فلما أفضت الدولة اليهم لم يبقوا على أحد من بني أمية وكان الأمر في قتلهم جدا إلا من هرب وطار على وجهه
فخاف أبو عدي أن يقع به مكروه في تلك الفورة فتوارى وأخذ داود بن علي حرمه وماله فهرب حتى أتى أبا العباس السفاح فدخل عليه في غمار الناس متنكرا وجلس حجرة حتى تقوض القوم وتفرقوا وبقي أبو العباس مع خاصته
فوثب إليه أبو عدي فوقف بين يديه وقال
( أَلاَ قُلْ للمَنَازل بالسِّتَارِ ... سُقِيتِ الغَيْثَ من دِمَنٍ قِفَار )
( فهل لك بَعْدَنا عِلْمٌ بِسَلْمَى ... وأتْرَابٍ لها شبهِ الصِّوار )
( أوانِسُ لا عَوَابِسُ جافياتٌ ... عن الخُلُق الجميلِ ولا عَوَارِي )
( وفيهنّ ابنةُ القُصَويِّ سَلْمَى ... كَهَمِّ النَّفْسِ مُفْعَمةُ الإزَار )

( تلوثُ خِمَارَها بِأحَمَّ جَعْدٍ ... تُضِلُّ الفَالِياتُ به المَدَارِي )
( بَرَهْرَهَةٌ مُنَعّمةٌ نَمَتْهَا ... أُبُوَّتُها إلى الحَسَبِ النُّضَارِ )
( فدَعْ ذِكرَ الشبابِ وعهدَ سَلْمَى ... فما لَكَ منهما غيرُ ادِّكار )
( وأَهْدِ لهاشمٍ غُرَرَ القَوَافِي ... تَنَخَّلُها بعلمٍ وأخْتِيَارِ )
( لَعَمْرُكَ إِنَّني ولُزومَ نَجْدٍ ... ولا ألْقَى حِبَاءَ بني الخِيارِ )
( لَكَالْبَادِي لأبْرَدَ مُسْتَهِلٍّ ... بِحَوْباء كبطن العَيْر عار )
( سأرْحَلُ رِحْلةً فيها اعتزامٌ ... وجِدٌّ في رَوَاحٍ وابْتِكَارِ )
( إلى أهل الرسول غَدَتْ برَحْلِي ... عُذَافِرةٌ تَرَامَى بالصَّحَارِي )
( تَؤُمُّ المَعْشَرَ الأَبرَارَ تبغِي ... فَكَاكَاً للنّساء من الإِسار )
( أيا أهلَ الرسولِ وصِيدَ فِهْرٍ ... وخيرَ الواقفين على الجِمَارِ )
( أتُؤْخَذ نِسْوتي ويُحَازُ مالِي ... وقد جاهرتُ لو أَغْنَى جِهَارِي )
( واذْعَرُ أن دُعِيتُ لعبد شَمْسٍ ... وقد أمسكتُ بالحَرَمِ الصَّوَارِي )
( بنُصْرَةِ هاشمٍ شَهَّرتُ نفسي ... بداري للعِدَا وبغير داري )

( بقُرْبَى هاشمٍ وبحقِّ صِهْرٍ ... لأحمدَ لفَّه طِيبُ النِّجارِ )
( ومنزلُ هاشم من عبد شمسٍ ... مكانَ الجِيدِ من عُلْيَا الفَقَارِ )
فقال له السفاح من أنت فانتسب له
فقال له حق لعمري أعرفه قديما ومودة لا أجحدها وكتب له إلى داود بن علي بإطلاق من حبسه من أهله ورد أمواله عليه وإكرامه وأمر له بنفقة تبلغه المدينة

عبد الله بن حسن يحسن وفادته وإكرامه
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي عن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن قال حدثني أبي قال
قال سعيد بن عقبة الجهني إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاه آت فقال له هذا رجل يدعوك فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الأموي الشاعر فقال أعلم أبا محمد
فخرج إليه عبد الله بن حسن وابناه وقد ظهرت المسودة وهم خائفون فأمر له عبد الله بن حسن بأربعمائة دينار وابناه بينهما بأربعمائة دينار وهند بنت أبي عبيدة أمهما بمائتي دينار فخرج من عندهم بألف دينار
وأخبرني حرمي عن الزبير وأخبرني الأخفش عن المبرد عن المغيرة ابن محمد المهلبي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال
جاء عبد الله بن عمر بن عبد الله العبلي إلى سويقة وهو طريد بني

العباس وذلك بعقب أيام بني أمية وابتداء خروج ملكهم إلى بني العباس فقصده عبد الله والحسن أبنا الحسن بسويقة فاستنشده عبد الله شيئا من شعره فأنشده
فقال له أريد أن تنشدني شيئا مما رثيت به قومك فأنشده
( تقول أُمَامةُ لمَّا رأتْ ... نُشُوزِي عن المَضْجَعِ الأنْفَسِ )
( وقِلّةَ نومي على مَضْجَعِي ... لدى هَجْعَةِ الأعْيُنِ النُّعَّسِ )
( أبِي ما عَرَاكَ فقلتُ الهمومُ ... عَرَوْنَ أباك فلا تُبْلِسِي )
( عَرَوْنَ أباكِ فَحَبَّسْنَهُ ... من الذُّلِّ في شَرِّ ما مَحْبِس )
( لِفَقْدِ العشيرةِ إذ نالَها ... سِهامٌ من الحَدَث المُبْئِسِ )
( رَمَتْهَا المنونُ بلا نُصَّلٍ ... ولا طائشاتٍ ولا نُكَّسِ )
( بأَسْهُمِها الخالساتِ النُّفوسَ ... متى ما اقتضتْ مُهْجةً تَخْلِسِ )
( فصَرْعاهُمُ في نواحي البِلادِ ... تُلْقَى بأرضٍ ولم تُرْمِسِ )
( كريمٌ أُصِيب وأثوابُه ... من العار والذَّامِ لم تَدْنَسِ )
( وآخَرُ قد طار خوفَ الرَّدَى ... وكان الهُمَامَ فلم يُحْسَسِ )

( فكم غادروا من بَوَاكِي العيونِ ... مَرْضَى ومن صِبْية بُؤَّس )
( إذا ما ذكرنهُمُ لم تَنَمْ ... لحَرّ الهمومِ ولم تَجْلِسِ )
( يُرَجِّعْنَ مثلَ بُكاء الحَمَامِ ... في مأتَمٍ قَلِقِ المَجْلِسِ )
( فذاكِ الذي غالني فاعْلَمِي ... ولا تسأليني فَتَسْتَنْحِسِي )
( وأشياءُ قد ضِفْنَني بالبلاد ... ولستُ لهنّ بمُسْتَحْلِسِ )
( أفاض المَدَامِع قَتْلَى كُدىً ... وقتلَى بكُثْوةَ لم تُرْمَسِ )
( وقتلَى بوَجٍّ وباللاَّبَتَينِ ... من يَثْرِبٍ خيرُ ما أَنْفُسِ )
( وبالزَّابِييْنِ نفوسٌ ثوتْ ... وقَتْلَى بنهر أبي فُطْرُس )

( أولئك قومٌ تداعتْ بهم ... نوائب من زمن مُتْعِسِ )
( أذلّتْ قِيَادِي لمن رَامني ... وأَلْزقتِ الرَّغْمَ بالمَعْطِسِ )
( فما أَنْسَ لا أنسَ قتلاهُم ... ولا عاش بعدَهُم مَنْ نَسِي )
قال فلما أتى عليها بكى محمد بن عبد الله بن حسن
فقال له عمه الحسن بن حسن بن علي عليهم السلام أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد
فقال والله يا عم لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا فما بنو العباس إلا أقل خوفا لله منهم وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم
ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر
فوثب حسن وقال أعوذ بالله من شرك وبعث إلى أبي عدي بخمسين دينارا وأمر له عبد الله بن حسن بمثلها وأمر له كل واحد من محمد وإبراهيم ابنيه بخمسين خمسين وبعثت إليه أمهما هند بخمسين دينارا وكانت منفعته بها كثيرة
فقال أبو عدي في ذلك
( أقام ثَوِيُّ بيتِ أبي عديٍّ ... بخير مَنَازِلِ الجِيران جارَا )
( تَقَوّض بيتُه وَجَلاَ طَرِيداً ... فصادَفَ خيرَ دُور النّاسِ دارَا )
( وإنّي إن نزلتُ بدار قومٍ ... ذكرتُهُمُ ولم أذمُمْ جِوَارَا )
فقالت هند لعبد الله وابنيها منه أقسمت عليكم إلا أعطيتموه خمسين دينارا أخرى فقد أشركني معكم في المدح فأعطوه خمسين دينارا أخرى عن هند

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن أبي أيوب المديني قال ذكر محمد ابن موسى مولى أبي عقيل قال
قدم أبو عدي العبلي الطائف واليا من قبل محمد بن عبد الله بن حسن أيام خروجه على أبي جعفر ومعه أعراب من مزينة وجهينة وأسلم فأخذ الطائف وأتى محمد بن أبي بكر العمري حتى بايع وكان مع أبي عدي أحد عشر رجلا من ولد أبي بكر الصديق فقدمها بين أذان الصبح والإقامة فأقام بها ثلاثا ثم بلغه خروج الحسن بن معاوية من مكة فاستخلف على الطائف عبد الملك بن أبي زهير وخرج ليتلقى الحسن بالعرج فركب الحسن البحر ومضى أبو عدي هاربا على وجهه إلى اليمن
فذلك حين يقول
( هُيِّجْتَ للأجْزاع حول عرابِ ... واعتاد قلبكَ عائد الأطرابِ )
( وذكرتَ عهدَ مَعَالمٍ بِلوى الثَّرَى ... هيهاتَ تلك معالمُ الأحبابِ )
( هيهاتَ تلك معالمٌ من ذاهبٍ ... أمسى بحَوْضى أو بحَقْلِ قِبَابِ )
( قد حلَّ بين أَبارِقٍ ما إنْ له ... فيه مِنِ اخْوانٍ ولا أصحاب )
( شَطَّتْ نَوَاهُ عن الأليف وساقَه ... لِقُرىً يَمَانيةٍ حَمَامُ كِتَابِ )

( يا أُختَ آل أبي عَدِيٍّ أَقْصِرِي ... وذَرِي الخِضَابَ فما أوانُّ خضاب )
( أَتَخَضَّبِينَ وقد تَخَرَّم غالباً ... دهرٌ أضَرَّ بها حديدُ الناب )
( والحربُ تَعْرُك غالباً بجِرَانها ... وتَعَضُّ وهي حديدةُ الأنيابِ )
( أم كيف نَفْسُكِ تَسْتَلِذُّ معيشةً ... أو تَنْقَعين لها أَلَذَّ شراب )
وذكر العباس بن عيسى العقيلي عن هارون بن موسى الفروي عن سعيد ابن عقبة الجهني قال حضرت عبد الله بن عمر المكني أبا عدي الأموي ينشد عبد الله بن حسن قوله
( أفاض المدامعَ قَتْلَى كُدىً ... وقَتْلى بكُثْوَةَ لم تُرْمَسِ )
قال فرأيت عبد الله بن حسن وإن دموعه لتجري على خده
وقد أخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن أبي سعيد مولى فائد قال
لما أتانا قتل عبد الله بن علي من قتل من بني أمية كنت أنا وفتى من ولد عثمان وأبو عدي العبلي متوارين في موضع واحد فلحقني من الجزع ما يلحق الرجل على عشيرته ولحق صاحبي كما لحقني فبكينا طويلا ثم تناولنا هذه القصيدة بيننا فقال كل واحد منا بعضها غير محصل ما لكل واحد منا فيها قال ثم أنشدنيها فأخذتها من فيه
( تقول أُمامةُ لمّا رأتْ ... نُشوزي عن المضجع الأنْفَسِ )

قصيدته في مدح بني هاشم
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال

كان أبو عدي الأموي الشاعر يكره ما يجري عليه بنو أمية من ذكر علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسبه على المنابر ويظهر الإنكار لذلك فشهد عليه قوم من بني أمية بمكة بذلك ونهوه عنه فانتقل إلى المدينة وقال في ذلك
( شَرَّدوا بي عند امتداحي عَلِيًّا ... ورأوا ذاك فيَّ داءً دَوِيَّا )
( فَوَربِّي لا أبْرَحُ الدَّهْرَ حتّى ... تُخْتَلَى مهجتي بحبِّي عَلِيّا )
( وبَنِيهِ لحُبّ أحمدَ إِنِّي ... كنت أحببتُهم بحبِّي النبيَّا )
( حُبُّ دِينٍ لا حُبُّ دُنْيَا وشَرُّ الحبِّ ... حُبٌّ يكون دُنْيَاوِيَّا )
( صاغني اللَّه في الذُّؤابة منهم ... لا زَنِيماً ولا سَنِيداً دَعِيّا )
( عَدَوِيًّا خالِي صَرِيحاً وَجَدِّي ... عبدُ شمس وهاشمٌ أَبَوَيَّا )
( فسواءٌ عليَّ لستُ أُبالي ... عَبْشَمِيًّا دُعِيْتُ أمْ هَاشِمِيّا )

هشام بن عبد الملك يفضل شعر بني مخزوم على شعره
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي عن أبيه قال وفد أبو عدي الأموي إلى هشام بن عبد الملك وقد امتدحه بقصيدته التي يقول فيها
( عبدُ شمسٍ أبوك وهو أبونَا ... لا نُنَادِيكَ من مكانٍ بعيدِ )
( والقرابات بيننا واشجاتٌ ... مُحْكَمَاتُ القُوَى بحَبْلٍ شديد )
فأنشده إياها وأقام بباه مدة حتى حضر ببابه وفود قريش فدخل فيهم

وأمر لهم بمال فضل فيه بني مخزوم أخواله وأعطى أبا عدي عطية لم يرضها فانصرف وقال
( خَسّ حَظِّي أنْ كنتُ من عبد شمسٍ ... ليتني كنتُ من بني مخزومِ )
( فأفوزَ الغداةَ فيهم بسَهْمٍ ... وأبيعَ الأبَ الكريم بلومِ )
غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر اللذين أولهما
( عبدُ شمس أبوك وهو أبونا ... )
ابن جامع ولحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق
وأول هذه القصيدة التي قالها في هشام
( ليلتي من كنودَ بالغَوْرِ عُودِي ... بصَفاء الهوى مِنُ امّ أَسِيدِ )
( ما سمعنا ذاك الهوى ونَسِينَا ... عهدَه فارجِعِي به ثم زِيدِي )
( قد تولَّى عصرُ الشباب فقيدا ... رُبَّ جارٍ يَبين غيرَ فقيد )
( خُلَق الثَّوبُ من شَبابٍ ولِبْسٍ ... وجديدُ الشَّبابِ غيرُ جديدِ )
( فاسْرِعنك الهمومَ حين تداعتْ ... بعَلاَةٍ مثلِ الفَنِيق وَخُودِ )
( عَنْتَرِيسٍ تُوفِي الزِّمامَ بفَعْمٍ ... مثلِ جِذْعِ الأشاءة المجرود )
( وارْمِ جَوْزَ الفَلاَ بها ثم سُمْها ... عَجْرَفيَّ النَّجاءِ بالتوخيدِ )

( وهِشَاماً خليفةَ اللَّه فاعْمِدْ ... واصْرِ مَنْ مِرَّةَ القَوِيّ الجليدِ )
( تَلْقَهُ مُحْكَمِ القُوَى أرْيَحِيًّا ... ذَا قِرَىً عاجلٍ وسَيْبٍ عتيدِ )
( مَلِكاً يَشْمَلُ الرعيّةَ منه ... بأيادٍ ليست بذات خُمود )
( أخضرُ الرَّبعِ والجنابُ خَصِيبٌ ... أَفْيَحُ المُسْتَرَادِ للُمُسْتَرِيدِ )
( ذكرتْ ناقتي البِطَاحَ فحنَّتْ ... حين أنْ وَرَّكتْ قبورَ ثمودِ )
( قلتُ بعضَ الحنينِ يا ناقُ سِيرِي ... نحوَ بَرْقٍ دعا لغيثٍ عميدِ )
( فأغذَّتْ في السَّيْرِ حتى أتتكم ... وهي قوداءُ في سَوَاهِمَ قُودِ )
( قد براها السُّرَى إليك وسَيَرِي ... تحت حَرِّ الظَّهيرِة الصَّيْخودِ )
( وَطَوَى طائدَ العَرَائِكِ منها ... غَوْلُ بِيدٍ تجتابُها بعدَ بِيدِ )
( وأتتكم حُدْبَ الظُّهور وكانت ... مُسْنَمَاتٍ مَمَرَّها بالكَدِيدِ )

( واطمأنّتْ أرضَ الرَّصَافةِ بالخِصْبِ ... ولم تُلْقِ رَحْلَها بالصَّعِيدِ )
( نزلتْ بامرِىءٍ يرى الحمدَ غُنْماً ... باذلٍ مُتْلفٍ مُفِيدٍ مُعِيدِ )
( بذل العدلَ في القِصَاصِ فأضحى ... لا يخاف الضعيفُ ظُلْمَ الشديدِ )
( من بني النَّضْرِ من ذُرَا مَنْبِتِ النَّضْرِ ... بأوْرَى زَنْدٍ وأكرِمِ عودِ )
( فهو كالقَلْب في الجوانِحِ منها ... واسطٌ سِرَّ جِذْمَها والعديد )
( بين مَرْوَانَ والوليدِ فَبَخْ بَخْ ... للكريمِ المَجِيدِ غيرِ الزَّهِيدِ )
( لو جرى الناسُ نحوَ غاية مجدٍ ... لِرهَانٍ في المَحْفِلِ المشهودِ )
( لَعَلاَهُمْ بسابغَيْنِ من المجدِ ... على الناس طارفٍ وتليدِ )
( إِنّكُمْ مَعْشَرٌ أبى اللَّهُ إِلاَّ ... أنْ تفوزوا بدَرِّها المحشود )
( لم ير اللَّهُ مَعْشَراً من بني مَرْوانَ ... أوْلَى بالمُلْكِ والتسويدِ )
( قادةٌ سادةٌ ملوكٌ بِحَارٌ ... وبَهَالِيلُ للقُروم الصِّيدِ )
( أَرْيَحِيُّون ماجدون خِضَمُّونَ ... حُمَاةٌ عند ارْبِداد الجُلُودِ )
( يقطَعون النهارَ بالرأي والحَزْمِ ... ويُحْيُون ليلَهم بالسُّجودِ )
( أهلُ رِفْدٍ وسُؤْدُدٍ وحَيَاءٍ ... ووَفَاءٍ بالوعد والموعود )
( ويَرَوْنَ الجِوَارَ من حُرَم اللَّهِ فما الجارُ فيهمُ بوحيدِ )
( لو بمجدٍ نال الخُلُودَ قَيلٌ ... آلَ مَرْوَانَ فُزْتُمُ بالخُلُودِ )
( يا بنَ خيرِ الأخيار من عبد شمسٍ ... يا إمامَ الوَرَى ورَبَّ الجنودِ )
( عبدُ شمسٍ أبوك وهو أبونا ... لا نُنادِيك من مكانٍ بعيدِ )

( ثم جَدِّي الأدْنَى وعَمُّكَ شَيْخِيْ ... وأبو شَيْخِكَ الكريم الجُدودِ )
( فالقَرَابَاتُ بيننا واشجاتٌ ... مُحْكَمَاتُ القُوَى بحبلٍ شديد )
( فأثِبْني ثَوَابَ مِثْلِكَ مِثْلِي ... تَلْقَني للثَّوابِ غيرَ جَحُودِ )
( إِنَّ ذا الجَدِّ مَنْ حَبَوْتَ بوُدٍّ ... ليس مَنْ لا تَوَدّ بالمجدودِ )
( وبِحَسْبِ امرىءٍ من الخير يُرْجَى ... كونُهُ عند ظِلِّك الممدود )
وأما قصيدته التي أولها
( ما بالُ عَيْنِكَ جائلاً أقذاؤها ... )
وهي التي فيها الغناء المذكور فإنه قالها في دولة بني أمية عند اختلاف كلمتهم ووقوع الفتنة بينهم يندب بينهم وفيها يقول
( واعتادها ذِكْرُ العَشِيرة بالأَسَى ... فصَبَاحُها ثابٍ بها وَمَساؤها )
( شَرِكُوا العِدَا في أمرهم فتفاقمت ... منها الفُتُون وفُرِّقَتْ أهواؤها )
( ظَلَّتْ هناكَ وما يُعاتِبُ بعضُها ... بعضاً فيَنْفَعَ ذا الرّجاء رجاؤها )
( إِلاَّ بمُرْهَفَةِ الظُّبَاتِ كأنّها ... شُهُبٌ تَقِلُّ إذا هَوَتْ أخطاؤها )
( وبعُسَّلٍ زُرْقٍ يكون خِضَابُها ... عَلَقَ النُّحور إذا تَفيضُ دماؤها )
( فبذاكُمُ أمستْ تَعَاتَبُ بينها ... فلقد خَشِيتُ بأن يُحَمَّ فَنَاؤها )
( ماذا أَؤمِّلُ إِنْ أُمَيَّةُ وَدّعتْ ... وبقاءُ سُكَّان البلادِ بقاؤها )

( أهلُ الرِّياسةِ والسِّياسةِ والنَّدَى ... وأسُودُ حَرْبٍ لا يَخيمُ لِقاؤها )
( غيثُ البلادِ هُمُ وهُمْ أُمَرَاؤها ... سُرُجٌ يُضِيء دُجَى الظَّلاَمِ ضياؤها )
( فلئنْ أمَيَّةُ وَدّعتْ وَتَتَايَعَتْ ... لغَوَايةٍ حَمِيتْ لها خُلَفاؤها )
( لَيُوَدِّعنّ من البَرِيَّة عِزُّها ... ومن البلادِ جَمَالُها ورجاؤها )
( ومن البَلِيّةِ أنْ بَقِيتَ خَلاَفَهمْ ... فَرْداً تَهِيجُك دُورُهم وخلاؤها )
( لَهفِي علىحرب العَشِيرةِ بينَها ... هَلاَّ نَهَى جُهَّالَها حُلَمَاؤها )
( هَلاَّ نُهىً تَنْهَى الغَوِيّ عن التي ... يُخْشَى على سُلْطَانها غَوْغَاؤها )
( وتُقىً وأحلامٌ لها مُضَرِيَّةٌ ... فيها إذا تَدْمَى الكلومُ دواؤها )
( لمّا رأيتُ الحربَ تُوقَدُ بينَها ... ويَشُبُّ نارَ وَقودها إذكاؤها )
( نوّهتُ بالمَلِكِ المُهَيمِنِ دعوةً ... وَرَوَاحُ نفسي في البَلاَءِ دُعَاؤها )
( لِيَرُدَّ ألْفَتَهَا ويجمعَ أَمْرَها ... بِخِيَارِها فخيارُها رُحَمَاؤها )
( فأجاب ربِّي في أمَيّةَ دَعْوَتِي ... وَحَمى أُمَيّة أنْ يُهَدّ بِناؤها )
( وَحَبَا أُمَيَّةَ بالخلافةِ إِنّهُم ... نُورُ البلادِ وزَيْنُها وبَهَاؤها )
( فبنو أُمَيّةَ خيرُ مَنْ وَطِىء الثَّرَى ... شَرَفاً وأفضلُ ساسةٍ أمَراؤها )
وهي قصيدة طويلة أقتصرت منها على ما ذكرته

صوت
( مَهْلاً ذَرينِي فإِنِّي غَالَني خُلُقِي ... وقد أَرَى في بلاد اللَّه مُتَّسَعَا )
( ما عَضَّنِي الدَّهرُ إِلاَّ زادني كَرَماً ... ولا أستكنتُ له إن خانَ أو خَدَعَا )

الشعر لأبي جلدة اليشكري من قصيدة يمدح بها مسمع بن مالك بن مسمع والغناء لعلويه رمل بالوسطى عن عمرو

أخبار أبي جلدة ونسبه
أبو جلدة بن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبيد الله بن مسلمة بن حبيب بن عدي بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية ومن ساكني الكوفة
وكان ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج
انقلب على الحجاج بعد أن كان حليفا له
أخبرني بخبره في جملة ديوان شعره محمد بن العباس اليزيدي وقرأته عليه قال حدثني عمي عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب وأخبرني به علي ابن سليمان الأخفش أيضا عن الحسن بن الحسن اليشكري عن ابن الأعرابي قال
كان أبو جلدة اليشكري من أخص الناس بالحجاج حتى إنه بعثه وبعث معه عبد الله بن شداد بن الهادي الليثي إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فخطب الحجاج منه ابنته أم كلثوم
ثم خرج بعد ذلك مع ابن الأشعث وكان من أشد الناس تحريضا على الحجاج
فلما أتي الحجاج

برأسه ووضع بين يديه مكث ينظر إليه طويلا ثم قال كم من سر أودعته في هذا الرأس فلم يخرج حتى أتيت به مقطوعا
فلما كان يوم الزاوية خرج أبو جلدة بين الصفين ثم أقبل على أهل الكوفة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها
( فقُلْ للحَوَارِيّات يبكين غيرَنا ... ولا تَبْكِنا إِلاَّ الكِلاَبُ النوابحُ )
( بَكَيْنَ إلينا خَشْيةً أن تُبِيحَها ... رِماحُ النَّصارَى والسيوفُ الجوارح )
( بكينَ لكيما يمنَعوهنّ منهمُ ... وتأبَى قلوبٌ أضمرتْها الجوانح )
( ونادّيْنَنَا أينَ الفِرَارُ وكنتمُ ... تَغَارُونَ أن تبدُو البُرَى والوشائحُ )
( أأسلمتمونا للعَدُوِّ على القَنَا ... إذا أنْتُزِعتْ منها القُرونُ النواطحُ )
( فما غار منكم غائرٌ لحليلةٍ ... ولا عَزَبٌ عَزّتْ عليه المَنَاكِحُ )
قال فلما أنشدهم هذه الأبيات أنفوا وثاروا فشدوا شدة تضعضع لهم عسكر الحجاج وثبت لهم الحجاج وصاح بأهل الشأم فتراجعوا وثبتوا فكانت الدائرة له فجعل يقتل الناس بقية يومه حتى صاح به رجل والله يا حجاج لئن كنا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العفو ولقد خالفت الله فينا وما أطعته
فقال له وكيف ويلك قال لأن الله تعالى يقول ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما

فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) وقد قتلت فأثخنت حتى تجاوزت الحد فأسر ولا تقتل ثم قال أو أمنن
فقال أولى لك ألا كان هذا الكلام منك قبل هذا الوقت ثم نادى برفع السيف وأمن الناس جميعا
قال ابن حبيب قال أبن الأعرابي فبلغني أن الحجاج قال يوما لجلسائه ما حرض علي أحد كما حرض أبو جلدة فإنه نزل على سرحة في وسط عسكر لابن الأشعث ثم نزع سراويله فوضعه وسلح فوقه والناس ينظرون إليه
فقالوا له ما لك ويلك أجننت ما هذا الفعل قال كلكم قد فعلتم مثل هذا إلا أنكم سترتموه وأظهرته
فشتموه وحملوا علي فما أنساهم وهو يقدمهم ويرتجز
( نحن جَلَبْنَا الخَيْلَ من زَرَنْجَا ... ما لَكَ يا حَجَّاجُ مِنّا مَنْجَى )
( لَتُبْعَجَنَّ بالسيوفِ بَعْجَا ... أوْ لَتَفِرَّنَّ فذاك أَحْجَى )
فوالله لقد كاد أهل الشأم يومئذ يتضعضعون لولا أن ا لله تعالى أيد بنصره
قال وقال أبو جلدة يومئذ
( أيَا لَهْفِي ويا حُزْنِي جميعاً ... ويا غَمَّ الفُؤادِ لِمَا لَقِينَا )
( تَرَكْنَا الدِّينَ والدُّنْيَا جميعاً ... وَخَلَّيْنَا الحلائل والبَنِينا )
( فما كُنَّا أنَاساً أهلَ دِينٍ ... فنصبِرَ للبلاء إذا بُلِينَا )
( ولا كنّا أُناساً أهلَ دُنْيَا ... فنمنَعَهَا وإن لم نَرْجُ دِينا )

( تركنا دُورَنا لطَغامِ عَكٍّ ... وأنْبَاطِ القُرَى والأشْعَرِينا )
قال ابن حبيب وكان أبو جلدة مع القعقاع بن سويد المنقري بسجستان فذم منه بعض ما عامله به فقال فيه
( سَتَعْلَمُ أَنّ رَأيكَ رأيُ سَوْءٍ ... إذا ظِلُّ الإِمارةِ عنك زَالاَ )
( وراح بنو أبيكَ ولستَ فيهم ... بِذي ذِكْرٍ يَزيدُهُمُ جَمالا )
( هناك تَذَكَّرُ الأَسلافَ منهمْ ... إذا اللَّيلُ القصيرُ عليك طالا )
فقال له القعقاع ومتى يطول علي الليل القصير قال إذا نظرت إلى السماء مربعة
فلما عزل وحبس أخرج رأسه ليلة فنظر فإذا هو لا يرى السماء إلا بقدر تربيع السجن فقال هذا والله الذي حذرنيه أبو جلدة

مدح مسمع بن مالك حين ولي سجستان ورثاه حين وفاته
قال وولي مسمع بن مالك سجستان وكان مكث أبي جلدة بها فخرج إليه فتلقاه ومدحه بقصيدته التي أولها
( بانتْ سُعَادُ وأَمْسَى حَبْلُها أنْقَطَعَا ... وَلَيْتَ وَصْلاً لها من حَبْلِها رَجَعَا )
( شَطَّتْ بها غُرْبةٌ زَوْراء نازحةٌ ... فطارتِ النَّفْسُ من وَجْدٍ بِهَا قطَعَا )
( ما قَرّتِ العينُ إذ زالتْ فينفعَها ... طعمُ الرقَاد إذا ما هاجعٌ هَجَعَا )

( منعتُ نفسيَ من رَوْحٍ تعيش به ... وقد أكونُ صحيحَ الصَّدْرِ فأنصدعا )
( غدتْ تَلُوم على ما فاتَ عاذلتي ... وقبلَ لَوْمِكِ ما أغنيتِ مَنْ مَنَعَا )
( مَهْلاً ذَرِيني فإِنِّي غالَني خُلُقي ... وقد أَرى في بلاد اللَّه مُتَّسَعَا )
( فَخْرِي تليدٌ وما أنفقتُ أَخْلَفه ... سيبُ الإِله وخيرُ المال ما نَفَعَا )
( ما عَضّني الدهرُ إِلاَّ زادني كَرَماً ... ولا أستكنتُ له إنْ خان أو خَدَعا )
( ولا تَلِينُ على العِلاّتِ مَعْجَمتِي ... في النائبات إذا ما مسّنِي طَبَعَا )
( ولا تُلَيِّن من عُودِي غمائزُهُ ... إذا المُغَمَّزُ منها لاَنَ أو خَضَعا )
( ولا أخاتِلُ ربَّ البيتِ غَفْلَتَهَ ... ولا أقول لشيءٍ فاتَ ما صَنَعَا )
( إِنِّي لأمدَح أقواماً ذوي حَسَبٍ ... لم يجعلِ اللَّهُ في أقوالهم قَذعا )
( الطيِّبين على العِلاّت مَعْجَمةً ... لو يُعْصَرُ المِسْكُ من أطرافهم نَبَعا )
( بني شِهَابٍ بها أَعْنِي وإِنّهمُ ... لأكرمُ النّاسِ أخلاقاً ومُصْطَنَعَا )
قال فوصله مسمع بن مالك وحمله وكساه وولاه ناشيتكين وكان مكتبه
قال ثم توفي مسمع بن مالك بسجستان فقال أبو جلدة يرثيه

( أقولُ للنَّفْسِ تَأساءً وتَعْزِيةً ... قد كان من مِسْمَعٍ في مالكٍ خَلَفُ )
( يا مِسْمَعَ الخيرِ مَنْ ندعو إذا نزلتْ ... إحْدَى النَّوائب بالأقوامِ واختلفوا )
( يا مِسْمَعَاً لِعِرَاقٍ لا زعيمَ لها ... بمن تُرَى يُؤْمَنُ المُسْتَشِرِفُ النَّطِفُ )
( تلك العيوُن بحيث المصر سادمة ... تبكيك إذ غالك الأكفانُ والجُرُفُ )
( قد وسّدوك يميناً غير موسدة ... وبذل جود لما أودى بك التلف )
( كنتَ الشِّهابَ الذي يُرْمَى العّدُوّ به ... والبَحْرَ منه سِجَالُ الجُودُ تغترفُ )
قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كان أبو جلدة ينادم شقيق بن سليط بن بديل السدوسي أخا بسطام بن سليط وكان لهما أخ يقال له ثعلبة بن سليط وكان ثقيلا بخيلا مبغضا وكان يطفل عليهم ويؤذيهم
فقال فيه أبو جلدة
( أُحِبُّ على لَذَاذتنا شَقِيقاً ... وأُبْغِضُ مثلَ ثعلبةَ الثَّقيل )
( له غَمٌّ على الجُلَسَاءِ مُؤْذٍ ... نَوَافِلُهُ إذا شربوا قليلُ )

مسمع بن مالك يكرمه على شعره
قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي
وفرق مسمع بن مالك في عشيرته بني قيس بن ثعلبة عطايا كثيرة وقربهم وجفا سائر بطون بكر بن وائل
فقال أبو جلدة

( إذا نِلْتَ مالاً قلتَ قيسٌ عَشِيرَتِي ... تجورُ علينا عامداً في قَضَائكَا )
( وإنْ كانتِ الأُخْرَى فبكرُ بن وائلٍ ... بزَعْمِكَ يُخْشَى داؤها بدوائكا )
( هُنَالِكَ لا نَمْشِي الضَّرَاءَ إليكُمُ ... بَنِي مِسْمَعٍ إِنّا هناك أولئكا )
( عسى دولةُ الذُّهْلَيْنِ يوماً ويَشْكُرٍ ... تِكُسرَّ علينا سَبْغةً من عطائكا )
قال فبعث إليه مسمع فترضاه ووصله وفرق في سائر بطون بكر بن وائل على جذمين جذم يقال له الذهلان وجذم يقال له اللهازم
فالذهلان بنو شيبان بن ثعلبة بن يشكر بن وائل وبنو ضبيعة بن ربيعة
واللهازم قيس ابن ثعلبة وتيم اللات بن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة
قال الفرزدق
( وأرضَى بحُكْم الحَيِّ بكرِ بن وائلٍ ... إذّا كان في الذُّهْلَيْنِ أو في اللَّهازِمِ )
قال وقد دخل بنو قيس بن عكابة مع إخوتهم بني قيس بن ثعلبة بن عكابة
وأما حنيفة فلم تدخل في شيء من هذا لانقطاعهم عن قومهم باليمامة في وسط دار مضر وكانوا لا ينصرون بكرا ولا يستنصرونهم
فلما جاء الإسلام ونزل الناس مع بني حنيفة ومع بني عجل بن لجيم فتلهزموا ودخل معهم حلفاؤهم بنو مازن بن جدي بن مالك بن صعب بن علي فصاروا جميعا في اللهازم
وقال موسى بن جابر الحنفي السحيمي بعد ذلك في الإسلام

( وجدنا أبانا كان حَلّ ببَلْدةٍ ... سُوىً بين قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلاَنَ والفِزْرِ )
( فلمّا نأتْ عنَّا العشيرةُ كلُّها ... أقَمْنَا وحالَفْنا السيوفَ على الدهر )
( فما أسلمتْنا بَعْدُ في يومِ وَقْعةٍ ... ولا نحن أَغْمَدْنَا السيوف على وِتْرِ )

هجا جاره سيفا لأنه كان يعربد
وقال ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال
كان لأبي جلدة بسجستان جار يقال له سيف من بني سعد وكان يشرب الخمر ويعربد على أبي جلدة فقال يهجوه
( قُلْ لذَوِي سَيْفٍ وَسَيْفٍ أَلَسْتُمُ ... أَقَلَّ بني سعدٍ حَصَاداً ومَزْرَعَا )
( كأنّكُمُ جِعْلاَنُ دارِ مُقَامةٍ ... عَلَى عَذِرَاتِ الحيِّ أصبحنَ وُقَّعَا )
( لقد نال سيفٌ في سِجِسْتَانَ نُهْزةً ... تَطَاوَلَ منها فوق ما كان إصْبَعا )
( أصابَ الزِّنَا والخمرَ حتّى لقد نَمَتْ ... له سُرَّةٌ تُسْقَى الشَّرابَ المُشَعْشَعا )
( فلولا هَوَانُ الخمرِ ما ذُقْتَ طَعْمَهَا ... ولا سُقْتَ إبريقاً بكَفِّكَ مُتْرَعا )
( كما لم يَذُقْها أنْ تكونَ عزيزةً ... أبوك ولم يُعْرَضْ عليها فَيَطْمَعَا )
( وكان مَكَانَ الكلبِ أو مِنْ ورائه ... إذا ما المُغَنِّي لِلَّذَاذِة أسْمَعا )
قال ابن حبيب وكان أبو جلدة قد استعمله القعقاع بن سويد حين تولى سجستان على بست والرخج فأرجف الناس بالقعقاع وأرجف به أبو جلدة

