كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني

( أسعداني وأيْقِنا أنَّ نَحْساً ... سوف يَلْقَاكُما فتفترقانِ ) - خفيف -
قال أحسنت والله فيما قلت إذ نبهتني على هذا والله لا أقطعهما أبدا ولأوكلن بهما من يحفظهما ويسقيهما ما حييت ثم أمر بأن يفعل فلم يزل في حياته على ما رسمه إلى أن مات

نسبة هذا الصوت الذي غنته حسنة
( أيا نخلتي وادي بُوانةَ حبّذا ... إذا نام حُرّاسُ النخيل جناكُما )
( فطيبكُمُا أَرْبَى على النَّخْل بهجةً ... وزاد على طُول الفَتاءِ فَتاكما ) - طويل -
يقال إن الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وفيه لعطرد رمل بالوسطى من روايته ورواية الهشامي
أشعار في نخلتي حلوان
أخبرني عمي عن أحمد بن طاهر عن الخراز عن المدائني أن المنصور اجتاز بنخلتي حلوان وكانت إحداهما على الطريق فكانت تضيقه وتزحم الأثقال عليه فأمر بقطعهما فأنشد قول مطيع
( واعلما ما بقيتما أنّ نحساً ... سوف يلقاكُما فتفتَرقانِ ) - خفيف -
قال لا والله ما كنت ذلك النحس الذي يفرق بينهما وتركهما
وذكر أحمد بن إبراهيم عن أبيه عن جده إسماعيل بن داود أن المهدي قال قد أكثر الشعراء في نخلتي حلوان ولهممت أن آمر بقطعهما فبلغ قوله المنصور فكتب إليه بلغني أنك هممت بقطع نخلتي حلوان ولا فائدة لك في قطعهما ولا ضرر عليك في بقائهما فأنا أعيذك بالله أن تكون النحس الذي يلقاهما فتفرق بينهما يريد قول مطيع

ومما قالت الشعراء في نخلتي حلوان قول حماد عجرد وفيه غناء قد ذكرته في أخبار حماد
( جعلَ اللَّهُ سِدْرَتَيْ قصر شِيرينَ ... فداءً لنخلتَيْ حُلْوانِ )
( جئْتُ مُسْتَسْعِداً فلم يُسْعداني ... ومطيعٌ بَكَتْ له النخلتان ) - خفيف -
وأنشدني جحظة ووكيع عن حماد عن أبيه لبعض الشعراء ولم يسمه
( أيُّها العاذلان لا تعذلاني ... ودعاني من الملام دَعاني )
( وابكيا لي فإنَّني مستحق ... منْكُما بالبكاء أن تسعداني )
( إنني منكما بذلك أَوْلَى ... من مطيع بِنَخْلَتَي حُلوان )
( فهما تجهلان ما كان يشكو ... من هَواه وأنتما تعلمان ) - خفيف -
وقال فيهما أحمد بن إبراهيم الكاتب في قصيدة
( وكذاك الزمانُ ليس وإنْ ألْلَفَ ... يبقى عليه مُؤْتَلِفانِ )
( سَلَبت كفُّه الغَريَّ أخاه ... ثم ثَنَّى بِنَخْلَتَي حُلوان )
( فكأنَّ الغَرِيَّ قد كان فَرداً ... وكأنْ لم تُجاور النخلتان ) - خفيف -
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب الزبيري عن أبيه قال جلس مطيع بن إياس في العلة التي مات فيها في قبة خضراء وهو على قرش خضر فقال له الطبيب أي شيء تشتهي اليوم قال أشتهي ألا أموت قال ومات في علته هذه وذلك بعد ثلاثة أشهر مضت له من خلافة الهادي

قال أبو الفرج ما وجدت فيه غناء من شعر مطيع قال

صوت
( أَمَرّ مدامةً صِرْفاً ... كأنّ صبِيبها وَدَجُ )
( كأنّ الْمِسك نَفْحَتُها ... إذا بزِلَتْ لها أرُجُ )
( فَظَلَّ تخالُهُ مَلِكاً ... يُصَرِّفُها ويمتزج ) - مجزوء الوافر -
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالخنصر والوسطى عن ابن المكي وفيه لحن آخر لابن جامع وهذه الطريقة بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق
صوت
( جُدِلَت كجدْل الخيزران ... وثُنِّيَتْ فَتَثَنَّتِ )
( وَتيقَّنَتْ أنَّ الفؤاد ... يُحبُّها فَأَدَلَّتِ ) - مجزوء الكامل -
الغناء لعبد الله بن عباس الربيعي خفيف رمل وذكر حبش أنه لمقامة
صوت
( أيها المبتغِي بَلوْمي رشادِي ... أُلْهُ عنّي فما عليك فسادي )
( أنتَ خِلْوٌ مِنَ الذي به وما يعلم ... ما بي إلا القريحُ الفؤادِ ) - خفيف -
الغناء ليونس رمل بالبنصر من كتابة ورواية الهشامي
صوت
( ألا إنَّ أهلَ الدارِ قد ودَّعوا الدارا ... وقد كان أهلُ الدار في الدار أَجْوَارا )

( يبكِّي على إِثْرِ الجَميعِ فلا يرى ... سوى نفسه فيها من القوم ديّارا ) - طويل -
الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر ابن المكي أن فيه لابن سريج لحنا من الثقيل الأول بالبنصر
انقضت أخبار مطيع ولله الحمد

صوت
( فيّ انقباضٌ وحشْمَةٌ فإذا ... صادفْتُ أهلَ الوَفَاءِ والكرمِ )
( أرْسلْتُ نفسي على سجِيَّتها ... وقلْتُ ما قلتُ غيَر محتشِم ) - منسرح -
الشعر لمحمد بن كناسة الأسدي والغناء لقلم الصالحية ثقيل أول بالوسطى وذكر ابن خرداذبه أن فيه لإسماعيل بن صالح لحنا

أخبار محمد بن كناسة ونسبه
هو محمد بن كناسة واسم كناسة عبد الله بن عبد الأعلى بن عبيد الله بن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن صهبان واسم صهبان كعب بن دويبة بن أسامة بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة ابن دودان بن أسد بن خزيمة ويكنى أبا يحيى شاعر من شعراء الدولة العباسية كوفي المولد والمنشأ قد حمل عنه شيء من الحديث وكان إبراهيم بن أدهم الزاهد خاله وكان امرأ صالحا لا يتصدى لمدح ولا لهجاء وكانت له جارية شاعرة مغنية يقال لها دنانير وكان أهل الأدب وذوو المروءة يقصدونها للمذاكرة والمساجلة في الشعر
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني إبراهيم بن أبي عثمان قال حدثني مصعب الزبيري قال قلت لمحمد بن كناسة الأسدي ونحن بباب أمير المؤمنين أأنت الذي تقول في إبراهيم بن أدهم العابد
( رأيتُك ما يُغْنِيكَ ما دونه الغِنَى ... وقد كان يُغني دون ذاك ابن أدهما )
( وكان يرى الدنيا صغيراً عظيمها ... وكان لِحَقِّ اللَّه فيها مُعَظِّما )

( وأكْثَرُ ما تلقاه في القوم صامتاً ... فإن قال بذّ القائلينَ وأحْكَما ) - طويل -
فقال محمد بن كناسة أنا قلتها وقد تركت أجودها فقال
( أهان الهوَى حتى تجنّبه الهوَى ... كما اجتنب الجاني الدّم الطالبَ الدّما )

رأيه في حديثه
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني علي بن مسرور العتكي قال حدثني أبي قال قال ابن كناسة لقد كنت أتحدث بالحديث فلو لم يجد سامعه إلا القطن الذي على وجه أمه في القبر لتعلل عليه حتى يستخرجه ويهديه إلي وأنا اليوم أتحدث بذلك الحديث فما أفرغ منه حتى أهيء له عذرا
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان إجازة قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني عبيد الله بن يحيى بن فرقد قال سمعت محمد بن كناسة يقول كنت في طريق الكوفة فإذا أنا بجويرية تلعب بالكعاب كأنها قضيب بان فقلت لها أنت أيضا لو ضعت لقالوا ضاعت جارية ولو قالوا ضاعت ظبية كانوا أصدق فقالت ويلي عليك يا شيخ وأنت أيضا تتكلم بهذا الكلام فكسفت والله إلى بالي ثم تراجعت فقلت
( وإنّي لحُلوٌ مخبَري إن خَبِرْتِني ... ولكنْ يُغَطّيني ولا ريْبَ بي شيَخْ ) - طويل -
فقالت لي وهي تلعب وتبسمت فما أصنع بك أنا إذا فقلت لا شيء وانصرفت
أخبرنا ابن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال سألت

محمد بن كناسة عن قول الشاعر
( إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثريَّا ... ظننْتُ بآل فاطمة الظنونا ) - وافر -
فقال يقول إذا صارت الجوزاء في الموضع الذي ترى فيه الثريا خفت تفرق الحي من مجمعهم والثريا تطلع بالغداة في الصيف والجوزاء تطلع بعد ذلك في أول القيظ

تعريضه بامرأته
أخبرني ابن المرزبان قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني صالح ابن أحمد بن عباد قال مر محمد بن كناسة في طريق بغداد فنظر إلى مصلوب على جذع وكانت عنده امرأة يبغضها وقد ثقل عليه مكانها فقال يعنيها
( أيا جِذْعَ مَصْلُوبٍ أتى دون صَلْبه ... ثلاثون حَوْلاً كامِلاً هل تُبادِلُ )
( فما أنت بالحِمْل الذي قد حمَلْتَه ... بأضجَر مني بالذي أنا حامل ) - طويل -
أخبرني ابن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد وأخبرني الحسن ابن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن عمران عن عبيد بن حسن قال رأى رجل محمد بن كناسة يحمل بيده بطن شاة فقال هاته أحمله عنك فقال لا ثم قال
( لا يَنقُصُ الكامِلَ من كمالِهِ ... ما جرّمن نَفْعٍ إلى عيالهِ ) - رجز -
أخبرني وكيع قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال حدثني محمد بن علي ابن عثمان عن أبيه قال كنت يوما عند ابن كناسة فقال لنا أعرفكم شيئا من فهم دنانير يعني جاريته قلنا نعم فكتب إليها إنك أمة ضعيفة

لكعاء فإذا جاءك كتابي هذا فعجلي بجوابي والسلام فكتبت إليه ساءني تهجينك إياي عند أبي الحسين وإن من أعيا العي الجواب عما لا جواب له والسلام

دنانير ترثي صديق أبي الحسين
أخبرني وكيع قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال كتب إلي الزبير بن بكار أخبرني علي بن عثمان الكلابي قال جئت يوما إلى منزل محمد بن كناسة فلم أجده ووجدت جاريته دنانير جالسة فقالت لي مالك محزونا يا أبا الحسين فقلت رجعت من دفن أخ لي من قريش فسكتت ساعة ثم قالت
( بكيْتَ على أخٍ لكَ من قريشٍ ... فأبكانا بكاؤُك يا عليُّ )
( فماتَ وما خبَرْناهُ ولكنْ ... طهارةُ صَحْبِهِ الخبرُ الجَليُّ ) - وافر -
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال أملق محمد بن كناسة فلامه قومه في القعود عن السلطان وانتجاعه الأشراف بأدبه وعلمه وشعره فقال لهم مجيبا عن ذلك
( تُؤنِّبني أَنْ صُنْتُ عِرْضِي عِصابةٌ ... لها بين أطنابِ اللئام بَصِيصُ )
( يقولون لو غَمَّضْتَ لازدَدْتَ رِفعةً ... فقلْتُ لهمْ إني إذنْ لَحرِيصُ )
( أَتَكْلِمُ وجْهِي لا أبا لأبيكُمُ ... مطامعُ عنها للكرامِ محيصُ )
( مَعاشِي دُوينَ القوت والعِرْضُ وافرٌ ... وبْطنِيَ عن جدوَى اللئَام خَمِيصُ )

( سألقَى المنايا لم أخالط دَنِيّةً ... ولم تَسْرِ بي في المخزِيات قلُوصُ ) - طويل -
حدثنا الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال حدثني إسحاق الموصلي قال أنشدني محمد بن كناسة لنفسه قال
( فيَّ انقباضٌ وحِشْمةٌ فإذا ... صادفْتُ أهلَ الوفاءِ والكرمِ )
( أرْسلْتُ نفسِي على سَجِيّتها ... وقلْتُ ما قلْتُ غيرَ مُحْتَشِم ) - منسرح -
قال إسحاق فقلت لابن كناسة وددت أنه نقص من عمري سنتان وأني كنت سبقتك الى هذين البيتين فقلتهما

رثاؤه إبراهيم بن أدهم
حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني محمد بن المقدام العجلي قال كانت أم محمد بن كناسة امرأة من بني عجل وكان إبراهيم بن أدهم خاله أو ابن خاله فحدثني ابن كناسة أن إبراهيم بن أدهم قدم الكوفة فوجهت أمه إليه بهدية معه فقبلها ووهب له ثوبا ثم مات إبراهيم فرثاه ابن كناسة فقال
( رأيْتكَ ما يَكْفِيكَ ما دونه الغِنَى ... وقد كان يكفِي دون ذاك ابنَ أدهما )
( وكان يرى الدنيا قليلاً كثيُرها ... فكان لأمرِ اللَّه فيها مُعظِّما )
( أمات الهوى حتى تجنِّبه الهوَى ... كما اجتنب الجانِي الدّم الطالبَ الدّما )
( وللحلم سلطانٌ على الجهل عنده ... فما يستطيعُ الجهلُ أن يَتَرَمْرَما )
( وأكْثَرُ ما تلقاه في القوم صامتاً ... وإن قال بَذَّ القائلين وأحْكَمَا )

( يُرَى مُسْتَكِيناً خاضِعاً متواضِعاً ... ولَيْثاً إذا لاقى الكَتيبة ضيغَما )
( على الجدَث الغربيّ من آل وائلٍ ... سلامٌ وبِرٌّ ما أبرّ وأكرما ) - طويل -
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني زكريا بن مهران قال عاتب محمد بن كناسة صديق له شريف كان ابن كناسة يزوره ويألفه على تأجره عنه فقال ابن كناسة
( ضَعُفْتُ عن الإِخوان حتى جفوْتُهُمْ ... على غير زُهْدٍ في الوفاءِ ولا الودِّ )
( ولكِنَّ أيامِي تخرَّمْنَ مُنَّتِي ... فما أبلُغُ الحاجاتِ إلا على جَهْدِ ) - طويل -

رأيه في الدنيا
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال أنشدني ابن كناسة قال الضبي وكان يحيى يستحسنها ويعجب بها
( ومِنْ عجَبِ الدنيا تَبَقِّيك للبِلَى ... وأنّك فيها للبقاء مُرِيدُ )
( وأيّ بنِي الأيامِ إلا وعندَه ... من الدهر ذَنْبٌ طارِفٌ وتَلِيدُ )
( ومنْ يأمنِ الأيامَ أما انبياعُها ... فَخَطْرٌ وأما فَجْعُها فعتيد )
( إذا اعتادت النفسُ الرِّضاع من الهوى ... فإنَّ فِطَام النفسِ عنه شديد ) - طويل -
حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال قال لي عبيد بن الحسن قال لي ابن كناسة ذات يوم في زمن الربيع اخرج بنا ننظر إلى الحيرة فإنها حسنة في هذا الوقت فخرجت معه حتى بلغنا الخورنق فلم يزل ينظر إلى البر وإلى رياض الحيرة وحمرة الشقائق فأنشأ يقول

( الآن حين تزيّن الظَّهْر ... مَيْثَاؤُه وبِرَاقُه العُفْرُ )
( بسط الربيعُ بها الرياض كما ... بُسطتْ قُطُوعَ اليَمْنةِ الخمرُ )
( بَرِّيّةٌ في البحر نابتة ... يُجْبى إليها البرُّ والبحرُ )
( وجرى الفراتُ على مياسرها ... وجرى على أَيْمَانِها الزهْرُ )
( وبدا الخورنق في مطالِعها ... فَرْداً يلوح كأنه الفجر )
( كانت منازلَ للملوك ولم ... يُعْلمْ بها لمَملَّكٍ قَبْرُ ) - كامل -
قال ثم قال يصف تلك البلاد
( سَفُلَتْ عَنْ بَرْدِ أرضٍ ... زادها البَرْدُ عذابا )
( وعَلَتْ عن حرِّ أُخرى ... تُلْهِبُ النارَ التهابا )
( مُزِجَت حيناً ببرْدٍ ... فصفَا العيْشُ وطابا ) - مجزوء الرمل -

نصحه لابنه في اختيار الأصدقاء
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إسحاق بن محمد الأسدي قال حدثني عبد الأعلى بن محمد ابن كناسة قال
رآني أبي مع أحداث لم يرضهم فقال لي
( يُنْبِيكَ عن عَيْب الفتَى ... تَرْكُ الصلاة أو الخَدِينُ )
( فإذا تهاون بالصّلا ... ة فما لهُ في الناس دينُ )
( ويُزَنُّ ذو الحدثِ المريبِ بما يُزَنُّ به القرينُ )
( إنَّ العفيفَ إذا تَكَنْنَفه المريبُ هو الظَّنِينُ ) - مجزوء الكامل

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد قال أخبرنا عباد بن الحسين بن عباد بن كناسة قال كان محمد بن كناسة عم أبيه قال كان يجيء إلى محمد بن كناسة رجل من عشيرته فيجالسه وكان يكتب الحديث ويتفقه ويظهر أدبا ونسكا وظهر محمد بن كناسة منه على باطن يخالف ظاهره فلما جاءه قال له
( ما مَنْ روَى أدباً فلم يعملْ به ... ويكفّ عن دفع الهوى بأديبِ )
( حتى يكونَ بما تعلَّمَ عاملاً ... من صالح فيكونَ غيرَ مَعِيبِ )
( ولقلما يُغني إصابةُ قائل ... وأفعالُه أفعالُ غيرِ مُصيبِ ) - كامل -

خبره مع امرأة من بني أود
أخبرني محمد بن خلف بن المزربان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن كناسة عن أبيه عن جده قال أتيت امرأة من بني أود تكحلني من رمد كان أصابني فكحلتني ثم قالت اضطجع قليلا حتى يدور الدواء في عينك فاضطجعت ثم تمثلت قول الشاعر
( أمُخْتَرِمي رَيْبُ المنونِ ولم أزُرْ ... طبيبَ بني أَوْدٍ على النَّأْيِ زينَبا ) - طويل -
فضحكت ثم قالت أتدري فيمن قيل هذا الشعر قلت لا والله فقالت في والله قيل وأنا زينب التي عناها وأنا طبيب أود أفتدري من الشاعر قلت لا قالت عمك أبو سماك الأسدي
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني علي بن عثام الكلابي قال كانت لابن كناسة جارية شاعرة مغنية يقال لها دنانير وكان له صديق يكنى أبا الشعثاء وكان عفيفا مزاحا فكان يدخل إلى ابن كناسة يسمع غناء جاريته ويعرض لها بأنه يهواها فقالت فيه
( لأبي الشعثاءِ حُبٌّ باطنٌ ... ليس فيه نَهْضَةٌ للمتّهِمْ )

