كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( ما تطلُع الشمسُ ولا تغيبُ ... إلاّ لأَمرٍ شأنُه عجيبُ )
( لكلّ شيء مَعْدِنٌ وجَوْهَرُ ... وأوسطٌ وأصغرٌ وأكبرُ )
( مَنْ لك بالمَحْضِ وكلُّ مُمتزِجْ ... وساوسَ في الصَّدر منه تَعتلجْ )
( وكلُّ شيء لاحقٌ بجوهرهْ ... أصغرُه مُتّصِلٌ بأكبرهْ )
( ما زالتِ الدنيا لنا دارَ أذَى ... ممزوجةَ الصَّفو بألوان القَذَى )
( الخَيرُ والشرُّ بها أزواجُ ... لِذا نِتاجٌ ولِذا نِتاجُ )
( مَنْ لك بالمَحْض وليس مَحْضُ ... يَخبُث بعضٌ ويَطيب بعضُ )
( لكلّ إنسانٍ طبيعتانِ ... خيرٌ وشرٌّ وهما ضِدّانِ )
( إنّك لو تَستنشق الشَّحِيحَا ... وجدتَه أنتنَ شيءٍ ريحاَ )
( والخيرُ والشرُّ إذا ما عُدّا ... بينهما بَوْنٌ بعيدٌ جِدَّا )
( عجبتُ حتى غمّني السكوتُ ... صِرْتُ كأنّي حائرٌ مبهوتُ )
( كذا قضى اللَّهُ فكيف أصنَعُ ... الصمتُ إن ضاق الكلامُ أوسعُ )
وهي طويلة جدا وإنما ذكرت هذا القدر منها حسب ما استاق الكلام من صفتها
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن روح بن الفرج قال
شاور رجل أبا العتاهية فيما ينقشه على خاتمه فقال انقش عليه لعنة الله على الناس وأنشد
( بَرِمتُ بالناس وأخلاقهم ... فصِرْتُ أستأنِس بالوُحدَةْ )
( ما أكثرَ الناسَ لَعَمْري وما ... أقلَّهم في حاصل العِدّهْ )
حدثنا الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك أن

عمر بن العلاء مولى عمرو بن حريث صاحب المهدي كان ممدحا فمدحه أبو العتاهية فأمر له بسبعين ألف درهم فأنكر ذلك بعض الشعراء وقال كيف فعل هذا بهذا الكوفي وأي شيء مقدار شعره فبلغه ذلك فأحضر الرجل وقال له والله إن الواحد منكم ليدور على المعنى فلا يصيبه ويتعاطاه فلا يحسنه حتى يشبب بخمسين بيتا ثم يمدحنا ببعضها وهذا كأن المعاني تجمع له مدحني فقصر التشبيب وقال
( إنّي أمِنْتُ من الزمان ورَيبهِ ... لَمّا عَلِقتُ من الأميرِ حِبالاَ )
( لو يستطيع الناسُ من إجلاله ... لحَذَوْا له حُرَّ الوُجوهِ نِعالاَ )

صوت
( إنّ المطايا تَشتكيك لأنّها ... قطَعتْ إليك سَباسِباً ورِمالاَ )
( فإذا وَرَدْنَ بنا ورَدن مُخِفَّةً ... وإذا رجَعْنَ بنا رجعن ثِقَالاَ )
أخذ هذا المعنى من قول نصيب
( فعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ... ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائبُ )
العتابي يقول عنه أنه أشعر الناس
حدثنا الصولي قال حدثنا محمد بن عون قال حدثني محمد بن النضر كاتب

غسان بن عبد الله قال
أخرجت رسولا إلى عبد الله بن طاهر وهو يريد مصر فنزلت على العتابي وكان لي صديقا فقال أنشدني لشاعر العراق يعني أبا نواس وكان قد مات فأنشدته ما كنت أحفظ من ملحه وقلت له ظننتك تقول هذا لأبي العتاهية
فقال لو أردت أبا العتاهية لقلت لك أنشدني لأشعر الناس ولم أقتصر على العراق
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني هارون بن سعدان عن شيخ من أهل بغداد قال
قال أبو العتاهية أكثر الناس يتكلمون بالشعر وهم لا يعلمون ولو أحسنوا تأليفه كانوا شعراء كلهم
قال فبينما نحن كذلك إذ قال رجل لآخر عليه مسح يا صاحب المسح تبيع المسح
فقال لنا أبو العتاهية هذا من ذلك ألم تسمعوه يقول
( يا صاحبَ المِسح تَبيع المِسحا ... )
قد قال شعرا وهو لا يعلم
ثم قال الرجل تعال إن كنت تريد الربح
فقال أبو العتاهية وقد أجاز المصراع بمصراع آخر وهو لا يعلم قال له
( تعالَ إن كنتَ تُريد الرّبحا ... )
حدثنا الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن بشير أبو طاهر الحلبي قال حدثنا مزيد الهاشمي عن السدري قال
سمعت الأصمعي يقول شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا الزبير بن بكار قال

لما حبس المهدي أبا العتاهية تكلم فيه يزيد بن منصور الحميري حتى أطلقه فقال فيه أبو العتاهية
( ما قلتُ في فَضلِه شيئاً لأَمدحَه ... إلاّ وفضلُ يَزيدٍ فوقَ ما قلتُ )
( ما زِلتُ من رَيْبِ دهري خائفاً وَجِلاً ... فقد كفانِيَ بعدَ اللَّه ما خِفْتُ )

ارتجاله الشعر
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبد الله بن الحسن قال
جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان فجلس إلي
فقلت يا أبا إسحاق أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر أو إلى ألفاظ مستكرهة قال لا
فقلت له إني لأحسب ذلك من كثرة ركوبك القوافي السهلة
قال فاعرض علي ما شئت من القوافي الصعبة
فقلت قل أبياتا على مثل البلاغ
فقال من ساعته
( أيُّ عيشٍ يكون أبلَغ من عيشِ ... كَفافٍ قُوتٍ بقَدْر البلاغِ )
( صاحبُ البَغْي ليس يسلَمُ منه ... وعلى نَفْسه بَغَى كلُّ باغِي )
( رُبَّ ذي نِعمة تَعرَّضَ منها ... حائلٌ بينه وبين المَساغِ )
( أَبْلَغ الدهرُ في مَوَاعظِهِ بل ... زاد فيهنّ لي على الإِبلاغِ )
( غَبَنَتْني الأيَامُ عقلي ومالي ... وشَبابي وصِحّتي وفرَاغي )
مسلم بن الوليد يكبره بعد أن سمع غزله
أخبرنا يحيى إجازة قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثني أبو علي اليقطيني قال حدثني أبو خارجة بن مسلم قال

قال مسلم بن الوليد كنت مستخفا بشعر أبي العتاهية فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه فصرت إليه فجاءني بلون واحد فأكلناه وأحضرني تمرا فأكلناه وجلسنا نتحدث وأنشدته أشعارا لي في الغزل وسألته أن ينشدني فأنشدني قوله
( بالله يا قُرّةَ العينَيْنِ زُورِيني ... قبل المماتِ وإلاّ فاسْتَزيريني )
( إنِّي لأَعْجَبُ من حُبٍّ يُقرّبني ... ممن يُباعدني منه ويُقْصِيني )
( أمّا الكثير فما أرجوه منكِ ولو ... أطمعتنِي في قليلٍ كان يَكفيني )
ثم أنشدني أيضا
( رأَيتُ الهوى جمرَ الغَضَى غيرَ أنّه ... على حَرِّه في صدر صاحبه حُلْوُ ) ي

صوت
( أَخِلاّيَ بي شَجْوٌ وليس بكم شجوُ ... وكلُّ امرىءٍ عن شَجوَ صاحبه خِلْوُ )
( وما من مُحِبٍّ نال ممن يُحبّه ... هوىً صادقاً إلاّ سيدخلُه زَهْوُ )
( بُلِيتُ وكان المَزْحُ بَدْءَ بَلِيّتي ... فأحببتُ حقّاً والبلاء له بَدْوُ )
( وعُلِّقتُ مَنْ يزهو عليّ تَجبُّراً ... وإنّي في كلّ الخِصال له كُفْوُ )
( رأيتُ الهوى جمرَ الغَضَى غير أنّه ... على كل حالٍ عند صاحبه حُلْوُ )
الغناء لإبراهيم ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وله فيه أيضا خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو
ولعمرو بن بانة رمل بالوسطى من كتابه
ولعريب فيه خفيف ثقيل من كتاب ابن المعتز قال مسلم ثم أنشدني أبو العتاهية

صوت
( خليلِيَّ مالي لا تَزال مَضَرّتي ... تكون على الأقْدار حَتْماً منَ الحَتْمِ )
( يُصاب فؤادي حين أرْمي ورَمْيتي ... تعودُ إلى نَحري ويَسْلَمُ من أرْمِي )
( صَبَرتُ ولا والله ما بي جَلاَدةٌ ... على الصبر لكنّي صبَرتُ على رَغْمي )
( ألاَ في سبيلِ الله جسمي وقُوّتي ... ألاَ مُسْعِدٌ حتى أنوح على جسمي )
( تُعَدّ عظامي واحداً بعد واحدٍ ... بمَنْحىً منَ العُذّال عَظْماً على عَظم )
( كفاكَ بحقّ الله ما قد ظلمتَني ... فهذا مَقام المستجير من الظُّلْمِ )
الغناء لسياط في هذه الأبيات وإيقاعه من خفيف الثقيل الأول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق قال مسلم فقلت له لا والله يا أبا إسحاق ما يبالي من أحسن أن يقول مثل هذا الشعر ما فاته من الدنيا فقال يابن أخي لا تقولن مثل هذا فإن الشعر أيضا من بعض مصايد الدنيا
أخبرنا يحيى إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني عبد الرحمن بن الفضل قال حدثني ابن الأعرابي قال
اجتمعت الشعراء على باب الرشيد فأذن لهم فدخلوا وأنشدوا فأنشد أبو العتاهية
( يا مَنْ تَبغَّى زمناً صالحاً ... صَلاحُ هارونَ صلاحَ الزمن )

( كلُّ لسانٍ هو في مُلكه ... بالشكر في إحسانه مُرْتَهَنْ )
قال فاهتز له الرشيد وقال له أحسنت والله وما خرج في ذلك اليوم أحد من الشعراء بصلة غيره
أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثنا عامر بن عمران الضبي قال حدثني ابن الأعرابي قال
أجرى هارون الرشيد الخيل فجاءه فرس يقال له المشمر سابقا وكان الرشيد معجبا بذلك الفرس فأمر الشعراء أن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال
( جاء المشمّرٌ والأفراسُ يَقْدُمُها ... هَوْناً على رِسْله منها وما انْبهَرا )
( وخَلَّف الريحَ حَسْرَى وهي جاهدةٌ ... ومَرّ يختطف الأبصارَ والنظرَا )
فأجزل صلته وما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول فيه شيئا

رثى صديقه ابن ثابت
أخبرني يحيى إجازة قال حدثني الفضل بن عباس بن عقبة بن جعفر قال
كان علي بن ثابت صديقا لأبي العتاهية وبينهما مجاوبات كثيرة في الزهد والحكمة فتوفي علي بن ثابت قبله فقال يرثيه
( مُؤْنِسٌ كان لي هَلَكْ ... والسبيلُ التي سَلَكْ )
( يا عليّ بن ثابتٍ ... غَفَر الله لي ولَكْ )
( كلُّ حيٍّ مُمَلَّكٍ ... سوف يَفْنَى وما مَلَكْ )
قال الفضل وحضر أبو العتاهية علي بن ثابت وهو يجود بنفسه فلم يزل

ملتزمه حتى فاض فلما شد لحياه بكى طويلا ثم أنشد يقول
( يا شَرِيكي في الخير قَرّبك اللهُ ... فنعم الشّريكُ في الخير كُنتَا )
( قد لَعَمْري حكيْتَ لي غُصَصَ الموتِ ... فحرَّكْتَنِي لها وسَكَنْتَا )
قال ولما دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحر بكاء ويردد هذه الأبيات
( ألاَ مَنْ لي بأُنْسِك يا أُخَيّا ... ومَنْ لي أن أَبُثَّك ما لديَّا )
( طَوتْكَ خُطوبُ دهرك بعد نَشْرٍ ... كذاك خُطوبُه نَشْراً وطيَّا )
( فلو نَشرتْ قُواك ليَ المنايا ... شكوتُ إليك ما صنعتْ إليَّا )
( بكيتُك يا عليٌّ بدمع عَيني ... فما أغنَى البكاءُ عليك شَيَّا )
( وكانت في حياتك لي عِظاتٌ ... وأنت اليومَ أوعظُ منك حياَّ )
قال علي بن الحسين مؤلف هذا الكتاب هذه المعاني أخذها كلها أبو العتاهية من كلام الفلاسفة لما حضروا تابوت الإسكندر وقد أخرج الإسكندر ليدفن قال بعضهم كان الملك أمس أهيب منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس
وقال آخر سكنت حركة الملك في لذاته وقد حركنا اليوم في سكونه جزعا لفقده
وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر ابن الحسين المهلبي قال
لقينا أبو العتاهية فقلنا له يا أبا إسحاق من أشعر الناس قال الذي يقول
( اللهُ أنجحُ ما طلبتَ به ... والبِرُّ خيرُ حقيبة الرَّحْلِ )
فقلت أنشدني شيئا من شعرك فأنشدني

( يا صاحبَ الرُّوح ذي الأنفاسِ في البدن ... بين النهار وبين الليل مُرْتَهَنِ )
( لقلّما يتخطّاك اختلافُهما ... حتى يُفرِّق بين الرُّوح والبدنِ )
( لَتجْذِبَنِّي يدُ الدُّنيا بقوّتها ... إلى المنايا وإِن نازعتُها رَسَني )
( للهِ دُنيَا أُناس دائِبين لها ... قَدِ ارتعَوْا في رياض الغَيّ والفِتنِ )
( كسائماتٍ رِتاعٍ تَبتغي سِمَناً ... وحَتْفُها لو دَرَتْ في ذلك السِّمَنِ )
قال فكتبتها ثم قلت له أنشدني شيئا من شعرك في الغزل فقال يابن أخي إن الغزل يسرع إلى مثلك فقلت له أرجو عصمة الله جل وعز فأنشدني
( كأنّها من حُسنها دُرّةٌ ... أخرجها اليمُّ إلى الساحلِ )
( كأنّ في فيها وفي طرفها ... سواحراً أقبلنَ من بابل )
( لم يُبْقِ مِنّي حبُّها ما خلا ... حُشَاشَةً في بَدَنٍ ناحلَ )
( يا مَنْ رأى قبلي قتيلاً بكى ... من شدّة الوَجْد على القاتل )
فقلت له يا أبا إسحاق هذا قول صاحبنا جميل
( خليليَّ فيما عِشتُما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي )
فقال هو ذاك يا بن أخي وتبسم

شعره في رحيل الشباب
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني أبو عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال

دخلت مسجد المدينة ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد
( لَهِفْي على وَرْقِ الشبّابِ ... وغُصونِه الخُضْرِ الرِّطابِ )
( ذهب الشباب وبان عنّي ... غيرَ مُنتَظَرِ الإِياب )
( فلأَبْكينَّ على الشَّبابِ ... وطيبِ أيّام التَّصابي )
( ولأَبْكينَّ من البِلَى ... ولأَبكينَّ من الخِضاب )
( إنّي لآمُلُ أن أخَلَّد ... والمنيَّةُ في طِلاَبي )
قال فجعل ينشدها وإن دموعه لتسيل على خديه
فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها وسألت عن الشيخ فقيل لي هو أبو العتاهية
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو العباس محمد بن أحمد قال
كان ابن الأعرابي يعيب أبا العتاهية ويثلبه فأنشدته
( كم من سفيهٍ غاظَني سَفَهاً ... فشَفَيْتُ نفسي منه بالحِلْم )
( وكَفَيْتُ نفسي ظلمَ عاديتي ... ومنحتُ صفوَ مودّتي سِلْمي )
( ولقد رُزِقتُ لظالمي غِلظاً ... ورَحِمتُه إذ لجّ في ظُلْمي )
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن أحمد الأزدي قال
قال لي أبو العتاهية لم أقل شيئا قط أحب إلي من هذين البيتين في معناهما
( ليت شعري فإِنَّني لستُ أدري ... أيُّ يومٍ يكون آخِرَ عُمْري )

( وبأيّ البلاد يُقبض رُوحي ... وبأيّ البِقاع يُحْفَرُ قبري )

خبره مع فتيان يتذاكرون الشعر
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن عبد الجبار الفزاري قال
اجتاز أبو العتاهية في أول أمره وعلى ظهره قفص فيه فخار يدور به في الكوفة ويبيع منه فمر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشدونه فسلم ووضع القفص عن ظهره ثم قال يا فتيان أراكم تذاكرون الشعر فأقول شيئا منه فتجيزونه فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم فهزئوا منه وسخروا به وقالوا نعم
قال لا بد أن يشترى بأحد القمارين رطب يؤكل فإنه قمار حاصل وجعل رهنه تحت يد أحدهم ففعلوا
فقال أجيزوا
( ساكِني الأجداثِ أنتُمْ ... )
وجعل بينه وبينهم وقتا في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس ولم يجيزوا البيت غرموا الحطر وجعل يهزأ بهم وتممه
( . . . . . . . . . . . . . . . ... . مثلَنا بالأمس كُنتمْ )
( ليت شعري ما صنعتم ... أربحتم أم خَسِرتمْ )
وهي قصيدة طويلة في شعره
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله عن أبي خيثم العنزي قال
لما حبس الرشيد أبا العتاهية وحلف ألا يطلقه أو يقول شعرا قال لي أبو حبش أسمعت بأعجب من هذا الأمر تقول الشعراء الشعر الجيد النادر فلا يسمع

منهم ويقول هذا المخنث المفكك تلك الأشعار بالشفاعة ثم أنشدني
( أبا إسحاق راجعت الجماعَهْ ... وعُدْتَ إلى القوافي والصنِّاعهْ )
( وكنت كجامحٍ في الغَيّ عاصٍ ... وأنت اليومَ ذو سمعٍ وطاعَهْ )
( فجُرَّ الخَزّ مما كنتَ تُكْسَى ... وَدَع عنك التَّقَشُّفَ والبَشاعَهْ )
( وشَبِّبْ بالتي تهوَى وخَبِّرْ ... بأنّك ميّتٌ في كلّ ساعَهْ )
( كَسدنا ما نراد وإنْ أجدنا ... وأنت تقول شعرَك بالشّفاعَهْ )
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبو خيثم العنزي وكان صديقا لأبي العتاهية قال حدثني أبو العتاهية قال
أخرجني المهدي معه إلى الصيد فوقعنا منه على شيء كثير فتفرق أصحابه في طلبه وأخذ هو في طريق غير طريقهم فلم يلتقوا وعرض لنا واد جرار وتغيمت السماء وبدأت تمطر فتحيرنا وأشرفنا على الوادي فإذا فيه ملاح يعبر الناس فلجأنا إليه فسألناه عن الطريق فجعل يضعف رأينا ويعجزنا في بذلنا أنفسنا في ذلك الغيم للصيد حتى أبعدنا ثم أدخلنا كوخا له وكاد المهدي يموت بردا فقال له أغطيك بجبتي هذه الصوف فقال نعم فغطاه بها فتماسك قليلا ونام
فافتقده غلمانه وتبعوا أثره حتى جاؤونا فلما رأى الملاح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب وتبادر الغلمان فنحوا الجبة عنه وألقوا عليه الخز والوشي
فلما انتبه قال لي ويحك ما فعل الملاح فقد والله وجب حقه علينا
فقلت هرب والله خوفا من قبح ما خاطبنا به
قال إنا لله والله لقد أردت أن أغنيه وبأي شيء خاطبنا نحن والله مستحقون لأقبح مما خاطبنا به بحياتي عليك إلا ما هجوتني
فقلت يا أمير المؤمنين كيف تطيب نفسي بأن أهجوك قال والله لتفعلن فإني ضعيف الرأي مغرم بالصيد فقلت

( يا لابسَ الوَشْي على ثوبه ... ما أقبحَ الأشْيَب في الراحِ )
فقال زدني بحياتي فقلت
( لو شئتَ أيضاً جُلْتَ في خامةٍ ... وفي وِشاحَيْنِ وأَوْضاحِ )
فقال ويلك هذا معنى سوء يرويه عنك الناس وأنا استأهل زدني شيئا آخر
فقلت أخاف أن تغضب
قال لا والله
فقلت
( كم من عظيم القَدرِ في نفسه ... قد نام في جُبّة مَلاّحِ )
فقال معنى سوء عليك لعنة الله وقمنا وركبنا وانصرفنا
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا جماعة من كتاب الحسن بن سهل قالوا
وقعت رقعة فيها بيتا شعر في عسكر المأمون فجيء بها إلى مجاشع بن مسعدة فقال هذا كلام أبي العتاهية وهو صديقي وليست المخاطبة لي ولكنها للأمير الفضل بن سهل
فذهبوا بها فقرأها وقال ما أعرف هذه العلامة
فبلغ المأمون خبرها فقال هذه إلي وأنا أعرف العلامة
والبيتان

صوت
( ما على ذا كنّا افترقْنا بِسَنْدانَ ... وما هكذا عهدْنا الإِخاءَ )
( تَضْرِبُ الناسَ بالمُهَنَّدة البِيضِ ... على غَدْرِهم وتَنْسَى الوفاءَ )

قال فبعث إليه المأمون بمال
في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكل رمل من رواية ابن المعتز

أبو العتاهية يستعجل بر ابن يقطين
قال وكان علي بن يقيطن صديقا لأبي العتاهية وكان يبره في كل سنة ببر واسع فأبطأ عليه بالبر في سنة من السنن وكان إذا لقيه أبو العتاهية أو دخل عليه يسر به ويرفع مجلسه ولا يزيده على ذلك
فلقيه ذات يوم وهو يريد دار الخليفة فاستوقفه فوقف له فأنشده
( حتّى متى ليت شعري يابنَ يَقْطينِ ... أُثني عليك بما لا منك تُوليني )
( إنّ السّلامَ وإنّ البِشْرَ من رجلٍ ... في مثل ما أنت فيه ليس يَكْفِيني )
( هذا زمانٌ ألحّ الناسُ فيه على ... تيه الملوك وأخلاقِ المساكينِ )
( أمَا علمتَ جزاك الله صالحةً ... وزادك اللهُ فضلاً يابنَ يَقْطين )
( أنِّي أُريدك للدُّنيا وعاجلها ... ولا أُريدك يومَ الدِّين للدين )
فقال علي بن يقطين لست والله أبرح ولا تبرح من موضعنا هذا إلا راضيا وأمر له بما كان يبعث به إليه في كل سنة فحمل من وقته وعلي واقف إلى أن تسلمه
وأخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا محمد بن يزيد قال
بلغني من غير وجه أن الرشيد لما ضرب أبا العتاهية وحبسه وكل به صاحب خبر يكتب إليه بكل ما يسمعه
فكتب إليه أنه سمعه ينشد

( أمَا والله إنّ الظلمَ لُومُ ... وما زال المُسيء هو الظَّلومُ )
( إلى دَيَّانِ يومِ الدين نَمْضي ... وعند الله تجتمع الخصومُ )
قال فبكى الرشيد وأمر بإحضار أبي العتاهية وإطلاقه وأمر له بألفي دينار

شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة
أخبرني محمد بن جعفر قال حدثني محمد بن موسى عن أحمد بن حرب عن محمد بن أبي العتاهية قال
لما قال أبي في عتبة
( كأنّ عتابَة من حسنها ... دُمْيَةُ قسَّ فتنَتْ قَسَّهَا )
( يا رَبِّ لو أَنْسَيْتَنيِها بما ... في جَنَّة الفِرْدوس لم أَنْسَها )
شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة وقال يتهاون بالجنة ويبتذل ذكرها في شعره بمثل هذا التهاون وشنع عليه أيضا بقوله
( إنّ المليك رآكِ أحسنَ ... خَلْقه ورأى جمالَكْ )
( فحذا بقُدْرةِ نفسه ... حُورَ الجِنان على مثالِكْ )
وقال أيصور الحور على مثال امرأة آدمية والله لا يحتاج إلى مثال وأوقع له هذا على ألسنة العامة فلقي منهم بلاء
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا خليل بن أسد قال حدثني أبو سلمة الباذغيسي قال

قلت لأبي العتاهية في أي شعر أنت أشعر قال قولي
( الناسُ في غَفَلاتهمْ ... ورَحَا المنيّةِ تَطْحَنُ )

أنشد المأمون أحسن ما قاله في الموت
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني يحيى بن عبد الله القرشي قال حدثني المعلى بن أيوب قال
دخلت على المأمون يوما وهو مقبل على شيخ حسن اللحية خضيب شديد بياض الثياب على رأسه لاطئة فقلت للحسن بن أبي سعيد قال وهو ابن خالة المعلى بن أيوب
وكان الحسن كاتب المأمون على العامة من هذا فقال أما تعرفه فقلت لو عرفته ما سألتك عنه
فقال هذا أبو العتاهية
فسمعت المأمون يقول له أنشدني أحسن ما قلت في الموت فأنشده
( أَنساكَ مَحْياكَ المماتَا ... فطَلبْتَ في الدنيا الثَّباتَا )
( أَوَثِقْتَ بالدنيا وأنت ... ترى جَماعَتها شَتاتَا )
( وعَزمتَ منك على الحياةِ ... وطُولِها عَزْماً بتَاتا )
( يا مَنْ رأى أبَوَيْه فيمَنْ ... قد رأى كانا فماتا )
( هل فيهما لك عِبْرةٌ ... أم خِلْتَ أنّ لك انفِلاتا )
( ومَن الذي طَلَب التَّفَلُّتَ ... من مَنيّتِه ففاتا )
( كلٌّ تُصَبِّحه المنيَّةُ ... أو تُبَيِّتُه بَياتا )
قال فلما نهض تبعته فقبضت عليه في الصحن أو في الدهليز فكتبتها عنه
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الجاحظ عن ثمامة قال

دخل أبو العتاهية على المأمون فأنشده
( ما أحسنَ الدنيا وإِقبالَها ... إذا أطاع الله مَنْ نالَها )
( مَنْ لم يُواسِ الناسَ من فضلها ... عَرَّض للإِدبار إقبالَها )
فقال له المأمون ما أجود البيت الأول فأما الثاني فما صنعت فيه شيئا الدنيا تدبر عمن واسى أو ضن بها وإنما يوجب السماحة بها الأجر والضن بها الوزر فقال صدقت يا أمير المؤمنين أهل الفضل أولى بالفضل وأهل النقص أولى بالنقص
فقال المأمون ادفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق
فلما كان بعد أيام عاد فأنشده
( كم غافلٍ أوْدَى به الموتُ ... لم يأخُذِ الأُهبةَ للفَوْتِ )
( مَنْ لم تزُلْ نعمتُه قبلَه ... زال عن النعمة بالموتِ )
فقال له أحسنت الآن طَيَّبْتَ المعنى وأمر له بعشرين ألف درهم
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني ابن سنان العجلي عن الحسن بن عائذ قال
كان أبو العتاهية يحج في كل سنة فإذا قدم أهدى إلى المأمون بردا ومطرفا ونعلا سوداء ومساويك أراك فيبعث إليه بعشرين ألف درهم
وكان يوصل الهدية من جهته منجاب مولى المأمون ويجيئه بالمال فأهدى مرة له كما كان يهدي كل سنة إذا قدم فلم يثبه ولا بعث إليه بالوظيفة فكتب إليه أبو العتاهية
( خَبَّروني أنّ من ضرْب السّنة ... جُدُداً بِيضاً وصُفْراً حَسَنَهْ )
( أُحْدِثتْ لكنّني لم أرها ... مِثْل ما كنتُ أرى كلَّ سَنَهْ )

فأمر المأمون بحمل العشرين ألف درهم وقال أغفلناه حتى ذكرنا
حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عروة بن يوسف الثقفي قال
لما ولي الهادي الخلافة كان واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون وانقطاعه إليه وتركه موسى وكان أيضا قد أمر أن يخرج معه إلى الري فأبى ذلك فخافه وقال يستعطفه
( ألاَ شافِعٌ عند الخليفةِ يَشْفَعُ ... فيدفَع عنّا شرَّ ما يُتَوقَّعُ )
( وإِنِّي على عُظْمِ الرجاء لخائفٌ ... كأنّ على رأسي الأسِنَّة تُشْرَعُ )
( يُرَوِّعني موسى على غير عَثْرةٍ ... ومالي أرى موسى من العفوِ أوْسَعُ )
( وما آمِنٌ يُمسِي ويُصبح عائذاً ... بعفو أمير المؤمنين يُروَّع )

مدح الهادي فأجازه
حدثني الصولي قال حدثني علي بن الصباح قال حدثني محمد بن أبي العتاهية قال دخل أبي على الهادي فأنشده
( يا أمينَ اللهِ مالي ... لستُ أدري اليومَ مالِي )
( لم أَنَلْ منك الذي قد ... نال غيرِي من نَوالِ )
( تَبْذُلُ الحقَّ وتُعْطي ... عن يمينٍ وشِمال )
( وأنا البائسُ لا تَنظُر ... في رِقّةِ حالي )
قال فأمر المعلى الخازن أن يعطيه عشرة آلاف درهم
قال أبو العتاهية

فأتيته فأبى أن يعطيها ذلك أن الهادي امتحنني في شيء من الشعر وكان مهيبا فكنت أخافه فلم يطعني طبعي فأمر لي بهذا المال فخرجت فلما منعنيه المعلى صرت إلى أبي الوليد أحمد بن عقال وكان يجالس الهادي فقلت له
( أَبْلِغْ سَلِمتَ أبا الوليدِ سَلامي ... عنِّي أمير المؤمنين إمامِي )
( وإذا فرغَت من السّلامِ فقل له ... قد كان ما شاهدت من إفحامي )
( وإذا حصِرتُ فليس ذاك بمُبْطلٍ ... ما قد مَضَى من حُرْمتي وذمامي )
( ولطالما وفَدتْ إليك مدائحي ... مخطوطةً فلْيأتِ كلُّ ملامِ )
( أيّامَ لي لَسَنٌ ورقّةُ جِدّةٍ ... والمرءُ قد يَبْلَى مع الأيّام )
قال فاستخرج لي الدراهم وأنفذها إلي
حدثني الصولي ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان قال
ولد للهادي ولد في أول يوم ولي الخلافة فدخل أبو العتاهية فأنشده
( أكثرَ موسى غيظَ حُسّادِه ... وزَيَّن الأرضَ بأولادِه )
( وجاءنا من صُلْبه سَيّدٌ ... أَصْيَدُ في تقطيع أجداده )
( فاكتستِ الأرضُ به بَهْجةً ... واستبشر الملكُ بميلادهِ )
( وابتسم المِنْبرُ عن فَرْحةٍ ... عَلَتْ بها ذَرْوةُ أعواده )
( كأنَّني بعد قليلٍ به ... بين مَواليه وقُوّادِه )
( في مَحفِلٍ تَخْفِق راياتُه ... قد طَبَّق الأرض بأجنادهِ )
قال فأمر له موسى بألف دينار وطيب كثير وكان ساخطا عليه فرضي عنه