معهم وكتب القعقاع إليه يتهدده فكتب إليه أبو جلدة
( يُهَدِّدني القعقاعُ في غير كُنْهِهِ ... فقلتُ له بَكْرٌ إذا رُمْتَني تُرْسِي )
( كأنّا وإيَّاكُمْ إذَا الحربُ بيننا ... أُسودٌ عليها الزَّعْفَرانُ مع الوَرْسِ )
( تُرَى كمصابيح الدَّيَاجِي وُجُوهُنا ... إذا ما لُقِينَا والهِرَقْلِيّةِ المُلْسِ )
( هناك السُّعودُ السانحاتُ جَرَتْ لنا ... وتجرِي لكم طيرُ البَوَارِحِ بالنَّحْسِ )
( وما أنتَ يا قَعْقَاعُ إِلاَّ كَمَنْ مَضَى ... كأنكَ يوماً قد نُقِلتَ إلى الرَّمْسِ )
( أظُنّ بِغالَ البُرْدِ تَسْرِي إليكُمُ ... به غَطَفَانِيًّا وإِلاَّ فَمِنْ عَبْسِ )
( وإِلاَّ فبالبسّال يا لَكَ إِنْ سَرَتْ ... به غيرَ مَغْموِز القَناة ولا نِكْسِ )
( فعُمّالُنا أوْفَى وخيرٌ بَقِيّةً ... وعُمَّالُكم أهلُ الخِيَانِةِ واللَّبْسِ )
( وما لبني عَمْروٍ عليّ هَوَادةٌ ... ولا لِلرّبَابِ غيرُ تَعْسٍ من التَّعْسِ )
قال فلما انتهت هذه القصيدة إلى القعقاع وجه برسول إلى أبي جلدة وقال انظر فإن كان كتب هذا الكتاب بالغداة فاعزله وإن كان كتبه بالليل فأقرره على عمله ولا تعزله ولا تضربه
وكان أبو جلدة صاحب شراب فقال للرسول والله ما كتبته إلا بالعشي
فسأله البينة على ذلك فأتاه بأقوام شهدوا له بما قال فأقره على عمله وانصرف عنه

تشبيبه ببنت رجل من الدهاقين
قال ابن حبيب ومر أبو جلدة بقصر من قصور بست ينزله رجل من الدهاقين فرأى ابنته تشرف من أعلى القصر فأنشأ يقول
( إِنَّ في القَصْرِ ذي الخِبَا بَدْرَ تِمٍّ ... حَسَنَ الدَّلِّ للفُؤاد مُصِيبَا )
( وَلِعاً بالخَلُوق يَأْرَجُ منه ... ريحُ رَنْدٍ إذا اسْتَقَلَّ مُنِيبَا )
( يَلْبَس الخَزَّ وَالمَطَارِفَ والقَزَّ ... وَعَصْباً من اليَمَانِي قَشِيبَا )
( ورأيتُ الحبيبَ يُبْرِزُ كَفًّا ... ما رآه المُحِبُّ إِلاَّ خَضِيبَا )
فبلغ ذلك من قوله الدهقان فأهدى له وبره وسأله ألا يذكر ابنته في شعر بعد ذلك
قال ابن حبيب ولحق أبا جلدة ضيم من بعض الولاة فهتف بقومه فلم يقدروا على منعه منه ولا معونته رهبة للسلطان فهتف بأعلى صوته يا مسمع ابن مالك يا أمير بن أحمر ثم أنشأ يقول
( ولمّا أنْ رَأيتُ سَرَاةَ قومِي ... سُكوتاً لا يثوبُ لهم زعيمُ )
( هتفتُ بمِسْمَعٍ وَصَدَى أمِيرٍ ... وقَبْرِ مُعَمَّرٍ تلك القرومُ )
قال فأبكى جميع من حضر وقاموا جميعا إلى الوالي فسألوه في أمره حتى كف عنه
قال وأمير بن أحمر رجل من بني يشكر وكان سيدا جوادا

وفيه يقول زياد الأعجم
( لولاَ أَمِيرٌ هَلَكتْ يَشْكُرٌ ... ويَشْكُرٌ هَلْكَى على كلِّ حالْ )
قال أبن الأعرابي كان أمير بن أحمر واليا على خراسان في أيام معاوية
ومعمر الذي عناه أبو جلدة معمر بن شمير بن عامر بن جبلة بن ناعب بن صريم وكان أمير سجستان وكان سيدا شريفا

شعره بعد ان ابت خليعة بنت صعب الزواج منه
وقال خطب أبو جلدة أمرأة من بني عجل يقال لها خليعة بنت صعب فأبت أن تتزوجه وقالت أنت صعلوك فقير لا تحفظ مالك ولا تلفي شيئا إلا أنفقته في الخمر وتزوجت غيره
فقال أبو جلدة في ذلك
صوت
( لمّا خَطَبتُ إلى خَلِيعةَ نفسَها ... قالت خليعةُ ما أرَى لك مالا )
( أوْدَى بمالِي يا خَلِيعُ تَكَرُّمِي ... وَتَخَرُّقِي وَتَحَمُّلِي الأثقالاَ )
( إِنِّي وَجَدِّكِ لو شَهِدْتِ مَوَاقِفي ... بالسَّفْحِ يومَ أُجَلِّلُ الأبطالاَ )
( سَيْفِي لَسَرَّكِ أنْ تكوني خادماً ... عندي إذا كَرِه الكُماةُ نِزَالاَ )

الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي من كتاب علي بن يحيى
قال أبو سعيد السكري وعمر بن سعيد صاحب الواقدي
إن أبا جلدة كان في قرية من قرى بست يقال لها الخيزران ومعهم عمرو ابن صوحان أخو صعصعة في جماعة يتحدثون ويشربون إذ قام أبو جلدة ليبول فضرط وكان عظيم البطن فتضاحك القوم منه فسل سيفه وقال لأضربن من لا يضرط في مجلسه هذا ضربة بسيفي أمني تضحكون لا أم لكم فما زال حتى ضرطوا جميعا غير عمرو بن صوحان
فقال له قد علمت أن عبد القيس لا تضرط ولك بدلها عشر فسوات
قال لا والله أو تفصح بها فجعل عمرو يجثي وينحني فلا يقدر عليها فتركه
وقال أبو جلدة في ذلك
( أمِنْ ضَرْطةٍ بالخَيْزُرَانِ ضَرَطْتُها ... تَشَدّد منِّي دارةً وتَلِينُ )
( فما هُوَ إِلاَّ السيفُ أو ضَرْطةٌ لها ... يثور دُخَانٌ ساطعٌ وطنينُ )
قال ولعمرو بن صوحان يقول أبو جلدة اليشكري وطالت صحبته إياه فلم يظفر منه بشيء
( صاحبت عمراً زماناً ثم قلتُ له ... الْحَقْ بقومك يا عمرُو بنَ صُوحانا )
( فإِنْ صَبَرْت فإِنّ الصبرَ مَكْرُمةٌ ... وإنْ جَزِعت فقد كان الّذي كانا )

تهاجى هو وزياد الأعجم
قال ابن سعيد وحدثني أبو صالح قال
بلغ أبا جلدة أن زيادا الأعجم هجا بني يشكر فقال فيه

( لا تَهْجُ يَشْكُرَ يا زيادُ ولا تكنْ ... غَرَضاً وأنت عن الأذى في مَعْزِلِ )
( واعْلَمْ بأنّهم إذا ما حُصِّلُوا ... خيرٌ وأكرمُ من أبيك الأعْزَلِ )
( لولا زعيمُ بني المُعَلَّى لم نَبِتْ ... حتَّى نُصَبِّحَكم بجيشٍ جحْفَل )
( تمشِي الضَّرَاءَ رجالُهم وكأنّهم ... أُسْدُ العَرِينِ بكلّ عَضْبٍ مُنْصُلِ )
( فاحْذَرْ زِيادُ ولا تكنْ ذا تُدْرَأٍ ... عند الرِّجالِ ونُهْزةً للخُتَّلِ )
وقال ابن حبيب كان سليمان بن عمرو بن مرثد البكري صديقا لأبي جلدة وكان فارسا شجاعا وقتله ابن خازم لشيء بلغه فأنكره وفيه يقول أبو جلدة
( إذا كنتَ مُرْتاداً نديماً مُكَرَّراً ... نَمَاه سَرَاةٌ من سَرَاةِ بني بكرِ )
( فلا تَعْدُ ذا العَلْيَا سُلَيمانَ عامداً ... تَجِدْ ماجداً بالجُودِ مُنْشَرِحَ الصدرِ )
( كريماً على عِلاَّتِه يبذُلِ النَّدَى ... ويَشْرَبها صهباءَ طَيِّبةَ النَّشْرِ )
( مُعَتَّقةً كالمِسْكِ يُذْهِبُ ريحُها الزُّكَامَ ... وتدعو المرءَ للجُود بالوَفْرِ )
( وتترك حاسي الكأسِ منها مُرَنَّحاً ... يَمِيدُ كما مادَ الأثيمُ من السكرِ )

( تلوحُ كعَيْنِ الدِّيكِ ينزُو حَبَابُها ... إذا مُزِجتْ بالماء مثلَ لَظَى الجَمْرِ )
( فتِلك إذا نادمتُ من آلِ مَرْثَدٍ ... عليها نديماً ظلَّ يَهْرِف بالشِّعْر )
( يُغَنِّيكَ تاراتٍ وطوراً يَكُرُّها ... عليكَ بحَيَّاكَ الإِلهُ ولا يدرِي )
( تَعَوَّد أَلاَّ يَجْهَلَ الدَّهْرَ عندها ... وأن يبذُلَ المعروفَ في العُسْرِ واليسر )
( وإنّ سليمانَ بن عَمْرِو بن مَرْثَدٍ ... تَأَلَّى يميناً أن يَرِيِشَ ولا يَبْرِي )
( فهِمَّتُهُ بَذْلُ النَّدَى وأبْتِنَا العُلاَ ... وضربُ طُلَى الأبطالِ في الحرب بالبُتْرِ )
( وفي الأمْنِ لا ينفكُّ يَحْسُو مُدَامةً ... إذا ما دجا ليلٌ إلى وَضَح الفَجْرِ )
قال فلما بلغت سليمان هذه الأبيات قال هجاني أخي وما تعمد لكنه يرى أن الناس جميعا يؤثرون الصهباء كما يؤثرها هو ويشربونها كما يشربها
وبلغ قوله أبا جلدة فأتاه فاعتذر إليه وحلف أنه لم يتعمد بذلك ما يكرهه وينكره
قال قد علمت بذلك وشهدت لك به قبل أن تعتذر وقبل عذره
وقال ابن حبيب سأل أبو جلدة الحضين بن المنذر الرقاشي شيئا فلم يعطه إياه وقال لا أعطيه ما يشرب به الخمر
فقال أبو جلدة يهجوه
( يا يومَ بُؤْسٍ طلعتْ شَمْسُه ... بالنَّحْسِ لا فارقتَ رأسَ الحُضَيْنِ )
( إِنّ حُضَيْناً لم يَزَلْ باخلاً ... مُذْ كان بالمعروفِ كَزَّ اليَدَيْنِ )
فبلغ الحضين قول أبي جلدة فقال يجيبه

( عَضَّ أبو جِلْدَةَ من أُمِّهِ ... مُعْتَرِضاً ما جاوزَ الأَسْكَتَيْنِ )
( بَظْراً طويلاً غاشياً رأسُه ... أعْقَف كالمِنْجَلِ ذَا شُعْبَتيْنِ )
وقال أبو جلدة في حضين أيضا
( لَعَمْرُكَ إِنِّي يوم أُسْنِدُ حاجتي ... إِليكَ أبا سَاسَانَ غيرُ مُسَدَّدِ )
( فلا عالمٌ بالغَيْبِ مِنْ أين ضَرُّه ... ولا خائفٌ بَثَّ الأحاديثِ في غَدِ )
( فليتَ المَنَايَا حَلَّقتْ بي صُروفُها ... فلم أطْلُبِ المعروفَ عند المُصَرِّدِ )
( فلو كنتَ حُرًّا يا حُضَيْنُ بنَ مُنْذِرٍ ... لَقُمْتَ بحاجاتي ولم تَتَبَلَّد )
( تَجَهَّمْتني خوف القِرَى واطَّرَحْتني ... وكنتَ قصيرَ الباعِ غير المُقَلَّد
( ولم تَعْدُ ما قد كنتَ أهلاً لِمِثْلهِ ... من اللُّؤْمِ يابن المُسْتَذَلِّ المُعَبَّدِ )

هجا الحضين بن المنذر فتهدده بنو رقاش
قال فبلغ أبا جلدة أن بني رقاش تهددوه بالقتل لهجائه الحضين بن منذر فقال
( تُهَدِّدُني جهلاً رَقَاشِ وليتَني ... وكلَّ رقاشيٍّ على الأرض في الحَبْلِ )
( فبِاسْتِ حُضَيْنٍ واسْتِ أُمٍّ رمتْ به ... فبئس مَحَلُّ الضَّيْفِ في الزَّمنِ المَحْلِ )
( وإِنْ أنا لم أتْرُكْ رَقَاشِ وَجَمْعَهُمْ ... أذَلَّ على وَطْء الهَوَانِ من النَّعْلِ )
( فَشَلَّتْ يَداي واتبعْتُ سوى الهُدَى ... سبيلاً ولا وُفِّقْتُ للخير والفضلِ )

( عِظَامُ الخُصَى ثُطُّ اللِّحَى مَعْدِنُ الخَنَا ... مَبَاخِيلُ بالأْزوادِ في الخِصْبِ والأَزْلِ )
( إِذا أمنوا ضَرَّاء دهرٍ تَعَاظَلُوا ... عِظال الكلابِ في الدُّجُنَّة والوَبْلِ )
( وإنْ عَضَّهُمْ دهرٌ بنَكْبَةِ حادثٍ ... فأَخْوَرُ عِيداناً من المَرْخِ والأَثْلِ )
( أسُودُ شَرىً وَسْطَ النَّدِيِّ ثَعَالِبٌ ... إذا خَطَرتْ حربٌ مَرَاجِلُها تَغْلِي )

وصفه لدهقانة كان يختلف إليها
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال
عشق أبو جلدة اليشكري دهقانة ببست وكان يختلف إليها ويكون عندها دائما وقال فيها
( وكأسٍ كأنّ المِسْكَ فيها حسوتُها ... وَنَازَعَنِيها صاحبٌ لي مُلَوَّمُ )
( أغَرُّ كأنّ البَدْرِ سُنَّةُ وَجْهِهِ ... له كَفَلٌ وافٍ وَفَرْعٌ وَمَبْسِمُ )
( يُضِيء دُجَى الظَّلْمَاءِ رَوْنَقُ خَدِّه ... وينجابُ عنه الليلُ والليلُ مظلمُ )
( وثَدْيانِ كالحُقَّيْن والمَتْنُ مُدْمَجٌ ... وجِيدٌ عليه نسْقُ دُرٍّ مُنَظَّمُ )
( وبطنٌ طواه اللَّه طَيًّا ومَنْطِقٌ ... رَخِيمٌ ورِدْفٌ نِيطَ بِالحَقْوِ مُفْأمُ )

( به تَبَلَتْني واسْتَبَتْني وغادرتْ ... لَظَىً في فُؤادي نارُها تتضَرمُ )
( أبِيتُ بها أَهِذِي إذا الليلُ جَنَّني ... وأُصْبِحُ مبهوتاً فما أتكلّم )
( فمَنْ مُبْلِغٌ قَومِي الدُّنَا أنّ مُهْجَتِي ... تَبِينُ لئن بانت أَلاَ تَتَلَوّم )
( وَعَهْدِي بها واللَّهُ يُصْلِحُ بالَهَا ... تجودُ على مَنْ يَشْتَهِيها وتُنْعِمُ )
( فما بالُها ضَنَّتْ عليَّ بوُدّها ... وقلبي لها يا قوم عانٍ مُتَيَّمُ )
قال فلما بلغها الشعر سألت عن تفسيره ففسر لها
فلما انتهى المفسر إلى هذين البيتين الأخيرين غضبت فقالت أنا زانية كما زعم إن كلمته كلمة أبدا
أو كلما اشتهاني إنسان بذلت له نفسي وأنعمت من روحي إذا أي أنا إذا زانية
فصرمته فلم يقدر عليها وعذب بها زمانا ثم قال فيها لما يئس منها
( صحا قلبي وأقْصَرَ بعد غَيٍّ ... طويلٍ كان فيه من الغَوَانِي )
( بأنْ قصَد السبيلَ فباع جهلاً ... بُرْشدٍ وارتَجَى عُقْبَى الزَّمانِ )
( وخاف الموتَ واعتصَم ابنُ حُجْرٍ ... من الحُبِّ المبرِّح بالجَنَانِ )
( وقِدْماً كان مُعْتَرِماً جَمُوحاً ... إلى لَذّاتِهِ سَلِسَ العِنَانِ )
( وأقلعَ بعد صَبْوَتِهِ وأضحَى ... طويلَ اللَّيلِ يَهْرِف بالقُرَانِ )
( ويدعو اللَّهَ مجتهداً لكيما ... ينالَ الفَوْزَ من غُرَفِ الجِنَانِ )
قال ابن حبيب قال أبو عبيدة
كان يزيد بن المهلب يتهم بالنساء
فقال فيه أبو جلدة

( إذا اعتكرتْ ظلماءُ ليلٍ ونَوَّمتْ ... عيونُ رجالٍ واستلذُّوا المَضَاجِعَا )
( سما نحوَ جارِ البيتِ يَسْتامُ عِرْسَه ... يزيدُ دبيباً للمعاناة قابعا )
( وإنْ أمكنتْه جارةُ البيتِ أوْ رَنتْ ... إليه أتاها بعد ذلك طائعا )
فشاعت الأبيات ورواها الناس لقتادة بن معرب
فقال أبو جلدة
( أبا خالدٍ رُكْنِي ومَنْ أنا عبدُه ... لقد غالني الأعداءُ عمداً لِتَغْضَبا )
( فإنْ كنتُ قلتُ اللَّذْ أتاك به العِدَا ... فشَلَّتْ يدي اليُمْنَى وأصبحتُ أَعْضبَا )
( ولا زِلتُ محمولاً عليَّ بَلِيّةٌ ... وأمسيتُ شِلواً للسِّباع مُتَرَّبَا )
( فلا تَسْمَعَنْ قولَ العِدَا وَتَبَيَّنَنْ ... أبا خالدٍ عُذْراً وإنْ كنتَ مُغْضَبا )

البعيث يحيل رأيه فيه إلى قتادة بن معرب
وقال ابن حبيب قال رجل للبعيث أي رجل هو أبو جلدة فقال قتادة بن معرب أعرف به حيث يقول
( إِنّ أبا جِلْدَةَ من سُكْرِهِ ... لا يعرِف الحقَّ من الباطلِ )
( يزدادُ غَيًّا وانْهِماكاً ولا ... يسمَع قولَ الناصحِ العاذلِ )
( أعيا أبوه وبنو عَمِّه ... وكان في الذِّرْوَة مِنْ وائل )

( فليتَه لم يَكُ من يَشْكُرٍ ... فبئسَ خِدْنُ الرجلِ العاقلِ )
( أعْمَى عَن الحقِّ بصيرٌ بما ... يعرفه كلُّ فتىً جاهلِ )
( يُصْبِحُ سَكْرَانَ ويُمْسي كما ... أصْبَحَ لا أُسْقِي مِنَ الوابل )
( شَدّ رِكَابَ الغَيّ ثم اغتدَى ... إلى التي تُجْلَبُ من بابِلِ )
( فالسِّجْنُ إِنْ عاش له مَنْزِلٌ ... والسِّجْنُ دارُ العاجِزِ الخامِلِ )

مناقضته لقتادة بن معرب
وقال أبو جلدة يجيبه
( قَبُحْتَ لو كنتَ امرأً صالحاً ... تَعْرِفُ ما الحقُّ من الباطِلِ )
( كَفَفْتَ عن شَتْمِي بلا إِحنةٍ ... ولم تَوَرَّط كِفّةَ الحابِلِ )
( لكنْ أبتْ نَفْسُك فعلَ النُّهَى ... والحَزْمِ والنَّجْدَةِ والنائِلِ )
( فتحتَ لي بالشَّتْم حتى بَدَا ... مكنونُ غِشٍّ في الحَشَا داخِلِ )
( فاجْهَدْ وَقُلْ لا تَتَّرِكْ جاهداً ... شَتْمَ امرىءٍ ذي نَجْدةٍ عاقِلِ )
( تَعْذُِلني في قَهْوةٍ مُزَّةٍ ... دِرْيَاقةٍ تُجْلَبُ من بابِلِ )
( ولَوْ رآها خَرَّ مِنْ حُبِّها ... يَسْجُدُ للشيطانِ بالباطلِ )
( يا شَرَّ بَكْرٍ كلِّها مَحْتِداً ... ونُهْزَةَ المختلِس الآكِلِ )
( عِرْضَكَ وَفِّرْهُ وَدَعْنِي وما ... أهواهُ يا أحْمَقَ من باقِلِ )

قال ابن حبيب كان أبو جلدة يشرب مع ابن عم له من بكر بن وائل فسكر نديمه فعربد عليه وشتمه فاحتمله أبو جلدة وسقاه حتى نام وقال في ذلك
( أبَى لِيَ أنْ ألْحَى نَدِيمي إذا انْتَشَى ... وقال كلاماً سيِّئاً لي على السُّكْرِ )
( وَقَارِي وعلْمِي بالشَّرابِ وأهلِهِ ... وما نادمَ القومَ الكرامَ كَذِي الحِجْر )
( فلستُ بِلاَحٍ لِي نديماً بزَلَّةٍ ... ولا هَفْوَةٍ كانت ونحن على الخمرِ )
( عَرَكْتُ بجَنْبِي قول خِدْنِي وصاحبي ... ونحنُ على صَهْبَاءَ طَيِّبةِ النَّشْرِ )
( فلمّا تمادَى قلتُ خُذْهَا عَرِيقةً ... فإنّك من قومٍ جَحَاجِحَةٍ زُهْرِ )
( فما زِلْتُ أَسْقِيهِ وأشرَب مثلَ ما ... سَقَيْتُ أَخِي حتّى بَدَا وَضَحُ الفَجرِ )
( وأيقنتُ أنّ السُّكْرَ طارَ بلُبِّهِ ... فأغرقَ في شَتْمِي وقال وما يَدْرِي ) وَلاَكَ لِساناً كان إذْ كان صاحياً يقلِّبه في كلِّ فَنٍّ من الشِّعْرِ

أبى رجل من قومه أن ينادمه فقال شعرا
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال
كان أبو جلدة اليشكري قد خرج إلى تستر في بعث فشرب بها في حانة مع رجل من قومه كان ساكنا بها
ثم خرج عنها بعد ذلك وعاد إلى بست

والرخج وكان مكتبه هناك فأقام بها مدة ثم لقي بها ذلك الرجل الذي نادمه بتستر ذات يوم فسلم عليه ودعاه إلى منزله فأكلا ثم دعا بالشراب ليشربا فامتنع الرجل وقال إني قد تركتها لله
فقال أبو جلدة وهو يشرب
( ألاَ رُبَّ يومٍ لي ببُسْتَ وليلةٍ ... ولا مِثْلَ أيّامِي المَوَاضِي بتُسْتَرِ )
( غَنِيتُ بها أَسْقِي سُلاَفَ مُدَامَةٍ ... كريمَ المُحَيَّا مِنْ عَرَانِينِ يَشْكُرِ )
( نُبَادِرُ شُرْبَ الراحِ حتّى نَهُرَّها ... وتَتْرُكَنَا مثلَ الصَّرِيعِ المُعَفَّرِ )
( فذلك دهرٌ قد تولَّى نعيمُهُ ... فأصبحتُ قد بُدِّلْتُ طولَ التَّوَقُّرِ )
( فَرَاجَعني حِلْمِي وأصبحتُ منهج الشّراب ... وقِدْماً كنتُ كالمتحيِّر )
( وكل أوان الحق أبصرتُ قَصْدَه ... فلستُ وإن نُبِّهتُ عنه بِمُقْصِرِ )
( سأرْكُضُ في التَّقَوى وفي العِلْمِ بعدَما ... ركضتُ إلى أمر الغَوِيِّ المُشَهَّرِ )
( وباللَّه حَوْلِي واحْتِيالي وقُوّتي ... ومَنْ عَندَه عُرْفِي الكثيرُ ومُنْكَرِي )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن الحارث المدائني قال مر مسمع بن مالك بأبي جلدة فوثب إليه وأنشأ يقول
( يا مِسْمَعُ بنَ مالكٍ يا مِسْمَعُ ... أنت الجوادُ والخطيبُ المِصْقَعُ )
( فاصْنَعْ كما كان أبوك يَصْنَعُ ... )
فقال له رجل كان جالسا هناك إن قبل منك والله يا أبا جلدة ناك أمه
فقال له وكيف ذلك ويحك قال لأنك أمرته أن يصنع كما كان أبوه يصنع

هجا مقاتل بن مسمع لأنه لم يعطِه
وقال أبو عمرو الشيباني كان مسمع بن مالك يعطي أبا جلدة فقال فيه
( يسعَى أُناسٌ لكَيْما يُدْرِكوكَ ولو ... خاضُوا بِحارَك أو ضَحْضَاحَها غرِقوا )
( وأنت في الحربِ لا رَثُّ القُوَى بَرِمٌ ... عند اللِّقاءِ ولا رِعْدِيدةٌ فَرِقُ )
( كلُّ الخِلاَل الَّتي يسعَى الكرامُ لها ... إِنْ يمدَحوكَ بها يوماً فقد صدَقُوا )
( ساد العِرَاقَ فحالُ الناسِ صالحةٌ ... وسادَهم وزمانٌ الناسِ مُنْخَرِقُ )
( لا خارجيٌّ ولا مُسْتَحْدثٌ شَرَفاً ... بل مجدُ آلِ شِهابٍ كان مذ خُلِقوا )
قال ثم مدح مقاتل بن مسمع طمعا في مثل ما كان مسمع يعطيه فلم يلتفت إليه وأمر أن يحجب عنه
فقيل له تعرضت للسان أبي جلدة وخبثه
فقال ومن هو الكلب وما عسى أن يقول قبحه الله وقبح من كان منه فليجهد جهده
فبلغ ذلك من قوله أبا جلدة فقال يهجوه
( قَرَى ضَيْفَه الماءَ القَراحَ أبنُ مِسْمَعٍ ... وكان لئيماً جارُه يَتَذَلَّل )
( فلمّا رأى الضيفُ القِرَى غيرَ راهنٍ ... لديه تولَّى هارباً يَتَعَلَّلُ )
( يُنَادِي بأعلَى الصوتِ بَكْرَ بْنَ وائِلٍ ... ألاَ كُلُّ مَن يرجو قِراكم مَضَلَّلُ )
( عَمِيدُكُمُ هَرَّ الضيوفَ وكنتمُ ... ربيعةُ أمسى ضيفُكم يتحوَّل )
( وختْتُمْ بأنْ تَقْرُوا الضيوفَ وكنتمُ ... زماناً بِكُمْ يَحْيَا الضَّرِيكُ المُعَيِّلُ )

حذف

( فما بالُكُمْ باللَّه أنتم بَخِلْتُمُ ... وقَصَّرتُمُ والضيفُ يُقْرَى ويُنْزَلِ )
( وَيُكْرَمُ حَتّى يُقْتَرَى حين يُقْتَرَى ... يقول إذا ولَّى جميلاً فيُجْمِلُ )
( فَمَهْلاً بني بَكْرٍ دَعُوا آلَ مِسْمَعٍ ... ورَأْيَهُمُ لا يَسْبِقُ الخيلَ مُحْثَلُ )
( ودُونَكُمُ أضيافَكُمْ فَتحدَّبُوا ... عليهمْ ووَاسُوهُمْ فذلك أجملُ )
( ولا تُصْبِحُوا أُحْدوثةً مثلَ قائلٍ ... به يَضرِبُ الأمثالَ مَنْ يَتَمَثَّلُ )
( إذا ما التقَى الرُّكْبَانُ يوماً تذاكروا ... بَنِي مِسْمَعٍ حتَّى يُحَمُّوا ويَثْقُلُوا )
( فلا تَقْرَبُوا أبياتَهم إنّ جارَهُمْ ... وَضَيْفَهُمُ سِيَّانِ أَنَّى تَوَسّلوا )
( هُمُ القومُ غَرَّ الضيفَ منهم رُوَاؤهُمْ ... وما فيهمُ إِلاَّ لئيمٌ مُبَخَّلُ )
( فلَوْ ببني شَيْبَانَ حَلَّتْ رَكَائبي ... لكان قِرَاهُمْ راهناً حين أَنْزِلُ )
( أُولئك أَوْلَى بالمَكَارِمِ كلِّها ... وأجْدَرُ يوماً أن يُوَاسُلوا وَيُفْضِلُوا )
( بني مِسْمَعٍ لا قرَّب اللَّهُ دارَكم ... ولا زال واديكم من الماء يُمْحِلُ )
( فلم تَرْدَعُوا الأبطالَ بالبِيضِ والقَنَا ... إذا جعلتْ نارُ الحُرُوبِ تَاكَّلُ )

أخبار علويه ونسبه
هو علي بن عبد الله بن سيف
وكان جده من السغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفان واسترق منهم جماعة اختصهم بخدمته وأعتق بعضهم ولم يعتق الباقين فقتلوه
وذكر ابن خرداذبه وهو ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه أنه من أهل يثرب مولى بني أمية والقول الأول أصح
ويكنى علويه أبا الحسن وكان مغنيا حاذقا ومؤدبا محسنا وصانعا متفننا وضاربا متقدما مع خفة روح وطيب مجالسة وملاحة نوادر
وكان إبراهيم الموصلي علمه وخرجه وعني به جدا فبرع وغنى لمحمد الأمين وعاش إلى أيام المتوكل ومات بعد إسحاق الموصلي بمديدة يسيرة
وكان سبب وفاته أنه خرج به جرب فشكاه إلى يحيى بن ماسويه فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء فشرب الطلاء واطلى بالدواء المسهل فقتله ذلك
وكان إسحاق يتعصب له في أكثر أوقاته على مخارق
فأما التقديم والوصف فلم يكن إسحاق يرى أحدا من جماعته لهما أهلا فكانوا يتعصبون عليه لإبراهيم بن المهدي فلا يضره ذلك مع تقدمه وفضله

رأي إسحاق الموصلي فيه وفي مخارق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قلت لأبي إيما أفضل عندك مخارق أو علويه فقال يا بني علويه أعرفهما فهما بما يخرج من رأسه وأعلمهما بما يغنيه ويؤديه ولو خيرت بينهما من يطارح جواري أو شاورني من يستنصحني لما أشرت إلا بعلويه لأنه كان يؤدي الغناء وصنع صنعة محكمة
ومخارق بتمكنه من حلقه وكثرة نغمه لا يقنع بالأخذ منه لأنه لا يؤدي صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيه مرتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه
ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس والجائزة لطيب صوته وكثرة نغمه
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني أبي قال اجتمعت مع إسحاق يوما في بعض دور بني هاشم وحضر علويه فغنى أصواتا ثم غنى من صنعته
صوت
( ونُبِّئْتُ ليلَى أرسلتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهَلاَّ نَفْسُ ليلى شَفِيعُها )
ولحنه ثاني ثقيل فقال له إسحاق أحسنت والله يا أبا الحسن أحسنت ما شئت
فقام علويه من مجلسه فقبل رأس إسحاق وعينيه وجلس بين يديه وسر بقوله سرورا شديدا ثم قال أنت سيدي وابن سيدي وأستاذي وابن أستاذي ولي إليك حاجة
قال قل فوالله إني أبلُغُ فيها ما تُحِبّ

قال أيما أفضل عندك أنا أو مخارق فإني أحب أن أسمع منك في هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر فتشرفني به
فقال إسحاق ما منكم إلا محسن مجمل فلا ترد أن ترى في هذا شيئا
قال سألتك بحقي عليك وبتربية أبيك وبكل حق تعظمه إلا حكمت
فقال ويحك والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب فأما إذ أبيت إلا ما ذكرت فهاك ما عندي فلو خيرت أنا من يطارح جواري أو يغنيني لما اخترت غيرك ولكنما إذا غنيتما بين يدي خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبد عليك بجائزته
فغضب علويه وقام وقال أف من رضاك ومن غضبك
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
قدمت من سر من رأى قدمة إلى بغداد فلقيت أبا محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي فجعل يسألني عن أخبار الخليفة وأخبار الناس حتى انتهى إلى ذكر الغناء فقال أي شيء رأيت الناس يستحسونه في هذه الأيام من الأغاني فإن الناس ربما لهجوا بالصوت بعد الصوت فقلت صوتا من صنعتك
فقال أي شيء هو فقلت
صوت
( ألاَ يا حَمَامَيْ قَصْرِ دُورَانَ هِجْتُما ... بقَلْبِي الهَوَى لَمّا تَغَنَّيْتُمَا لِيَا )
( وأبْكَيْتُمَانِي وَسْطَ صَحْبِي ولم أكُنْ ... أُبالِي دموعَ العينِ لو كنتُ خاليا )
فضحك وقال ليس هذا لي هذا لعلويه ولقد لعمري أحسن فيه وجود ما شاء
لحن علويه في هذين البيتين ثاني ثقيل بالوسطى

كان أصحابه يتحلقون حوله فيغنيهم
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني أحمد بن محمد بن عبد الله الأبزاري قال
أتيت علويه يوما بالعشي فوجدت عنده خاقان بن حامد وعبد الله بن صالح صاحب المصلى وكنت حملت معي قفص فراريج كسكرية مسمنة وجرابي دقيق سميذ فسلمته إلى غلامه وبعث إلى بشر بن حارثة أطعمنا ما عندك فلم يزل يطعمنا فضلات حتى أدرك طعامه ثم بعث إلى عبد الوهاب بن الخصيب بن عمرو فحضر وقدم الطعام فأكل وأكلنا أكل معذرين ثم قال إني صنعت البارحة لحنا أعجبني فاسمعوه وقولوا فيه ما عندكم وغنانا فقال
صوت
( هَزِئتْ عُمَيْرَةُ أنْ رأتْ ظهري انْحَنَى ... وذُؤابتي عُلّتْ بماء خِضَابِ )
( لا تَهْزَئِي منّي عُمَيْرَُ فإِنّني ... مَحْضٌ كريمٌ شيبتي وَشَبابي )
لحن علويه في هذين البيتين من الثقيل الثاني بالوسطى فقلنا له حسن والله جميل يا أبا الحسن وشربنا عليه أقداحا
ثم استؤذن لعثعث غلام أحمد بن يحيى بن معاذ فأذن له ومع عثعث كتاب من مولاه أحمد بن يحيى سمعت يا سيدي منك صوتا عند أمير المؤمنين يعني المعتصم فأحب أن تتفضل وتطرحه على عبدك عثعث
وهو

صوت
( فواحَسْرَتَا لم أَقضِ منكِ لُبانةً ... ولم أَتَمَتَّعْ بالجِوارِ وبالقُرْبِ )
( يقولون هذا آخرُ العهدِ منهمُ ... فقلتُ وهذا آخِرُ العهدِ من قلبي )
لحن علويه في هذا الشعر ثقيل أول وهو من مقدم أغانيه وصدورها
وأوّل هذا الصوت
( ألا يا حَمَامَ الشِّعْبِ شِعْب مُوَرّقٍ ... سقتْكَ الغَوادِي من حمامٍ ومن شِعْبِ )
قال وإذا مع حسين رقعة من مولاه سمعتك يا سيدي تغني عند الأمير أبي إسحاق إبراهيم بن المهدي
( ألاَ يَا حَمَامَيْ قَصْرِ دُورَانَ هِجْتُمَا ... بقلبي الهَوَى لَمّا تَغَنَّيْتُمَا لِيَا )
أحب أن تطرحه على عبدك حسين
قال فدعا بغلام له يسمى عبد آل فطرحه عليهما حتى أحكماه ثم عرضاه عليه حتى صح لهما
فما أعلم أنه مر لنا يوم يقارب طيب ذلك اليوم وحسنه
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
سمعت أبي يقول سمعت الواثق يقول علويه أصح الناس صنعة بعد إسحاق وأطيب الناس صوتا بعد مخارق وأضرب الناس بعد ربرب وملاحظ فهو مصلي كل سابق قادر وثاني كل أول واصل متقدم
قال