( يا فؤادي فازدَجِرْ عنه ويا ... عَبَثَ الحبّ به فاقعُد وقمْ )
( زارني منه كلامٌ صائبٌ ... ووَسيلاتُ المحبّين الكَلِمْ )
( صائدُ تأمنُهُ غِزْلانُه ... مثلَ ما تأمنُ غِزْلانُ الحَرَمْ )
( صَلِّ إن أحببْتَ أن تُعطَى المُنَى ... يا أبا الشَّعْثاءِ للَّه وصُمْ )
( ثُمَّ مِيعادُك يوم الحشْرِ في ... جَنّةِ الخلْدِ إنِ اللَّهُ رَحِمْ )
( حيثُ ألقاك غلاماً ناشئاً ... يافعاً قد كُملت فيه النِّعم ) - رمل -
أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن محمد الأسدي قال حدثني جدي موسى ابن صالح قال ماتت دنانير جاريه ابن كناسة وكانت أديبة شاعرة فقال يرثيها بقوله
( الحمدُ للَّه لا شَرِيكَ له ... يا ليْتَ ما كان منكِ لم يَكُنِ )
( إن يَكُنْ القولُ قلَّ فيكِ فما ... أفحمنِي غيرُ شِدّة الحَزَنِ ) - منسرح -

روايته للحديث
قال أبو الفرج وقد روى ابن كناسة حديثا كثيرا وروى عنه الثقات من المحدثين فممن روى ابن كناسة عنه سليمان بن مهران الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد وهشام بن عروة بن الزبير ومسعر بن كدام وعبد العزيز بن أبي داود وعمر بن ذر الهمداني وجعفر بن برقان وسفيان الثوري وفطر بن خليفة ونظراؤهم
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن سعد العوفي قال حدثنا محمد بن كناسة قال حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال قلت يا رسول الله إن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم قال المرء مع من أحب
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا محمد بن

كناسة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائنا خديجة والله أعلم
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا ابن كناسة قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن زر بن حبيش قال كانت في أبي بن كعب شراسة فقلت له يا أبا المنذر اخفض جناحك يرحمك الله وأخبرنا عن ليلة القدر فقال هي ليلة سبع وعشرين وقد روى حديثا كثيرا ذكرت منه الأحاديث فقط ليعلم صحة ما حكيته عنه وليس استيعاب هذا الجنس مما يصلح ها هنا

أخبار قلم الصالحية
كانت قلم الصالحية جارية مولدة صفراء حلوة حسنة الغناء والضرب حاذقة قد أخذت عن إبراهيم وابنه إسحاق ويحيى المكي وزبير بن دحمان وكانت لصالح بن عبد الوهاب أخي أحمد بن عبد الوهاب كاتب صالح بن الرشيد وقيل بل كانت لأبيه وكانت لها صنعة يسيرة نحو عشرين صوتا واشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار
اعجاب الواثق بها
فأخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثني رذاذ أبو الفضل المغني مولى المتوكل على الله قال حدثني أحمد بن الحسين بن هشام قال كانت قلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب إحدى المغنيات المحسنات المتقدمات فغني بين يدي الواثق لحن لها في شعر محمد بن كناسة قال
( فيَّ انقباضٌ وَحِشْمةٌ فَإذا ... صادفْتُ أهلَ الوفاءِ والكرمِ )
( أرسلْتُ نفسِي على سجيَّتِها ... وقُلْتُ ما قلتُ غيرَ مُحْتَشِمِ ) - منسرح -
فسأل لمن الصنعة فيه فقيل لقلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأحضره فقال ويلك من صالح بن عبد الوهاب هذا فأخبره قال أين هو قال إبعث فأشخصه

وأشخص معه جاريته فقدما على الواثق فدخلت عليه قلم فأمرها بالجلوس والغناء فغنت فاستحسن غناءها وأمر بابتياعها فقال صالح أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر فغضب الواثق من ذلك ورد عليه ثم غنى بعد ذلك زرزور الكبير في مجلس الواثق صوتا الشعر فيه لأحمد بن عبد الوهاب أخي صالح والغناء لقلم وهو
( أبتْ دارُ الأحبَّةِ أَنْ تبينا ... أجِدَّك ما رأيتَ لها مُعينا )
( تَقَطّعُ نفسُه من حبِّ ليلى ... نفوساً ما أُثِبْنَ ولا جُزينا ) - وافر -
فسأل لمن الغناء فقيل لقلم جارية صالح فبعث إلى ابن الزيات أشخص صالحا ومعه قلم فلما أشخصهما دخلت على الواثق فأمرها أن تغنيه هذا الصوت فغنته فقال لها الصنعة فيه لك قالت نعم يا أمير المؤمنين قال بارك الله عليك وبعث إلى صالح فأحضر فقال أما إذا وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئا له فيه رغبة وقد أهديتها إلى أمير المؤمنين فإن من حقها علي إذا تناهيت في قضائه أن أصيرها ملكه فبارك الله له فيها فقال له الواثق قد قبلتها وأمر ابن الزيات أن يدفع له خمسة آلاف دينار وسماها احتياطا فلم يعطه ابن الزيات المال ومطلبه به فوجه صالح إلى قلم من أعلمها ذلك فغنت الواثق وقد اصطبح صوتا فقال لها بارك الله فيك وفيمن رباك فقالت يا سيدي وما نفع من رباني مني إلا التعب والغرم علي والخروج مني صفرا قال أو لم آمر له بخمسة آلاف دينار قالت بلى ولكن ابن الزيات لم يعطه شيئا فدعا بخادم من خاصة الخدم ووقع إلى ابن الزيات بحمل الخمسة آلاف الدينار إليه وخمسة آلاف دينار أخرى معها قال صالح فصرت مع الخادم إليه

بالكتاب فقربني وقال أما الخمسة الآلاف الأولى فخذها فقد حضرت والخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها إليك بعد جمعة فقمت ثم تناساني كأنه لم يعرفني وكتبت أقتضيه فبعث إلي أكتب لي قبضا بها وخذها بعد جمعة فكرهت أن أكتب قبضا بها فلا يحصل لي شيء فاستترت وهو في منزل صديق لي فلما بلغه استتاري خاف أن أشكوه إلى الواثق فبعث إلي بالمال وأخذ كتابي بالقبض ثم لقيني الخادم بعد ذلك فقال لي أمرني أمير المؤمنين أن أصير إليك فأسألك هل قبضت المال قلت نعم قد قبضته قال صالح وابتعت بالمال ضيعة وتعلقت بها وجعلتها معاشي وقعدت عن عمل السلطان فما تعرضت منه لشيء بعدها

علي بن الجهم يمدح الواثق
أخبرني محمد بن يحيى قال أخبرني ابن إسحاق الخراساني قال وحدثني محمد بن مخارق قال لما بويع الواثق بالخلافة دخل عليه علي بن الجهم فأنشده قوله
( قد فازَ ذو الدّنيا وذو الدّين ... بدولةِ الواثِقِ هارونِ )
( وعمَّ بالإحسان مِنْ فِعْلِهِ ... فالناسُ في خفْضٍ وفي لِينِ )
( ما أكثرَ الداعي له بالبَقَا ... وأكثرَ التَّالِي بآمينِ ) - سريع -
وأنشده أيضا قوله فيه
( وَثِقَتْ بالمَلكِ الواثِقِ ... باللَّه النُّفوسُ )
( مَلِكٌ يشقَى به المالُ ... ولا يشقَى الجَلِيسُ )
( أَسَدٌ تضْحَك عن شَدْدَاتِه ... الحَرْبُ العَبُوسُ )
( أَنِس السيفُ به واستوْحَش ... العِلْقُ النفيسُ )

( يا بَني العباس يأبى اللهُ ... إلاّ أنْ تَسُوْسُوا ) - مجزوء الرمل -
قال فوصله الواثق صلة سنية
وتغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين فسمع الواثق الشعرين واللحنين من غيرها فأراد شراءها وأمر محمد بن عبد الملك الزيات بإحضار مولاها وإحضارها واشتراها منه بعشرة آلاف دينار

صوت
( وكنت أُعِيرُ الدمعَ قبلك مَنْ بَكَى ... فأنت على من مات قبلك شاغِلُهْ )
( سَقَى جدَثاً أعرافُ غَمْرَةَ دونه ... ببيشة دِيماتُ الربيعِ ووابِلُهْ )
( وما بِيَ حُبُّ الأرضِ إلا جوارُها ... صَدَاهُ وقولٌ ظَنَّ أنِّيَ قائلُهْ ) - طويل -
الشعر للشمردل بن شريك من قصيدة طويلة مشهورة يرثي بها أخاه والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول بالوسطى ابتداؤه نشيد ولمقاسة بن ناصح فيه خفيف رمل بالوسطى جميعا عن الهشامي وذكر حبش أن خفيف الرمل لخزرج

أخبار الشمردل ونسبه
الشمردل بن شريك بن عبد الملك بن رؤبة بن سلمة بن مكرم بن ضبارى بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية كان في أيام جرير والفرزدق
هجاؤه وكيع بن أبي سود
أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ واسمه رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال كان الشمردل بن شريك شاعرا من شعراء بني تميم في عهد جرير والفرزدق وكان قد خرج هو وإخوته حكم ووائل وقدامة إلى خراسان مع وكيع بن أبي سود فبعث وكيع أخاه وائلا في بعث لحرب لترك وبعث أخاه قدامة إلى فارس في بعث آخر وبعث أخاه حكما في بعث إلى سجستان فقال له الشمردل إن رأيت أيها الأمير أن تنفذنا معا في وجه واحد فإنا إذا اجتمعنا تعاونا وتناصرنا وتناسبنا فلم يفعل ما سأله وأنفذهم إلى الوجوه التي أرادها فقال الشمردل يهجوه وكتب بها إلى أخيه حكم مع رجل من بني جشم بن أد بن طابخة

( إني إليك إذا كتبْتُ قصيدة ... لم يأتني لجوابها مَرْجُوعُ )
( أَيُضِيعُها الجُشَمِيّ فيما بيننا ... أم هل إذا وَصَلَتْ إليك تَضيعُ )
( ولقد علمْت ُوأنت عنِّي نازحٌ ... فيما أتى كِبْدُ الحمار وكيعُ )
( وبنو غُدانةَ كان معروفاً لهمْ ... أن يُهْضَموا ويَضِيمَهُمْ يَربوع )
( وعُمارة العبد المبَيَّن إنه ... واللؤم في بدن القميص جميعُ ) - كامل -

رثاؤه لاخوته
قال أبو عبيدة ولم ينشب أن جاءه نعي أخيه قدامة من فارس قتله جيش لقوهم بها ثم تلاه نعي أخيه وائل بعده بثلاثة أيام فقال يرثيهما
( أعاذلُ كم من روعةٍ قد شهدْتها ... وغُصّةِ حُزْنٍ في فِراق أخِ جَزْلِ )
( إذا وقعت بين الحيازيم أَسْدَفَتْ ... عليّ الضحى حتى تُنَسِّيَنِي أهلي )
( وما أنا إلا مثلُ من ضُرِبتْ له ... أُسَى الدهر عن ابْنَيْ أب فارقا مثل )
( أقول إذا عزّيتُ نفسي بإخوة ... مضوْا لا ضعافٍ في الحياة ولا عُزْل )
( أبى الموتُ إلا فَجْعَ كلًّ بني أب ... سَيُمْسُون شتّى غبرَ مجتمعي الشَّمْل )
( سبيل حبيبَيَّ اللَّذين تبرّضَا ... دمُوعِيَ حتى أسرعَ الحُزْنُ في عقلي )
( كأن لم نسِرْ يوماً ونحنُ بغبطةٍ ... جميعاً وينزلْ عند رحليْهما رَحْلي )
( فعينَيّ إِنْ أَفْضَلْتُما بعد وائلٍ ... وصاحبه دمعاً فعُودَا على الفضْل )
( خليليَّ من دون الأخِلاّء أصبحا ... رهينَيْ وفَاءٍ من وفاةٍ ومن قتْل )
( فلا يبعدا لِلدَّاعِيَيْن إليهما ... إذا اغبرَّ آفاقُ السماءِ من المحْل )

( فقد عَدِم الأضيافُ بعدهما القِرى ... وأخمد نارَ الليل كلُّ فتىً وَغْل )
( وكانا إذا أيدِي الغضابِ تحطَّمَتْ ... لواغِرِ صدرٍ أو ضغائنَ من تَبْل )
( تَحاجزُ أيدِي جُهَّل القومِ عنهما ... إذا أتعب الحلْمَ التترّعُ بالجهل )
( كمستأسِدَي عِرِّيسةٍ لهما بها ... حِمىً هابه مَنْ بالحُزُونةِ والسَّهْلِ ) - طويل -
ومنها الصوت الذي ذكرت أخباره بذكره
قال أبو عبيدة وقال يرثي أخاه وائلا وهي من مختار المراثي وجيد شعره
( لعمري لَئِنْ غالتْ أخي دارُ فُرْقةٍ ... وآب إلينا سيْفُه ورواحلُهْ )
( وحلّتْ به أثقالَها الأرضُ وانتهى ... بمثواه منها وهْو عفٌّ مآكلهْ )
( لقد ضُمِّنَتْ جَلْدَ القُوى كان يُتّقَى ... به جانبُ الثَّغْر المخوفِ زلازلُهْ )
( وَصُولٌ إذا استغنى وإن كان مُقْتِراً ... من المال لم يُحْفِ الصديقَ مسائله )
( محلٌّ لأضيافِ الشّتاء كأنما ... هُمُ عنده أيتامه وأراملُه )
( رخِيصٌ نضيجِ اللحم مُغْلٍ بِنِيئهِ ... إذا بردت عند الصِّلاءِ أناملُه )
( أقولُ وقد رَجّمْتُ عنه فأسرعَتْ ... إليّ بأخبارِ اليقين محاصله )
( إلى اللَّهِ أشكو لا إلى الناس فَقْدَه ... ولوْعةَ حُزْنٍ أوجعَ القلبَ داخلُهْ )
( وتحقيقُ رؤيا في المنام رأيْتُها ... فكان أخي رُمْحاً ترفَّضَ عاملُه )

( سقَى جدثاً أعرافُ غَمْرَةَ دونه ... ببيشةَ دِيمَاتُ الربيع ووابلُهْ )
( بمثوَى غريبٍ ليس منا مزارُه ... بدانٍ ولا ذُو الودّ مِنّا مواصلُه )
( إذا ما أتى يومٌ من الدهرِ دونه ... فحيّاك عنا شَرْقُه وأصائلُه )
( سَنا صبحِ إشراقٍ أضاء ومَغربٌ ... من الشمس وافى جَنْحَ ليلٍ أوائلُه )
( تحيةَ من أدّى الرسالةَ حُبِّبت ... إليه ولم ترجع بشيءٍ رسائلُه )
( أبَى الصبرَ أن العين بعدَك لم يزَلْ ... يخالط جَفْنَيْها قذًى لا يزايلُه )
( وكنْتُ أُعِيْرُ الدمعَ قبلَك مَنْ بكى ... فأنت على مَنْ مات بعدك شاغلُهْ )
( يُذَكَّرُني هَيْفُ الجنوب ومُنتهى ... مسيرِ الصَّبا رَمْساً عليه جنادلُه )
( وهتَّافةُ فوق الغصونِ تفجّعتْ ... لفقدِ حمامٍ أَفْرَدَتْها حبائلُه )
( من الوُرْق بالأصْياف نَوّاحة الضحى ... إذا الغرقد التفت عليه غياطله )
( وسَوْرةُ أيدِي القوم إذ حُلَّتِ الحُبا ... حُبا الشِّيبِ واستعْوَى أخا الحلم جاهله )
( فعينيّ إذ أبكاكما الدهرُ فابكيا ... لمن نَصرُه قد بان منا ونائله )
( إذا استعبرَتْ عُوذُ النساء وشمّرت ... مآزر يوم ما تَوارَى خلاخلُه )
( وأصبح بيت الهجرِ قد حال دونه ... وغال امرأ ما كان يُخْشى غوائلُهْ )

( وثِقْن به عند الحفيظةِ فارعوَى ... إلى صوته جاراته وحلائله )
( إلى ذائد في الحرب لم يَكُ خاملاً ... إذا عاذ بالسيف المجرَّد حامله )
( كما ذاد عن عرِّيسة الغِيل مُخْدِر ... يخافُ الردى ركبانُه ورواحله )
( فما كنت أُلِفي لامرىء عِند مَوطنٍ ... أخاً بأخي لو كان حيّاً أبادله )
( وكنت بِه أغشى القتال فعزَّنِي ... عليه من المقدار من لا أقاتله )
( لعمركَ إنّ الموتَ منا لمولَعٌ ... بمن كان يُرجى نَفْعُه ونوافله )
( فما البعد إلا أننا بعد صحبة ... كأنْ لم نُبايتْ وائلاً ونقايله )
( سقى الضَّفِراتِ الغيْثُ ما دام ثاوياً ... بهنّ وجَادتْ أهلَ شُوْكٍ مَخَايلُه )
( وما بِيَ حبُّ الأرض إلاَّ جوارُها ... صَدَاهُ وقولٌ ظُنَّ أنّي قائلُه ) - طويل -
قال أبو عبيدة ثم قتل أخوه حكم أيضا في وجهه وبرز بعض عشيرته إلى قاتله فقتله وأتى أخاه الشمردل أيضا نعيه فقال يرثيه
( يقولون احتسِبْ حَكَماً وراحوا ... بأبيضَ لا أراهُ ولا يراني )
( وقبْلَ فراقِه أيقنْتُ أنِّي ... وكلّ ابنَيْ أبٍ متفارِقان )
( أخٌ لِيَ لوْ دعوْتُ أجابَ صوتِي ... وكنْتُ مجيبَه أنَّى دعانِي )
( فقد أفنى البكاءُ عليه دمعي ... ولوْ أني الفقيدُ إذاً بكانِي )
( مضى لسبيله لم يُعْطَ ضَيْماً ... ولم تَرهَبْ غَوائلَه الأدَاني )
( قَتلْنا عنه قاتلَه وكنّا ... نصُولُ به لدى الحرْبِ العَوَانِ )

( قتيلاً ليس مثل أخي إذا ما ... بدا الخَفِرات مِنْ هول الجَنَان )
( وكنتَ سِنانَ رُمْحي من قناتي ... وليس الرّمحُ إلا بالسِّنانِ )
( وكنت بَنانَ كَفِّي من يميني ... وكيف صلاحُها بعد البَنان )
( وكان يَهَابُك الأعداءُ فينا ... ولا أخشَى وراءك منْ رَماني )
( فقد أبْدَوْا ضغائنَهُمْ وشدُّوا ... إليَّ الطَّرْفَ واغْتمزوا لَيَاني )
( فِدَاك أخٌ نبا عنه غَناه ... ومولًى لا تصولُ له يدانِ ) - وافر -

ادعاء الفرزدق بيتا له بعد تهديده
حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة عن أبي عمرو وأبي سهيل قالا وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له فمر فيها هذا البيت
( وما بين مَنْ لم يُعْط سَمْعاً وطاعة ... وبين تميمٍ غَيْرُ جَزِّ الحلاقمِ ) - طويل -
فقال له الفرزدق والله يا شمردل لتتركن لي هذا البيت أو لتتركن لي عرضك فقال خذه لا بارك الله لك فيه فادعاه وجعله قصيدة ذكر فيها قتيبة بن مسلم التي أولها
( تحِنُّ بزوراءِ المدينهِ ناقتي ... حَنِينَ عجولٍ تبتغي البَوَّ رائمِ ) - طويل -
حدثنا هاشم قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة قال رأى الشمردل فيما يرى النائم كأن سنان رمحه سقط فعبره على بعض من يعبر الرؤيا فأتاه نعي أخيه وائل فذلك قوله