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني علي بن يزيد الخزرجي الشاعر عن يحيى بن الربيع قال
دخل أبو عبيد الله على المهدي وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه وأبو العتاهية حاضر المجلس فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه ثم أمر به فجر برجله ثم وحبس ثم أطرق المهدي طويلا
فلما سكن أنشده أبو العتاهية
( أرى الدُّنيا لمن هي في يَدَيْه ... عذاباً كلّما كثُرَتْ لدَيْهِ )
( تُهِين المُكْرمين لها بصُغْرٍ ... وتُكْرِم كلَّ من هانتْ عليهِ )
( إذا استَغْنَيتَ عن شيءٍ فدَعْهُ ... وخُذْ ما أنت محتاجٌ إليهِ )
فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية أحسنت فقام أبو العتاهية ثم قال والله يا أمير المؤمنين ما رأيت أحدا أشد إكراما للدنيا ولا أصون لها ولا أشح عليها من هذا الذي جر برجله الساعة
ولقد دخلت إلى أمير المؤمنين ودخل هو وهو أعز الناس فما برحت حتى رأيته أذل الناس ولو رضي من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت
فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضي عنه
فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن الحسن قال حدثني إسحاق بن حفص قال
أنشدني هارون بن مخلد الرازي لأبي العتاهية
( ما إن يَطيبُ لذي الرعاية للأيّام ... لا لَعِب ولا لَهْوُ )
( إذ كان يطْرب في مَسَرّته ... فيموت من أجزائه جُزو )

فقلت ما أحسنهما فقال أهكذا تقول والله لهما روحانيان يطيران بين السماء والأرض

ابن مناذر يقول أبو العتاهية أشعر المحدثين
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن ابن عكرمة عن مسعود بن بشر المازني قال
لقيت ابن مناذر بمكة فقلت له من أشعر أهل الإسلام فقال أترى من إذا شئت هزل وإذا شئت جد قلت من قال مثل جرير حين يقول في النسيب
( إنّ الذين غَدوْا بلُبّك غادروا ... وَشَلاً بعينك ما يزال مَعِينا )
( غَيّضْنَ من عَبَراتِهنّ وقُلْن لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينا )
ثم قال حين جد
( إنّ الّذي حَرَم المَكارِم تَغلِباً ... جعل النُّبوّةَ والخلافةَ فينا )
( مُضَرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا آل تَغلِبَ من أبٍ كأبِينا )
( هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفةٌ ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قطِينا )
ومن المحدثين هذا الخبيث الذي يتناول شعره من كمه
فقلت من قال أبو العتاهية
قلت في ماذا قال قوله

( اللّهُ بيني وبين مَوْلاتي ... أَبْدَتْ ليَ الصَّدّ والمَلاَلاتِ )
( لا تَغْفِرُ الذنبَ إن أسأتُ ولا ... تقبَل عُذْري ولا مُواتاتي )
( منحتُها مُهجتي وخَالِصَتي ... فكان هجْرانُها مُكافاتِي )
( أقلقني حُبُّها وصَيَّرني ... أُحدوثةً في جميع جاراتي )
ثم قال حين جد
( ومَهْمه قد قطعتُ طَامِسَه ... قَفْرٍ على الهَوْل والمُحاماةِ )
( بحُرّةٍ جَسْرةٍ عُذافِرةٍ ... خَوصاءَ عَيْرانَةٍ عَلَنْداةِ )
( تُبادر الشمسَ كلّما طلعتْ ... بالسيَّر تبْغي بذاك مَرْضاتي )
( يا ناقُ خُبّي بنا ولا تَعدي ... نَفْسَك مما تَرَيْنَ راحاتِ )
( حتّى تُنَاخَيْ بنا إلى مَلكٍ ... تَوَّجه اللهُ بالمَهَاباتِ )
( عليه تاجانِ فوق مَفْرقِه ... تاجُ جلالٍ وتاجُ إخْبات )
( يقول للريِّح كلّما عصفَتْ ... هل لكِ يا ريحُ في مُباراتي )
( مَنْ مثلُ مَنْ عمُّه الرسولُ ومَنْ ... أخوالُه أكرمُ الخُؤولاتِ )
أخبرني وكيع قال قال الزبير بن بكار حدثني أبو غزية وكان قاضيا على المدينة قال كان إسحاق بن عزيز يتعشق عبادة جارية المهلبية وكانت المهلبية منقطعة إلى الخيزران فركب إسحاق يوما ومعه عبد الله بن مصعب يريدان

المهدي فلقيا عبادة فقال إسحاق يا أبا بكر هذه عبادة وحرك دابته حتى سبقها فنظر إليها فجعل عبد الله بن مصعب يتعجب من فعله
ومضيا فدخلا على المهدي فحدثه عبد الله بن مصعب بحديث إسحاق وما فعل
فقال أنا أشتريها لك يا إسحاق
ودخل على الخيزران فدعا بالمهلبية فحضرت فأعطاها بعبادة خمسين ألف درهم فقالت له يا أمير المؤمنين إن كنت تريدها لنفسك فبها فداك الله وهي لك
فقال إنما أريدها لإسحاق بن عزيز فبكت وقالت أتؤثر علي إسحاق بن عزيز وهي يدي ورجلي ولساني في جميع حوائجي فقالت لها الخيزران عند ذلك ما يبكيك والله لا وصل إليها ابن عزيز أبدا صار يتعشق جواري الناس فخرج المهدي فأخبر ابن عزيز بما جرى وقال له الخمسون ألف درهم لك مكانها وأمر له بها فأخذها عن عبادة
فقال أبو العتاهية يعيره بذلك
( مَنْ صَدَقَ الحبَّ لأحبابِه ... فإِنّ حُبّ ابن عُزَيْزٍ غُرورْ )
( أنساه عبّادةَ ذاتَ الهوى ... وأَذهَبَ الحبَّ الذي في الضميرْ )
( خمسون ألفاً كلُّها راجحٌ ... حُسْناً لها في كل كِيسٍ صَرِيرْ )
وقال أبو العتاهية في ذلك أيضا
( حُبُّك للمال لا كحبك عبَّادةَ ... يا فاضحَ المُحبّينا )
( لو كنتَ أصفيتَها الوِدَاد كما ... قُلْتَ لمَا بِعْتَها بخمسينا )
حدثني الصولي قال حدثي جبلة بن محمد قال حدثني أبي قال
رأيت أبا العتاهية بعدهما تخلص من حبس المهدي وهو يلزم طبيبا على بابنا ليكحل عينه فقيل له قد طال وجع عينك فأنشأ يقول

صوت
( أيا وَيْح نفسي وَيْحَها ثم وَيْحَها ... أمَا من خَلاصٍ من شِباك الحبائلِ )
( أيا ويحَ عيني قد أضرّ بها البُكا ... فلم يُغنِ عنها طِبُّ ما في المكاحل )
في هذين البيتين لإبراهيم الموصلي لحن من الثقيل الأول
مدح الهادي فأجزل صلته
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا عمر بن شبة قال
كان الهادي واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون في خلافة المهدي فلما ولي موسى الخلافة قال أبو العتاهية يمدحه
صوت
( يضطرب الخوفُ والرجاء إذا ... حَرّك موسى القَضيب أو فَكَّرْ )
( ما أَبْيَنَ الفضلَ في مُغيَّبِ ما ... أَوْردَ من رأيه وما أَصْدَرْ )
في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكل لحن من الثقيل الأول في نهاية الجودة وما بان به فضله في الصناعة
( فكم تَرَى عَزَّ عند ذلك مِنْ ... مَعْشَر قومٍ وذَلَّ مِنْ مَعْشَرْ )
( يُثمر مِنْ مَسِّه القضيبُ ولو ... يَمَسُّه غيرُه لَمَا أَثْمَرْ )
( مَنْ مثلُ موسى ومثلُ والده المهديّ ... أو جَدِّه أبي جَعفرْ )
قال فرضي عنه فلما دخل عليه أنشده
( لَهْفي على الزمن القصير ... بين الخَوَرنقِ والسَّدِيرِ )

( إذ نحن في غَرف الجنانِ ... نُعومُ في بحرّ السُّرورِ )
( في فتية ملكوا عنانَ ... الدهر أمثالَ الصُّقور )
( ما منهمُ إلاّ الجَسورُ ... على الهوى غيرُ الحَصُورِ )
( يَتَعاوَرُون مُدامَةً ... صهباءَ من حَلب العَصيِرِ )
( عَذراءَ ربّاها شُعاعُ ... الشمسِ في حَرِّ الهَجِيرِ )
( لم تُدْنَ من نارٍ ولم ... يَعْلقْ بها وَضَرُ القُدورِ )
( ومُقَرْطَقٍ يمشي أمَامَ ... القومِ كالرَّشأ الغَريرِ )
( بزُجاجةٍ تَستخرج السرَّ ... الدّفينَ من الضمير )
( زهراءَ مثلِ الكوكب الدُّرِّيّ ... في كَفّ المُديرِ )
تَدعُ الكريمَ وليس يَدرِي ... ما قَبِيلٌ من دَبير )
( ومُخَصَّراتٍ زُرْنَنا ... بعد الهُدوّ من الخُدور )
( رَيّا رَوَادِفُهنّ يَلْبَسْنَ ... الخواتمَ في الخُصور )
( غُرِّ الوُجوه محجَّباتٍ ... قاصراتِ الطّرف حُور )
( مُتَنَعِّماتٍ في النَّعيمِ ... مُضَمَّخاتٍ بالعَبير )
( يَرفُلْنَ في حُلَلِ المَحاسِنِ ... والمَجاسِدِ والحرير )
( ما إن يَريْن الشمسَ ... إلاّ الفَرْط من خَلَل الستُّور )

( وإلى أمينِ اللهِ مَهرَبنا ... من الدّهر العَثُورِ )
( وإليه أتعبْنا المطايا ... يا بالرّواح وبالبُكور )
( صُعْرَ الخُدود كأنّما ... جُنِّحْنَ أجنحةَ النُّسورِ )
( مُتَسَرْبِلاتٍ بالظَّلامِ ... على السُّهولة والوُعور )
( حتّى وَصَلْنَ بنا إلى ... رَبّ المدائن والقُصور )
( ما زال قبل فِطِامِه ... في سنّ مُكتْهِلٍ كبير )
قال قيل له لو كان جزل اللفظ لكان أشعر الناس فأجزل صلته
وعاد إلى أفضل ما كان له عليه
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثني الكراني عن أبي حاتم قال
قدم علينا أبو العتاهية في خلافة المأمون
فصار إليه أصحابنا فاستنشدوه فكان أول ما أنشدهم
( ألم تَرَ رَيْبَ الدّهر في كلّ ساعةٍ ... له عارضٌ فيه المنيّة تلمَع )
( أيا باني الدُّنيا لغيرك تَبتني ... ويا جامعَ الدنيا لغيرك تَجْمَعُ )
( أرى المرءَ وثَّاباً على كل فُرْصةٍ ... وللمرء يوماً لا مَحالةَ مَصْرعُ )
( تباركَ مَنْ لا يملِكَ المُلكِ غيره ... متى تنقضي حاجاتُ من ليس يَشبَعُ )
( وأيُّ امرئٍ في غايةٍ ليس نفسُه ... إلى غايةٍ أُخرى سواها تطّلعُ )
قال وكان أصحابنا يقولون لو أن طبع أبي العتاهية بجزالة لفظ لكان أشعر الناس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني سليمان بن جعفر

الجزري قال حدثني أحمد بن عبد الله قال
كانت مرتبة أبي العتاهية مع الفضل بن الربيع في موضع واحد في دار المأمون
فقال الفضل لأبي العتاهية يا أبا إسحاق ما أحسن بيتين لك وأصدقهما قال وما هما قال قولك
( ما النَّاسُ إلا لِلكثيرِ المالِ أو ... لمُسَلَّطٍ ما دام في سُلْطانِه )
( فإذا الزمانُ رماهما بِبَليَّةٍ ... كان الثِّقاتُ هناك من أعوانِه )
يعني من أعوان الزمان
قال وإنما تمثل الفضل بن الربيع بهذين البيتين لانحطاط مرتبته في دار المأمون وتقدم غيره
وكان المأمون أمر بذلك لتحريره مع أخيه

حبسه الرشيد بعد أن تنسك ثم أطلقه
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
قال لي محمد بن أبي العتاهية كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر ولا حضر إلا في طريق الحج وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والمعاون
فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل وأمر الرشيد بحبسه فحبس فكتب إليه من وقته
صوت
( أنا اليَومَ لي والحمدُ لله أَشْهُرُ ... يَرُوح عليّ الهَمُّ منكم ويَبْكُرُ )
( تَذَكَّرْ أمينَ الله حَقِّي وحُرْمتي ... وما كنتَ تُوليني لعلك تَذْكُرُ )
( لياليَ تُدْني منك بالقُرْبِ مجلسي ... ووجهُك من ماء البشابة يَقْطُرُ )

( فمَنْ ليَ بالعين التي كنتَ مرّةً ... إليّ بها في سالفِ الدهرِ تنظُرُ )
قال فلما قرأ الرشيد الأبيات قال قولوا له لا بأس عليك فكتب إليه
صوت
( أَرِقت وطار عن عَيْني النُّعاسُ ... ونام السامرون ولم يُوَاسُوا )
( أمينّ الله أَمْنُك خيرُ أمنٍ ... عليك من التُّقَى فيه لِباسُ )
( تُساس من السماء بكلّ بِرٍّ ... وأنت به تَسُوس كما تُساسُ )
( كأنّ الخَلْقَ رُكِّبَ فيه رُوحٌ ... له جَسَدٌ وأنت عليه رَاسُ )
( أمِينَ الله إنّ الحَبْسَ بأْسٌ ... وقد أرْسلتَ ليس عليك باسُ )
غنى في هذه الأبيات إبراهيم ولحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
وفيه أيضا ثقيل أول عن الهشامي قال وكتب إليه أيضا في الحبس
( وكَلَّفتَني ما حَلْتَ بيني وبينه ... وقلتَ سأبقي ما تُريد وما تهوى )
( فلو كان لي قلبان كَلّفتُ واحداً ... هواك وكلفت الخَليّ لما يَهْوَى )
قال فأمر بإطلاقه
حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني ثابت بن الزبير بن حبيب قال حدثني ابن أخت أبي خالد الحربي قال
قال لي الرشيد احبس أبا العتاهية وضيق عليه حتى يقول الشعر الرقيق في الغزل كما كان يقول فحبسته في بيت خمسة أشبار في مثلها فصاح الموت أخرجوني فأنا أقول كل ما شئتم
فقلت قل فقال حتى أتنفس
فأخرجته وأعطيته دواة وقرطاسا فقال أبياته التي أولها

صوت
( مَنْ لعبدٍ أذلّه مولاهُ ... ما له شافعٌ إليه سِواهُ )
( يَشْتكي ما به إليه ويخشاهُ ... ويرجوه مثل ما يخشاهُ )
قال فدفعتها إلى مسرور الخادم فأوصلها وتقدم الرشيد إلى إبراهيم الموصلي فغنى فيها وأمر بإحضار أبي العتاهية فأحضر
فلما أحضر قال له أنشدني قولك
صوت
( يا عُتْبَ سيّدتي أمَا لكَ ديِنُ ... حتَّى متى قلبي لديكِ رَهينُ )
( وأنا الذَّلولُ لكلِّ ما حمّلتنِي ... وأنا الشقيُّ البائسُ المسكينُ )
( وأنا الغداةَ لكلّ باكٍ مُسعِدٌ ... ولكلّ صَبٍّ صاحبٌ وخَدِينُ )
( لا بأسَ إنّ لذاك عندي راحةً ... لِلصَّبِّ أن يَلْقَى الحزينَ حزينُ )
( يا عُتْبَ أين أفِرُّ منك أميرتي ... وعليَّ حَصْنٌ من هَواكِ حصينُ )
لإبراهيم في هذه الأبيات هزج عن الهشامي فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم
ولأبي العتاهية في الرشيد لما حبسه أشعار كثيرة منها قوله
( يا رشيدَ الأمرِ أَرشِدني إلى ... وجهِ نُجْحِي لا عَدِمتَ الرَّشَدا )
( لا أراك اللهُ سُوءاً أبداً ... ما رأتْ مثلَك عينٌ أحدَا )
( أعِنِ الخائفَ وارحَمْ صوتَه ... رافعاً نحوَك يدعوك يَدَا )
( وابلائي من دَعاوَى أملٍ ... كلّما قلُت تَدانَى بَعُدَا )
( كم أُمَنِّي بِغَدٍ بعد غدٍ ... يَنْفذُ العمرُ ولم ألقَ غَدَا )

نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال
مر القاسم بن الرشيد في موكب عظيم وكان من أتيه الناس وأبو العتاهية جالس مع قوم على ظهر الطريق
فقام أبو العتاهية حين رآه إعظاما له فلم يزل قائما حتى جاز فأجازه ولم يلتفت إليه فقال أبو العتاهية
( يَتِيهُ ابنُ آدم من جهلِهِ ... كأنَّ رَحَا الموت لا تَطْحَنُهْ )
فسمع بعض من في موكبه ذلك فأخبر به القاسم فبعث إلى أبي العتاهية وضربه مائة مقرعة وقال له يابن الفاعلة أتعرض بي في مثل ذلك الموضع وحبسه في داره
فدس أبو العتاهية إلى زبيدة بنت جعفر وكانت توجب له حقه هذه الأبيات
( حتّى متى ذُو التّيه في تيهِه ... أصلحه اللهُ وعافاهُ )
( يَتيه أهلُ التيه من جهلهم ... وهم يموتون وإن تاهُوا )
( مَنْ طلب العِزّ لِيبقَى به ... فإنَّ عِزّ المرء تَقْواهُ )
( لم يعتصم بالله من خلْقِهِ ... مَنْ ليس يَرْجُوه ويَخْشاهُ )
وكتب إليها بحاله وضيق حبسه وكانت مائلة إليه فرثت له وأخبرت الرشيد بأمره وكلمته فيه فأحضره وكساه ووصله ولم يرض عن القاسم حتى بر أبا العتاهية وأدناه واعتذر إليه

مدحه الرشيد والفضل بن الربيع
ونسخت من كتاب هارون بن علي قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني

محمد بن سهل عن خالد بن أبي الأزهر قال
بعث الرشيد بالحرشي إلى ناحية الموصل فجبى له منها مالا عظيما من بقايا الخراج فوافى به باب الرشيد فأمر بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به فرأيت أبا العتاهية وقد أخذه شبه الجنون فقلت له مالك ويحك فقال لي سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ولا تتعلق كفي بشيء منه ثم دخل إلى الرشيد بعد أيام فأنشده
( اللهُ هوّن عندك الدّنيا ... وبَغَّضَها إليكَا )
( فأبَيْتَ إلاّ أن تُصَغِّر ... كلَّ شيء في يَدَيْكَا )
( ما هانتِ الدُّنيا على ... أحدٍ كما هانت علَيْكا )
فقال له الفضل بن الربيع يا أمير المؤمنين ما مدحت الخلفاء بأصدق من هذا المدح
فقال يا فضل أعطه عشرين ألف درهم
فغدا أبو العتاهية على الفضل فأنشده
( إذا ما كنتَ مُتّخذاً خليلاَ ... فمثلُ الفضلِ فاتَّخِذِ الخليلاَ )
( يرى الشُّكْرَ القليلَ له عظيماً ... ويُعطى من مَواهبه الجزِيلاَ )
( أراني حيثُما يَمَّمتُ طرْفي ... وجدتُ على مَكارمه دليلاَ )
فقال له الفضل والله لولا أن أساوي أمير المؤمنين لأعطيتك مثلها ولكن سأوصلها إليك في دفعات ثم أعطاه ما أمر له به الرشيد وزاد له خمسة آلاف درهم من عنده
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال

سمعت الأمير علي بن عيسى بن جعفر يقول كنت صبيا في دار الرشيد فرأيت شيخا ينشد والناس حوله
( ليس للإِنسان إلاّ ما رُزقْ ... أستعينُ الله بالله أَثِقْ )
( عَلِقَ الهمُّ بقلبي كلِّه ... وإذا ما علِق الهمّ عَلِقْ )
( بأبي مَنْ كان لي من قلبه ... مَرَّةً وُدٌّ قليلٌ فسرِقْ )
( يا بني الإِسلام فيكم مَلِكٌ ... جامعُ الإِسلام عنه يَفْترِقْ )
( لَنَدى هارونَ فيكم ولَهُ ... فيكمُ صَوْبٌ هَطُولٌ ووَرِقْ )
( لم يَزَلْ هارونُ خيراً كلّه ... قُتِل الشَّرُّ به يومَ خُلِقْ )
فقلت لبعض الهاشميين أما ترى إعجاب الناس بشعر هذا الرجل فقال يا بني إن الأعناق لتقطع دون هذا الطبع
قال ثم كان الشيخ أبا العتاهية والذي سأله إبراهيم بن المهدي
حدثني الصولي قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدثني عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية عن أبيه قال
لبس أبو العتاهية كساء صوف ودراعة صوف وآلى على نفسه ألا يقول شعرا في الغزل وأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال

صوت
( يابنَ عمِّ النبي سمعاً وطاعه ... قد خلعنا الكساء والدُّرّاعهْ )
( ورجَعْنا إلى الصِّناعة لمّا ... كان سُخْطُ الإِمام تَرْكَ الصنِّاعهْ )
وقال أيضا

( أمَا رَحِمْتني يومَ وَلَّتْ فَأَسْرعتْ ... وقد تركَتْني واقفاً أتَلفَّتُ )
( أُقَلّبُ طَرْفي كي أراها فلا أَرى ... وأحلِبُ عيني دَرَّها وأُصَوِّت )
فلم يزل الرشيد متوانيا في إخراجه إلى أن قال
( أمَا واللَّه إنّ الظلم لُومُ ... وما زال المُسِيء هو الظَّلومُ )
( إلى دَيَّانِ يومِ الدِّين نَمْضِي ... وعند اللَّه تَجتمع الخصومُ )
( لأمرٍ مَا تَصَرَّفتِ الليالي ... وأمرٍ مّا تُوُلِّيتِ النُّجومُ )
( تموت غداً وأنت قَرِيرُ عينٍ ... من الغَفَلات في لُجَجٍ تَعومُ )
( تنامُ ولم تَنَمْ عنك المنايا ... تَنبّهْ للمنيّة يا نَؤُومُ )
( سَلِ الأيّام عن أُمَمٍ تَقَضَّتْ ... ستُخبرك المعَالمُ والرُّسُومُ )
( تَروم الخُلْدَ في دار المنايا ... وكم قد رام غيرُك ما ترومُ )
( ألاَ يأيّها الملك المُرَجَّى ... عليه نَواهِضُ الدنيا تَحومُ )
( أَقِلْني زَلَّةً لم أَجْرِ منها ... إلى لَومٍ وما مثلي مَلومُ )
( وخَلِّصْني تُخَلَّصْ يومَ بَعْثٍ ... إذا للناس بُرِّزت الجَحِيمُ )
فرق وأمر بإطلاقه
نسخت من كتاب هارون بن علي قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني ابن أبي الأبيض قال
أتيت أبا العتاهية فقلت له إني رجل أقول الشعر في الزهد ولي فيه أشعار كثيرة وهو مذهب أستحسنه لأني أرجو ألا آثم فيه وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت فقال أعلم

أن ما قلته رديء قلت وكيف قال لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين أو مثل شعر بشار وابن هرمة فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري ولا سيما الأشعار التي في الزهد فإن الزهد ليس من مذاهب الملوك ولا من مذاهب رواة الشعر ولا طلاب الغريب وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه
فقلت صدقت
ثم أنشدني قصيدته
( لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب ... فكلّكُم يَصير إلى تَبابِ )
( ألاَ يا موتُ لم أر منك بُدّاً ... أتيتَ وما تَحِيفُ وما تُحابي )
( كأنّك قد هَجَمْتَ على مَشِيبي ... كما هجم المشيبُ على شبَابي )
قال فصرت إلى أبي نواس فأعلمته ما دار بيننا فقال والله ما أحسب في شعره مثل ما أنشدك بيتا آخر
فصرت إليه فأخبرته بقول أبي نواس فأنشدني قصيدته التي يقول فيها
( طُولُ التَّعاشُرِ بين النَّاس مَمْلولُ ... ما لابنِ آدمَ إن فَتَّشْتَ معقولُ )
( يا راعيَ الشّاءِ لا تُغْفِلْ رِعايتها ... فأنت عن كلّ ما استُرْعِيتَ مسؤول )
( إنّي لَفِي مَنزلٍ ما زِلتُ أعمرُه ... على يَقينٍ بأنّي عنه منقولُ )
( وليس من مَوْضِعٍ يأتيه ذو نَفَسٍ ... إلاّ وللموتِ سَيفٌ فيه مَسْلولُ )

( لم يُشْغَل الموتُ عنّا مذ أُعِدّ لنا ... وكلّنا عنه باللذّات مَشغولُ )
( ومَنْ يَمُتْ فهو مَقْطوعٌ ومُجْتَنَبٌ ... والحيُّ ما عاش مَغْشِيٌّ ومَوْصولُ )
( كُلْ ما بدا لك فالآكَالُ فانِيةٌ ... وكُلُّ ذي أُكُلٍ لا بُدَّ مَأْكولُ )
قال ثم أنشدني عدة قصائد ما هي بدون هذه فصرت إلى أبي نواس فأخبرته فتغير لونه وقال لم خبرته بما قلت قد والله أجاد ولم يقل فيه سوءا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن عبد الله بن سعد قال حدثني هارون بن سعدان مولى البجليين قال
كنت مع أبي نواس قريبا من دور بني نيبخت بنهر طابق وعنده جماعة فجعل يمر به القواد والكتاب وبنو هاشم فيسلمون عليه وهو متكئ ممدود الرجل لا يتحرك لأحد منهم حتى نظرنا إليه قد قبض رجليه ووثب وقام إلى شيخ قد أقبل على حمار له فاعتنق أبا نواس ووقف أبو نواس يحادثه فلم يزل واقفا معه يراوح بين رجليه يرفع رجلا ويضع أخرى ثم مضى الشيخ ورجع إلينا أبو نواس وهو يتأوه
فقال له بعض من حضر والله لأنت أشعر منه
فقال والله ما رأيته قط إلا ظننت أنه سماء وأنا أرض

رأي بشار فيه
قال محمد بن القاسم حدثني علي بن محمد بن عبد الله الكوفي قال حدثني السري بن الصباح مولى ثوبان بن علي قال
كنت عند بشار فقلت له من أشعر أهل زماننا فقال مخنث أهل بغداد يعني أبا العتاهية
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم إجازة قال حدثني علي بن مهدي

قال حدثني الخزرجي الشاعر قال حدثني عبد الله بن أيوب الأنصاري قال حدثني أبو العتاهية قال
ماتت بنت المهدي فحزن عليها حزنا شديدا حتى امتنع من الطعام والشراب فقلت أبياتا أعزيه بها فوافيته وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول لا بد من الصبر على ما لا بد منه ولئن سلونا عمن فقدنا ليسلون عنا من يفقدنا وما يأتي الليل والنهار على شيء إلا أبلياه
فلما سمعت هذا منه قلت يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أنشدك قال هات فأنشدته
( ما للجدِيدَيْن لا يَبْلى اختلافُهما ... وكلُّ غَضٍّ جديدٍ فيهما بالِي )
( يا مَنْ سلا عن حبيبٍ بعد مِيتته ... كم بعد موتِك أيضاً عنك مِنْ سالي )
( كأَنّ كلَّ نعيمٍ أنت ذائقُه ... من لذّة العيش يحكي لُمْعةَ الآلِ )
( لا تَلَعَبَنَّ بك الدنيا وأنت ترى ... ما شئتَ من عِبَرٍ فيها وأَمْثال )
( ما حِيلةُ الموت إلاّ كُلّ صالحةٍ ... أولاَ فما حِيلةٌ فيه لمُحتالِ )
فقال لي أحسنت ويحك وأصبت ما في نفسي ووعظت وأوجزت ثم أمر لي لكل بيت بألف درهم

هو يشعر وإبراهيم الموصلي يغني والرشيد يطلق سراحهما
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن خلاد قال حدثني أبي قال
لما مات موسى الهادي قال الرشيد لأبي العتاهية قل شعرا في الغزل فقال لا أقول شعرا بعد موسى أبدا فحبسه
وأمر إبراهيم الموصلي أن يغني فقال لا أغني بعد موسى أبدا وكان محسنا إليهما فحبسه
فلما شخص إلى

الرقة حفر لهما حفيرة واسعة وقطع بينهما بحائط وقال كونا بهذا المكان لا تخرجا منه حتى تشعر أنت ويغني هذا
فصبرا على ذلك برهة
وكان الرشيد يشرب ذات يوم وجعفر بن يحيى معه فغنت جارية صوتا فاستحسناه وطربا عليه طربا شديدا وكان بيتا واحدا
فقال الرشيد ما كان أحوجه إلى بيت ثان ليطول الغناء فيه فنستمتع مدة طويلة به فقال له جعفر قد أصبته
قال من أين قال تبعث إلى أبي العتاهية فيلحقة به لقدرته على الشعر وسرعته
قال هو أنكد من ذلك لا يجيبنا وهو محبوس ونحن في نعيم وطرب
قال بلى فاكتب إليه حتى تعلم صحة ما قلت لك
فكتب إليه بالقصة وقال ألحق لنا بالبيت بيتا ثانيا
فكتب إليه أبو العتاهية
( شُغِل المسكينُ عن تلك المِحَنْ ... فارقَ الرُّوحَ وأَخلَى من بدن )
( ولقد كُلِّفتُ أمراً عَجباً ... أَسْأَلُ التَّفريحَ من بيت الحَزَنْ )
فلما وصلت قال الرشيد قد عرفتك أنه لا يفعل
قال فتخرجه حتى يفعل
قال لا حتى يشعر فقد حلفت
فأقام أياما لا يفعل
قال ثم قال أبو العتاهية لإبراهيم إلى كم هذا نلاج الخلفاء هلم أقل شعرا وتغن فيه
فقال أبو العتاهية
( بأبي مَنْ كان في قلبي له ... مرّةً حُبٌّ قليلٌ فسُرِقْ )
( يا بني العبّاس فيكم مَلِكٌ ... شُعَبُ الإِحسان منه تفترقْ )
( إنّما هارونُ خيرٌ كلُّه ... مات كلّ الشرّمُذْ يوم خُلِقْ )
وغنى فيه إبراهيم
فدعا بهما الرشيد فأنشده أبو العتاهية وغناه إبراهيم فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب

حدثني الصولي بهذا الحديث عن الحسين بن يحيى عن عبد الله بن العباس ابن الفضل بن الربيع فقال فيه غضب الرشيد على جارية له فحلف ألا يدخل إليها أياما ثم ندم فقال
( صَدَّ عنّي إذ رآني مُفْتَتَنْ ... وأطال الصَّدَّ لمّا أن فَطَنْ )
( كان مَملوكي فأضحى مالكي ... إنّ هذا من أعاجيب الزَّمنْ )
وقال لجعفر بن يحيى أطلب لي من يزيد على هذين البيتين
فقال له ليس غير أبي العتاهية
فبعث إليه فأجاب بالجواب المذكور فأمر بإطلاقه وصلته
فقال الآن طاب القول ثم قال
( عِزَّةُ الحِبّ أرتْه ذِلّتي ... في هواه وله وجهٌ حَسَنْ )
( ولهذا صِرتُ مملوكاً له ... ولهذا شَاعَ ما بي وعَلَنْ )
فقال أحسنت والله وأصبت ما في نفس وأضعف صلته
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الهيثم بن عثمان قال حدثني شبيب بن منصور قال
كنت في الموقف واقفا على باب الرشيد فإذا رجل بشع الهيئة على بغل قد جاء فوقف وجعل الناس يسلمون عليه ويسائلونه ويضاحكونه ثم وقف في الموقف فأقبل الناس يشكون أحوالهم فواحد يقول كنت منقطعا إلى فلان فلم يصنع بي خيرا
ويقول آخر أملت فلانا فخاب أملي وفعل بي ويشكو آخر من حاله فقال الرجل
( فَتَّشْتُ ذي الدنيا فليس بها ... أَحدٌ أراه لآخَرٍ حامِدْ )
( حتّى كأنّ الناسَ كلَّهُم ... قد أُفرغوا في قالَب واحدْ )
فسألت عنه فقيل هو أبو العتاهية

اتهم سلما الخاسر بالبخل
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد عن أبيه عن عبد الله بن الحسن قال
أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلما الخاسر
( تَعالى اللَّه يا سَلْم بنَ عمروٍ ... أذلَّ الحِرصُ أعناقَ الرجالِ )
فقال المأمون إن الحرص لمفسد للدين والمروءة والله ما عرفت من رجل قط حرصا ولا شرها فرأيت فيه مصطنعا
فبلغ ذلك سلما فقال ويلي على المخنث الجرار الزنديق جمع الأموال وكنزها وعبأ البدور في بيته ثم تزهد مراءاة ونفاقا فأخذ يهتف بي إذا تصديت للطلب
أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن أحمد بن سليمان العتكي قال حدثني العباس بن عبيد الله بن سنان بن عبد الملك بن مسمع قال
كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وعنده أبو العتاهية ينشد في الزهد فقال قثم يا عباس أطلب الساعة الجماز حيث كان ولك عندي سبق فطلبته فوجدته عند ركن دار جعفر بن سليمان فقلت أجب الأمير فقام معي حتى أتى قثم فجلس في ناحية مجلسه وأبو العتاهية ينشده فأنشأ الجماز يقول
( ما أقبحَ التَّزهِيدَ من واعظٍ ... يُزَهِّد الناسَ ولا يَزْهَدُ )
( لو كان في تزهيده صادقاً ... أَضحى وأمسى بيتُه المسجدُ )
( يخاف أن تنفَد أرزاقُه ... والرزق عند اللَّه لا ينفَدُ )

( والرزق مقسومٌ على مَنْ تَرى ... ينالُه الأبيضُ والأسودُ )
قال فالتفت أبو العتاهية إليه فقال من هذا قالوا هذا الجماز وهو ابن أخت سلم الخاسر اقتص لخاله منك
فأقبل عليه وقال يابن أخي إني لم أذهب حيث ظننت ولا ظن خالك ولا أردت أن أهتف به وإما خاطبته كما يخاطب الرجل صديقه فالله يغفر لكما ثم قام

مخارق يغني بشعره
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن أحمد بن خلف الشمري عن أبيه قال
كنت عند مخارق فجاء أبو العتاهية في يوم جمعة فقال لي حاجة وأريد الصلاة فقال مخارق لا أبرح حتى تعود
قال فرجع وطرح ثيابه وهي صوف وغسل وجهه ثم قال له غنني
صوت
( قال لي أحمدٌ ولم يدرِ ما بي ... أتُحِبّ الغداةَ عُتْبةَ حقَّا )
( فتنَّفستُ ثم قلتُ نعمْ حُبّاً ... جرى في العُروق عِرْقاً فعرقَا )
فجذب مخارق دواة كانت بين يديه فأوقع عليها ثم غناه فاستعاده ثلاث مرات فأعاده عليه ثم قام وهو يقول لا يسمع والله هذا الغناء أحد فيفلح
وهذا الخبر رواية محمد بن القاسم بن مهرويه عنه
وحدثنا به أيضا في كتاب هارون بن علي بن يحيى عن ابن مهرويه عن ابن عمار قال حدثني أحمد بن يعقوب عن محمد بن حسان الضبي قال حدثنا مخارق قال

لقيني أبو العتاهية فقال بلغني أنك خرجت قولي
( قال لي أحمدٌ ولم يَدْرِ ما بي ... أتُحِبُّ الغداةَ عُتْبةَ حَقَّا )
فقلت نعم
فقال غنه
فملت معه إلى خراب فيه قوم فقراء سكان فغنيته إياه فقال أحسنت والله منذ ابتدأت حتى سكت ثم قال لي أما ترى ما فعل الملك بأهل هذا الخراب
أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال
قال مخارق لقيت أبا العتاهية على الجسر فقلت له يا أبا إسحاق أتنشدني قولك في تبخيلك الناس كلهم فضحك وقال لي ها هنا قلت نعم
فأنشدني
( إن كنتَ مُتّخِذاً خليلاً ... فَتَنَقَّ وانتقِدِ الخليلاَ )
( مَنْ لم يكن لك مُنصِفاً ... في الوِدّ فابْغِ به بديلاَ )
( ولربَما سُئِل البخيلُ ... الشيءَ لا يَسْوَى فَتِيلا )
( فيقول لا أجد السَّبيلَ ... إليه يَكْرَهُ أن يُنِيلا )
( فلذاك لا جعَل الإِلهُ ... له إلى خيرٍ سبيلاَ )
( فاضْرِبْ بطَرْفك حيث شئتَ ... فلن ترى إلاّ بخيلاَ )
فقلت له أفرطت يا أبا إسحاق فقال فديتك فأكذبني بجواد واحد
فأحببت موافقته فالتفت يمينا وشمالا ثم قلت ما أجد
فقبل بين عيني وقال فديتك يا بني لقد رفقت حتى كدت تسرف
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق قال
كان أبو العتاهية لما نسك يقول لي يا بني حدثني فإن ألفاظك تطرب كما يطرب غناؤك

عتابه لأحمد بن يوسف
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال حدثني أبو هفان قال حدثني موسى بن عبد الملك قال
كان أحمد بن يوسف صديقا لأبي العتاهية فلما خدم المأمون وخص به رأى منه أبو العتاهية جفوة فكتب إليه
( أبا جعفرٍ إن الشريفَ يَشينه ... تَتَايُهُه على الأَخِلاّء بالوَفْرِ )
( ألم تر أنّ الفقر يُرجَى له الغنَى ... وأنّ الغَنى يُخشَى عليه من الفقر )
( فإن نِلتَ تِيهاً بالذي نِلْتَ من غنىً ... فإنّ غنايَ في التجمّل والصبر )
قال فبعث إليه بألفي درهم وكتب إليه يعتذر مما أنكره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الكوفي قال حدثني أبو جعفر المعبدي قال
قلت لأبي العتاهية أجز لي قول الشاعر
( وكان المالُ يأتينا فكنْا ... نُبَذّره وليس لنا عقولُ )
( فلمّا أن تولَّى المالُ عنّا ... عَقَلْنا حين ليس لنا فُضُولُ )
قال فقال أبو العتاهية على المكان
( فقصِّر ما ترى بالصّبر حقًّا ... فكلٌّ إن صبرتَ له مُزِيلُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن الفضل الزعفراني قال حدثني من سمع أبا العتاهية يقول لابنه وقد غضب عليه اذهب فإنك ثقيل الظل جامد الهواء

خبر النعل الذي كتب على شراكها شعرا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني يحيى بن خليفة الرازي قال حدثنا حبيب بن الجهم النميري قال
حضرت الفضل بن الربيع متجزا جائزتي وفرضي فلم يدخل عليه أحد قبلي فإذا عون حاجبه قد جاء فقال هذا أبو العتاهية يسلم عليك وقد قدم من مكة فقال أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي
فخرج إليه عون فقال إنه على الركوب إلى أمير المؤمنين
فأخرج من كمه نعلا عليها شراك فقال قل له إن أبا العتاهية أهداها إليك جعلت فداءك
قال فدخل بها فقال ما هذه فقال نعل وعلى شراكها مكتوب كتاب
فقال يا حبيب اقرأ ما عليها فقرأته فإذا هو
( نَعلٌ بعثتُ بها ليلبسَها ... قَرْمٌ بها يمشي إلى المجدِ )
( لو كان يَصلُح أن أُشَرّكها ... خدّي جعلتُ شِراكَها خدّي )
فقال لحاجبه عون احملها معنا فحملها
فلما دخل على الأمين قال له يا عباسي ما هذه النعل فقال أهداها إلي أبو العتاهية وكتب عليها بيتين وكان أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لابسها
فقال وما هما فقرأهما
فقال أجاد والله وما سبقه إلى هذا المعنى أحد هبوا له عشرة آلاف درهم
فأخرجت والله في بدرة وهو راكب على حماره فقبضها وانصرف
سذاجته وقلة معرفته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا

إسماعيل بن عبد الله الكوفي قال حدثنا عمرو صاحب الطعام وكان جار أبي العتاهية قال
كان أبو العتاهية من أقل الناس معرفة سمعت بشرا المريسي يقول له يا أبا إسحاق لا تصل خلف فلان جارك وإما مسجدكم فإنه مشبه
قال كلا إنه قرأ بنا البارحة في الصلاة ( قل هو الله أحد ) وإذا هو يظن أن المشبه لا يقرأ ( قل هو الله أحد )
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن يعقوب الهاشمي قال حدثني أبو شيخ منصور بن سليمان عن أبيه قال
كتب بكر بن المعتمر إلى أبي العتاهية يشكو إليه ضيق القيد وغم الحبس فكتب إليه أبو العتاهية
( هيَ الأيّام والعِبَرُ ... وأمرُ الله يُنْتَظَرُ )
( أَتَيْأس أن ترى فرجاً ... فأين اللهُ والقَدَرُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال
كنت أمشي مع أبي العتاهية يده في يدي وهو متكئ علي ينظر إلى الناس يذهبون ويجيئون فقال أما تراهم هذا يتيه فلا يتكلم وهذا يتكلم بصلف ثم قال لي مر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يخطر فقال يا بني لو خفضت بعض هذه الخيلاء ألم يكن أحسن بك من هذه الشهرة التي قد شهرت بها

نفسك فقال له الفتى أو ما تعرف من أنا فقال له بلى والله أعرفك معرفة جيدة أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذينك حامل عذرة
قال فأرخى الفتى أذنيه وكف عما كان يفعل وطأطأ رأسه ومشى مسترسلا
ثم أنشدني أبو العتاهية
( أيا واهاً لذِكر اللَّهِ ... يا واهاً له واهَا )
( لقد طَيَّب ذِكروُ اللَّه ... بالتسبيح أَفواها )
( فيا أنتنَ من حُشٍّ ... على حشٍّ إذا تاها )
( أرى قوماً يتيهون ... حُشوشا رُزقوا جاهَا )
حدثني اليزيدي عن عمه إسماعيل بن محمد بن أبي محمد قال
قلت لأبي العتاهية وقد جاءنا يا أبا إسحاق شعرك كله حسن عجيب ولقد مرت بي منذ أيام أبيات لك استحسنتها جدا وذلك أنها مقلوبة أيضا فأواخرها كأنها رأسها لو كتبها الإنسان إلى صديق له كتابا والله لقد كان حسنا أرفع ما يكون شعرا
قال وما هي قلت
( المرءُ في تأخير مُدّته ... كالثوب يَخْلُق بعد جِدّتِه )
( وحياتُهُ نَفَسٌ يُعَدّ له ... ووفاتُه استكمالُ عِدّتِه )
( ومصيرُه من بعد مُدّته ... لِبِلًى وذا من بعد وُحْدته )
( مَنْ مات مَالَ ذوو مودّته ... عنه وحالوا عن مودّتِه )
( أزِفَ الرحيلُ ونحن في لَعِبٍ ... ما نستعِدّ له بِعُدّته )

( ولقلّما تُبْقي الخطوبُ على ... أشَرِ الشّبابِ وحَرِّ وَقْدته )
( عَجَباً لمنتبِهٍ يُضَيّع ما ... يحتاج فيه ليوم رَقْدته )
قال اليزيدي قال عمي وحدثني الحسين بن الضحاك قال
كنت مع أبي نواس فأنشدني أبياته التي يقول فيها
( يا بني النقصِ والغِيَرْ ... وبني الضعف والخَوَرْ )
فلما فرغ منها قال لي يا أبا علي والله لكأنها من كلام صاحبك يعني أبا العتاهية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني حذيفة بن محمد الطائي قال حدثني أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي قال
حججت فرأيت أبا العتاهية واقفا على أعرابي في ظل ميل وعليه شملة إذا غطى بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطى رجليه بدا رأسه
فقال له أبو العتاهية كيف اخترت هذا البلد القفر على البلدان المخصبة فقال له يا هذا لولا أن الله أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد فقال له فمن أين معاشكم فقال منكم معشر الحاج تمرون بنا فننال من فضولكم وتنصرفون فيكون ذلك
فقال له إنما نمر وننصرف في وقت من السنة فمن أين معاشكم فأطرق الأعرابي ثم قال لا والله لا أدري ما أقول إلا أنا نرزق من حيث لا نحتسب أكثر مما نرزق من حيث نحتسب
فولى أبو العتاهية وهو يقول
( ألاَ يا طالبَ الدُّنيا ... دَعِ الدنيا لشانِيكَا )
( وما تصنَعُ بالدنيا ... وظِلُّ المِيل يَكْفِيكَا )

سلم الخاسر يشتمه بعد أن سمع هجوه
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال
لما قال أبو العتاهية
( تعالى اللهُ يا سَلْمُ بنَ عَمْرٍ ... أذلّ الحرصُ أعناقَ الرجالِ )
قال سلم ويلي على ابن الفاعلة كنز البدور ويزعم أني حريص وأنا في ثوبي هذين
أخبرني محمد بن مزيد والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمرو بن أدعج قال قلت لعبد الله بن عبد العزيز العمري وسمعته يتمثل كثيرا من شعر أبي العتاهية أشهد أني سمعته ينشد لنفسه
( مَرّتِ اليومَ شاطرهْ ... بَضَّة الجسم ساخرهْ )
( إنّ دُنيا هي التي ... مرّت اليومَ سافرهْ )
( سَرَقوا نصفَ اسمها ... فَهْيَ دنيا وآخِرهْ )
فقال عبد الله بن عبد العزيز وكله الله إلى آخرتها
قال وما سمع بعد ذلك يتمثل ببيت من شعره
قال علي بن الحسين مؤلف هذا الكتاب هذه الأبيات لأبي عيينة المهلبي وكان يشبب بدنيا في شعره فإما أن يكون الخبر غلطا وإما أن يكون الرجل أنشدها العمري لأبي العتاهية وهو لا يعلم أنها ليست له
الموازنة بينه وبين أبي نواس
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل قال

قال لي الحرمازي شهدت أبا العتاهية وأبا نواس في مجلس وكان أبو العتاهية أسرع الرجلين جوابا عند البديهة وكان أبو نواس أسرعهما في قول الشعر فإذا تعاطيا جميعا السرعة فضله أبو العتاهية وإذا توقفا وتمهلا فضله أبو نواس
أخبرني أحمد بن العباس عن ابن عليل العنزي قال حدثنا أبو أنس كثير بن محمد الحزامي قال حدثني الزبير بن بكار عن معروف العاملي قال
قال أبو العتاهية كنت منقطعا إلى صالح المسكين وهو ابن أبي جعفر المنصور فأصبت في ناحيته مائة ألف درهم وكان لي ودودا وصديقا فجئته يوما وكان لي في مجلسه مرتبة لا يجلس فيها غيري فنظرت إليه قد قصر بي عنها وعاودته ثانية فكانت حاله تلك ورأيت نظره إلي ثقيلا فنهضت وقلت
( أراني صالحٌ بُغْضا ... فأظهرتُ له بُغضَا )
( ولا واللهِ لا ينقُض ... إلا زدتُه نَقْضا )
( وإلاّ زِدتُه مقتا ... وإلا زدته رفْضَا )
( أَلاَ يا مُفْسِد الودّ ... وقد كان له محضا )
( تغضبت مِنَ الريح ... فما أَطلُب أن تَرْضَى )
( لئن كان لك المالُ ... المُصفى إنّ لي عِرْضَا )
قال أبو العتاهية فنمي الكلام إلى صالح فنادى بالعداوة فقلت فيه
( مَدَدْتُ لمُعْرِضٍ حَبْلاً طويلاً ... كأطول ما يكون من الحِبَالِ )
( حبالٍ بالصَّريمة ليس تَفْنى ... مُوصَّلةٍ على عَدد الرمال )
( فلا تنظُرْ إليّ ولا تُرِدْني ... ولا تُقْرِبْ حبالَك من حبالي )
( فليت الرَّدْمَ من يأجوجَ بيني ... وبينَك مثبتاً أُخرَى الليالي )

( فكَرشْ إن أردتَ لنا كلاماً ... ونقطع قِحْفَ رأسِه بالقَذَال )
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن سليمان النوفلي قال قال مساور السباق وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير عن مساور السباق قال
شهدت جنازة في أيام الحاج وقت خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن المقتول بفخ فرأيت رجلا قد حضر الجنازة معنا وقد قال لآخر هذا الرجل الذي صفته كذا وكذا أبو العتاهية
فالتفت إليه فقلت له أنت أبو العتاهية فقال لا أنا أبو إسحاق فقلت له أنشدني شيئا من شعرك فقال لي ما أحمقك نحن على سفر وعلى شفير قبر وفي أيام العشر وببلدكم هذا تستنشدني الشعر ثم أدبر عني ثم عاد إلي فقال وأخرى أزيدكها لا والله ما رأيت في بني آدم قط أسمج منك وجها
قال النوفلي في خبره وصدق أبو العتاهية كان مساور هذا مقبحا طويل الوجه كأنه ينظر في سيف
أخبرني عمي الحسن بن محمد وجحظة قالا حدثنا ميمون بن هارون قال
قدم أبو العتاهية يوما منزل يحيى بن خاقان فلما قام بادر له الحاجب

فانصرف
وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلم عليه ودخل إلى منزله ولم يأذن له فأخذ قرطاسا وكتب إليه
( أَراكَ تُراعُ حين تَرى خَيالي ... فما هذا يَرُوعك من خيالي )
( لعلّك خائفٌ منّي سؤالي ... ألاَ فلَكَ الأمانُ مِنَ السؤالِ )
( كَفَيتُك إنّ حالَك لم تَمِلْ بي ... لأطلُبَ مثلَها بَدَلاً بحالي )
( وإنّ اليُسْرَ مثلُ العُسْر عندي ... بأيّهما مُنِيتُ فلا أُبَالي )
فلما قرأ الرقعة أمر الحاجب بإدخاله إليه فطلبه فأبى أن يرجع معه ولم يلتقيا بعد ذلك
أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني قال
اجتمع أبو نواس وأبو الشمقمق في بيت ابن أذين وكان بين أبي العتاهية وبين أبي الشمقمق شر فخبأوه من أبي العتاهية في بيت
ودخل أبو العتاهية فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث فظن أنه جارية فقال لابن أذين متى استطرفت هذه الجارية فقال قريبا يا أبا إسحاق فقال قل فيها ما حضر فمد أبو العتاهية يده إليه وقال
( مددتُ كَفّي نحوَكم سائلاً ... ماذا تَرُدُّون على السائِلِ )
فلم يلبث أبو الشمقمق حتى ناداه من البيت
( نَرُدّ في كفِّك ذا فَيْشَةٍ ... يَشْفِي جوىً في اسْتِك من داخلِ )
فقال أبو العتاهية شمقمق والله وقام مغضبا

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني سليمان بن عباد قال حدثنا سليمان بن مناذر قال
كنا عند جعفر بن يحيى وأبو العتاهية حاضر في وسط المجلس فقال أبو العتاهية لجعفر جعلني الله فداك معكم شاعر يعرف بابن أبي أمية أحب أن اسمعه ينشد فقال له جعفر هو أقرب الناس منك
فأقبل أبو العتاهية على محمد وكان إلى جانبه وسأله أن ينشده فكأنه حصر ثم أنشده

صوت
( رُبّ وعدٍ منك لا أَنساه لي ... أَوْجَبَ الشكرَ وإن لم تَفعلِ )
( أَقطَعُ الدهرَ بوعدٍ حَسَنٍ ... وأُجَلِّي غَمْرةً ما تَنْجَلي )
( كلّما أمّلتُ وعداً صالحاً ... عَرَض المكروهُ دونَ الأَمل )
( وأَرى الأيّام لاَ تُدْنِي الذي ... أَرْتَجِي منك وتُدْني أَجلي )
في هذه الأبيات لأبي حبشة رمل قال فأقبل أبو العتاهية يردد البيت الأخير ويقبل رأس ابن أبي أمية ويبكي وقال وددت والله أنه لي بكثير من شعري
أسماء أبنائه
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال
كانت لأبي العتاهية بنتان اسم إحداهما لله والأخرى بالله فخطب منصور بن المهدي لله فلم يزوجه وقال إنما طلبها لأنها بنت أبي العتاهية وكأني بها قد ملها فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل وما كنت لأزوجها إلا بائع خزف وجرار ولكني أختاره لها موسرا

وكان لأبي العتاهية ابن يقال له محمد وكان شاعرا وهو القائل
( قد أَفْلَح السَّالمُِ الصَّمُوتُ ... كَلاَمُ راعِي الكلامِ قُوتُ )
( ما كلُّ نُطْقٍ له جوابٌ ... جوابُ ما يُكْرَهُ السُّكوتُ )
( يا عَجباً لامرىءٍ ظَلُومٍ ... مُسْتَيقِنٍ أنّه يموت )
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثنا زكريا بن الحسين عن عبد الله بن الحسن بن سهل الكاتب قال
قلت لأبي العتاهية أنشدني من شعرك ما تستحسن فأنشدني
( ما أَسرعَ الأيّامَ في الشّهرِ ... وأسرَع الأَشْهُرَ في العُمْرِ )

صوت
( ليس لمن ليستْ له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصَّبْرِ )
( فاخْطُ مع الدهر إذا ما خطا ... واجْرِ مع الدهر كما يَجْرِي )
( مَنْ سَابَقَ الدهرَ كبا كَبْوةً ... لم يَسْتَقِلْها آخِرَ الدهر )
لإبراهيم في هذه الأبيات خفيف ثقيل وثقيل أول
قال عبد الله بن الحسن وسمعت أبا العتاهية يحدث قال ما زال الفضل ابن الربيع من أميل الناس إلي فلما رجع من خراسان بعد موت الرشيد دخلت إليه فاستنشدني فأنشدته
( أَفنيتَ عمرَك إِدباراً وإِقبالاً ... تَبْغي البنين وتَبْغي الأهُلَ والمالاَ )
( الموتُ هَوْلٌ فكُنْ ما شِئتَ مُلْتمِساً ... من هَوْلِه حِيلةً إن كنتَ مُحتالا )
( ألم تَرَ المَلِكَ الأَمْسِيَّ حين مضى ... هل نال حيٌّ من الدنيا كما نَالاَ )

( أفناه مَنْ لم يَزَلْ يُفْنِي القُرونَ فَقَدْ ... أضحى وأصبح عنه الملكُ قد زالا )
( كم من ملوكٍ مضى رَيْبُ الزمان بهم ... فأصبحوا عِيَراً فينا وأَمثالاَ )
فاستحسنها وقال أنت تعرف شغلي فعد إلي في وقت فراغي اقعد معك وآنس بك
فلم أزل أراقب أيامه حتى كان يوم فراغه فصرت إليه فبينما هو مقبل علي يستنشدني ويسألني فأحدثه إذ أنشدته
( ولّى الشبابُ فماله من حِيلةٍ ... وكَسَا ذُؤَابَتِيَ المشيبُ خمارَا )
( أين البرامكةُ الذين عَهِدْتُهمْ ... بالأمسِ أعظمَ أهْلِها أَخطارا )
فلما سمع ذكرى البرامكة تغير لونه ورأيت الكراهية في وجهه فما رأيت منه خيرا بعد ذلك
قال وكان أبو العتاهية يحدث هذا الحديث ابن الحسن بن سهل فقال له لئن كان ذلك ضرك عند الفضل بن الربيع لقد نفعك عندنا فأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب وأجرى له كل شهر ثلاثة آلاف درهم فلم يزل يقبلها دارة إلي أن مات
قال عبد الله بن الحسن بن سهل وسمعت عمرو بن مسعدة يقول قال لي أخي مجاشع بينما أنا في بيتي إذ جاءتني رقعة من أبي العتاهية فيها
( خليلٌ لي أُكَاتُمه ... أَراني لا أُلائِمُهُ )
( خليلٌ لا تَهُبَ الرِّيحُ ... إلاّ هبّ لائِمهُ )
( كذا منْ نال سلطاناً ... ومن كَثْرتْ دراهمهُ )
قال فبعثت إليه فأتاني فقلت له أما رعيت حقا ولا ذماما ولا مودة فقال لي ما قلت سوءا قلت فما حملك على هذا قال أغيب عنك عشرة أيام فلا تسأل

عني ولا تبعث إلي رسولا فقلت يا أبا إسحاق أنسيت قولك
( يَأْبَى المُعَلَّق بالمُنَى ... إلاّ رَواحاً وادّلاجَا )
( أرْفُقْ فعمرُك عُودُ ذي ... أَوَدٍ رأيتُ به اعوجاجَا )
( مَنْ عَاج من شيءٍ إلى ... شيءٍ أصاب له مَعَاجا )
فقال حسبك حسبك أوسعتني عذرا

عاب شعر ابن مناذر
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي الزارع قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عمران بن عبد الصمد الزارع قال حدثنا ابن عائشة قال
قال أبو العتاهية لابن مناذر شعرك مهجن لا يلحق بالفحول وأنت خارج عن طبقة المحدثين
فإن كنت تشبهت بالعجاج ورؤبة فما لحقتهما ولا أنت في طريقهما وإن كنت تذهب مذهب المحدثين فما صنعت شيئا أخبرني عن قولك

( ومَنْ عاداك لاقَى المَرْمرِيسا ... )
أخبرني عن المرمريس ما هو قال فخجل ابن مناذر وما راجعه حرفا
قال وكان بينهما تناغر
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني الحسين بن إسماعيل المهدي قال حدثني رجاء بن سلمة قال
وجد المأمون علي في شيء فاستأذنته في الحج فأذن لي فقدمت البصرة وعبيد الله بن إسحاق بن الفضل الهاشمي عليها وإليه أمر الحج فزاملته إلى مكة
فبينا نحن في الطواف رأيت أبا العتاهية فقلت لعبيد الله جعلت فداك أتحب أن ترى أبا العتاهية فقال والله إني لأحب أن أراه وأعاشره
قلت فافرغ من طوافك واخرج ففعل
فأخذت بيد أبي العتاهية فقلت له يا أبا إسحاق هل لك في رجل من أهل البصرة شاعر أديب ظريف قال وكيف لي بذلك فأخذت بيده فجئت به إلى عبيد الله وكان لا يعرفه فتحدثا ساعة ثم قال له أبو العتاهية هل لك في بيتين تجيزهما فقال له عبيد الله إنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج
فقال له لا نرفث ولا نفسق ولا نجادل
فقال هات إذا فقال أبو العتاهية

( إنّ المنونَ غُدُوَّها ورَواحَها ... في الناس دائبة تُجِيل قِداحَها )
( يا ساكنَ الدنيا لقد أُّوطنتَها ... ولَتَنْزَحَنّ وإن كرِهت نَزَاحَها )
فأطرق عبيد الله ينظر إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه فقال
( خُذْ لا أبالك للمنيّة عُدَّةً ... واحْتَلْ لنفسك إن أَردتَ صلاحَها )
( لا تَغْتَرِرْ فكأنَّني بُعُقاب رَيب ... الموت قد نَشَرتْ عليك جَنَاحَهَا )
قال ثم سمعت الناس ينحلون أبا العتاهية هذه الأربعة الأبيات كلها وليس له إلا البيتان الأولان

خبره في السجن مع داعية عيسى بن زيد
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا ميمون بن هارون قال حدثني إبراهيم بن رباح قال أخبرني إبراهيم بن عبد الله وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا هارون بن مخارق قال حدثني إبراهيم بن دسكرة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال
قال أبو العتاهية حبسني الرشيد لما تركت قول الشعر فأدخلت السجن وأغلق الباب علي فدهشت كما يدهش مثلي لتلك الحال وإذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيد فجعلت أنظر إليه ساعة ثم تمثل
صوت
( تَعوّدَتُ مُرَّ الصبر حتى أَلِفْتُهُ ... وأسلمني حسنُ العَزاء إلى الصبرِ )
( وصيّرني يأسى من النَّاس راجياً ... لحُسْن صنيعِ الله من حيثُ لا أدري )
فقلت له أعد يرحمك الله هذين البيتين
فقال لي ويلك أبا العتاهية ما أسوأ

أدبك وأقل عقلك دخلت علي الحبس فما سلمت تسليم المسلم على المسلم ولا سألت مسألة الحر للحر ولا توجعت توجع المبتلى للمبتلى حتى إذا سمعت بيتين من الشعر الذي لا فضل فيك غيره لم تصبر عن استعادتهما ولم تقدم قبل مسألتك عنهما عذرا لنفسك في طلبهما فقلت يا أخي إني دهشت لهذه الحال فلا تعذلني واعذرني متفضلا بذلك
فقال أنا والله أولى بالدهش والحيرة منك لأنك حبست في أن تقول شعرا به ارتفعت وبلغت فإذا قلت أمنت وأنا مأخوذ بأن أدل على ابن رسول الله ليقتل أو أقتل دونه ووالله لا أدل عليه أبدا والساعة يدعى بي فأقتل فأينا أحق بالدهش فقلت له أنا والله أولى سلمك الله وكفاك ولو علمت أن هذه حالك ما سألتك
قال فلا نبخل عليك إذا ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما
قال فسألته من هو فقال أنا خاص داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد
ولم نلبث أن سمعنا صوت الأقفال فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جرة ولبس ثوبا نظيفا كان عنده ودخل الحرس والجند معهم الشمع فأخرجونا جميعا وقدم قبلي إلى الرشيد
فسأله عن أحمد بن عيسى فقال لا تسألني عنه واصنع ما أنت صانع فلو أنه تحت ثوبي هذا ما كشفته عنه
وأمر بضرب عنقه فضرب
ثم قال لي أظنك قد ارتعت يا إسماعيل فقلت دون ما رأيته تسيل منه النفوس
فقال ردوه إلى محبسه فرددت وانتحلت هذين البيتين وزدت فيهما
( إذا أنا لم أقْبَلْ من الدّهر كلَّ ما ... تكَرَّهتُ منه طال عَتْبي على الدهر )
لزرزور غلام المارقي في هذه البيتين المذكورين خفيف رمل
وفيهما لعريب خفيف ثقيل

نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثني ناجية بن عبد الواحد قال
قال لي أبو العباس الخزيمي
كان أبو العتاهية خلفا في الشعر بينما هو يقول في موسى الهادي
( لَهْفِي على الزمنِ القصيرِ ... بين الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ )
إذ قال
( أيا ذَوِي الوَخامهْ ... أكثرتُمُ المَلامة )
( فليس لي على ذا ... صبْرٌ ولا قُلامهْ )
( نعْم عَشِقتُ مُوقاً ... هل قامتِ القيامةْ )
( لأَرْكَبنّ فيمن ... هَوِيتُه الصَّرامهْ )
ونسخت من كتابه حدثني علي بن مهدي قال حدثني أحمد بن عيسى قال حدثني الجماز قال
قال سلم الخاسر صار إلي أبو العتاهية فقال جئتك زائرا فقلت مقبول منك ومشكور أنت عليه فأقم
فقال إن هذا مما يشتد علي
قلت ولم يشتد عليك ما يسهل على أهل الأدب فقال لمعرفتي بضيق صدرك
فقلت له وأنا أضحك وأعجب من مكابرته رمتني بدائها وانسلت
فقال دعني من هذا واسمع مني أبياتا
فقلت هات فأنشدني

( نغَّص الموتُ كلَّ لذّة عيشٍ ... يا لَقومِي لِلْمَوت ما أَوْحَاه )
( عجباً أنّه إذا مات مَيْتٌ ... صَدّ عنه حبيبُه وجَفاهُ )
( حيثما وُجِّه امرؤٌ ليفوتَ الموت ... فالموتُ واقفٌ بِحِذَاهُ )
( إنّما الشَّيْبُ لابن أدمَ ناعٍ ... قام في عارِضَيْهِ ثم نَعَاهُ )
( منْ تَمَنَّى المُنَى فأَغْرق فيها ... مات من قبلِ أن ينالَ مُناهُ )
( ما أَذَلَ المُقِلَّ في أَعْيُنِ النّاس ... لإِقلاله وما أَقْمَاهُ )
( إنما تنظر العيونُ من الناسِ ... إلى من تَرْجوه أو تخْشاهُ )
ثم قال لي كيف رأيتها فقلت له لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية
فقال والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها

شعره في التكبر
ونسخت من كتابة عن علي بن مهدي قال حدثني عبد الله بن عطية عن محمد بن عيسى الحربي قال
كنت جالسا مع أبي العتاهية إذ مر بنا حميد الطوسي في موكبه وبين يديه الفرسان والرجالة وكان بقرب أبي العتاهية سوادي على أتان فضربوا وجه الأتان ونحوه عن الطريق وحميد واضع طرفه على معرفة فرسه والناس ينظرون إليه يعجبون منه وهو لا يلتفت تيها فقال أبو العتاهية
( لِلموت أبناءٌ بهمْ ... ما شِئْتَ من صَلَفٍ وتيهِ )
( وكأنّني بالموت قد ... دَارَتْ رَحَاه على بنِيه )
قال فلما جاز حميد مع صاحب الأتان قال أبو العتاهية

( ما أذلَّ المُقِلَّ في أعين الناس ... لإِقلاله وما أَقْماهُ )
( إنما تنظر العيونُ من الناس ... إلى من تَرْجوه أو تَخْشاهُ )
قال علي بن مهدي وحدثني الحسين بن أبي السري قال
قيل لأبي العتاهية مالك تبخل بما رزقك الله قال والله ما بخلت بما رزقني الله قط قيل له وكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى قال ليس ذلك رزقي ولو كان رزقي لأنفقته
قال علي بن مهدي وحدثني محمد بن جعفر الشهرزوري قال حدثني رجاء مولى صالح الشهرزوري قال
كان أبو العتاهية صديقا لصالح الشهرزوري وآنس الناس به فسأله أن يكلم الفضل بن يحيى في حاجة له فقال له صالح لست أكلمه في أشباه هذا ولكن حملني ما شئت في مالي
فانصرف عنه أبو العتاهية وأقام أياما لا يأتيه فكتب إليه أبو العتاهية
( أَقْلِلْ زيارتَك الصديقَ ولا تُطِلْ ... إِتيانَه فتَلِجَّ في هِجْرانِه )
( إنّ الصديقَ يَلِجّ في غِشْيانِه ... لصديقه فيُمَلُّ من غِشْيانه )
( حتّى تراه بعد طول مَسّرةٍ ... بمكانه مُتَبرِّماً بمكانِه )
( وأقَلُّ ما يُلْفَى الفتى ثِقَلاً علىَ ... إخوانه ما كفّ عن إخوانه )
( وإذا توانَى عن صِيانة نفسه ... رجلٌ تُنُقص واستُخِفّ بشانه )

فلما قرأ الأبيات قال سبحان الله أتهجرني لمنعي إياك شيئا تعلم إني ما ابتذلت نفسي له قط وتنسى مودتي وأخوتي ومن دون ما بيني وبينك ما أوجب عليك أن تعذرني فكتب إليه
( أهلَ التّخَلُّقِ لو يَدوم تَخَلُّقُ ... لسكنتُ ظِلّ جَناح مَنْ يَتَخَلَّقُ )
( ما الناس في الإِمساك إلا واحدٌ ... فبأيّهم إنْ حُصِّلوا أَتعلّقُ )
( هذا زمانٌ قد تعود أهلُه ... تيهَ الملوك وفَعلَ مَنْ يَتصدّق )
فلما أصبح صالح غدا بالأبيات على الفضل بن يحيى وحدثه بالحديث فقال له لا والله ما على الأرض أبغض إلي من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية لأنه ممن ليس يظهر عليه أثر صنيعة وقد قضيت حاجته لك فرجع وأرسلني بقضاء حاجته
فقال أبو العتاهية
( جَزَى اللهُ عنِّي صالحاً بوفائه ... وأَضْعَفَ أضعافاً له في جَزائِه )
( بَلَوْتُ رجالاً بعدّه في إخائهمْ ... فما ازددتُ إلاّ رغبةً في إخائه )
( صديقٌ إذا ما جئتُ أَبغيه حاجةً ... رجعتُ بما أبغِي ووجهي بمائه )
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني أحمد بن حرب قال أنشدني محمد بن أبي العتاهية لأبيه يعاتب صالحا هذا في تأخيره قضاء حاجته

صوت
( أَعَيْنَيَّ جُودَا وابكيا وُدَّ صالِح ... وهِيجَا عليه مُعْولاتِ النَّوائِح )
( فما زالَ سلطاناً أخٌ لي أوَدُّه ... فَيْقْطَعُني جُرْماً قطيعةَ صالح )
الغناء في هذين البيتين لإبراهيم ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر

أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال
كان الرشيد معجبا بشعر أبي العتاهية فخرج إلينا يوما وفي يده رقعتان على نسخة واحدة فبعث بإحداهما إلى مؤدب لولده وقال ليروهم ما فيها ودفع الأخرى إلي وقال غن في هذه الأبيات
ففتحتها فإذا فيها
صوت
( قُلْ لِمَنْ ضّنَّ بوُدِّهْ ... وكَوى القلبَ بَصدِّهْ )
( ما ابتلىَ اللهُ فؤادي ... بكَ إلاّ شُؤْمَ جَدِّهْ )
( أيُّها السارقُ عَقْلِي ... لا تَضَنّنَّ بِرَدِّهْ )
( ما أرى حُبَّكَ إلاّ ... بالغاً بي فوقَ حَدِّهْ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن الأموي العتبي قال قال لي محمد بن عبد الملك الزيات
لما أحس المعتصم بالموت قال لابنه الواثق ذهب والله أبوك يا هارون لله در أبي العتاهية حيث يقول
( الموتُ بين الخَلْقِ مُشْتَرَكُ ... لا سُوقةٌ يَبْقَى ولا مَلِكُ )

( ما ضَرَّ أصحابَ القليل وما ... أَغْنَى عَنِ الأملاكِ ما مَلَكُوا )

أبو تمام يقول لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي الحسن والكوكبي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
قال لي أبو تماح الطائي لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر وهو قوله
( الناسُ في غَفَلاتِهِمْ ... ورَحَى المَنِيَّةِ تَطْحَنُ )
وقوله لأحمد بن يوسف
( ألم تَرَ أنّ الفَقْرَ يُرْجَى لي الغِنَى ... وأنّ الغِنَى يُخْشى عليه مِنَ الفَقْرِ )
وقوله في موسى الهادي
( ولمّا اسْتَقَلُّوا بأَثقالِهمْ ... وقد أَزْمَعُوا للذَي أَزمعوا )
( قرنتُ التفاتي بآثارِهم ... وأَتْبَعْتُهمْ مُقْلةً تَدْمَعُ )
وقوله
( هَبِ الدنيا تصير إليك عَفْواً ... أليس مصيرُ ذاكَ إلى زَوَالِ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن سعيد المهدي عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال

مات شيخ لنا ببغداد فلما دفناه أقبل الناس على أخيه يعزونه فجاء أبو العتاهية إليه وبه جزع شديد فعزاه ثم أنشد
( لا تَأمن الدَّهْرَ والْبَسْ ... لكلِّ حينٍ لِبَاسَا )
( لَيَدْفِنَّنَا أُنَاسٌ ... كما دَفَنَّا أُنَاسَا )
قال فانصرف الناس وما حفظوا غير قول أبي العتاهية
نسخت من كتاب هارون بن علي حدثني علي بن مهدي قال حدثني حبيب ابن عبد الرحمن عن بعض أصحابه
قال كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء فقال والله ما لنا عند الله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته
ولولا عز السلطان وكراهة الذلة وأن أصير بعد الرياسة سوقة وتابعا بعد ما كنت متبوعا ما كان في الأرض أزهد ولا أعبد مني فإذا هو بالحاجب قد دخل عليه برقعة من أبي العتاهية فيها مكتوب
( أراكَ امرأً ترجو من الله عَفْوَهُ ... وأنت على مالا يُحِبُّ مُقِيمُ )
( تَدُلُّ على التقوى وأنت مُقَصِّرٌ ... أيا مَنْ يُدَاوِي الناسَ وهو سَقِيمُ )
( وإنَّ امرأً لم يُلْهِهِ اليومُ عن غَدٍ ... تَخَوُّفَ ما يأتي به لحكيمُ )
( وإنّ امرأً لم يَجعلِ البِرَّ كنزَه ... وإنْ كانتِ الدنيا له لعديمُ )
فغضب خزيمة وقال والله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر
فقيل له وكيف ذاك فقال لأنه من الذين يكنزون الذهب

والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله
ونسخت من كتابه عن علي بن مهدي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال قال لي الفضل بن العباس
قال لي أبو العتاهية دخلت على يزيد بن مزيد فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها
( وما ذاك إلاَّ أَنَّني وَاثِقٌ بما ... لديك وأَنِّي عالمٌ بوفائِكا )
( كأنّك في صدري إذا جئتُ زائراً ... تُقَدِّر فيه حاجتي بابتدائكا )
( وإنّ أميرَ المؤمنين وغيرَه ... ليَعلَمُ في الهيجاء فضل غَنائِكا )
( كأنّك عند الكَرِّفي الحرب إنّما ... تَفِرُّ من السِّلْم الذي من وَرائِكا )
( فما آفةُ الأملاكِ غيرُك في الوَغَى ... ولا آفةُ الأموال غيرُ حِبائكا )
قال فأعطاني عشرة آلاف درهم ودابة بسرجها ولجامها
وأخبرني عيسى بن الحسين الوراق وعمي الحسن بن محمد وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال
مر عابد براهب في صومعة فقال له عظني
فقال أعظك وعليكم نزل القرآن ونبيكم محمد قريب العهد بكم قلت نعم
قال فاتعظ ببيت من شعر شاعركم أبي العتاهية حين يقول
( تَجَرَّدْ مِنَ الدنيا فإِنَّك إِنَّما ... وقعتَ إلى الدنيا وأنت مُجَرَّدُ )

العتابي يفضله على أبي نواس
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني الفضل بن محمد الزارع قال حدثني جعفر بن جميل قال

قدم العتابي الشاعر على المأمون فأنزله على إسحاق بن إبراهيم فأنزله على كاتبه ثوابة بن يونس وكنا نختلف إليه نكتب عنه
فجرى ذات يوم ذكر الشعراء فقال لكم يأهل العراق شاعر منوه الكنية ما فعل فذكر القوم أبا نواس فانتهرهم ونفض يده وقال ليس ذلك حتى طال الكلام
فقلت لعلك تريد أبا العتاهية
فقال نعم ذاك أشعر الأولين والآخرين في وقته
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن إسحاق عن علي بن عبد الله الكندي قال
جلس أبو العتاهية يوما يعذل أبا نواس ويلومه في استماع الغناء ومجالسته لأصحابه فقال له أبو نواس
( أَتُرَانِي يا عَتَاهِي ... تاركاً تلك المَلاَهِي )
( أتُراني مفْسِداً بالنُّسْكِ ... عند القوم جاهي )
قال فوثب أبو العتاهية وقال لا بارك الله عليك وجعل أبو نواس يضحك

إبراهيم بن المهدي يتهمه بالزندقة
أخبرني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال
بلغ أبا العتاهية أن أبي رماه في مجلسه بالزندقة وذكره بها فبعث إليه يعاتبه على لسان إسحاق الموصلي فأدى إليه إسحاق الرسالة فكتب إليه أبي
( إنّ المنيَّة أَمهلتْك عَتَاهِي ... والموتُ لا يسهو وقلبُك ساهِي )

( يا ويحَ ذي السنّ الضعيف أمَالُه ... عن غَيِّه قبل الممات تَنَاهِي )
( وُكِّلْتَ بالدنيا تُبَكِّيها وتَنْدُبها ... وأنت عَنِ القيامة لاهي )
( والعيشُ حُلْوٌ والمَنُونُ مَريرةٌ ... والدَّارُ دارُ تَفَاخُرٍ وتَبَاهي )
( فاخْتَرْ لنفسك دونها سُبُلاً ولا ... تَتَحامَقَنَّ لها فإِنَّك لاهِي )
( لا يُعْجِبَنَّكَ أنْ يقال مُفَوَّهٌ ... حَسَنُ البَلاغة أو غَرِيضُ الجاه )
( أَصْلِحْ جَهُولاً من سَرِيرتك الّتي ... تخلو بها وارهَبْ مَقَامَ اللهِ )
( إنِّي رأيتُك مُظْهِراً لِزَهَادةٍ ... تحتاجُ منك لها إلى أشباه )

عبد الله بن العباس يشغف بغناء شعره
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال
رآني الرشيد مشغوفا بالغناء في شعر أبي العتاهية
صوت
( أحمدٌ قال لي ولم يَدْر ما بي ... أَتُحِبُّ الغداةَ عُتْبةَ حَقَّا )
( فتَنَفَّسْتُ ثم قلتُ نَعَمْ حُبّاً ... جَرَى في العُروق عِرْقاً فعِرقَا )
( لو تَجُسِّينَ يا عُتَيبةُ قلبي ... لَوَجَدْتِ الفؤادَ قَرْحاً تَفَقَّا )
( قد لَعَمْري مَلَّ الطبيبُ ومَلَّ الأهلُ ... منِّي مما أُقاسِي وألْقَى )
( ليتَني مِتُّ فاسترحتُ فإِنِّي ... أبداً ما حَيِيتُ منها مُلَقَّى )
ولا سيما من مخارق وكان يغني فيه رملا لإبراهيم أخذه عنه
وفيه لحن لفريدة رمل
هكذا قال الصولي فريدة بالياء وغيره يقول فرندة بالنون

حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا محمد بن صالح العدوي قال أخبرني أبو العتاهية قال
كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم فقال قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرا يغنون فيه فقيل له ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية وهو في الحبس
قال فوجه إلي الرشيد قل شعرا حتى أسمعه منهم ولم يأمر بإطلاقي فغاظني ذلك فقلت والله لأقولن شعرا يحزنه ولا يسر به فعملت شعرا ودفعته إلى من حفظه الملاحين
فلما ركب الحراقة سمعه وهو
( خانَك الطَّرْفُ الطَّمُوحُ ... أيُّها القَلبُ الجَمُوحُ )
( لِدَوَاعِي الخَيْرِ والشّرِّ ... دُنُوٌّ ونُزُوحُ )
( هلْ لمطلوبٍ بِذَنْبٍ ... توبةٌ منه نصُوحُ )
( كيف إصلاحُ قُلُوبٍ ... إنّما هُنَّ قُروحُ )
( أَحْسَنَ اللهُ بنا أَنَّ ... الخَطَايَا لا تَفُوحُ )
( فإذَا المستورُ مِنَّا ... بينَ ثَوْبَيْهِ نَضُوحُ )
( كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ ... طُوِيتْ عنه الكشُوحُ )
( صاحَ منه بِرَحِيلٍ ... صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ )
( موتُ بعضِ الناسِ في الأرْضِ ... على قومٍ فُتُوحُ )

( سيصير المرءُ يوماً ... جَسَداً ... ما فيه رُوحُ )
( بين عَيْنَيْ كُلَّ حَيِّ ... عَلَمُ الموتِ يلوحُ )
( كُلُّنا في غَفْلةٍ والْمَوْتُ ... يغدو ويروح )
( لِبَنِي الدُّنيا مِنَ الدُّنْيَا ... غَبُوقٌ وصَبُوحُ )
( رُحْنَ في الوَشْي وأصْبَحْنَ ... عليِنَّ المُسُوحُ )
( كلَّ نَطَّاحٍ مِنَ الدَّهْرِ له يومٌ نَطُوحُ )
( نُحْ على نٌفْسِك يا مِسْكينُ ... إنْ كنتَ تنوح )
( لتَمْوتَنَّ وإنْ عُمِّرْتَ ... ما عُمِّر نُوحُ )
قال فلما سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب وكان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة
فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا
حدثني الصولي قال حدثني الحسن بن جابر كاتب الحسن بن رجاء قال لما حبس الرشيد أبا العتاهية دفعه إلى منجاب فكان يعنف به فقال أبو العتاهية
( مِنْجَابُ مات بِدائه ... فاعْجَلْ له بِدَوائِه )
( إنَّ الإِمامَ أَعلَّه ... ظُلْماً بحَدّ شَقائه )
( لا تُعْنِفنّ سِيَاقَهُ ... ما كُلُّ ذاك بِرَائِهِ )
( ما شِمْتُ هذا في مَخَايِلِ ... بَارِقاتِ سَمَائِه )

مدح الرشيد وأبناءه الثلاثة
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن

معاوية القرشي قال
لما عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة الأمين والمأمون والمؤتمن قال أبو العتاهية
( رَحَلْتُ عَنِ الرَّبْعِ المُحِيل قَعُودِي ... إلى ذي زُحُوفٍ جَمَّةٍ وجُنُودِ )
( وَراعٍ يُراعي اللَّيل في حِفْظِ أُمَّةٍ ... يُدافِع عنها الشرَّ غيرِ رَقُودِ )
( بِأَلْوِيَة جبريلُ يَقْدُم أهلَها ... ورَايات نَصْرٍ حولَه وبُنودِ )
( تَجَافَى عَنِ الدُّنْيا وأَيْقَن أَنَّها ... مُفَارِقَةٌ ليستْ بدَارِ خُلودِ )
( وشَدَّ عُرَا الإِسلامِ منه بِفِتْيةٍ ... ثَلاثةِ أملاكٍ وُلاَةِ عُهُودِ )
( هُمْ خيرُ أولادٍ لَهْمْ خيرُ وَالدٍ ... لَهُ خيرُ آباءٍ مَضَتْ وجُدود )
( بنو المصطفَى هارونَ حولَ سَرِيرِه ... فَخَيْرُ قِيَامٍ حولَه وقُعودِ )
( تُقَلِّبُ ألحاظَ المَهَابةِ بينهم ... عيونُ ظِبَاءٍ في قَلوبِ أُسُودِ )
( جُدُودُهمُ شمسٌ أتتْ في أَهِلَّةٍ ... تَنَدَّتْ لِرَاءٍ في نُجومٍ سُعُودِ )
قال فوصله الرشيد بصلة ما وصل بمثلها شاعرا قط
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي إجازة قال حدثني الرياشي قال
قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية وأنشده شيئا من شعره وكان يحسن العربية فمضى إلى ملك الروم وذكره له فكتب ملك الروم إليه ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية ويأخذ فيه رهائن من أراد وألح في ذلك
فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك فاستعفى منه وأباه
واتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه

وباب مدينته وهما

صوت
( ما اختلفَ اللَّيْلُ والنَّهارُ ولا ... دارتْ نجومُ السماء في الفَلَكِ )
( إلاّ لِنَقْلِ السُّلطانِ عن مَلِكٍ ... قَدِ انْقَضَى مُلْكُه إلى مَلِكِ )
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا الربيع بن محمد الختلي الوراق قال أخبرني ابن أبي العتاهية
أن الرشيد لما أطلق أباه من الحبس لزم بيته وقطع الناس فذكره الرشيد فعرف خبره فقال قولوا له صرت زير نساء وحلس بيت فكتب إليه أبو العتاهية
( بَرِمْتُ بِالنَّاسِ وأَخلاقِهِم ... فصِرْتُ أَسْتَأْنِسُ بِالوُحْدَهْ )
( ما أكثَرَ النَّاسَ لَعَمْرِي وما ... أَقَلَّهم في مُنْتَهى العِدَّهْ )
ثم قال لا ينبغي أن يمض شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها وهي
صوت
( عادَ لي من ذِكْرِها نَصَبُ ... فدموعُ العَين تَنْسكِبُ )
( وكذاكَ الحُبُّ صَاحِبُه ... يَعْتَرِيهِ الهَمُّ والوَصَبُ )
( خيرُ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَهَب ... مَلِكٌ دانتْ له العَرَبُ )

( وحقيقٌ أنْ يُدَانَ له ... مَنْ أبوه لِلنَّبِيّ أَبُ )

قال شعرا فأبكى الرشيد
حدثنا الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثنا محمد بن أبي العتاهية قال
قال الرشيد لأبي عظني فقال له أخافك
فقال له أنت آمن
فأنشده
( لا تَأُمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسٍ ... إذَا تَسَتَّرْتَ بِالأبواب والحَرَسِ )
( واعْلَمْ بأنّ سِهامَ الموت قاصدةٌ ... لكلِّ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرِسِ )
( ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ طَرِيقَتها ... إنّ السفينةَ لا تَجْرِي على اليَبسِ )
قال فبكى الرشيد حتى بل كمه
حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال
قال لي أحمد بن أبي فنن تناظرت أنا والفتح بن خاقان في منزله أيما الرجلين أشعر أبو نواس أم أبو العتاهية
فقال الفتح أبو نواس وقلت أبو العتاهية
ثم قلت لو وضعت أشعار العرب كلها بإزاء شعر أبي العتاهية لفضلها وليس بيننا خلاف في أن له في كل قصيدة جيدا ووسطا وضعيفا فإذا جمع جيده كان أكثر من جيد كل مجود
ثم قلت له بمن ترضى قال بالحسين بن الضحاك
فما انقطع كلامنا حتى دخل الحسين بن الضحاك فقلت ما تقول

في رجلين تشاجرا فضل أحدهما أبو نواس وفضل الآخر أبا العتاهية فقال الحسين أُمُّ من فضل أبا نواس على أبي العتاهية زانية فخجل الفتح حتى تبين ذلك فيه ثم لم يعاودني في شيء من ذكرهما حتى افترقنا
وقد حدثني الحسن بن محمد بهذا الخبر على خلاف ما ذكره إبراهيم بن المهدي فيما تقدم فقال حدثني هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال
جاءني أبو العتاهية فقال قد عزمت على أن أتزود منك يوما تهبه لي فمتى تنشط فقلت متى شئت
فقال أخاف أن تقطع بي
فقلت والله لا فعلت وإن طلبني الخليفة
فقال يكون ذلك في غد
فقلت أفعل فلما كان من غد باكرني رسوله فجئته فأدخلني بيتا له نظيفا فيه فرش نظيف ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ وخل وبقل وملح وجدي مشوي فأكلنا منه ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه حتى اكتفينا ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا وجاؤونا بفاكهة وريحان وألوان من الأنبذة فقال اختر ما يصلح لك منها فاخترت وشربت وصب قدحا ثم قال غنني في قولي
( أحمدٌ قال لي ولم يَدْرِ ما بي ... أَتُحِبُّ الغَداةَ عُتْبَةَ حَقَّا )
فغنيته فشرب قدحا وهو يبكي أحر بكاء
ثم قال غنني في قولي
( ليس لِمَنْ ليستْ له حِيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ مِنَ الصَّبرِ )
فغنيته وهو يبكي وينشج ثم شرب قدحا آخر ثم قال غنني فديتك في قولي
( خَلِيليَّ مالي لا تزالُ مَضَرَّتِي ... تكونُ مع الأَقدارِ حَتْماً من الحَتْمِ )

فغنيته إياه
وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره فأغنيه ويشرب ويبكي حتى صار العتمة
فقال أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع فجلست
فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين أيدنا من النبيذ وآلته والملاهي ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلته فأخرج جميعه فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء ثم نزع ثيابه واغتسل ثم لبس ثيابا بيضا من صوف ثم عانقني وبكى ثم قال السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده وجعل يبكي وقال هذا آخر عهدي بك في حال تعاشر أهل الدنيا فظننت أنها بعض حماقاته فانصرفت وما لقيته زمانا ثم تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل
فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته وضحكت والله ضحكا ما ضحكت مثله قط
فقال من أي شيء تضحك فقلت أسخن الله عينك هذا أي شيء هو من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة والمجانين إنزع عنك هذا يا سخين العين فكأنه استحيا مني
ثم بلغني أنه جلس حجاما فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره
ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه فأتيته عائدا فخرج إلي رسوله يقول إن دخلت إلي جددت لي حزنا وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه وأن أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الإلتقاء ثم كان آخر عهدي به
حدثني جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
قيل لأبي العتاهية عند الموت ما تشتهي فقال أشتهي أن يجيء مخارق

فيضع فمه على أذني ثم يغنيني
( سَيُعْرَضُ عن ذِكْرِي وتُنْسَى مَوَدّتي ... ويَحْدِثُ بعدي للخليلِ خليلُ )
( إذَا ما انقضتْ عنِّي مِنَ الدَّهْرِ مُدَّتِي ... فإنَّ غَنَاءَ الباكياتِ قَليلُ )
وأخبرني به أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال قال بشر بن الوليد لأبي العتاهية عند الموت ما تشتهي فذكر مثل الأول
وأخبرني به ابن عمار أبو العباس عن ابن أبي سعد عن محمد بن صالح أن بشرا قال ذلك لأبي العتاهية عند الموت فأجابه بهذا الجواب

آخر شعر قاله قبل موته
نسخت من كتاب هارون بن علي حدثني علي بن مهدي قال حدثني عبد الله بن عطية قال حدثني محمد بن أبي العتاهية قال آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه
( إلهي لا تُعَذَّبْنِي فإِنِّي ... مُقِرٌّ بالَّذي قد كان مِنِّي )
( فما لي حيلةٌ إلاّ رجائي ... لِعَفْوِك إنْ عَفَوْتَ وحُسْنُ ظَنِّي )
( وكَم مِنْ زَلَةٍ لي في الخَطَايا ... وأنتَ عليَّ ذو فَضْلٍ ومَنِّ )
( إذَا فَكَّرتُ في نَدَمي عليها ... عَضِضْتُ أَنامِلي وقَرَعْتُ سِنِّي )
( أجنُّ بِزَهْرةِ الدُّنْيا جُنونا ... وأَقْطَعُ طولَ عُمْري بالتَّمنِّي )
( ولَوْ أَنِّي صَدَقْتُ الزُّهْدَ عنها ... قلبتُ لأهلِها ظَهْرَ المِجَنِّ )
( يَظُنّ الناسُ بي خيراً وإِنِّي ... لَشَرُّ الخَلْقِ إنْ لم تَعْفُ عنِّي )

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثني أحمد بن حمزة الضبعي قال أخبرني أبو محمد المؤدب قال
قال أبو العتاهية لابنته رقية في علته التي مات فيها قومي يا بنية فاندبي أباك بهذه الأبيات فقامت فندبته بقوله
( لَعِبَ البِلَى بمَعَالِمي ورُسُومي ... وقُبِرْتُ حَيًّا تحت رَدْمِ هُمومي )
( لَزِمَ البِلَى جِسْمِي فَاَوْهَنَ قُوَّتي ... إنّ البِلَى لَمُوَكَّلٌ بِلُزومي )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح قال حدثني عل بن محمد قال حدثني مخارق المغني قال
توفي أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي وأبو عمرو الشيباني عبد السلام في يوم واحد في خلافة المأمون وذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن أحمد بن يوسف عن أحمد بن الخليل عن إسماعيل بن أبي قتسة قال
مات أبو العتاهية وراشد الخناق وهشيمة الخمارة في يوم واحد سنة تسع ومائتين
وذكر الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن سعد كاتب الواقدي أن أبا العتاهية مات في يوم الاثنين لثمان خلون من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة ومائتين ودفن حيال قنطرة الزياتين في الجانب الغربي ببغداد
أخبرني الصولي عن محمد بن موسى عن أبي محمد الشيباني عن محمد بن أبي العتاهية أن أباه توفي سنة عشر ومائتين

الشعر الذي كتب على قبره
أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى عن محمد بن القاسم عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن إسحاق بن عبد الله بن شعيب قال
أمر أبو العتاهية أن يكتب على قبره
( أُذْنَ حَيُّ تَسَمَّعِي ... إسْمَعِي ثُمّ عِي وعِي )
( أنا رَهْنٌ بِمَضْجَعِي ... فَاحذَرِي مِثْلَ مَصْرَعِي )
( عِشْتُ تسعينَ حِجَّةً ... أَسْلِمَتْني لمَضْجَعي )
( كَمْ ترى الحيَّ ثابتاً ... في دِيَارِ التزَعْزُعِ )
( ليس زادٌ سوى التُّقى ... فخُذِي منه أوْ دَعِي )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال
لما مات أبو العتاهية رثاه ابنه محمد بن أبي العتاهية فقال
( يا أبي ضَمَّكَ الثَّرَى ... وطَوَى الموتُ أَجْمَعَكْ )
( ليتَني يومَ مُتَّ صِرْتُ ... إلى حُفْرةٍ مَعَكْ )
( رحِمَ اللهُ مَصْرَعَكْ ... بَرَّدَ اللهُ مَضْجَعَك )
أخبرني الحسن قال حدثني أحمد بن زهير قال
قال محمد بن أبي العتاهية لقيني محمد بن أبي محمد اليزيدي فقال أنشدني الأبيات التي أوصى أبوك أن تكتب على قبره فأنشأت أقول له
( كَذَبْتَ علَى أخٍ لك في مَمَاتهْ ... وكَمْ كَذِبٍ فَشَا لك في حَيَاتهْ )
( وأَكْذَبُ ما تكونُ على صَدِيقٍ ... كَذَبْتَ عليه حَيًّا في مَمَاتهْ )