وكان الواثق يقول غناء علويه مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته
نسخت من كتاب أبي العباس بن ثوابة بخطه حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال
اجتمعت يوما بين يدي المعتصم وحضر إسحاق الموصلي فغنىعلويه
( لِعَبْدَةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدارُ ... تلوح مَغَانِيها كما لاح أَسْطَارُ )
فقال إسحاق أخطأت فيه ليس هو هكذا
فغضب علويه وقال أم من أخذنا عنه هكذا زانية
فقال إسحاق وشتمنا قبحه الله وسكت وبان ذلك فيه
قال وكان علويه أخذه من أبيه

كان أعسر وعوده مقلوب الأوتار
حدثني عمي قال حدثنا هارون بن مخارق قال
كان علويه أعسر وكان عوده مقلوب الأوتار البم أسفل الأوتار كلها ثم المثلث فوقه ثم المثنى ثم الزير وكان عوده إذا كان في يد غيره مقلوبا على هذه الصفة وإذا كان معه أخذه باليمنى وضرب باليسرى فيكون مستويا في يده ومقلوبا في يد غيره
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال كان الخلنجي القاضي واسمه عبد الله ابن محمد
ابن اخت علويه المغني وكان تياها صلفا فتقلد في خلافة

الأمين قضاء الشرقية فكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين المسجد فيستند إليها بجميع جسده ولا يتحرك فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله
فعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع ذنبته بالدبق ومكن منها الدبق
فلما تقدم إليه الخصوم وأقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل انكشف رأسه وبقيت الذنبة موضعها مصلوبة ملتصقة فقام الخلنجي مغضبا وعلم أنها حيلة وقعت عليه فغطى رأسه بطيلسانه وقام فانصرف وتركها مكانها حتى جاء بعض أعوانه فأخذها
وقال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات
( إِنّ الخَلَنْجِيَّ من تَتَايُهِهِ ... أثقلُ بادٍ لنا بِطَلْعَتِهِ )
( ما إنْ لِذِي نَخْوَةٍ مُنَاسَبةٌ ... بين أخاوينه وقَصْعته )
( يُصالح الخَصْمُ مَنْ يُخَاصِمُه ... خوفاً من الجَوْرِ في قَضيَّتِهِ )
( لو لَمْ تُدَبِّقْهُ كَفُّ قَانِصِهِ ... لطارَ تِيهاً على رَعِيّتِهِ )
قال وشهرت الأبيات والقصة ببغداد وعمل له علويه حكاية أعطاها للزفانين والمخنثين فأحرجوه فيها وكان علويه يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه واستعفى الخلنجي من القضاء ببغداد وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة فولي جند دمشق أو حمص
فلما ولي المأمون الخلافة غناه علويه

بشعر الخلنجي فقال
( بَرِئتُ مِنَ الإِسْلاَمِ إِنْ كان ذا الّذي ... أتاكِ به الواشون عنِّي كما قالوا )
( ولكنَّهم لمَّا رأوكِ غَرِيَّةً ... بهجْرِي تَوَاصَوا بالنميمةِ واحتالوا )
( فقد صِرْتِ أُذْناً للوُشَاةِ سميعةً ... ينالُون من عِرْضِي وإن شئتِ ما نالوا )
فقال له المأمون من يقول هذا الشعر فقال قاضي دمشق
فأمر المأمون بإحضاره فكتب إلى صاحب دمشق بإشخاصه فأشخص وجلس المأمون للشرب وأحضر علويه ودعا بالقاضي فقال له أنشدني قولك
( بَرِئْتُ من الإِسلامِ إن كان ذا الذي ... أتاكِ به الواشون عني كما قالوا )
فقال له يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها منذ أربعين سنة وأنا صبي والذي أكرمك بالخلافة وورثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق
فقال له أجلس فجلس فناوله قدح نبيذ التمر أو الزبيب
فقال لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئا منها
فأخذ القدح من يده وقال أما والله لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك وقد ظننت أنك صادق في قولك كله ولكن لا يتولى لي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام انصرف إلى منزلك
وأمر علويه فغير الكلمة وجعل مكانها حرمت مناي منك

تقربه من المأمون بعد خلافه مع الأمين
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
كان علويه يغني بين يدي الأمين فغنى في بعض غنائه

( ليتَ هنداً أنجزتنا ما تَعِدْ ... وشَفَتْ أنْفُسَنَا مما تَجِد )
وكان الفضل بن الربيع يطعن عليه فقال للأمين إنما يعرض بك ويستبطىء المأمون في محاربته فأمر به فضرب خمسين سوطا وجر برجله وجفاه مدة حتى ألقى نفسه على كوثر فترضاه له ورد إلى خدمته وأمر له بخمسة آلاف دينار
فلما قدم المأمون تقرب إليه بذلك فلم يقع له بحيث يحب وقال له إن الملك بمنزلة الأسد أو النار فلا تتعرض لما يغضبه فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا تقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه ولم يعطه شيئا
ومثل هذا من فعل الأمين ما حدثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال
دخلت على الأمين فرأيته مغضبا كالحا فقلت له ما لأمير المؤمنين تمم الله سروره ولا نغصه أراه كالحائر قال غاظني أبوك الساعة لا رحمه الله والله لو كان حيا لضربته خمسمائة سوط ولولاك لنبشت الساعة قبره وأحرقت عظامه
فقمت على رجلي وقلت أعوذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين ومن أبي وما مقداره حتى تغتاظ منه وما الذي غاظك فلعل له فيه عذرا فقال شدة محبته للمأمون وتقديمه إياه علي حتى قال في الرشيد شعرا يقدمه فيه علي وغناه فيه وغنيته الساعة فأورثني هذا الغيظ
فقلت والله ما سمعت بهذا قط ولا لأبي غناء إلا وأنا أرويه ما هو فقال قوله
( أبو المأمونِ فينا والأمينِ ... له كَنَفانِ من كَرَمٍ ولِينِ )
فقلت له يا أمير المؤمنين لم يقدم المأمون في الشعر لتقديمه إياه في

الموالاة ولكن الشعر لم يصح وزنه إلا هكذا
فقال كان ينبغي له إذ لم يصح الشعر إلا هكذا أن يدعه إلى لعنة الله
فلم أزل أداريه وأرفق به حتى سكن
فلما قدم المأمون سألني عن هذا الحديث فحدثته به فجعل يضحك ويعجب منه
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال
سمعت أبي يقول لو خيرت لونا من الطعام لا أزيد عليه غيره لاخترت الدراجة لأني إن زدت في خلها صارت سكباجة وإن زدت في مائها صارت إسفيدباجة وإن زدت في تصبيرها بل في تشييطها صارت مطجنة
ولو اقتصرت على رجل واحد لما اخترت سوى علوية لأنه إن حدثني ألهاني وإن غناني أشجاني وإن رجعت إلى رأيه كفاني

وفد على سعيد بن عجيف فأكرمه
حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال
كنت عند سعيد بن عجيف أنا وعبد الوهاب بن الخصيب وعبد الله بن صالح صاحب المصلى إذ دخل عليه حاجبه فقال له علويه بالباب فأذن له فدخل
فقال له لا تحمدني فإني لم يجئني رسول رجل اليوم فعرضت إخواني جميعا على قلبي فلم يقع عليه غيرك
فدعا له ببرذون ادهم بسرجه

ولجامه فأهداه إليه وجلسنا نشرب وعلويه يغني
فلما توسطنا أمرنا جاء رسول عجيف يطلبه في منزله فقالوا له هو عند ابنه سعيد
فأتاه الرسول فقال له أجب الأمير
فقلنا هذا شيء ليس فيه حيلة
وقد جاء الرسول وهو يغني

صوت
( ألم تَرَ أَنِّي يومَ جَوِّ سُوَيْقةٍ ... بكيتُ فنادتْني هُنَيْدةُ ما لِيَا )
( فقلتُ لها إنّ البكاء لَراحةٌ ... به يَشتفِي مَنْ ظَنّ أنْ لاَ تَلاَقِيَا )
لحن علوية في هذا رمل
والشعر للفرزدق قال فقام علوية ثم قال هوذا أمضي إلى الأمير فأحدثه بحديثنا وأستأذنه في الانصراف بوقت يكون فيه فضل لكم
فانصرف بعد المغرب ومعه جام فيه مسك وعشرة آلاف درهم ومنيان فيهما رماطون فقال جئت أشرب عندكم وآخذه وأنصرف إلى إنسان له عندي أياد يعني علي بن معاذ أخا يحيى بن معاذ فلم يزل عندنا حتى هم بالانصراف فلما رأيت ذلك فيه قمت قبله فأتيت منزل علي ابن معاذ فقيل له ابن الأبزاري بالباب
فبعث إلي إن أردت مضاء فخذه يعني غلاما كان يغني فقلت له لست أريده إنما أريدك أنت فأذن لي فدخلت
فقال ألك حاجة في هذا الوقت فقلت الساعة يجيئك

علوية
فقال وما يدريك فحدثته بالحديث
ودخل علويه فقال لي ما جاء بك إلى ها هنا فقلت ما كنت لأدع بقية ليلتي هذه تضيع فما زال يغنينا ونشرب حتى نام الناس ثم انصرفنا
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثنا هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال
قلت لعمرو بن بانة أيما أجود صنعتك أم صنعة علويه فقال صنعة علويه لأنه ضارب وأنا مرتجل
ثم أطرق ساعة وقال لاأكذبك يا أبا المهنأ والله ما أحسن أن أصنع مثل صنعة علويه
( فواحسرتَا لم أفضِ منكِ لُبانةً ... ولم أَتمتَّعْ بالجِوِارِ وبالقُرْبِ )
ولا مثل صنعته
( هزِئتْ أُمَيْمَةُ أنْ رأتْ ظهري انحنَى ... وذُؤابتي عُلَّتْ بماء خضابِ )
ولا مثل صنعته
( ألاَ يا حَمَامَيْ قصرِ دُورانَ هِجْتُما ... لقلبي الهوَى لَمّا تَغَنَّيْتُما لِيَا )
وقد مضت نسبة هذه الأصوات
حدثني جحظة قال حدثني أحمد بن الحسين بن هشام أبو عبد الله قال حدثني أحمد بن الخليل بن هشام قال
كان بين علويه وبين علي بن الهيثم جونقا شر في عربدة وقعت بينهما بحضرة الفضل بن الربيع وتمادى الشر بينهما فغنى علويه في شعر هجاه به

أبو يعقوب في حاجة فهجاه وذكر أنه دعي
وكان جونقا يدعي أنه من بني تغلب فقال فيه أبو يعقوب
( يا عليُّ بنَ هَيْثَمٍ يا جَوَنْقَا ... أنت عندي من الأراقمِ حَقّا )
( عربيٌّ وجَدُّه نَبَطِيٌّ ... فَدَبَنْقَا لِذَا الحَديث دَبَنْقَا )
( قد أصابتْك في التقرُّب عينٌ ... فاستنارتْ لشهبها الفلك برقا )
( وإذا قال إني عربيٌّ ... فانتهِزْه وقل له أنت شفقا )
وللخريمي فيه أهاج نبطية فغنى علويه لحنا صنعه في هذه الأبيات بحضرة الأمين وكان الفضل بن الربيع حاضرا فقال يا أمير المؤمنين علي بن الهيثم كابني وإذا استخف به فإنما استخف بي
فقال الأمين خذوه فأخذوه وضرب ثلاثين درة وأمر بإخراجه
فطرح علويه نفسه على كوثر فاستصلح له الفضل بن الربيع وترضى له الأمين حتى رضي عنه عنه ووهب له خمسة آلاف دينار

غنى بحضرة الواثق فأطربه
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال

حدثني مخارق قال غنى علويه يوما بحضرة الواثق هذا الصوت
( مَنْ صاحبَ الدَّهْرِ لم يَحْمَدْ تَصَرُّفَه ... عَناً وللّدهرِ إحلاءٌ وإمرارُ )
ولحنه ثقيل أول فأستحسنه الواثق وطرب عليه
فقال علويه والله لو شئت لجعلت الغناء في أيدي الناس أكثر من الجوز وإسحاق حاضر بين يدي الواثق فتضاحك ثم قال يا أبا الحسن إذا تكون قيمته مثل قيمة الجوز ليتك إذ قللته صنعت شيئا فكيف إذا كثرته
فخجل علويه حتى كأنما ألقمه إسحاق حجرا وما انتفع بنفسه يومئذ
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني عبد الله الهشامي قال
قال لي علويه أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح فلقيني عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب فقال أيها الظالم المعتدي أما ترحم ولا ترق عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك في نومها في كل ليلة ثلاث مرات
قال علوية فقلت أم الخلافة زانية ومضيت معه
فحين دخلت قلت استوثق من الباب فأنا أعرف الناس بفضول الحجاب فإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ ثلاث قدور من دجاج
فلما رأتني قامت فعانقتني وقبلتني وقالت أي شيء تشتهي فقلت قدرا من هذه القدور فأفرغت قدرا بيني وبينها فأكلنا ودعت بالنبيذ فصبت رطلا فشربت نصفه وسقتني نصفه فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر
ثم قالت يا أبا الحسن غنيت البارحة في شعر لأبي العتاهية أعجبني أفتسمعه مني وتصلحه فغنت

صوت
( عَذِيري مِنَ الإِنسانِ لا إِنْ جَفَوْتُه ... صَفَا لي ولا إنْ صِرْتُ طَوْعَ يَدَيْهِ )
( وإنّي لَمشتاقٌ إلى ظِلِّ صاحبٍ ... يَرُوقُ ويصفُو إن كَدَرتُ عليه )
فصيرناه مجلسا
وقالت قد بقي فيه شيء فلم أزل أنا وهي حتى اصلحناه
ثم قالت وأحب أن تغني أنت فيه أيضا لحنا ففعلت
وجعلنا نشرب على اللحنين مليا
ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجوني فدخلت إلى المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفق وأغني بالصوت فسمع المأمون والمغنون ما لم يعرفوه فاستظرفوه وقال المأمون ادن يا علويه ورده فرددته عليه سبع مرات
فقال لي في آخرها عند قولي
( يروق ويصفو إن كدرت عليه ... )
يا علويه خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب
لحن عريب في هذا الشعر رمل
وفيه لعلويه لحنان ثاني ثقيل وماخوري
ابراهيم بن المهدي يحسده على صوتين غناهما
وقال العتابي حدثني أحمد بن حمدون قال
غاب عنا علويه مدة ثم صار إلينا فقال له إبراهيم بن المهدي مالذي أحدثت بعدي من الصنعة يا أبا الحسن قال صنعت صوتين
قال فهاتهما إذا فغناه

صوت
( أَلاَ إنّ لي نَفْسَيْنِ نفساً تقولُ لي ... تَمَتَّع بليلى ما بدا لك لِينُها )
( ونفساً تقول اسْتَبْقِ وُدَّكَ واتَّئدْ ... ونَفْسَك لا تَطْرَحْ على مَنْ يُهينها )
لحن علويه في هذين البيتين خفيف ثقيل قال فرأيت إبراهيم بن المهدي قد كاد يموت من حسده وتغير لونه ولم يدر ما يقول له لأنه لم يجد في الصوت مطعنا فعدل عن الكلام في هذا المعنى وقال هذا يدل على أن ليلى هذه كانت من لينها مثل الموم بالبنفسج فسكت علويه
ثم سأله عن الصوت الآخر فغناه
صوت
( إذا كان لي شيئان يا أُمَّ مالكٍ ... فإنّ لِجارِي منهما ما تَخَيَّرَا )
( وفي واحدٍ إِنْ لم يَكُنْ غيرُ واحدٍ ... أراه له أهلاً إذا كان مُقْتِرا )
والشعر لحاتم الطائي
لحن علويه في هذين البيتين أيضا خفيف ثقيل
وقد روي أن إبراهيم الموصلي صنعه ونحله إياه وأنا أذكر خبره بعقب هذا الخبر قال أحمد بن حمدون فأتى والله بما برز على الأول وأوفى عليه وكاد إبراهيم يموت غيظا وحسدا لمنافسته في الصنعة وعجزه عنها
فقال له وإن كانت لك امرأتان يا أبا الحسن حبوت جارك منهما واحدة فخجل علويه وما نطق بصوت بقية يومه

وحدثني عمي عن علي بن محمد عن جده حمدون هذا لخبر
ولفظه أقل من هذا

نحله إبراهيم الموصلي صوتا فشاع
فأما الخبر الذي ذكرته عن علويه أن إبراهيم الموصلي نحله هذا الصوت
فحدثني جحظة قال حدثني أبن المكي المرتجل وهو محمد بن أحمد ابن يحيى قال حدثني علويه قال
قال إبراهيم الموصلي يوما إني قد صنعت صوتا وما سمعه مني أحد بعد وقد أحببت أن أنفعك وأرفع منك بأن القيه عليك وأهبه لك ووالله ما فعلت هذا بإسحاق قط وقد خصصتك به فانتحله وادعه فلست أنسبه إلى نفسي وستكسب به مالا
فألقى علي قوله
( إذا كان لي شيئانِ يا أُمَّ مالكٍ ... فإنّ لجاري منهما ما تخيَّرا )
فأخذته وادعيته وسترته طوال أيام الرشيد خوفا من أن أتهم فيه وطول أيام الأمين حتى حدث عليه ما حدث
وقدم المأمون من خراسان وكان يخرج إلى الشماسية دائما يتنزه فركبت في زلال وجئت أتبعه فرأيت حراقة علي بن هشام فقلت للملاح اطرح زلالي على الحراقة ففعل وأستؤذن لي فدخلت وهو يشرب مع الجواري وما كانوا يحجبون جواريهم في ذلك الوقت ما لم يلدن فإذا بين يديه متيم وبذل من جواريه فغنيته الصوت

فاستحسنه جدا وطرب عليه وقال لمن هذا فقلت هذا صوت صنعته وأهديته لك ولم يسمعه أحد قبلك
فازداد به عجبا وطربا وقال لها خذيه عنه فألقيته عليها حتى أخذته فسر بذلك وطرب وقال لي ما أجد لك مكافأة على هذه الهدية إلا أن أتحول عن هذه الحراقة بما فيها وأسلمه إليك أجمع
فتحول إلى أخرى وسلمت الحراقة بخزانتها وجميع آلاتها إلي وكل شيء فيها فبعت ذلك بمائة وخمسين ألف درهم وأشتريت بها ضيعتي الصالحية

غنى المأمون بيتا مجهولا
حدثني جحظة قال حدثني ابن المكي المرتجل عن أبيه قال قال إسحاق ابن حميد كاتب أبي الرازي وحدثني به عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حسان بن محمد الحارثي عن إسحاق بن حميد كاتب أبي الرازي قال
غنى علويه الأعسر يوما بين يدي المأمون
( تَخَيَّرتُ من نَعْمَانَ عُودَ أَراكةٍ ... لهندٍ فمَنْ هذَا يُبَلِّغه هِنْدَا )
فقال المأمون اطلبوا لهذا البيت ثانيا فلم يعرف وسأل كل من بحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد
فقال إسحاق بن حميد لما رأيت ذلك عنيت بهذا الشعر وجهدت في المسألة وطلبته ببغداد عند كل متأدب وذي معرفة فلم يعرفه
وقلد المأمون أبا الرازي كور دجلة وأنا أكتب له ثم نقله إلى اليمامة والبحرين
قال إسحاق بن

حميد فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي على حمارة فأبتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة وإذا البيت الذي كنت أطلبه فسألته عنها فذكر أنها للمرقش الأكبر فحفظت منها هذه الأبيات
( خَلِيَلىَّ عُوجَا بارَك اللَّه فيكما ... وإنْ لم تَكُنْ هندٌ لأرضِكما قَصْدَا )
( وقُولاَ لها ليس الضَّلاَلُ أجازَنا ... ولكنّنا جُزْنَا لِنَلْقَاكُمُ عمْداً )
( تَخَيّرتُ من نَعْمَانَ عودَ أراكةٍ ... لهندٍ فمَنْ هذا يبلِّغه هْندَا )
( وأَنْطَيتُه سيفي لكيمَا أُقيمَه ... فلا أَوَداً فيه أستَبنتُ ولا خَضْدَا )
( ستَبْلُغُ هنداً إِنْ سَلِمْنا قَلاَئصٌ ... مَهَارَى يُقَطِّعن الفَلاَةَ بنا وَخْدَا )
( فلمّا أنْخْنا العيسَ قد طار سيرُها ... إليهم وجدْنَاهم لنا بالقِرَى حَشْدَا )
( فناولتُها المِسْوَاكَ والقلبُ خائفٌ ... وقلتُ لها يا هندُ أهْلَكْتِنا وَجْدَا )
( فمدّت يداً في حُسْنِ دَلٍّ تَنَاوُلاً ... إليه وقالتْ ما أرى مثلَ ذا يُهْدَى )
( وأقبلتُ كالمُجتازِ أدَّى رسالةً ... وقامتْ تَجُرّ المَيْسَنانيَّ والبُرْدَا )
( تَعَرَّضُ للحيّ الذين أريدهم ... وما التمست إِلاَّ لِتقتُلَني عَمْدَا )

( فما شِبْهُ هندٍ غيرُ أدماءَ خاذِلٍ ... من الوَحْشِ مُرْتاعٍ مُرَاعٍ طَلاً فردا )
قال فكتب بها إلى المأمون فاستحسنت ورويت وأمر علويه فصنع في البيتين الأولين منها غناء يشبه
أغاني علويه في هذه الأبيات اللحن الأول في قوله
( تخيّرت من نَعمانَ عودَ أراكةٍ ... )
غناه علويه وليس اللحن له اللحن لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر
ولحنه الثاني الذي أمره أن يصنعه في
( خَلِيليّ عُوجَا بارك اللَّه فيكما ... )
رمل

غنى المعتصم بشعر ابن هرمة
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال
عرض علويه على المعتصم رقعة في أمر رزقه وإقطاعه وهو يشرب دفعها إليه من يده فلما أخذها اندفع علويه يغني
صوت
( إِنّي اسْتحيتُكَ أنْ أفُوهَ بحاجتِي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فَتَفهَّمِ )
( وعليكَ عهدُ اللَّه إِنْ خَبَّرتَه ... أحداً ولا أظهرتَه بِتَكَلُّمِ )

فقرأ المعتصم الرقعة وهو يضحك ثم وقع له فيها بما أراد
الشعر لابن هرمة كتب به إلى بعض آل أبي طالب وهو إبراهيم بن الحسن يطلب منه نبيذا وقد خرج هو وأصحابه إلى السيالة فكتب إليه البيت الأول على ما رويناه والثاني غيره المغنون وهو
( وعليكَ عهدُ اللَّه إِنْ أعلمتَه ... أهلَ السَّيَالةِ إِنْ فَعلتَ وإنْ لَمِ )
فلما قرأ الرقعة قال علي عهد الله إن لم أعلم به عامل السيالة
وكتب الى عامل السيالة إن ابن هرمة وأصحابا له سفهاء يشربون بالسيالة فاركب إليهم حتى تأخذهم فركب إليهم ونذروا به فهرب وقال يهجو إبراهيم
( كتبتُ إليكَ أستهدِي نَبِيذاً ... وأُدْلِي بالمَودّةِ والحقوقِ )
( فخَبَّرْتَ الأميرَ بذاك جهلاً ... وكنتَ أخا مُفَاضَحةٍ ومُوقِ )
حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير
وقد ذكرته في أخبار ابن هرمة
والغناء لعبادل
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني موسى بن هارون الهاشمي قال حدثني أبي قال

كنت واقفا بين يدي المعتصم وهو جالس على حير الوحش والخيل تعرض عليه وهو يشرب وبين يديه علويه ومخارق يغنيان فعرض عليه فرس كميت أحمر ما رأيت مثله قط فتغامز علويه ومخارق وغناه علويه
( وإذا ما شربوها وانتشَوْا ... وَهَبُوا كلّ جَوَادٍ وطِمِرّ )
فتغافل عنه
وغناه مخارق
( يَهَبُ البِيضَ كالظِّباءِ وجُرْداً ... تحت أجْلاَلِها وعِيسَ الرِّكابِ )
فضحك ثم قال اسكتا يا ابني الزانيتين فليس يملكه والله واحد منكما
قال ثم دار الدور فغنى علويه
( وإذا ما شرِبوها وانتَشَوْا ... وَهَبُوا كلَّ بِغالٍ وحُمُرْ )
فضحك وقال أما هذا فنعم وأمر لأحدهما ببغل وللآخر بحمار
حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال
كنا عند زلبهزة النخاس وكانت عنده جارية يقال لها خشف ابتاعها من علويه وذلك في شهر رمضان ومعنا رجل هاشمي من ولد عبد الصمد بن علي يقال له عبد الصمد وإبراهيم بن عمرو بن نهبون وكان يحبها فأعطى بها زلبهزة أربعة آلاف دينار فلم يبعها منه وبقيت معه حتى توفيت فغنتنا أصواتا كان فيها

( أشارتْ بطَرْفِ العين خِيفَةَ أهلِها ... إشارةَ محزونٍ ولم تَتَكَلَّمِ )
( فأيقنتُ أنّ الطَّرْفَ قَد قال مَرْحَبَاً ... وأهلاً وسَهْلاً بالحبيبِ المُسَلِّمِ )
( وأبرزتُ طَرْفي نحَوَها لأُجِيبَها ... وقلتُ لها قولَ امرىء غيرِ مُعْجِمِ )
( هنيئاً لكم قتلي وَصَفْوُ مَودّتي ... وقد سِيطَ في لحمي هواكِ وفي دمي )
الغناء لابن عائشة ثقيل أول عن الهشامي قال فلما وثبنا للانصراف قال لنا وقد اشتد الحر أقيموا عندي
فوجهت غلاما معي وأعطيته دينارا وقلت له ابتع فراريج بعشرة دراهم وثلجا بخمسة دراهم وعجل فجاء بذلك فدفعه إلى زلبهزة وأمره بإصلاح الفراريج ألوانا وكتبت إلى علويه فعرفته خبرنا فجاءنا وأقام وأفطرنا عند زلبهزة وشرب منا من كان يستجيز الشراب وغنى علويه لحنا ذكر أنه لابن سريج ثقيل أول فاستغربه الجماعة وهو
صوت
( يا هندُ إِنّ الناسَ قد أفسدوا ... وُدّكِ حتى عَزّني المَطْلَبُ )
( يا ليتَ مَنْ يسعَى بنا كاذباً ... عاشَ مُهَاناً في أذىً يَتْعَبُ )
( هَبِيهِ ذنباً كنتُ أذنبتُه ... قد يغفِر اللَّهُ لِمَنْ يُذْنِبُ )
( وقد شَجَاني وجرتْ دَمْعَتي ... أنْ أرسلتْ هندٌ وهِي تَعْتِبُ )
( ما هَكَذَا عاهدتَنا في مِنىً ... ما أنتَ إِلاَّ سَاحرٌ تَخْلُبُ )
( حلفتَ لِي باللَّه لا نَبْتَغِي ... غيرَكِ ما عشتِ ولا تَطْلُبُ )
قال وقام عبد الصمد الهاشمي ليبول
فقال علويه كل شيء قد عرفت معناه أما أنت فصديق الجماعة وهذا يتعشق هذه وهذا مولاها وأنا ربيتها وعلمتها وهذا الهاشمي أيش معناه
فقلت لهم دعوني

أحكه وآخذ لزلبهزة منه شيئا
فقال لا والله ما أريد
فقلت له أنت أحمق أنا آخذ منه شيئا لا يستحي القاضي من أخذه
فقال إن كان هكذا فنعم
فقلت له إذا جاء عبد الصمد فقل لي ما فعل الآجر الذي وعدتني به فإن حائطي قد مال وأخاف أن يقع ودعني والقصة
فلما جاء الهاشمي قال لي زلبهزة ما أمرته به فقلت ليس عندي آجر ولكن اصبر حتى أطلب لك من بعض أصدقائي وجعلت أنظر إلى الهاشمي نظر متعرض به
قال الهاشمي يا غلام دواة ورقعة فأحضر ذلك
فكتب له بعشرة آلاف آجرة إلى عامل له وشربنا حتى السحر وانصرفنا
فجئت برقعته إلى الآجري ثم قلت بكم تبيعه الآجر فقال بسبعة وعشرين درهما الألف
قلت فبكم تشتريه مني قال بنقصان ثلاثة دراهم في الألف
فقلت فهات فأخذت منه مائتين وأربعين درهما واشتريت منها نبيذا وفاكهة وثلجا ودجاجا بأربعين درهما وأعطيت زلبهزة مائتي درهم وعرفته الخبر ودعونا علويه والهاشمي وأقمنا عند زلبهزة ليلتنا الثانية
فقال علويه نعم الآن صار للهاشمي عندكم موضع ومعنى

رتبته بين المغنين
أخبرني جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال حدثني أبي قال
قال لنا الواثق يوما من أحذق الناس بالصنعة قلنا إسحاق
قال ثم من قلنا علويه
قال فمن أضرب الناس قلنا ثقيف
قال ثم من قلنا علويه
قال فمن أطيب الناس صوتا قلنا مخارق
قال ثم من قلنا علويه
قال أعترفتم له بأنه مصلي كل سابق وقد جمع الفضائل كلها وهي متفرقة فيهم فما ثم ثان لهذا الثالث

وحدثني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي المرتجل قال حدثني أبي قال
دخلت إلى علويه أعوده من علة أعتلها ثم عوفي منها فجرى حديث المأمون فقال لي كدت علم الله أذهب دفعة ذات يوم وأنا معه لولا أن الله تعالى سلمني ووهب لي حلمه
فقلت كيف كان السبب في ذلك فقال كنت معه لما خرج الى الشأم فدخلنا دمشق فطفنا فيها وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتبع آثارهم فدخل صحنا من صحونهم فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب اليها وفي البركة سمك وبين يديها بستان على أربع زواياه أربع سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها أحسن ما رأيت من السرو قط قدا وقدرا
فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح وقال هاتوا لي الساعة طعاما خفيفا فأتي ببزماورد فأكل ودعا بشراب وأقبل علي وقال غنني ونشطني فكأن الله عز و جل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت
( لو كان حَوْلِي بنو أُميّةَ لَمْ ... تَنْطِقْ رجالٌ أراهُمُ نَطَقُوا )
فنظر إلي مغضبا وقال عليك وعلى بني أمية لعنة الله ويلك أقلت لك سؤني أو سرني ألم يكن لك وقت تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي
فتحيلت عليه وعلمت أني قد أخطأت فقلت أتلومني على أن أذكر

بني أمية هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلام مملوك له ويملك ثلاثمائة ألف دينار وهبوها له سوى الخيل والضياع والرقيق وأنا عندكم أموت جوعا
فقال أولم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا فقلت هكذا حضرني حين ذكرتهم فقال اعدل عن هذا وتنبه على إرادتي
فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت
( الحَيْنُ ساق إلى دِمَشْقَ ولم أَكُنْ ... أرضَى دمَشْقَ لأهلِنا بَلَدَا )
فرماني بالقدح فأخطأني فانكسر القدح وقال قم عني إلى لعنة الله وحر سقر وقام فركب
فكانت والله تلك الحال آخر عهدي به حتى مرض ومات
قال ثم قال لي يا أبا جعفر كم تراني أحسن أغني ثلاثة آلاف

صوت
أربعة آلاف صوت خمسة آلاف صوت أنا والله أغني أكثر من ذلك ذهب علم الله كله حتى كأني لم أعرف غير ما غنيت
ولقد ظننت أنه لو كانت لي ألف روح ما نجت منه واحدة منها ولكنه كان رجلا حليما وكان في العمر بقية
نسبة هذين الصوتين المذكورين في الخبر
صوت
( لو كان حولي بنو أُمَيَّةَ لم ... تَنْطِقْ رجالٌ أراهُمُ نَطَقُوا )
( مِنْ كلّ قَرْمٍ مَحْضٍ ضرائبُه ... عن مَنْكِبَيْه القميصُ يَنخَرِق )

الشعر لعبد الله بن قيس الرقيات
والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر الهشامي أنه لابن سريج
وذكر ابن خرداذبه أن فيه لدكين بن عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاصي لحنا من الثقيل الأول وأن دكينا مدني كان منقطعا إلى جعفر بن سليمان
صوت
( الحَيْنُ ساقَ إلى دِمَشْقَ وما ... كانت دمشقُ لأهلِنا بَلَدَاً )
( قادتْك نَفْسُك فاستقدتَ لها ... وأُرِيتَ أمرَ غَوَايةٍ رَشَدَا )
لعمر الوادي في هذا الشعر ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي
قال وفيه ليعقوب الوادي رمل بالبنصر
حدثني عمي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال سمعت الحسن بن وهب الكاتب يحدث
أن علويه كان يصطبح في يوم خضابه مع جواريه وحرمه ويقال أجعل صبوحي في أحسن ما يكون عند جواري
فقيل له إن ابن سيرين كان يقول لا بأس بالخضاب ما لم تغرر به امرأة مسلمة
فقال إنما كره لئلا يتصنع به لمن لا يعرفه من الحرائر فيتزوجها على أنه شاب وهو شيخ فأما الإماء فهن ملكي وما أريد أن أغرهن
قال الحسن فتعالل علويه على المعتصم ثلاثة أيام متوالية واصطبح فيها فدعاني وكان صوته على جواريه في شعر الأخطل

( كأنّ عَطَّارةً باتتْ تُطِيفُ به ... حتى تَسَرْبَلَ مثلَ الوَرْسِ وانْتَعَلاَ )
فقال لي كيف رويته فقلت له قرأت شعر الأخطل وكان أعلم الناس به كان يختار تسرول ويقول إنما وصف ثورا دخل روضة فيها نوار أصفر فأثر في قوائمه وبطنه فكان كالسراويل لا أنه صار له سربال
ولو قال تسربل أيضا لم يكن فاسدا ولكن الوجه تسرول
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال
قدمت من سر من رأى قدمة بعد طول غيبة فدخلت إلى إسحاق الموصلي فسلم علي وسألني خبري وخبر الناس حتى أنتهينا إلى ذكر الغناء فسألني عما يتشاغل الناس من الأصوات المستجادة
فقلت له تركت الناس كلهم مغرمين بصوت لك
قال وما هو فقلت
( أَلاَ يا حَمَامَيْ قَصْرِ دُورَانَ هِجْتُما ... )
فقال ليس ذلك لي ذاك لعلويه
وقد لعمري أحسن فيه وجود ما شاء

غنى المأمون بأبيات معه
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني علويه قال
خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها في رقعة بخطه وهي

صوت
( خرجْنا إلى صَيْد الظِّباءِ فصادَني ... هناك غَزالٌ أدعجُ العَيْنِ أحْوَرُ )
( غزالٌ كأنّ البدرَ حلّ جبينَه ... وفي خدّه الشِّعْرَى المنيرةُ تَزْهَرُ )
( فصاد فُؤادِي إذْ رمانِي بِسَهْمه ... وسهمُ غزالِ الإِنْسِ طَرْفٌ ومِحْجَرُ )
( فيا مَنْ رأى ظبياً يَصِيدُ ومَنْ رأى ... أخَا قَنَصٍ يُصْطَادُ قَهْراً ويُقْسَرُ )
قال فغنيته فيها فأمر لي بعشرة آلاف درهم
قال أبو القاسم جعفر بن قدامة لحن علويه في هذا الشعر ثقيل أول ابتداؤه نشيد
غنى الرشيد في مجلسه فأغضبه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال غنيت الرشيد يوما
( هما فَتَاتَانِ لَمّا يَعْرِفَا خُلُقي ... وبالشَّبابِ على شَيْبِي يُدِلاّنِ )
فطرب وأمر لي بألف دينار
فقال له ابن جامع وكان أحسد الناس اسمع غناء العقلاء ودع غناء المجانين وكنت أخذت هذا الصوت من مجنون بالمدينة كان يجيده ثم غنى قوله
( ولقد قالتْ لأترابٍ لها ... كالمَهَا يَلْعَبْنَ في حُجْرتها )
( خُذْنَ عني الظِّلَّ لا يَتْبَعُني ... وغدتْ تسعَى إلى قُبَّتها )