( وتَحقيقُ رؤيا في المنام رأيتُها ... فكانَ أخي رُمْحاً ترفَّضَ عاملُهْ ) - طويل -
حدثنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال كان الشمردل مغرما بالشراب وكان له نديمان يعاشرانه في حانات الخمارين بخراسان أحدهما يقال له ديكل من قومه والآخر من بني شيبان يقال له قبيصة فاجتمعوا يوما على جزور ونحروه وشربوا حتى سكروا وانصرف قبيصة حافيا وترك نعله عندهم وأنسيها من السكر فقال الشمردل
( شربْتُ ونادمْتُ الملوكَ فلم أجِدْ ... على الكأس نَدْمانا لها مثلَ دَيْكَلِ )
( أقَلَّ مِكَاساً في جَزور وإن غَلَتْ ... وأسرعَ إنضاجاً وإنزالَ مِرْجَلِ )
( ترى البازلَ الكَوْماء فوق خُوانه ... مفصَّلةً أعضاؤها لم تُفَصَّل )
( سَقَيْناه بعد الرَّي حتى كأَنما ... يرى حين أمسى أَبْرَقَيْ ذاتِ مأسَل )
( عشية أَنْسَيْنا قَبيصةَ نَعْلَه ... فَراحَ الفتى البكريُّ غيرَ مُنعَّل ) - طويل -

هجاؤه هلال بن أحوز
حدثنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال مدح الشمردل بن شريك هلال بن أحوز المازني واستماحه فوعده الرفد ثم ردده زمانا طويلا حتى ضجر ثم أمر له بعشرين درهما فدفعها إليه وكيله غلة فردها وقال يهجوه

( يقول هلالٌ كُلَّما جئْتُ زائراً ... ولا خيرَ عند المازني أعاودُهْ )
( ألا ليتني أُمسي وبيني وبينه ... بعيدُ مناطِ الماءِ غُبْرٌ فدافدُهْ )
( غَدَاً نصفُ حولٍ منه إن قال لي غداً ... وبعد غدٍ منه كَحَوْلٍ أُراصدُهْ )
( ولو أنني خُيِّرْتُ بين غَداته ... وبين بِرازي ديْلميًّا أجالدُهْ )
( تَعَوَّضْتُ من ساقَيَّ عشرين درهماً ... أتاني بها من غَلَّة السُّوق ناقِدُهْ )
( ولو قِيلَ مِثلاَ كنزِ قارونَ عنده ... وقيل التمس مَوْعُودَهُ لا أعاوده )
( ومثلك منقوص اليدين رددْتُه ... إلى مَحتدٍ قد كان حيناً يُجَاحِده ) - طويل -

هجاؤه للضبي حين شمت بمصرع اخوته
حدثنا هاشم قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة أن رجلا من بني ضبة كان عدوا للشمردل وكان نازلا في بني دارم بن مالك ثم خرج في البعث الذي بعث مع وكيع فلما قتل أخوة الشمردل وماتوا بلغه عن الضبي سرور بذلك وشماتة بمصيبته فقال
( يا أيُّها المبتغي شَتْمِي لأشتُمه ... إن كان أعمى فأنِّي عنك غيرُ عَمِ )
( ما أرضعَتْ مرْضِعٌ سَخْلاً أعقَّ بها ... في الناس لا عَرَبٍ منها ولا عجمِ )
( من ابن حنكلةٍ كانت وإن عَرِبَتْ ... مُذالةٌ لِقُدور الناس والحُرَمِ )
( عَوَى ليَكسِبَها شرّاً فقلْتُ له ... منْ يكسِبِ الشرَّ ثَدْيَيْ أمِّه يُلَمِ )
( ومن تعرّض شتمي يَلْقَ معْطِسُهُ ... من النَّشُوق الذي يشفي من اللَّمَمِ )
( متى أجئْك وتسمعْ ما عُنيتَ به ... تُطْرِقْ على قَذَعٍ أو تَرْضَ بالسَّلَمِ )

( أَوْلاَ فَحسْبُك رَهْطاً أن يفيدَهُمُ ... لا يغدِرون ولا يوفون بالذمم )
( ليسوا كثعلبةَ المغبوطِ جارُهُمُ ... كأنه في ذُرى ثَهْلانَ أو خِيَم )
( يُشَبِّهون قريشاً من تَكلّمهِم ... وطولِ أنْضِيةِ الأعناق والأمم )
( إذا غدا المسْك يجرِي في مفارقِهِمْ ... راحوا كأنهم مَرْضَى من الكَرمِ )
( جزُّوا النواصيَ من عجْلٍ وقد وطِئوا ... بالخيل رَهْطَ أبي الصَّهْباءِ والحُطَم )
( ويوم أَفْلَتَهُنَّ الحَوْفَزانُ وقد ... شالت عليه أكفُّ القوم بالجِذَم )
( إني وإن كنْتُ لا أنسى مُصابَهُمُ ... لم أدفعِ الموت عن زِيقٍ ولا حكم )

( لا يَبْعُدَا فَتَيَا جُودٍ ومَكْرُمَةٍ ... لدفعِ ضَيْمٍ وقَتْل الجوعِ والقَرَم )
( والبُعْدُ غالهما عني بمنزلةٍ ... فيها تفرّقُ أحياءٍ ومُخْترمِ )
( وما بناءٌ وإن سَدَّتْ دعائمُه ... إلا سيصبح يوماً خاوِيَ الدِّعمَ )
( لئن نجوْتَ من الأحداث أو سلمَتْ ... منهنّ نَفْسُك لم تسلمْ من الهرَمِ ) - بسيط -

رثاؤه لعمر بن يزيد
حدثنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال كان عمر بن يزيد الأسيدي صديقا للشمردل بن شريك ومحسناً إليه كثير البر به والرفد له فأتاه نعيه وهو بخراسان فقال يرثيه
( لبس الصّباحَ وأَسْلَمَتْه ليلةٌ ... طالت كأنّ نجومها لا تَبْرَحُ )
( من صولة يجتاح أخرى مثلها ... حتى ترى السّدَفَ القيامُ النُّوَحُ )
( عَطَّلْنَ أيْدِيَهُنَّ ثم تفجَّعَتْ ... ليلَ التَّمام بهنّ عبْرى تَصْدَحُ )
( وحليلةٍ رُزِئت وأُختٌ وابنةٌ ... كالبدر تنظره عيونٌ لُمَّح )
( لا يبعَدِ ابنُ يزيدَ سيِّدُ قومه ... عند الحفاظِ وحاجةٍ تُستنجَح )
( حامي الحقيقةِ لا تزال جيادُه ... تغْدو مسوَّمة به وتُروّح )
( للحرب محتسبُ القتال مشمِّرٌ ... بالدرع مُضْطَمِرُ الحوامل سُرّح )
( ساد العراق وكان أوّل وافد ... تأتي الملوكَ به المهاري الطُّلَّحُ )

( يُعْطى الغِلاء بكل مجد يشترى ... إن المُغالِيَ بالمكارمِ أربحُ ) - كامل -

شعره في وصف الصقر والقنص
حدثنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال كان الشمردل صاحب قنص وصيد بالجوارح وله في الصقر والكلب أراجيز كثيرة وانشدنا له قوله
( قد أغتدي والصبحُ في حجابه ... والليلُ لم يأو إِلى مآبِهِ )
( وقد بدَا أبْلقَ من مُنُجَابِه ... بتَوَّجِيٍّ صادَ في شبابِهِ )
( مُعاودٍ قد ذلّ في إصعابه ... قد خَرَّق الصِّفارَ من جِذَابهِ )
( وعَرف الصوت الذي يُدعى به ... ولَمْعَةَ المُلْمِع في أثوابه )
( فقلْتُ للقانِص إذ أتى به ... قبل طُلوع الآل أو سرابه )
( ويْحَكَ ما أبصر إذ رأى به ... من بَطْنِ مَلحوبٍ إلى لبابِه )
( قَشْعاً ترى التبَّتَ من جنابِه ... فانقضَّ كالجلمود إذ علا به )
( غضبان يوم قِنْيةٍ رمى به ... فهنّ يلقيْن من اغتصابه )
( تحت جديد الأرض أو ترابه ... من كلِّ شَحَّاج الضُّحى ضغّابه )
( إذ لا يزال حربه يشقى به ... منتزع الفؤاد من حجابه )

( جاد وقد أنشب في إهابه ... مَخالباً ينشبْنَ في إنشابه )
( مثل مُدَى الجزّار أو حِرابه ... كأنما بالحلق من خضابه )
( عصفرة الفؤاد أو قضابه ... حوى ثمانين على حسابه )
( من خَرَبٍ وخُزَرٍ يعلى به ... لفتَيةٍ صَيْدُهُمُ يدعى به )
( واعَدَهمْ لمنزل بِتْنا به ... يطهى به الخِرْبان أو يُشْوَى به )
( فقام للطبخ ولاحتطابه ... أروع يهتاج إذا هجْنا به ) - رجز -
أخبرنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال كان ذئب قد لازم مرعى غنم للشمردل فلا يزال يفرس منها الشاة بعد الشاة فرصده ليلة حتى جاء لعادته ثم رماه بسهم فقتله وقال فيه
( هل خُبِّر السِّرحانُ إذ يستخبِرُ ... عني وقد نام الصِّحَاب السُّمَّرُ )
( لما رأيت الضَّأنَ منه تنفِر ... نهضْتُ وسْنانَ وطارَ المِئْزرُ )
( وراع منها مَرِحٌ مُسْتَيْهِرُ ... كأنه إعصار ريح أغبرُ )
( فلم أزل أطردُه ويعكر ... حتى إذا استيقنْتُ ألا أعذرُ )
( وإنّ عَقْرَى غنمِي ستكثر ... طار بكفي وفؤادي أوجر )
( ثُمَّتَ أهويْتُ له لا أُزجَر ... سهما فولّى عنه وهْوَ يعثرُ )
( وبتُّ ليلي آمناً أُكبِّرُ ... ) - رجز

أخبرنا أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال قال الشمردل بن شريك وكان يستجيد هذه الأبيات ويستحسنها ويقول إنها لمن ظريف الكلام
( ثم استقلّ منعَّماتٌ كالدُّمى ... شُمُسُ العتاب قليلة الأحقادِ )
( كُذُب المواعدِ ما يزال أخو الهوى ... منهنَّ بين مودّة وبِعادِ )
( حتى ينالَ حِبالَهنّ مُعَلِّقاً ... عَقْلَ الشّريد وَهَنَّ غيرُ شِرَادِ )
( والحبُّ يصلح بعد هجرٍ بيننا ... ويهيجُ معتَبةً بغير بعادِ ) - كامل -

صوت
( خليليّ لا تستعجلا أن تَزَوّدا ... وأن تَجمعا شملي وتنتظرا غدا )
( وإن تَنظُراني اليوم أقْضِ لُبانةً ... وتَسْتوجِبا منَّا عليّ وتُحمَدَا ) - طويل -
الشعر للحصين بن الحمام المري والغناء لبذل الكبرى ثاني ثقيل بالبنصر من روايتها ومن رواية الهشامي

بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار الحصين بن الحمام ونسبه
هو الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حرام بن وائلة بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال
كان الحصين بن الحمام سيد بني سهم بن مرة وكان خصيلة بن مرة وصرمة بن مرة وسهم بن مرة أمهم جميعا حرقفة بنت مغنم بن عوف بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة فكانوا يدا واحدة على من سواهم وكان حصين ذا رأيهم وقائدهم ورائدهم وكان يقال له مانع الضيم
وحدثني جماعة من أهل العلم أن ابنه أتى باب معاوية بن أبي سفيان فقال لآذنه استأذن لي على أمير المؤمنين وقل ابن مانع الضيم فاستأذن له فقال له معاوية ويحك لا يكون هذا إلا ابن عروة بن الورد العبسي

أو الحصين بن الحمام المري أدخله فلما دخل إليه قال له ابن من أنت قال أنا ابن مانع الضيم الخضين بن الحمام فقال صدقت ورفع مجلسه وقضى حوائجه

وقائع حرب قومه مع بني صرمة بن مرة
أخبرني ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال كان ناس من بطن من قضاعة يقال لهم بنو سلامان بن سعد بن زيد بن الحاف بن قضاعة وبنو سلامان بن سعد إخوة عذرة بن سعد وكانوا حلفاء لبني صرمة بن مرة ونزولا فيهم وكان الحرقة وهم بنو حميس بن عامر بن جهينة حلفاء لبني سهم بن مرة وكانوا قوما يرمون بالنبل رميا سديدا فسموا الحرقة لشدة قتالهم وكانوا نزولا في حلفائهم بني سهم بن مرة وكان في بني صرمة يهودي من أهل تيماء يقال له جهينة بن أبي حمل وكان في بني سهم يهودي من أهل وادي القرى يقال له غصين بن حي وكانا تاجرين في الخمر وكان بنو جوشن أهل بيت من عبد الله بن غطفان جيرانا لبني صرمة وكان يتشائم بهم ففقدوا منهم رجلا يقال له خصيلة كان يقطع الطريق وحده وكانت أخته وإخوته يسألون الناس عنه وينشدونه في كل مجلس وموسم فجلس ذات يوم أخ لذلك المفقود الجوشني في بيت غصين بن حي جار بني سهم يبتاع خمرا فبينما هو يشتري إذ مرت أخت المفقود تسأل عن أخيها خصيلة فقال غصين

( تُسائل عن أخيها كلَّ ركبٍ ... وعند جُهَينة الخبرُ اليقينُ )
فأرسلها مثلاً يعني بجهينة نفسه فحفظ الجوشني هذا البيت ثم أتاه من الغد فقال له نشدتك الله ودينك هل تعلم لأخي علما فقال له لا وديني لا أعلم فلما مضى أخو المفقود تمثل
( لَعَمْرُك ما ضَلَّتْ ضلالَ ابن جَوْشنِ ... حَصاةٌ بليلٍ أُلْقِيَتْ وَسْطَ جَنْدَلِ )
أراد أن تلك الحصاة يجوز أن توجد وأن هذا لا يوجد أبدا فلما سمع الجوشني ذلك تركه حتى إذا أمسى أتاه فقتله وقال الجوشني
( طَعَنْتُ وقد كاد الظلامُ يُجِنُّني ... غُصَيْنَ بنِ حَيٍّ في جِوار بني سهمِ )
فأتي حصين بن الحمام فقيل له إن جارك غصينا اليهودي قد قتله ابن جوشن جار بني صرمة فقال حصين فاقتلوا اليهودي الذي في جوار بني صرمة فأتوا جهينة بن أبي حمل فقتلوه فشد بنو صرمة على ثلاثة من حميس بن عامر جيران بني سهم فقتلوهم فقال حصين أقتلوا من جيرانهم بني

سلامان ثلاثة نفر ففعلوا فاستعر الشر بينهم قال وكانت بنو صرمة أكثر من بني سهم رهط الحصين بكثير فقال لهم الحصين يا بني صرمة قتلتم جارنا اليهودي فقتلنا به جاركم اليهودي فقتلتم من جيراننا من قضاعة ثلاثة نفر وقتلنا من جيرانكم بني سلامان ثلاثة نفر وبيننا وبينكم رحم ماسة قريبة فمروا جيرانكم من بني سلامان فيرتحلون عنكم ونأمر جيراننا من قضاعة فيرتحلون عنا جميعا ثم هم أعلم فأبى ذلك بنو صرمة وقالوا قد قتلتم جارنا ابن جوشن فلا نفعل حتى نقتل مكانه رجلا من جيرانكم فإنك تعلم أنكم أقل منا عددا وأذل وإنما بنا تعزون وتمنعون فناشدهم الله والرحم فأبوا وأقبلت الخضر من محارب وكانوا في بني ثعلبة بن سعد فقالوا نشهد نهب بني سهم إذا انتهبوا فنصيب منهم وخذلت غطفان كلها حصينا وكرهوا ما كان من منعه جيرانه من قضاعة وصافهم حصين الحرب وقاتلهم ومعه جيرانه وأمرهم ألا يزيدوهم على النبل وهزمهم الحصين وكف يده بعدما أكثر فيهم القتل وأبى ذلك البطن من قضاعة أن يكفوا عن القوم حتى أثخنوا فيهم وكان سنان بن أبي حارثة خذل الناس عنه لعداوته قضاعة وأحب سنان أن يهب الحيان من قضاعة وكان عيينة بن حصن وزبان بن سيار بن عمرو بن جابر ممن خذل عنه أيضا فأجلبت بنو ذبيان على بني سهم مع بني صرمة وأجلبت محارب بن خصفة معهم فقال الحصين بن الحمام في ذلك من أبيات

( أَلاَ تَقبَلون النِّصْفَ منّا وأَنْتُمُ ... بنو عمّنا لا بَلَّ هامَكُم القَطْرُ )
( سنأبَى كما تَأْبَوْن حتى تُلِينَكم ... صفائحُ بُصْرَى والأسِنَّةُ والأًصْرُ )
( أيُؤكَلُ مولانا ومولَى ابنِ عمنا ... مُقيمٌ ومنصورٌ كما نُصِرت جَسْرُ )
( فتلك التي لم يعلم الناسُ أنني ... خَنَعت لها حتى يُغيِّبَني القبرُ )
( فليتكُمُ قد حال دون لِقائكم ... سِنُونَ ثمانٍ بعدها حِجَجٌ عَشْرُ )
( أجَدِّيَ لا ألقاكُمُ الدهرَ مَرَّةً ... على مَوْطِنٍ إلاّ خدودُكُمُ صُعْرُ )
( إذا ما دُعُوا للبغي قاموا وأشرقَتْ ... وجوهُهُم والرُّشْدُ وِرْدٌ له نَفْرُ )
( فواعَجَبا حتَّى خُصَيلةُ أصبحتْ ... مَوالِيَ عِزٍّ لا تَحِلُّ لها الخمرُ )
قوله موالي عز يهزأ بهم ولا تحل لهم الخمر أراد فحرموا الخمر على أنفسهم كما يفعل العزيز وليسوا هناك
( أَلَمَّا كَشَفنا لأَمَةَ الذُّلِّ عنكُمُ ... تجرَّدتَ لا بِرٌّ جميلٌ ولا شكر )
( فإنْ يكُ ظَنِّي صادقاً تَجْزِ منكُمُ ... جَوازِي الإلهِ والخيانةُ والغدر )

انتصاره على بني عمه وافتخاره بذلك
قال فأقاموا على الحرب والنزول على حكمهم وغاظتهم بنو ذيبان ومحارب بن خصفة وكان رئيس محارب حميضة بن حرملة ونكصت عن حصين قبيلتان من بني سهم وخانتاه وهما عدوان وعبد عمرو ابنا سهم فسار حصين وليس معه من بني سهم إلا بنو وائلة بن سهم وحلفاؤهم وهم الحرقة وكان فيهم العدد فالتقوا بدارة موضوع فظفر بهم الحصين وهزمهم وقتل منهم فأكثر وقال الحصين بن الحمام في ذلك
( جَزَى الله أفناءَ العشيرةِ كلِّها ... بِدَارَةِ موضوعٍ عُقوقاً ومَأْثَما )
( بني عمِّنا الأدْنَيْنَ منهم ورَهْطَنَا ... فزارةَ إذ رامت بنا الحربَ مُعْظَما )
( ولمّا رأيت الودّ ليس بنافعي ... وإن كان يوماً ذا كَواكِبَ مُظلما )
( صبَرنا وكان الصبرُ منا سَجِيَّةً ... بأسيافنا يَقْطَعْنَ كَفاً ومِعْصَما )
( نُفَلِّق هاماً من رجالٍ أَعِزَّةٍ ... علينا وهم كانوا أعَقَّ وأظلَما )
( نُطاردهم نستنقِذُ الجُرْدَ بالقَنَا ... ويستنقذون السَّمْهرِيَّ المُقوِّما )
نستنقذ الجرد أي نقتل الفارس فنأخذ فرسه ويستنقذون السمهريَّ وهو القنا الصلب أي نطعنهم فتجرُّهم الرماح