فخجل وانصرف
قال والناس يقولون إنه أوصى أن يكتب على قبره شعر له وكان ابنه ينكر ذلك
وذكر هارون بن علي بن مهدي عن عبد الرحمن بن الفضل أنه قرأ الأبيات العينية التي أولها
( أُذْنَ حَيٍّ تَسمَّعي ... )
على حجر عند قبر أبي العتاهية
ولم أذكر هاهنا مع أخبار أبي العتاهية أخباره مع عتبة وهي من أعظم أخباره لأنها طويلة وفيها أغان كثيرة وقد طالت أخباره هاهنا فأفردتها

أخبار فريدة
قال مؤلف هذا الكتاب هما اثنتان محسنتان لهما صنعة تسميان بفريدة
فأما إحداهما وهي الكبرى فكانت مولدة نشأت بالحجاز ثم وقعت إلى آل الربيع فعلمت الغناء في دورهم ثم صارت إلى البرامكة
فلما قتل جعفر بن يحيى ونكبوا هربت وطلبها الرشيد فلم يجدها ثم صارت إلى الأمين فلما قتل خرجت فتزوجها الهيثم بن مسلم فولدت له ابنه عبد الله ثم مات عنها فتزوجها السندي بن الحرشي وماتت عنده
ولها صنعة جيدة منها في شعر الوليد بن يزيد
صوت
( وَيْحَ سَلْمَى لو تَرَانِي ... لَعَنَاها ما عَنَانِي )
( واقفاً في الدَّار أبكِي ... عاشقاً حُورَ الغَوانِي )
ولحنها فيه خفيف رمل
ومن صنعتها

صوت
( ألا أَيّها الرَّكْبُ النِّيامُ ألاَ هُبُّوا ... نُسَائلُكُمْ هل يقتُل الرَّجُل الحُبُّ )
( ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قد وقفتُ مَطِيَّهُمْ ... عليكِ ولولا أنتِ لم يَقفِ الرَّكْبُ )
لحنها فيه ثاني ثقيل وفيه لابن جامع خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى
فحدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري قال حدثني الهيثم بن عدي قال
قال صالح بن حسان يوما ما نصف بيت كأنه أعرابي في شملة والنصف الآخر كأنه مخنث مفكك قلت لا أدري
فقال قد أجلتك حولا
فقلت لو أجلتني عشرة أحوال ما عرفته
فقال أوه أف لك قد كنت أحسبك أجود ذهنا مما أرى
فقلت فما هو الآن قال قول جميل
( أَلاَ أيّها الرَّكْبُ النِّيامُ ألاَ هُبُّوا ... )
هذا كلام أعرابي ثم قال
( أُسائلكم هل يقتل الرَّجلَ الحبُّ ... )
كأنه والله من مخنثي العقيق
وأما فريدة الأخرى فهي التي أرى بل لا أشك في أن اللحن المختار لها لأن إسحاق اختار هذه المائة الصوت للواثق فاختار فيها لمتيم لحنا ولأبي دلف لحنا ولسليم بن سلام لحنا ولرياض جارية أبي حماد لحنا
وكانت فريدة أثيرا عند الواثق وحظية لديه جدا فاختار لها هذا الصوت لمكانها من الواثق ولأنها ليست دون من اختار له من نظرائها
أخبرني الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى عن ريق أنها اجتمعت هي

وخشف الواضحية يوما فتذاكرتا أحسن ما سمعتاه من المغنيات فقالت ريق شارية أحسنهن غناء ومتيم وقالت خشف عريب وفريدة ثم اجتمعتا على تساويهن وتقديم متيم في الصنعة وعريب في الغزارة والكثرة وشارية وفريدة في الطيب وأحكام الغناء
حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال
كانت فريدة جارية الواثق لعمرو بن بانة وهو أهداها إلى الواثق وكانت من الموصوفات المحسنات وربيت عند عمرو بن بانة مع صاحبة لها اسمها خل وكانت حسنة الوجه حسنة الغناء حادة الفطنة والفهم
قال الهشامي فحدثني عمرو بن بانة قال غنيت الواثق
( قلتُ حِلاًّ فاقبَلِي مَعْذِرَتي ... ما كذا يَجْزِي مُحِبٌّ مَنْ أحَبّ )
فقال لي تقدم إلى الستارة فألقه على فريدة فألقيته عليها فقالت هو حل أو خل كيف هو فعلمت أنها سألتني عن صاحبتها في خفاء من الواثق
ولما تزوجها المتوكل أرادها على الغناء فأبت أن تغني وفاء للواثق فأقام على رأسها خادما وأمره أن يضرب رأسها أبدا أو تغني فاندفعت وغنت
( فَلا تَبْعَدْ فكُلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغَادي )

خبر لها مع الواثق
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني محمد

ابن الحارث بن بسخنر قال
كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة إذا حضرت ركبت إلى الدار فإن نشط إلى الشرب أقمت عنده وإن لم ينشط انصرفت
وكان رسمنا ألا يحضر أحد منا إلا في يوم نوبته
فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي إذا رسل الخليفة قد هجموا علي وقالوا لي احضر
فقلت ألخير قالوا خير
فقلت إن هذا يوم لم يحضرني فيه أمير المؤمنين قط ولعلكم غلطتم
قالوا الله المستعان لا تطل وبادر فقد أمرنا ألا ندعك تستقر على الأرض
فداحلني فزع شديد وخفت أن يكون ساع قد سعى بي أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة علي فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كنت أدخل فمنعت وأخذ بيدي الخدم فأدخلوني وعدلوا بي إلى ممرات لا أعرفها فزاد ذلك في جزعي وغمي
ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك وإذا الواثق في صدره على سرير مرصع بالجوهر وعليه ثياب منسوجة بالذهب وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفي حجرها عود
فلما رآني قال جودت والله يا محمد إلينا
فقبلت الأرض ثم قلت يا أمير المؤمنين خيرا قال خيرا أما ترانا طلبت والله ثالثا يؤنسنا فلم أر أحق بذلك منك فبحياتي بادر فكل شيئا وبادر إلينا فقلت قد والله يا سيدي أكلت وشربت أيضا
قال فاجلس فجلست وقال هاتوا لمحمد رطلا في قدح فأحضرت ذلك واندفعت فريدة تغني
( أَهابُكِ إجلالاً وما بك قدرةٌ ... عليَّ ولكِنْ مِلءُ عينٍ حَبِيبُها )

( وما هَجَرتْكِ النَّفْسُ يا لَيْلُ أَنَّها ... قَلتْكِ ولا أنْ قَلَّ منكِ نَصِيبُها )
فجاءت والله بالسحر وجعل الواثق يجاذبها وفي خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت وأغني أنا في خلال غنائها فمر لنا أحسن ما مر لأحد
فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة ضربة تدحرجت منها من أعلى السرير إلى الأرض وتفتت عودها ومرت تعدو وتصيح وبقيت أنا كالمنزوع الروح ولم أشك في أن عينه وقعت علي وقد نظرت إليها ونظرت إلي فأطرق ساعة إلى الأرض متحيرا وأطرقت أتوقع ضرب العنق
فإني لكذلك إذ قال لي يا محمد فوثبت
فقال ويحك أرأيت أغرب مما تهيأ علينا فقلت يا سيدي الساعة والله تخرج روحي فعلى من أصابنا بالعين لعنة الله فما كان السبب ألذنب قال لا والله ولكن فكرت أن جعفرا بقعد هذا المقعد ويقعد معها كما هي قاعدة معي فلم أطق الصبر وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت
فسري عني وقلت بل يقتل الله جعفرا ويحيا أمير المؤمنين أبدا وقبلت الأرض وقلت يا سيدي الله الله ارحمها ومر بردها
فقال لبعض الخدم الوقوف ما يجيء بها فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها وعليها غير الثياب التي كانت عليها
فلما رآها جذبها وعانقها فبكت وجعل هو يبكي واندفعت أنا في البكاء
فقالت ما ذنبي يا مولاي ويا سيدي وبأي شيء استوجبت هذا فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي
فقالت سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من الفكر في هذا وأرحت قلبك من الهم بي وجعلت تبكي ويبكي ثم مسحا أعينهما ورجعت إلى مكانها وأومأ إلى خدم وقوف بشيء لا أعرفه فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين وورق ورزما فيه ثياب كثيرة وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهر كان فيه فألبسها إياه وأحضرت

بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي وخمسة تخوت فيها ثياب وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا فلم نزل كذلك إلى الليل ثم تفرقنا

قصتها مع المتوكل
وضرب الدهر ضربة وتقلد المتوكل
فوالله إني لفي منزلي بعد يوم نوبتي إذ هجم علي رسل الخليفة فما أمهلوني حتى ركبت وصرت إلى الدار فأدخلت والله الحجرة بعينها وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير بعينه وإلى جانبه فريدة
فلما رآني قال ويحك أما ترى ما أنا فيه من هذه أنا منذ غدوة أطالبها بأن تغنيني فتأبى ذلك فقلت لها يا سبحان الله أتخالفين سيدك وسيدنا وسيد البشر بحياته غني فعرفت والله ثم اندفعت تغني
( مُقِيمٌ بالمَجَازةِ من قَنَوْنَى ... وأهلُكِ بالأُجَيْفِرِ فالثِّمادِ )
( فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتًى سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغادي )
ثم ضربت بالعود الأرض ثم رمت بنفسها عن السرير ومرت تعدو وهي تصيح واسيداه فقال لي ويحك ما هذا فقلت لا أدري والله يا سيدي
فقال فما ترى فقلت أرى أن أنصرف أنا وتحضر هذه ومعها غيرها فإن الأمر يؤول إلى ما يريد أمير المؤمنين قال فانصرف في حفظ الله فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الملك قال
سمعت فريدة تغني

( أخِلاَّيَ بي شَجوٌ وليس بكم شَجْوُ ... وكلُّ امرئٍ مما بِصاحبه خِلْوُ )
( أذابَ الهوى لَحْمِي وجسمي ومَفْصلِي ... فلم يَبقَ إلاّ الرُّوحُ والجَسَدُ النِّضْوُ )
فما سمعت قبله ولا بعده غناء أحسن منه
الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي وله أيضا فيه خفيف ثقيل بالسبابة والبنصر عن ابن المكي وفيه
لعمرو بن بانة رمل بالوسطى من مجموع أغانيه
وفيه لعريب خفيف ثقيل آخر صحيح في غنائها من جمع ابن المعتز وعلي بن يحيى
وتمام هذه الأبيات
( وما مِنْ مُحِبٍّ نال ممن يُحِبُّهُ ... هوًى صادقاً إلاّ سَيَدْخُلُه زَهْوُ )
وفيها كلها غناء مفترق الألحان في أبياته
( بُلِيتُ وكان المَزْحُ بدءَ بَلِيّتي ... فأَحببتُ جهلاً والبلايا لها بَدْوُ )
( وعُلِّقْتُ مَنْ يَزْهُو عليّ تَجَبُّراً ... وإِنِّيَ في كلِّ الخِصال له كُفْوُ )

صوت
من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه
( باتتْ هُمُومِي تَسْرِي طوارقها ... أكُفُّ عيني والدمعُ سابِقُها )
( لِمَا أتاها مِنَ اليقين ولم ... تَكُنْ تراه يُلِمُّ طارقُها )
الشعر لأميه بن أبي الصلت والغناء للهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى

وفيه لابن محرز لحنان هزج وثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش
وذكر يونس أن فيه لابن محرز لحنا واحدا مجنسا

ذكر أمية بن أبي الصلت ونسبه وخبره
واسم أبي الصلت عبد الله ين أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عنزة بن قسي وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن
هكذا يقول من نسبهم إلى قيس وقد شرح ذلك في خبر طريح
وأم أمية بن أبي الصلت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف
وكان أبو الصلت شاعرا وهو الذي يقول في مدح سيف بن ذي يزن
( لِيَطْلُبِ الثأْرَ أمثالُ ابنِ ذي يَزَنٍ ... إذ صارَ في البَحْرِ للأَعداء أحْوَالا )
وقد كتب خبر ذلك في موضعه
وكان له أربعة بنين عمرو وربيعة ووهب والقاسم
وكان القاسم شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه الأخفش وغيره عن ثعلب وذكر الزبير أنها لأمية
صوت
( قومٌ إذا نَزَلَ الغريبُ بدارِهِمْ ... رَدُّوه ربَّ صَواهِلٍ وقِيَانِ )
( لا يَنْكُتون الأرضَ عند سُؤالهمْ ... لِتَلِمُّسِ العِلاَّتِ بالعِيدانِ )

يمدح عبد الله بن جدعان بها وأولها
( قومي ثَقِيفٌ إنْ سألتَ وأسْرتي ... وبهم أُدافِع ركْنَ مَنْ عاداني )
غناه الغريض ولحنه ثقيل أول بالبنصر
ولابن محرز فيه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي جميعا
وكان ربيعة ابنه شاعرا وهو الذي يقول
( وإنْ يَكُ حَيًّا من إِيَادٍ فإِنَّنا ... وقَيْساً سَوَاءٌ ما بَقِينَا وما بَقُوا )
( ونحن خيارُ النَّاسِ طُرًّا بِطانةً ... لِقَيْسٍ وهُمْ خيرٌ لنا إنْ هُمُ بَقُوا )

أتى في شعره بكلمات غريبة
أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال
كان أمية بن أبي الصلت قد قرأ كتاب الله عز و جل الأول فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب فمنها قوله
( قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ ... )
وكان يسمى الله عز و جل في شعره السلطيط فقال
( والسِّلْطِيطُ فوق الأرض مُقْتَدِرُ ... )

وسماه في موضع آخر التغرور فقال وأيده التغرور وقال ابن قتيبة وعلماؤنا لا يحتجون بشيء من شعره لهذه العلة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال
قال أبو عبيدة إتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال
قال يحيى بن محمد قال الكميت أمية أشعر الناس قال كما قلنا ولم نقل كما قال

طمعه في النبوة
قال الزبير وحدثني عمي مصعب عن مصعب بن عثمان قال
كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدا وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وشك في الأوثان وكان محققا والتمس الدين وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب فكان يرجو أن يكونه
قال فلما بعث النبي قيل له هذا الذي كنت تستريث وتقول فيه فحسده عدو الله وقال إنما كنت أرجو أن أكونه فأنزل الله فيه عز و جل ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها )
قال وهو

الذي يقول
( كلُّ دِينٍ يومَ القيامةِ عند اللهِ ... إلاّ دِينَ الحَنِيفةِ زُورُ )
قال الزبير وحدثني يحيى بن محمد قال كان أمية يحرض قريشا بعد وقعة بدر وكان يرثي من قتل من قريش في وقعة بدر فمن ذلك قوله
( ماذا بِبَدْرٍ والعَقَنْقَلِ ... مِنْ مَرَازِبةٍ جَحَاجحْ )
وقال وهي قصيدة نهى رسول الله عن رواياتها
ويقال إن أمية قدم على أهل مكة باسمك اللهم فجعلوها في أول كتبهم مكان بسم الله الرحمن الرحيم
قال الزبير وحدثني علي بن محمد المدائني قال
قال الحجاج على المنبر ذهب قوم يعرفون شعر أمية وكذلك اندراس الكلام

تكدر بعد أن أخبر ببعثة النبي
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمر بن أبي بكر المؤملي وغيره قال
كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ويطمع في النبوة فخرج إلى الشام فمر بكنيسة وكان معه جماعة من العرب وقريش فقال أمية إن لي حاجة في هذه الكنيسة فانتظروني فدخل الكنيسة وأبطأ ثم خرج إليهم كاسفا متغير اللون فرمى بنفسه وأقاموا حتى سري عنه ثم مضوا فقضوا حوائجهم ثم رجعوا
فلما

صاروا إلى الكنيسة قال لهم
انتظروني ودخل إلى الكنيسة فأبطأ ثم خرج إليهم أسوأ من حاله الأولى فقال أبو سفيان بن حرب قد شققت على رفقائك
فقال خلوني فإني أرتاد على نفسي لمعادي إن هاهنا راهبا عالما أخبرني أنه تكون بعد عيسى عليه السلام ست رجعات وقد مضت منها خمس وبقيت واحدة وأنا أطمع في النبوة وأخاف أن تخطئني فأصابني ما رأيت
فلما رجعت ثانية أتيته فقال قد كانت الرجعة وقد بعث نبي من العرب فيئست من النبوة فأصابني ما رأيت إذ فاتني ما كنت أطمع فيه
قال وقال الزهري خرج أمية في سفر فنزلوا منزلا فأم أمية وجها وصعد في كثيب فرفعت له كنيسة فانتهى إليها فإذا شيخ جالس فقال لأمية حين رآه إنك لمتبوع فمن أين يأتيك رئيك قال من شقي الأيسر
قال فأي الثياب أحب إليك أن يلقاك فيها قال السواد
قال كدت تكون نبي العرب ولست به هذا خاطر من الجن وليس بملك وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه من شقه الأيمن وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض
قال الزهري وأتى أمية أبا بكر فقال يا أبا بكر عمي الخبر فهل أحسست شيئا قال لا والله قال قد وجدته يخرج العام

سؤاله عن عتبة بن ربيعة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال
سمعت خالد بن يزيد يقول إن أمية وأبا سفيان اصطحبا في تجارة إلى الشأم ثم ذكر نحوه وزاد فيه فخرج من عند الراهب وهو ثقيل
فقال له أبو سفيان إن بك لشرا فما قصتك قال خير أخبرني عن عتبة بن ربيعة كم سنه فذكر سنا
وقال أخبرني عن ماله فذكر مالا
فقال له وضعته
فقال أبو

سفيان
بل رفعته
فقال له إن صاحب هذا الأمر ليس بشيخ ولا ذي مال
قال وكان الراهب أشيب وأخبره أن الأمر لرجل من قريش
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثت عن عبد الرحمن بن أبي حماد المنقري قال
كان أمية جالسا معه قوم فمرت بهم غنم فثغت منها شاة فقال للقوم هل تدرون ما قالت الشاة قالوا لا
قال إنها قالت لسخلتها مري لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل أختك عام أول في هذا الموضع
فقام بعض القوم إلى الراعي فقال له أخبرني عن هذه الشاة التي ثغت ألها سخلة فقال نعم هذه سخلتها
قال أكانت لها عام أول سخلة قال نعم وأكلها الذئب في هذا الموضع

ذهب في شعره بعامة ذكر الآخرة
قال الزبير وحدثني يحيى بن محمد عن الأصمعي قال ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب
قال الزبير حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني رجل من أهل الكوفة قال
كان أمية نائما فجاء طائران فوقع أحدهما على باب البيت ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر فقال له الطائر الآخر أوعى قال نعم
قال زكا قال أبى

أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابي عن ابن دأب قال
خرج ركب من ثقيف إلى الشأم وفيهم أمية بن أبي الصلت فلما قفلوا راجعين نزلوا منزلا ليتعشوا بعشاء إذ أقبلت عظاية حتى دنت منهم فحصبها بعضهم بشيء في وجهها فرجعت وكفتوا سفرتهم ثم قاموا يرحلون ممسين فطلعت عليهم عجوز من رواء كثيب مقابل لهم تتوكأ على عصا فقالت ما منعكم أن تطعموا رجيمة الجارية اليتيمة التي جاءتكم عشية قالوا ومن أنت قالت أنا أم العوام إمت منذ أعوام أما ورب العباد لتفترقن في البلاد وضربت بعصاها الأرض ثم قالت بطئي إيابهم ونفري ركابهم فوثبت الإبل كأن على ذروة كل بعير منها شيطانا ما يملك منها شيء حتى افترقت في الوادي
فجمعناها في آخر النهار من الغد ولم نكد
فلما أنخناها لنرحلها طلعت علينا العجوز فضربت الأرض بعصاها ثم قالت كقولها الأول ففعلت الإبل كفعلها بالأمس فلم نجمعها إلا الغد عشية
فلما أنخناها لنرحلها أقبلت العجوز ففعلت كفعلها في اليومين ونفرت الإبل
فقلنا لأمية أين ما كنت تخبرنا به عن نفسك فقال اذهبوا أنتم في طلب الإبل ودعوني
فتوجه إلى ذلك الكثيب الذي كانت العجوز تأتي منه حتى علاه وهبط منه إلى واد فإذا فيه كنيسة وقناديل وإذا رجل مضطجع معترض على بابها وإذا رجل أبيض الرأس واللحية فلما رأى أمية قال إنك لمتبوع فمن أين يأتيك صاحبك قال من أذني اليسرى
قال فبأي الثياب يأمرك قال بالسواد
قال هذا خطيب الجن كدت والله أن تكونه ولم

تفعل إن صاحب النبوة يأتيه صاحبه من قبل أذنه اليمنى ويأمره بلباس البياض فما حاجتك فحدثه حديث العجوز فقال صدقت وليست بصادقة هي امرأة يهودية من الجن هلك زوجها منذ أعوام وإنها لن تزال تصنع ذلك بكم حتى تهلككم إن استطاعت
فقال أمية وما الحيلة فقال جمعوا ظهركم فإذا جاءتكم ففعلت كما كانت تفعل فقولوا لها سبع من فوق وسبع من أسفل باسمك اللهم فلن تضركم
فرجع أمية إليهم وقد جمعوا الظهر
فلما أقبلت قال لها ما أمره به الشيخ فلم تضرهم
فلما رأت الإبل لم تتحرك قالت قد عرفت صاحبكم وليبيضن أعلاه وليسودن أسفله فأصبح أمية وقد برص في عذاريه وأسود أسفله
فلما قدموا مكة ذكروا لهم هذا الحديث فكان ذلك أول ما كتب أهل مكة باسمك اللهم في كتبهم

خبر الطائرين اللذين حاورهما
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى قال حدثنا عبد العزيز بن عمران عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر بن مسعود عن الزهري قال
دخل يوما أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهيء أدما لها فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت
قال فانشق جانب من السقف في البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه فشق الواقع صدره فأخرج قلبه فشقه فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره أوعى قال وعى
قال أقبل قال أبى
قال فرد قلبه في موضعه فنهض فأتبعهما أمية طرفه فقال
( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا لَدَيْكُما )

لا بريء فاعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه ثم أخرج قلبه فشقه فقال الطائر الأعلى أوعى قال وعى
قال أقبل قال أبى ونهض فأتبعهما بصره وقال
( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا لديكُما )
لا مال يغنيني ولا عشيرة تحميني
فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه ثم أخرج قلبه فشقه فقال الطائر الأعلى أوعى قال وعى
قال أقبل أبى ونهض فأتبعهما بصره وقال
( لبَّيكما لبيكما ... هأنذا لديكما )
محفوف بالنعم محوط من الريب
قال فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه وأخرج قلبه فشقه فقال الأعلى أوعى فقال وعى قال أقبل قال أبى قال ونهض فأتبعهما بصره وقال
( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا ليدكما )
( إنْ تَغْفِر اللهمَّ تُغْفِرْ جمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألَمَّا )
قالت أخته ثم انطبق السقف وجلس أمية يمسح صدره فقلت يا أخي هل تجد شيئا قال لا ولكني أجد حرا في صدري ثم أنشأ يقول
( ليتني كنتُ قبل ما قد بدا لي ... في قِنَانِ الجبالِ أَرْعَى الوُعولاَ )
( إجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عينِك واحذَر ... غَوْلَةَ الدَّهْرِ إنّ للدّهر غُولاَ )

النبي شعره
حدثني محمد بن جرير الطبري قال حدثنا ابن حميد قال حدثني سلمة عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس
أن رسول الله صدق أمية في قوله
( رَجُلٌ وثورٌ تحت رِجْلِ يَمِينه ... والنَّسْرُ للأُخرى وليثٌ مُرْصَدُ )
فقال رسول الله ( صدق )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني حماد بن عبد الرحمن بن الفضل الحراني قال حدثنا أبو يوسف وليس بالقاضي عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي بمثل هذا

قول النبي إن كاد أمية ليسلم
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثنا جعفر بن الحسين المهلبي قال حدثني إبراهيم بن إبراهيم بن أحمد عن عكرمة قال أنشد النبي قول أمية
( الحمدُ للهِ مُمْسانا ومُصْبَحَنا ... بالخير صَبَّحَنا ربِّي ومَسَّانا )
( رَبُّ الحنيفةِ لم تَنْفدْ خزائنُها ... مملوءةً طَبَّق الآفاقَ سُلْطَانا )
( ألاَ نبيَّ لنا مِنّا فيُخبِرَنا ... ما بعدَ غايتنا من رأس مَحْيانا )
( بينَا يُربِّيننا آباؤنا هَلَكُوا ... وبينما نَقْتَني الأولادَ أفنانا )
( وقد عَلِمْنا لَو أنّ العلمَ ينفعنا ... أنْ سوف يَلْحقُ أُخْرانا بأولانا )

فقال النبي ( إن كاد أمية ليسلم )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثنا عبد الله بن أبي بكر وحدثنا خالد بن عمارة

أن أمية عتب على ابن له فأنشأ يقول
( غَذَوْتُك مولوداً ومُنْتُك يافعاً ... تعلُّ بما أجْني عليك وتَنْهلُ )
( إذا ليلةٌ نابَتْك بالشَّكْوِ لم أبِتْ ... لِشَكْواكَ إلاّ ساهراً أتَمَلْمَل )
( كأنِّي أنا المطروقُ دونَك بالَّذي ... طُرِقتَ به دُوني فعَيْنِي تَهْمُلُ )
( تخافُ الرَّدَى نفسي عليك وإِنَّني ... لأعلمُ أنّ الموتَ حَتْمٌ مُؤجَّلُ )
( فلمّا بلغتَ السِّنَّ والغايةَ التي ... إليها مَدى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ )
( جعلتَ جزائي غِلْظةً وفظاظةً ... كأنّك أنت المُنْعِمُ المُتَفضِّلُ )
قال الزبير قال أبو عمرو الشيباني قال أبو بكر الهذلي قال قلت لعكرمة ما رأيت من يبلغنا عن النبي أنه قال لأمية ( آمَنَ شِعْرُه وكَفَر قلبُه ) فقال هو حق
وما الذي أنكرتم من ذلك فقلت له أنكرنا قوله
( والشمسُ تطلعُ كلَّ آخرِ ليَلةٍ ... حمراءَ مَطْلعُ لوْنِها مُتَورِّدُ )
( تأبَى فلا تبدو لنا في رِسْلها ... إلاّ مُعَذَّبةً وإلاَّ تُجلَدُ )
فما شأن الشمس تجلد قال والذي نفسي بيده ما طلعت قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقولن لها اطلعي فتقول أأطلع على قوم يعبدونني من دون الله قال فيأتيها شيطان حين تستقبل الضياء يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع على قرنيه فيحرقه الله تحتها
وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب على قرنيه فيحرقه الله تحتها وذلك قول النبي

( تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان )
حدثني أحمد بن محمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد أنه سمع ابن حاضر يقول
اختلف ابن عباس وعمرو بن العاصي عند معاوية فقال ابن عباس ألا أغنيك قال بلى فأنشده
( والشمسُ تغربُ كلَّ آخرِ ليلةٍ ... في عين ذِي خُلُبٍ وتَأْطٍ حَرْمدِ )

أخباره في مرض موته
أخبرني الحرمي قال حدثنا عمي عن مصعب بن عثمان عن ثابت بن الزبير قال
لما مرض أمية مرضه الذي مات فيه جعل يقول قد دنا أجلي
وهذه المرضة منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد
قال ولما دنت وفاته أغمي عليه قليلا ثم أفاق وهو يقول
( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا لديكما )
لا مال يفديني ولا عشيرة تنجيني ثم أغمي عليه أيضا بعد ساعة حتى ظن من حضره من أهله أنه قد قضى ثم أفاق وهو يقول
( لَبَّيْكٌما لبيكما ... هأنذا لديكما )
لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر
ثم إنه بقي يحدث من حضره ساعة ثم أغمي

عليه مثل المرتين الأوليين حتى يئسوا من حياته وأفاق وهو يقول
( لبّيكما لبيكما ... هأنذا لديكما )
محفوف بالنعم
( إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تغفرْ جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا )
ثم أقبل على القوم فقال قد جاء وقتي فكونوا في أهبتي وحدثهم قليلا حتى يئس القوم من مرضه وأنشأ يقول
( كلُّ عيشٍ وإنْ تطاوَل دَهْراً ... مُنْتَهى أمرِه إلى أن يَزُولاَ )
( ليتَني كنتُ قبل ما قد بدَا لي ... في رُؤوس الجبال أَرْعَى الوُعولاَ )
( اجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عينيك واحذَر ... غَولَةَ الدّهر إنّ للدّهر غُولا )
ثم قضى نحبه ولم يؤمن بالنبي
وقد قيل في وفاة أمية غير هذا
أخبرني عبد العزيز بن أحمد عم أبي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال
سمعت في خبر أمية بن أبي الصلت حين بعث النبي أنه أخذ بنتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن ثم عاد إلى الطائف فبينما هو يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف وقد أودع ابنتيه اليمن ورجع إلى بلاد الطائف إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعب نعبة فقال أمية بفيك الكثكث وهو التراب فقال أصحابه ما يقول قال يقول إنك إذا شربت الكأس التي بيدك مت فقلت بفيك الكثكث ثم نعب نعبة أخرى فقال أمية نحو ذلك فقال أصحابه ما يقول قال زعم أنه يقع على هذه المزبلة أسفل القصر فيستثير

عظما فيبتلعه فيشجى به فيموت فقلت نحو ذلك
فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم فشجي به فمات فانكسر أمية ووضع الكأس من يده وتغير لونه
فقال له أصحابه ما أكثر ما سمعنا بمثل هذا وكان باطلا فألحوا عليه حتى شرب الكأس فمال في شق وأغمي عليه ثم أفاق ثم قال لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر ثم خرجت نفسه

صوت من المائة المختارة
( تَبَلتْ فؤادكَ في المنامِ خَرِيدةٌ ... تَشْفِي الضَّجِيعَ بباردٍ بَسّامِ )
( كالمِسْكِ تَخْلِطُه بماءِ سَحابةٍ ... أو عاتقٍ كدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ )
عروضه من - الكامل -
الشعر لحسان بن ثابت والغناء لموسى بن خارجة الكوفي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
وذكر حماد عن أبيه أن فيه لحنا لعزة الميلاء
وليس موسى بكثير الصنعة ولا مشهور ولا ممن خدم الخلفاء

أخبار حسان بن ثابت ونسبه
هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار واسمه تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة وهو العنقاء بن عمرو وإنما سمي العنقاء لطول عنقه وعمرو هو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق ابن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد وهو ذرى وقيل ذراء ممدود بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
قال مصعب الزبيري فيما أخبرنا به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عمه قال بنو عدي بن عمرو بن مالك بن النجار يسمون بني معالة
ومعالة أمه وهي امرأة من القين وإليها كانوا ينسبون
وأم حسان بن ثابت بن المنذر الفريعة بنت خالد بن قيس بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج
وقيل إن اسم النجار تيم اللات وفي ذلك يقول حسان بن ثابت
( وأُمُّ ضِرَارٍ تَنْشُدُ النّاسَ وَالِهاً ... أمَا لابنَ تيْمِ اللهِ ماذا أَضَلَّتِ )
يعني ضرار بن عبد المطلب وكان ضل فنشدته أمه وإنما سماه رسول الله