فطرب وأمر له بألف وخمسمائة دينار
ثم تغنى وجه القرعة
( يَمشُون فيها بكلِّ سابغةٍ ... أُحْكِمَ فيها القَتِيرُ والحِلَقُ )
فاستحسنه وشرب عليه وأمر له بخمسمائة دينار
ثم تغنى علويه
( وأرَى الغَوانِي لا يُواصِلْنَ أمرَأً ... فَقَدَ الشّبابَ وقد يَصِلْنَ الأمْرَدَا )
فدعاه الرشيد وقال له يا عاض بظر أمه تغني في مدح المرد وذم الشيب وستارتي منصوبة وقد شبت كأنك إنما عرضت بي ثم دعا بمسرور فأمره أن يأخذ بيده فيخرجه فيضربه ثلاثين درة ولا يرده إلى مجلسه ففعل ذلك ولم ينتفع الرشيد يومئذ بنفسه ولا أنتفعنا به بقية يومنا وجفا علويه شهرا فلم يأذن له حتى سألناه فأذن له

نسبة هذه الأصوات التي تقدمت
صوت
( هما فتاتانِ لمّا يَعْرِفا خُلُقِي ... وبالشّبابِ على شَيْبي يُدِلاّنِ )
( كلُّ الفَعَالِ الّذي يفعلنَه حَسَنٌ ... يُضْنِي فؤادي ويُبْدِي سِرَّ أشجاني )
( بَلِ أحْذَرَا صَوْلةً من صَوْلِ شَيْخِكما ... مَهْلاً عنِ الشَّيْخِ مهلاً يا فتاتانِ )
لم يقع إلي شاعره
فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لابن سريج رمل بالبنصر عن عمرو
وفيه لسليمان المصاب رمل كان يغنيه فدس الرشيد إليه إسحاق حتى أخذه منه وقيل بل دس عليه ابن جامع

إسحاق يأخذ صوتا من سليمان المصاب
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دعاني الرشيد لما حج فقال صر إلى موضع كذا وكذا من المدينة فإن هناك غلاما مجنونا يغني صوتا حسنا وهو
( هُمَا فتاتانِ لمّا يعرِفا خُلُقي ... وبالشبابِ على شيبي يُدِلاّنِ )
وله أم فصر إليها وأقم عندها واحتل حتى تأخذه
فجئت أستدل حتى وقفت على بيتها فخرجت إلي فوهبت لها مائتي درهم وقلت لها أريد أن تحتالي على ابنك حتى آخذ منه الصوت الفلاني
فقالت نعم وأدخلتني دارها وأمرتني فصعدت إلى علية لها فما لبثت أن جاء ابنها فدخل
فقالت له يا سليمان فدتك نفسي أمك قد أصبحت اليوم خاثرة مغرمة فاحب أن تغني ذلك الصوت
( هما فتاتان لمّا يعرفا خُلُقِي ... )
فقال لها ومتى حدث لك هذا الطرب قالت ما طربت ولكنني أحببت أن أتفرج من هم قد لحقني
فاندفع فغناه فما سمعت أحسن من غنائه
فقالت له أمه أحسنت فديتك فقد والله كشفت عني قطعة من همي فأسألك أن تعيده
قال والله ما لي نشاط ولا أشتري غمي بفرجك
فقالت أعده مرتين ولك درهم صحيح تشتري به ناطفا
قال

ومن أين لك درهم ومتى حدث لك هذا السخاء فقالت هذا فضول لا تحتاج إليه وأخرجت إليه درهما فأعطته إياه فأخذه وغناه مرتين فدار لي وكاد يستوي
فأومأت إليها من فوق أن تستزيده
فقالت يا بني بحقي عليك إلا أعدته
فقال أظن أنك تريدين أن تأخذيه فتصيري مغنية
فقالت نعم كذا هو
قال لا وحق القبر لا أعدته إلا بدرهم آخر
فأخرجت له درهما آخر فأخذه وقال أظنك والله قد تزندقت وعبدت الكبش فهو ينقد لك هذه الدراهم أو قد وجدت كنزا
فغناه مرتين وأخذته واستوى لي
ثم قام فخرج يعدو على وجهه
فجئت إلى الرشيد فغنيته به وأخبرته بالقصة فطرب وضحك وأمر لي بألف دينار وقال لي هذه بدل مائتي الدرهم

صوت
( ولقد قالتْ لأترابٍ لها ... كالمَهَا يَلْعَبْنَ في حُجْرَتِها )
( خُذْنَ عنِّي الظِّلَّ لا يتَبعني ... وعَدَتْ سَعْياً إلى قُبَّتها )
( لم يُصِبْها نَكَدٌ فيما مَضَى ... ظَبْيةٌ تختالُ في مَشْيَتها )
في هذه الأبيات رمل بالبنصر ذكر الهشامي أنه لابن جامع المكي وذكر ابن المكي أنه لابن سريج
وهو في أخبار ابن سريج وأغانيه غير مجنس
صوت
( يمشون فيها بكلّ سابغةٍ ... أُحْكِمَ فيها القَتِيرُ والحِلَقُ )
( تعرِف إنْصافَهُمْ إذا شَهِدوا ... وصَبْرَهم حين تَشْخَصُ الحَدَقُ )
الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش

صوت
( يَجْحَدْنَنِي دَيْنِي النهارَ وأقتضِي ... دَيْني إذا وَقَذَ النُّعاسُ الرُّقَّدَا )
( وأرى الغواني لا يُواصِلْنَ امرأً ... فَقَد الشبابَ وقد يَصِلْنَ الأمْرَدَا )
الشعر للأعشى
والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
صوت
( أيَّةُ حالٍ يابنَ رَامِينِ ... حالُ المُحِبِّينَ المَسَاكِينِ )
( تركتهم مَوْتَى وما مُوِّتوا ... قد جُرِّعُوا منكَ الأَمَرِّينِ )
( وسِرْتَ في رَكْبٍ على طِّيةٍ ... رَكْبٍ تَهَامٍ وَيَمَانِيِنِ )
( يا راعَيَ الذَّوْدِ لقد رُعْتَهُمْ ... وَيْلَك من رَوْعِ المُحِبِّينِ )
الشعر لإسماعيل بن عمار الأسدي
والغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الزهري الكوفي ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي وأحمد بن المكي

نسب إسماعيل بن عمار وأخباره
هو إسماعيل بن عمار بن عيينة بن الطفيل بن جذيمة بن عمرو بن خلف بن زبان بن كعب بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن ابن حبيب
وإسماعيل بن عمار شاعر مقل مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والهاشمية
وكان ينزل الكوفة
قال ابن حبيب كان في الكوفة صاحب قيان يقال له ابن رامين قدمها من الحجاز فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده مثل يحيى بن زياد الحارثي وشراعة بن الزندبوذ ومطيع بن إياس وعبد الله ابن العباس المفتون وعون العبادي الحيري ومحمد بن الأشعث الزهري المغني
وكان نازلا في بني أسد في جيران إسماعيل بن عمار فكان إسماعيل يغشاه ويشرب عنده
ثم انتقل من جواره إلى بني عائذ الله فكان إسماعيل يزوره هناك على مشقة لبعد ما بينهما
وكان لابن رامين جوار يقال لهن سلامة الزرقاء وسعدة وربيحة وكن من أحسن الناس غناء واشترى بعد ذلك

محمد بن سليمان سلامة الزرقاء التي يقول فيها محمد بن الأشعث
( أمسى لِسَلاّمَةَ الزرقاءِ في كَبِدِي ... صَدْعٌ مُقِيمٌ طَوَالَ الدَّهرِ والأَبَد )
( لا يستطيعُ صَنَاعُ القومِ يَشْعَبُه ... وكيف يُشْعَبُ صَدْعُ الحُبِّ في كبِدِ )

تشبيبه بجواري ابن رامين
وفي جواريه يقول إسماعيل بن عمار
( هَلْ مِنْ شِفَاءٍ لِقلبٍ لَجَّ محزونِ ... صَبَا وصَبَّ إلى رئْم ابن رامينِ )
( إلى رُبَيْحَةَ إِنّ اللَّه فَضّلها ... بحُسْنِها وسَماعٍ ذي أفانينِ )
( وهاجَ قلبيَ منها مَضْحَكٌ حسنٌ ... وَلَثْغةٌ بعدُ في زَايٍ وفي سينِ )
( نَفْسِي تأبَّى لكمْ إِلاَّ طَوَاعِيةً ... وأنتِ تأبَيْنَ لُؤماً أنْ تُطِيعيني )
( وتلك قِسْمةُ ضِيزَي قد سمعتِ بها ... وأنت تَتْلِينَها ما ذاك في الدِّينِ )
( إِنْ تُسْعِفِيني بذاك الشيء أرضَ به ... وإنْ ضَنَنْتِ به عنِّي فَزَنِّيني )
( أنتِ الطبيبُ لداءِ قد تلبَّس بي ... من الجَوَى فانْفُثِي في فيّ وارْقِيني )
( نَعَمْ شِفَاؤكَ منها أن تقولَ لها ... أضْنَيْتَنِي يوم دَيْرِ اللُّجِ فاشْفِيني )
( يا ربِّ إِنَّ ابنَ رَامينٍ له بَقَرٌ ... عِينٌ وليس لنا غيرُ البراذين )

( لو شئتَ أعطيتَه مالاً على قَدَرٍ ... يرضَى به منكَ غيرَ الرَّبْرَب العِين )
( لا أَنْسَ سَعْدَةَ والزَّرْقَاءَ يومَ هُمَا ... باللُّجِّ شَرْقِيَّةُ وفوق الدَّكاكينِ )
( يُغَنِّيان ابنَ رامينٍ على طَرَبٍ ... بالمِسْجَحيّ وتشبيبِ المحبِّينِ )
( أذاك أنْعَمُ أم يومٌ ظلِلتُ به ... فِرَاشِيَ الوَرْدُ في بُسْتَان شُورِينِ )
( يَشْوِي لنا الشيخُ شُورِينٌ دَوَاجنهَ ... بالجَرْدَناج وسحّاج الشقابين )
( نُسْقَى طِلاءً لِعِمْرانٍ يُعَتِّقُه ... يَمْشِي الأصِحَّاءُ منه كالمجانينِ )
( يُزِلّ أقدَامنا من بعد صِحّتها ... كأنّها ثِقَلاً يُقْلَعْنَ من طِينِ )
( نمشِي وأرجلُنا مطويّةٌ شَلَلاً ... مَشْيَ الإِوَزِّ التي تأتي من الصينِ )
( أو مَشْيَ عُمْيانِ دَيْرٍ لا دليلَ لهم ... سِوَى العِصِيِّ إلى يومِ السَّعانينِ )
( في فِتيةٍ من بني تَيْمٍ لهوتُ بهم ... تَيمِ بن مُرّةَ لا تَيْمِ العَدِيِّينِ )
( حُمْرُ الوُجوهِ كأنّا من تَحَشُّمنا ... حسناءُ شمطاء وافتْ من فلَسْطِينِ )
( ما عائذ اللَّه لولا أنتِ من شجَنِي ... ولا ابنُ رامينَ لولا ما يُمَنِّينِي )
( في عائذ اللَّه بيتٌ ما مررتُ به ... إِلاّ وُجِئْتُ علي قلبي بِسِكينِ )
( يا سَعْدَةُ القَيْنَةُ الخضراءُ أنتِ لنا ... أُنْسٌ لأنّك في دار ابن رامينِ )

( ما كنتُ أحْسِبُ أنّ الأُسْدَ تُؤْنِسني ... حتى رأيتُ إليكِ القلبَ يدعونِي )
( لولا رُبَيْحَةُ ما استأنستُ ما عَمَدتْ ... نفسي إليك ولو مُثِّلتِ من طينِ )

محمد بن سليمان اشترى سلامة الزرقاء بمائة ألف درهم
قال وحج ابن رامين وحج بجواريه معه وكان محمد بن سليمان إذ ذاك على الحجاز فاشترى منه سلامة الزرقاء بمائة ألف درهم
فقال إسماعيل بن عمار
( أيّةُ حالٍ يا ابنَ رَامينِ ... حالُ المُحِبِّين المساكينِ )
( تركتَهَم مَوْتَى وما مُوِّتُوا ... قد جُرِّعوا منك الأَمَرِّينِ )
( وسِرْتَ في ركبٍ على طِيَّةٍ ... رَكْبٍ تَهامٍ وَيَمَانينِ )
( حَجَجْتَ بيتَ اللَّه تبغي به البِرَّ ... ولم تَرْثِ لمحزونِ )
( يا راعيَ الذَّوْدِ لقد رُعْتَهُمْ ... وَيْلَكَ من رَوْعِ المُحِبِّينِ )
( فرّقتَ قوماً لا يُرَى مِثْلُهم ... ما بين كُوفانٍ إلى الصّينِ )
رثاؤه لابن له مات
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا السكري عن محمد قال
كان لإسماعيل بن عمار ابن يقال له معن فمات فقال يرثيه
( يا مَوْتُ ما لكَ مُولَعاً بِضِرَارِي ... إِنِّي عليكَ وإنْ صَبَرْتُ لزاري )

( تعدو عليّ كأنّني لك واترٌ ... وأؤول منكَ كما يؤولُ فِرَارِي )
( نَفْسَ البعيدِ إذا أردتَ قريبةٌ ... ليستْ بناجيةٍ مع الأقدارِ )
( والمرءُ سوف وإنْ تطاولَ عُمْرُه ... يوماً يصيرُ لحُفْرَة الحَفَّارِ )
( لَمّا غَلاَ عَظمٌ به فكأنَّه ... من حسن بِنْيتِه قَضِيبُ نُضَارِ )
( فجّعْتني بأعَزِّ أهلي كُلِّهم ... تعدو عليه عَدْوَة الجبَّار )
( هَلاَّ بنفسي أو ببعض قَرَابتي ... أوقعتَ أوْ ما كنتَ للمُختار )
( وتركتَ ربتي التي مِنْ أجلِها ... عِفْتُ الجِهادَ وصِرْتُ في الأمصار )

رفض العمل عندما رأى العمال يعذبون
أخبرني علي بن سليمان قال حدثني السكري عن محمد بن حبيب قال قال رجل من بني أسد كان وجها لإسماعيل بن عمار هلم أركب معك إلى يوسف بن عمر فإنه صديق حتى أكلمه فيك يستعملك على عمل تنتفع به
فقال له إسماعيل دعني حتى يحول الحول
فنظر إسماعيل إلى عمال يوسف يعذبون فقال في ذلك
( رأيتُ صَبِيحةَ النَّيْروزِ أمراً ... فظيعاً عن إمارتهم نَهَانِي )
( فَرَرتُ من العِمالةِ بعد يَحْيَى ... وبعد النَّهْشَليّ أبي أبَانِ )
( وبعد الزور وابن أبي كَثِيرٍ ... وفيقدِ أشْجَعٍ وأبي بِطَانِ )
( فحَابِ بها أبا عُثَمانَ غيري ... فما شأنُ الإِمارةِ لي بِشانِ )

( أُحَاذِرُ أنْ أُقَصِّر في خَرَاجي ... إلى النَّيْروزِ أو في المِهْرَجانِ )
( أُعَجَّلُ إنْ أتى أجلي بوقتٍ ... وَحَسْبِي بالمُجَرِّحةِ المِتَانِ )
( فما عُذْرِي إذا عَرّضتُ ظهري ... لأِلفٍ من سِياطِ الشَّاهِجَانِ )
( تُعَدُّ ليوسفٍ عدًّا صحيحاً ... ويحفَظها عليه الجالدانِ )
( وأُسْحَبُ في سَراويلي بقَيْدِي ... إلى حَسّانَ مُعْتَقَلَ اللِّسانِ )
( فمنهم قائلٌ بُعْداً وسُحْقاً ... ومنهم آخَرَانِ يُفَدِّيانِ )
( كفاني من إمارتهم عَطَائي ... وما أُحْذِيتُ من سَبَق الرِّهانِ )
( كفاني ذاك منهم ما بَقِينا ... كما فيما مَضَى لي قد كفاني )
وقال ابن حبيب في الإسناد الذي ذكرناه إنه كانت لعبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي وصيفة مغنية يؤدبها ويصنعها ليهديها إلى هشام بن عبد الملك يقال لها بوبة
فقال فيها إسماعيل بن عمار
( بُوبَ حُيِّيتِ عن جليسِكِ بُوبَا ... مُخطئاً في تحيِّتي أو مصيبا )
( ما رأينا قتيلَ حيٍّ حبا القاتلَ ... بالوِتْرِ أنْ يكونَ حبيبا )
( غيرَ ما قد رُزقت يا بُوبَ منِّي ... فهنيئاً وإنْ أتيتِ عجيبا )
( غيرَ مَنٍّ به عليكِ وإنْ كُنْتُ ... بقَدْرِ القِيَانِ طَبًّا طبيبا )
( بنتُ عَشْرٍ أديبةٌ في قُرَيْشٍ ... بَخْ فأَكْرِمْ بهم أباً ونَسِيبا )

( أُدِّبتْ في بني أمَيّةَ حتّى ... كَمَلتْ في حُجورهم تأديبا )
قال ثم أهداها ابن عنبسة إلى هشام
فقال إسماعيل بن عمار
( أَلاَ حُيِّيتِ عنّا ثُمَّ ... سَقْياً لكِ يا بُوبَه )
( وأَكْرِمْ بكِ مُهْداةً ... وأَحْبِبْ بِك مَطْلوبه )
( ووَاهاً لكِ من بِكْرٍ ... وواهاً لكِ مثقوبَه )
( وواهاً لك مُلْقاةً ... وواهاً لك مكبوبه )
( لقد عايَنَ مَنْ يَلْقاكِ ... من حُسْنِك أُعجوبه )
( ويا وَيْلِي ويا عَوْلي ... فنَفْسِي الدَّهْرَ مكروبه )
( على هَيْفاءَ حَوْراء ... على جَيْداءَ رُعْبوبه )
( إذا ضاجَعها المَوْلَى ... فقد أدركَ محبوبه )

هجاؤه لجارية له
قال ابن حبيب في هذه الرواية كان لإسماعيل بن عمار جارية قد ولدت منه وكانت سيئة الخلق قبيحة المنظر وكان يبغضها وتبغضه فقال فيها
( بُلِيتُ بزَمَّرْدَةٍ كالعَصَا ... ألَصَّ وأخبثَ من كُنْدُشِ )
( تُحِبّ النساءَ وتأبَى الرجالَ ... وتمشِي مع الأسْفَهِ الأطْيش )
( لها وجهُ قِرْدٍ إذا ازَّيَّنَتْ ... ولونٌ كبَيْضِ القَطَا الأبْرَش )

( ومِن فوقِه لِمَّةٌ جَثْلَةٌ ... كمثلِ الخوافِي مِنَ المَرْعَشِ )
( وبطنٌ خَوَاصِرُه كالوِطَاب ... زادَ على كَرِشِ الأكْرَشِ )
( وإنْ نَكَهتْ كِدتُ من نَتْنِها ... أَخِرُّ على جانِبِ المَفْرَشِ )
( وثَدْيٌ تدلَّى على بطنِها ... كقِرْبَةِ ذي الثَّلَّةِ المُعْطِشِ )
( وَفَخْذَانِ بينَهما بَسْطةٌ ... إذا ما مشتْ مِشْيَة المُنْتَشِي )
( وساقٌ يُخَلْخِلُها خاتمٌ ... كساق الدَّجاجةِ أو أحمشُ )
( وفي كلِّ ضِرْسٍ لها أَكْلَةٌ ... أصَلُّ من القبر ذي المَنْبَشِ )
( ولمّا رأيتُ خَوَا أنفها ... وفِيها وإصْلاَلَ ما تحتشِي )
( إلى ضامرٍ مثلِ ظِلْفِ الغَزَالِ ... أشَدَّ اصفراراً من المِشْمِشْ )
( فَرَرتُ منَ البيتِ من أجلِها ... فِرار الهَجِينِ من الأعمش )
( وأبردُ من ثَلْج سَاتِيدَمَا ... إذا راح كالعُطُبِ المُنْفَش )

( وأرْسَحُ من ضِفْدَعٍ عَثّةٍ ... تَنِقُّ على الشَّطّ من مَرْعَشِ )
( وأوْسَعُ من باب جِسْرِ الأميرِ ... تُمِرُّ المَحَامِلَ لم تَخْدِشِ )
( فهذِي صِفاتِي فلا تَأْتِها ... فقد قلتُ طَرْداً لها كَشْكِشِي )
وقال ابن حبيب كان في جوار إسماعيل بن عمار رجل من قومه ينهاه عن السكر وهجاء الناس ويعذله وكان إسماعيل له مغضبا
فبنى ذلك الرجل مسجدا يلاصق دار إسماعيل وحسنه وشيده وكان يجلس فيه هو وقومه وذوو التستر والصلاح منهم عامة نهارهم فلا يقدر إسماعيل أن يشرب في داره ولا يدخل إليه أحد ممن كان يألفه من مغن أو مغنية أو غيرهما من أهل الريبة
فقال اسماعيل يهجوه وكان الرجل يتولى شيئا من الوقوف للقاضي بالكوفة
( بَنَى مسجداً بُنْيَانُه من خِيانةٍ ... لَعَمْرِي لَقِدْماً كنتَ غيرَ مُوَفَّقِ )
( كصاحبةِ الرُّمّان لمَّا تَصَدّقتْ ... جَرَتْ مَثَلاً للخائن المتصدِّق )
( يقولُ لها أهلُ الصَّلاح نصيحةً ... لكِ الوَيْلُ لا تَزْنِي ولا تَتَصَدَّقي )
وقال ابن حبيب ولي العسس رجل غاضري فأخذ بني مالك وهم رهط إسماعيل بن عمار بان كانوا معه فطافوا الى الغداة
فلما أصبح غدا على الوالي مستعديا على الغاضري
فقال له الوالي وكان رجلا من همدان ماذا صنع بك فأنشأ يقول
( عَسَّ بنا ليلتَه كُلَّها ... ما نحن في دُنْيَا ولا آخِرَهْ )

( يأمُر أشياخَ بني مالكٍ ... أن يحرُسوا دون بني غَاضِرَهْ )
( واللَّهُ لا يرضَى بذا كائناً ... من حُكْم هَمْدَانَ إلى الساهره )
قال فقال له الوالي قد لعمري صدقت ووظف على سائر البطون أن يطوفوا مع صاحب العسس في عشائرهم ولا يتجاوزوا قبيلة إلى قبيلة ويكون ذلك بنوائب بينهم

انقطع إلى خالد بن خالد بن الوليد ورثاه حين مات
وقال ابن حبيب كان اسماعيل بن عمار منقطعا إلى خالد بن خالد بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان إليه محسنا وكان ينادمه
فولي خالد بن خالد عملا للوليد بن يزيد بن عبد الملك فخرج إليه وكان إسماعيل عليلا فتأخر عنه ثم لم يلبث خالد أن مات في عمله فورد نعيه الكوفة في يوم فطر
فقال إسماعيل بن عمار يرثيه
( ما لِعَيْنِي تَفِيضُ غيرَ جَمُودِ ... ليس تَرْقَا ولا لها من هُجودِ )
( فإذا قَرّتِ العيونُ اسْتَهلّتْ ... فإذا نِمْنَ أُولِعتْ بالسُّهود )
( ألِنَعْيِ ابنِ خالدٍ خالدِ الخَيْرات ... في يومِ زينةٍ مشهود )
( سَنَحَتْ لي يومَ الخميسِ غداةَ الفِطْرِ ... طيرٌ بالنَّحْس لا بالسُّعود )
( فتعيَّفتُ أنَّهنّ لأمرٍ ... مُفْظِعٍ مّا جَرَيْنَ في يومِ عيدِ )
( فنعتْ خالدَ بنَ أرْوَى وجَلّ الخطبُ ... فِقْدانُ خالدِ بن الوليدِ )

حبسه السلطان عندما وشي به
وقال ابن حبيب كان لإسماعيل بن عمار جار يقال له عثمان بن درباس فكان يؤذيه ويسعى به الى السلطان في كل حال ثم سعى به أنه يذهب مذهب الشراة فأخذ وحبس فقال يهجوه
( مَنْ كان يحسُدني جاري ويَغْبِطني ... مِنَ الأنامِ بعثمانَ بنِ دِرْبَاسِ )
( فقرَّب اللَّه منه مثلَه أبداً ... جاراً وأبْعَدَ منه صالحَ النّاسِ )
( جارٌ له بابُ ساجٍ مُغْلَقٌ أبداً ... عليه من داخلٍ حُرَّاسُ أحْرَاسِ )
( عَبْدٌ وعبدٌ وبنتاهُ وخادِمُه ... يدعُون مثلَهُمُ ما ليس من ناس )
( صُفْرُ الوجوهِ كأنَّ السُّلَّ خَامَرَهُمْ ... وما بهم غيرَ جَهْدِ الجوعِ من باس )
( له بَنُونَ كأطْباءٍ مُعَلَّقةٍ ... في بطن خِنزيرةٍ في دار كَنَّاسِ )
( إن يُفْتَحِ البابُ عنهم بعد عاشرةٍ ... تظنُّهم خرجوا من قَعْرِ أرماس )
( فليتَ دارَ ابنِ دِرْباسٍ مُعَلَّقَةٌ ... بالنَّجْمِ بين سَلاَليم وأمْرَاس )
( فكان آخِرَ عَهْدِي منهمُ أبداً ... وابتعتُ داراً بغِلْمانِي وأفْراسي )
قال وقال فيه أيضا
( لَيْتَ بِرْذَوْنِي وبَغْلِي ... وَجَوَادي وَحِمَارِي )
( كُنَّ في الناس وأُبْدِلتُ ... غداً جاراً بجار )

( جارَ صِدْقِ بابنِ دِرْباسٍ ... وإلاّ بِعْتُ دارِي )
( فَتَبَدّلتُ به مِنْ ... يَمَنٍ أو من نِزَارِ )
( بَدَلاً يَعْرِف ما اللَّهُ ... وما حَقُّ الجِوَارِ )
( لو تَبَدَّلتُ سِواهُ ... طاب ليلي وَنَهارِي )
( واسْتَرَحْنا من بَلاَيَاهُ ... صغارٍ أو كِبارِ )
( لو جزيناهُ بها كُنّا ... جميعاً في فَجَارِ )
( أو سكتْنا كان ذُلاًّ ... داخلاً تحت الشِّعارِ )
قال فلما قال فيه الشعر استعدى عليه السلطان وذكر أنه من الشراة وأنهم مجتمعون عنده وأنه من دعاة عبد الله بن يحيى وأبي حمزة المختار
فكتب من السجن إلى ابن أخ له يقال له معان
( أبْلِغْ مُعَاناً عنِّي وإخوتَه ... قولاً وما عالِمٌ كَمَنْ جَهِلاَ )
( بأنَّني والمُصَبِّحات مِنىً ... يعدُون طَوْراً وتارةً رَمَلاَ )
( لخَائفٌ أنْ يكونَ وُدُّكُمُ ... إيَّايَ بعد الصفاء قد أفَلاَ )

( أئنْ عَرَانِي دَهْرِي بنائبةٍ ... أصبحَ منها الفؤادُ مشتعلا )
( حاولتُمُ الصُّرْمَ أوْ لَعَلّكُمُ ... ظَننتُمُ ما أصابني جَلَلا )
( لا تُغْفِلونا بني أخِي فلقدْ ... أصبحتُ لا أبتغِي بكم بَدَلاَ )
( تمسَّكوا بالّذي امتسكتُ به ... فإنّ خيرَ الإِخوانِ مَنْ وَصَلا )
قال فكتب إليه ابن أخيه
( يا عَمِّ عُوفِيتَ من عذابِهِمُ النُّكْرِ ... وفارقتَ سِجْنَهم عَجِلاَ )
( كتبتَ تشكو بني أخيك وقد ... أرسلَ من كان قبلَنا مَثَلاَ )
( ابْدَأْهُمُ بالصُّرَاخِ يَنْهَزِموا ... فأنت يا عَمِّ تبتغِي العِللا )
( زعمتَ أنّا نرى بلاءك في ... دارِ بلاءٍ مُكَبَّلاً جَلَلاَ )
( يا عَمِّ بئس الفِتْيَانُ نحن إذاً ... أمَّا وفي رِجْلك الكُبُولُ فَلاَ )
( عليَّ إنْ كنتَ صادقاً حِجَجٌ ... للبيتِ عامَيْنِ حافياً رَجُلاَ )
( بُعِّدَ عنكَ الهمومُ فارْجُ من اللَّهِ ... خَلاَصاً وأحْسِنِ الأمَلاَ )

شعره في الحكم بن الصلت بعد ان اطلقه من السجن
قال ثم ولي الحكم بن الصلت فأطلقه وأحسن إليه فلم يزل يشكره ويمدحه
ثم عزل الحكم بعد ذلك فقال إسماعيل فيه
( تباركَ اللَّهُ كيف أَوْحشتِ الكوفةُ ... أنْ لم يَكُنْ بها الحَكَمُ )
( الحَكَمُ العَدْلُ في رعيّتِهِ الكاملُ ... فيه العفافُ والفَهَمُ )

( فأصبح القصرُ والسَّريرانِ والمِنْبَرُ ... كالكل من أبٍ يَتَمُ )
( يُذْرِي عليه السريرُ عَبْرَتَه ... والمِبْتَرُ المَشْرَفيُّ يَلتدِمُ )
( والناسُ من حُسْنِ سِيرةِ الْحَكَمِ بنِ ... الصَّلْتِ يبكون كُلَّما ظُلِموا )
( مثلُ السّكَارَى في فَرْطِ وَجْدِهِمُ ... إِلاَّ عَدُوًّا عليه يُتَّهَمُ )
( يومَ جَرَى طائرُ النُّحوسِ لهم ... يُنْزَعُ منه القِرْطَاسُ والقَلَمُ )
( فأرغمَ اللَّهُ حاسِدِيهِ كما ... أرغمَ هُودَ القُرودِ إذْ رَغِمُوا )
( في سَبْتِهِم يوم نابَ خَطْبُهُم ... واللَّهُ ممّنْ عصاهُ ينتقمُ )
( إنا إلى اللَّه راجِعون أمَا ... لِلنّاسِ عهدٌ يُوفَى ولا ذِمَمُ )
( حَوْلٌ علينا وليلتانِ لنا ... من لَذّةِ العيش بئسَما حَكَمُوا )
( لا حُكْم إِلاَّ للَّه يُظْهِرُه ... يَقْضِي لِضيزَائها الَّتي قَسَموا )
( ماذا تُرَجِّي من عَيْشِها مُضَرٌ ... إنْ كان من شأنِها الّذي زعموا )
وقال ابن حبيب سمع اسماعيل بن عمار رجلا ينشد أبياتا للفرزدق يهجو بها عمر بن هبيرة الفزاري لما ولي العراق ويعجب من ولايته إياها وكان خالد القسري قد ولي في تلك الأيام العراق فقال إسماعيل أعجب والله مما عجب منه الفرزدق من ولاية ابن هبيرة وهو ما لست أراه يعجب منه ولاية خالد القسري وهو مخنث دعي ابن دعي ثم قال

( عَجِب الفرزدقُ من فَزارَةَ أنْ رأى ... عنها أُمَيّةَ بالمَشَارِقِ تَنْزِعُ )
( فلقدْ رأى عَجَباً وأُحْدِث بعده ... أمرٌ تطيرُ له القلوبُ وتفزَع )
( بَكَتِ المنابرُ من فَزَارَةَ شَجْوَها ... فالآن من قَسْرٍ تصيحُ وتجزَع )
( فملوكُ خِنْدِفَ أضْرَعونا للعِدَا ... لِلَّهِ دَرُّ مُلوكِنا ما تَصْنَع )
( كانوا كقاذفةٍ بَنِيها ضَلّةً ... سَفَهاً وغيرُهُمُ تَرُبُّ وتُرْضِع )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن سعيد بن أسيد العامري قال حدثني محمد بن أنس الأسدي قال
جلست إلى إسماعيل بن عمار وإذا هو يفتل أصابعه متأسفا فقلت علام هذا التأسف والتلهف فقال
( عينايَ مشؤومتان وَيْحَهما ... والقلبُ حَرّانُ مُبْتَلىً بهما )
( عرَّفتاه الهَوَى لِظُلْمهما ... يا ليتَني قبلَ ذا عَدِمْتُهما )
( هُمَا إلى الحَيْنِ دَلَّتَا وهما ... ذَلّ على مَنْ أُحِبُّ دَمْعُهما )
( سأَعْذِرُ القلبَ في هواه وما ... سَبَّبَ كلَّ البَلاَءِ غيرُهما )

صوت
( فكَعْبَةُ نَجْرَانَ حَتْمٌ عليكِ ... حتَّى تُنَاخِي بأبوَابِها )
( نَزورُ يَزِيدَ وعبدَ المَسِيحِ ... وَقَيْساً همُ خيرُ أربابِها )
( وشَاهِدُنا الجُلُّ واليَاسَمِينُ ... والمُسْمِعاتُ بقُصَّابِها )
( وبَرْبَطُنا دائمٌ مُعْمَلٌ ... فأيُّ الثلاثةِ أزْرَى بها )

( إذا الحَبَرات ناحت بهم ... وجَرُّوا أَسافِل هُدَّابها )
( فلمّا التَقينا على آيةٍ ... ومَدّتْ إليّ بأسبابها )
عروضه من المتقارب
الشعر للأعشى يمدح بني عبد المدان الحارثيين من بني الحارث بن كعب
والغناء لحنين خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق
وذكر يونس أن فيه لحنا لمالك
وزعم عمرو بن بانة أنه خفيف ثقيل
وزعم أبو عبد الله الهشامي أن فيه لابن المكي خفيف رمل بالوسطى أوله
( تُنازِعني إذ خلت بُرْدَها ... )
ومعه باقي الأبيات مخلطة مقدمة ومؤخرة
والكعبة التي عناها الأعشى ها هنا يقال إنها بيعة بناها بنو عبد المدان على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان فيها أساقفة يقيمون وهم الذين جاؤوا إلى النبي ودعاهم إلى المباهلة وقيل بل هي قبة من أدم سموها الكعبة
وكان إذا نزل بها مستجير أجير أو خائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أعطي ما يريده
والمسمعات القيان
والقصاب أوتار العيدان
وقال الأصمعي قلت لبعض الأعراب أنشدني شيئا من شعرك
قال كنت أقول الشعر وتركته
فقلت ولم ذاك قال لأنني قلت شعرا وغنى فيه حكم الوادي وسمعته فكاد يذهل عقلي فآليت ألا أقول شعرا وما حرك حكم قصابه إلا توهمت أن الله عز و جل مخلدي بها في النار

بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار الأعشى وبني عبد المدان وأخبارهم مع غيره
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راوية الأعشى قال
كان لبيد مجبرا حيث يقول

( مَنْ هَدَاهُ سُبُلَ الخَيْرِ اْهْتَدى ... ناعمَ البال ومَنْ شاءَ أضَلّ )
وكان الأعشى قدريا حيث يقول
( اِستأثر الله بالوَفاء وبِالعدلْ ... ِ وولَّى المَلاَمةَ الرَّجُلاَ )
فقلت له من أين أخذ هذا فقال أخذه من أساقفة نجران وكان يعود في كل سنة إلى بني عبد المدان فيمدحهم ويقيم عندهم يشرب الخمر معهم وينادمهم ويسمع من أساقفة نجران قولهم فكل شيء في شعره من هذا فمنهم أخذه

خبر أساقفة نجران مع النبي
فأما خبر مباهلتهم النبي فأخبرني به علي بن العباس بن الوليد البجلي المعروف بالمقانعي الكوفي قال أنبأنا بكار بن أحمد بن اليسع الهمداني قال حدثنا عبد الله بن موسى عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب قال بكار