( لَدُنْ غُدْوَةٍ حتى أتى الليلُ ما ترى ... من الخيل إلاّ خارِجيّاً مُسَوَّما )
( وَأَجْرَدَ كالسِّرْحان يَضرِبُه النَّدَى ... ومحبوكةً كالسيِّدِ شَقاءَ صِلْدِما )
( يَطَأْن من القَتْلَى ومن قِصَدِ القنا ... خَباراً فما يجرين إلا تَقَحُّما )
( عليهنّ فتيانٌ كساهم مُحَرِّقٌ ... وكان ذا يكسو أجاد وأكرما )
( صفائح بُصْرَى أخلَصَتْهَا قُيُونُها ... ومُطَّرِداً من نَسج داودَ مُبْهَما )
( جزى الله عنا عبدَ عمرو ملامةً ... وعَدْوانَ سَهْمٍ ما أذَلَّ وألأَما )
( فلستُ بمبتاع الحياةِ بسُبَّةٍ ... ولا مُرْتِقٍ من خشية الموت سُلَّما )

شعره في رثاء نعيم بن الحارث
وقال أبو عبيدة وقتل في تلك الحرب نعيم بن الحارث بن عباد بن حبيب بن وائلة بن

سهل قتلته بنو صرمة يوم دارة موضوع وكان وادا للحصين فقال يرثيه
( قَتَلْنَا خمسةً ورَمَوْا نُعيماً ... وكان القتلُ للفتيان زَيْنَا )
( لعمرُ الباكيات على نعيم ... لقد جلَّتْ رَزيَّتُه علينا )
( فلا تَبْعَدْ نُعَيْمُ فكلُّ حَيٍّ ... سَيَلْقى من صروف الدهرِ حَيْنَا )
قال أبو عبيدة ثم إن بني حميس كرهوا مجاورة بني سهم ففارقوهم ومضوا فلحق بهم الحصين بن الحمام فردهم ولامهم على كفرهم نعمته وقتاله عشيرته عنهم وقال في ذلك
( إنَّ أمرأ بعدي تبَدَّلَ نصرَكم ... بنصر بني ذُبْيان حَقاً لخاسِرُ )
( أولئك قومٌ لا يُهانُ ثَوِيُّهُمْ ... إذا صَرَّحَتْ كَحْلٌ وَهَبَّ الصَّنابِرُ )
وقال لهم أيضا
( أَلاَ أَبْلِغْ لديك أبا حُمَيْسٍ ... وعاقبةُ الملامة للمُليمِ )
( فهل لكُمُ إلى مَوْلًى نَصُورٍ ... وخَطْبُكُم من الله العظيمِ )
( فإنَّ دياركم بجَنُوب بُسٍّ ... إلى ثَقْفٍ إلى ذات العُظُومِ )

بُسٌ بناء بنته غطفان شبهوه بالكعبة وكانوا يحجونه ويعظمونه ويسمونه حرما فغزاهم زهير بن جناب الكلبي فهدمه
( غَذَتكم في غَداةِ الناس حُجًّا ... غِذاءَ الجائع الجَدِعِ اللئيم )
( فسِيروا في البلاد وودِّعونا ... بقَحْطِ الغيث والكَلإِ الوَخِيم )

لومه بني حميس وتذكيرهم بفضله عليهم
قال أبو عبيدة قال عمرو زعموا أن المثلم بن رباح قتل رجلا يقال له حباشة في جوار الحارث بن ظالم المري فلحق المثلم بالحصين بن الحمام فأجاره فبلغ ذلك الحارث بن ظالم فطلب الحصين بدم حباشة فسأل في قومه وسأل في بني حميس جيرانه فقالوا إنا لا نعقل بالإبل ولكن إن شئت أعطيناك الغنم فقال في ذلك وفي كفرهم نعمته
( خليليّ لا تستعجِلا أن تَزَوَّدَا ... وأن تجمعا شَمْلي وتنتظرا غَدَا )
( فما لَبَثٌ يوماً بسائقِ مَغْنَم ... ولا سرعةٌ يوماً بسابِقَةٍ غدا )
( وإن تُنْظِرَانِي اليومَ أقضِ لُبانَةً ... وتستوجبا مَنّاً عليَّ وتُحْمَدا )
( لعمرُك إنِّي يوم أغدو بِصِرْمَتِي ... تناهَى حُمَيْسٌ بادئين وعُوَّدا )

( وقد ظهرتْ منهم بوائقُ جَمَّةٌ ... وأَفْرَعَ مولاهم بنا ثم أَصْعَدا )
( وما كان ذنبي فيهمُ غيرَ أنَّني ... بسطْتُ يداً فيهم وأتبعْتُها يدا )
( وأَنِي أُحامِي مِن وراء حَرِيمهم ... إذا ما المُنادِي بالمُغِيرَة نَدَّدا )
( إذا الفَوْجُ لا يحميه إلاّ مُحافِظٌ ... كريمُ المُحَيَّا ماجِدٌ غيرُ أجردا )
( فإنْ صَرَّحَت كَحْلٌ وَهَبَّت عَرِيَّةٌ ... مِنَ الرِّيح لم تترك لِذي العَرْض مَرْفَدا )
( صَبَرْتُ على وَطْءِ الموالي وخَطْبِهم ... إذا ضَنَّ ذو القربى عليهم وأَجْمَدَا )
أخبرني ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال كان البرج بن الجلاس الطائي خليلاً للحصين بن الحمام ونديما له على الشراب وفيه يقول البرج بن الجلاس
( ونَدْمَانٍ يَزيد الكَأْسَ طِيباً ... سَقَيْتُ وقد تَغَوَّرَتِ النجومُ )
( رفعتُ برأسه فكشفْتُ عنه ... بمُعْرَقَةٍ ملامةَ من يلوم )
( ونشْرَب ما شَرِبْنَا ثم نصحو ... وليس بجانبيَّْ خَدّي كُلُومُ )
( ونجعل عِبْأَها لبني جُعَيْلٍ ... وليس إذا انتَشَوْا فيهم حليمُ )

كانت للبرج أخت يقال لها العُفاطة وكان البرج يشرب مع الحصين ذات يوم فسكر وانصرف إلى أخته فافتضها وندم على ما صنع لما أفاق وقال لقومه أي رجل أنا فيكم قالوا فارسنا وأفضلنا وسيدنا قال فإنه إن علم بما صنعت أحد من العرب أو أخبرتم به أحدا ركبت رأسي فلم تروني أبدا فلم يسمع بذلك أحد منهم ثم إن أمة لبعض طيئ وقعت إلى الحصين بن الحمام فرأت عنده البرج الطائي يوما وهما يشربان فلما خرج من عنده قالت للحصين إن نديمك هذا سكر عندك ففعل بأخته كيت وكيت وأوشك أن يفعل ذلك بك كلما أتاك فسكر عندك فزجرها الحصين وسبها فأمسكت ثم إن البرج بعد ذلك أغار على جيران الحصين بن الحمام من الحرقة فأخذ أموالهم وأتى الصريخ الحصين بن الحمام فتبع القوم فأدركهم فقال للبرج ما صبك على جيراني يا برج فقال له وما أنت وهم هؤلاء من أهل اليمن وهم منا وأنشأ يقول
( أَنَّى لك الحُرُقات فيما بيننا ... عَنَنٌ بعيدٌ منك يا بنَ حُمام )
( أقبلتَ تُزْجِي ناقة متباطئاً ... عُلْطاً تزجِّيِها بغيرِ خِطام )
تزجي تسوق علطا لا خطام عليها ولا زمام أي أتيت هكذا من العجلة فأجابه الحصين بن الحمام
( بُرْجٌ يُؤَْثمني ويَكفُرُ نعمتي ... صَمِّي لما قال الكفيلُ صَمَامِ )
( مَهْلاً أبا زيدٍ فإنَّك إنْ تَشَأْ ... أُورِدْك عُرْضَ مناهِلٍ أَسْدامِ )

( أُورِدْكَ أَقْلِبَةً إذا حافلْتَها ... خَوْضَ القَعُودِ خَبِيثةَ الأخصامِ )
( أقبلتُ من أرض الحجاز بذَمَّةٍ ... عُطُلاً أُسوِّقها بغيرِ خِطامِ )
( في إثْرِ إخوانٍ لنا من طيئ ... ليسوا بأكفاء ولا بكرامِ )
( لا تحسبَنَّ أخا العَفاطة أنني ... رَجُلٌ بخُبْرك ليس بالعَلاَّمِ )
( فاستنزلوكَ وقد بَلَلْتَ نِطاقها ... عن بنتِ أُمِّكَ والذيولُ دوامي )
ثم ناصب الحصينُ بن الحمام البرج الحرب فقتل من أصحاب البرج عدة وهزم سائرهم واستنقذ ما في أيديهم وأسر البرج ثم عرف له حق ندامه وعشرته إياه فمن عليه وجز ناصيته وخلى سبيله فلما عاد البرج إلى قومه وقد سبه الحصين بما فعل بأخته لامهم وقال أشعتم ما فعلت بأختي وفضحتموني ثم ركب رأسه وخرج من بين أظهرهم فلحق ببلاد الروم فلم يعرف له خبر إلى الآن
وقال ابن الكلبي بل شرب الخمر صرفا حتى قتلته

أغار على بني عقيل وبني كعب
أخبرني ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال جمع الحصين بن الحمام جمعا من بني عدي ثم أغار على بني عقيل

وبني كعب فأثخن فيهم واستاق نعما كثيرا ونساء فأصاب أسماء بنت عمرو سيد بني كعب فأطلقها ومن عليها وقال في ذلك
( فِدًى لِبَنِي عديٍّ رَكْضُ ساقي ... وما جَمَّعتُ من نَعَمٍ مُراحِ )
( ترَكْنَا من نساء بني عُقَيْلٍ ... أَيَامى تبتغي عَقْدَ النكاحِ )
( أَرُعْيانَ الشَّوِيِّ وجدتمونا ... أمَ اصحابَ الكريهة والنِّطاحِ )
( لقد علمتْ هَوازِنُ أنَّ خيلي ... غَداةَ النَّعْفِ صادقةُ الصَّباحِ )
( عليها كلُّ أَرْوَعَ هِبْرِزِيٍّ ... شديدٍ حَدُّه شاكي السِّلاحِ )
( فكَرَّ عليهمُ حتَّى التقينا ... بمصقولٍ عوارضُها صِباحِ )
( فأُبْنا بالنهِّاب وبالسَّبايا ... وبالبِيض الخرائِدِ واللِّقاحِ )
( وأعتقنا ابنة العَمْريِّ عمرٍو ... وقد خُضْنا عليها بالقِداحِ )

في شعره دلالة على أنه أدرك الإسلام
أخبرنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة أن الحصين بن الحمام أدرك الإسلام قال ويدل على ذلك قوله
( وقافيةٍ غيرِ إِنْسِيَّةٍ ... قَرَضْتُ من الشِّعر أمثالَها )
( شَرُودٍ تَلَمَّعُ بالخافقَيْنِ ... إذا أنْشِدَتْ قيل من قالها )
( وحيرانَ لا يهتدي بالنهار ... من الظَلْع يَتْبَعُ ضُلاَّلَها )
( وداعٍ دعا دعوةَ المستغيثِ ... وكنتُ كمن كان لَبَّى لها )
( إذا الموتُ كان شَجاً بالحُلُوقِ ... وبادَرتِ النفسُ أشغالَها )
( صبَرْتُ ولم أكُ رِعديدَةً ... وللصَّبْرُ في الرَّوع أَنْجَى لها )
( ويومٍ تَسَعَّرُ فيه الحروبُ ... لَبِسْتُ إلى الرَّوْعِ سِرْبَالها )
( مُضعَّفةَ السَّرْدِ عاديَّةً ... وعَضْبَ المضَارِبِ مِفْصالَها )
( ومُطَّرِداً من رُدَيْنِيَّة ... أذودُ عن الوِرْد أبطالَها )

( فلم يبق من ذاكَ إلا التُّقَى ... ونفسٌ تُعالج آجالَها )
( أُمورٌ من اللَّهِ فوق السماء ... مقاديرُ تنزلُ أنْزَالَهَا )
( أعوذُ بربِّي من المُخْزِيات ... ِ يوم ترى النفسُ أعمالَها )
( وخَفّ الموازينُ بالكافرين ... وزُلْزلتِ الأرْضُ زِلزَالَهَا )
( ونادى مُنادٍ بأهل القبور ... فهبُّوا لتُبْرِزَ أثقالَها )
( وسُعِّرَت النارُ فيها العذابُ ... وكان السلاسلُ أغلالَها )
حدثنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال مات حصين بن الحمام في بعض أسفاره فسمع صائح في الليل يصيح لا يعرف في بلاد بني مرة
( أَلاَ هَلَك الحُلْو الحَلاَلُ الحُلاَحِلُ ... ومَن عَقْدُه حَزْمٌ وعَزْمٌ ونائلُ )
الحلو الجميل والحلال الذي ليس عليه في ماله عيب والحلاحل الشريف العاقل
( ومَنْ خَطبهُ فَصْلٌ إذا القوم أُفحِموا ... يُصيب مَرَادِي قوله مَن يُحاوِلُ )
المرادي جمع مرادة وهي صخرة تردى بها الصخور أي تكسر قال فلما سمع أخوه معية بن الحمام ذلك قال هلك والله الحصين ثم قال يرثيه

( إذا لاقيتُ جمعاً أو فِئَاماً ... فإنِّي لا أرى كأبي يَزِيدا )
( أشدَّ مهابةً وأعزَّ ركناً ... وأصلبَ ساعةَ الضَّرَّاءِ عُودا )
( صَفِيِّي وابنُ أُمِّي والمُواسِي ... إذا ما النفسُ شارفتِ الوريدا )
( كَأَنَّ مُصَدَّراً يحبو ورائي ... إلى أشباله يبغي الأسودا )
المصدر العظيم الصدر شبه أخاه بالأسد

صوت
( لاَ أَرَّق الله عيْنَيْ منْ أرِقْتُ له ... ولا مَلاَ مثلَ قلبي قلبَه تَرَحَا )
( يَسُرُّني سوءُ حالي في مسرَّته ... فكلَّما ازددت سُقْماً زادني فرحا )
الشعر لمحمد بن يسير والغناء لأحمد بن صدقة رمل بالوسطى

أخبار محمد بن يسير ونسبه
محمد بن يسير الرياشي يقال إنه مولى لبني رياش الذين منهم العباس بن الفرج الرياشي الأخباري الأديب ويقال إنه منهم صلبية وبنو رياش يذكرون أنهم من خثعم ولهم بالبصرة خطة وهم معروفون بها وكان محمد بن يسير هذا شاعرا ظريفا من شعراء المحدثين متقلل لم يفارق البصرة ولا وفد إلى خليفة ولا شريف منتجعا ولا تجاوز بلده وصحبته طبقته وكان ماجنا هجاء خبيثا
خبره مع محمد بن أيوب والي البصرة
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني علي بن القاسم بن علي بن سليمان طارمة قال بعث إلي محمد بن أيوب بن سليمان بن جعفر بن سليمان وهو يتولى البصرة حينئذ في ليلة صبيحتها يوم سبت فدخلت إليه وقد بقي من الليل ثلثه أو أكثر فقلت له أنمت وانتبهت أم لم تنم بعد فقال قد قضيت حاجتي من

النوم وأريد أن أصطبح وابتدىء الساعة بالشرب وأصل ليلتي بيومي محتجباً عن الناس وعندي محمد بن رباح وقد وجهت إلى إبراهيم بن رياش وحضرت أنت فمن ترى أن يكون خامسنا قلت محمد بن يسير فقال والله ما عدوت ما في نفسي فقال لي ابن رباح أكتب إلى محمد بن يسير بيتين تدعوه فيهما وتصف له طيب هذا الوقت وكان يوم غيم والسماء تمطر مطرا غير شديد ولا متتابع فكتب إليه ابن رباح

صوت
( يومُ سَبتٍ وشَنْبَذٍ ورَذَاذٍ ... فعلامَ الجلُوسُ يا بن يسيرِ )
( قم بنا نأخذ المُدامةَ من كَفّ ... غزالٍ مُضَمَّخٍ بالعَبِيرِ )
في هذين البيتين لعباس أخي بحر ثقيل أول بالبنصر وبعث إليه بالرقعة فإذا الغلمان قد جاؤوا بالجواب فقال لهم بعثتكم لتجيئوني برجل فجئتموني برقعة فقالوا لم نلقه وإنما كتب جوابها في منزله ولم تأمرنا بالهجوم عليه فنهجم فقرأها فإذا فيها
( أجيءُ على شَرْطٍ فإن كنتَ فاعلاً ... وإلاَّ فإنِّي راجِعٌ لا أُناظِرُ )
( لِيُسْرَجْ ليَ البِر ذَوْنُ في حال دُلْجتي ... وأنت بدُلْجاتي مع الصبح خابِرُ )

( لأقضِيَ حاجاتي إليه وأنثني ... إليك وحَجَّامٌ إذا جئتُ حاضرُ )
( فيأخذ من شَعري ويُصلِحُ لِحْيتي ... ومن بعدُ حَمَّامٌ وطِيبٌ وجامِرُ )
( ودَسْتِيجَةٌ من طيِّب الراح ضخمةٌ ... يُرَوِّدنيها طائعاً لا يُعاسِرُ )
فقال محمد بن أيوب ما تقول فقلت إنك لا تقوَى على مطاولته ولكن اضمن له ما طلب فكتب إليه قد أعد لك وحياتك كل ما طلبت فلا تبطئ فإذا به قد طلع علينا فأمر محمد بن أيوب بإحضار المائدة فلما أحضرت أمر بمحمد بن يسير فشد بحبل إلى أسطوانة من أساطين المجلس وجلسنا نأكل بحذائه فقال لنا أي شي يخلصني قلنا تجيب نفسك عما كتبت به أقبح جواب فقال كفوا عن الأكل إذا ولا تستبقوني به فتشغلوا خاطري ففعلنا ذلك وتوقفنا فأنشأ يقول
( أيا عَجَبا مِنْ ذا التَّسَرِّي فإنَّه ... له نَخوةٌ في نفسه وتَكابُرُ )
( يُشارِطُ لمَّا زار حتَّى كأنه ... مُغَنٍّ مُجِيدٌُ أو غلام مُؤاجَرُ )
( فلولا ذمامٌ كان بيني وبينه ... لَلطَّمَ بَشَّارٌ قَفاه ويَاسِرُ )
فقال محمد حسبك لم نرد هذا كله ثم حله وجلس يأكل معنا وتممنا يومنا

هجاؤه لشاة أكلت زرعه ودخلت داره
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني علي بن محمد بن

سليمان النوفلي قال كان محمد بن يسير من شعراء أهل البصرة وأدبائهم وهو من خثعم وكان من بخلاء الناس وكان له في داره بستان قدره أربعة طوابيق قلعها من داره فغرس فيه أصل رمان وفسيلة لطيفة وزرع حواليه بقلا فأفلتت شاة لجار له يقال له منيع فأكلت البقل ومضغت الخوص ودخلت إلى بيته فلم تجد فيه إلا القراطيس فيها شعره وأشياء من سماعاته فأكلتها وخرجت فعدا إلى الجيران في المسجد يشكو ما جرى عليه وعاد فزرع البستان وقال يهجو شاة منيع
( ليَ بستانٌ أَنيقٌ زاهرٌ ... ناضِرُ الخُضْرة رَيَّان تَرِفْ )
( رَاسخُ الأعراقِ رَيَّان الثَّرَى ... غَدِقٌ تُرْبَتُه ليست تجِفّ )
( لِمجاري الماءِ فيه سُنَنٌ ... كيفما صَرَّفتَه فيه انصرفْ )
( مُشرِق الأنوار ميّاد النَّدَى ... مُنْثَنٍ في كلِّ ريح مُنْعَطِفْ )
( تملِكُ الريحُ عليه أمرَه ... فإذا لم يُؤْنِسِ الريحَ وقفْ )
( يكتسي في الشرق ثوبَيْ يُمْنَةٍ ... ومع الليل عليها يَلْتَحِفْ )