تيم الله لأن الأنصار كانت تنسب إليه فكره أن يكون في أنسابها ذكر اللات
ويكنى حسان بن ثابت أبا الوليد
وهو فحل من فحول الشعراء
وقد قيل إنه أشعر أهل المدر
وكان أحد المعمرين من المخضرمين عمر مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام

سنوات عمره الطويلة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال عاش ثابت ابن المنذر مائة وخمسين سنة وعاش حسان مائة وعشرين سنة
ومما يحقق ذلك ما أخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن حسين عن إبراهيم بن محمد عن صالح بن إبراهيم عن يحيى بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن حسان بن ثابت قال إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان إذا بيهودي بيثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فلما اجتمعوا إليه قالوا ويلك مالك قال طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة
قال ثم أدركه اليهودي ولم يؤمن به
فهذا يدل على مدة عمره في الجاهلية لأنه ذكر أنه أدرك ليلة ولد النبي وله يومئذ ثمان سنين والنبي بعث وله أربعون سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة فقدم المدينة ولحسان يومئذ على ما ذكره ستون سنة أو إحدى وستون سنة وحينئذ أسلم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثني ابن أبي الزناد قال
عمر حسان بن ثابت عشرين ومائة سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام

قال أخبرني الحسن بن علي قال أخبرني أحمد بن زهير قال حدث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار قال
رأيت حسان بن ثابت وله ناصية قد سدلها بين عينيه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال
كان حسان بن ثابت يخضب شاربه وعنفقته بالحناء ولا يخضب سائر لحيته فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت لم تفعل هذا قال لأكون كأني أسد والغ في دم

بماذا أفضل الشعراء
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
فضل حسان الشعراء بثلاث كان شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي في النبوة وشاعر اليمن كلها في الإسلام
قال أبو عبيدة وأجمعت العرب على أن حسان أشعر أهل المدر
أخبرنا بذلك أيضا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة قال
اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدر أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف وعلى أن أشعر أهل يثرب حسان بن ثابت
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عفان قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال

جاء حسان إلى نفر فيهم أبو هريرة فقال أنشدك الله أسمعت رسول الله يقول أجب عني ثم قال اللهم أيده بروح القدس قال أبو هريرة اللهم نعم

عارض شعراء قريش
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال سمعت محمد بن سيرين قال أبو زيد وحدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن محمد بن سيرين قال
كان يهجو رسول الله ثلاثة رهط من قريش عبد الله بن الزبعري وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاصي فقال قائل لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أهج عنا القوم الذين قد هجونا
فقال علي رضي الله عنه إن أذن لي رسول الله فعلت فقال رجل يا رسول الله ائذن لعلي كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا
قال ليس هناك أو ليس عنده ذلك ثم قال للأنصار ما منع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم فقال حسان بن ثابت أنا لها وأخذ بطرف لسانه وقال والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء
فقال كيف تهجوهم وأنا منهم فقال إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين قال فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة
فكان حسان وكعب

يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر
قال فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب وأهون القول عليهم قول ابن رواحة
فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي قال حدثنا أبو يونس القشيري وهو حاتم بن أبي صغيرة قال حدثنا سماك بن حرب قال
قال حسان أبو الحسام فقال يا رسول الله ائذن لي فيه وأخرج لسانا له أسود فقال يا رسول الله لو شئت لفريت به المزاد ائذن لي فيه
فقال اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم ثم اهجهم وجبريل معك
قال أبو زيد قال ابن وهب وحدثنا بهذا الحديث حاتم عن السدي عن البراء بن عازب وعن سماك بن حرب فأنا أشك أهو عن أحدهما أم عنهما جميعا قال أبو زيد وحدثنا علي بن عاصم قال حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب بنحوه وزاد فيه فأخرج لسانه أسود فوضعه على طرف أرنبته وقال يا رسول الله لو شئت لفريت به المزاد فقال يا حسان وكيف وهو مني وأنا منه قال والله لأسلنه منك كما يسل الشعر من العجين قال يا

حسان فأت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك فأتى أبا بكر فأعلمه ما قال رسول الله فقال كف عن فلانة واذكر فلانة
فقال
( هَجَوْت محمداً فأجَبْتُ عنه ... وعندَ اللهِ في ذاك الجَزَاءُ )
( فإِنّ أَبي ووالدَه وعِرْضي ... لِعرِض محمد منكم وِقَاءُ )
أتهجوه و لستَ له بكُفْءٍ ... فشَرُّكُما لخيْرِكُما الفِدَاء )

قريش تتهم أبا بكر في شعر حسان
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أحمد بن سليمان عن الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال
لما أنشدت قريش شعر حسان قالت إن هذا الشتم ما غاب عن ابن أبي قحافة
قال الزبير وحدثني محمد بن يحيى عن يعقوب بن إسحاق بن مجمع عن رجل من بني العجلان قال
لما بلغ أهل مكة شعر حسان ولم يكونوا علموا أنه قوله جعلوا يقولون لقد قال أبو بكر الشعر بعدنا
قال الزبير وحدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن فضالة عن أبيه عن خالد بن محمد بن فضالة عن أبيه عن خالد بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال
نهى عمر بن الخطاب الناس أن ينشدوا شيئا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال في ذلك شتم الحي بالميت وتجديد الضغائن وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام فقدم المدينة عبد الله بن الزبعري السهمي وضرار

ابن الخطاب الفهري ثم المحاربي فنزلا على أبي أحمد بن جحش وقالا له نحب أن ترسل إلى حسان بن ثابت حتى يأتيك فننشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا
فأرسل إليه فجاءه فقال له يا أبا الوليد هذان أخواك ابن الزبعري وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالا لك وقلت لهما
فقال ابن الزبعري وضرار نعم يا أبا الوليد إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا
فقال حسان أفتبدآن أم أبدأ قالا نبدأ نحن
قال ابتدئا فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبا ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة فخرج حسان حتى دخل على عمر بن الخطاب فقص عليه قصتهما وقصته
فقال له عمر لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله وأرسل من يردهما وقال له عمر لو لم تدركهما إلا بمكة فارددهما علي
وخرجا فلما كانا بالروحاء رجع ضرار إلى صاحبه بكرة فقال له يا بن الزبعري أنا أعرف عمر وذبه عن الإسلام وأهله وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا فأرسل في آثارنا وقال لرسوله إن لم تلحقهما إلا بمكة فارددهما علي فاربح بنا ترك العناء وأقم بنا مكاننا فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها وإن أخطأ ظني فذلك الذي نحب ونحن من وراء المضي
فقال ابن الزبعري نعم ما رأيت
قال فأقاما بالروحاء فما كان إلا كمر الطائر حتى وافاهما رسول عمر فردهما إليه فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله فقال لحسان أنشدهما مما قلت لهما فأنشدهما حتى فرغ مما قال لهما فوقف
فقال له عمر أفرغت قال نعم
فقال له أنشداك

في الخلاء وأنشدتهما في الملا
وقال لهما عمر إن شئتما فأقيما وإن شئتما فانصرفا
وقال لمن حضره إني قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا دفعا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم فأما إذا أبوا فاكتبوه واحتفظوا به
فدونوا ذلك عندهم
قال خلاد بن محمد فأدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه

هجاؤه لأبي سفيان بن الحارث
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا عمران بن زيد قال سمعت أبا إسحاق قال في قصة حسان وأبي سفيان بن الحارث نحو ما ذكره مما قدمنا ذكره وزاد فيه فقال حسان فيه
( وإنّ سَنَامَ المَجْدِ من آلِ هاشمٍ ... بنو بِنْتِ مَخْزومٍ ووالدُك العَبْدُ )
( ومَنْ ولدتْ أبناء زُهْرةَ منكُم ... كرامٌُ ولم يَلْحَقْ عجائزَك المَجْدُ )
( وإنّ امْرَأً كانتْ سُمَيّةُ أُمَّهُ ... وسَمْراءُ مغلوبٌ إذا بَلَغ الجَهْدُ )
( وأنت هَجِينٌ نِيطَ في آل هاشمٍ ... كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكب القَدَحُ الفَرْدُ )
فقال العباس ومالي وما لحسان يعني في ذكره نتيلة فقال فيها

( ولَسْتَ كَعبَّاسٍ ولا كابن أُمِّهِ ... ولكن هَجِينٌ ليس يُورَى له زَنْدُ )
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا القعنبي قال حدثنا مروان بن معاوية قال حدثنا إياس السلمي عن ابن بريدة قال
أعان جبريل عليه السلام حسان بن ثابت في مديح النبي بسبعين بيتا

النبي يمدح حسان وكعبا وابن رواحة
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا سعيد بن عامر قال حدثني جويرية بن أسماء قال
بلغني أن رسول الله قال أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان ويعلى ابن شداد بن أوس عن عائشة قالت
سمعت رسول الله يقول لحسان بن ثابت الشاعر إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما كافحت عن الله عز و جل وعن رسول الله
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف بن محمد قال
قال النبي ليلة وهو في سفر أين حسان بن ثابت فقال حسان لبيك يا رسول الله وسعديك
قال احْدُ فجعل ينشد ويصغي إليه النبي ويستمع فما زال يستمع إليه وهو سائق راحلته حتى كان رأس الراحلة يمس

الورك حتى فرغ من نشيده
فقال النبي ( لهذا أشد عليهم من وقع النبل )

رده على عمر عندما انتهره لانشاده في المسجد
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا أبو عاصم النبيل قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنا زياد بن أبي سهل قال حدثني سعيد بن المسيب
أن عمر مر بحسان بن ثابت وهو ينشد في مسجد رسول الله فانتهره عمر فقال حسان
قد أنشدت فيه من هو خير منك فانطلق عمر
أخبرنا أحمد قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب
أن عمر مر على حسان وهو ينشد في مسجد رسول الله فذكر مثله وزاد فيه وعلمت أنه يريد النبي
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا شجاع بن الوليد عن الإفريقي عن مسلم بن يسار
أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله فأخذ بأذنه وقال أرغاء كرغاء البعير فقال حسان دعنا عنك يا عمر فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فلا يغير علي فصدقه عمر
مدح الزبير بن العوام
حدثنا محمد بن جرير الطبري والحرمي بن أبي العلاء وعبد العزيز بن أحمد عم أبي وجماعة غيرهم قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو غزية محمد بن موسى قال حدثني عبد الله بن مصعب عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن

جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت
مر الزبير بن العوام بمجلس من أصحاب رسول الله وحسان بن ثابت ينشدهم من شعره وهم غير نشاط لما يسمعون منه فجلس معهم الزبير فقال مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة فلقد كان يعرض لرسول الله فيحسن استماعه ويجزل عليه ثوابه ولا يشتغل عنه بشيء
فقال حسان
( أقامَ على عهد النبيّ وهَدْيِهِ ... حَوَاريُّه والقَوْلُ بالفِعْل يُعْدَلُ )
( أقامَ على مِنْهاجِه وطَرِيقِهِ ... يَوالِي وَلِيَّ الحقِّ والحَقُّ أعدل )
( هو الفارسُ المشهورُ والبَطَلُ الذي ... يَصُولُ إذا ما كان يومٌ مُحَجَّلِ )
( إذا كَشَفتْ عن ساقها الحربُ حَشَّها ... بأبيض سَباقٍ إلى الموتِ يُرْقِل )
( وإنَّ امرأً كانتْ صَفِيةُ أُمَّةُ ... ومِنْ أَسَدٍ في بيتها لمَرَفَّلُ )
( له من رسول الله قُربَى قريبةٌ ... ومِنْ نُصْرة الإِسلامِ نصرٌ مُؤَثَّلُ )
( فكَمْ كُرْبةٍ ذَبَّ الزُّبَيْرُ بسيفه ... عَنِ المصطفى واللهٌ يُعْطِي فيُجْزِلُ )
( فما مثلُه فيهم ولا كان قبلَه ... وليس يكون الدَّهْرَ ما دام يَذْبُلُ )
( ثناؤك خيرٌ من فِعال مَعَاشِرٍ ... وفِعْلُك يابنَ الهاشميّة أفضلُ )

النبي يختاره لحماية أعراض المسلمين
أخبرني أحمد بن عيسى العجلي قال حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال حدثنا ابن فضيل عن مجالد عن الشعبي قال
لما كان عام الأحزاب وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا قال النبي ( من يحمي أعراض المسلمين ) فقال كعب أنا يا رسول الله وقال عبد الله ابن رواحة أنا رسول الله وقال حسان بن ثابت أنا يا رسول الله فقال نعم أهجهم أنت فإنه سيعينك عليهم روح القدس
أخبرني أحمد بن عبد الرحمن قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير قال
كنا عند ابن عباس فجاء حسان فقالوا قد جاء اللعين
فقال ابن عباس ما هو بلعين لقد نصر رسول الله بلسانه ويده
حدثنيه أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا حديج بن معاوية قال حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير قال
جاء رجل إلى ابن عباس فقال قد جاء اللعين حسان من الشام
فقال ابن عباس ما هو بلعين لقد جاهد مع رسول الله بلسانه ونفسه
حسان يجيب شاعر وفد تميم
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا عبد الله بن عمرو وشريح بن النعمان قالا حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت
لما قدم وفد بني تميم وضع النبي لحسان منبرا وأجلسه عليه وقال إن الله ليؤيد حسان بروح القدس ما كافح عن نبيه
هكذا روى أبو زيد هذا

الخبر مختصرا
وأتينا به على تمامه هاهنا لأن ذلك حسن فيه أخبرنا به الحسن ابن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الضحاك عن أبيه قال
قدم على النبي وفد بني تميم وهم سبعون أو ثمانون رجلا فيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم وانطلق معهم عيينة بن حصن فقدموا المدينة فدخلوا المسجد فوقفوا عند الحجرات فنادو بصوت عال جاف أخرج إلينا يا محمد فقد جئنا لنفاخرك وقد جئنا بشاعرنا وخطيبنا فخرج إليهم رسول الله فجلس
فقام الأقرع بن حابس فقال والله إن مدحي لزين وإن ذمي لشين
فقال النبي ذلك الله
فقالوا إنا أكرم العرب
فقال رسول الله أكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام
فقالوا ايذن لشاعرنا وخطيبنا
فقام رسول الله فجلس وجلس معه الناس فقام عطارد بن حاجب فقال
الحمد لله الذي له الفضل علينا وهو أهله الذي جعلنا ملوكا وجعلنا أعز أهل المشرق وأتانا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف ليس في الناس مثلنا ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ولو نشاء لأكثرنا

ولكنا نستحي من الإكثار فيما خولنا الله وأعطانا
أقول هذا فأتوا بقول أفضل من قولنا أو أمر أبين من أمرنا ثم جلس
فقام ثابت بن قيس بن شماس فقال الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يقض شيئا إلا من فضله وقدرته فكان من قدرته أن اصطفى من خلقه لنا رسولا أكرمهم حسبا وأصدقهم حديثا وأحسنهم رأيا فأنزل عليه كتابا وأتمنه على خلقه وكان خيرة الله من العالمين
ثم دعا رسول الله إلى الإيمان فأجابه من قومه وذوي رحمه المهاجرين أكرم الناس أنسابا وأصبح الناس وجوها وأفضل الناس فعالا
ثم كان أول من اتبع رسول الله من العرب واستجاب له نحن معشر الأنصار فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا ويقولوا لا إله إلا الله
فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه
ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في الله وكان جهاده علينا يسيرا
أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات
فقام الزبرقان فقال
( نحنُ الملوكُ فلا حيٌّ يُقَارِبُنا ... مِنّا الملوكُ وفينا يُؤْخَذُ الرُّبًعُ )
( تلك المكارمُ حُزْنَاها مُقَارَعةً ... إذا الكرامُ على أمثالها اقترعوا )
( كَمْ قد نَشَدْنا مِنَ الأحياءِ كُلِّهمُ ... عند النِّهاب وفضلُ العِزِّ يُتَّبَعُ )

( ونَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً في مَنازلنا ... للنازلين إِذا ما اسْتَطْعَموا شَبِعوا )
( ونحن نُطْعِم عند المَحْلِ ما أكلوا ... من العَبِيطِ إذا لم يَظْهَرِ القَزَعُ )
( وننصر الناسَ تأتينا سَرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أوْبٍ فتَمْضِي ثم تُتَّبَعُ )
فأرسل رسول الله إلى حسان بن ثابت فجاء فأمره أن يجيبه
فقال حسان
( إنّ الذوائبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتِهمْ ... قد بَيَّنُوا سُنَّةً للنّاسِ تُتَّبَعُ )
( يَرْضَى بها كلُّ مَنْ كانت سريرتُه ... تَقْوَى الإِلهِ وبالأمرِ الذي شَرَعُوا )
( قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أو حاولوا النَّفْع في أَشياعهم نَفَعُوا )
( سجِيَّةٌ تلك منهم غيرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الخلائقَ فاعلَمْ شَرُّها البِدَع )
( لا يَرْقَعُ النّاسُ ما أوهتْ أكُفُّهُمُ ... عند الدِّفاع ولا يُوهُون ما رَقَعوا )
( إنْ كان في الناسِ سَبَّاقون بعدَهُمُ ... فكُلُّ سَبْقٍ لأدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ )
( أعفَّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْي عِفَّتُهمْ ... لا يَطْمَعون ولا يُزْري بهم طَمَعُ )
( ولا يَضِنُّونَ عن جارٍ بِفَضْلِهِمُ ... ولا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ )
( يَسْمُون للحرب تبدو وهي كالحةٌ ... إذا الزَّعَانِفُ من أظفارِها خَشَعُوا )
( لا يَفْرَحون إذا نالوا عَدُوَّهُمُ ... وإنُ أصيبوا فلا خُورٌ ولا جُزُعُ )
( كأنَّهم في الوَغَى والموتُ مُكتَنِعٌ ... أُسُودُ بِيشَةَ في أرساغها فَدَعُ )

( خُذْ منهمُ ما أتى عَفْواً وإنْ مَنَعُوا ... فلا يَكُنْ هَمُّكَ الأمرَ الذي مَنَعُوا )
( فإِنّ في حَرْبِهم فاتْرُكْ عداوتَهم ... سُماًّ يُخَاض عليه الصَّابُ والسَّلَعُ )
( أَكْرِمْ بَقْومٍ رسولُ الله قائدُهُمْ ... إذا تَفَرّقَتِ الأهواءُ والشِّيَعُ )
( أَهْدَى لهم مِدَحِي قلبٌ يؤازِرُهُ ... فيما أراد لسانٌ حائِكٌ صَنَعُ )
( فإِنّهم أفضلُ الأحياء كلِّهِمُ ... إنْ جَدّ بالناس جِدُّ القولِ أو شَمَعُوا )
فقام عطارد بن حاجب فقال
( أتيناك كيما يعلمَ الناسُ فضلنَا ... إذا اجتمعوا وقتَ احتضارِ المَوَاسِم )
( بأنّا فُروعُ الناسِ في كلِّ موطنٍ ... وأنْ ليس في أرض الحجاز كَدَارِمِ )
فقام حسان بن ثابت فقال
( مَنَعْنا رسولَ الله من غَضَبٍ له ... على أَنْفِ راضٍ من مَعَدٍّ وراغمِ )
( هَلِ المجدُ إلاّ السُّؤْدُدُ العَوْدُ والنَّدَى ... وجاهُ الملوكِ واحتمالُ العظائِم )
قال فقال الأقرع بن حابس والله إن هذا الرجل لمؤتى له والله لشاعره أشعر من شاعرنا ولخطيبه أخطب من خطيبنا ولأصواتهم أرفع من أصواتنا أعطني

يا محمد فأعطاه
فقال زدني فزاده
فقال اللهم إنه سيد العرب
فنزلت فيهم ( إِنَّ الَّذينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ثم إن القوم أسلموا وأقاموا عند النبي يتعلمون القرآن ويتفقهون في الدين
ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم رسول الله وكساهم وقال ( أما بقي منكم أحد ) وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم فقال قيس بن عاصم وهو من رهطه وكان مشاحنا له لم يبق أحد إلا غلام حديث السن في ركابنا فأعطاه رسول الله مثل ما أعطاهم
فبلغ عمرا ما قال قيس فقال عمرو بن الأهتم لقيس
( ظَلِلْتَ مُفْتَرِشَ الهَلْباء تَشْتُمني ... عند الرسول فلم تَصْدُقْ ولم تُصِبِ )
( إنْ تُبْغِضونا فإِنَّ الرُّومَ أصلُكُمُ ... والرومُ لا تملِك البغضاء للعَرَبِ )
( فإِنَّ سُؤْدُدَنا عَوْدٌ وسُؤْددكم ... مُؤَخَّرٌ عند أصل العَجْبِ والذَّنَبِ )
فقال له قيس
( لولاَ دفاعي كنتمُ أَعْبُدَّاً ... دَارُكُم الحِيرةُ والسَّيْلَحُونْ )

شعره الذي يقرر به إيمانه بالرسل
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عمر بن علي بن مقدم عن يحيى بن سعيد عن أبي حيان التيمي عن حبيب ابن أبي ثابت قال أبو زيد وحدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال حدثنا مسعر عن سعد بن إبراهيم قالوا

قال حسان بن ثابت للنبي

صوت
( شَهِدتُ بإِذن الله أن محمداً ... رسولُ الذي فوق السّمواتِ من عَلُ )
( وأنَّ أخا الأحقاف إِذ يَعْذُلونه ... يقومُ بدِين الله فيهم فيَعدِلُ )
( وأنَّ أبا يحيى ويحيى كِلاهما ... له عَمَلٌ في دينِه مُتَقَبَّلُ )
( وأنّ الذي عادَى اليهودَ ابَن مَرْيَمٍ ... رسولٌ أتَى من عند ذي العرش مُرْسَلُ )
( وأنَّ الذي بالجِزْعِ من بطن نَخْلةٍ ... ومَنْ دونَها فِلٌّ من الخير مَعْزِلُ )
غنى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل أول بالبنصر من رواية يونس وغيره فقال النبي ( أنا أشهد معك )
أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثني جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق وأخبرني بها أحمد بن عيسى العجلي

قال حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال
دخلت على عائشة وعندها حسان وهو يرثي بنتا له وهو يقول
( رَزَانٌ حَصَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحوم الغَوَافِل )
فقالت عائشة لكن أنت لست كذلك
فقلت لها أيدخل عليك هذا وقد قال الله عز و جل ( وَالَّذي تَوَلَّى كِبْرَهُ منْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) فقالت أما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره

تنبأ بوقعة صفين قبل وقوعها
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا ابن أبي أويس قال حدثني أبي ومالك بن الربيع بن مالك حدثاني جميعا عن الربيع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه أنه قال
بينا نحن جلوس عند حسان بن ثابت وحسان مضطجع مسند رجليه إلى فارع قد رفعهما عليه إذ قال مه أما رأيتم ما مر بكم الساعة قال مالك

قلنا لا والله وما هو فقال حسان فاختة مرت الساعة بيني وبين فارع فصدمتني أو قال فزحمتني
قال قلنا وما هي قال
( ستأتيكمُ غَدْواً أحاديثُ جَمَّةٌ ... فأَصغُوا لها آذانَكم وتَسَمَّعُوا )
قال مالك بن أبي عامر فصبحنا من الغد حديث صفين
أخبرنا وكيع قال حدثنا الليث بن محمد عن الحنظلي عن أبي عبدة عن العلاء بن جزء العنبري قال
بينا حسان بن ثابت بالخيف وهو مكفوف إذ زفر زفرة ثم قال
( وكأنَّ حافَرها بكلِّ خَمِيلةٍ ... صاعٌ يَكِيلُ به شحيحٌ مُعْدمُ )
( عارِي الأَشَاجِعِ من ثَقِيفٍ أصلُه ... عبدٌ ويزعمُ أنَّه مِنْ يَقْدُم )
قال والمغيرة بن شعبة جالس قريبا منه يسمع ما يقول فبعث إليه بخمسة آلاف درهم
فقال من بعث بهذا قال المغيرة بن شعبة سمع ما قلت
قال واسوءتاه وقبلها
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الأصمعي قال

جاء الحارث بن عوف بن أبي حارثة إلى النبي فقال أجرني من شعر حسان فلو مزج البحر بشعره لمزجه قال وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد ابن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن الأصمعي وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب أن الحارث بن عوف أتى رسول الله فقال ابعث معي من يدعو إلى دينك وأنا له جار
فأرسل معه رجلا من الأنصار
فغدرت بالحارث عشيرته فقتلوا الأنصاري فقدم الحارث على رسول الله وكان لا يؤنب أحدا في وجهه فقال ( ادعوا لي حسان ) فدعي له
فلما رأى الحارث أنشده
( يا حَارِ مَنْ يَغْدِرْ بذِمّة جارِه ... منكُمْ فإِنّ محمداً لم يَغْدِرِ )
( إنْ تَغْدِرُوا فالغَدْرُ منكم شِيمةٌ ... والغدرُ ينبتُ في أُصول السَّخْبَر )
فقال الحارث اكففه عني يا محمد وأؤدي إليك دية الخفارة فأدى إلى النبي سبعين عشراء وكذلك دية الخفارة وقال يا محمد أنا عائذ بك من شره فلو مزج البحر بشعره مزجه

النبي يعوضه بعد أن ضربه ابن المعطل
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرنا العطاف بن خالد قال
كان حسان بن ثابت يجلس إلى أطمه فارع ويجلس معه أصحاب له ويضع لهم بساطا يجلسون عليه فقال يوما وهو يرى كثرة من يأتي إلى النبي من العرب فيسلمون

( أرَى الجَلاَبيبَ قد عَزُّوا وقد كَثُروا ... وابنُ الفُرَيْعَةِ أمسَى بَيْضَة البَلَد )
فبلغ ذلك رسول الله فقال ( من لي بأصحاب البساط بفارع )
فقال صفوان بن المعطل أنا لك يا رسول الله منهم فخرج إليهم فاخترط سيفه فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه ففروا وتبددوا وأدرك حسان داخلا بيته فضربه وفلق أليته
قال فبلغنا أن النبي عوضه وأعطاه حائطا فباعه من معاوية بعد ذلك بمال كثير فبناه معاوية قصرا وهو الذي يقال له قصر الدارين
وقد قيل إن صفوان بن المعطل إنما ضرب حسان لما قاله فيه وفي عائشة زوج النبي من الإفك لأن صفوان هو الذي رمى أهل الإفك عائشة به
وأخبرنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة قال
اعترض صفوان بن المعطل حسان بن ثابت بالسيف لما قذفه به من الإفك حين بلغه ما قاله
وقد كان حسان قال شعرا يعرض بابن المعطل وبمن أسلم من العرب من مضر فقال

( أمَسى الجَلاَبِيبُ قد عَزُّوا وقد كَثُروا ... وابنُ الفُرَيْعةِ أمَسى بَيْضَةَ البَلَدِ )
( قد ثَكِلَتْ أُمُّه مَنْ كنتُ صاحبهَ ... أو كان مُنْتَشِباً في بُرْثُنِ الأسَدِ )
( ما للقتيل الذي أعدُوا فآخُذُه ... من دِيةٍ فيه أُعْطِيها ولا قَوَدِ )
( ما البحرُ حين تَهُبُّ الرِّيحُ شَامِيةً ... فَيَغْطئلُّ ويَرْمي العِبْرَ بالزَّبَدِ )
( يوماً بأغلبَ منِّي حين تُبْصِرُني ... بالسيف أفْرِي كفَرْي العَارِضِ البَرِدِ )
فاعترضه صفوان بن المعطل بالسيف فضربه وقال
( تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عنِّي فإِنّني ... غلامٌ إذا هُوجِيتُ لستُ بشاعر )
وحدثنا محمد بن جرير وقال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي
أن ثابت بن قيس بن الشماس أخا بلحارث بن الخزرج وثب على صفوان ابن المعطل في ضربه حسان فجمع يديه على عنقه فانطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال ما هذا فقال ألا أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله
فقال له عبد الله بن رواحة هل علم رسول الله بشيء من هذا قال لا والله
قال لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه
ثم أتوا رسول الله فذكر ذلك له فدعا حسان وصفوان بن المعطل فقال ابن المعطل يا رسول الله آذاني وهجاني فضربته
فقال رسول الله لحسان ( يا حسان أتعيب على قومي أن هداهم الله عز و جل للإسلام ) ثم قال

( أحسن يا حسان في الذي أصابك ) قال هي لك يا رسول الله
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار بمثل ذلك وزاد في الشعر الذي قاله حسان زيادة ووافقه عليها مصعب الزبيري فيما أخبرنا به الحسن بن علي قال قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب في القصة فذكر أن فتية من المهاجرين والأنصار تنازعوا على الماء وهم يسقون خيولهم فغضب من ذلك حسان فقال هذا الشعر
وذكر الزهري فيما أخبرنا أحمد بن يحيى بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن هذا الخبر كان بعد غزوة النبي المصطلق قال
وكان في أصحاب رسول الله رجل يقال له سنان ورجل من بني غفار يقال له جهجاه فخرج جهجاه بفرس لرسول الله وفرس له يومئذ يسقيهما فأوردهما الماء فوجد على الماء فتية من الأنصار فتنازعوا فاقتتلوا فقال عبد الله ابن أبي ابن سلول هذا ما جزونا به آويناهم ثم هم يقاتلوننا وبلغ حسان بن ثابت الذي بين جهجاه وبين الفتية الأنصار فقال وهو يريد المهاجرين من القبائل قدموا على رسول الله في الإسلام وهذا الشعر من رواية مصعب دون الزهري

( أمسى الجلابيبُ قد عَزُّوا وقد كَثُروا ... وابنُ الفُرَيعةِ أمسى بيضةَ البَلَدِ )
( يمشون بالقول سِرّاً في مُهَادَنةٍ ... تَهَدُّداً لي كأنَّي لستُ مْن أحَدِ )
( قد ثَكِلْت أُمُّه مَنْ كنتُ صاحَبه ... أو كان مُنْتِشباً في بُرْثُن الأسَدِ )
( ما للقتيل الذي أسموا فأقتُلُه ... من دِيَةٍ فيه أُعْطِيها ولا قَوَدِ )
( ما البحرُ حين تَهُبُّ الريحُ شاميةً ... فَيْغْطَئلُّ ويَرْمى العِبْرَ بالزَّبّدِ )
( يوماً بأغلَب منِّي حين تُبْصِرُني ... أفْرِي من الغَيْظِ فَرْيَ العَارِضِ البَرِدِ )
( أمّا قريشٌ فإِنِّي لستُ تاركَهم ... حتى يُنِيبُوا مِنَ الغَيَّاتِ بالرَّشَدِ )
( ويتركوا اللاَّتَ والعُزَّى بمَعْزِلَةٍ ... ويَسْجُدوا كلَّهم للواحد الصَّمّدِ )
( ويَشْهَدوا أنَّ ما قال الرسولُ لهم ... حقٌّ ويُوفُوا بعهد الله في سَدَدِ )
( أبْلِغْ بَنيّ بأنِّي قد تركتُ لهم ... من خير ما تَرَك الآباء للوَلَدِّ )
( الدّارُ واسطةٌ والنخلُ شارعةٌ ... والبِيضُ يَرْفُلْنَ في القَسّيّ كالبَرَد )
قال فقال رسول الله ( يا حسان نفست علي إسلام قومي وأغضبه كلامه
فغدا صفوان بن المعطل السلمي على حسان فضربه بالسيف
وقال صفوان
( تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عنِّي فإِنني ... غلامٌ إذا هُوجِيتُ لستُ بشاعرِ )
فوثب قومه على صفوان فحبسوه ثم جاؤوا سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة ابن ثعلبة بن عمرو بن عامر وهو مقبل على ناضحه بين القربتين فذكروا له ما