وحدثنا إسماعيل بن أبان العامري عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام وحديثه أتم الأحاديث وحدثني به جماعة آخرون بأسانيد مختلفة وألفاظ تزيد وتنقص فممن حدثني به علي بن أحمد بن حامد التميمي قال حدثنا الحسن بن عبد الواحد قال حدثنا حسن بن حسين عن حيان بن علي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن الحسن بن الحسين عن محمد بن بكر عن محمد بن عبد الله بن علي بن أبي رافع عن أبيه جده عن أبي رافع وأخبرني علي بن موسى الحميري في كتابه قال حدثنا جندل بن والق قال حدثنا محمد بن عمر عن عباد الكليبي عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن ابن عباس وأخبرني أحمد بن الحسين بن سعد بن عثمان إجازة قال حدثنا أبي قال حدثنا حصين بن مخارق عن عبد الصمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس قال الحصين وحدثني أبو الجارود وأبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر قال وحدثني حمد بن سالم وخليفة بن حسان عن زيد بن علي عليه السلام قال حصين وحدثني

سعيد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس وممن حدثني أيضا بهذا الحديث علي بن العباس عن بكار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس المدني عن جعفر بن محمد وعبد الله والحسن ابني الحسن وممن حدثني به أيضا محمد بن الحسين الأشناني قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي قال حدثني يحيى بن سالم عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام وممن أخبرني به أيضا الحسين بن حمدان بن أيوب الكوفي عن محمد بن عمرو الخشاب عن حسين الأشقر عن شريك عن جابر عن أبي جعفر وعن شريك عن المغيرة عن الشعبي واللفظ للحديث الأول قالوا قدم وفد نصارى نجران وفيهم الأسقف والعاقب وأبو حبش والسيد وقيس وعبد المسيح وابن عبد المسيح الحارث وهو غلام وقال شهر بن حوشب في حديثه وهم أربعون حبرا حتى وقفوا على اليهود في بيت

المدارس فصاحوا بهم يابن صوريا يا كعب بن الأشرف انزلوا يا إخوة القرود والخنازير فنزلوا إليهم فقالوا لهم هذا الرجل عندكم منذ كذا وكذا سنة قد غلبكم أحضروا الممتحنة لنمتحنه غدا فلما صلى النبي الصبح قاموا فبركوا بين يديه ثم تقدمهم الأسقف فقال يا أبا القاسم موسى من أبوه قال عمران قال فيوسف من أبوه قال يعقوب قال فأنت من أبوك قال أبي عبد الله بن عبد المطلب قال فعيسى من أبوه فسكت رسول الله وآله فانقض عليه جبريل عليه السلام فقال ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ) فتلاها رسول الله فنزا الاسقف ثم دير به مغشيا عليه ثم رفع رأسه إلى النبي فقال له أتزعم أن الله جل وعلا أوحى إليك أن عيسى خلق من تراب ما نجد هذا فيما أوحي إليك ولا نجده فيما أوحي إلينا ولا تجده هؤلاء اليهود فيما أوحي إليهم فأوحى الله تبارك وتعالى إليه ( فمن حاجك فيه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) فقال أنصفتنا يا أبا القاسم فمتى

نباهلك فقال بالغداة إن شاء الله تعالى وانصرف النصارى وانصرفت اليهود وهي تقول والله ما نبالي أيهما أهلك الله الحنيفية أو النصرانية فلما صارت النصارى إلى بيوتها قالوا والله إنكم لتعلمون أنه نبي ولئن باهلناه إنا لنخشى أن نهلك ولكن استقيلوه لعله يقيلنا وغدا النبي من الصبح وغدا معه بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم فلما صلى الصبح انصرف فاستقبل الناس بوجهه ثم برك باركا وجاء بعلي فأقامه بين يديه وجاء بفاطمة فأقامها بين كتفيه وجاء بحسن فأقامه عن يمينه وجاء بحسين فأقامه عن يساره فأقبلوا يستترون بالخشب والمسجد فرقا أن يبدأهم بالمباهلة إذا رآهم حتى بركوا بين يديه ثم صاحوا يا أبا القاسم أقلنا أقالك الله عثرتك فقال النبي نعم قال ولم يسأل النبي شيئا قط إلا أعطاه فقال قد أقلتكم فولوا فلما ولوا قال النبي أما والذي بعثني بالحق لو باهلتهم ما بقي على وجه الأرض نصراني ولا نصرانية إلا أهلكهم الله تعالى وفي حديث شهر بن حوشب أن العاقب وثب فقال أذكركم الله أن نلاعن هذا الرجل فوالله لئن كان كاذبا ما لكم في ملاعنته خير ولئن كان صادقا لا يحول الحول ومنكم نافخ ضرمة فصالحوه ورجعوا

قبة الأدم بنجران
وأما خبر القبة الأدم التي ذكرها الأعشى فأخبرني بخبرها عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن عمرو الأنصاري عن هشام بن محمد عن أبيه قال

كان عبد المسيح بن دارس بن عربي بن معيقر من أهل نجران وكانت له قبة من ثلاثمائة جلد أديم وكان على نهر بنجران يقال النحيردان قال ولم يأت القبة خائف إلا أمن ولا جائع إلا شبع وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار وكانت القبة تستغرق ذلك كله وكان أول من نزل نجران من بني الحارث بن كعب يزيد بن عبد المدان بن الديان وذلك أن عبد المسيح بن دارس زوج يزيد بن عبد المدان ابنته رهيمة فولدت له عبد الله بن يزيد فهم بالكوفة ومات عبد المسيح فانتقل ماله إلى يزيد فكان أول حارثي حل في نجران وفي ذلك يقول أعشى قيس بن ثعلبة
( فكعبةُ نجرانَ حَتْمٌ عَلَيكْ ... ِ حتَّى تُنَاجِي بأَبوابِها )
( نزورُ يزيدَ وعبدَ المسيحِ ... وقيساً همُ خير أربابِها )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال حدثني بعض بني الحارث بن كعب وأخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال

اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ وقدم أمية بن الأسكر الكناني ومعه ابنة له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فقالت أم كلاب امرأة أمية بن الأسكر من هذان الرجلان فقال هذا يزيد بن عبد المدان بن الديان وهذا عامر بن الطفيل فقالت أعرف بني الديان ولا أعرف عامرا فقال هل سمعت بملاعب الأسنة فقالت نعم قال فهذا ابن أخيه وأقبل يزيد فقال يا أمية أنا ابن الديان صاحب الكثيب ورئيس مذحج ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا فقال أمية بخ بخ فقال عامر

جدي الأخرم وعمي ملاعب الأسنة وأبي فارس قرزل فقال أمية بخ بخ مرعى ولا كالسعدان فأرسلها مثلا فقال يزيد يا عامر هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحة إلى رجل من قومك قال اللهم لا قال فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي قال اللهم نعم قال فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان قال لا قال فهل ملكناكم ولم تملكونا قال نعم فنهض يزيد وأنشأ يقول
( أُميَّ يابنَ الأسكر بنِ مُدْلِجِ ... لا تَجْعَلَنْ هَوَازِناً كمَذْحجِ )
( إنَّك إنْ تَلْهَجُ بأمرٍ تَلْجج ... ما النبع في مَغْرسِه كالعَوْسَجِ )
( ولا الصَّرِيحُ المَحْضُ كالمُمَزَّجِ ... )
قال قال مرة بن دودان النفيلي وكان عدوا لعامر
( يا ليت شِعْري عنك يا يزيدُ ... ماذا الَّذِي من عامرٍ تِرِيدُ )
( لِكُلِّ قومٍ فَخْرُكم عتِيدُ ... أمُطلَقُون نحنُ أم عَبِيدُ )
( لا بل عَبِيدٌ زَادُنا الَهبيدُ ... )

قال فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته فقال يزيد في ذلك
( يا للرِّجال لِطارق الأحزان ... ولِعامِرِ بنِ طُفَيْلٍ الوَسْنان )
( كانت إتاوة قومِه لمُحَرِّقٍ ... زمناً وصارتْ بعدُ لِلنُّعْمانِ )
( عدَّ الفَوَارِسَ من هَوَازِنَ كُلِّها ... فخراً عليّ وجئتُ بالديّان )
( فإذا ليَ الشَّرَفُ المُبِينُ بوالدٍ ... ضخْم الدَّسيعةِ زانني ونَمَاني )
( يا عامُ إنك فارسٌ ذو مَيْعةٍ ... غَضُّ الشَّباب أخو نَدًى وقِيَان )
( واعلمْ بأنك بابن فارِس قُرْزُلٍ ... دون الذي تسعَى له وتُدَاني )
( ليست فوارسُ عامرٍ بمُقِرّةٍ ... لكَ بالفضيلةِ في بني عَيْلان )
( فإذا لَقِيتَ بني الحِمَاسِ ومالكٍ ... وبني الضِّباب وحيّ آلِ قَنَان )
( فاسألْ عن الرَّجُلِ المُنَوَّهِ باسمِه ... والدافع الأعداءِ عن نَجْران )
( يُعْطَى المَقَادةَ في فوارسِ قَوْمِه ... كَرَماً لَعَمْرُك والكريمُ يَمَاني )
فقال عامر بن الطفيل
( عجباً لواصفِ طارقِ الأحزانِ ... ولِمَا يَجِيء به بنو الدَّيّان )
( فَخَرُوا عليَّ بحَبْوةٍ لِمُحَرِّقٍ ... وإتاوةٍ سيقتْ إلى النُّعْمانِ )

( ما أنتَ وابنَُ مُحَرِّقٍ وقَبيُلَهُ ... وإتاوةَُ اللَّخْمِيِّ في عَيْلانِ )
( فاقْصِدْ بفَخْرِكَ قَصْدَ قومِك قُصْرةً ... ودَعِ القَبائلَ من بني قَحْطان )
( إنْ كان سالفةُ الإتاوةِ فيكمُ ... أوْ لاَ ففَخْرُكَ فخرُ كلِّ يَمَاني )
( وافْخَرْ برَهْطِ بني الحِمَاسِ ومالكٍ ... وبني الضِّباب وزَعْبَلٍ وقَنَان )
( فأنا المُعَظَّمُ وابنُ فارسِ قُرْزُلٍ ... وأبو بَرَاءٍ زانني ونماني )
( وأبو جُزَيْءٍ ذو الفَعَالِ ومالكٌ ... مَنَعا الذِّمارَ صباحَ كلِّ طِعَان )
( وإذا تَعَاظمتِ الأمورَ هَوازنٌ ... كنتُ المُنَوَّهَ باسمِه والباني )

مرة بن دودان يرفض هجاء بني الديان
فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرة بن دودان وقالوا له أنت من بني عامر وأنت شاعر ولم تهج بني الديان فقال مرة
( تُكَلِّفُني هوازنُ فخرَ قوْمٍ ... يقولون الأنامُ لنا عبيدُ )
( أبونا مَذْحِجٌ وبنو أبِيهِ ... إذا ما عُدَّتِ الآباءُ هُودُ )
( وهل لِي إن فَخَرْتُ بغير حقٍّ ... مَقالٌ والأنامُ لهم شُهودُ )
( فأنَّى تَضْرِبُ الأعلامُ صَفْحاً ... عن العَلْياء أم مَنْ ذا يَكِيدُ )
( فقولوا يا بني عَيْلانَ كنَّا ... لهم قِنّاً فما عنها مَحِيدُ )

وقال ابن الكلبي في هذه الرواية قدم يزيد بن عبد المدان وعمرو بن معد يكرب ومكشوح المرادي على ابن جفنة زوارا وعنده وجوه قيس ملاعب الأسنة عامر بن مالك ويزيد بن عمرو بن الصعق ودريد بن الصمة فقال ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان ماذا كان يقول الديان إذا أصبح فإنه كان ديانا فقال كان يقول آمنت بالذي رفع هذه يعني السماء ووضع هذه يعني الأرض وشق هذه يعني أصابعه ثم يخر ساجدا ويقول سجد وجهي للذي خلقه وهو عاشم وما جشمني من شيء فإني جاشم فإذا رفع رأسه قال
( إنْ تَغْفِرِ اللَّهمِّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عَبْدٍ لك ما أَلمَّا )

فقال ابن جفنة إن هذا لذو دين ثم مال على القيسيين وقال ألا تحدثوني عن هذه الرياح الجنوب والشمال والدبور والصبا والنكباء لم سميت بهذه الأسماء فإنه قد أعياني علمها فقال القوم هذه أسماء وجدنا العرب عليها لا نعلم غير هذا فيها فضحك يزيد بن عبد المدان ثم قال يا خير الفتيان ما كنت أحسب أن هذا يسقط علمه على هؤلاء وهم أهل الوبر إن العرب تضرب أبياتها في القبلة مطلع الشمس لتدفئهم في الشتاء وتزول عنهم في الصيف فما هب من الرياح عن يمين البيت فهي الجنوب وما هب عن شماله فهي الشمال وما هب من أمامه فهي الصبا وما هب من خلفه فهي الدبور وما استدار من الرياح بين هذه الجهات فهي النكباء فقال ابن جفنة إن هذا للعلم يابن عبد المدان وأقبل على القيسيين يسألهم عن النعمان بن المنذر فعابوه وصغروه فنظر ابن جفنة إلى يزيد فقال له ما تقول يابن عبد المدان فقال يزيد يا خير الفتيان ليس صغيرا من منعك العراق وشركك في الشام وقيل له أبيت اللعن وقيل لك يا خير الفتيان وألفى أباه ملكا كما ألفيت أباك ملكا فلا يسرك من يغرك فإن هؤلاء لو سألهم عنك النعمان لقالوا فيك مثل ما قالوا فيه وايم الله ما فيهم رجل إلا ونعمة النعمان عنده عظيمة فغضب عامر بن مالك وقال له يابن الديان أما والله لتحتلبن بها دما فقال له ولم أزيد في هوازن من لا أعرفه فقال لا بل هم الذين تعرف فضحك يزيد ثم قال ما لهم جرأة بني الحارث ولا فتك مراد ولا بأس زبيد ولا كيد جعفي ولا مغار طيئ وما هم ونحن يا خير الفتيان بسواء ما قتلنا أسيرا قط ولا اشتهينا حرة قط ولا بكينا قتيلا حتى نسيء به وإن هؤلاء ليعجزون عن ثأرهم حتى يقتل السمي بالسمي والكني بالكني والجار بالجار وقال يزيد بن عبد المدان فيما كان بينه وبين القيسيين شعرا غدا به على ابن جفنة

( تَمَالاَ على النُّعمان قومٌ إليهمُ ... مَوَارِدُهُ في مُلْكِهِ ومَصَادِرُهْ )
( على غير ذنبٍ كان منه إليهمُ ... سِوَى أَنَّه جادتْ عليهم مَوَاطِره )
( فباعَدَهُمْ مِن كلِّ شَرٍّ يَخَافُه ... وقَرّبَهم من كلِّ خيرٍ يُبَادِره )
( فظَنُّوا وأعراضُ الظنون كثيرةٌ ... بأنّ الّذي قالوا من الأمر ضائرُه )
( فلم يَنْقُصوه بالّذي قِيلَ شَعْرةً ... ولا فُلِّلَتْ أنيابُه وأظافرُه )
( وَللْحارِثُ الجَفْنِيُّ أعلمُ بالّذِي ... يَنُوءُ به النُّعْمانُ إن خَفَّ طائِرُهْ )
( فيا حارُِكَمْ فيهمْ لِنُعْمانَ نِعْمةٍ ... من الفضل والمَنِّ الذي أنا ذَاكِرُه )
( ذُنوباً عفَا عنها ومالاً أفادَه ... وعَظْماً كسيراً قَوّمَتْه جَوَابِرُه )
( ولو سَالَ عنك العائبين ابنُ مُنْذِرٍ ... لقالوا له القولَ الذي لا يُحَاوِره )
قال فلما سمع ابن جفنة هذا القول عظم يزيد في عينه وأجلسه معه على سريره وسقاه بيده وأعطاه عطية لم يعطها أحدا ممن وفد عليه قط
فلما قرب يزيد ركائبه ليرتحل سمع صوتا إلى جانبه وإذا هو رجل يقول
( أمَا مِنْ شفيعٍ من الزائرين ... يُحِبّ الثَّنَا زَنْدُه ثاقِبُ )
( يُريد ابنُ جفنة إكرامه ... وقد يمسَح الضَّرَّةَ الحَالِبُ )
( فيُنْقِذَني من أَظافيرِه ... وإلاّ فإنِّي غداً ذاهبُ )
( فقد قلتُ يوماً على كُرْبةٍ ... وفي الشَّرْب في يَثْرِب غالِبُ )

( ألا ليتَ غَسَّانَ في مُلْكِها ... كلَخْمٍ وقَد يُخْطئُ الشاربُ )
( وما في ابن جَفْنةَ من سُبَّةٍ ... وقد خَفّ حِلْمِي بها العازبُ )
( كأنِّي غريبٌ من الأْبعَدِينَ ... وفي الحَلْقِ مِنِّي شَجاً ناشِبُ )
فقال يزيد علي بالرجل فأتي به فقال ما خطبك أنت تقول هذا الشعر قال لا بل قاله رجل من جذام جفاه ابن جفنة وكانت له عند النعمان منزلة فشرب فقال على شرابه شيئا أنكره عليه ابن جفنة فحبسه وهو مخرجه غدا فقاتله فقال له يزيد أنا أغنيك فقال له ومن أنت حتى أعرفك فقال أنا يزيد بن عبد المدان فقال أنت لها وأبيك قال أجل قد كفيتك أمر صاحبك فلا يسمعنك أحد تنشد هذا الشعر وغدا يزيد على ابن جفنة ليودعه فقال له حياك الله يابن الديان حاجتك قال تلحق قضاعة الشأم بغسان وتؤثر من أتاك من وفود مذحج وتهب لي الجذامي الذي لا شفيع له إلا كرمك قال قد فعلت أما إني حبسته لأهبه لسيد أهل ناحيتك فكنت ذلك السيد ووهبه له فاحتمله يزيد معه ولم يزل مجاورا له بنجران في بني الحارث بن كعب وقال ابن جفنة لأصحابه ما كانت يميني لتفي إلا بقتله أو هبته لرجل من بني الديان فإن يميني كانت على هذين الأمرين فعظم بذلك يزيد في عين أهل الشام ونبه ذكره وشرف

يزيد يتدخل لدى قيس بن عاصم لفك أسير
وقال ابن الكلبي في هذه الرواية عن أبيه جاور رجلان من هوازن يقال لهما عمرو وعامر في بني مرة بن عوف بن ذبيان وكانا قد أصابا دما في

قومهما ثم إن قيس بن عاصم المنقري أغار على بني مرة بن عوف بن ذبيان فأصاب عامرا أسيرا في عدة اسارى كانوا عند بني مرة ففدى كل قوم أسيرهم من قيس بن عاصم وتركوا الهوازني فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة سنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم

وهاشم بن حرملة والحصين بن الحمام فلم يغيثوه فركب إلى موسم عكاظ فأتى منازل مذحج ليلا فنادى
( دعوتُ سِناناً وابنَ عوفٍ وحارثاً ... وعالَيتُ دَعْوَى بالحُصَيْنِ وهاشِم )
( أعَيِّرهم في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... بتَرْكِ أسيرٍ عند قيس بن عاصم )
( حَلِيفِهمُ الأَدْنَى وجارِ بيوتهم ... ومَنْ كان عما سرَّهم غيرَ نائم )
( فَصَمُّوا وأحداثُ الزمانِ كثيرةٌ ... وكَمْ في بني العَلاّتِ من مُتَصامِم )
( فيا ليتَ شِعْرِي مَنْ لإِطلاقِ غُلِّهِ ... ومَنْ ذا الذي يَحْظَى به في المَوَاسِمِ )
قال فسمع صوتا من الوادي ينادي بهذه الأبيات
( ألاَ أيُّهذَا الّذي لم يُجَبْ ... عليكَ بحَيٍّ يُجَلِّي الكُرَبْ )
( عليكَ بذَا الحيّ من مَذْحِجٍ ... فإنَّهمُ للرِّضَا والغَضَب )
( فنَادِ يزيدَ بن عبدِ المَدَانِ ... وقَيْساً وعمرَو بنَ مَعْدِ يكَرِب )
( يَفُكُّوا أخاكَ بأموالهمْ ... وأَقْلِلْ بمِثْلِهِمُ في العَرب )
( أُولاكَ الرؤوس فلا تَعْدُهُمْ ... ومَنْ يجعلُ الرأسَ مثلَ الذَّنَب )

قال فاتبع الصوت فلم ير أحدا فغدا على المكشوح واسمه قيس بن عبد يغوث المرادي فقال له إني وأخي رجلان من بني جشم بن معاوية أصبنا دما في قومنا وإن قيس بن عاصم أغار على بني مرة وأخي فيهم مجاور فأخذه أسيرا فاستغثت بسنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهاشم بن حرملة فلم يغيثوني فأتيت الموسم لأصيب به من يفك أخي فانتهيت إلى منازل مذحج فناديت بكذا وكذا فسمعت من الوادي صوتا أجابني بكذا وكذا وقد بدأت بك لتفك أخي فقال له المكشوح والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفا قط ولا هو لي بجار ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن ولا يمنعك غلاؤه ثم أتى عمرو بن معد يكرب فقال له مثل ذلك فقال هل بدأت بأحد قبلي قال نعم بقيس المكشوح قال عليك بمن بدأت به فتركه وأتى يزيد بن عبد المدان فقال له يا أبا النضر إن من قصتي كذا وكذا فقال له مرحبا بك وأهلا أبعث إلى قيس بن عاصم فإن هو وهب لي أخاك شكرته وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك فإن نلتها وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت بهم أخاك قال هذا الرضا فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصم بهذه الأبيات
( يا قَيْسُ أَرْسِلْ أسيراً من بني جُشَمٍ ... إنِّي بكلِّ الذي تأتي به جَازي )
( لا تأْمَنِ الدَّهْرَ أن تَشْجَى بغُصّتِه ... فاخْتَرْ لنفسِك إحْمادِي وإعْزازي )
( فافْكُكْ أخَا مِنْقَرٍ عنه وقُلْ حَسَناً ... فيما سُئِلتَ وعَقِّبْهُ بإنجاز )

قال وبعث بالأبيات رسولا إلى قيس بن عاصم فأنشده إياها ثم قال له يا أبا علي إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام ويقول لك إن المعروف قروض ومع اليوم غد فأطلق لي هذا الجشمي فإن أخاه قد استغاث بأشراف بني مرة وبعمرو بن معد يكرب وبمكشوح مراد فلم يصب عندهم حاجته فاستجار بي ولو أرسلت إلي في جميع أسارى مضر بنجران لقضيت حقك فقال قيس بن عاصم لمن حضره من بني تميم هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد وهذه فرصة لكم فما ترون قالوا نرى أن نغليه عليه ونحكم فيه شططا فإنه لن يخذله أبدا ولو أتى ثمنه على ماله فقال قيس بئس ما رأيتم أما تخافون سجال الحروب ودول الأيام ومجازاة القروض فلما أبوا عليه قال بيعونيه فأغلوه عليه فتركه في أيديهم وكان أسيرا في يد رجل من بني سعد وبعث إلى يزيد فأعلمه بما جرى وأعلمه أن الأسير لو كان في يده أو في بني منقر لأخذه وبعث به ولكنه في يد رجل من بني سعد فأرسل يزيد إلى السعدي أن سر إلي بأسيرك ولك فيه حكمك فأتى به السعدي يزيد بن عبد المدان فقال له احتكم فقال مائة ناقة ورعاؤها فقال له يزيد إنك لقصير الهمة قريب الغنى جاهل بأخطار بني الحارث أما والله لقد غبتتك يا أخا بني سعد ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جل أموالنا ولكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم وأعطاه ما احتكم فجاوره الأسير وأخوه حتى ماتا عنده بنجران
وقال ابن الكلبي أغار عبد المدان على هوازن يوم السلف في جماعة من بني الحارث بن كعب وكانت حمته على بني عامر خاصة فلما التقى

القوم حمل على وبر بن معاوية النميري فصرعه وثنى بطفيل بن مالك فأجره الرمح وطار به فرسه قرزل فنجا واستحر القتل في بني عامر وتبعت خيل بني الحارث من انهزم من بني عامر وفي هذه الخيل عمير ومعقل وكانا من فرسان بني الحارث بن كعب فلم يزالوا بقية يومهم لا يبقون على شيء أصابوه فقال في ذلك عبد المدان
( عَفَا من سُلَيْمَى بطنُ غَوْلٍ فَيذْبُلُ ... فغَمْرةُ فَيْفِ الرِّيح فالمُتَنَخَّلُ )
( ديارُ الّتي صاد الفؤادَ دَلالُها ... وأَغرتْ بها يوم النَّوَى حين تَرْحَلُ )
( فإنْ تَكُ صَدّتْ عن هَوايَ وراعَها ... نَوازِلُ أحداثٍ وشيبٌ مُجَلِّلُ )
( فيا رُبَّ خيلٍ قد هَدَيْتُ بِشِطْبةٍ ... يُعارِضُها عَبْلُ الجُزَارةِ هَيْكَلُ )

( سَبُوحٌ إذا جالَ الحِزامُ كأنّه ... إذا انْجابَ عنه النَّقْعُ في الخيلِ أجْدَلُ )
( يُوَاغِلُ جُرْداً كالقَنَا حارثيّةً ... عليها قَنَانٌ والحِمَاسُ وزَعْبَلُ )
( مَعَاقِلُهمْ في كلِّ يومِ كريهةٍ ... صدورُ العَوَالِي والصَّفِيُح المُصَقَّل )
( وزَعْفٌ من المَاذيّ بِيضٌ كأنّها ... نِهَاءٌ مَرَتْها بالعَشِيّاتِ شَمْألُ )
( فما ذَرَّ قَرْنُ الشمسِ حتى تلاحقتْ ... فَوارِسُ يَهْدِيها عُمَيْرٌ ومَعْقِلُ )
( فجالتْ على الحيّ الكِلاَبيّ جولةً ... فَباكَرَهُمْ وِرْدٌ من الموت مُعْجَلُ )
( فَغَادَرْنَ وبراً تَحْجُلُ الطيرُ حولَه ... ونجَّى طُفَيْلاً في العَجَاجةِ قُرْزُلُ )
( فلم ينجُ إلا فَارِسٌ من رِجالهم ... يُخَفِّفُ ركضاً خشيةَ الموت أعْزَلُ )
وليزيد بن عبد المدان أخبار مع دريد بن الصمة قد ذكرت مع أخبار دريد في صنعة المعتضد مع أغاني الخلفاء فاستغني عن إعادتها في هذا الموضع

زينب بنت مالك ترثي يزيد بن عبد المدان
أخبرني علي بن سليمان قال أخبرني أبو سعيد السكري قال حدثني

محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة وابن الكلبي قالوا أغار يزيد بن عبد المدان ومعه بنو الحارث بن كعب على بني عامر فأسر عامر بن مالك ملاعب الأسنة أبا براء وأخاه عبيدة بن مالك ثم أنعم عليهما فلما مات يزيد بن عبد المدان واسم عبد المدان عمرو وكنيته أبو يزيد وهو ابن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو قالت زينب بنت مالك بن جعفر بن كلاب أخت ملاعب الأسنة ترثي يزيد بن عبد المدان
( بكيتُ يزيدَ بن عبد المدانِ ... حَلّتْ به الأرضُ أثقالها )
( شَريكُ المُلوكِ ومَنْ فَضْلُه ... يَفْضُلُ في المجد أفضالَها )
( فَكَكْتَ أُسارَى بني جَعْفَر ... وكِنْدةَ إذ نِلْتَ أقوالَها )
( ورَهْطُ المُجَالِد قد جَلَّلتْ ... فواضلُ نُعْمَاك أجبالَها )
وقالت أيضا ترثيه
( سأبكي يزيد بن عبد المدان ... على أنّه الأحْلَمُ الأكرمُ )
( رمَاحٌ من العَزْمِ مركوزةٌ ... مُلوكٌ إذا بَرَزتْ تَحكمُ )
قال فلامها قومها في ذلك وعيروها بأن بكت يزيد فقالت زينب
( ألاَ أيُّها الزارِي عليَّ بأنَّنِي ... نِزَاريَّةٌ أبكِي كريماً يَمَانِيَا )
( ومالِيَ لا أبكِي يزيدَ ورَدَّنِي ... أَجُرُّ جَدِيداً مِدْرَعِي ورِدَائيا )

صوت
( أطِلْ حَمْلَ الشَّناءةِ لي وبُغْضِي ... وعِشْ ما شِئْتَ فانْظُرْ مَنْ تَضِيرُ )
( إذا أبصرتَني أعرضتَ عَنِّي ... كأنّ الشمسَ من قِبَلي تَدُورُ )
الشعر لعبد الله بن الحشرج الجعدي والغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي

أخبار عبد الله بن الحشرج
هو عبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن وكان عبد الله بن الحشرج سيدا من سادات قيس وأميرا من أمرائها ولي أكثر أعمال خراسان ومن أعمال فارس وكرمان وكان جوادا ممدحا وفيه يقول زياد الأعجم
( إنّ السماحةَ والشَّجاعةَ والنَّدَى ... في قُبَّةٍ ضُرِبتْ على ابنِ الحَشْرَجِ )
وله يقول أيضا
( إذا كنتَ مُرْتادَ السَّماحةِ والنَّدَى ... فسَائِلْ تُخَبَّرْ عن دِيَار الأَشْاهِبِ )
نسبه إلى الأشهب جده وفي بني الأشهب يقول نابغة بني جعدة

( أبعدَ فَوارِس يومِ الشُّرَيْفِ ... آسَى وبعدَ بني الأشْهبِ )
وكان أبوه الحشرج بن الأشهب سيدا شاعرا وأميرا كبيرا وكان غلب على قهستان في زمن عبد الله بن خازم فبعث إليه عبد الله بن خازم المسيب بن أوفى القشيري فقتل الحشرج وأخذ قهستان وكان عمه زياد بن الأشهب أيضا شريفا سيدا وكان قد سار إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يصلح بينه وبين معاوية على أن يوليه الشأم فلم يجبه وفي ذلك يقول نابغة بني جعدة يعتد على معاوية
( وقام زيادٌ عند بابِ بنِ هاشمٍ ... يُريد صلاحاً بينكم ويُقَرِّبُ )

قدامة بن الأحرز يمدح ابن الحشرج
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن

فراس قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
جاء إلى عبد الله بن الحشرج وهو بقهستان رجل من قشير يقال له قدامة ابن الأحرز فدخل عليه وأنشأ يقول
( أخٌ وابنُ عَمٍّ جاءكم مُتَحَرِّماً ... بِكُمْ فَارْأَبُوا خَلاَّته يابنَ حَشْرَجِ )
( فأنتَ ابنُ وَرْدٍ سُدْتَ غيرَ مُدَافَعٍ ... مَعَدّاً على رَغْمِ المَنُوطِ المُعَلْهَجِ )
( فَبَرَّزتْ عَفْواً إذْ جَرَيْتَ ابنَ حَشْرَجٍ ... وجاء سُكَيْتاً كلُّ أَعْقَدَ أَفْحَجِ )
( سبقتَ ابنَ وَرْدٍ كلَّ حافٍ وناعلٍ ... بِجَدٍّ إذا حار الأَضاميمُ مِمْعَجِ )
( بِوَرْدِ بن عَمْرٍ فُتَّهُمْ إنّ مِثْلَه ... قليلٌ ومَنْ يَشْرِ المَحَامِد يَفْلُجِ )
( هُوَ الواهِبُ الأموالِ والمُشْتَرِي اللَّهَا ... وضَرَّابُ رأسِ المُسْتَمِيتِ المُدَجَّجِ )
قال فأعطاه أربعة آلاف درهم وقال اعذرني يابن عمي فإني في حالة الله بها عليم من كثرة الطلاب وأنت أحق من عذرني قال والله لو

لم تعطني شيئا مع ما أعلمه من جميل رأيك في عشيرتك ومن انقطع إليك لعذرتك فكيف وقد أجزلت العطاء وأرغمت الأعداء
وكان لابن الحشرج ابن عم يقول للقشيري ويحك ليس عنده خير وهو يكذبك ويملُذُك فبلغ ذلك عبد الله بن الحشرج فقال
( أطِلْ حَمْلَ الشَّناءةِ يل وبُغْضي ... وعِشْ ما شئتَ فانظُرْ مَنْ تَضِيرُ )
( فما بَيدَيْكَ خيرٌ أرتَجِيهِ ... وغيرُ صُدُودِكَ الخَطبُ الكَبيرُ )
( إذا أَبصرتَني أعرضتَ عنِّي ... كأنّ الشمسَ من قِبَلي تَدُورُ )
( وكيف تَعِيبُ من تُمْسِي فقيراً ... إليه حين تَحْزُبك الأمورُ )
( ومَنْ إنْ بِعْتَ منزلةً بأخرى ... حَلَلْتَ بأمرِه وبه تَسِيرُ )
( أتزعم أنَّني مَلِذٌ كَذُوبٌ ... وأنَّ المَكْرُماتِ لديَّ بُور )
( وكيف أكون كَذَّاباً مَلُوذاً ... وعندي يَطْلُبُ الفَرَجَ الضَّرِيرُ )

( أُواسِي في النَّوائب من أَتاني ... ويُجْبَرُ بِي أخو الضُرّ الفَقِيرُ )

كرم عبد الله بن الحشرج
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم عن العمري عن عطاء ابن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
أعطى عبد الله بن الحشرج بخراسان حتى أعطى منشفة كانت عليه وأعطى فراشه ولحافه فقالت له امرأته لشد ما تلاعب بك الشيطان وصرت من إخوانه مبذرا كما قال الله عز و جل ( إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ) فقال عبد الله بن الحشرج لرفاعة بن زوي النهدي وكان أخا له وصديقا يا رفاعة ألا تسمع إلى ما قالت هذه الورهاء وما تتكلم به فقال صدقت والله وبرت إنك لمبذر وإن المبذرين لإخوان الشياطين فقال ابن الحشرج في ذلك
( مَتَى يأتنا الغَيْثُ المُغِيثُ تَجِدْ لنا ... مَكارِمَ ما تَعْيَا بأمْوالنِا التُّلْد )
( مَكارِمَ ما جُدْنا به إذْ تَمَنَّعتْ ... رِجالٌ وضنَّتْ في الرَّخاء وفي الجَهْدِ )
( أرَدْنا بما جُدْنا به من تِلاَدنا ... خِلافَ الَّذي يأتي خِيارُ بني نَهْدِ )
( تَلومُ على اِتْلافِيَ المالَ طَلَّتِي ... ويُسْعِدُها نَهْدُ بن زَيْدٍ على الزُّهْدِ )

( أَنَهْدُ بن زَيْدٍ لستُ منكمْ فتُشفِقُوا ... عليَّ ولا منكم غَوَاتِي ولا رُشْدي )
أراد غوايتي فحذف الياء ضرورة
( أبَيْتُ صَغِيراً ناشئاً ما أردتُمُ ... وكَهْلاً وحتَّى تُبْصِرُونِيَ في اللَّحْدِ )
( سأَبْذُلُ مالِي إنَّ مالِي ذَخِيرةٌ ... لِعَقْبِي وما أَجْنِي به ثَمَرَ الخُلْدِ )
( ولستُ بمِبْكاءٍ على الزَّادِ باسِلٍ ... يَهِرُّ على الأَزْوادِ كالأَسَدِ الوَرْدِ )
( ولَكِنَّني سَمْحٌ بما حُزْتُ باذِلٌ ... لِمَا كُلِّفتْ كَفَّايَ في الزَّمَنِ الجَحْدِ )
( بِذلك أوصاني الرُّقَادُ وقَبْلَه ... أبوه بأن أُعْطِي وأُوفِيَ بالعَهْدِ )
الرقاد ابن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب وهو من عمومته وكان شجاعا سيدا جوادا
قال عطاء بن مصعب وقال عبد الله بن الحشرج أيضا في ذلك هذه القصيدة وقد ذكر ابن الكلبي وأبو اليقظان شيئا من هذه القصيدة في