( ينطوي الليلُ عليه فإذا ... واجَهَ الشرقَ تجلَّى وانكشَفْ )
( صابِرٌ ليس يُبالِي كَثرةً ... جُزّ بالمِنْجَل أو منه نُتِفْ )
( كلما أُلْحِفَ منه جانبٌ ... لم يتلبَّثْ منه تعجيلُ الخَلَفْ )
( لا ترى للكفِّ فيه أَثَراً ... فيه بل يَنْمِي على مسِّ الأَكُفّ )
( فترى الأطباقَ لا تُمْهِله ... صادراتٍ وارداتٍ تختلِفْ )
( فيه للخارِفِ من جيرانه ... كلَّما احتاج إليه مُخْتَرَفْ )
( أُقْحُوانٌ وبَهَارٌ مُونِقٌ ... وسوى ذلك من كلّ الطُّرَفْ )
( وهو زَهْرٌ للنَّدَامَى أصُلاً ... بِرِضا قاطِفِهم ممَّا قَطَفْ )
( وهو في الأيدي يُحَيُّون به ... وعلى الآنافِ طَوْراً يُسْتَشَفّ )
( أَعْفِه يا ربِّ مِنْ واحدةٍ ... ثم لا أَحْفِلُ أنواعَ التَّلَفْ )
( اكْفِه شاةَ مَنيعٍ وَحْدَها ... يوم لا يُصْبِحُ في البيت عَلَفْ )
( اكْفِه ذاتَ سُعالٍ شَهْلةً ... مُتِّعتْ في شرِّ عيش بالخَرَفْ )
( اكْفِهْ يا رَبِّ وَقْصاءَ الطُّلَى ... أَلْحِمِ الكِتْفين منها بالكَتِفْ )

( وكَلُوحٌ أبداً مُفْتَرٌَّ ... لك عن هُتْمٍ كَلِيلاتٍ رُجُفْ )
( وَنَؤُوس الأنفِ لا يَرْقَا ولا ... أبداً تُبْصرُه إلاَّ يَكِفْ )
( لم تَزَلْ أظلافُها عافِيَةً ... لم يُظَلِّفْ أهلُها منها ظِلَفْ )
( فترى في كل رِجْلٍ ويدٍ ... من بقاياهنّ فوق الأرض خُفّ )
( تَنسِف الأرَضَ إذا مرَّت به ... فلها إعْصارُ تُرْبٍ مُنتسِفْ )
( تُرْهِجُ الطُّرْقَ على مُجْتازِها ... بِيَدٍ في المشي والخَطْوِ القَطِفْ )
( في يَدَيْها طَرَقٌ مِشْيتُها ... حَلْقةٌُ القوس وفي الرجل حَنَفْ )
( فإذا ما سَعَلَتْ واحْدَوْدَبَتْ ... جاوبَ البَعْرُ عليها فخُصِفْ )

( وأُحِصَّ الشعرُ منها جِلدُها ... شَنَّةٌ في جوف غارٍ مُنْخسِفْ )
( ذات قَرْنٍ وهي جَمَّاءُ أَلاَ ... إنّ ذا الوصفَ كوصفٍ مُخْتَلِفْ )
( وإذا تدنو إلى مُسْتَعْسِبٍ ... عافَها نَتْناً إذا ما هُو كَرَفْ )
( لا ترى تَيْساً عليها مُقْدماً ... رُمَيَتْ من كل تيس بالصَّلَفْ )
( شُوهة الخِلقة ما أبصَرَها ... مِن جميع الناس إلاَّ وحَلَفْ )
( ما رأى شاةً ولا يعلمُها ... خُلِقَتْ خِلْقَتَها فيما سَلَفْ )
( عَجَباً منها ومن تأليفها ... عجباً مِن خَلْقها كيف ائتلَفْ )
( لو يُنادُون عليها عجَباً ... كَسَبوا منها فُلُوساً ورُغُفْ )
( ليتَها قد أَفلتتْ في جَفْنةٍ ... من عجينٍ أو دقيق مُجْتَرَفْ )
( فتلقَّتْ شَفْرةً مِن أهله ... قَدَرَ الإصبع شيئاً أو أَشَفّ )
( أَحكَمَتْ كَفّا حكِيمٍ صُنْعَها ... فأتت مجدولةً فيها رَهَفْ )
( أُدْمِجَتْ من كلِّ وجه غيرَ ما ... أَلَّلَ الأقْيانُ من حَدِّ الطَّرَفْ )

( قابِضُ الرَّونق فيها ماتِعٌ ... يَخطفُ الأبصارَ منها يُستَشَف )
( لَمَحَتْها فاسْتَخفَّتْ نحوَها ... عَجَلاً ثم أحالت تنتسِف )
( فتناهَتْ بين أضعاف الِمعَى ... وتَبَوَّتْ بين أثناء الشَّغَفْ )
( أو رَمَتْها قَرْحةٌ زادت لها ... ذَوَباناً كلَّ يومٍ ونَحَفْ )
( كل يوم فيه يدنو يومُها ... أو تُرَى واردةً حَوضَ الدَّنَفْ )
( بينما ذاك بها إذ أصبَحَتْ ... كَحَمِيتٍ مُفْعَمٍ أو مثلَ جُفْ )
( شاغِراً عُرْقوبُها قد أُعْقِبَتْ ... بِطْنَةً من بعد إدمان الهَيَفْ )
( وغَدَا الصِّبيةُ من جيرانها ... ليجرُّوها إلى مأوى الجِيَفْ )
( فتراها بينهم مسحوبةً ... تَجرُفُ التُّرْب بجَنْبٍ منجرِفْ )
( فإذا صاروا إلى المأوى بها ... أعمَلُوا الآجُرَّ فيها والخَزَفْ )
( ثم قالوا ذَا جَزاءٌ للتي ... تأكلُ البستانَ منا والصُّحُفْ )
( لا تلوموني فلو أبصرتُ ذا ... كلَّه فيها إذن لم أنتصفْ )

شعره لامرأته بعد أن كتبت إليه تعاتبه
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا عبد الله بن

محمد بن يسير وحدثني سوار بن أبي شراعة قال حدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال
هوي أبي قينة من قيان أبي هاشم بالبصرة فكتبت إليه أمي تعاتبه فكتب إليها
( لا تَذْكُرِي لَوْعةً إِثْرِي ولا جَزَعا ... ولا تُقاسِنَّ بعدي الهمَّ والهَلَعا )
( بَلِ ائتِسِي تجدي إنِ ائْتسيتِ أُساً ... بمثل ما قد فُجِعْتِ اليوم قد فُجِعا )
( ما تصنَعين بعَينٍ عنك قد طَمَحَتْ ... إلى سواكِ وقلبٍ عنكِ قد نَزَعا )
( إن قُلتِ قد كنتُ في خَفْضٍ وتَكْرِمَةٍ ... فقد صدَقتِ ولكنْ ذاكِ قد نُزِعا )
( وأيُّ شيءٍ من الدنيا سمعتِ به ... إلا إذا صار في غاياته انقطعا )
( ومَن يُطيقُ خَليعاً عند صَبْوته ... أم مَن يقوم لِمستورٍ إذا خَلُعَا )
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن يسير أن أباه دعي إلى وليمة وحضرها مغن يقال له أبو النجم فعبث بأبي وباغضه وأساء أدبه فقال يهجوه
( نَشَتْ بأبي النَّجم المغنِّي سحابةٌ ... عليه من الأيدي شآبِيبُها القَفْدُ )
( نَشَا نَوءُها بالنَّحْس حتى تصرَّمتْ ... وغابت فلم يَطْلُعْ لها كَوكبٌ سَعْدُ )

( سَقَتْه فجادتْ فارتَوَى من سِجالِها ... ذُرَا رأسه والوجهُ والجِيدُ والخدُّ )
( فلا زال يَسْقِيه بها كلَّ مجلس ... به فِتيةٌ أمثالَها الهَزْلُ والجِدُّ )
أراد به يسقيانه

قصته مع صديقه داود
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال وحدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال كان لأبي صديق يقال له داود من أسمج الناس وجها وأقلهم أدبا إلا أنه كان وافر المتاع فكان القيان يواصلنه ويكثرن عنده ويهدين إليه الفواكه والنبيذ والطيب فيدعو بأبي فيعاشره فهويته قينة من قيان البصرة كانت من أحسن الناس وجها فبعثت إلى داود برقعة طويلة جدا تعاتبه فيها وتستجفيه وتستزيره فسأل أبي أن يجيبها عنه فقال أبي أكتب يا بني قبل أن أجيب عنها
( وابلائي مِن طول هذا الكتاب ... أَسْعِدُوني عليه يا أصحابي )
( أَسْعِدُوني على قِرَاةِ كتابٍ ... طولُه مثل طولِ يوم الحساب )
( إنَّ فيه منِّي البَلاءَ مُلَقَّى ... ولغيري فيه الهوَى والتَّصابي )
( وله الودُّ والهوى وعلينا ... فيه للكاتبين رَدُّ الجواب )
( ثم ممن يا سيِّدي وإلى من ... مِن هَضِيم الحَشَا لَعُوبٍ كَعَاب )

( وإلى مَنْ إنْ قلتُ فيه بِعَيْب ... لم أُحِطْ في مقالتي بالصواب )
( لا يُساوي على التأمُّل والتفتيش ... يوماً في الناس كفَّ تراب )
فقال عبد الله وكان أبي إذا انصرف من مجلس فيه داود هذا أخذه معه فيمشي قدامه فإن كان في الطريق طين أو بئر أو أذى لقي داود شره وحذره أبي فمات داود وانصرف أبي ذات ليلة وهو سكران فعثر بدكان وتلوث بطين ودخل في رجله عظم ولقي عنتا فقال يرثي داود

رثاؤه لداود
( أقول والأرضُ قد غَشَّى وَجَلَّلَها ... ثوبُ الدُّجَى فَهْو فوق الأرض ممدود )
( وسَدَّ كلَّ فُروج الجوِّ مُنْطَبِقاً ... وكلُّ فَرْجٍ به في الجوِّ مسدود )
( وفي الوَدَاع وفي الإبداءِ لي عَنَتٌ ... دون المسير وبابُ الدار مسدود )
( مَن لِي بداودَ في ذي الحال يُرْشِدني ... مَن لي بداود لَهْفي أين داودُ )
( لَهْفي على رِجْله أَلاَّ أَقدِّمَها ... قُدَّامَ رجلي فَتَلْقَاها الجَلامِيدُ )
( إذ لا أزال إذا أقبلتُ ينكُبُنِي ... حَرْفٌ وجُرْفٌ ودُكَّانٌ وأُخدود )
( فإن تكن شوكةٌ كانت تحُل به ... أو نكتةٌ في سواد الليل أو عُودُ )

أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني القاسم بن الحسن مولى جعفر بن سليمان الهاشمي قال هجمت شاة منيع البقال على دار ابن يسير وهو غائب وكانت له قراطيس فيها أشعار وآداب مجموعة فأكلتها كلها فقال في ذلك
( قل لبُناة الآداب ما صَنَعَتْ ... منها إليكم فلا تُضِيعُوها )
( وضمِّنوها صُحْفَ الدَّفاتر بالحِبر ... وحُسْنَ الخُطوطِ أَوعُوها )
( فإن عجزتم ولم يكن عَلَفٌ ... تُسِيغُه عندكم فبِيعوها )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني ابن شبل البرجمي قال كان محمد بن يسير يعاشر يوسف بن جعفر بن سليمان وكان يوسف أشد خلق الله عربدة وكان يخاف لسان ابن يسير فلا يعربد عليه ثم جرى بينهما ذات يوم كلام على النبيذ ولحاء فعربد يوسف عليه وشجه فقال ابن يسير يهجوه
( لا تجلسَنْ مع يوسفٍ في مجلسٍ ... أبداً ولم تحملْ دَمَ الأخَوَيْنِ )
( رَيْحانُه بدم الشباب مُلَطَّخٌ ... وتحيَّةُ النَّدْمانِ لَطْمُ العَين )
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني الحسين بن يحيى المنجم قال حدثني أبو علي بن الخراساني قال

كان لمحمد بن يسير البصري بابان يدخل من أحدهما وهو الأكبر ويدخل إليه إخوانه من الباب الآخر وهو الأصغر ومن يستشرط من المرد فجاء يوما غلام قد خرجت لحيته كانت عادته أن يدخل من الباب الأصغر فمر من ذلك الباب فجعل يخاصم لدالته وبلغ ابن يسير فكتب إليه
( قُلْ لِمَنْ رامَ بجَهْلٍ ... مَدْخَلَ الظَّبي الغريرِ )
( بعد أن عَلَّق في خَدَّيه ... مِخلاةَ الشَّعيرِ )
( ليتَه يدخل إنْ جاء ... من الباب الكبيرِ )
وأخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني القاسم بن الحسن مولى جعفر بن سليمان قال كنا في مجلس ومعنا محمد بن يسير وعمرو القصافي وعندنا مغنية حسنة الوجه شهلة تغني غناء حسنا فكنا معها في أحسن يوم وكان القصافي يعين في كل شيء يستحسنه ويحبه فما برحنا من المجلس حتى عانها فانصرفت محمومة شاكية العين فقال ابن يسير
( إنّ عمراً جَنَى بعينيه ذنباً ... قَلَّ منِّي فيه عليه الدُّعاءُ )
( عانَ عَيْناء فعينُه للتي عان ... فِدًى وقَلَّ منه الفِداءُ )
( شرُّ عينٍ تَعِينُ أحسنَ عينٍ ... تَحمِلُ الأرضُ أو تُظِلُّ السماءُ )

شعره في حمار أبى عليه
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا القاسم بن الحسن قال استعار ابن يسير من بعض الهاشميين من جيرانه حمارا كان له ليمضي عليه في حاجة أرادها فأبى عليه فمضى إليها ماشيا وكتب إلى عمرو القصافي وكان جارا للهاشمي وصديقا يشكوه إليه ويخبره بخبره
( إنْ كنتُ لا عَيْرَ لي يوماً يُبلِّغني ... حاجي وأَقضِي عليه حقَّ إخوانِي )
( وضَنَّ أهلُ العَواري حين أسألهُم ... من أهل ودّي وخُلْصاني وجيراني )
( فإنَّ رِجْلَيَّ عندي لا عَدمْتُهما ... رِجْلاَ أخي ثقةٍ مُذْ كان جَوْلاني )
( تُبَلِّغانِيَ حاجاتي وإن بَعُدتْ ... وتُدْنيانِيَ مما ليس بالداني )
( كأنَّ خَلْفِي إذا ما جدَّ جِدُّهما ... إعصارَ عاصفةٍ مما تُثِيران )
( رجلايَ لم تَأْلَمَا نَكْباً كأنَّهما ... قَطّاً وقَدّاً وإدماجاً مَدَاَكانِ )
( كأن ما بهما أخطو إذا ارتَهَيا ... في سِكَّةٍ من أي ذاك سماكان )
( إنْ تُبْعَثا في دَهَاسٍ تَبْعَثَا رَهَجاً ... أو في حُزُونٍ ذَكَا فيها شِهابانِ )
( فالحمدُ للهِ يا عمرُو الذي بهما ... عن العواري وعن ذا الناسِ أغناني )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال

كنا في حلقة التوزي فلما تقوضت أنشدنا محمد بن يسير لنفسه قوله
( جُهْدُ المُقِلِّ إذا أعطاه مصطبراً ... ومُكْثِرٌ من غِنىً سِيَّانِ في الجود )
( لا يَعْدَمُ السائلون الخيرَ أفْعَلهُ ... إمَّا نَوالِي وإمّا حُسْنَ مردود )
فقلنا له ما هذا التكارم وقمنا إلى بيته فأكلنا من جلة تمر كانت عنده أكثرها وحملنا بقيتها فكتب إلى والي البصرة عمر بن حفص
( يا أبا حَفْصٍ بِحُرْمتنا ... عَنِّ نَفْساً حين تَنْتَهِكُ )
( خُذْ لنا ثَأْراً بجُلَّتنا ... فبِكَ الأوتارُ تُدَّرَكُ )
( كَهْفُ كفِّي حين تَطْرَحُها ... بين أيدِي القوم تَبْتَرِكُ )
( زارنا زَوْرٌ فلا سَلِموا ... وأُصِيبوا أَيَّةً سَلَكُوا )
( أكلوا حتَّى إذا شبِعُوا ... أخذوا الفضلَ الذي تركوا )
قال فبعث إلينا فأحضرنا فأغرمنا مائة درهم وأخذ من كل واحد منا جلة تمر ودفع ذلك إليه

أخباره مع أحمد بن يوسف وأبي عمرو المديني
أخبرني الأخفش قال حدثنا أبو العيناء قال كان بين محمد بن يسير وأحمد بن يوسف الكاتب شر فزجه أحمد يوما بحماره تعرضا لشره وعبثا به فأخذ ابن يسير بأذن الحمار وقال له قل لهذا الحمار الراكب فوقك لا يؤذي الناس فضحك أحمد ونزل فعانقه وصالحه
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن علي الشامي قال طلب محمد بن يسير من ابن أبي عمرو المديني فراخا من الحمام الهداء فوعده أن يأخذها له من المثنى بن زهير ثم نور عليه أي أعطاه فراخا غير منسوبة دلسها عليه وأخذ المنسوبة لنفسه فقال محمد بن يسير
( يا رَبِّ رَبِّ الرائحينَ عِشيَّةً ... بالقومِ بين مِنًى وبين ثَبِير )
( والواقفين على الجبالِ عشيةً ... والشمسُ جانحةٌ إلى التغوير )
( حتى إذا طفَلَ العَشِيُّ ووجَّهَتْ ... شمسُ النهار وآذَنَتْ بغُؤُورِ )
( رحلوا إلى خَيْفٍ نَواحِلَ ضَمَّها ... طُولُ السِّفارِ وبُعْدُ كلِّ مَسِيرِ )

( ابْعَثْ على طير المَدِينِيِّ الذي ... قال المُحَال وجاءني بِغُرورِ )
( ابعث على عَجَلٍ إليها بعدما ... يأخُذْنَ زينَتَهنَّ في التحسيرِ )
( في كل ما وَصَفُوا المراحِلَ وابتَدَوْا ... في المُبْتَدِينَ بِهِنَّ والتكسيرِ )
( ومَضَيْنَ عن دُورِ الخُرَيْبةِ زُلْفةً ... دونَ القصورِ وَحَجْرَةِ الماخُورِ )
( مع كلِّ ريح تَغتدِي بهبُوبها ... في الجوِّ بين شَواهِنِ وصُقورِ )
( من كلِّ أكلَفَ بات يَدْجُنُ ليلُهُ ... فغدا بغُدْوَةِ ساغِبٍ ممطور )
( ضَرِمٍ يقلِّب طَرْفَه مُتَأَنِّساً ... شيئاً فكُنَّ له من التقديرِ )
( يأتي لهنَّ مَيَامِناً ومَيَاسراً ... صَكّاً بكل مُزَلَّقٍ مَمْكُورِ )
( مِنْ طائِرٍ مُتَحَيِّرٍ عن قصدِهِ ... أو ساقِطٍ خَلِج الجَنَاح كَسِيرِ )
( لم ينجُ منه شريدُهن فإنْ نجا ... شيءٌ فصار بِجانبات الدُّورِ )