فعل حسان وما فعلوا فقال أشاورتم في ذلك رسول الله قالوا لا
فقعد إلى الأرض
وقال وانقطاع ظهراه أتأخذون بأيديكم ورسول الله بين ظهرانيكم ودعا بصفوان فأتي به فكساه وخلاه
فجاء إلى النبي فقال له رسول الله ( من كساك كساه الله )
وقال حسان لأصحابه احملوني إلى رسول الله أترضاه ففعلوا فأعرض عنه رسول الله فردوه
ثم سألهم فحملوه إليه الثانية فأعرض عنه رسول الله فانصرفوا به
ثم قال لهم عودوا بي إلى رسول الله فقالوا له قد جئنا بك مرتين كل ذلك يعرض فلا نبرمه بك
فقال احملوني إليه هذه المرة وحدها ففعلوا
فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي احفظ قولي
( هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعند اللهِ في ذاك الجزاءُ )
( فإِنّ أبي ووالدَه وعِرْضِي ... لِعرِض محمد منكم وقاءُ )
فرضي عنه رسول الله ووهب له سيرين أخت مارية أم ولد رسول الله إبراهيم
هذه رواية مصعب
وأما الزهري فإنه ذكر أن رسول الله لما بلغه ضرب السلمي حسان قال لهم ( خذوه فإن هلك حسان فاقتلوه )
فأخذوه فأسروه وأوثقوه فبلغ ذلك سعد بن عبادة فخرج في قومه إليهم فقال أرسلوا الرجل فأبوا عليه فقال أعمدتم إلى قوم رسول الله تؤذونهم وتشتمونهم وقد زعمتم أنكم نصرتموهم أرسلوا الرجل فأبوا عليه حتى كاد يكون قتال ثم أرسلوه
فخرج به سعد إلى أهله فكساه حلة ثم أرسله سعد إلى أهله
فبلغنا أن النبي دخل المسجد ليصلي فيه فقال ( من كساك كساه الله من ثياب الجنة )
فقال كساني سعد بن عبادة
وذكر باقي الخبر نحوه

الاعتذار عما رمى عائشة به
وحدثني محمد بن جرير الطبري قال حدثني ابن حميد قال حدثنا سلمة عن

ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث
أن رسول الله أعطاه عوضا منها بيرحاء وهي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة كانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها إلى رسول الله فأعطاه حسان في ضربته وأعطاه سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان
قال وكانت عائشة تقول لقد سئل عن صفوان بن المعطل فإذا هو حصور لا يأتي النساء قتل بعد ذلك شهيدا
قال ابن إسحاق في روايته عن يعقوب بن عتبة فقال حسان يعتذر من الذي قال في عائشة
( حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ برِيبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوَافِل )
( فإِنْ كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتُمُ ... فلا رفعتُ سَوْطِي إليَّ أنَامِلِي )
( وكيف ووُدِّي من قديمٍ ونُصْرَتي ... لآِلِ رسولِ الله زَيْنِ المَحَافل )
( فإِنّ الَّذي قد قِيل ليس بِلائَطٍ ... ولكنّه قولُ امرىءٍ بيَ مَاحِلِ )
قال الزبير وحدثني محمد بن الضحاك أن رجلا هجا حسان بن ثابت بما فعل به ابن المعطل فقال
( وإنّ ابَن المُعَطَّلِ من سُلَيْمٍ ... أَذَلَّ قِيادَ رَأْسِك بالخِطَامِ )

دفاع عائشة عنه
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني محمد بن السائب عن أمه أنها طافت مع عائشة ومعها أم حكيم وعاتكة امرأتان من بني مخزوم
قالت فابتدرنا حسان نشتمه وهو يطوف فقالت ابن الفريعة تسببن قلن قد قال فيك فبراك الله
قالت فأين قوله
( هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجَزاءُ )
( فإِنّ أبي ووالدَه وعِرْضِي ... لِعِرْضْ محمدٍ منكم وِقَاءُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة عن محمد بن السائب بن بركة عن أمه
نحو ذلك وزاد فيه إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بقوله
أخبرني الحسن قال حدثنا الزبير عن عبد العزيز بن عمران عن سفيان بن عيينة وسلم بن خالد عن يوسف بن ماهك عن أمه قالت
كنت أطوف مع عائشة بالبيت فذكرت حسان فسببته فقالت بئس ما قلت أتسبينه وهو الذي يقول
( فإِنّ أبي ووالده وعِرْضِي ... لِعِرْضِ محمدٍ منكم وِقَاءُ )
فقلت أليس ممن لعن الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك قالت لم يقل شيئا ولكنه الذي يقول
( حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوَافِلِ )
فإِنْ كان ما قد جاء عَنِّي قلتُه ... فلا رفعتْ سَوْطِي إليَّ أناملي )
أخبرني الحسن قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب عمي قال حدثني بعض أصحابنا عن هشام بن عروة عن أبيه قال

كنت قاعدا عند عائشة فمر بجنازة حسان بن ثابت فنلت منه فقالت مهلا فقلت أليس الذي يقول قالت فكيف بقوله
( فإِنّ أبي ووالدَه وعِرْضي ... لِعِرْض محمدٍ منكم وِقاءُ )
أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثني أحمد بن سلمان عن سلمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين
أن حسان أخذ يوما بطرف لسانه وقال يا رسول الله ما يسرني أن لي به مقولا بين صنعاء وبصرى ثم قال
( لِساني مِغْوَلٌ لا عيبَ فيه ... وبَحْرِي ما تُكَدِّرُه الدِّلاَءُ )
أخبرنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال
كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت يعني يوم الخندق
قالت وكان حسان معنا فيه والنساء والصبيان
قالت فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذ أتانا آت
قالت فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا

قالت فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب

رواية عن جبنه
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثنا علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه قال
كان ابن الزبير يحدث أنه كان في فارع أطم حسان بن ثابت مع النساء يوم الخندق ومعهم عمر بن أبي سلمة
قال ابن الزبير ومعنا حسان بن ثابت ضاربا وتدا في آخر الأطم فإذا حمل أصحاب رسول الله على المشركين حمل على الوتد فضربه بالسيف وإذا أقبل المشركون انحاز عن الوتد حتى كأنه يقاتل قرنا يتشبه بهم كأنه يري أنه مجاهد حين جبن
وإني لأظلم ابن أبي سلمة وهو أكبر مني بسنيتن فأقول له تحملني على عنقك حتى أنظر فإني أحملك إذا نزلت قال فإذا حملني ثم سألني أن يركب قلت له هذه المرة أيضا
قال وإني لأنظر إلى أبي معلما بصفرة فأخبرتها أبي بعد فقال أين كنت حينئذ فقلت على عنق ابن أبي سلمة يحملني فقال أما والذي نفسي بيده إن رسول الله ليجمع إلى أبويه
قال ابن الزبير وجاء يهودي يرتقي إلى الحصن
فقالت صفية له أعطني السيف فأعطاها فلما ارتقى اليهودي ضربته حتى قتلته ثم احتزت رأسه

فأعطته حسان وقالت طوح به فإن الرجل أقوى وأشد رمية من المرأة
تريد أن ترعب به أصحابه
قال الزبير وحدثني عمي عن الواقدي قال كان أكحل حسان قد قطع فلم يكن يضرب بيده

تغنى بشجاعة النبي
قال الزبير وحدثني علي بن صالح عن جدي أنه سمع أن حسان بن ثابت أنشد رسول الله
( لقد غدوتُ أمامَ القوم مُنْتطِقاً ... بِصَارِمٍ مِثْلِ لوْنِ المِلْحِ قَطَّاعِ )
( يَحْفِزُ عنِّي نجادَ السيفِ سابغةٌ ... فَضْفَاضةٌ مثل لَوْنِ النِّهْي بالقَاعِ )
قال فضحك رسول الله فظن حسان أنه ضحك من صفته نفسه مع جبنه
قال الزبير وحدثني محمد بن الحسن قال
قال حسان بن ثابت جئت نابغة بني ذبيان فوجدت الخنساء بنت

عمرو حين قامت من عنده فأنشدته فقال إنك لشاعر وإن أخت بني سليم لبكاءة

الحطيئة يجيبه بما لم يرضه
قال الزبير وحدثني يحيى بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال أخبرني غير واحد من مشايخي
أن الحطيئة وقف على حسان بن ثابت وحسان ينشد من شعره فقال له حسان وهو لا يعرفه كيف تسمع هذا الشعر يا أعرابي قال الحطيئة لا أرى به بأسا
فغضب حسان قولا اسمعوا إلى كلام هذا الأعرابي ما كنيتك قال أبو مليكة
قال ما كنت قط أهون علي منك حين كنيت بامرأة فما اسمك قال الحطيئة فقال حسان امض بسلام
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثنا عبد لله بن شبيب قال حدثني الزبير وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني الزبير قال حدثني بعض القرشيين قال
دخل حسان بن ثابت في الجاهلية بيت خمار بالشام ومعه أعشى بكر بن وائل فاشتريا خمرا وشربا فنام حسان ثم انتبه فسمع الأعشى يقول للخمار كره الشيخ الغرم فتركه حسان حتى نام ثم اشترى خمرا الخمار كلها ثم سكبها في البيت حتى سالت تحت الأعشى فعلم أنه سمع كلامه فاعتذر إليه فقال حسان

( وَلَسْنَا بِشَرْبٍ فَوْقَهُمْ ظِلُّ بُرْدةٍ ... يُعِدُّون لِلْخَمّارِ تَيْساً ومِفْصَدَا )
( ولكِنَّنا شَرْبٌ كِرَامٌ إذا انتشَوْا ... أهانوا الصَّرِيحَ والسَّدِيفَ المُسَرْهَدَا )
( كأنَّهُمُ ماتُوا زمانَ حَلِيمةً ... فإنْ تَأْتِهمْ تَحْمَدْ نِدَامَتَهم غَدَا )
( وإن جئتَهم أَلْفيْتَ حولَ بُوتِهم ... من المِسْكِ والجادِي فَتِيتاً مُبَدَّدَا )
( تَرَى حولَ أثناءِ الزَّرَابِيِّ ساقطاً ... نِعَالاً وقَسُّوباً ورَيْطاً مُنَضَّدَا )
( وذَا نُمْرُقِ يَسْعَى ومُلْصَقَ خَدِّهِ ... بديباجةٍ تَكْفَافُها قد تَقَدَّدَا )
وهذه القصيدة يقولها حسان بن ثابت في وقعة بدر يفخر بها ويعير الحارث ابن هشام بفراره عن أخيه أبي جهل بن هشام
وفيها يقول

صوت
( إنْ كُنْتِ كاذِبَةَ الذي حَدّثْتِني ... فنَجَوْتِ مَنْجَى الحارثِ بن هشامِ )

( تَرَكَ الأَحِبَّة أنْ يُقَاتِلَ دونَهم ... ونجَا برأس طِمرَّةٍ ولجَامِ )
غناه يحيى المكي خفيف ثقيل أول بالوسطى
ولعزة الميلاء فيه خفيف رمل بالبنصر
وفيه خفيف ثقيل بالبنصر لموسى بن خارجة الكوفي فأجاب الحارث بن هشام وهو مشرك يومئذ فقال
صوت
( اللهُ يعلَم ما تركتُ قِتالَهم ... حتَّى رَمَوْا فَرَسِي بأَشْقَرَ مُزْبِدِ )
( وعلمتُ أنِّي إنْ أقَاتِلْ واحداً ... أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدي )
فَفَرَرْتُ منهمْ والأَحِبَّةُ فيهمُ ... طَمَعاً لهم بِعقَاب يوم مُرْصَدِ )
غنى فيه إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل أول بالبنصر وقيل بل هو لفليح
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني سليمان بن أيوب قال حدثنا محمد بن سلام عن يونس قال
لما صار ابن الأشعث إلى رتبيل تمثل رتبيل بقول حسان بن ثابت في الحارث بن هشام
( تَرَكَ الأَحِبَّة أنْ يُقَاتِلَ دونَهُمْ ... ونجا برأس طِمِرّةٍ ولجامِ )
فقال له ابن الأشعث أو ما سمعت ما رد عليه الحارث بن هشام قال وما هو فقال قال

( اللهُ يعلَم ما تركتُ قتالَهم ... حتى رَمَوْا فرسي بأَشْقَرَ مُزْبِدِ )
( وعلمْتُ أنِّي إنْ أُقاتِلْ واحداً ... أَقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوّيَ مَشْهَدي )
( فصددتُ عنهمْ والأحِبّةُ فيهمُ ... طمعاً لهم بعقاب يوم مُرْصَدِ )
فقال رتبيل يا معشر العرب حسنتم كل شيء حتى حسنتم الفرار

ذكر الخبر عن غزاة بدر
أخبار غزاة بدر
حدثني بخبرها محمد بن جرير الطبري في المغازي قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن غزوة بدر وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سمعت من حديث بدر قالوا
لما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال ( هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها فلعل الله أن ينفلكموها ) فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا
وكان أبو سفيان استقدم حين دنا من الحجاز وجعل يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا استنفر أصحابه لك ولعيرك فجد عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة

رؤيا تفزع عاتكة بنت عبد المطلب
قال ابن إسحاق وحدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر أو مصيبة فاكتم عني ما أحدثك
قال لها وما رأيت قالت رأيت راكبا أقبل علي بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث وأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بأعلى صوته انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقه
قال العباس إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش
قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام ورهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة
فلما رآني أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم
فقال لي أبو جهل يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قال قلت وما ذاك قال الرؤيا التي رأت عاتكة
قلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن

تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها أنها قالت انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب كتابا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب
قال العباس فوالله ما كان إليه مني كبير إلا جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا
قال ثم تفرقنا
فلما أمسينا لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غير لشيء مما سمعت قلت قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكنه
قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه
قال فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه العرضنة ليعود لبعض ما كان فأوقع به
وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال قلت في نفسي ماله لعنه الله أكل هذا فرقا أن أشاتمه فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر
قال فتجهز الناس سراعا وقالوا لا يظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن

الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أبو لهب بن عبد المطلب تخلف فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكان لط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه فأفلس بها فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب
هكذا في الحديث
فذكر أبو عبيدة وابن الكلبي إن أبا لهب قامر العاصي بن هشام في مائة من الإبل فقمره أبو لهب ثم عاد فقمره أيضا ثم عاد فقمره أيضا الثالثة فذهب بكل ما كان يملكه
فقال له العاصي أرى القداح قد حالفتك يابن عبد المطلب هلم نجعلها على أينا يكون عبدا على لصاحبه قال ذلك لك فدحاها فقمره أبو لهب فأسلمه قينا وكان يأخذ منه ضريبة
فلما كان يوم بدر وأخذت قريش كل من لم يخرج بإخراج رجل مكانه أخرجه أبو لهب عنه وشرط له العتق فخرج فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه

رجع الحديث إلى وقعة بدر
قال محمد بن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي نجيح
أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا فجاءه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا أبي علي استجمر

فإنما أنت من النساء قال قبحك الله وقبح ما جئت به ثم تجهز وخرج مع الناس
فلما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب فقالوا إنا نخشى أن يأتوا من خلفنا
قال محمد بن إسحاق فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة فكاد ذلك أن يثبطهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة فقال إني جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا

جيش النبي
وخرج رسول الله فيما بلغني عن غير ابن إسحاق لثلاث ليال خلون من شهر رمضان المعظم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه
فاختلف في مبلغ الزيادة على العشرة فقال بعضهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا
وكان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا وكان صاحب راية رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة

حدثنا محمد قال حدثنا هارون بن إسحاق قال حدثنا مصعب بن المقدام قال أبو جعفر وحدثني محمد بن إسحاق الأهوازي قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا إسرائيل قال حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال
كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ولم يجز معه إلا مؤمن ثلاثمائة وبضعة عشر

تأييد الأنصار للنبي
قال ابن إسحاق في حديثه عمن روى عنه وخرج رسول الله في أصحابه وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار في ليال مضت من رمضان فسار حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان له الخبر عن أبي سفيان بن حرب وغيره ثم ارتحل رسول الله وقدمهما فلما استقبل الصفراء وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما اسماهما فقيل يقال لأحدهما هذا مسلح وللآخر هذا مخرىء وسأل عن أهلها فقالوا بنو النار وبنو حراق بطنان من غفار فكرههما رسول الله والمرور بينهما وتفاءل باسميهما وأسماء أهاليهما فتركهما والصفراء يسارا وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك
والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا

قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون معلمون
فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يغني مدينة الحبشة لجالدنا معك حتى تبلغه
فقام رسول الله خيرا ودعا له بخير
حدثنا محمد قال حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى قال حدثنا المخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال
شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما في الأرض من كل شيء كان رجلا فارسا وكان رسول الله إذا غضب احمارت وجنتاه فأتاه المقداد على تلك الحال فقال أبشر يا رسول الله فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون لكن والذي بعثك بالحق لنكونن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وشمالك أو يفتح الله تبارك وتعالى

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق
ثم قال رسول الله ( أشيروا علي أيها الناس ) وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوا بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصير إلى دارنا فإذا وصلت فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا
فكان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو في غير بلادهم
فلما قال ذلك رسول الله قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله
قال ( أجل )
قال فقد آمنا بك يا رسول الله وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة

فامض بنا يا رسول الله لما أردت فنحن معك
فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا
إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله تعالى أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله
فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال ( سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ثم ارتحل رسول الله من ذفران وسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ثم انحط على بلد يقال لها الدبة ثم ترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه قال الطبري قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما
فقال له رسول الله ( إذا أخبرتنا أخبرناك )
فقال أوذاك بذاك فقال ( نعم )
قال الشيخ فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدقني الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي حدثني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش
فلما فرغ من خبره قال

ممن أنتما فقال رسول الله ( نحن من ماء ) ثم انصرف الشيخ عنه قال يقول الشيخ ما من ماء أمن ماء العراق ثم رجع رسول الله إلى أصحابه
فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى بدر يلتمسون له الخبر عليه قال محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض أبو يسار غلام بني العاصي بن سعيد فأتوا بهما رسول الله وهو يصلي فسألوهما فقالا نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء
فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله وسجد سجدتين ثم سلم ثم قال ( إذا صدقاكم ضربتموهما فإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبراني أين قريش ) قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل فقال لهما رسول الله ( كم القوم ) قالا لا ندري
قال ( كم ينحرون كل يوم ) قالا يوما تسعا ويوما عشرا
فقال رسول الله ( القوم ما بين التسعمائة والألف )
ثم قال لهما رسول الله ( فمن فيهم من أشراف قريش ) قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابن الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن ود
فأقبل رسول الله على الناس فقال ( هذه مكة قد رمت إليكم أفلاذ كبدها )
قال ابن إسحاق وقد كان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء مضيا حتى

نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا يستسقيان فيه ومجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما تتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك
قال مجدي صدقت ثم خلص بينهما
وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله فأخبراه بما سمعا
وأقبل أبو سفيان قد تقدم العير حذرا حتى ورد الماء فقال لمجدي بن عمرو هل أحسست أحدا قال ما رأيت أحدا أنكره إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا
فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذا من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فرجع إلى أصحابه سريعا فصرف وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا يسارا ثم انطلق حتى أسرع
وأقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن أبي الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال إني رأيت فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش ورأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه
قال فبلغت أبا جهل فقال وهذا أيضا نبي آخر من بني عبد المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا
ولما رأى أبو سفيان قد أحرز عيره أرسل إلى

قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب تجتمع به لهم بها سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فأمضوا
فقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي وكان حليفا لبني زهرة وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم عيركم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعة لما يقول هذا يعني أبا جهل فلم يشهدها زهري وكان فيهم مطاعا ولم يكن بقي من قريش بطن إلا نفر منهم ناس إلا بني عدي بن كعب لم يخرج منهم رجل واحد
فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد
ومضى القوم
وقد كان بين طالب بن أبي طالب وكان في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا والله لقد عرفنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع
وأما ابن الكلبي فإنه قال فيما حدثت عنه شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين أخرج كرها فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولم يرجع إلى أهله وكان شاعرا وهو الذي يقول
( يا رَبِّ إِمَّا يَغْزُوَنْ طالِبْ ... في مِقْنَبٍ من هذه المَقَانِبْ )
( فَلْيكُنِ المسلوبَ غيرَ السالِبْ ... وليكنِ المغلوبَ غيرَ الغالبْ )
رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق
قال ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل
وبطن الوادي وهو يليل بين بدر وبين العقنقل الكثيب الذي خلفه قريش

والقليب ببدر من العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة
وبعث الله عز و جل السماء وكان الوادي دهسا فأصاب النبي وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه
فخرج رسول الله يبادرهم إلى الماء حتى حاذى ماء من مياه بدر فنزل به
قال ابن إسحاق فحدثني عشرة رجال من بني سلمة ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ) فقال يا رسول الله إن هذا ليس لك بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من مياه القوم فتنزله ثم تعور ما سواه من القلب ثم تبنى عليه حوضا فتملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربوا
فقال رسول الله ( لقد أشرت بالرأي )
فنهض رسول الله ومن معه من الناس حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلب فعورت وبنوا حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية

النبي يراقب من عريش بني له
قال محمد بن إسحاق فحدثني محمد بن أبي بكر أن سعد بن معاذ قال يا رسول الله نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن نحن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى عليه رسول الله

خيرا ودعا له بخير ثم بني لرسول الله عريش فكان فيه
وقد ارتحلت قريش حين أصبحت وأقبلت
فلما رآها رسول الله تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي منه جاؤوا إلى الوادي قال ( اللهم هذي قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم فأحنهم الغداة
وقد قال رسول الله ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر ( إن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا )
وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه أيما بن رحضة بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم وقال لهم إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم فقد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض حوض رسول الله
فقال رسول الله ( دعوهم ) فما شرب منهم رجل إلى قتل يومئذ إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل نجا على فرس له يقال له الوجيه وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال والذي نجاني من يوم بدر
قال محمد بن إسحاق وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار قالوا
لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احزر لنا أصحاب محمد فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد
قال فضرب في الوادي حتى أمعن فلم ير شيئا فرجع فقال لم أر شيئا ولكن قد

رأيت يا معشر قريش الولايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم
والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة وقال يا أبا الوليد إنك كبير قريش الليلة وسيدها والمطاع فيها هل لك إلى أمر لا تزال تذكر منه بخير إلى آخر الدهر قال وما ذاك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي
قال قد فعلت أنت على ذلك شهيد إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يسحر الناس غيره يعني أبا جهل بن هشام
حدثنا محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا غمامة بن عمرو السهمي قال حدثنا مسور بن عبد الملك اليربوعي عن أبيه عن سعيد بن المسيب قال
بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل عليه حاجبه فقال هذا أبو خالد حكيم بن حزام
قال إيذن له فلما دخل حكيم بن حزام قال مرحبا بك يا أبا خالد أدن فحال له مروان عن صدر المجلس ختى كان بينه وبين الوسادة ثم استقبله مروان فقال حدثنا حديث بدر
قال خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله عز و جل فجئت عتبة بن ربيعة فقلت يا أبا الوليد هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت قال أفعل ماذا قال قلت إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم واحد ابن الحضرمي وهو حليفك فتحمل

ديته فيرجع الناس
قال أنت وذاك وأنا أتحمل ديته فاذهب إلى ابن الحنظلية يعني أبا جهل فقل له هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه فإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول قد فسخت عقدي من بني عبد شمس وعقدي إلى بني مخزوم
فقلت له يقول لك عتبة بن ربيعة هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك قال أما وجد رسولا غيرك قلت لا ولم أكن لأكون رسولا لغيره
قال حكيم فخرج مبادرا إلى عتبة وخرجت معه لئلا يفوتني من الخبر شيء وعتبة يتكىء على إيماء بن رحضة الغفاري وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر فطلع أبو جهل والشر في وجهه فقال لعتبة انتفخ سحرك فقال عتبة فستعلم
فسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه فقال إيماء بن رحضة بئس المقام هذا فعند ذلك قامت الحرب

رجع الحديث إلى ابن إسحاق
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال يا معشر قريش والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل منكم ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعدموا منه ما تريدون قال حكيم فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها وهو يهيئها فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا الذي قال فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه
كلا والله لا مرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه قد

تخوفكم عليه
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ واعمراه واعمراه فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة
ولما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ سحره قال سيعلم مصفر الإست من انتفخ سحره أنا أم هو ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فلم يجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له
وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيىء الخلق فقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه
فلما خرج وخرج له حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأبان قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن يبر يمينه

مقتل بعض أعداء النبي
وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض
ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ورجل آخر يقال هو عبد الله بن رواحة فقالوا من أنتم قالوا

رهط من الأنصار قالوا ما لنا بكم حاجة
ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا
فقال رسول الله ( قم يا حمزة بن عبد المطلب قم يا عبيدة بن الحارث قم يا علي بن أبي طالب )
فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم فقال عبيدة عبيدة وقال حمزة حمزة وقال علي علي
قالوا نعم أكفاء كرام
فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة وبارز حمزة شيبة بن ربيعة وبارز علي الوليد بن عتبة فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله
وأما علي فلم يمهل الوليد بن عتبة أن قتله
واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي على عتبة بأسيافهما فذففا عليه فقتلاه واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا به إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخه يسيل
فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله قال ألست شهيدا يا رسول الله قال ( بلى ) فقال عبيدة لو كان أبو طالب حيا لعلم أني بما قال أحق منه حيث يقول
( ونُسْلِمُه حتَّى نُصَرَّعَ حولَه ... ونَذْهَلَ عن أبنائنا والحَلائِلِ )
قال محمد بن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا له أكفاء كرام إنما نريد قومنا
ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وقد أمر رسول الله أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم وقال ( إن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل ) ورسول الله في العريش معه أبو بكر
وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان قال ابن إسحاق كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين

قال محمد بن جرير وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال قال لي محمد بن إسحاق حدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه
أن رسول الله عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف فطعن رسول الله في بطنه بالقدح ثم قال ( استو يا سواد بن غزية ) فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني
قال فكشف رسول الله عن بطنه وقال ( استقد ) فاعتنقه وقبل بطنه فقال ( ما حملك على هذا يا سواد ) فقال يا رسول الله حضر ما ترى فلم آمن الموت فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله بخير وقال له خيرا
ثم عدل رسول الله الصفوف ورجع إلى العريش ودخله ومعه أبو بكر وليس معه غيره ورسول الله يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم يعني المسلمين لا تعبد بعد اليوم ) وأبو بكر يقول يا نبي الله خل بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار قال حدثني سماك الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول حدثني عمر بن الخطاب قال
لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وعدتهم وإلى أصحابه وهم نيف على ثلاثمائة استقبل الكعبة وجعل يدعو ويقول ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تبعد في الأرض ) فلم

يزل كذلك حتى سقط رداؤه فأخذ أبو بكر فوضع رداءه عليه ثم التزمه من روائه فقال كفاك يا نبي الله بأبي أنت وأمي مناشدتك لربك سينجز لك ما وعدك
فأنزل الله تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين )
حدثنا محمد قال حدثنا ابن وكيع قال حدثنا الثقفي يعني عبد الوهاب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس
أن النبي قال وهو في قبته يوم بدر ( اللهم أسألك عهدك ووعدك
اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم )
قال فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا نبي الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول ( سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر )

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق
النبي يبشر بالنصر
قال وقد خفق رسول الله خفقه وهو في العريش ثم انتبه فقال ( يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده وعلى ثناياه النقع )
قال وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل من المسلمين
ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتل
ثم خرج رسول الله إلى الناس فحرضهم ونفل كل امرئ ما أصاب وقال ( والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة )
فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلها بخ بخ أما بيني وبين أن أدخل

الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء قال ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل وهو يقول
( ركْضاً إلى اللهِ بغير زَادِ ... إلاّ التُّقَى وعَمَلَ المَعَادِ )
( والصَّبْرَ في اللهِ على الجِهَادِ ... وكلُّ زَادٍ عُرْضةُ النَّفادِ )
( غيرَ التُّقَى والبِرِّ والرَّشادِ ... )
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة
أن عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده قال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل

هزيمة المشركين
حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال وحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري حليف بني زهرة قال
لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال أبو جهل اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه
ثم إن رسول الله أخذ حفنة من الحصباء واستقبل بها قريشا ثم قال ( شاهت الوجوه ) ثم نفحهم بها وقال لأصحابه ( شدوا ) فكانت الهزيمة فقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر منهم
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش

الذي فيه رسول الله متوشحا بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو رأي رسول الله فيما ذكر لي في وجه سعد بن معاذ الكراهة فيما يصنع الناس فقال له ( كأنك كرهت ما يصنع الناس ) قال أجل يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله عز و جل بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال
حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس
أن رسول الله قال لأصحابه يومئذ ( إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله فإنما خرج مستكرها )
قال فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف فبلغت رسول الله فجعل يقول لعمر بن الخطاب ( يا أبا حفص أما تسمع إلى قول أبي حذيفة يقول أضرب وجه عم رسول الله بالسيف )
فقال عمر يا رسول الله دعني فلأضربن عنقه بالسيف فوالله لقد نافق
قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله بأبي حفص

النبي ينهي عن قتل أبي البختري
قال فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا
قال وإنما نهى رسول الله عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله وهو بمكة كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه بمكة شيء يكرهه وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب
فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار من بني عدي فقال المجذر بن ذياد لأبي البختري إن رسول الله قد نهى عن قتلك ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة وهو جنادة بن مليحة بن زهير بن الحارث بن أسد وجنادة رجل من بني ليث
واسم أبي البختري العاصي بن هشام بن الحارث بن أسد قال وزميلي فقال المجذر لا والله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك
قال والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء قريش بين أهل مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة
فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبى إلا القتال وهو يرتجز
( لن يُسْلِمَ ابنُ حُرَّةٍ أكِيلَه ... حتّى يموتَ أو يرى سبيلَه )
فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد
ثم أتى المجذر بن ذياد رسول الله فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته
قال محمد بن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال وحدثنيه أيضا عبد الله بن أبي بكر وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف قال

كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة
قال وكان اسمي عبد عمرو فسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة
قال وكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك به أبواك فأقول نعم فيقول فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف
قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه
فقلت اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت
قال فأنت عبد الإله
فقلت نعم
قال فكنت إذا مررت به قال يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه
حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع علي ابنه آخذا بيده ومعي أدراع قد سلبتها وأنا أحملها
فلما رآني قال يا عبد عمرو فلم أجبه
فقال يا عبد الإله قلت نعم
قال هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع قلت نعم هلم إذا
فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه علي وهو يقول ما رأيت كاليوم قط أما لكم حاجة في اللبن ثم خرجت أمشي بينهما
قال ابن إسحاق وحدثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال
قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما يا عبد الإله من الرجل المعلم منكم بريش نعامة في صدره قال قلت ذلك حمزة بن عبد المطلب
قال ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل
قال عبد الرحمن فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام

فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد فقال بلال حين رآه رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوا قال قلت أي بلال أبأسيري قال لا نجوت إن نجوا قلت أي بلال أبأسيري تسمع يابن السوداء قال لا نجوت إن نجوا ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوا
قال فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه
قال فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط
قال قلت انج بنفسك ولا نجاء فوالله ما أغني عنك شيئا
قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما
قال فكان عبد الرحمن يقول رحم الله بلالا ذهب بأدراعي وفجعني بأسيري

الملائكة يؤازرون النبي في بدر
قال ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس قال حدثني رجل من بني غفار قال
أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة فننهب مع من ينهب
فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلا يقول

أقدم حيزوم
قال فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت
قال محمد بن إسحاق حدثني أبي إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن بن النجار عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال
إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعلمت أنه قد قتله غيري
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني محمد بن إسحاق عن العلاء بن كثير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال
قال لي أبي يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير إلى المشرك بسيفه فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف
حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد قال وحدثني الحسن بن عمارة قال أخبرنا سلمة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عباس قال
كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها على ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا ولم نقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام مددا وعددا ولا يضربون
حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال قال محمد وحدثني

ثور بن زيد مولى بني الديل عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال وحدثني عبد الله بن أبي بكر قالا كان معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة يقول
لما فرغ رسول الله من غزوة بدر أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال ( اللهم لا يعجزنك )
وكان أول من لقي أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح قال سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه
فلما سمعتها جعلتها من شأني فعمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا كالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها
قال وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنها فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما أذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطيت بها حتى طرحتها
قال ثم عاش معاذ بعد ذلك حتى كان في زمن عثمان بن عفان
قال ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل
فمر عبد الله ابن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله أن يلتمس في القتلى وقال لهم رسول الله فيما بلغني ( انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشب أو أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فخدش في إحداهما خدشا لم يزل أثره فيها بعد ) فقال عبد الله بن مسعود فوجدته بآخر رمق فعرفته

فوضعت رجلي على عنقه
قال وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني ثم قلت هل أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه لمن الدبرة اليوم قال قلت لله ولرسوله
حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد قال
زعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل فقال رسول الله ( الله الذي لا إله غيره ) وكانت يمين رسول الله قلت نعم والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله قال فحمد الله

النبي يكلم أصحاب القليب بعد موتهم
قال محمد بن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت
لما أمر رسول الله بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيها إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا به ليخرجوه فتزايل فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة
فلما ألقوهم في القليب وقف رسول الله فقال ( يأهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا )
فقال له أصحابه يا رسول الله أتكلم قوما موتى قال ( لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق )
قالت عائشة والناس يقولون لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال رسول الله ( لقد علموا )

قال ابن إسحاق وحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال
لما سمع أصحاب رسول الله وهو يقول من جوف الليل ( يأهل القليب يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أبا جهل بن هشام فعدد من كان منهم في القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ) قال المسلمون يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا فقال ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني )
قال محمد بن إسحاق وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله يوم قال هذه المقالة قال ( يأهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس )
ثم قال ( هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ) للمقالة التي قالها
ولما أمر بهم رسول الله أن يلقوا في القليب أخذ عتبة فسحب إلى القليب فنظر رسول الله فيما بلغني إلى وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير فقال رسول الله ( يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ) أو كما قال
قال فقال لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وفضلا وحلما فكنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك
قال فدعا رسول الله بخير وقال له خيرا

اختلاف المسلمين على الفيء
ثم إن رسول الله أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع واختلف المسلمون فيه فقال من جمعه هو لنا وقد كان رسول الله نفل كل امرئ ما

أصاب
فقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونهم لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم
وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله مخافة أن يخالف إليه العدو والله ما أنتم بأحق منا ولقد رأينا أن نقتل العدو إذ ولانا الله ومنحنا أكتافهم ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ولكن خفنا على رسول الله كرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا
قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان أن رسول الله جمع الأسارى من المشركين وكانوا أربعة وأربعين أسيرا وكان من القتلى مثل ذلك وفي الأسارى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة حتى إذا كان رسول الله بالصفراء قتل النضر بن الحارث بن كلدة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه
قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال
قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب
قال تقول سودة والله لعبدهم إني لعندهم إذ أتينا فقيل هؤلاء الأسارى قد أتي بهم فرحت إلى بيتي ورسول الله فيه وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل
قالت فوالله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت يا أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله من البيت ( يا سودة أعلى الله وعلى رسوله ) قالت فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا

يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بحبل أن قلت ما قلت
قال محمد بن إسحاق وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن إياس بن ضبيعة بن رومان بن كعب بن عمرو الخزاعي
قالوا ما وراءك قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج
قال فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر والله إن يعقل هذا فسلوه عني
قالوا ما فعل صفوان بن أمية قال هو ذلك جالس في الحجر وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا

موت أبي لهب
قال محمد بن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة مولى ابن عباس قال
قال أبو رافع مولى رسول الله كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا فلما جاء الخبر عن مصاب أهل بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح انحتها في

حجرة زمزم فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه يسير حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري
فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب هلم إلي يابن أخي فعندك لعمري الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه
فقال يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فأبحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء
قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة
قال فساورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فشجت في رأسه شجة منكرة وقالت أتستضعفه أن غاب عنه سيده فقام ذليلا
فوالله ما عاش فيها إلا سبع ليال حتى رماه الله جل جلاله بالعدسة فقتلته فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا لا يدفنانه حتى أنتن في بيته وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقى الطاعون حتى قال لهما رجل من قريش ويحكما لا تستحييان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه فقالا نخشى هذه القرحة
قال فانطلقا فأنا معكما
فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه فاحتملوه فدفنوه بأعلى مكة على جدار وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه

النبي يتألم لأسر العباس
قال محمد بن إسحاق وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله

عن الحكم بن عتيبة عن ابن عباس قال
لما أمسى القوم من يوم بدر والأسارى محبوسون في الوثاق بات رسول الله ساهرا أول ليلته
فقال له أصحابه يا رسول الله ما لك لا تنام فقال ( سمعت تضور العباس في وثاقه ) فقاموا إلى العباس فأطلقوه فنام رسول الله
قال ابن إسحاق وحدثني الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن ابن عباس قال
كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما
فقال رسول الله لأبي اليسر ( كيف أسرت العباس يا أبا اليسر ) فقال يا رسول الله أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا فقال رسول الله ( لقد أعانك عليه ملك كريم )
قال ابن إسحاق عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
أن رسول الله قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهي به إلى المدينة ( يا عباس افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر فإنك ذو مال )
فقال يا رسول الله إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني
فقال ( الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك )
وكان رسول الله قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب
فقال العباس يا رسول الله احسبها لي في فدائي
قال ( لا ذلك شيء أعطاناه الله منك )
قال فإنه ليس لي مال
قال قال ( فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها إن أصبت

في سفرتي هذه فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولقثم كذا ولعبيد الله كذا ) قال والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله
ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه
قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت
لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبي العاصي بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاصي حين بنى عليها
فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ) فقالوا نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذي لها
قال ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد عن أبيه قال
ناحت قريش على قتلاها ثم قالت لا تفعلوا فيبلع ذلك محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في فداء أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء
قال وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل والحارث بنو الأسود وكان يحب أن يبكي على بنيه
فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل فقال لغلامه وقد ذهب بصره أنظر هل أحل النحيب وهل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق
فلما رجع إليه الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته فذلك حين يقول الأسود
( أتبكي أنْ أُضِلَّ لها بعيرٌ ... ويَمْنَعُها البكاءُ من الهُجودِ )

( ولا تَبْكِي على بَكْرٍ ولَكِنْ ... على بَدْرٍ تَقَاصَرتِ الجُدُودُ )
( على بَدْرٍ سَرَاةَ بني هُصَيْصْ ... ومَخْزومٍ ورَهْط أبي الوَلِيدِ )
( وبَكِّي إنْ بَكَيْتِ على عَقِيلٍ ... وبَكِّي حارثاً أسَدَ الأُسودِ )
( وبَكِّيهم ولا تُسْمِي جميعاً ... فما لأبي حَكِيمةَ من نَدِيدِ )
( ألاَ قد سادَ بَعْدَهُمُ رجالٌ ... ولولاَ يومُ بَدْرً لم يَسْودُوا )

ومما قيل في بدر من الشعر وغني به قول هند بنت عتبة ترثي أباها
صوت
( مَنْ حَسَّ لي الأخَوَيْنِ كَالْغُصْنَيْنِ ... أو مَنْ رَاهُمَا )
( قَرْمَانِ لا يَتَظالَمَانِ ... ولا يُرامُ حِمَاهُما )
( وَيْلِي على أبَوَيَّ والْقَبْرِ ... الذي وَارَاهُمَا )
( لا مِثْلَ كَهْلِي في الكُهُولِ ... ولا فَتًى كَفَتَاهُما )
ذكر الهشامي أن الغناء لابن سريج رمل وفي الكتاب الكبير المنسوب إلى إسحاق أنه للغريض وتمام هذه الأبيات
( أسَدَانِ لا يَتَذَلَّلانِ ... ولا يُرامُ حِماهما )
( رُمْحَيْنِ خَطِّيَّيْن في ... كَبِدِ السماءِ تراهما )
( ما خَلَّفَا إذ وَدَّعا ... في سُودَدٍ شَرْوَاهما )

( سادَا بغيرِ تَكَلُّفٍ ... عَفْواً يَفيِضُ نَدَاهُما )

هند بنت عتبة تعاظم الخنساء بعكاظ
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا محمد ابن سعد عن الواقدي وأخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال
لما كانت وقعة بدر قتل فيها عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم وقد سومت هودجها براية وأنها تقول أنا أعظم العرب مصيبة وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك
فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك قالت أنا أعظم من الخنساء مصيبة وأمرت بهودجها فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ وكانت سوقا يجتمع فيها العرب فقالت إقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا
فلما أن دنت منها قالت لها الخنساء من أنت يا أخية قالت أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم فقالت الخنساء بعمرو بن الشريد وصخر ومعاوية ابني عمرو وبم تعاظمينهم أنت قالت بأبي عتبة بن ربيعة وعمي شيبة بن ربيعة وأخي الوليد
قالت الخنساء أو سواء هم عندك ثم أنشدت تقول
( أُبَكِّي أبي عَمْراً بعينٍ غَزِيرةٍ ... قليلٌ إذا نام الخَلِيُّ هُجودُها )
وصَنْوَيَّ لا أَنْسَى مُعَاويةَ الذي ... له من سَرَاةِ الحَرَّتَيْن وفُودُها )

( وصخراً ومَنْ ذا مثلُ صخرٍ إذا غَدَا ... بساهمة الآطالِ قُبًّا يَقُودُها )
( فذلِك يا هندُ الرَّزِيَّةُ فاعْلَمِي ... ونِيرانُ حَرْبٍ حين شَبَّ وَقُودُها )
فقالت هند تجيبها
( أبَكِّي عَمِيدَ الأَبْطَحَيْنِ كِلَيْهِما ... وحامِيهما من كل باغٍ يُريدها )
( أَبِي عُتبةُ الخَيْراتِ وَيْحَكِ فاعْلَمِي ... وشَيْبةُ والحامي الذِّمارِ وليدُها )
( أولئك آلُ المَجْد من آلِ غالبٍ ... وفي العِزِّ منها حين يَنْمِي عَدِيدُها )
وقالت لها أيضا يومئذ
( مَنْ حَسَّ لِي الأَخَوَيْنِ كَالْغُصْنَيْنِ ... أو مَنْ رَاهُما )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني بعض القرشيين قال
قدم عبد الله بن جعفر على معاوية وافدا فدخل عليه إنسان ثم ذهب إلى معاوية فقال هذا ابن جعفر يشرب النبيذ ويسمع الغناء ويحرك رأسه عليه
فجاء معاوية متغيرا حتى دخل على ابن جعفر وعزة الميلاء بين يديه كالشمس الطالعة في كواء البيت يضيء بها البيت تغنيه على عودها
( تَبَلَتْ فُؤادَك في الظلامِ خَرِيدةٌ ... تِشْفِي الضَّجيعَ بباردٍ بَسّامِ )

وبين يديه عس فقال ما هذا يا أبا جعفر قال أقسمت عليك يا أمير المؤمنين لتشربن منه فإذا عسل مجدوح بمسك وكافور
فقال هذا طيب فما هذا الغناء قال هذا شعر حسان بن ثابت في الحارث بن هشام
قال فهل تغني بغير هذا قال نعم بالشعر الذي يأتيك به الأعرابي الجافي الأذفر القبيح المنظر فيشافهك به فتعطيه عليه وآخذه أنا فأختار محاسنه ورقيق كلامه فأعطيه هذه الحسنة الوجه اللينة اللمس الطيبة الريح فترتله بهذا الصوت الحسن
قال فما تحريكك رأسك قال أريحية أجدها إذا سمعت الغناء لو سئلت عندها لأعطيت ولو لقيت لأبليت
فقال معاوية قبح الله قوما عرضوني لك ثم خرج وبعث إليه بصلة

صوت من المائة المختارة
قصيدة عمر بن أبي ربيعة في نعم
( أَيُّها القلبُ لا أراكَ تُفِيقُ ... طَالَما قَدْ تَعَلَّقَتْكَ العَلُوقُ )
( مَنْ يَكُنْ مِنْ هَوَى حبيبٍ قريباً ... فأنا النازحُ البعيدُ السَّحِيقُ )
( قُضِيَ الحُبُّ بيننا فالتقينا ... وكلاَنَا إلى اللِّقاء مَشُوقُ )
الشعر في البيت الأول والثالث لعمر بن أبي ربيعة والبيت الثاني ليس له ولكن هكذا غني وليس هو أيضا مشاكلا لحكاية ما في البيت الثالث
والغناء لبابويه الكوفي خفيف ثقيل أول
وهذا الشعر يقوله عمر بن أبي ربيعة في امرأة من قريش يقال لها نعم كان كثير الذكر لها في شعره
أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي عبد الله التميمي عن القحذمي والمدائني
قال وهي التي يقول فيها
( أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ ... )
قال وكانت تكنى أم بكر وهي من بني جمح
وتمام هذه الأبيات على ما حكاه ابن المرزبان عمن ذكرت
( فالْتَقَيْنا ولم نَخَفْ ما لَقِينَا ... ليلةَ الخَيْفِ والمُنَى قد تَشُوقُ )

( وجرى بيننا فجددَ وصلا ... قُلَّبٌ حُوَّلٌ أرِيبٌ رفيقُ )
( لا تَظُنِّي أنّ التَّرَاسُلَ والبَدْلَ ... لكلِّ النساءِ عندي يَلِيق )
( هل لكَ اليومَ إنْ نأتْ أُمُّ بَكْرٍ ... وَتَوَلَّتْ إلى عَزَاءٍ طريقُ )
أخبرني محمد بن خلف بن المزربان قال حدثت عن محمد بن حميد عن عبد الله بن سوار القاضي عن بشر بن المفضل قال
بلغ عمر بن أبي ربيعة أن نعما اغتسلت في غدير فأتاه فأقام عليه وما زال يشرب منه حتى جف
أخبرني محمد بن خلف قال قال محمد بن حبيب الراوية
بلغني أن نعما استقبلت عمر بن أبي ربيعة في المسجد الحرام وفي يدها خلوق من خلوق المسجد فمسحت به ثوبه ومضت وهي تضحك فقال عمر
( أدخل اللهُ ربُّ موسى وعيسى ... جَنَّةَ الخُلْدِ مَنْ مَلاَنِي خَلُوقَا )
( مسحتْه من كَفِّها في قميصي ... حين طافتْ بالبيت مَسْحاً رَفِيقَا )
( غَضِبَتْ أَنْ نَظرتُ نحوَ نساءٍ ... ليس يَعْرِفْنَنِي سَلَكْنَ طريقَا )
( وأرى بينهما وبين نساء ... كنتُ أَهْذِي بهِنّ بَوْناً سَحِيقَا )
وهذا البيت الأول مما عيب على عمر
ومما غني فيه من تشبيب عمر بنعم هذه

صوت
( دِينَ هذا القلبُ مِنْ نُعْمِ ... بَسقَامٍ ليس كالسُّقْمِ )
( إنّ نُعْماً أَقصدتْ رجلاً ... آمناً بالخَيْفِ إذ تَرْمي )
( بِشَتِيتٍ نَبْتُه رَتِلٍ ... طَيِّبِ الأنيابِ والطَّعْمِ )
( وبِوَحْفٍ مائلٍ رَجِلٍ ... كعناقِيدَ مِن الكَرْمِ )
ومنها
صوت
( خِلِيلَيَّ ارْبَعَا وسَلاَ ... بمَغْنَى الحيِّ قد مثلا )
( بأعلَى الوادِ عند البِئْرِ ... هَيَّجَ عَبْرةً سبَلاَ )
( وقد تَغْنَى به نُعْمٌ ... وكنت بوَصْلِها جَذِلاَ )
( ليالي لا نحب لنا ... بعيش قد مضى بدلا )
( وتَهْوَانَا ونهْوَاها ... ونَعْصِي قَوْلَ مَنْ عَذَلاَ )
( وتُرْسِلُ في مُلاَطَفةٍ ... ونُعْمِلُ نحوَها الرُّسُلاَ )
غناه الهذلي ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لابن سريج لحنان رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
وفيها عن إسحاق ثاني ثقيل

ولسليم خفيف رمل جميعا عن الهشامي
قال ويقال إن اللحن المنسوب إلى سليم لحكم الوادي
ومنها من قصيدة أولها
( لقد أرسلتْ نُعْمٌ إلينا أَن ائْتِنَا ... فأَحبِبْ بها من مُرْسِلٍ مُتَغَضِّبِ )
يغني منها في قوله

صوت
( فقلتُ لِجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشْتَمِلْ ... عليه بِرفْقٍ وارْقُبِ الشمس تَغْرُبِ )
( وأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْماءَ واعْجَلْ بِممْطَرِي ... ولا تُعْلِمَنْ حَيّاً مِنَ النّاسِ مَذْهَبِي )
( فلمّا التقينا سَلّمتْ وتَبسَّمتْ ... وقالتْ مقالَ المُعْرِض المُتَجَنَّبِ )
( أَمِنْ أجلِ واشٍ كاشحٍ بنميمةٍ ... مَشَى بيننا صَدَّقْتَه لم تُكَذِّبِ )
( وقَطَّعْتَ حبلَ الوصلِ منّا ومَنْ يُطِعْ ... بذِي ودِّه قولَ المُؤَرِّشِ يُعْتَبِ )
صوت
( ما بالُ أهْلك يا رَبابُ ... خُزْراً كأنَّهُمُ غِضَابُ )
( إنْ زُرْتُ أهلَكِ أَوْعَدُوا ... وتَهِرّ دونَهُم الكلابُ )
عروضه من الكامل
الشعر لعلس ذي جدن الحميري أخبرنا بذلك محمد ابن الحسن بن دريد عن عمه عن العباس بن هشام عن أبيه
والغناء لطويس ولحنه المختار خفيف رمل بالبنصر

نسب علس ذي جدن وأخباره
هو علس بن زيد بن الحارث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أعز بن الهم بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وهو ملك من ملوك حمير
ولقب ذا جدن لحسن صوته والجدن الصوت بلغتهم ويقال إنه أول من تغنى باليمن
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي وأبي مسكين قالا إنما سمي ذا جدن لحسن صوته
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن إسماعيل بن إبراهيم بن ذي الشعار الهمداني عن حيان بن هانئ الأرحبي عن أبيه قال
ماذا كتب على قبره
أخبرني رجل من أهل صنعاء أنهم حفروا حفيرا في زمن مروان فوقفوا على أزج له باب فإذا هو برجل على سرير كأعظم ما يكون من الرجال عليه خاتم من ذهب وعصابة من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه أنا

علس ذو جدن القيل لخليلي مني النيل ولعدوي مني الويل
طلبت فأدركت وأنا ابن مائة سنة من عمري وكانت الوحش تأذن لصوتي وهذا سيفي ذو الكف عندي ودرعي ذات الفروج ورمحي الهزبري وقوسي الفجواء وقرني ذات الشر فيها ثلاثمائة حشر من صنعة ذي نمر أعددت ذلك لدفع الموت عني فخانني
قال فنظرنا فإذا جميع ذلك عنده
ووجدت هذا الخبر عن ابن الكلبي في بعض الكتب من غير رواية ابن عمار فوجدت فيه فإذا طول السيف اثنا عشر شبرا وعليه مكتوب تحت شاربه بالمسند باست امرئ كنت في يده فلم ينتصر
انقضت أخباره

أخبار طويس ونسبه
طويس لقب واسمه طاوس مولى بني مخزوم
وهو أول من غنى الغناء المتقن من المخنثين
وهو أول من صنع الهزج والرمل في الإسلام
وكان يقال أحسن الناس غناء في الثقيل ابن محرز وفي الرمل ابن سريج وفي الهزج طويس وكان الناس يضربون به المثل فيقال أهزج من طويس
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد ابن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين قال إسحاق وحدثني المدائني والهيثم بن عدي عن صالح بن كيسان
تغنى بشعر ذي جدن
أن أبان بن عثمان وفد على عبد الملك بن مروان فأمره على الحجاز فأقبل حتى إذا دنا من المدينة تلقاه أهلها وخرج إليه أشرافها فخرج معهم طويس فلما رآه سلم عليه ثم قال له أيها الأمير إني كنت أعطيت الله عهدا لئن رأيتك أميرا لأخضبن يدي إلى المرفقين ثم أزدو بالدف بين يديك ثم أبدى عن دفه وتغنى بشعر ذي جدن الحميري
( ما بالُ أهلِكِ يا ربابُ ... خُزْراً كأنّهمُ غِضابُ )
قال فطرب أبان حتى كاد أن يطير ثم جعل يقول له حسبك يا طاوس

ولا يقول له يا طويس لنبله في عينه ثم قال له اجلس فجلس
فقال له أبان قد زعموا أنك كافر
فقال جعلت فداءك والله إني لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأصلي الخمس وأصوم شهر رمضان وأحج البيت
فقال أفأنت أكبر أم عمرو بن عثمان وكان عمرو أخا أبان لأبيه وأمه فقال له طويس أنا والله جعلت فداءك مع جلائل نساء قومي أمسك بذيولهن يوم زفت أمك المباركة إلى أبيك الطيب
قال فاستحيا أبان ورمى بطرفه إلى الأرض
وأخبرني بهذه القصة إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا العتبي عن أبيه بمثل هذه القصة عن أبان وطويس
وزاد فيها أن طويسا قال له نذري أيها الأمير قال وما نذرك قال نذرت إن رأيتك أميرا في هذه الدار أن أغني لك وأزدو بدفي بين يديك
فقال له أوف بنذرك فإن الله عز و جل يقول ( يوفون بالنذر ) قال فأخرج يديه مخضوبتين وأخرج دفه وتغنى
( ما بالُ أهلِكِ يا ربابُ ... )
وزاد فيه فقال له أبان يقولون إنك مشؤوم قال وفوق ذلك قال وما بلغ من شؤمك قال ولدت ليلة قبض النبي وفطمت ليلة مات أبو بكر رضي الله عنه واحتلمت ليلة قتل عمر رضوان الله عليه وزفت إلي أهلي ليلة قتل عثمان رضي الله عنه
قال فاخرج عني عليك الدبار

يحيى بن الحكم يهدر دمه مع المخنثين
أخبرني إسماعيل قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثني مصعب بن عثمان عن نوفل بن عمارة قال
خرج يحيى بن الحكم وهو أمير على المدينة فبصر بشخص بالسبخة

مما يلي مسجد الأحزاب فلما نظر إلى يحيى بن الحكم جلس فاستراب به فوجه أعوانه في طلبه فأتي به كأنه امرأة في ثياب مصبغة مصقولة وهو ممتشط مختضب
فقال له أعوانه هذا ابن نغاش المخنث
فقال له ما أحسبك تقرأ من كتاب الله عز و جل شيئا إقرأ أم القرآن
فقال يا أبانا لو عرفت أمهن عرفت البنات
فقال له أتتهزأ بالقرآن لا أم لك وأمر به فضربت عنقه
وصاح في المخنثين من جاء بواحد منهم فله ثلاثمائة درهم
قال زرجون المخنث فخرجت بعد ذلك أريد العالية فإذا بصوت دف أعجبني فدنوت من الباب حتى فهمت نغمات قوم آنس بهم ففتحته ودخلت فإذا بطويس قائم في يده الدف يتغنى فلما رآني قال لي إيه يا زرجون قتل يحيى بن الحكم ابن نغاش قلت نعم قال وجعل في المخنثين ثلاثمائة درهم قلت نعم
فادفع يغني
( ما بالُ أهلكِ يا رباب ... خُزْراً كأنّهمُ غِضابُ )
( إن زرتُ أهلكِ أوعدوا ... وتَهِرّ دونهمُ كِلابُ )
ثم قال ويحك أفما جعل في زيادة ولا فضلني عليهم في الجعل بفضلي شيئا
أخبرني محمد بن عمرو العتابي قال حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان ولم أسمعه أنا من محمد بن خلف قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي قال حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال
كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أتغنى
( ما بالُ أهلكِ يا رَبابُ ... خُزْراً كأنّهم غِضابُ )

قال فإذا خوخة قد فتحت وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء فقال يا فاسق أسأت التأدية ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة ثم اندفع يغنيه فظننت أن طويسا قد نشر بعينه فقلت له أصلحك الله من أين لك هذا الغناء فقال نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم فقالت لي أمي يا بني إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضر معه قبح الوجه
فتركت المغنين واتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز و جل ما ترى
فقلت له فأعد جعلت فداءك قال لا ولا كرامة أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس وإذا هو مالك بن أنس ولم أعلم

صوت من المائة المختارة
( لِمَنْ رَبْعٌ بذات الجَيْشِ ... أمْسَى دارساً خَلَقَا )
( وقفتُ به أُسائلهُ ... ومَرّتْ عِيسُهمْ حِزَقَا )
( عَلَوْا بك ظاهرَ البَيْداءِ ... والمخزونُ قد قَلِقَا )
ذات الجيش موضع
ذكر النبي أن جيشا يغزو الكعبة فيخسف بهم إلا رجلا واحدا يقلب وجهه إلى قفاه فيرجع إلى قومه كذلك فيخبرهم الخبر
حدثني بهذا الحديث أحمد بن محمد الجعدي قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن محمد بن سوقة قال سمعت نافع بن جبير بن مطعم يقول حدثتني عائشة قالت
حديث النبي عن انخساف الأرض
قال رسول الله ( يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض

خسف بأولهم وآخرهم ) قالت عائشة فقلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم سواهم ومن ليس منهم قال ( يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على قدر نياتهم ) الشعر للأحوص والغناء في هذا اللحن المختار للدلال المخنث وهو أحد من خصاه ابن حزم بأمر الوليد بن عبد الملك مع المخنثين
والخبر في ذلك يذكر بعد
ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر في الأول والثالث
ولإسحاق فيه ثقيل أول آخر
وفيه لمالك لحن من خفيف الرمل عن يونس والهشامي وغيرهما
وفيه رمل ينسب إلى ابن سريج وهو مما يشك في نسبته إليه
وقيل إن خفيف الرمل لابن سريج والرمل لمالك
وذكر حبش أن فيه للدلال خفيف ثقيل بالبنصر أيضا

ذكر الأحوص وأخباره ونسبه
هو الأحوص
وقيل إن اسمه عبد الله وإنه لقب الأحوص لحوص كان في عيينه
وهو ابن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح واسم أبي الأقلح قيس بن عصيمة بن النعمان بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمر بن عوف بن مالك بن الأوس
وكان يقال لبني ضبيعة بن زيد في الجاهلية بنو كسر الذهب
وقال الأحوص حين نفي إلى اليمن
( بَدّل الدّهْرُ من ضُبَيْعةَ عَكًّا ... جِيرةً وهو يُعْقِبُ الأبْدالاَ )
خبر جده عاصم حمي الدبر
وكان جده عاصم يقال له حمي الدبر وكان رسول الله بعثه بعثا فقتله المشركون وأرادوا أن يصلبوه فحمته الدبر وهي النحل فلم يقدروا عليه حتى بعث الله عز و جل الوادي في الليل فاحتمله فذهب به
وفي ذلك يقول الأحوص مفتخرا
( وأنا ابنُ الذي حَمَتْ لحمَه الدّبْرُ ... قتِيلِ اللَّحيْانِ يومَ الرّجيعِ )
حدثنا بالخبر في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا ابن حميد قال

حدثنا سلمة بن الفضل قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال
قدم على رسول الله بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما وخيرا فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن
ويعلمونا شرائع الإسلام فبعث رسول الله معهم نفرا من ستة من أصحابه مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب وخالد بن البكير حليف بني عدي بن كعب وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو ابن عوف وخبيب بن عدي أخا بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد ابن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر وعبد الله بن طارق حليفا لبني ظفر من بلي وأمر رسول الله عليهم مرثد بن أبي مرثد فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية من الحجاز من صدر الهدأة غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا بالرجال في أيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا إنا والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم
فأما مرثد ابن أبي مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقالوا إنا والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعا
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة وأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا

كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران
وأما خبيب بن عدي وزيد ابن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما
فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل وكان حجير أخا الحارث بن عامر بن نوفل لأمه ليقتله بأبيه
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأمية بن خلف أبيه
وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين قتل عاصم ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر فمنعته الدبر
فلما حالت بينهم وبينه قالوا دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه
فبعث الله عز و جل الوادي فاحتمل عاصما فذهب به
وكان عاصم قد أعطى الله عز و جل عهدا لا يمسه مشرك أبدا ولا يمس مشركا أبدا تنجسا منه
فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته عجبا لحفظ الله عز و جل العبد المؤمن كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد مماته كما امتنع منه في حياته
قال محمد بن جرير وأما غير ابن إسحاق فإنه قص من خبر هذه السرية غير الذي قصه غيره
من ذلك ما حدثنا أبو كريب قال حدثنا جعفر بن عون العمري قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل عن عمر أو عمرو بن أسيد عن أبي هريرة
أن رسول الله بعث عشرة رهط وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فخرجوا حتى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45