كتابيهما المصنفين ونسباها إليه
( سأجعل مالِي دونَ عِرْضِي وِقَايةً ... من الذَمِّ إن المَالَ يَفْنَى ويَنْفَدُ )
( ويُبْقِي لِيَ الجُودُ اصطناعَ عَشِيرتِي ... وغَيْرِهُم والجُودُ عِزٌّ مُؤَبَّدُ )
( ومَتَّخِذٍ ذَنْباً عليَّ سَمَاحتِي ... بمالي ونارُ البُخْلِ بالذَّمّ تُوقَدُ )
( يَبِيدُ الفتَى والحمدُ ليس ببائدٍ ... ولَكنَّه للمرء فضلٌ مُؤَكَّدُ )
( ولا شيءَ يبقَى للفتى غيرُ جُودِه ... بما مَلَكتْ كَفَّاهُ والقومُ شُهَّدُ )
( ولائمةٍ في الجُودِ نَهْنَهْتُ غَرْبَها ... وقلتُ لها بَنْيُ المَكارِمِ أحمدُ )
( فلمّا أَلَحَّتْ في المَلامةِ واعترتْ ... بذَلك غَيْظِي واعتراها التَّبَلُّدُ )
( عرضتُ عليها خَصْلَتَيْنِ سَماحتي ... وتَطْلِيقَها والكَفُّ عَنِّيَ أرشدُ )
( فلَجَّتْ وقالتْ أنتَ غاوٍ مُبَذِّرٌ ... قَرِينُك شيطانٌ مَرِيدٌ مُفَنَّدُ )
( فقلتُ لها بِينِي فما فيكِ رغبةٌ ... ولي عنكِ في النِّسْوان ظِلٌّ ومَقْعَدُ )
( وعيشٌ أنِيقٌ والنِّساءُ مَعَادِنٌ ... فَمِنْهُنّ غُلٌّ شَرُّها يتمرَّد )
( لها كلَّ يوم فوق رأسيَ عارِضٌ ... من الشَّرّ بَرَّاقٌ يَدَ الدهر يُرْعِدُ )
( وأُخرى يَلَذُّ العيشُ منها ضَجِيعُها ... كريمٌ يُغَادِيهِ من الطيرِ أسْعُدُ )
( فيا رَجُلاً حُرّاً خُذِ القصْد واتْرُكِ الَبَلاَيَا فإنَّ الموتَ للنَّاسِ مَوْعِدُ )
( فعِيشْ ناعماً واتْرُكْ مَقالةَ عَاذلٍ ... يلومُك في بَذْلِ النَّدَى ويُفَنِّدُ )
( وجُدْ باللُّهَا إنّ السماحةَ والنَّدَى ... هي الغايةُ القُصْوى وفيها التَّمَجُّدُ )
( وحَسْبُ الفَتَى مجداً سماحةُ كَفِّه ... وذُو المَجْدِ محمودُ الفِعَال مُحَسَّدُ )

قال فقالت له امرأته والله ما وفقك الله لحظك أنهيت مالك وبذرته وأعطيته هيان بن بيان ومن لا تدري من أي هافية هو قال فغضب فطلقها وكان لها محبا وبها معجبا فعنفه فيها ابن عم لها يقال له حنظلة بن الأشهب بن رميلة وقال له نصحتك فكافأتها بالطلاق فوالله ما وفقت لرشدك ولا نلت حظك ولقد خاب سعيك بعدها عند ذوي الألباب فهلا مضيت لطيتك وجريت على ميدانك ولم تلتفت إلى امرأة من أهل الجهالة والطيش لم تخلق للمشورة ولا مثل رأيها يقتدى به فقال ابن الحشرج لحنظلة
( أحَنْظَلَ دَعْ عَنْكَ الَّذي نال مالَه ... لِيَحْمَدَه الأقوامُ في كلِّ مَحْفِل )
( فكَمْ من فَقِيرٍ بائس قد جَبَرْتُه ... ومِنْ عائلٍ أغنيتُ بعدَ التَّعَيُّلِ )
( ومن مُتْرَفٍ عن مَنْهَجِ الحقِّ جائرٍ ... علوتُ بعَضْبٍ ذي غِرَارَيْنِ مْقَصَلِ )
( وزارٍ عليَّ الجُودَ والجودُ شِيمتي ... فقلتُ له دَعْني وكُنْ غَير مُفْضِلِ )
( فمِثْلُك قد عاصَيْتُ دهراً ولم أكُنْ ... لأسمَعَ أقوال اللئيم المُبَخَّلِ )
( أبَى لِيَ جَدّي البُخْلَ مذ كنتُ يافعاً ... صغيراً ومن يَبْخَلْ يُلَمْ ويُضَلَّلِ )
( ويَسْتَغْنِ عنه الناسُ فارْكَبْ مَحَجَّةَ الْكِرامِ ودَعْ ما أنت عنه بمَعزِل )
( فإنِّي امرؤٌ لا أصحَبُ الدهرَ باخلاً ... لئِيماً وخيرُ النَّاسِ كلُّ مُعَذَّلِ )

( ومُسْتَحْمِقٍ غاوٍ أتْته نَذِيرَتي ... فلَجَّ ولم يَعْرفْ مَعَرَّةَ مِقْوَلي )
( نفحتُ ببيتٍ يملأ الفَمَ شاردٍ ... له حَبَرٌ كأنَّه حِبْرُ مِغْوَلِ )
( فكَفَّ ولو لَمْ أرْمِه شاعَ قولُه ... وصار كدِرْيَاقِ الذُّعَاف المُثَمَّلِ )
( ولَيْلٍ دَجُوجِيٍّ سَرَيتُ ظلاَمه ... بناجيةٍ كالُبْرج وَجْنَاءَ عَيْهَلِ )
( إلى مَلِكٍ مِنْ آل مَرْوانَ ماجِدٍ ... كريمِ المُحَيَّا سَيِّدٍ مُتَفَضِّلِ )
( يجودُ إذا ضَنَّتْ قريشٌ برِفْدِها ... ويَسْبِقُها في كلِّ يومِ تَفَضُّلِ )
( أبوه أبو العاصِي إذا الحَرْبُ شَمَّرتْ ... مَرَاها بمَسْنُونِ الغِرَارَيْنِ مِنْجَلِ )
( وَقُورٌ إذا هاجتْ به الحربُ مِرْجَمٌ ... صَبُورٌ عليها غيرُ نِكْسٍ مُهَلِّلِ )
( أقامَ لأهل الأرضِ دينَ محمدٍ ... وقد أدبَرُوا وارتابَ كلُّ مُضَلَّلِ )
( فما زالَ حَتَّى قَوَّمَ الدَّينَ سَيْفُه ... وعَزَّ بحَزْمٍ كُلَّ قَرْمٍ مُحَجَّلِ )
( وغادَرَ أهلَ الشَّك شَتَّى فمِنْهُمُ ... قَتِلٌ قَتيلُ ونَاجٍ فوق أَجْرَدَ هَيْكَلِ )
( نَجَا من رماح القوم قُدْماً وقد بَدَا ... تَباشِيُره في العَارِض المُتَهَلِّلِ )

قال عاصم يعني بهذا المدح محمد بن مروان لما قتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق وكان محمد بن مروان يقوم بأمره ويوليه الأعمال ويشفع له إلى أخيه عبد الملك

حوار حول تبذيره المال
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال
قال عبد الله بن الحشرج لابن عم له لأمه في إنهاب ماله وتبذيره إياه وقال له فيما يقول امرأتك كانت أعلم بك نصحتك فكافأتها بالطلاق فقال له يابن عم إن المرأة لم تخلق للمشورة وإنما خلقت وثارا للباءة

ووالله إن الرشد واليمن لفي خلاف المرأة يابن عم إياك واستماع كلام النساء والأخذ به فإنك إن أخذت به ندمت فقال له ابن عمه والله ليوشكن أن تحتاج يوما إلى بعض ما أتلفت فلا تقدر عليه ولا يخلفه عليك هن وهن فقال ابن الحشرج
( وعاذلةٍ هَبَّتْ بلْيلٍ تَلُوُمني ... وتَعْذِلُني فيما أُفِيدُ وأتْلِفُ )
( تَلَوَّمتُها حتّى إذا هي أكثرتْ ... أتيتُ الذي كانت لَدَيّ تَوَكَّفُ )
( وقلتُ عليكِ الفَجَّ أكثرتِ في النَّدَى ... ومِثْلِي تَحَامَاه الأَلَدُّ المُغَطْرِفُ )
( أبَى لِيَ ما قد سُمْتِنِي غيرُ واحدٍ ... أبٌ وجُدودٌ مَجْدُها ليس يُوصَفُ )
( كهُولٌ وشُبَّانٌ مَضَوْا لِسَبِيلهِمْ ... إذا ذُكِرُوا فالعينُ مِنِّيَ تَذْرِفُ )
( هُمُ الغيثُ إن ضَنَّتْ سماءٌ بقَطْرِهَا ... وعندهُم يرجو الحَيَا مُتَلَهِّفُ )
( وحَرْبٍ يخافُ النَّاسُ شِدَّة عَرِّها ... تَظَلُّ بأنواع المَنِيّةِ تَصْرِف )
( حَمَوْها وقاموا بالسُّيوف لِحَمْيِها ... إذا فَنِيتْ أضحتْ لهم وهْيَ تَعْصِفُ )
( فلمَّا أبتْ إلا طِماحا تَنَمَّرُوا ... بأسيافِهمْ والقومُ فيهم تَعَجْرُف )
( فذَلَّتْ وأعطتْ بالقِيَادِ وأذعنتْ ... إذا ما اشتَهى قومِي وذُو الذُّلِّ يُنْصِفُ )

( وكانتْ طَمُوحَ الرَّأسِ يَصْرِف نابُها ... من الشَّرّ تاراتٍ وطوراً تَقَفْقَفُ )
( فَلَمَّا امْتَرَيْنَا بالسُّيوفِ خُلوفَها ... تَأبَّتْ علينا والأَسِنَّةُ تُرْعَفُ )
( فدَرَّتْ طِبَاقاً وارعوتْ بعد جَهْلِها ... وكُنَّا رِمَاماً لِلَّذِي يَتَصَلَّفُ )
قال وقال عبد الله بن الحشرج لرفاعة بن زوي النهدي فيما كان يلومه فيه من التبذير والجود
( أُلاَمُ على جُودِي وما خِلْتُ أنَّني ... ببَذْلي وجُودِي جُرْتُ عن مَنْهَج القَصْدِ )
( فيالاَئِمي في الجُود أَقْصِرْ فإنَّني ... سأبْذُل مالي في الرّخاء وفي الجَهْدِ )
( وجَدتُ الفَتَى يَفْنَى وتبقَى فِعالُه ... ولا شيءَ خيرٌ في الحديث من الحَمْدِ )
( وإنِّي وباللهِ احتيالِي وحِرْفَتي ... أُصَيِّرُ جارِي بين أَحشايَ والكِبْدِ )
( أرَى حَقَّه في الناسِ ما عِشْتُ واجباً ... عليَّ وآتِي ما أَتيتُ على عَمْدِ )
( وصاحبِ صِدْقٍ كان لي ففقدتُه ... وصَيَّرنِي دَهْرِي إلى مَائِقٍ وَغْد )
( يَلُومُ فَعَالِي كلَّ يومٍ ولَيلةٍ ... ويعدو على الجيرانِ كالأَسَدِ الوَرْد )
( يُخالِفُني في كلِّ حقٍّ وباطلٍ ... ويأنَفُ أن يَمْشِي على مَنْهَج الرُّشْدِ )

( فلمّا تَمادَى قلتُ غيرَ مُسامِحٍ ... له النَّهْجَ فارْكَبْ ياعَسِيفَ بني نَهْد )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي قال حدثنا ابن عائشة قال

مدحه زياد الأعجم فوصله
وفد زياد الأعجم على عبد الله بن الحشرج الجعدي وهو بسابور أمير عليها فأمر بإنزاله وألطفه وبعث إليه ما يحتاج إليه ثم غدا عليه زياد فأنشده
( إنّ السَّماحةَ والمرُوءة والنَّدَى ... في قُبَّةٍ ضربت على ابن الحَشْرَجِ )

( مَلِكٌ أَغَرُّ مُتَوَّجٌ ذو نائلٍ ... للمُعْتَفِينَ يَمِينُه لم تَشْنَج )
( يا خيرَ مَنْ صَعِدَ المنابرَ بالتُّقَى ... بعدَ النبيّ المصطفى المُتَحَرِّج )
( لمّا أتيتُك راجياً لِنَوَالِكُمْ ... ألفيتُ بابَ نَوالِكم لم يُرْتَجِ )
قال فأمر له بعشرة آلاف درهم
وقد قيل إن الأبيات التي ذكرتها وفيها الغناء ونسبتها إلى عبد الله بن الحشرج لغيره والقول الأصح هو الأول أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن هشام بن الكلبي أنه سمع أبا باسل ينشد هذا الشعر فقلت لمن هو فقال لعمي عنترة بن الأخرس قال وكان جدي أخرس فولد له سبعة أو ثمانية كلهم شاعر أو خطيب ولعل هذا من أكاذيب ابن الكلبي أو حكاه عن رجل ادّعى فيه ما لا يعلم

صوت
( أصاحِ ألاَ هَلْ من سبيلٍ إلى نَجْدِ ... ورِيحِ الخُزَامى غَضَّةً من ثَرًى جَعْدِ )

( وهل لِليالِينا بذي الرِّمْثِ مَرْجِعٌ ... فنَشْفِي جَوَى الأحزانِ من لاَعِج الوَجْدِ )
- عروضه من الطويل - الشعر للطرماح بن حكيم والغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالبنصر من كتابه

أخبار الطرماح ونسبه
هو الطرماح بن حكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة بن عبد رضا بن مالك بن أمان بن عمرو بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيئ ويكنى أبا نفر وأبا ضبينة والطرماح الطويل القامة وقيل إنه كان يلقب الطراح أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال كان الطرماح بن حكيم يلقب الطراح لقوله
صوت
( أَلاَ أيُّها اللَّيلُ الطويلُ ألاَّ ارْتَحِ ... بصُبْحٍ وما الإِصباحُ منكَ بأَرْوَحِ )
( بَلَى إنّ للعينين في الصُّبْحِ راحةً ... بِطَرْحِهِما طَرْفَيْهِما كلَّ مَطْرَحِ )
في هذين البيتين لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى من كتابه

والطرماح من فحول الشعراء الإسلاميين وفصحائهم ومنشؤه بالشأم وانتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشأم واعتقد مذهب الشراة الأزارقة
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال قدم الطرماح بن حكيم الكوفة فنزل في تيم اللات بن ثعلبة وكان فيهم شيخ من الشراة له سمت وهيئة وكان الطرماح يجالسه ويسمع منه فرسخ كلامه في قلبه ودعاه الشيخ إلى مذهبه فقبله واعتقده أشد اعتقاد وأصحه حتى مات عليه

أخبرني ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال قال رؤبة كان الطرماح والكميت يصيران إلي فيسألاني عن الغريب فأخبرهما به فأراه بعد في أشعارهما
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت محمد بن حبيب يقول سألت ابن الأعرابي عن ثماني عشرة مسألة كلها من غريب شعر الطرماح فلم يعرف منها واحدة يقول في جميعها لا أدري لا أدري
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا إبراهيم بن أيوب قال حدثنا ابن قتيبة قالا كان الكميت بن زيد صديقا للطرماح لا يكادان يفترقان في حال من أحوالهما
فقيل للكميت لا شيء أعجب من صفاء ما بينك وبين الطرماح على

تباعد ما يجمعكما من النسب والمذهب والبلد هو شآمي قحطاني شاري وأنت كوفي نزاري شيعي فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدة العصبية اتفقنا على بغض العامة
قال وأنشد الكميت قول الطرماح
( إذا قُبِضَت نفسُ الطِّرمَّاحِ أَخْلقتْ ... عُرَى المَجْدِ واسْتَرْخَى عِنانُ القصائدِ )
فقال إي والله وعنان الخطابة والرواية والفصاحة والشجاعة وقال عمر بن شبة والسماحة مكان الشجاعة
نسخت من كتاب جدي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة رحمه الله تعالى بخطه قال حدثني الحسن بن سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال وفد الطرماح بن حكيم والكميت بن زيد على مخلد بن يزيد المهلبي فجلس لهما ودعاهما فتقدم الطرماح لينشد فقال له أنشدنا قائما فقال كلا والله ما قدر الشعر أن أقوم له فيحط مني وأحط منه بضراعتي وهو عمود الفخر وبيت الذكر لمآثر العرب قيل له فتنح ودعي بالكميت فأنشد قائما فأمر له بخمسين ألف درهم فلما خرج الكميت شاطرها الطرماح وقال له أنت أبا ضبينة أبعد همة وأنا ألطف حيلة وكان الطرماح يكنى أبا نفر وأبا ضبينة
ونسخت من كتابه رضي الله عنه أخبرني الحسن بن سعيد قال أخبرني ابن علاق قال أخبرني شيخ لنا أن خالد بن كلثوم أخبره قال
بينا أنا في مسجد الكوفة أريد الطرماح والكميت وهما جالسان بقرب باب

الفيل إذ رأيت أعرابيا قد جاء يسحب أهداما له حتى إذا توسط المسجد خر ساجدا ثم رمى ببصره فرأى الكميت والطرماح فقصدهما فقلت من هذا الحائن الذي وقع بين هذين الأسدين وعجبت من سجدته في غير موضع سجود وغير وقت صلاة فقصدته ثم سلمت عليهم ثم جلست أمامهم فالتفت إلى الكميت فقال أسمعني شيئا يا أبا المستهل فأنشده قوله
( أبتْ هذِهِ النَّفْسُ إلاَّ أدِّكَارَا ... )
حتى أتى على آخرها فقال له أحسنت والله يا أبا المستهلِّ في ترقيص هذه القوافي ونظم عقدها ثم التفت إلى الطرماح فقال أسمعني شيئا يا أبا ضبينة فأنشده كلمته التي يقول فيها
( أساءكَ تقويضُ الخَليطِ المُبَاينِ ... نَعم والنَّوَى قَطَّاعةٌ للقَرَائنِ )
فقال لله در هذا الكلام ما أحسن إجابته لرويتك إن كدت لأطيل لك

حسدا ثم قال الأعرابي والله لقد قلت بعدكما ثلاثة أشعار أما أحدها فكدت أطير به في السماء فرحا وأما الثاني فكدت أدعي به الخلافة وأما الثالث فرأيت رقصانا استفزني به الجذل حتى أتيت عليه قالوا فهات فأنشدهم قوله
( أأنْ تَوَهَّمْتَ منْ خَرْقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عينيك مسجومُ )
حتى إذا بلغ قوله
( تَنْجُو إذا جَعَلتْ تَدْمَى أخِشَّتُها ... وابْتَلَّ بالزَّبَدِ الجَعْدِ الخَرَاطِيمُ )
قال أعلمتم أني في طلب هذا البيت منذ سنة فما ظفرت به إلا آنفا وأحسبكم قد رأيتم السجدة له ثم أسمعهم قوله
( ما بالُ عينِك منها الماءُ يَنْسَكِبُ ... )
ثم أنشدهم كلمته الأخرى التي يقول فيها
( إذا اللَّيْلُ عن نَشْرٍ تجلى رَمَيْنَهُ ... بأمثالِ أبصارِ النِّساء الفَوَارِكِ )
قال فضرب الكميت بيده على صدر الطرماح ثم قال هذه والله الديباج لانسجي ونسجك الكرابيس فقال الطرماح لن أقول ذلك وإن

أقررتُ بجودته فقطب ذو الرمة وقال يا طرماح أأنت تحسن أن تقول
( وكائنْ تَخَطَّتْ ناقتي من مَفَازةٍ ... إليكَ ومِنْ أحواضِ ماءٍ مُسَدَّمِ )
( بإعْقارِهِ القِرْدانُ هَزْلَى كأنَّها ... نَوَادرُ صِيصاء الهَبِيد المُحَطَّمِ )
فأصغى الطرماح إلى الكميت وقال له فانظر ما أخذ من ثواب هذا الشعر قال وهذه قصيدة مدح بها ذو الرمة عبد الملك فلم يمدحه فيها ولا ذكره إلا بهذين البيتين وسائرها في ناقته فلما قدم على عبد الملك بها أنشده إياها فقال له ما مدحت بهذه القصيدة إلا ناقتك فخذ منها الثواب وكان ذو الرمة غير محظوظ من المديح قال فلم يفهم ذو الرمة قول الطرماح للكميت فقال له الكميت إنه ذو الرمة وله فضله فأعتبه فقال له الطرماح معذرة إليك إن عنان الشعر لفي كفك فارجع معتبا وأقول فيك كما قال أبو المستهل
أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا

الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن إبراهيم بن عباد قال حدثني أبو تمام الطائي قال مر الطرماح بن حكيم في مسجد البصرة وهو يخطر في مشيته فقال رجل من هذا الخطار فسمعه فقال أنا الذي أقول
صوت
( لقد زادَنِي حَبّاً لنفسيَ أنّني ... بَغِيضٌ إلى كلِّ امرئٍ غيرِ طائِلِ )
( وأنِّي شَقِيٌّ باللِّئام ولا ترى ... شقّياً بهم إلاّ كريمَ الشمائلِ )
( إذا ما رآني قطَّع اللحظَ بينه ... وبينيَ فعلَ العارف المُتَجاهِلِ )
( ملأتُ عليه الأرضَ حتى كأنّها ... من الضِّيق في عينيه كفَّةُ حابِلِ )
في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل أول بالبنصر

الطرماح وخالد القسري
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا إسماعيل بن مجمع قال حدثنا هشام بن محمد قال أخبرنا ابن أبي العمرطة الكندي قال

مدح الطرماح خالد بن عبد الله القسري فأقبل على العريان بن الهيثم فقال إني قد مدحت الأمير فأحب أن تدخلني عليه قال فدخل إليه فقال له إن الطرماح قد مدحك وقال فيك قولا حسنا فقال ما لي في الشعر من حاجة فقال العريان للطرماح تراء له فخرج معه فلما جاوز دار زياد وصعد المسناة إذا شيء قد ارتفع له فقال يا عريان انظر ما هذا فنظر ثم رجع فقال أصلح الله الأمير هذا شيء بعث به إليك عبد الله بن أبي موسى من سجستان فإذا حمر وبغال ورجال وصبيان ونساء فقال يا عريان أين طرماحك هذا قال هاهنا قال أعطه كل ما قدم به فرجع إلى الكوفة بما شاء ولم ينشده قال هشام والطرماح الطويل
أخبرني محمد بن الحسن بن بريد قال حدثنا أبو حاتم قال حدثني الحجاجي قال
بلغني أن الطرماح جلس في حلقة فيها رجل من بني عبس فأنشد

العبسي قول كثير في عبد الملك
( فكنتَ المُعَلَّى إذ أجِيلتْ قِدَاحُهُم ... وجال المَنِيحُ وَسْطَها يَتَقَلْقَلُ )
فقال الطرماح أما إنه ما أراد به أنه أعلاهم كعبا ولكنه موه عليه في الظاهر وعنى في الباطن أنه السابع في الخلفاء الذين كان كثير لا يقول بإمامتهم لأنه أخرج عليا عليه السلام منهم فإذا أخرجه كان عبد الملك السابع وكذلك المعلى السابع من القداح فلذلك قال ما قاله وقد ذكر ذلك في موضع آخر فقال
( وكان الخَلائِفُ بعد الرَّسُو ... لِ للهِ كُلُّهمُ تَابِعَا )
( شهيدانِ من بعد صِدَّيقِهمْ ... وكان ابنُ حَرْبٍ لهم رَابِعَا )
( وكان ابنُه بعدَه خامساً ... مُطِيعاً لمن قبله سامِعا )
( ومَرْوانُ سَادِسُ مَنْ قد مضَى ... وكان ابنُه بعدَه سابعا )
قال فعجبنا من تنبه الطرماح لمعنى قول كثير وقد ذهب على عبد الملك فظنه مدحا

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال
كان أبو عبيدة والأصمعي يفضلان الطرماح في هذين البيتين ويزعمان أنه فيهما أشعر الخلق
( مُجْتابُ حُلَّة بُرْجُدٍ لِسَرَاته ... قِدَداً وأَخْلَفَ ما سَواه البُرْجُدُ )
( يبدو وتُضْمِرُه البِلادُ كأنّه ... سَيْفٌ على شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغْمَدُ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ قال قال أبو نواس أشعر بيت قيل بيت الطرماح
( إذا قُبِضَتْ نفسُ الطِّرِمّاح أخْلَقَتْ ... عُرَى المجد واسْتَرْخَى عِنانُ القصائدِ )

مناقضة بينه وبين حميد اليشكري
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال فضل الطرماح بني شمخ في شعره على بني يشكر فقال حميد اليشكري
( أتَجْعَلُنا إلى شَمْخ بن جَرْمٍ ... ونَبْهانٍ فَأُفِّ لذا زَمانا )
( ويومَ الطَّاَلقانِ حَمَاك قَوْمي ... ولم تَخْضِبْ بها طَيٌّ سِنَانَا )

فقال الطرماح يجيبُه
( لقد علم المُعَذَّلُ يومَ يدعو ... بِرمْثةَ يومَ رِمْثَةَ إذ دعانا )
( فوارِسُ طَيِّءٍ مَنَعُوه لمّا ... بكى جَزَعاً ولولاهم لَحَانا )
فقال رجل من بني يشكر
( لأَقْضِيَنّ قضاءً غيرَ ذي جَنَف ... بالحقِّ بين حُمَيْدٍ والطِّرِمّاح )
( جَرَى الطِّرمّاحُ حتى دَقّ مِسْحَلَهُ ... وغُودِرَ العبدُ مقروناً بوَضَّاحِ )
يعني رجلا من بني تميم كان يهاجي اليشكري
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي قال خلف كان الطرماح يرى رأي الشراة ثم أنشد له
( للهِ دَرُّ الشُّرَاةِ إنّهمُ ... إذا الكَرَى مالَ بالطُّلَى أَرِقُوا )
( يُرَجِّعون الحَنِينَ آوِنةً ... وإن عَلاَ ساعةً بهم شَهِقوا )
( خوفاً تبيتُ القلوبُ واجفةً ... تكاد عنها الصدورُ تَنْفَلِق )

( كيف أُرَجِّي الحياةَ بعدهُمُ ... وقد مضى مُؤنِسيَّ فانطلَقوا )
( قَومٌ شِحاحٌ على اعتقادِهُم ... بالفَوْز ممّا يُخافُ قد وَثِقوا )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال دخل الطرماح على خالد بن عبد الله القسري فأنشده قوله
( وشيَّبَني ما لاَ أزالُ مُنَاهضاً ... بغيرِ غِنًى أسْمُو به وأَبوعُ )
( وأنّ رجالَ المال أضحَوْا ومالُهُم ... لهم عند أبواب الملوك شَفِيعُ )
( أمُخْترِمِي رَيْبُ المَنُون ولم أَنَلْ ... منَ المالِ ما أَعصي به وأُطِيع )
فأمر له بعشرين ألف درهم وقال امض الآن فاعص بها وأطع

رأي المفضل في هجائه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا خذيفة بن محمد الكوفي قال قال المفضل
إذا ركب الطرماح الهجاء فكأنما يوحى إليه ثم أنشد له قوله
( لوحانَ وِرْدُ تَمِيم ثم قيل لها ... حوضُ الرَّسولِ عليه الأزْدُ لم تَرِدِ )

( أوْ أَنزلَ الله وحياً أنْ يُعَذِّبهَا ... إن لم تَعُدْ لقِتالِ الأزْدِ لم تَعُدِ )
( لاعَزّ نَصْرُ امرىءٍ أضْحَى له فرسٌ ... على تميمٍ يُريد النصرَ من أحَدِ )
( لو كان يَخْفَى على الرحمن خافيةٌ ... من خلقِه خَفِيتْ عنه بنو أسَد )

أصحابه يفاجأون بنعشه
أخبرني إسماعيل بن يونس قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال حدثني ابن دأب عن ابن شبرمة وأخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال أخبرني أبي قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال حدثني محمد بن عمران قال حدثني إبراهيم بن سوار الضبي قال حدثني محمد بن زياد القرشي عن ابن شبرمة قال
كان الطرماح لنا جليسا ففقدناه أياما كثيرة فقمنا بأجمعنا لننظر ما فعل وما دهاه فلما كنا قريبا من منزله إذا نحن بنعش عليه مطرف أخضر فقلنا لمن هذا النعش فقيل هذا نعش الطرماح فقلنا والله ما استجاب الله له حيث يقول
( وإني لمُقْتادٌ جَوادِي وقاذِفٌ ... به وبنَفْسِي العامَ إحدى المَقَاذِف )

( لأَكسِبَ مالاً أو أؤولَ إلى غنًى ... منَ اللهِ يَكْفِيني عِدَاتِ الخَلاَئِفِ )
( فَيارَبِّ إنْ حانَتْ وفاتي فلا تَكُنْ ... على شَرْجَعٍ يُعْلَى بخُضْرِ المَطارِفِ )
( ولكنّ قَبْري بطنُ نَسْر مَقِيلُه ... بجَوّ السماء في نُسورٍ عَوَاكِف )
( وأمْسي شهيداً ثاوياً في عِصَابةٍ ... يُصابُون في فِجٍّ من الأرض خائِفِ )
( فَوَارِسُ من شَيْبانَ ألَّفَ بينُهمْ ... تُقَى الله نَزّالونَ عند التَّزَاحُفِ )
( إذا فارقوا دُنياهُمُ فارقوا الأذَى ... وصارو إلى مِيعاد ما في المَصَاحِفِ )

صوت
( هل بالدِّيار التي بالقاع منْ أحَدٍ ... باقٍ فَيَسْمَعَ صوتَ المُدْلِجِ السَّاري )
( تلك المنازلُ من صَفْراءَ ليس بها ... حيٌّ يُجِيبُ ولا أصواتُ سُمَّارِ )
الشعر لبيهس الجرمي والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن

عمرو وقال ذكر ذلك يحيى المكي وأظنه من المنحول وفيه لطياب بن إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل وهو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء
( اِرْفَعْ ضَعِيفَك لا يَحُرْ بك ضَعْفُه ... )

أخبار بيهس ونسبه
هو بيهس بن صهيب بن عامر بن عبد الله بن ناتل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد بن كثير بن غالب بن عدي بن سميس بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة شاعر فارس من شعراء الدولة الأموية وكان يبدو بنواحي الشأم مع قبائل جرم وكلب وعذرة ويحضر إذا حضروا فيكون بأجناد الشأم
قال أبو عمرو الشيباني لما هدأت الفتنة بعد وقعة مرج راهط وسكن الناس مر غلام من قيس بطوائف من جرم وعذرة وكلب وكانوا متجاورين على ماء هناك لهم فيقال إن بعض أحداثهم نخس به ناقته

فألقته فاندقت عنقه فمات واستعدى قومه عبد الملك بن مروان فبعث إلى تلك البطون من جاءه بوجوههم وذوي الأخطار منهم فهرب بيهس بن صهيب الجرمي وكان قد اتهم بأنه هو الذي نخس به فنزل بمحمد بن مروان واستجار به فأجاره إلا من حد توجبه عليه شهادة فرضي بذلك

صوت
( ألاَ يا حَماماتِ اللِّوَى عُدْنَ عودةً ... فإنِّي إلى أصواتِكُنَّ حَرِينُ )
( فعُدْنَ فلمّا عُدْنَ كِدْنَ يُمِتْننِي ... وكِدْتُ بأسْراري لَهُنّ أُبِينُ )
( دَعَوْنَ بأصواتِ الهَدِيلِ كأنَّما ... شَرِبْنَ حُمَيَّا أوْ بِهِنْ جُنُونُ )
( فَلمْ تَرَ عيني مِثْلَهُنّ حمائماً ... بَكَيْنَ ولم تَدْمعْ لَهُنّ عُيونُ )
الشعر لأعرابي هكذا أنشدناه جعفر بن قدامة عن أحمد بن حمدون عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل والغناء لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وقد قيل إن الشعر لابن الدمينة

أخبار محمد بن الحارث بن بسخنر
هو محمد بن الحارث بن بسخنر ويكنى أبا جعفر وهم فيما يزعمون موالي المنصور وأحسبه ولاء خدمة لا ولاء عتق وأصلهم من الري وكان محمد يزعم أنه من ولد بهرام جوبين وولد محمد بالحيرة وكان يغني مرتجلا إلا أن أصل ما غنى عليه المعزفة وكانت تحمل معه إلى دار الخليفة فمر غلامه بها يوما فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق مع هذا الغلام مصيدة الفأر وقال بعضهم لا بل هي معزفة محمد بن الحارث فحلف يومئذ بالطلاق والعتاق ألا يغني بمعزفة أبدا أنفة من أن تشتبه آلة يغني بها بمصيدة الفأر وكان محمد أحسن خلق الله تعالى أداء وأسرعه أخذا للغناء وكان لأبيه الحارث بن بسخنر جوار محسنات وكان إسحاق يرضاهن ويأمرهن أن يطرحن على جواريه وقال يوما للمأمون وقد غنى

مخارق بين يديه صوتا فآلتاث غناؤه فيه وجاء به مضطربا فقال إسحاق للمأمون يا أمير المؤمنين إن مخارقا قد أعجبه صوته وساء أداؤه في غنائه فمره بملازمة جواري الحارث بن بسخنر حتى يعود إلى ما تريد
أخبرني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال
سمعت إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يقول للواثق قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي ما قدر أحد قط أن يأخذ مني صوتا مستويا إلا محمد بن الحارث بن بسخنر فإنه أخذ مني عدة أصوات كما أغنيها ثم لم نلبث أن دخل علينا محمد بن الحارث فقال له الواثق حدثني إسحاق بن

إبراهيم عن إسحاق الموصلي فيك بكذا وكذا فقال قد قال إسحاق ذاك لي مرات فقال له الواثق فأي شيء أخذت من صنعته أحسن عندك فقال هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته منه

صوت
( إذا المَرْءُ قاسى الدَّهْرَ وابْيَضَّ رأسُه ... وثُلِّمَ تَثْلِيمَ الإنَاءِ جَوَانِبُهْ )
( فليس له في العيش خيرٌ وإنْ بكى ... على العيش أو رجَّى الذي هو كَاذِبُهْ )
الشعر والغناء لإسحاق ولحنه فيه رمل بالوسطى فأمره الواثق بأن يغنيه فغناه إياه وأحسن ما شاء وأجاد واستحسنه الواثق وأمره بأن يردده فردده مرارا كثيرة حتى أخذه الواثق وأخذه جواريه والمغنون قال جحظة قال الهشامي فحدثت بهذا الحديث عمرو بن بانة فقال ما خلق الله تعالى أحدا يغني هذا الصوت كما يغنيه هبة الله بن إبراهيم بن المهدي فقلت له قد سمعت ابن إبراهيم يغنيه فاسمعه من محمد ثم احكم فلقيني بعد ذلك فقال الأمر كما قلت قد سمعته من محمد فسمعت منه الإحسان كله
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال

كنت يوما في منزلي فجاءني محمد بن الحارث بن بسخنر مسلما وعائدا من علة كنت وجدتها فسألته أن يقيم عندي ففعل ودعوت بما حضر فأكلنا وشربنا وغنى محمد بن الحارث هذا الصوت
صوت
( أمِنْ ذِكْرِ خَوْدٍ عينُك اليومَ تَدْمَعُ ... وقلُبك مشغولٌ بخَوْدِكَ مُولَعُ )
( وقائلةٍ لي يومَ ولَّيْتُ مُعْرِضا ... أهذا فِرَاقُ الحِبِّ أمْ كيف تَصْنَعُ )
( فقلتُ كَذاكِ الدَّهْرُ يا خَوْدُ فآعْلَمِي ... يُفَرِّقُ بين الناسِ طُرًّا ويَجْمَعُ )
أصل هذا الصوت يمان هزج بالوسطى قال الهشامي وفيه لفليح ثاني ثقيل ولإسحاق خفيف رمل قال علي بن يحيى فقلت له وقد ردد هذا الصوت مرارا وغناه أشجى غناء إن لك في هذا الصوت معنى وقد كررته من غير أن يقترحه عليك أحد فقال نعم هذا صوتي على جارية من القيان كنت أحبها وأخذته منها فقلت له فلم لا تواصلها فقال
( لو لَمْ أَنْكْهَا دام لي حُبُّها ... لكِنَّني نِكْتُ فلا نِكْتُ )
فأجبته فقلت
( أكثرتَ من نَيْكِها والَّنْيكُ مَقْطَعةٌ ... فارْفُقْ بِنَيْككَ إنّ الرِّفْقَ محمودُ )
وأخبرني جعفر بن قدامة عن علي بن يحيى أن إسحاق غنى بحضرة الواثق لحنه

( ذَكَرْتُكِ إذ مَرَّتْ بِنا أُمُّ شَادِنٍ ... أمامَ المَطَايا تَشْرئِبُّ وتَسْنَحُ )
( من المُؤْلِفات الرَّمْلَ أدماءُ حُرّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتْنِها يَتَوَضَّحُ )
والشعر لذي الرمة ولحن إسحاق فيه ثقيل أول فأمره أن يعيده على الجواري وأحلفه بحياته أن ينصح فيه فقال لا يستطيع الجواري أن يأخذنه مني ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني وتأخذه الجواري منه فأحضر وألقاه عليه فأخذه منه وأخذته الجواري منه
أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بوسواسة الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي محمد بن الحارث بن بسخنر أخذت جارية للواثق مني صوتا أخذته من أبيك وهو