( لمُشَمِّرين عن السواعد حُسَّرٍ ... عنها بكل رَشِيقةِ التَّوتيرِ )
( سُدُدِ الأكُفِّ إلى المَقاتِل صُيَّبٍ ... سَمْتَ الحُتوفِ بجُؤْجُؤٍ ونُحورِ )
( ليس الذي تُخطِي يداه رَمِيَّةً ... منهم بمعدودٍ ولا معذورِ )
( يَتَبوَّعُون وتمتطي أيديهِمُ ... في كل مُعْطِية الجِذابِ نَتُورِ )
( عُطُفَ السِّياتِ دوائراً في عِطْفها ... تُعْزَى صناعتُها إلى عُصْفُورِ )
( يَنْفُثْنَ عن جَذْبِ الأكُفِّ ثواقباً ... مُتَشَابِهَاتِ القَدِّ والتدويرِ )
( تجري بها مُهَجُ النفوس وإنَّها ... لَنواصِلٌ سُلْتٌ من التَّحبيرِ )
( ما إن تُقَصِّرُ عن مَدَى مُتَبَاعِدٍ ... في الجوّ يَحْسُرُ طَرْفَ كلِّ بصير )
( حتَّى تراه مُزَمَّلاً بدِمائه ... فكأنَّه مُتَضَمِّخٌ بِعَبيرِ )
( فَيَظَلُّ يومُهُمُ بعيشٍ ناصبٍ ... نُصُبَ المَرَاجِلِ مُعْجَلِي التنويرِ )

( ويؤوبُ ناجِيهنّ بين مُضَرَّجٍ ... بِدَمٍ ومخلوبٍ إلى مَنْسُورِ )
( عارِي الجَنَاحِ من القَوَادِمِ والقَرَا ... كَاسٍ عليه مائِرُ التَّامُورِ )
( فيؤوده مُتَبَهْنِسٌ في مشيه ... خَطِفُ المؤخَّرِ مُشْبَعُ التصديرِ )
( ذو حُلْكة مثلِ الدُّجى أو غُبْثَةٍ ... شَغِبٌ شديدُ الجِدِّ والتشميرِ )
( فيمرُّ منها في البَرَارِي والقُرَى ... من كل أَعْصَلَ كالسِّنان هَصُورِ )
( في حين تُؤْذيها المَبَايِتُ مَوْهِناً ... أو بعد ذلك آخِرَ التسحيرِ )
( يختصّ كلَّ سليلِ سابقِ غايةٍ ... مَحْضِ النِّجار مُجَرَّبٍ مخبُورِ )
( عَجِّلْ عليه بما دعوتُ له به ... أَرِه بذاك عقوبة التَّنويرِ )
( حتى يقولَ جميعُ مَنْ هو شامِتٌ ... هذِي إجابةُ دعوة ابنِ يسيرِ )
( فَلأَلْفِيَنَّكَ عند حَالَيْ حَسْرَةٍ ... وتأسُّفٍ وتَلَهُّفٍ وزَفِيرِ )
( وَلتُلْفَيَنَّ إذا رَمَتْكَ بسهمها ... أيدي المصائب منك غيرَ صبور )
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني القاسم بن الحسن مولى جعفر بن سليمان قال

خرجنا مع بعض ولد النوشجاني إلى قصر له في بستانهم بالجعفرية ومعنا محمد بن يسير وكان ذلك القصر من القصور الموصوفة بالحسن فإذا هو قد خرب واختل فقال فيه محمد بن يسير
( ألا يا قصرُ قَصْرَ النُّوشَجَانِي ... أرى بك بعد أَهْلِكَ ما شجاني )
( فَلَوْ أعفَى البلاءُ ديارَ قومٍ ... لفضلٍ منهمُ ولعُظْمِ شانِ )
( لَمَا كَانت تُرَى بك بَيِّناتٍ ... تلوح عليك آثارُ الزمان )

ماذا قال في رثاء نفسه
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن أبي حرب قال أنشدنا يوما محمد بن يسير في مجلس أبي محمد الزاهد صاحب الفضيل بن عياض لنفسه قال
( وَيْلٌ لِمَنْ لم يرحَمِ الله ... ومَنْ تكونُ النارُ مَثواهُ )
( وَاغَفلَتَا في كلّ يومٍ مضى ... يُذْكِرُني الموتَ وأنساهُ )
( مَنْ طالَ في الدُّنيا بِهِ عُمْرُه ... وعاشَ فالموتُ قُصارَاهُ )
( كَأَنَّهُ قد قيلَ في مجلسٍ ... قد كُنْتُ آتِيهِ وأغْشَاهُ )
( محمدُ صارَ إلى رَبِّهِ ... يَرْحَمُنَا اللهُ وإيَّاهُ )
قال فأبكى والله جميع مَن حضر

قصته مع داود بن أحمد بن أبي داود
أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو الشبل قال كان محمد بن يسير صديقا لداود بن أحمد بن أبي دواد كثير الغشيان له ففقده أهله أياما وطلبوه فلم يجدوه وكان مع أصحاب له قد خرجوا يتنزهون فجاؤوا إلى داود بن أحمد يسألونه عنه فقال لهم أطلبوه في منزل حسن المغنية فإن وجدتموه وإلا فهو في حبس أبي شجاع صاحب شرطة خمار التركي فلما كان بعد أيام جاءه ابن يسير فقال له إيه أيها القاضي كيف دللت علي أهلي قال كما بلغك وقد قلت في ذلك أبياتا قال أو فعلت ذلك أيضا زدني من برك هات أيش قلت فأنشده
( ومُرسلةٍ تُوجِّهُ كلَّ يومٍ ... إليَّ وما دعا للصبح داعي )
( تُسائلني وقد فَقَدوه حتَّى ... أرادوا بعده قَسْمَ المَتاعِ )
( إذا لم تَلْقَه في بيت حُسْنٍ ... مقيماً للشَّرابِ وللسَّماعِ )
( ولم يُرَ في طريق بني سَدُوسٍ ... يَخُطُّ الأرضَ منه بالكُراعِ )

( يَدُقُّ حُزونَها بالوجه طَوْراً ... وطَوْراً باليدين وبالذِّراعِ )
( فقد أعياك مَطْلَبُه وأمسى ... فلا تَغْلَط حَبِيسَ أبي شُجاعِ )
قال فجعل ابن يسير يضحك ويقول أيها القاضي لو غيرك يقول لي هذا لعرف خبره ثم لم يبرح ابن يسير حتى أعطاه داود مائتي درهم وخلع عليه خلعة من ثيابه
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني علي بن القاسم طارمة قال كنت مع المعتصم لما غزا الروم فجاء بعض سراياه بخبر عمه فركب من فوره وسار أجد سير وأنا أسايره فسمع منشدا يتمثل في عسكره
( إنَّ الأمور إذا انْسَدَّتْ مَسالِكُها ... فالصبرُ يَفْتَحُ منها كلَّ ما ارتَتَجا )
( لا تيأَسَنَّ وإنْ طالتْ مطالبَةٌ ... إذا استعنتِ بصبر أن ترى فَرَجا )
فسر بذلك وطابت نفسه ثم التفت إلي وقال لي يا علي أتروي هذا الشعر قلت نعم قال من يقوله قلت محمد بن يسير فتفاءل باسمه ونسبه وقال أمر محمود وسير سريع يعقب هذا الأمر ثم قال أنشدني الأبيات فأنشدته قوله

( ماذا يكلِّفُكَ الرَّوْحاتِ والدُّلَجَا ... البَرَّ طوْراً وطوراً تركَبُ اللُّجَجَا )
( كَمْ مِنْ فَتىً قَصُرَتْ في الرِّزْقِ خُطْوَتُهُ ... ألفيتَهُ بِسِهامِ الرزق قد فَلَجا )
( لا تَيْأَسَنَّ وإنْ طالَتْ مُطالبَةٌ ... إذا استعنَت بصبر أن ترى فَرَجا )
( إنَّ الأمور إذا انْسَدَّتْ مسالِكُها ... فالصبرُ يفتح منها كلَّ ما ارْتَتَجا )
( أَخْلِقْ بذي الصبرِ أن يحظَى بحاجته ... ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلِجَا )
( فاطْلُبْ لرجلك قبل الخَطْوِ مَوْضِعَها ... فَمَنْ عَلاَ زَلَقاً عن غِرَّة زَلجَا )
( ولا يَغُرَّنْك صَفْوٌ أنت شارِبُهُ ... فربّما كان بالتكدير مُمْتَزِجَا )
( لا يُنْتَجُ النَّاسُ إلا من لِقاحِهِمُ ... يبدو لِقاحُ الفتى يوماً إذا نتِجَا )

متفرقات من شعره
أخبرني عيسى بن الحسين والحسن بن علي وعمي قالوا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل قال كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان ذات يوم ومعنا محمد بن يسير ونحن على شراب فأمر أن نبخر ونطيب فأقبلت وصيفة له حسنة الوجه فجعلت تبخرنا وتغلفنا بغالية كانت معه فلما غلفت ابن يسير وبخرته التفت إلي وكان إلى جنبي فأنشدني

( يا باسطاً كفَّه نَحْوِي يُطَيِّبني ... كَفَّاكَ أطيبُ يا حبِّي من الطِّيب )
( كفَّاكَ يجري مكانَ الطيبِ طِيبُهما ... فلا تزِدْنِي عليها عند تطييبي )
( يا لائمي في هواها أنتَ لم ترها ... فأنت مُغْرىً بتأنيبي وتعذيبي )
( أُنْظُرْ إلى وجهها هل مِثْلُ صورتها ... في الناس وجهٌ مُجَلَّى غيرُ محجوبِ )
فقلت له أسكت ويلك لا تصفع والله وتخرج فقال والله لو وثقت بأن نصفع جميعا لأنشدنه الأبيات ولكني أخشى أن أفرد بالصفع دونك
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الكراني قال حدثنا الرياشي قال كان محمد بن يسير جالسا في حلقتنا في مسجد البصرة وإلى جانبنا حلقة قوم من أهل الجدل يتصايحون في المقالات والحجج فيها فقال ابن يسير اسمعوا ما قلت في هؤلاء فأنشدنا قوله
( يا سائلي عن مقالة الشِّيَعِ ... وعن صنوفِ الأهواء والبِدَعِ )
( دَعْ عَنْكَ ذِكْرَ الأهواء ناحيةً ... فليس ممن شَهِدتُ ذو وَرَعِ )
( كلُّ أُناسٍ بَدِيُّهم حَسَنٌ ... ثم يصيرونَ بعدُ للسُّمَعِ )
( أكثرُ ما فيه أن يقالَ لهم ... لم يك في قوله بِمُنْقَطِعِ )
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن علي الشامي قال كان محمد بن يسير يصف نفسه بالذكاء والحفظ والاستغناء عن تدوين شيء يسمعه من ذلك قوله
( إذا ما غدا الطُّلاَّبُ للعلم ما لهم ... من الحظِّ إلا ما يُدَوَّن في الكُتْبِ )

( غدوتُ بتشمير وجِدٍّ عليهمُ ... فَمِحْبَرتي أُذْنِي ودَفْتَرُها قلبي )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال كان إبراهيم بن رياح إذا حزبه الأمر يقطعه بمثل قول محمد بن يسير
( تُخْطِي النفوسُ مع العيانِ ... وقد تُصيب معَ المَظِنَّهْ )
( كم من مَضِيقٍ في الفضاء ... ومَخْرَجٍ بين الأَسِنَّهْ )
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال مر ابن يسير بأبي عثمان المازني فجلس إليه ساعة فرأى من في مجلسه يتعجبون من نعل كانت في رجله خلق وسخة مقطعة فأخذ ورقة وكتب فيها
( كم أرى ذا تَعَجُّبٍ من نِعالي ... ورضائي منها بِلُبْسِ البَوَالِي )
( كلُّ جَرْداء قد تكتفيها ... من أقطارِها بسود النِّقال )
( لا تُداني وليس تُشْبِه في الخِلْقةِ ... إن أُبْرِزَتْ نِعالَ المَوالِي )
( مَنْ يُغالِ من الرجالِ بِنَعْلٍ ... فسِوَايَ إذاً بِهِنَّ يُغالي )

( لو حَذَاهُنَّ للجَمالِ فإنِّي ِّ ... في سواهُنَّ زينتي وجَمالي )
( في إخائي وفي وفائي ورأيي ... ولساني ومَنْطِقِي وفعالي )
( ما وقاني الحَفَا وبلَّغني الحاجةَ ... منها فإنَّني لا أُبالي )
أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال دعا قثم بن جعفر بن سليمان أبي فشرب عنده فلما سكر سرق منه ألواح آبنوس كانت تكون في كمه فقال في ذلك
( عَيْنٌ بَكِّي بِعَبْرَةٍ تَسْفَاحِ ... وأقيمي مآتِمَ الألواحِ )
( أوْحَشَتْ حُجْزَتي ورُدْنايَ منها ... في بُكُورِي وعند كُلِّ رَوَاحِ )
( واذكُريها إذا ذَكَرْتِ بما قد ... كان فيها من مَرْفِقٍ وصلاحِ )
( آبُنُوسُ دَهْماءُ حالِكَةُ اللَّوْن ... لُبَابٌ من اللِّطافِ المِلاحِ )
( ذاتُ نفع خفيفةُ القَدْرِ والمَحْمِلِ ... حُلْكُوكَةُ الذُّرَا والنواحي )
( وسريعٌ جُفُونُها إنْ محاها ... عند مُمْلٍ مُستعجِلُ القوم ماحي )
( هي كانت على عُلوميَ والآدابِ ... والفقهِ عُدَّتي وسِلاحِي )

( كنت أغدو بها على طلب العِلمِ ... إذا ما غَدوتُ كلَّ صباحِ )
( هي كانت غِذَاءَ زَوْرِي إذا زارَ ... َ وَرِيَّ النديم يومَ اصطباحي )
يعني أنه يعمل فيها الشعر ويطلب لزواره المأكول والمشروب
( آبَ عُسْرِي وغاب يُسْري وجُودي ... حين غابتْ وغاب عنِّي سَماحِي )

هجاؤه أحمد بن يوسف
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أحمد قال كان محمد بن يسير يعادي أحمد بن يوسف فبلغه أنه يتعشق جارية سوداء مغنية فقال ابن يسير يهجوه
( أقولُ لمَّا رأيتُهُ كَلِفاً ... بكلِّ سوداءَ نَزْرةٍ قَذِرَهْ )
( أهْلٌ لعمري لِمَا كَلِفتَ به ... عند الخنازير تَنْفُقُ العَذِرَهْ )
أخبرني وكيع قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا أبو العواذل قال عوتب محمد بن يسير على حضور المجالس بغير ورق ولا محبرة وأنه لا يكتب ما يسمعه فقال
( ما دخلََ الحَمَّامَ مِنْ عِلْمِي ... فذاكَ ما فازَ به سَهْمِي )
( والعِلْمُ لا ينفَعُنِي جَمْعُهُ ... إذا جَرَى الوهمُ على فهمي )

أخبرني علي بن سليمان الاخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان محمد بن يسير يعاشر ولد جعفر بن سليمان فأخذ منه قثم بن جعفر ألواح آبنوس كان يكتب فيها بالليل فقال ابن يسير في ذلك
( أبقتِ الألواحُ إذْ أُخِذَتْ ... حُرْقَةً في القلبِ تَضْطَرِمُ )
( زانَها فَصَّانِ من صَدَفٍ ... واحْمِرَارُ السَّيْرِ والقلمُ )
( وتولَّى أخذَها قُثَمٌ ... لا تولَّى نفعَها قُثَمُ )
أخبرني الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان محمد بن يسير يعاشر بعض الهاشميين ثم جفاه الهاشمي لملال كان فيه فكتب إليه ابن يسير قوله
( قد كنتُ مُنْقَبِضاً وأنتَ بَسَطْتَنِي ... حتى انبسطتُ إليكَ ثم قَبَضْتَنِي )
( أَذْكَرْتَنِي خُلُق النِّفاقِ وكان لي ... خُلُقاً فقد أحسنتَ إذ أَذْكَرْتَنِي )
( لو دامَ ودّك وانبسطتُ إلى امرئٍ ... في الودّ بعدك كنتَ أنت غَرَرْتَنِي )
( فَهَلُمَّ نَجْتَذِبُ التَّذاكُرَ بَيْنَنَا ... ونعود بعدُ كأنَّنا لم نَفْطَنِ )

شعره بعد أن أفاق من سكره
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا مسعود بن يسير قال

شرب محمد بن يسير نبيذا مع قوم فأسكروه حتى خرج من عندهم وهو لا يعقل فأخذ رداءه وعثر في طريقه وأصاب وجهه آثار فلما أفاق أنشأ يقول
( شاربتُ قوماً لم أُطِقْ شُرْبَهُمْ ... يَغْرَقُ في بَحْرِهِمُ بَحْرِي )
( لمَا تَجَارَيْنا إلى غايةٍ ... قصَّر عن صَبْرِهمُ صبري )
( خرجتُ من عندهم مُثْخَناً ... تَدْفَعُني الجُدْرُ إلى الجُدْرِ )
( مُقَبَّحَ المَشي كَسِيرَ الخُطَا ... تَقْصُر عند الجِدِّ عن سَيْرِي )
( فلستُ أنسَى ما تجشَّمْتُ مِنْ ... كَدْحٍ ومن جُرْحٍ ومن أُثْرِ )
( وشَقَِّ ثوبٍ وتَوَى آخَرٍ ... وسَقْطَةٍ بانَ بها ظُفْرِي )
حدثني عمي وجحظة عن أحمد بن الطبيب قال حدثنا بعض أصحابنا عن مسعود بن يسير ثم ساق الخبر مثله سواء
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العيناء قال اجتمع جعيفران الموسوس ومحمد بن يسير في بستان فنظر إلى محمد بن يسير وقد انفرد ناحية للغائط ثم قام عن شيء عظيم خرج منه فقال جعيفران
( قد قلتُ لابن يَسِيرٍ ... لمّا رمَى من عِجانِهْ )

( في الأرض تَلَّ سَمادٍ ... عَلاَ على كُثْبانهْ )
( طُوبَى لصاحب أرضٍ ... خَرِئْتَ في بُستانه )
قال فجعل ابن يسير يشتم جعيفران ويقول أي شيء أردت مني يا مجنون يا بن الزانية حتى صيرتني شهرة بشعرك

كتب شعرا إلى والي البصرة يستسقيه فيه نبيذا
أخبرني جحظة قال حدثني سوار بن أبي شراعة قال حدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال كان أبي مشغوفا بالنبيذ مشتهرا بالشرب وما بات قط إلا وهو سكران وما نبذ قط نبيذا وإنما كان يشربه عند إخوانه ويستسقيه منهم فأصبحنا بالبصرة يوما على مطر هاد ولم تمكنه معه الحركة إلى قريب من إخوانه ولا بعيد وكاد يجن لما فقد النبيذ فكتب إلى والي البصرة وكان هاشميا وهو محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان قال
( كَمْ في عِلاجِ نَبيذِ التمرِ لي تَعَبٌ ... الطبخُ والدَّلْكُ والمِعْصارُ والعَكَرُ )
( وإنْ عَدَلْتُ إلى المطبوخ مُعْتَمِداً ... رأيتُني منه عند الناسِ أشتهِرُ )
( نَقْلُ الدِّنانِ إلى الجيِرانِ يَفْضَحُني ... والقِدْرُ تتركني في القوم أعتذِرُ )
( فصِرْتُ في البيت أستسقِي وأطلبه ... من الصَّدِيقِ ورُسْلي فيه تَبْتَدِرُ )