صوت
( أصبحَ الشَّيْبُ في المَفَارِق شَاعَا ... واكتسى الرَّأسُ مِنْ مَشِيبٍ قِنَاعَا )
( وتولَّى الشَّبابُ إلاّ قليلاً ... ثم يأبَى القليلُ إلاّ وَدَاعا )
الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول قال فسمعه الواثق منها

فاستحسنه وقال لعلويه ومخارق أتعرفانه فقال مخارق أظنه لمحمد بن الحارث فقال علويه هيهات ليس هذا مما يدخل في صنعة محمد هو يشبه صنعة ذلك الشيطان إسحاق فقال له الواثق ما أبعدت ثم بعث إلي فأخبرني بالقصة فقلت صدق علويه يا أمير المؤمنين هذا لإسحاق ومنه أخذته
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن المعتز قال قال لي أحمد بن الحسين بن هشام
جاءني محمد بن الحارث بن بسخنر يوما فقال لي قم حتى أطفل بك على صديق لي حر وله جارية أحسن خلق الله تعالى وجها وغناء فقلت له أنت طفيلي وتطفل بي هذه والله اخس حال فقال لي دع المجون وقم بنا فهو مكان لا يستحيي حر أن يتطفل عليه فقمت معه فقصد بي دار رجل من فتيان أهل سر من رأى كان لي صديقا يكنى أبا صالح وقد غيرت كنيته على سبيل اللقب فكني أبا الصالحات وكان ظريفا حسن

المروءة يضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا وله رزق سني في الموالي وكان من أولادهم ولم يكن منزله يخلو من طعام كثير نظيف لكثرة قصد إخوانه منزله فلما طرق بابه قلت له فرجت عني هذا صديقي وأنا طفيلي بنفسي لا أحتاج أن أكون في شفاعة طفيلي فدخلنا وقدم إلينا طعام عتيد طيب نظيف فأكلنا وأحضرنا النبيذ وخرجت جاريته إلينا من غير ستارة فغنت غناء حسنا شكلا ظريفا ثم غنت من صنعة محمد بن الحارث هذا الصوت وكانت قد أخذته عنه وفيه أيضا لحن لإبراهيم والشعر لابن أبي عيينة
صوت
( ضيَّعْتِ عهدَ فَتى لِعَهْدِك حافظٍ ... في حفْظِهِ وفي تَضْيِيعِكِ )
( إن تَقْتُليهِ وتذهبي بفؤادِهِ ... فبِحسْنِ وَجْهِكِ لا بِحُسْنِ صَنِيعِكِ )
فطرب محمد بن الحارث ونقطها بدنانير مسيفة كانت معه في خريطته ووجه غلامه فجاءه ببرنية غالية كبيرة فغلفها منها ووهب لها الباقي وكان لمحمد بن الحارث أخ طيب ظريف يكنى أبا هارون فطرب ونعر ونخر وقال لأخيه أريد أن أقول لك شيئا في السر قال قله علانية قال لا يصلح قال والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن تقوله جهرا فقله فقال أشتهي علم الله أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني فعسى صوتي أن تفتح ويطيب غنائي فضحك أبو الصالحات وخجلت الجارية وغطت وجهها وقالت سخنت عينك فإن حديثك يشبه وجهك

صوت
( وأيُّ أخٍ تَبْلُو فَتَحْمَدَ أمْرَهُ ... إذا لَجَّ خَصْمٌ أو نَبَا بِكَ مَنْزِلُ )
( إذا أنتَ لم تُنْصِفْ أخاك وجدتَه ... على طَرَفِ الهِجْرانِ إنْ كان يَعْقِلُ )
( سَتَقْطَعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتَني ... يَمِينَك فانْظُر أيَّ كَفٍّ تَبَدَّلُ )
( إذا انصرفتْ نفسي عن الشَّيْءِ لم تَكَدْ ... إليهِ بِوَجْهٍ آخِرَ الدَّهْرِ تُقْبِلُ )
الشعر لمعن بن أوس المزني والغناء لعريب خفيف رمل بالوسطى

أخبار معن بن أوس ونسبه
هو معن بن أوس بن نصر بن زياد بن أسحم بن زياد بن أسعد بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذؤيب بن عداء بن عثمان بن مزينةَ بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ونسبوا إلى مزينة وهي امرأة مزينة بنت كلب بن وبرة وأبوهم عمرو بن أد بن طابخة
أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي وهاشم بن محمد الخزاعي وعمي قالوا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال

مزينة بنت كلب بن وبرة تزوجها عمرو بن أد بن طابخة فولدت له عثمان وأوسا فغلبت أمهما على نسبهما فعلى هذا القول عداء هو ابن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة
ومعن شاعر مجيد فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام وله مدائح في جماعة من أصحاب النبي ورحمهم منهم عبد الله بن جحش وعمر ابن أبي سلمة المخزومي ووفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مستعينا به على بعض أمره وخاطبه بقصيدته التي أولها
( تأَوَّبَه طيفٌ بَذاتِ الجَرَاثِم ... فنامَ رَفيقَاهُ وليس بنائم )
وعمر بعد ذلك إلى أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن يحيى بن عبد الله بن ثوبان عن علقمة بن محجن الخزاعي عن أبيه قال كان معاوية يفضل مزينة في الشعر ويقول كان أشعر أهل الجاهلية

منهم وهو زهير وكان أشعر أهل الإسلام منهم وهو ابنه كعب ومعن بن أوس
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني العتبي قال كان معن بن أوس مئناثا وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن فولد لبعض عشيرته بنت فكرهها وأظهر جزعا من ذلك فقال معن
( رأيتُ رجالاً يَكْرَهون بَنَاتِهم ... وفِيهنّ لا تُكْذَبْ نِساءٌ صَوالِحُ )
( وفيهنّ والأيّامُ تَعْثُر بالفتى ... نَوَادِبُ لا يَمْلَلْنَهُ ونَوَائحُ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي يعني الحسن بن عليل قال حدثني أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف عن أبيه قال

مر عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بمعن بن أوس المزني وقد كف بصره فقال له يا معن كيف حالك فقال له ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدين قال وكم دينك قال عشرة آلاف درهم فبعث بها إليه ثم مر به من الغد فقال له كيف أصبحت يا معن فقال
( أخذتُ بعَيْنِ المال حتَّى نَهِكْتُه ... وبالدَّيْنِ حتَّى ما أَكاد أدَانُ )
( وحتَّى سألتُ القَرْضَ عند ذَوي الغنى ... ورَدّ فلانٌ حاجتي وفُلاَنُ )
فقال له عبيد الله الله المستعان إنا بعثنا إليك بالأمس لقمة فما لكتها حتى انتزعت من يدك فأي شيء للأهل والقرابة والجيران وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى فقال معن يمدحه
( إنّك فَرْعٌ من قُرَيْشٍ وإنَّما ... تَمُجُّ النَّدَى منها البحورُ الفَوَارعُ )
( ثوَوْا قادةً للنَّاس بَطْحَاءُ مَكْةٍ ... لَهُمْ وسِقَاياتُ الحَجِيجِ الدَّوَافعُ )
( فلمّا دُعُوا للموت لمْ تَبْكِ منهمُ ... على حادثِ الدَّهْرِ العيونُ الدَّوامِعُ )
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني الفضل بن

العباس القرشي عن سعيد بن عمرو الزبيري قال
كان لمعن بن أوس امرأة يقال لها ثور وكان لها محبا وكانت حضرية نشأت بالشأم وكانت في معن أعرابية ولوثة فكانت تضحك من عجرفيته فسافر إلى الشأم في بعض أعوامه فضلت الرفقة عن الطريق وعدلوا عن الماء فطووا منزلهم وساروا يومهم وليلتهم فسقط فرس معن في وجار ضب دخلت يده فيه فلم يستطع الفرس أن يقوم من شدة العطش حتى حمله أهل الرفقة حملا فأنهضوه وجعل معن يقوده ويقول
( لَوْ شَهِدَتْني وجَوَادِي ثَوْرُ ... والرَّأسُ فيه مَيَلٌ ومَوْرُ )
( لضحِكتْ حتَّى يَميلَ الكَوْرُ ... )
معن يهجو ابن الزبير
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دار الضيفان وكان ينزلها الغرباء وأبناء السبيل والضيفان فأقام يومه لم يطعم شيئا حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال كلوا من هذا وهم نيف وسبعون رجلا فغضب معن وخرج من عنده فأتى عبيد الله بن العباس فقراه وحمله

وكساه ثم أتى عبد الله بن جعفر وحدثه حديثه فأعطاه حتى أرضاه وأقام عنده ثلاثا ثم رحل فقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين
( ظَلِلْنَا بمُسْتَنِّ الرِّياحِ غُدَيَّةُ ... إلى أن تعالَى اليومُ في شَرِّ مَحْضَرِ )
( لَدَى ابن الزُّبَيْر حابِسينَ بمَنْزِلٍ ... من الخير والمعروفِ والرِّفْدِ مُقْفِرِ )
( رَمَانا أبو بكرٍ وقد طال يومُنا ... بِتَيْسٍ من الشَّاءِ الحِجَازِيّ أَعْفَرِ )
( وقال اطْعَمُوا منه ونحن ثلاثةٌ ... وسبعون إنساناً فيا لُؤْمَ مَخْبَرِ )
( فقلْت له لا تَقْرِنا فأمامَنا ... جفَانُ ابن عَبَّاس العُلاَ وابنِ جَعْفَرِ )
( وكُنْ آمِناً وانْعَقْ بِتَيْسِكَ إنّه ... له أَعْنُزٌ يَنْزُو عليها وأَبْشرِ )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن معاوية الأسدي قال قدم معن بن أوس المزني البصرة فقعد ينشد في المربد فوقف

عليه الفرزدق فقال يا معن من الذي يقول
( لعمْرُكَ مَا مُزَيْنَةُ رَهْطُ مَعْنٍ ... بأَخفاف يَطَأَنَ ولا سَنَامٍ )
فقال معن أتعرف يا فرزدق الذي يقول
( لَعَمْرُكَ ما تميمٌ أهلُ فَلْجٍ ... بأرْدافِ المُلوكِ ولا كِرَامِ )
فقال الفرزدق حسبك إنما جربتك قال قد جربت وأنت أعلم فانصرف وتركه
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال دخلت خضراء روح فإذا أنا برجل من ولده على فاحشة يوما فقلت قبحك الله هذا موضع كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي اللهى وأنت تفعل فيه ما أرى فالتفت إلي من غير أن يزول عنها وقال
( وَرِثْنا المجدَ عن آباء صِدْقٍ ... أسَأنَا في دِيارِهمُ الصَّنِيعَا )
( إذا الحَسَبُ الرَّفيعُ تَوَاكَلَتْهُ ... بُنَاةُ السَّوْء أَوْشَكَ أن يَضِيعَا )
قال والشعر لمعن بن أوس المزني

سفره إلى الشام
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة عن الحرمازي قال
سافر معن بن أوس إلى الشأم وخلف ابنته ليلى في جوار عمر بن أبي سلمة وأمه أم سلمة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وفي جوار عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له بعض عشيرته على من خلفت ابنتك ليلى بالحجاز وهي صبية ليس لها من يكفلها فقال معن رحمه الله تعالى
( لَعَمْرُكَ ما ليلَى بدَارِ مَضِيعَةٍ ... وما شَيْخُها أنْ غَاب عنها بخائِف )
( وإنّ لها جارَيْن لن يَغْدرَا لها ... رَبِيبَ النبيّ وابنَ خَيْر الخلائِف )
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني مسعود بن بشر عن عبد الملك بن هشام قال قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده عدة من أهل بيته وولده ليقل كل واحد منكم أحسن شعر سمع به فذكروا لامريء القيس والأعشى وطرفة

فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا فقال عبد الملك أشعرهم والله الذي يقول
( وذِي رَحمٍ قَلَّمْتُ أَظْفَارَ ضِغْنِهِ ... بحِلْمِيَ عنهُ وَهْوَ ليس له حِلْمُ )
( إذَا سُمْتهُ وَصْلَ القَرَابِةِ سامَني ... قَطِيعتَها تلك السَّفاهةُ والظُّلْمُ )
( فأَسْعَى لكَيْ أَبْنِي ويهْدِمُ صالحي ... وليس الذي يَبْني كمَنْ شأنُه الهَدْمُ )
( يُحاوِلُ رَغْمِي لا يُحاول غيرَه ... وكالموتِ عندي أن ينالَ له رغمُ )
( فما زِلْتُ في لِينٍ له وتَعَطُّفٍ ... عليه كما تحنُو على الوَلَدِ الأمُّ )
( لأَسْتَلَّ منه الضِّغْنَ حتَّى سَلَلْتُه ... وإنْ كان ذَا ضِغْنٍ يَضِيقُ به الحِلْمُ )
قالوا ومن قائلها يا أمير المؤمنين قال معن بن أوس المزني

خروجه إلى البصرة
أخبرني عيسى بن حسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي عن أبيه قال خرج معن بن أوس المزني إلى البصرة ليمتار منها ويبيع إبلا له فلما قدمها نزل بقوم من عشيرته فتولت ضيافته امرأة منهم يقال لها ليلى وكانت ذات جمال ويسار فخطبها فأجابته فتزوجها وأقام عندها حولا في أنعم

عيش فقال لها بعد حول يابنة عم إني قد تركت ضيعة لي ضائعة فلو أذنت لي فاطلعت طلع أهلي ورممت من مالي فقالت كم تقيم قال سنة فأذنت له فأتى أهله فأقام فيهم وأزمن عنها أي طال مقامه فلما أبطأ عليها رحلت إلى المدينة فسألت عنه فقيل لها إنه بعمق وهو ماء لمزينة فخرجت حتى إذا كانت قريبة من عمق نزلت منزلا كريما واقبل معن في طلب ذود له قد أضلها وعليه مدرعة من صوف وبت من صوف أخضر قال والبت الطيلسان وعمامة غليظة فلما رفع له القوم مال إليهم ليستسقي ومع ليلى ابن أخ لها ومولى من مواليها جالس أمام خباء له فقال له معن هل من ماء قال نعم وإن شئت سويقا وإن شئت لبنا فأناخ وصاح مولى ليلى يا منهلة وكانت منهلة الوصيفة التي تقوم على معن عندهم بالبصرة فلما أتته بالقدح وعرفها وحسر عن وجهه ليشرب عرفته وأثبتته فتركت القدح في يده وأقبلت مسرعة إلى مولاتها فقالت يا مولاتي هذا والله معن إلا أنه في جبة صوف وبت صوف فقالت هو والله عيشهم الحقي مولاي فقولي له هذا معن فاحبسه فخرجت الوصيفة مسرعة فأخبرت فوضع معن القدح وقال له دعني حتى ألقاها في غير هذا

الزي فقال لست بارحا حتى تدخل عليها فلما رأته قال أهذا العيش الذي نزعت إليه يا معن قال إي والله يابنة عم أما إنك لو أقمت إلى أيام الربيع حتى ينبت البلد الخزامي والرخامي والسخبر والكمأة لأصبت عيشا طيبا فغسلت رأسه وجسده وألبسته ثيابا لينة وطيبته وأقام معها ليلته أجمع يهرجها ثم غدا متقدما إلى عمق حتى أعد لها طعاما ونحر ناقة وغنما وقدمت على الحي فلم تبق فيهم امرأة إلا أتتها وسلمت عليها فلم تدع منهن امرأة حتى وصلتها وكانت لمعن امرأة بعمق يقال لها أم حقة فقالت لمعن هذه والله خير لك مني فطلقني وكانت قد حملت فدخله من ذلك وقام ثم إن ليلى رحلت إلى مكة حاجة ومعن معها فلما فرغا من حجهما انصرفا فلما حاذيا منعرج الطريق إلى عمق قال معن يا ليلى كأن فؤادي ينعرج إلى ما هاهنا فلو أقمت سنتنا هذه حتى نحج من قابل ثم نرحل إلى البصرة فقالت ما أنا ببارحة مكاني حتى ترحل معي

إلى البصرة أو تطلقني فقال أما إذ ذكرت الطلاق فأنت طالق فمضت إلى البصرة ومضى إلى عمق فلما فارقته ندم وتبعتها نفسه فقال في ذلك
( تَوَهَّمْتُ رَبْعاً بالمُعَبِّر واضحاً ... أبتْ قَرتاهُ اليومَ إلاَّ تَرَاوُحَا )
( أَرَبَّتْ عليه رادةٌ حَضْرَمِيَّةَ ... ومُرْتَجِزٌ كأنَّ فيه المَصَابِحَا )
( إذا هي حَلَّتْ كَرْبَلاَءَ فلَعْلَعاً ... فجَوْزَ العُذَيْبِ دونها فالنَّوابِحا )
( وبانتْ نَوَاها من نَوَاكَ وطاوعتْ ... معَ الشَّانئين الشامتاتِ الكَوَاشِحَا )
( فقُولاَ لليلَى هل تُعَوِّضُ نادماً ... له رجعةٌ قال الطلاقَ مُمَازِحا )
( فإنْ هي قالتْ لا فقُولا لها بَلَى ... ألاَ تَتَّقِينَ الجارياتِ الذَّوَابِحا )
وهي قصيدة طويلة فلما انصرف وليست ليلى معه قالت له امرأته أم حقة ما فعلت ليلى قال طلقتها قالت والله لو كان فيك خير ما فعلت ذلك فطلقني أنا أيضا فقال لها معن

( أعاذِلُ أقْصِرِي ودَعِي بَيَاتِي ... فإنَّكِ ذاتُ لَوْماتٍ حُمَاتِ )
( فإنّ الصُّبْحَ مُنْتَظَرٌ قريبٌ ... وإنَّكِ بالمَلاَمةِ لن تُفَاتي )
( نأت لَيْلَى فليلَى لاتُوَاتِي ... وضَنَّتْ بالمَوَدّة والبَتَاتِ )
( وَحَلَّتْ دارها سَفَوانَ بَعْدِي ... فذا قَارٍ فَمُنْخَرَقَ الفُرَاتِ )
( تُراعى الرِّيفَ دائبةً عليها ... ظِلاَلُ أَلَفَّ مُخْتَلِطِ النَّبَاتِ )
( فدَعْها أو تَنَاوَلْها لِعَنْسٍ ... من العِيديّ في قُلُص شِخَاتِ )
وهي قصيدة طويلة قال وقال لأم حقة في مطالبتها إياه بالطلاق
( كأنْ لم يَكُنْ يا أُمَّ حِقّةَ قبلَ ذا ... بِمَيْطانَ مُصطافٌ لنا وَمَرابِعُ )
( وإذْ نحن في غُصْنِ الشَّبابِ وقد عسَا ... بنا الآنَ إلاّ أنْ يُعَوَّضَ جازعُ )
( فقد أَنكرتْه أُمُّ حِقّةَ حادِثاً ... وأنكرها ما شِئْتَ والوُدُّ خادعُ )

( ولو آذنتْنا أمُّ حِقّةَ إذ بنا ... شبابٌ وإذ لمّا تَرُعْنا الرَّوَائِعُ )
( لَقُلْنا لها بِينِي بِلَيْلٍ حمِيدةً ... كذاكِ بلا ذمِّ تُؤَدَّى الوَدائِعُ )

صوت
( أعابدُ حُيِّيُتْم على النَّأْي عابدَا ... سقَاكِ الإِلهُ المُنْشَآتِ الرَّواعِدا )
( أعابِدَ ما شمسُ النَّهارِ إذا بدتْ ... بأحسنَ مما بين عَيْنَيْكِ عابدا )
ويروى
( أعابِدَ ما شمسُ النهار بدتْ لنا ... )
ويروى
( أَعابِدُ ما الشَّمْسُ التي برزْت لنا ... بأحسنَ مما بين ثَوْبَيْك عابدا )
الشعر للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب والغناء لعطرد ثاني ثقيل بالبنصر وفيه ليونس لحن من كتابه غير مجنس

أخبار الحسين بن عبد الله
قد تقدم نسبه وهو أشهر من أن يعاد ويكنى أبا عبد الله وكان من فتيان بني هاشم وظرفائهم وشعرائهم وقد روى الحديث وحمل عنه وله شعر صالح وهذه الأبيات يقولها في زوجته عابدة بنت شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص وهي أخت عمرو بن شعيب الذي يروى عنه الحديث وفيها يقول قبل أن يتزوجها
( أَعاذِلُ إنّ الحُبَّ لا شَكَّ قاتِلِي ... لئن لم تُقَارِضْني هَوَى النَّفسِ عابِدَهْ )
( أُعابِدُ خافي الله في قتلِ مُسْلِمٍ ... وجُودِي عليه مَرَّةً قَطُّ واحِدَهْ )
( فإنْ لم تُرِيدِي فيَّ أَجراً ولا هَوًى ... لَكُمْ غيرَ قَتْلِي يا عُبَيْدُ فَرَاشِدَهْ )
( فكَمْ ليلةٍ قد بِتُّ أَرْعَى نُجُوَمها ... وعَبْدةُ لا تَدْرِي بذلك راقِدَهْ )
الغناء لحكم الوادي رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن

إسحاق
فمما حمل عنه من الحديث ماحدثني به أحمد بن سعيد قال حدثني محمد بن عبيد الله بن المنادى قال حدثني يونس بن محمد قال حدثنا أبو أويس عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال مر النبي على حسان بن ثابت وهو في ظل فارع وحوله أصحابه وجاريته سيرين تغنيه بمزهرها
( هَلْ عليَّ وَيْحَكُمَا ... إنْ لَهَوْتُ من حَرَجِ )
فضحك النبي ثم قال لا حرج إن شاء الله
وكانت أم عابدة هذه عمة حسين بن عبد الله بن عبيد الله أمها عمرة بنت عبيد الله بن العباس تزوجها شعيب فولدت له محمدا وشعيبا ابني شعيب وعابدة وكان يقال لها عابدة الحسن وعابدة الحسناء
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال

حدثني محمد بن يحيى قال خطب عابدة بنت شعيب بكار بن عبد الملك وحسين بن عبد الله فامتنعت على بكار وتزوجت الحسين فقال له بكار كيف تزوجتك العابدة واختارتك مع فقرك فقال له الحسين أتعيرنا بالفقر وقد نحلنا الله تعالى الكوثر
أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال كان حسين بن عبد الله أمه أم ولد وكان يقول شيئا من الشعر وتزوج عابدة بنت شعيب وولدت منه وبسببها ردت على ولد عمرو بن العاص أموالهم في دولة بني العباس وكان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر صديقا له ثم تنكر ما بينهما فقال فيه ابن معاوية
( إنَّ ابنَ عَمِّكَ وابنَ أُمِّكَ ... مُعْلَمٌ شاكِي السِّلاَحِ )
( يَقِصُ العَدُوَّ وليس يَرْضَى ... حين يَبْطِشُ بالجِرَاحِ )
( لا تَحْسَبَنَّ أذَى ابن عَمِّكَ شُرْبَ لاْلبانِ اللِّقاح ... )
( بَلْ كالشَّجاةِ ورا اللَّهاةِ ... إذَا تُسَوَّغُ بالقَرَاحِ )
( فاخْتَرْ لنفسك مَنْ يُجِي ... بُكَ تحتَ أطرافِ الرِّماحِ )
( مَنْ لا يزالُ يَسُوءُهُ ... بالغَيْبِ أنْ يلحاكَ لاحِ )

فقال حسين له
( أَبْرِقْ لِمَنْ يَخْشَى وأوْعِدْ ... غيرَ قَوْمِك بالسِّلاحِ )
( لسنا نُقِرُّ لِقائلٍ ... إلاّ المُقَرَّطَ بالصَّلاَح )
قال ولحسين يقول ابن معاوية
( قُلْ لِذِي الوُدّ والصَّفاءِ حُسَيْنٍ ... اقْدُرِ الوُدَّ بينَنا قَدَرَهْ )
( ليس لِلدَّابِغِ المُحَلِّمِ بُدٌّ ... من عتابِ الأَدِيم ذي البَشَرهْ )
( لستُ إنْ راغ ذو إخاءٍ ووُدٍّ ... عَنْ طَرِيقٍ بتَابِع أَثَرَهْ )
( بَلْ أقِيمُ القَناةَ والوُدَّ حتَّى ... يَتْبَعَ الحَقَّ بعدُ أو يَذَرَهْ )
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد ابن سلام قال

كان صديقا لابن أبي السمح
كان مالك بن أبي السمح الطائي المغني صديقا للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس ونديما له وكان يتغنى في اشعاره وله يقول الحسين رحمه الله تعالى

( لا عَيْشَ إلاَّ بمالكِ بن أبي السَّمحِ فلا تَلْحَنِي ولا تَلُمِ )
( أَبْيَضُ كالسيف أو كما يَلْمَعُ الْبارِقُ ... في حِنْدسٍ من الظُّلَمِ )
( يُصِيبُ مِنْ لَذَّةِ الكريمِ ولا ... يَهْتِكُ حقَّ الإسلامِ والحُرَمِ )
( يا رُبَّ ليلٍ لنا كحاشيةِ الْبُرْدِ ... ويوم كذاكَ لم يَدُمِ )
( قد كنتُ فيه ومالِكُ بن أبي السمح ... الكرِيم الأخلاقِ والشِّيَمِ )
( مَنْ ليس يَعْصِيك إنْ رَشَدْتَ ولا ... يَجْهَلُ آيَ التَّرْخِيص في اللَّمَمِ )
قال فقال له مالك ولا إن غويت والله بأبي أنت وأمي أعصيك قال وغنى مالك بهذه الأبيات بحضرة الوليد بن يزيد فقال له أخطأ حسين في صفتك إنما كان ينبغي أن يقول
( أحْوَل كالقِرْدِ أو كما يخرُج السَّارِقُ ... في حالكٍ من الظُّلَمِ )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كان الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس إذا صلى العصر دخل منزله سمع الغناء عشيته فأتاه قوم ذات عشية في حاجة لهم فقضاها ثم جلسوا يحدثونه فلما أطالوا قال لهم أتأذنون فقالوا نعم فقام في أصحاب له وهو يقول
( قُومُوا بنا ندرك من العيش لَذَّةً ... ولا اثم فيها للتَّقِّي ولا عارَا )

صوت
( إنّ حَرْباً وإنّ صَخْراً أبا سُفْيانَ ... حازَا مَجْداً وعِزّاً تليدَا )
( فهُما وَارِثا العُلاَ عن جُدُودٍ ... وَرِثُوها آباءَهم والجُدودَا )
الشعر لفضالة بن شريك الأسدي من قصيدة يمدح بها يزيد بن معاوية وبعد هذين البيتين يقول
( وحَوَى إرْثَها مُعاويةُ القَرمُ ... وأعطَى صَفْوَ التُّرَاثِ يزيدَا )
والغناء لإبراهيم بن خالد المعيطي ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي والله أعلم

أخبار فضالة بن شريك ونسبه
هو فضالة بن شريك بن سلمان بن خويلد بن سلمة بن عامر موقد النار بن الحريش بن نمير بن والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وكان شاعرا فاتكا صعلوكا مخضرما أدرك الجاهلية والإسلام وكان له ابنان شاعران أحدهما عبد الله بن فضالة الوافد على عبد الله بن الزبير والقائل له إن ناقتي قد نقبت ودبرت فقال له ارقعها بجلد واخصفها بهلب وسر بها البردين فقال له إني قد جئتك مستحملا لا مستشيرا فلعن الله ناقة حملتني إليك فقال له ابن

الزبير إن وراكبها فانصرف من عنده وهو يقول
( أقولُ لغِلْمَتي شُدّوا رِكَابي ... أجَاوِزْ بَطْنَ مكّة في سَوَاد )
( فمالي حينَ أَقْطَعُ ذاتَ عِرْقٍ ... إلى ابنِ الكاهِلِيّةِ من مَعَادِ )
( سَيُبْعِدُ بينَنا نَصُّ المَطَايَا ... وتَعْلِيقُ الأَدَاوَى والمَزَادِ )
( وكلُّ مُعَبَّدٍ قد أعلمتْهُ ... مَنَاسِمُهُنَّ طلاعِ النِّجَادِ )

( أرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ بالبلادِ )
( مِنَ الأعياصِ أو مِنْ آل حَرْبٍ ... أَغرُّ كغُرّةِ الفَرَسِ الجَوَادِ )
حدثنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز المدائني فأما فاتك بن فضالة فكان سيدا جوادا وله يقول الأقيشر يمدحه
( وَفَد الوفودُ فكنتَ أفضلَ وَافِدٍ ... يا فاتِكُ بنَ فَضَالةَ بن شَرِيكِ )
أخبرني بما أذكر من أخباره هاهنا مجموعا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وما ذكرته متفرقا فأنا ذاكر إسناده عمن أخذته قال ابن حبيب

فضالة الهجاء
مر فضالة بن شريك بعاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو متبد بناحية المدينة فنزل به فلم يقره شيئا ولم يبعث إليه ولا إلى أصحابه

بشيء وقد عرفوه مكانهم فارتحلوا عنه والتفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له قل له أما والله لأطوقنك طوقا لا يبلى وقال يهجوه
( ألاَ أيها الباغي القِرَى لستَ واجداً ... قِرَاكَ إذا ما بِتَّ في دار عاصمِ )
( إذَا جئتَه تَبْغِي القِرَى باتَ نائماً ... بِطِيناً وأمسَى ضَيْفُهُ غيرَ نائِم )
( فدَعْ عاصماً أُفٍّ لأفعالِ عاصمٍ ... إذا حُصِّل الأقوام أهلُ المَكَارِمِ )
( فتًى من قُرَيْشٍ لا يجودُ بنائلٍ ... ويَحْسَبُ أنّ البُخْلَ ضَرْبةُ لازِمِ )
( ولولا يدُ الفاروق قَلَّدْتُ عاصماً ... مُطَوِّقةً يُحْدَى بها في المَوَاسِم )
( فليتَك من جَرْمِ بن زَبَّانِ أو بَنِي ... فُقَيْمٍ أو النَّوكَى أبَانِ بن دَارِمِ )
( أُنَاسٌ إذا ما الضَّيْفُ حلَّ بُيوتَهم ... غَدَا جائعاً عَيْمانَ ليس بغانم )
قال فلما بلغت أبياته عاصما استعدى عليه عمرو بن سعيد بن العاص وهو يؤمئذ بالمدينة أمير فهرب فضالة بن شريك فلحق بالشأم وعاذَ بيزيد بن معاوية وعرفه ذنبه وما تخوف من عاصم فأعاذه وكتب إلى عاصم يخبره أن فضالة أتاه مستجيرا به وأنه يحب أن يهبه له ولا يذكر لمعاوية شيئا من أمره ويضمن له ألا يعود لهجائه فقبل ذلك عاصم وشفع يزيد بن معاوية فقال فضالة يمدح يزيد بن معاوية

( إذَا ما قُرَيْشٌ فاخرتْ بقَدِيمها ... فَخَرْتَ بمَجْدٍ يا يزيدُ تَلِيدِ )
( بِمَجْد أمير المؤمنين ولم يَزَلْ ... أبوك أمينُ الله غير بَلِيد )
( به عَصَمَ اللهُ الأنامَ من الرَّدَى ... وأدركَ تَبْلاً من مَعَاشِرَ صِيدِ )
( ومَجْدِ أبي سُفْيان ذِي الباع والنَّدَى ... وحرْبٍ وما حَرْبُ العُلاَ بزَهِيد )
( فمَنْ ذا الذي إن عدّد الناسُ مَجْدَهم ... يَجِيء بمَجْدٍ مثْلِ مجدِ يزيدِ )
وقال فيه القصيدة المذكور فيها الغناء في هذه القصة بعينها
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني السكري عن ابن حبيب قال كان عبد الله بن الزبير قد ولى عبد الله بن مطيع بن الأسود بن نضلة بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب الكوفة فطرده عنها المختار بن أبي عبيد حين ظهر فقال فضالة بن شريك يهجو ابن مطيع
( دعا ابنُ مُطّيعٍ لِلْبِاعِ فجئتُه ... إلى بَيْعةٍ قلبي بها غيرُ عارِفِ )

( فقرَّبَ لي خَشْنَاء لمّا لَمَسْتُها ... بِكَفِّيَ لم تُشْبِهْ أَكُفَّ الخَلاَئِف )
( مَعَوَّدةً حَمْلَ الهراوى لِقَوْمِها ... فَرُوراً إذا ما كان يومُ التَّسَايُفِ )
( من الشَّثناتِ الكُرْمِ أنكرتُ لَمْسَها ... وليستْ من البِيضِ السِّيَاطِ اللَّطائفِ )
( ولَمْ يُسْمِ إذْ بايعتُهُ منْ خَلِيفَتِي ... ولم يَشْتَرِطْ إلاّ اشتراط المُجَازِفِ )
( متى تَلْقَ أهلَ الشأْم في الخَيْلِ تَلْقَني ... على مُقْرَبٍ لا يُزْدَهَى بالمَجَاذِفِ )
( مُمَرٍّ كبُنْيانِ العِبَادِيِّ مُخْطَفٍ ... من الضَّارِياتِ بالدِّماء الخَوَاطِف )
وقال ابن حبيب في هذا الإسناد تزوج عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي امرأة من بني نصر بن معاوية وسأل في صداقها بالكوفة فكان يأخذ من كل رجل سأله درهمين درهمين فقال له فضالة بن شريك يهجوه بقوله
( أنْكَحْتُمُ يا بني نَصْرٍ فَتَاتَكُمُ ... وَجْهاً يَشِينُ وُجوهَ الرَّبْرَبِ العِينِ )
( أنكحتُمُ لا فَتَى دُنْيَا يُعاشُ به ... ولا شُجَاعاً إذا انْشَقَّتْ عَصَا الدِّينِ )
( قد كنتُ أرجو أبا حَفْصِ وسُنَّتُهُ ... حتَّى نَكَحْتَ بأرزاقِ المَسَاكينِ )
وقال ابن حبيب في هذا الإسناد أودع فضالة بن شريك رجلا من بني سليم يقال له قيس ناقة فخرج في سفر فلما عاد طلبها منه فذكر أنها سرقت فقال فيه
( ولَوْ أنَّنِي يومَ بَطْنِ العَقيقِ ... ذَكرتُ وذو اللُّبِّ يَنْسَى كَثِيرَا )

( مَصَابَ سُلَيْمٍ لِقاحَ النَّبِيِّ لَمْ ... أُودِعِ الدَّهْرَ فيهمْ بَعِيرَا )
( وقد فاتَ قَيْسٌ بِعَيْرَانةٍ ... إذا الظِّلُّ كان مَدَاهُ قصيرَا )
( مِنَ اللاعِباتِ بِفَضْلِ الزِّمَامِ ... إذا أقلقَ السَّيْرُ فيه الضُّفُورَا )
( ومَنْ يَبْكِ منكمْ بَني مُوقِدٍ ... ولم يَرَهُمْ يَبْكِ شَجْواً كَبِيرَا )
( هُمُ العاسِفُونَ صلابُ القَنَا ... إذا الخيلُ كانتْ من الطَّعْنِ زُورَا )
( وأيْسارُ لُقْمَانَ إذْ أمْحِلُوا ... وعِزٌّ لِمَنْ جاءهم مُسْتَجيرَا )
( فإنْ أنا لم يُقْضَ لِي ألْقَهُمْ ... قَرَأتُ السَّلامَ عليهمْ كَثيرا )