( فمنهُم باذِلٌ سَمْحٌ بحاجتنا ... ومنهمُ كاذبٌ بالزُّور يَعْتذِر )
( فَسقِّني رِيَّ أَيَّامٍ لتَمنَعَني ... عمَّنْ سِواكَ وتُغْنينِي فقد خَسِروا )
( إن كَان زِقٌّ أو فوافِرَةٌ ... من الدَّساتِيج لا يُزْرِي بها الصَّفَرُ )
( وإنْ تَكُنْ حاجتي ليستْ بحاضرةٍ ... وليس في البَيْتِ من آثارها أَثَرُ )
( فاسْتَسْقِ غيرَك أو فاذْكُرْ له خَبَري ... إنِ اعْتَرَاكَ حَياءٌ منه أو حَصَرُ )
( ما كان من ذلكم فليأتني عَجِلاً ... فإنَّني واقفٌ بالبابِ أنتظرُ )
( لاَ لي نبيذٌ ولا حُرٌّ فيدعوَني ... وقد حَمَانِيَ من تَطْفِيليَ المَطَرُ )
قال فضحك لما قرأها وبعث إليه بزق نبيذ ومائتي درهم وكتب إليه اشرب النبيذ وأنفق الدراهم إلى أن يمسك المطر ويتسع لك التطفيل ومتى أعوزك مكان فاجعلني فيئة لك والسلام

صوت
( أنتَ حَدِيثِي في النومِ واليَقظَهْ ... أتْعَبْتُ ممَّا أَهْذي بك الحَفَظَهْ )
( كم واعظٍ فيك لي ووَاعظةٍ ... لو كنتُ ممن تنهاه عنك عِظَةْ )
الشعر لديك الجن الحمصي والغناء لعريب هزج ذكر ذلك ذكاء وجه الرزة وقمري جميعا والله أعلم

أخبار ديك الجن ونسبه
ديك الجن لقب غلب عليه واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم وكان جده تميم ممن أنعم الله عز و جل عليه بالإسلام من أهل مؤتة على يدي حبيب بن مسلمة الفهري وكان شديد التشعب والعصبية على العرب يقول ما للعرب علينا فضل جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم صلى الله عليه و سلم وأسلمنا كما أسلموا ومن قتل منهم رجلا منا قتل به ولم نجد الله عز و جل فضلهم علينا إذ جمعنا الدين

وهو شاعر مجيد يذهب مذهب أبي تمام والشاميين في شعره من شعراء الدولة العباسية وكان من ساكني حمص ولم يبرح نواحي الشام ولا وفد إلى العراق ولا إلى غيره منتجعا بشعره ولا متصديا لأحد وكان يتشيع تشيعا حسنا وله مراثِ كثيرة في الحسين بن علي عليهما السلام منها قوله
( يا عينُ لا لِلقَضَا ولا الكُتُبِ ... بُكَا الرَّزَايَا سِوَى بُكَا الطَّرَب )
وهي مشهورة عند الخاص والعام ويناح بها وله عدة أشعار في هذا المعنى وكانت له جارية يهواها فاتهمها بغلام له فقتلها واستنفد شعره بعد ذلك في مراثيها

هجاؤه ابن عمه
قال أبو الفرج ونسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن طاهر أخبره بما فيه ابن أخ لديك الجن يقال له أبو وهب الحمصي قال كان عمي خليعا ماجنا معتكفا على القصف واللهو متلافا لما ورث عن آبائه واكتسب بشعره من أحمد وجعفر ابني علي الهاشميين وكان له ابن عم يكنى أبا الطيب يعظه وينهاه عما يفعله ويحول بينه وبين ما يؤثره ويركبه من لذاته وربما هجم عليه وعنده قوم من السفهاء والمجان وأهل الخلاعة فيستخف بهم وبه فلما كثر ذلك على عبد السلام قال فيه

( مَولاتُنا يا غلامُ مُبْتَكِرَهْ ... فباكِرِ الكأسَ لي بلا نَظِرَه )
( غَدَتْ على اللهو والمجونِ على ... أن الفتاةَ الحَيِيَّةُ الخَفِرَهْ )
( لِحُبِّها لا عَدِمْتُها حُرَقٌ ... مطويَّةٌ في الحَشَا ومُنْتَشِرَهْ )
( ما ذُقْتُ منها سوى مُقَبَّلِها ... وضَمِّ تلك الفُروعِ مَنْحَدِرَهْ )
( وانْتَهرَتْني فَمِتُّ من فَرَقٍ ... يا حُسْنَها في الرِّضا ومُنْتَهِرَهْ )
( ثم انثنتْ سَوْرَةُ الخُمار بنا ... خِلال تلك الغَدائِرِ الخَمِرَهْ )
( وليلةٍ أشرفتْ بَكَلْكَلِها ... عَلَيَّ كالطَّيْلَسان مُعْتَجِرَهْ )
( فَتَقْتُ دَيْجُورَها إلى قَمَرٍ ... أثوابُهُ بالعَفَافِ مُسْتَتِرَهْ )
( عُجْ عَبَراتِ المُدام نحوِيَ مِن ... عَشْرِ وعِشْرين واثنَتَيْ عَشَرَهْ )
( قد ذُكرَ الناسُ عن قِيامِهِمُ ... ذِكْرى بعَقْلي ما أصبحَتْ نَكرَهْ )
( مَعْرفتي بالصوابِ مَعْرِفَةٌ ... غَرَّاءُ إمَّا عَرَفْتُمُ النَّكرهْ )
( يا عجباً من أبي الخبيثِ ومِنْ ... سُرُوحِه في البَقَائر الدَّثِره )

( يَحْمِلُ رأساً تنبو المَعاوِلُ عن ... صَفْحته والجلامِدُ الوَعِرَه )
( لَوِ البِغالُ الكُمْتُ ارتقتْ سَنَداً ... فِيهِ لَمَدَّتْ قَوائماً خَدِرَهْ )
( ولا المجَانِيقُ فِيهِ مُغْنِيةٌ ... ألفٌ تَسَامَى وأَلفُ مُنْكَدِرَهْ )
( أنظر إلى موضعِ المِقَصِّ من الهامَةِ ... تلك الصَّفيحةُ العَجِرَهْ )
( فلَوْ أخذتمْ لها المَطَارِقَ حَرّانِيَّةً ... صَنْعةَ اليَدِ الخَبِرَهْ )
( إذاً لراحتْ أَكُفُّ جِلَّتِهِمْ ... كَلِيلةً والأداةُ مُنْكَسِرَهْ )
( كَمْ طَرَباتٍ أَفْسَدْتَهُنَّ وكَمْ ... صَفْوةِ عَيْشٍ غادرتَها كَدِرَهْ )
( وكَمْ إذَا ما رَأوْكَ يا مَلَكَ الْمَوْتِ ... لهم مِنْ أَنامِلٍ خَصِرَهْ )
( وكَمْ لهم دَعْوة عليكَ وكَمْ ... قَذْفةِ أُمٍّ شَنْعاءَ مُشْتَهِرَهْ )
( كريمةٍ لؤمُك استخَفَّ بها ... ونالها بالمَثالِبِ الأشِرَهْ )
( قِفُوا على رَحْلِه تَرَوْا عَجَباً ... في الجَهْلِ يَحكِي طَرائِفَ البَصرَهْ )

( يا كُلَّ مَنْيٍ وكلَّ طَالعةٍ ... نَحْسٍ ويا كُلَّ ساعةٍ عَسِرَهْ )
( سبحانَ مَنْ يُمْسِكُ السماءَ على الأرض ... وفيها أخلاقُك القَذِرَهْ )

خبره مع زوجه ورد
قال وكان عبد السلام قد اشتهر بجارية نصرانية من أهل حمص هويها وتمادى به الأمر حتى غلبت عليه وذهبت به فلما اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها فأجابته لعلمها برغبته فيها وأسلمت على يده فتزوجها وكان اسمها وردا ففي ذلك يقول
( انظر إلى شمسِ القُصورِ وبَدْرِها ... وإلى خُزَامَاها وبَهْجَةِ زَهْرِها )
( لم تَبْلُ عينُك أبيضاً في أسوَدٍ ... جَمَع الجمالَ كوَجْهِها في شَعْرِها )
( وَرْدِيَّةُ الوَجَنات يَخْتَبِرُ اسمَها ... من رِيقِها مَنْ لا يُحيط بخُبْرِها )
( وتمايلتْ فضَحِكْتُ من أَردافِها ... عَجَباً ولكنِّي بَكيْتُ لِخَصْرِها )
( تَسْقيك كأْسَ مُدَامةٍ من كَفِّها ... وَرْدِيَّةٍ ومُدامة من ثَغْرِها )
قال وكان قد أعسر واختلت حاله فرحل إلى سلمية قاصدا لأحمد بن علي الهاشمي فأقام عنده مدة طويلة وحمل ابن عمه بغضه إياه بعد مودته له وإشفاقه عليه بسبب هجائه له على أن أذاع على تلك المرأة التي تزوجها عبد السلام أنها تهوى غلاما له وقرر ذلك عند جماعة من أهل بيته وجيرانه وإخوانه وشاع ذلك الخبر حتى أتى عبد السلام فكتب إلى أحمد بن علي

شعرا يستأذنه في الرجوع إلى حمص وبعلمه ما بلغه من خبر المرأة من قصيدة أولها
( إنَّ رَيْبَ الزمان طال انتكاثُه ... كَمْ رمتني بحادثٍ أحداثُهْ )
يقول فيها
( ظَبْيُ إنسٍ قلبي مَقِيلُ ضُحَاهُ ... وفُؤادي بَرِيرُهُ وكَبَاثُهْ )
وفيها يقول
( خِيفَةً أن يخونَ عَهْدِي وأن يُضْحِي ... لغيري حُجُولُه ورعاثُهْ )
ومدح أحمد بعد هذا وهي طويلة فأذن له فعاد إلى حمص وقدر ابن عمه وقت قدومه فأرصد له قوما يعلمونه بموافاته باب حمص فلما وافاه خرج إليه مستقبلا ومعنفا على تمسكه بهذه المرأة بعد ما شاع من ذكرها بالفساد وأشار عليه بطلاقها وأعلمه أنها قد أحدثت في مغيبه حادثة لا يجمل به معها المقام عليها ودس الرجل الذي رماها به وقال له إذا قدم عبد السلام ودخل منزله فقف على بابه كأنك لم تعلم بقدومه وناد باسم ورد فإذا قال من أنت فقل أنا فلان فلما نزل عبد السلام منزله وألقى ثيابه سألها عن الخبر وأغلظ عليها فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئا فبينما هو في ذلك إذ قرع الرجل الباب فقال من هذا فقال أنا فلان فقال لها عبد السلام يا زانية زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئا ثم اخترط سيفه فضربها به حتى قتلها وقال في ذلك
( ليتَني لم أكُنْ لِعَطْفكِ نِلْتُ ... وإلى ذلك الوِصالِ وصلتُ )

( فالذي منِّيَ اشتملت عليه ... أَلِعَارٍ ما قَدْ عليهِ اشتملتُ )
( قال ذو الجهل قد حَلُمْتَ ولا أَعْلَمُ ... أَنِّي حَلُمْتُ حتى جَهِلْتُ )
( لاثمٌ لي بجهله ولماذا ... أنا وَحْدي أحببتُ ثم قتلتُ )
( سوف آسَى طولَ الحياة وأبكيكِ ... على ما فعلت لا ما فعلتُ )
وقال فيها أيضا
( لَكِ نفسٌ مُواتِيَهْ ... والمَنَايَا مُعَادِيَهْ )
( أيّها القلب لا تَعُدْ ... بِهوَى البِيضِ ثَانِيَهْ )
( ليس بَرْقٌ يكون أخلبَ ... من بَرْقِ غانِيَهْ )
( خُنْتِ سِرِّي ولم أَخُنْك ... ِ فمُوتِي عَلاَنِيَهْ )
قال وبلغ السلطان الخبر فطلبه فخرج إلى دمشق فأقام بها أياما وكتب أحمد بن علي إلى أمير دمشق أن يؤمنه وتحمل عليه بإخوانه حتى يستوهبوا جنايته فقدم حمص وبلغه الخبر على حقيقته وصحته واستيقنه فندم ومكث شهرا لا يستفيق من البكاء ولا يطعم من الطعام إلا ما يقيم رمقه وقال في ندمه على قتلها
( يا طلعةً طلع الحِمامُ عليها ... وجَنَى لها ثَمَرَ الرَّدَى بِيَدَيْهَا )
( رَوَّيْتُ من دَمِها الثَّرَى ولطالَما ... رَوَّى الهوى شَفَتَيَّ من شَفَتَيْها )
( قد بات سَيْفِي في مَجال وشاحِها ... ومَدامِعِي تجري على خَدَّيْها )
( فوَحَقِّ نَعْلَيْها وما وطئ الحَصَى ... شيءٌ أَعَزُّ عَلَيَّ من نَعْلَيْها )

( ما كان قَتْلِيها لأني لم أكُنْ ... أبكِي إذا سَقَطَ الذُّبابُ عليها )
( لكنْ ضَنَنْتُ على العيون بحُسْنها ... وأنِفْتُ من نَظَر الحسودِ إليها )
وهذه الأبيات تروى لغير ديك الجن
أخبرني بها محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن منصور قال كان من غطفان رجل يقال له السليك بن مجمع وكان من الفرسان وكان مطلوبا في سائر القبائل بدماء قوم قتلهم وكان يهوى ابنة عم له وكان خطبها مدة فمنعها أبوها ثم زوجه إياها خوفا منه فدخل بها في دار أبيها ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارسا كلهم يطلبه بذحل فحلقوا عليه وقاتلهم وقتل منهم عددا وأثخن بالجراح آخرين وأثخن هو حتى أيقن بالموت فعاد إليها فقال ما أسمح بك نفسا لهؤلاء وإني أحب أن أقدمك قبلي قالت افعل ولو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك فضربها بسيفه حتى قتلها وأنشأ يقول
( يا طلعة طلع الحمام عليها ... )
وذكر الأبيات المنسوبة إلى ديك الجن ثم نزل إليها فتمرغ في دمها وتخضب به ثم تقدم فقاتل حتى قتل وبلغ قومه خبره فحملوه وابنة عمه فدفنوهما قال وحفظت فزارة عنه هذه الأبيات فنقلوها قال وبلغني أن قومه أدركوه وبه رمق فسمعوه يردد هذه الأبيات فنقلوها وحفظوها عنه وبقي عندهم يوما ثم مات

وقال ديك الجن في هذه المقتولة
( أشفقتُ أن لِبَليَّتِي يَرِدَ الزمانُ بغَدْرِهِ ... أو أبْتَلَى بعد الوِصالِ بهَجْرِهِ )
( قَمَرٌ أنا استخرجْتُه من دَجْنِهِ ... لِبَلِيَّتِ وجَلَوتُه من خدْرِهِ )
( فقتلته وله عليَّ كرامةٌ ... مِلْءَ الحَشَى وله الفؤادُ بِأَسْرِهِ )
( عَهْدِي به مَيْتاً كأحسنِ نائمٍ ... والحُزْن يَسْفَحُ عَبْرتِي في نحْرِهِ )
( لو كانَ يَدْري المَيتُ ماذا بعدَه ... بالحيّ حَلَّ بَكَى له في قَبْرِهِ )
( غُضَصٌ تكاد تفيظ منها نفسه ... وتكادُ تُخْرِج قَلْبَه مِنْ صَدْرِهِ )
وقال فيها أيضا
( أساكِنَ حُفْرةٍ وقَرارِ لَحْدِ ... مُفارِقَ خُلَّةٍ من بعد عهدِ )
( أجِبْنِي إن قَدَرْتَ على جوابي ... بحقِّ الوُدِّ كيف ظَلِلْتَ بَعْدي )
( وأين حَلَلْتَ بعدَ حلول قلبي ... وأحشائي وأضلاعي وكبْديِ )
( أمَا واللهِ لو عاينتَ وَجْدِي ... إذَا استعبرتُ في الظُّلُمات وَحدِي )
( وجَدَّ تَنَفُّسِي وعلا زَفِيرِي ... وفاضتْ عَبْرتي في صَحنِ خَدِّي )
( إذاً لعلِمْتَ أنِّي عن قريبٍ ... ستُحْفَرُ حُفْرتي ويُشَقُّ لَحْدِي )
( ويَعْذِلُني السفيهُ على بُكائي ... كأنِّي مبتلًى بالحزن وحدي )
( يقول قتلتَها سَفَهاً وجهلاً ... وتَبكيها بكاءً ليس يُجدي )
( كصيَّاد الطُّيورِ له انتحابٌ ... عليها وَهْوَ يذبحُها بِحدِّ )

وقال فيها أيضا
( ما لامرِئ بِيَدِ الدَّهْرِ الخَؤونِ يَدُ ... ولا على جَلَدِ الدُّنيَا له جَلَد )
( طُوبَى لأحبابِ أقوامٍ أصابَهُمُ ... من قَبْلِ أن عَشِقوا موتٌ فقد سَعِدوا )
( وحَقِّهم إنَّه حقٌّ أَضِنُّ به ... لأُنْفِدَنَّ لهم دمعي كما نَفِدوا )
( يا دهرُ إنَّك مَسْقِيٌّ بكأسهِمُ ... ووَارِدٌ ذلك الحوضَ الذي وَرَدُوا )
( الخَلْق ماضُونَ والأيامُ تَتْبَعُهُمْ ... نَفْنَى جميعاً ويبقَى الواحدُ الصَّمَدُ )
وقال فيها
( أمَا آنَ للطَّيْفِ أن يأتِيَا ... وأن يَطْرُقَ الوَطَنَ الدَّانِيَا )
( وإنِّي لأحْسَبُ ريبَ الزَّمانِ ... ِ يتركُني جَسَداً باليا )
( سأشكر ذلكَ لا ناسِياً ... جميلَ الصَّفاء ولا قاليا )
( وقد كنتُ أنشرُه ضاحكاً ... فقد صِرْتُ أنشره باكِيا )
وقال أيضا
( قُلْ لِمَنْ كان وجهُه كضياء الشَّمْسِ ... في حُسْنِه وبَدْرٍ مُنيرِ )
( كنت زَيْنَ الأحياءِ إذ كنتَ فيهمْ ... ثم قَدْ صِرْتَ زَيْنَ أهلِ القُبورِ )
( بأبي أنت في الحياة وفي المَوْت ... وتحتَ الثرى ويوم النُّشورِ )
( خُنْتَنِي في المَغِيب والخَوْنُ نُكْرٌ ... وذمِيمٌ في سالفاتِ الدُّهورِ )

( فشفاني سَيْفي وأسرعَ في حزِّ ... التَّراقي قَطْعاً وحَزِّ النُّحورِ )
قال أبو الفرج ونسخت من هذا الكتاب قال