وذكر ابن حبيب في هذه الرواية أن القصيدة التي ذكرتها عن المدائني في خبر عبد الله بن فضالة بن شريك مع ابن الزبير كانت مع فضالة وابن الزبير لا مع ابنه وذكر الأبيات وزاد فيها
( شَكوتُ إليه أنْ نَقِبتْ قَلُوصِي ... فَردَّ جوابَ مَشْدودِ الصِّفادِ )
( يَضَنُّ بناقَةٍ ويرومُ مُلْكاً ... مُحالٌ ذلِكُمْ غَيْرُ السَّدَادِ )
( وَلِيتَ إمارةً فبَخِلْتَ لمّا ... وَلِيَتهُمُ بمُلْكٍ مُسْتَفاد )
( فإنْ وَلِيَتْ أُميّةُ أَبْدلُوكُمْ ... بِكُلِّ سَمَيْدَعٍ واري الزِّناد )
( منَ الأَعْياص أوْ مِنْ آل حَرْبٍ ... أغَرَّ كغُرّةِ الفَرَسِ الجَوَادِ )
( إذا لَم ألْقَهُم بمنًى فإنِّي ... ببَيْتٍ لا يَهَشّ له فؤادي )
( سَيُدْنِيني لَهُمْ نَصُّ المَطايَا ... وتعليقُ الأدَاوَى والمَزَادِ )
( وظَهْرُ مُعَبَّدٍ قد أعْلَمَتْهُ ... مَنَاسِمُهُنّ طَلاّعِ النِّجاد )
( رَعَيْنَ الحَمْضَ حَمْضَ خُنَاصِراتٍ ... وما بالعِرْقِ من سَبَل الغَوادي )
( فهُنّ خَواضِعُ الأبدانِ قُودٌ ... كأنَّ رؤوسهن قبورُ عادِ )
( كأنّ مَوَاقِعَ الغِرْبانِ منها ... مَنَاراتٌ بُنِينَ على عِمَادِ )

قال فلما ولي عبد الملك بعث إلى فضالة يطلبه فوجده قد مات فأمر لورثته بمائة ناقة تحمل وقرها برا وتمرا قال والكاهلية التي ذكرها زهرة بنت خنثر امرأة من بني كاهل بن أسد وهي أم خويلد بن أسد بن عبد العزى

صوت
( لقدْ طالَ عَهْدِي بالإمامِ محمدٍ ... وما كنتُ أخشَى أن يطولَ به عهدِي )
( فأصبحتُ ذَا بُعْدٍ ودارِي قريبةٌ ... فَواعَجَبَا من قُرْبِ دارِي ومن بُعْدِي )
( فيا ليتَ أنّ العِيدَ لِي عاد يَوْمُهُ ... فإنِّي رأيت العِيدَ وَجْهَك لي يُبْدِي )
( رأيتُك في بُرْدِ النبيّ محمدٍ ... كَبدْر الدُّجَى بين العِمامةِ والبُرْدِ )
الشعر لأبي السمط مروان الأصغر بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة والغناء لبنان خفيف رمل مطلق ابتداؤه ونشيد وذكر الصولي أن هذا الشعر ليحيى بن مروان وهذا غلط قبيح

أخبار مروان الأصغر
قد مر نسبه ونسب أبيه وأهله وأخبارهم متقدما وكان مروان هذا آخر من بقي منهم يعد في الشعراء وبقي بعده منهم متوج وكان ساقطا بارد الشعر فذكر لي عن أبي هفان أنه قال شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته ثم يفتر ثم يبرد وكذا كانت أشعارهم إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد
وهذا الشعر يقوله مروان في المنتصر وكان قد أقصاه وجفاه وأظهر خلافا لأبيه في سائر مذاهبه حتى في التشيع فطرد مروان لنصبه وأخرجه عن جلسائه فقال هذه الأبيات وسأل بنان بن عمرو فغنى فيها المنتصر ليستعطفه وخبره في ذلك يذكر في هذا الموضع من الكتاب

مدحه المتوكل
أخبرني عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حماد بن أحمد بن سليمان الكلبي قال حدثني أبو السمط مروان الأصغر قال
لما دخلت إلى المتوكل مدحته ومدحت ولاة العهود الثلاثة وأنشدته
( سَقَى الله نَجْداً والسلامُ على نَجْدِ ... ويا حَبَّذَا نجدٌ على النَّأْيِ والبُعْد )
( نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونها ... لَعَلِّي أرى نجداً وهيهاتَ من نجدِ )
( ونجدٌ بها قومٌ هَواهُمْ زِيَارتِي ... ولا شيءَ أحلَى من زِيارتهمْ عندي )
قال فلما فرغت منها أمر لي بمائة وعشرين ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر فرس وبغلة وحمار ولم أبرح حتى قلت قصيدتي التي أشكره فيها وأقول
( تَخَيّرَ النَّاسِ للنّاس جعفرَا ... ومَلَّكَه أمرَ العِبَادِ تَخُّيرَا )
فلما صرت إلى هذا البيت
( فأمْسِكْ نَدَى كَفَّيْكَ عنِّي ولا تزِد ... فقد كِدْتُ أنْ أطغَى وأن أَتَجبَّرَا )
قال لي لا والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي
وحدثني عمي بهذا الخبر قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني

حماد بن أحمد بن يحيى قال حدثني مروان بن أبي الجنوب فذكر مثل هذا الخبر سواء وقال بعد قوله لا والله لا أمسك حتى أغرقك سلني حاجتك فقلت يا أمير المؤمنين الضيعة التي أمرت أن أقطعها باليمامة ذكر ابن المدبر أنها وقف المعتصم على ولده فقال قد قبلتك إياها مائة سنة بمائة درهم فقلت لا يحسن أن تضمن ضيعة بدرهم في السنة فقال ابن المدبر فبألف درهم في كل سنة فقلت نعم فأمر ابن المدبر أن ينفذ ذلك لي وقال ليست هذه حاجة هذه قبالة فسليني حاجتك فقلت ضيعة يقال لها السيوح أمر الواثق بإقطاعي إياها فمنعنيها ابن الزيات فأمر بإمضاء الإقطاع لي

هجاؤه علي بن الجهم
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال كان علي بن الجهم يطعن على مروان بن أبي الجنوب ويثلبه حسدا له على موضعه من المتوكل فقال له المتوكل يوما يا علي أيما أشعر أنت أو مروان فقال أنا يا أمير المؤمنين فأقبل على مروان فقال له قد

سمعت فما عندك قال كل أحد أشعر مني يا أمير المؤمنين وما أصف نفسي ولا أزكيها وإذا رضيني أمير المؤمنين فماأبالي من زيفني فقال له قد صدقتك علي يزعم سرا وجهرا أنه أشعر منك فالتفت إليه مروان فقال له يا علي أأنت أشعر مني فقال أوتشك في ذاك قال نعم أشك وأشك وهذا أمير المؤمنين بيننا فقال له علي إن أمير المؤمنين يحابيك فقال المتوكل هذا عي منك يا علي ثم قال لابن حمدون احكم بينهما فقال طرحتني والله يا أمير المؤمنين بين أنياب ومخالب أسدين قال والله لتحكمن بينهما فقال له أما إذ حلفت يا أمير المؤمنين فأشعرهما عندي أعرفهما في الشعر فقال له المتوكل قد سمعت يا علي قال قد عرف ميلك إليه فمال معه فقال دعنا منك هذا كله عي فإن كنت صادقا فاهج مروان قال قد سكرت ولا فضل في فقال المتوكل لمروان اهجه أنت وبحياتي لا تبق غاية فقال مروان
( إنّ ابن جَهْمٍ في المَغيبِ يَعيِبُني ... ويقول لي حَسَناً إذا لاَقَانِي )
( صَغُرتْ مَهَابُته وعُظِّمَ بَطْنُه ... فكأنّما في بطنه وَلَدانِ )
( وَيْحَ ابنِ جَهْمٍ ليس يَرْحَم أُمَّهُ ... لو كان يرحمها لَمَا عاداني )
( فإذا التقينا ناك شِعْرِي شِعْرَه ... ونَزَا على شَيطانه شيطاني )
قال فضحك المتوكل والجلساء منه وانخزل ابن الجهم فلم يكن عنده أكثر من أن قال جمع حيلة الرجال وحيلة النساء فقال له المتوكل

هذا أيضا من عيك وبردك إن كان عندك شيء فهاته فلم يأت بشيء فقال لمروان بحياتي إن حضرك شيء فهاته ولا تقصر في شتمك فقال مروان
( لَعَمْرُكَ ما الجَهْمُ بن بَدْرٍ بشاعرٍ ... وهذا عليٌّ بعده يَدّعِي الشِّعْرَا )
( ولكن أبي قد كان جاراً لأُمِّه ... فلمّا ادّعى الأشعارَ أوهمني أمْرَا )
قال فضحك المتوكل وقال زده بحياتي فقال فيه
( يابنَ بَدْرٍ ياعَلِيَّهْ ... قُلْتِ إنِّي قُرَشِيَّهْ )
( قلتِ ما ليس بحقٍّ ... فاسْكُتِي يانَبَطَّيهْ )
( اُسْكُتي يا بنتَ جَهْمٍ ... اُسْكُتِي يا حَلَقِيَّه )
فأخذ عبادة هذه الأبيات فغناها على الطبل وجاوبه من كان يغني والمتوكل يضحك ويضرب بيديه ورجليه وعلي مطرق كأنه ميت ثم قال علي بالدواة فأتي بها فكتب
( بَلاءٌ ليس يُشْبِهُهُ بَلاَءٌ ... عَدَاوةُ غيرِ ذي حَسبٍ ودِينِ )
( يُبِيحُكَ منه عِرْضاً لم يَصُنْهُ ... ويرتَع منك في عِرْضٍ مَصُونِ )
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني محمد بن السري قال لما مدح علي بن الجهم وهو محبوس المتوكل بقوله
( تَوَكَّلْنا على رَبِّ السماءِ ... وسلمنا لأسباب القضاءِ )

وذكر فيها جميع الندماء وسبعهم وهجاهم انتدب له مروان بن أبي الجنوب فعارضه فيها وقد كان المتوكل رق له فلما أنشده مروان هذه القصيدة اعتورته ألسنة الجلساء فثلبوه واغتابوه وضربوا عليه فتركه في محبسه والقصيدة
( ألم تَعْلَمْ بأنَّك يابنَ جَهْمٍ ... دَعِيٌّ في أُنَاسٍ أدعياءِ )
( أعبدَ الله تهجو وابنَ عَمْرٍ ... وبَخْتِيَشُوعَ أصحاب الوفاء )
( هجوتَ الأكرمين وأنت كلبٌ ... حقيقٌ بالشَّتِيمةِ والهِجاء )
( أتَرْمِي بالزِّناءِ بني حَلاَلٍ ... وأنت زَنِيمُ أولادِ الزِّناء )
( أُسَامةُ من جُدُودِك يابنَ جَهْمٍ ... كذبتَ وما بذلك من خَفَاء )
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى قال حدثني إبراهيم بن الحسن قال لما كان من أمر العباس بن المأمون وعجيف ما كان أنشد مروان بن أبي الجنوب المعتصم قصيدة أولها
( أَلاَ يا دولةَ المَعْصُومِ دُومِي ... فإنَّك قُلْت للدُّنْيا استقيمي )
فلما بلغ إلى قوله
( هَوَى العَبّاسُ حين أراد غَدْراً ... فَوافى إذ هوى قَعْرَ الجحيم )
( كذاك هَوَى كمَهْوَاهُ عُجَيْفٌ ... فأصبحَ في سَوَاءِ لظى الحَمِيم )

قال المعتصم أبعده الله
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو العيناء قال دخل مروان الأصغر بن أبي الجنوب على أشناس وقد مدحه بقصيدة فأنشده إياها فجعل أشناس يحرك رأسه ويومىء بيديه ويظهر طربا وسرورا وأمر له بصلة فلماخرج قال له كاتبه رأيت الأمير قد طرب وحرك رأسه ويديه لماكان يسمعه فقد فهمه قال نعم قال فأي شيء كان يقول قال ما زال يقول على رقية الخبز حتى حصل ما أراد وانصرف
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال كان المتوكل يعابثني كثيرا فقال في يوم من الأيام لمروان بن أبي الجنوب اهج علي بن يحيى فقال مروان
( أَلاَ إنّ يحيى لا يُقَاسُ إلى أبي ... وعِرْضُ ابن يحيى لا يُقَاسُ إلى عِرْضي )
وهي أبيات تركت ذكرها صيانة لعلي بن يحيى قال فأجبته عنها فقلت
( صدقتَ لَعَمْرِي ما يقاسُ إلى أبي ... أبوك ومَنْ قاس الشَّوَاهِقَ بالخَفْض )
( وهَلْ لك عِرْضٌ طاهر فتَقِيسَهُ ... إذا قِيسَتِ الأعراضُ يوماً إلى عِرْضي )
( ألستُمْ مَوَالِي لِلَّعِين ورَهْطِهِ ... أعادِي بني العَبَّاس ذِي الحَسَبِ المَحْضِ )

( تُوَالُونَ مَنْ عادَى النبيَّ ورَهْطَهُ ... فتَرْمُونَ مَنْ وَالَي أولِي الفَضْلِ بالرَّفْضِ )
( وليس عجيباً أنْ أُرَى لك مُبْغِضاً ... لأنَّك أهلٌ للعَداوةِ والبُغْضِ )
حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى قال أنشد مروان بن أبي الجنوب المتوكل ذات يوم
( إنِّي نزلتُ بساحة المُتَوَكِّلِ ... ونزلتَ في أقصَى دِيَارِ المَوْصِلِ )
فقال له بعض من حضر فكيف الاتصال بين هؤلاء والمراسلة فقال أبو العنبس الصيمري كان له حمام هدى يبعث بها إليه من الموصل حتى يكاتبه على أجنحتها فضحك المتوكل حتى استلقى وخجل مروان وحلف بالطلاق لا يكلم أبا العنبس أبدا فماتا متهاجرين كذا أكبر حفظي أن جحظة حدثني به عن علي بن يحيى فإني كتبته عن حفظي

علي بن الجهم يتهمه بانتحال الشعر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال قرأت في كتاب قديم

قال عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر في علة اعتلها
( فإنْ تَكُ حُمَّى الرِّبْعِ شَفَّكَ وِرْدُها ... فعُقْبَاكَ منها أن يطولَ لك العُمْرُ )
( وَقَيْنَاكَ لو نُعْطى المُنَى فيك والهَوَى ... لكان بِنا الشَّكْوَى وكان لك الاَّجْرُ )
قال ثم حم المتوكل حمى الربع فدخل عليه مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة فأنشده قصيدة له على هذا الروي وأدخل البيتين فيها فسر بها المتوكل فقال له علي بن الجهم يا أمير المؤمنين هذا شعر مقول والتفت إلي وقال هذا يعلم فالتفت إلي المتوكل وقال أتعرفه فقلت ما سمعته قبل اليوم فشتم علي بن الجهم وقال له هذا من حسدك وشرك وكذبك فلما خرجنا قال علي بن الجهم ويحك ما لك قد جننت أما تعرف هذا الشعر قلت بلى وأنشدته إياه فلما عدت إلى المتوكل من غد قال له يا أمير المؤمنين قد اعترف لي بالشعر وأنشدنيه فقال لي أكذاك هو فقلت كذب يا أمير المؤمنين ما سمعت به قط فازداد عليه غيظا وله شتما فلما خرجنا قال لي ما في الأرض

شر منك فقلت له أنت أحمق تريد مني أن أجيء إلى شعر قد قاله فيه شاعر يحبه ويعجبه شعره فأقول له إني أعرفه فأوقع نفسي وعرضي في لسان الشاعر لترتفع أنت عنده ويسقط ذاك ويبغضني أنا

صوت
( ما لإِبراهيمَ في العِلْمِ ... بهذا الشَّأنِ ثان )
( إنمَّا عُمْرُ أبي إسْحاقَ زَيْنٌ لِلزَّمانِ )
( فإذَا غَنَّى أَبو اسْحاقَ ... أجابتْهُ المَثَاني )
( منه يُجْنَى ثَمَرُ اللَّهْوِ ... ورَيْحان الجِنَانِ )
( جَنَّةُ الدُّنْيا أبو إسحاقَ ... في كلِّ مكانِ )
- عروضه من الرمل - الشعر لابن سيابة والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ابنه

أخبار إبراهيم بن سيابة ونسبه
إبراهيم بن سيابة مولى بني هاشم وكان يقال إن جده حجام أعتقه بعض الهاشميين وهو من مقاربي شعراء وقته ليست له نباهة ولا شعر شريف وإنما كان يميل بمودته ومدحه إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق فغنيا في شعره ورفعا منه وكانا يذكرانه للخلفاء والوزراء ويذكرانهم به إذا غنيا في شعره فينفعانه بذلك وكان خليعا ماجنا طيب النادرة وكان يرمى بالأبنة
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو زائدة عن جعفر بن زياد قال عشق ابن سيابة جارية سوداء فلامه أهله على ذلك وعاتبوه فقال
( يكونُ الخالُ في وجهٍ قَبِيحٍ ... فيكسُوه المَلاحةَ والجمالا )
( فكيف يُلاَمُ معشوقٌ على مَنْ ... يراها كلَّها في العين خالاَ )
أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين والحسين بن يحيى قالوا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال لقي إبراهيم بن سيابة وهو سكران ابنا لسوار بن عبد الله القاضي أمرد

فعانقه وقبله وكانت معه داية يقال لها رحاص فقيل لها إنه لم يقبله تقبيل السلام إنما قبله قبلة شهوة فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كل ما يكره وهجره الغلام بعد ذلك فقال له
( قُلْ لِلَّذِي ليس لي مِنْ ... يَدَيْ هَوَاهُ خَلاَصُ )
( أأن لَثمتُكَ سِرّاً ... فأبصرتْني رُحَاصُ )
( وقال في ذاك قومٌ ... على انتْقاصِيِ حِرَاصُ )
( هَجَرْتَني وأتتني ... شَتيمةٌ وانتقاصُ )
( فهَاكَ فاقْتَصَّ مِنِّي ... إنّ الجُروحَ قِصَاصُ )
ويروى أن رحاص هذه مغنية كان الغلام يحبها وأنه سكر ونام فقبله ابن سيابة فلما انتبه قال للجارية ليت شعري ما كان خبرك مع ابن سيابة فقالت له سل عن خبرك أنت معه وحدثته بالقصة فهجره الغلام فال هذا الشعر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن الصباح قال عاتبنا ابن سيابة على مجونة فقال ويلكم لأن ألقى الله تبارك وتعالى بذل المعاصي فيرحمني أحب إلي من أن ألقاه أتبختر إدلالا بحسناتي فيمقتني
قال ورأيت ابن سيابة يوما وهو سكران وقد حمل في طبق يعبرون به على الجسر فسألهم إنسان ما هذا فرفع رأسه من الطبق وقال هذا بقية مما

ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة يا كشخان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو الشبل البرجمي قال
ولع يوما أبو الحارث جميز بابن سيابة حتىأخجله فقال عند ذلك ابن سيابة يهجوه
( بَنَى أبو الحارثِ الجُمَّيْزِ في وَسَطٍ ... من ظَهْرِهِ وقَرِيباً من ذِرَاعَيْنِ )
( دَيْراً لِقَسٍّ إذا ما جاء يدخلُه ... ألقَى على باب دَيْرِ القَسِّ خُرْجَيْنِ )
( يعدو على بَطْنِهِ شدًّا على عَجَلٍ ... لا ذو يَدَيْنِ ولا يمشي برجلينِ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إبراهيم تينة قال كتب ابن سيابة إلى صديق له يقترض منه شيئا فكتب إليه يعتذر له ويحلف أنه ليس عنده ما سأله فكتب إليه إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا وإن كنت ملوما فجعلك الله معذورا
أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن ابيه قال كان ابن سيابة الشاعر عندنا يوما مع جماعة نتحدث ونتناشد وهو ينشدنا شيئا من شعره فتحرك فضرط فضرب بيده على استه غير مكترث ثم قال إما أن تسكتي حتى أتكلم وإما أن تتكلمي حتى أسكت
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب قال حدثني أبو هفان قال غمز ابن سيابة غلاما أمرد ذات يوم فأجابه ومضى به إلى منزله فأكلا وجلسا يشربان فقال له الغلام أنت ابن سيابة الزنديق قال نعم قال

أحب أن تعلمني الزندقة قال أفعل وكرامة ثم بطحه على وجهه فلما تمكن منه أدخل عليه فصاح الغلام أوه أيش هذا ويحك قال سألتني أن أعلمك الزندقة وهذا أول باب من شرائعها
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني محرز بن جعفر الكاتب قال قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم
أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال سخط الفضل بن الربيع على ابن سيابة فسألته أن يرضى عنه فامتنع فكتب إليه ابن سيابة بهذه الأبيات وسألني أيصالها
( إنْ كان جُرْمِي قد أحاطَ بحُرْمَتِي ... فأحِطْ بجُرْمِي عَفوَك المأمولاَ )
( فكَمِ ارْتَجَيْتُكَ في الَّتي لا يُرْتَجَى ... في مِثْلِها أحدٌ فنِلْتُ السُّولاَ )
( وَضَلَلْتُ عنك فلم أجِدْ لِي مَذْهَباً ... ووجدتُ حِلْمَكَ لِي عليك دليلا )
( هَبْنِي أسأتُ وما أسأتُ أُقِرُّ كَيْ ... يزدادَ عَفْوُك بعد طَوْلِك طُولاَ )

( فالعَفْوُ أجْمَلُ والتَّفضُّلُ بامرىءٍ ... لم يعْدَمِ الرَّاجون منه جميلا )
فلما قرأها الفضل دمعت عيناه ورضي عن ابن سيابة وأوصله إليه وأمر له بعشرة آلاف درهم

حواره المقذع مع بشار
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا الحسن بن الفضل قال سمعت ابن عائشة يقول جاء إبراهيم بن سيابة إلى بشار فقال له ما رأيت أعمى قط إلا وقد عوض من بصره إما الحفظ والذكاء وإما حسن الصوت فأي شيء عوضت أنت قال ألا أرى ثقيلا مثلك ثم قال له من أنت ويحك قال إبراهيم بن سيابة فتضاحك ثم قال لو نكح الأسد في استه لذل وكان إبراهيم يرمى بذلك ثم تمثل بشار
( لو نُكِح اللَّيْثُ في اسْتِهِ خَضَعَا ... ومات جوعاً ولم يَنَلْ شِبَعَا )
( كذلك السيفُ عند هِزَّتِه ... لو بَصَقَ النَّاسُ فيه ما قَطَعَا )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي قال حدثني محمد بن عبد الله الطلحي قال حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ قال قدم إبراهيم بن سيابة نيسابور فأنزلته علي فجاءني ليلة من الليالي

وهو مهرب فجعل يصيح بي يا أبا أيوب فخشيت أن يكون قد غشيه شيء يؤذيه فقلت ما تشاء فقال
( أَعْيَانِيَ الشَّادِنُ الرَّبِيبُ ... )
فقلت بماذا فقال
( أكتُبُ أشكو فلا يُجِيبُ ... )
قال فقلت له داره وداوه فقال
( منْ أين أبْغي شِفاءَ ما بي ... وانَّما دائيَ الطَّبِيبُ )
فقلت لا دواء إذا إلا أن يفرج الله تعالى فقال
( يا رَبِّ فَرِّجْ إذاً وعَجِّلْ ... فإنَّكَ السَّامِعُ المُجِيبُ )
ثم انصرف
في هذا الشعر - رمل - طنبوري لجحظة

صوت
( أيَا شَجَرَ الخابورِ مالَكَ مُورِقاً ... كأنّك لم تحزَنْ على ابن طَرِيفِ )
( فَتًى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاَّ مَن التُّقَى ... ولا المالَ إلاّ من قَنا وسُيُوف )

الشعر لأخت الوليد بن طريف الشاري والغناء لعبد الله بن طاهر ثقيل أول بالوسطى من رواية ابنه عبيد الله عنه وأول هذه الأبيات كما أنشدنا محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى ثعلب
( بتلِّ بُنانَا رَسْمُ قَبْرٍ كأنَّه ... على عَلَمٍ فوق الجبالِ مُنِيفِ )
( تضَمَّنَ جُوداً حاتميّاً ونائِلاً ... وسَوْرةَ مِقْدَامٍ وقَلْبَ حَصِيفِ )
( ألاَ قاتلَ اللهُ الجُثَا حيث أَضمرتْ ... فتًى كان بالمعروف غيرَ عَفِيفِ )
( فإنْ يَكُ أرْدَاهُ يَزِيدُ بنُ مَزيدٍ ... فيارُبَّ خيلٍ فَضَّها وصُفوفِ )
( ألاَ يا لَقَوْمٍ للنَّوائِبِ والرَّدَى ... ودَهْرٍ مُلِحٍّ بالكرام عَنيف )
( وللْبَدْرِ من بين الكواكِب إذْ هَوى ... ولِلشَّمْسِ هَمّتْ بعدَه بكُسوفِ )
( أيا شجرَ الخابوِر مالَكَ مُورِقاً ... كأنَّك لم تَحزَنْ على ابن طَرِيفِ )
( فتًى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاّ مِنَ التُّقَى ... ولا المالَ إلاّ من قَناً وسيوف )
( ولا الخَيْلَ إلاَّ كُلَّ جَرْداءَ شِطْبةٍ ... وكلَّ حِصَانٍ باليدين غَرُوفِ )

( فلا تَجْزَعَا يا ابْنَي طَرِيفٍ فإنَّني ... أرى الموتَ نَزَّالاً بكلِّ شريفِ )
( فَقَدْناكَ فِقْدانَ الرَّبِيعِ وليتَنا ... فَدَيْناكَ من دَهْمائنا بأُلوف )
وهذه الأبيات تقولها أخت الوليد بن طريف ترثيه وكان يزيد بن مزيد قتله

ذكر الخبر في ذلك
مقتل الوليد بن طريف
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن عمه عن جماعة من الرواة قال كان الوليد بن طريف الشيباني رأس الخوارج وأشدهم بأسا وصولة وأشجعهم فكان من بالشماسية لا يأمن طروقه إياه واشتدت شوكته وطالت أيامه فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني فجعل يخاتله ويماكره وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد بن مزيد فأغروا به أمير المؤمنين وقالوا إنما يتجافى عنه للرحم وإلا فشوكة الوليد يسيرة وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب يقول فيه لو وجهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به ولكنك مداهن متعصب وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليوجهن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين فلقي الوليد عشية خميس في شهر رمضان فيقال إن يزيد جهد

عطشا حتى رمى بخاتمه في فيه فجعل يلوكه ويقول اللهم إنها شدة شديدة فاسترها وقال لأصحابه فداكم أبي وأمي إنما هي الخوارج ولهم حملة فاثبتوا لهم تحت التراس فإذا انقضت حملتهم فاحملوا فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا فكان كما قال حملوا حملة وثبت يزيد ومن معه من عشيرته وأصحابه ثم حمل عليهم فانكشفوا ويقال إن أسد بن يزيد كان شبيها بأبيه جدا وكان لا يفصل بينهما إلا المتأمل وكان أكثر ما يباعده منه ضربة في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره ومنحرفة على جبهته فكان أسد يتمنى مثلها فهوت له ضربة فأخرج وجهه من الترس فأصابته في ذلك الموضع فيقال إنه لو خطت على مثال ضربة أبيه ما عدا جاءت كأنها هي واتبع يزيد الوليد بن طريف فلحقه بعد مسافة بعيدة فأخذ رأسه وكان الوليد خرج إليهم حيث خرج وهو يقول
( أنا الوليدُ بنُ طَرِيفَ الشَّارِي ... قَسْوَرَةٌ لا يُصْطَلَى بِنَارِي )
( جَوْرُكُمُ أخرجني من داري ... )
فلما وقع فيهم السيف وأخذ رأس الوليد صبحتهم أخته ليلى بنت طريف مستعدة عليها الدرع والجوشن فجعلت تحمل على الناس فعرفت فقال يزيد دعوها ثم خرج إليها فضرب بالرمح قطاة فرسها ثم قال اغربي غرب الله عليك فقد فضحت العشيرة فاستحيت وانصرفت وهي تقول
( أيا شجرَ الخابور ما لَكَ مورقاً ... كأنَّك لم تَحزَنْ على ابنِ طريفِ )

( فتًى لا يُحِبُّ الزَّادَ إلاّ مِنَ التُّقَى ... ولا المالَ إلاّ من قَناً وسُيوفِ )
( ولا الذُّخْرَ إلاَّ كُلَّ جَرْدَاءَ صِلْدِمٍ ... وكلَّ رقيقِ الشَّفْرَتَيْنِ خفيف )
فلما انصرف يزيد بالظفر حجب برأي البرامكة وأظهر الرشيد السخط عليه فقال وحق أمير المؤمنين لأصيفن وأشتون على فرسي أو أدخل فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل فلما رآه أمير المؤمنين ضحك وسر وأقبل يصيح مرحبا بالأعرابي حتى دخل وأجلس وأكرم وعرف بلاؤه ونقاء صدره

من قصيدة مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد
ومدحه الشعراء بذلك فكان أحسنهم مدحا مسلم بن الوليد فقال فيه قصيدته التي أولها
( أُجْرِرْتُ حَبْل خَلِيعٍ في الصِّبَا غَزِل ... وشَمَّرتْ هِمَمُ العُذَّالِ في عَذَلي )
( هاجَ البكاءَ على العين الطَّمُوح هَوًى ... مُفرَّقٌ بين توديع ومُحْتَمَل )

( كيف السُّلُوُّ لِقَلْبٍ بات مُخْتَبلاً ... يَهْذِي بصاحب قَلْبٍ غيرِ مُخْتَبَلِ )
وفيها يقول
( يَفْتَرُّ عند افترارِ الحَرْبِ مبتسماً ... إذا تَغَيَّرَ وجهُ الفارِس البَطِلِ )
( مُوفٍ على مُهَج في يومِ ذي رَهَجٍ ... كأنَّه أجَلٌ يسعَى إلى أَمَلِ )
( ينالُ بالرِّفقِ ما يَعْيَا الرِّجالُ به ... كالموت مُستعجِلاً يأتى على مَهَلِ )
( لا يَرْحَلُ النَّاسُ إلاّ نحوَ حُجرتِه ... كالبيت يُفْضِي إليه مُلْتَقى السُّبُلِ )
( يَقْرِي المَنِيّةَ أرواحَ العُدَاةِ كما ... يقرِي الضُّيوفَ شُحومَ الكُوم والبُزُل )
( يكسو السُّيوفَ رؤوسَ الناكثين به ... ويجعلُ الهامَ تيجانَ الْقَنَا الذُّبُل )
( إذا انتضَى سيفَه كانت مَسَالِكهُ ... مسالكَ الموت في الأبدانِ والقُلَلِ )
( لا تُكْذَبَنَّ فإنَّ المَجْدَ مَعْدِنُهُ ... وِرَاثةٌ في بني شَيْبَانَ لم تَزَلِ )
( إذا الشَّرِيكِيُّ لم يَفْخَرْ على أحدٍ ... تكلَّم الفخرُ عنه غير مُنْتَحِل )

( الزَّائديُّونَ قوم في رِماحِهِمُ ... خوفُ المُخيفِ وأَمْنُ الخائفِ الوِجِلِ )
( كَبيرهُمْ لا تقوم الرّاسياتُ له ... حِلْماً وطِفْلُهُمُ في هَدْيِ مُكْتَهِلِ )
( اِسْلَمْ يزيدُ فما في المُلْكِ من أوَدٍ ... إذا سَلِمْتَ ولا في الدِّين من خَلَلِ )
( لولا دِفاعُكَ بأَسَ الرُّوم إذْ مَكرتْ ... عن بَيْضةِ الدِّين لم تَأمَنْ من الثَّكَلِ )
( والمارقُ ابنُ طَريفٍ قد دَلَفْتَ له ... بِعَارضٍ لِلمنايا مُسْبِلٍ هَطِلِ )
( لو أنَّ غيرَ شَرِيكيٍّ أطافَ به ... فازَ الوليدُ بقِدْحِ النَّاضل الخَصِلِ )
( ما كان جَمْعُهُمُ لمَّا دَلفتَ لهم ... إلاّ كمثل جَرادٍ رِيعَ مُنْجَفِلِ )
( كم آمنٍ لك نائي الدّارِ ممتنعٍ ... أخرجتَه من حَصون المُلْكِ والخَوَلِ )
( تراه في الأمْن في دِرْعٍ مُضَاعَفةٍ ... لا يأمَنُ الدّهْرَ أنْ يُدْعَى على عَجَلِ )
( لا يَعْبَقُ الطِّيبُ خَدّيْهِ ومَفْرِقَه ... ولا يُمَسِّحُ عينيه من الكُحُلِ )
( يأبَى لك الذَّمَّ في يَوْمَيك إنْ ذُكِرَا ... عَضْبٌ حُسَامٌ وعِرْضٌ غيرُ مُبْتَذَلِ )
( فافْخَرْ فمالك في شَيْبانَ من مَثَلٍ ... كذاك ما لبني شيبانَ من مَثَل )
وقال محمد بن يزيد يعني بقوله
( تراه في الأمن في دِرْعٍ مُضَاعَفَةٍ ... )

خبر يزيد بن مزيد وذاك أن امرأة معن بن زائدة عاتبت معنا في يزيد وقالت إنك لتقدمه وتؤخر بنيك وتشيد بذكره وتحمل ذكرهم ولو نبهتهم لانتبهوا ولو رفعتهم لارتفعوا فقال معن إن يزيد قريب لم تبعد رحمه وله على حكم الولد إذ كنت عمه وبعد فإنهم ألوط بقلبي وأدنى من نفسي على ما توجبه واجبة الولادة للأبوة من تقديمهم ولكني لا أجد عندهم ما أجده عنده ولوكان ما يضطلع به يزيد من بعيد لصار قريبا وفي عدو لصار حبيبا وسأريك في ليلتي هذه ما ينفسج به اللوم عني ويتبين به عذري يا غلام اذهب فادع جساسا وزائدة وعبد الله وفلانا وفلانا حتى أتى على أسماء ولده فلم يلبث أن جاؤوا في الغلائل المطيبة والنعال السندية وذلك بعد هدأة من الليل فسلموا وجلسوا ثم قال يا غلام ادع لي يزيد وقد أسبل سترا بينه وبين المرأة وإذا به قد دخل عجلا وعليه السلاح كله فوضع رمحه بباب المجلس ثم أتى يحضر فلما رآه معن قال ما هذه الهيئة أبا الزبير وكان يزيد يكنى أبا الزبير وأبا خالد فقال جاءني رسول الأمير فسبق إلى نفسي أنه يريدني لوجه فقلت إن كان مضيت ولم أعرج وإن يكن الأمر على خلاف ذلك فنزع هذه الآلة أيسر الخطب فقال لهم انصرفوا في حفظ الله فقالت المرأة قد تبين عذرك فأنشد معن متمثلا
( نَفْسُ عِصَامٍ سَوّدتْ عِصامَا ... وعوّدته الكَرَّ والإقداما )
( وصَيَّرتْه مَلِكاً هُمَامَا ... )
من شعر اخته في رثائه
وأخبرني محمد بن الحسن الكندي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني الأصمعي لأخت الوليد بن طريف ترثيه

( ذكرتُ الوليدَ وأيّامَهُ ... إذِ الأرضُ من شَخْصه بَلْقَعُ )
( فأقبلتُ أطلبه في السَّماء ... كما يبتغي أنْفَه الأجْدَعُ )
( أضاعك قومُك فليطلبوا ... إفادةَ مِثْلِ الذي ضَيَّعُوا )
( لوان السُّيوفَ التي حَدُّها ... يصِيبُك تَعلَمُ ما تصنَع )
( نَبَتْ عنكَ أو جعلتْ هيبةً ... وخوفاً لصَوْلِك لا تَقْطَع )

بعض اخلاق عبد الله بن طاهر
فأما خبر عبد الله بن طاهر في صنعته هذا الصوت فإن عبد الله كان بمحل من علو المنزلة وعظم القدر ولطف مكان من الخلفاء يستغني به عن التقريظ له والدلالة عليه وأمره في ذلك مشهور عند الخاصة والعامة وله في الأدب مع ذلك المحل الذي لا يدفع وفي السماحة والشجاعة ما لا يقاربه فيه كبير أحد
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرد أن المأمون اعطى عبد الله بن طاهر مال مصر لسنة خراجها وضياعها فوهبه كله وفرقه في الناس ورجع صفرا من ذلك فغاظ المأمون فعله فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتا قالها في هذا المعنى وهي
( َنْفسي فداؤك والأعناقُ خاضعةٌ ... للنَّائباتِ أبِيًّا غيرَ مُهْتَضَم )
( إليكَ أقبلتُ من أرضٍ أقمتُ بها ... حَوْلَيْنِ بعَدك في شَوْقٍ وفي أَلَم )
( أقفُو مَسَاعِيك اللاَّتِي خُصِصتَ بها ... حَذْوَ الشِّراكِ على مثْلٍ من الأَدَمِ )
( فكان فَضْلِيَ فيها أنّني تَبَعٌ ... لمَا سَنَنْتَ من الإِنعامِ والنِّعَمِ )
( ولو وُكِلْتُ إلى نَفْسِي غَنِيتُ بها ... لكن بدأتَ فلم أعْجِزْ ولم أُلَم )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45