تشبيبه بغلام له
كان ديك الجن يهوى غلاما من أهل حمص يقال له بكر وفيه يقول وقد جلسا يوما يتحدثان إلى أن غاب القمر
( دَعِ البَدْرَ فَلْيَغْرُبْ فأنتَ لنا بَدْرُ ... إذا ما تجلَّى منْ مَحَاسِنِكَ الفجرُ )
( إذا ما انقضَى سِحْرُ الذين ببابلٍ ... فطرْفُكَ لي سِحْرٌ ورِيقُكَ لي خمر )
( ولو قيل لي قُمْ فادْعُ أحسنَ من ترى ... لصِحتُ بأعلى الصوت يا بَكْرُ يا بَكْرُ )
قال وكان هذا الغلام يعرف ببكر بن دهمرد قال وكان شديد التمنع والتصون فاحتال قوم من أهل حمص فأخرجوه إلى متنزه لهم يعرف بميماس فاسكروه وفسقوا به جميعا وبلغ ديك الجن الخبر فقال فيه
( قُلْ لهضِيم الكَشْحِ مَيَّاسُ ... انْتَقَضَ العهدُ من النَّاسِ )
( يا طلعةَ الآس التي لم تَمِدْ ... إلاَّ أذَلَّتْ قُضُبَ الآس )
( وَثِقْتَ بالكأس وشُرَّابها ... وحَتْفُ أمثالِك في الكاس )
( وحال مِيماسُ ويا بعدما ... بين مغيثيك وميماس )

( تَقْطِيعُ أَنْفاسِك في أثْرِهِمْ ... ومَلْكِهِمْ قَطَّعَ أنفاسي )
( لا بأسَ مولايَ على أنها ... نِهايةُ المكروهِ والباسِ )
( هي اللَّيالي ولها دولةٌ ... ووحشة من بعد إيناسِ )
( بَيْنَا أنافتْ وعَلَتْ بالفَتَى ... إذْ قيل حَطَّتْه على الرَّاس )
( فالهُ ودَعْ عنكَ أحاديثَهم ... سَيُصْبِحُ الذَّاكرِ كالنَّاسِي )
وقال فيه أيضا
( يا بكرُ ما فعلتْ بك الأرطالُ ... يا دارُ ما فعلتْ بك الأيامُ )
( في الدارِ بَعْدُ بَقِيَّةٌ نستامُها ... إذ ليس فيك بَقِيَّةٌ تُستام )
( عَرِمَ الزَّمانُ على الدِّيار برَغْمِهِمْ ... وعليكَ أيضاً للزَّمان عُرَامُ )
( شغَلَ الزمانَ كَراكَ في ديوانه ... فَتَفَرَّغتْ لِدَواتِكَ الأقلامُ )
وقال فيه أيضا
( قُولاَ لِبَكرِ بن دهْمرْدٍ إذا اعتكرتْ ... عَسَاكِرُ اللَّيْلِ بين الطَّاسِ والجامِ )
( ألم أَقُلْ لك إنَّ البغيَ مَهْلَكةٌ ... والبغيُ والعُجْبُ إفسادٌ لأقوام )
( قد كنتَ تَفْرَقُ مِن سَهْمٍ بغانيةٍ ... فصِرْتَ غيرَ رَميمٍ رُقْعَةَ الرامي )

( وكنت تَفْزَعُ من لَمْسٍ ومن قُبَلٍ ... فقد ذَلَلْتَ لإسراجٍ وإلجام )
( إن تَدْمَ فَخْذَاكَ مِن رَكْضٍ فَرُبَّتَمَا ... أُمْسِي وقلبي عليك المُوجَعُ الدامِي )
أخبرني أبو المعتصم عاصم بن محمد الشاعر بأنطاكية وبها أنشدني قصيدة البحتري
( مَلاَمَك إنَّه عهدٌ قريبُ ... ورُزْءٌ ما انقضتْ منه النُّدوبُ )
وأنشدني لديك الجن يعزي جعفر بن علي الهاشمي
( نَغْفُلُ والأيَّامُ لا تَغْفُلُ ... ولا لَنَا من زَمَنٍ مَوْئِلُ )
( والدَّهْرُ لا يَسْلَمُ من صَرْفِهِ ... أعصمُ في القُنَّةِ مُسْتَوْعِلُ )
( يَتَّخذُ الشِّعْرَى شِعارا له ... كأنما الأُفْقُ له مَنْزِلُ )
( كأنَّه بين شَنَاظِيرِها ... بارقةٌ تَكْمُنُ أو تَمْثُلُ )
( ولا حَبَابٌ صَلَتَانُ السُّرَى ... أرقمُ لا يعرف ما يَجْهَلُ )
( نَضْناضُ فَيْفاءَ يرى أنَّه ... بالرمل غانٍ وهُوَ المُرْمِلُ )

( يَطْلُبُ من فاجِئةٍ مَعْقِلاً ... وَهْوَ لما يطلُب لا يَعْقِلُ )
( والدَّهرُ لا يسلَمُ من صَرْفِهِ ... مُسَرْبَلٌ بالسَّرْدِ مستبسِلُ )
( ولا عَقْنَبَاةُ السُّلاَمى لها ... في كُلِّ أفْقٍ عَلَقٌ مُهْمَلُ )
( فَتْخاءُ في الجَوِّ خدارِيَّةٌ ... كالغَيْم والغَيْمُ لها مُثْقِلُ )
( آمَنُ مَنْ كان لِصَرْفِ الرَّدَى ... أنزلَها من جَوِّها مُنْزِلُ )
( والدَّهْرُ لا يَحْجُبُه مانِعٌ ... يحجُبُه العامِلُ والمُنْصُلُ )
( يُصْغي جَدِيدَاهُ إلى حُكْمِهِ ... ويَفْعَلُ الدهرُ بما يَفْعَلُ )
( كأنَّه مِنْ فَرْط عِزِّ به ... أشْوَسُ إذ أقبلَ أو أقْبَلُ )
الأقبل الذي في عينه قبل وهو دون الحول
( في حَسَبٍ أَوْفَى له جَحْفَلٌ ... يَقْدُمُه من رَأْيه جحفلُ )
( بينَا على ذلك إذ عَرَّشتْ ... في عَرْشِه داهِيَةٌ ضِئْبِلُ )
( إنْ يَكُ في العِزِّ له مِشْقَصٌ ... ماضٍ فقدْ تاحَ له مَقْتَلُ )
( جادَ على قَبْرِكَ مِنْ مَيِّتٍ ... بالرَّوْحِ ربٌّ لكَ لا يبْخَلُ )

( وَحَنَّت المُزْنُ على قبرِهِ ... بِعَارِضٍ نَجْوَتُه مَحْفِلُ )
( غيثٌ تَرى الأرضَ على وَبْلِهِ ... تضحكُ إلا أنَّه يَهْمِلُ )
( يَصِلُّ والأرضُ تُصَلِّي له ... مِن صَلَوَاتٍ مَعَه تَسْأَلُ )
( أنت أبا العَبَّاس عَبَّاسُها ... إذا استطار الحَدَثُ المُعْضِلُ )
( وأنت يَنْبُوع أفانِينِها ... إذا هُمُ في سَنةٍ أمحلوا )
( وأنتَ عَلاَّمُ غُيوبِ النَّثَا ... يوماً إذا نَسْأَلُ أو نُسْألُ )
( نحن نُعَزِِّّيكَ ومنك الهُدَى ... مُسْتَخْرَجٌ والنُّورُ مُسْتَقْبَلُ )
( نقول بالعقلِ وأنت الَّذِي ... نأوِي إليه وبِهِ نَعْقِلُ )
( نحن فِدَاءٌ لك مِنْ أُمَّةٍ ... والأرضُ والآخِرُ والأوّلُ )
( إذا غفا عنكَ وأَوْدَى بها ... ذا الدهرُ فَهْوَ المُحْسِنُ المُجْمِلُ )

شعره في رثاء جعفر بن علي الهاشمي
قال أبو المعتصم ثم مات جعفر بن علي الهاشمي فرثاه ديك الجن فقال
( على هذه كانتْ تدور النوائبُ ... وفي كلِّ جمع للذهابِ مذاهبُ )

( نَزَلْنا على حُكْمِ الزَّمانِ وأَمْرِهِ ... وهل يَقْبَلُ النِّصْفَ الأَلَدُّ المُشاغِبُ )
( وتَضْحَكُ سِنُّ المرءِ والقلبُ مُوجَعٌ ... ويرضَى الفَتَى عن دَهْره وهو عاتبُ )
( أَلاَ أَيُّها الرُّكبانُ والرَّدُّ واجبٌ ... قِفُوا حَدِّثُونَا ما تقولُ النَّوادِبُ )
( إلى أيِّ فِتْيَانِ النَّدَى قَصَدَ الرَّدَى ... وأَيَّهمُ نابتْ حِمَاهُ النَّوائِبُ )
( فَيَا لأبي العَبَّاسِ كَمْ رُدَّ راغِبٌ ... لِفَقْدِكَ ملهوفاً وكَمْ جُبَّ غارِبُ )
( وَيَا لأبي العَبَّاسِ إنّ مَناكِباً ... تُنُوءُ بما حَمَّلْتَها لَنَوَاكِبُ )
( فيا قبرَه جُدْ كلَّ قبرٍ بِجَوْدِهِ ... فَفِيك سماءٌ ثَرَّةٌ وسَحَائِبُ )
( فَإنَّكَ لَوْ تَدْرِي بما فيك مِن عُلاً ... عَلَوْتَ وباتَتْ في ذَرَاكَ الكَوَاكِبُ )
( أخاً كُنْتُ أبْكِيهِ دماً وهو نائمٌ ... حِذَاراً وَتَعْمَى مُقْلَتِي وهو غائبُ )
( فماتَ ولا صَبْرِي على الأَجْرِ واقفٌ ... ولا أنا في عُمْرٍ إلى الله راغِبُ )
( أأسعى لأِحْظَى فيك بالأجْرِ إِنَّهُ ... لَسَعيٌ إذن مِنِّي لدى الله خائب )
( ومَا الإِثْمُ إلاَّ الصّبرُ عنكَ وإنَّما ... عواقبُ حَمْدٍ أن تُذَمَّ العواقبُ )
( يقولون مِقْدَارٌ على المرءِ واجِبٌ ... فقلتُ وإعوالٌ على المرءِ واجبُ )
( هو القلبُ لَمّا حُمَّ يومُ ابنِ أُمِّهِ ... وهي جانِبٌ منه وأُسْقِمَ جانِبُ )
( تَرَشَّفْتُ أيَّامِي وهُنَّ كوالِحٌ ... عليك وغالبتُ الرَّدَى وهو غالِبُ )
( ودافعتُ في صدر الزَّمانِ وَنَحْرِهِ ... وأيُّ يَدٍ لي والزمانُ مُحارِبُ )
( وقلت له خَلِّ الجَوَادَ لِقَوْمِهِ ... وهأنذا فَازْدَد فإنَّا عَصَائِبُ )

( فواللهِ إخلاصاً من القولِ صادقاً ... وإلاَّ فَحُبِّي آلَ أَحْمدَ كاذِبُ )
( لَوْ أنّ يَدِي كانت شِفاءَكَ أو دَمِي ... دَمَ القَلْبِ حَتَّى يَقْصِبَ القلبَ قاضِبُ )
( لَسَلَّمتُ تسليمَ الرِّضا وتَخِذْتُها ... يداً للرَّدى ما حَجَّ لله راكِبُ )
( فَتًى كان مثلَ السيفِ من حيثُ جِئْتَه ... لنائبةٍ نابتْكَ فَهْوَ مُضَارِبُ )
( فَتًى هَمُّه حمدٌُ على الدَّهْرِ رابِحٌ ... وإن غاب عنهُ مالُهُ فهو عازِبُ )
( شمائِلُ إن يَشْهدْ فَهُنَّ مَشَاهِدٌ ... عِظامٌ وإن يَرْحَلْ فَهُنَّ كتائِبُ )
( بكاكَ أَخٌ لم تَحْوِهِ بِقَرَابَةٍ ... بَلَى إنَّ إخوانَ الصَّفاءِ أقارِبُ )
( وأظلمتِ الدُّنْيَا التي كنتَ جارَها ... كأنَّكَ للدُّنيا أخٌ ومُنَاسِبُ )
( يُبَرِّدُ نيرانَ المصائبِ أنَّني ... أرى زمناً لم تبقَ فيه مصائِبُ )
قال أبو الفرج ونسخت من كتاب محمد بن طاهر عن أبي طاهر إن خطيب أهل حمص كان يصلي على النبي على المنبر ثلاث مرات في خطبته وكان أهل حمص كلهم من اليمن لم يكن فيهم من مضر إلا ثلاثة أبيات فتعصبوا على الإمام وعزلوه فقال ديك الجن
( سَمِعُوا الصَّلاةَ على النَّبيِّ تَوَالَى ... فَتَفَرَّقُوا شِيَعاً وقالُوا لاَلاَ )
( ثم استمرَّ على الصلاةِ إمامُهم ... فتحزَّبوا ورَمَى الرِّجالُ رجالاَ )
( يا آلَ حِمْصَ تَوَقَّعُوا مِنْ عارِها ... خِزْياً يَحِلُّ عليكُمُ ووبَالاَ )
( شاهتْ وجوهُكُم وجوهاً طالَما ... رَغِمَتْ معاطِسُها وساءتْ حالا )

صوت
( أيا بنةَ عبدِ اللهِ وابنةَ مالِكٍ ... ويا بْنَةَ ذي البُرْدَيْنِ والفَرَسِ الوَرْدِ )
( إذا ما صنعتِ الزادَ فالتَمِسِي له ... أَكِيلاً فَإِنِّي لستُ آكِلَهُ وَحْدِي )
عروضه من الطويل
الشعر لقيس بن عاصم المنقري والغناء لعلويه ثقيل أول بالوسطى

أخبار قيس بن عاصم ونسبه
هو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس واسم مقاعس الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم ويكنى أبا علي وأمه أم أصعر بنت خليفة بن جرول بن منقر
وهو شاعر فارس شجاع حليم كثير الغارات مظفر في غزواته أدرك الجاهلية والإسلام فساد فيهما وهو أحد من وأد بناته في الجاهلية وأسلم وحسن إسلامه وأتى النبي وصحبه في حياته وعمر بعده زمانا وروى عنه عدة أحاديث
وأد كل بناته في الجاهلية
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال وفد قيس بن عاصم على رسول الله فسأله بعض الأنصار عما يتحدث به عنه من الموءودات التي وأدهن من بناته فأخبر أنه ما ولدت له بنت قط إلا وأدها ثم أقبل على رسول الله يحدثه فقال له كنت أخاف سوء الأحدوثة والفضيحة في البنات فما ولدت لي

بنت قط إلا وأدتها وما رحمت منهم موءودة قط إلا بنية لي ولدتها أمها وأنا في سفر فدفعتها أمها إلى أخوالها فكانت فيهم وقدمت فسألت عن الحمل فأخبرتني المرأة أنها ولداً ميتا ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبية ويفعت فزارت أمها ذات يوم فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها شيئا من خلوق ونظمت عليها ودعا وألبستها قلادة جزع وجعلت في عنقها مخنقة بلح فقلت من هذه الصبية فقد أعجبني جمالها وكيسها فبكت ثم قالت هذه ابنتك كنت خبرتك أني ولدت ولدا ميتا وجعلتها عند أخوالها حتى بلغت هذا المبلغ فأمسكت عنها حتى اشتغلت عنها ثم أخرجتها يوما فحفرت لها حفيرة فجعلتها فيها وهي تقول يا أبت ما تصنع بي وجعلت أقذف عليها التراب وهي تقول يا أبت أمغطي أنت بالتراب أتاركي أنت وحدي ومنصرف عني وجعلت أقذف عليها التراب ذلك حتى واريتها وانقطع صوتها فما رحمت أحدا ممن واريته غيرها فدمعت عينا النبي ثم قال إن هذه لقسوة وإن من لا يرحم لا يرحم \ ح \ أو كما قال
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني عمي أبو فراس محمد بن فراس عن عمر بن أبي بكار عن شيخ من بني تميم عن أبي هريرة

أن قيس بن عاصم دخل على رسول الله وفي حجره بعض بناته يشمها فقال له ما هذه السخلة تشمها فقال هذه ابنتي فقال والله لقد ولد لي بنون ووأدت بنيات ما شممت منهن أنثى ولا ذكرا قط فقال رسول الله فهل إلا أن ينزع الله الرحمة من قلبك
قال أحمد بن الهيثم قال عمي فحدثني عبد الله بن الأهتم أن سبب وأد قيس بناته أن المشمرج اليشكري أغار على بني سعد فسبى منهم نساء واستاق أموالا وكان في النساء امرأة خالها قيس بن عاصم وهي رميم بنت أحمر بن جندل السعدي وأمها أخت قيس فرحل قيس إليهم يسألهم أن يهبوها له أو يفدوها فوجد عمرو بن المشمرج قد اصطفاها لنفسه
فسأله فيها فقال قد جعلت أمرها إليها فإن اختارتك فخذها فخيرت فاختارت عمرو بن المشمرج فانصرف قيس فوأد كل بنت وجعل ذلك سنة في كل بنت تولد له واقتدت به العرب في ذلك فكان كل سيد يولد له بنت يئدها خوفا من الفضيحة

خبره مع زوجه منفوسة
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه عن جده قال تزوج قيس بن عاصم المنقري منفوسة بنت زيد الفوارس الضبي وأتته في الليلة الثانية من بنائه بها بطعام فقال فأين أكيلي فلم تعلم ما يريد فأنشأ يقول

( أيابْنَةَ عبدِ اللهِ وابنَةَ مالِكٍ ... ويابْنَةَ ذي البُرْدَيْنِ والفَرَسِ الوَرْدِ )
( إذا ما صَنَعْتِ الزادَ فالتمسِي له ... أكِيلاً فإنِّي لستُ آكِلَهُ وَحْدِي )
( أخاً طارقاً أو جارَ بيتٍ فإنَّني ... أخاف مَلاَماتِ الأحاديثِ مِنْ بَعْدِي )
( وَإِنِّي لعبدُ الضَّيْفِ من غيرِ ذِلَّةٍ ... وما بِيَ إلاَّ تلك من شِيَمِ العَبْدِ )
قال فأرسلت جارية لها مليحة فطلبت له أكيلا وأنشأت تقول له
( أَبَى المَرْءُ قَيْسٌ أن يذوقَ طَعَامَهُ ... بغيرِ أَكِيلٍ إنَّهُ لَكَرِيمُ )
( فَبُورِكْتَ حَيّاً يا أَخَا الجُودِ والنَّدَى ... وبُورِكْتَ مَيْتاً قد حَوَتْكَ رُجومُ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال جاور رجل من بني القين من قضاعة قيس بن عاصم فأحسن جواره ولم ير منه إلا خيرا حتى فارقه ثم نزل عند جوين الطائي أبي عامر بن جوين فوثب عليه رجال من طيئ فقتلوه وأخذوا ماله فقال العباس بن مرداس يهجوهم ويمدح قيسا

( لَعَمْرِي لقد أوفَى الجوادُ ابنُ عاصم ... وأَحْصَنَ جاراً يومَ يَحْدِجُ بَكْرَهْ )
( أقامَ عزيزاً مُنْتَدَى القومِ عِنْدَهُ ... فلم يَرَ سَوْءاتٍ ولم يخشَ غَدْرَهْ )
( أقامَ بِسَعْدٍ يَشربَ الماءَ آمناً ... ويأكل وُسْطَاهَا ويَرْبِضُ حَجْرَهْ )
( فإنَّك إذ بادلتَ قيسَ بنَ عاصِمٍ ... جُوَيْناً لَمُخْتَارَ المنازلِ شَرَّه )
( فأصبحَ يحدو رَحْلَهُ بِمَفَازِةٍ ... وماذا عَدَا جاراً كريماً وأُسْرَهْ )
( يَظَلُّ بأرض الغَدْرِ يأكُلُ عَهْدَهُ ... جُوَيْنٌ وشَمْخٌ خارِبَيْنِ بِوَجْرَهْ )
( يُذِمّان بالأزواد والزادُ مَحْرَمٌ ... سَرُوقانِ من عِرق شروراً وفَجْرَهْ )

ضرب المثل بحلمه
أخبرني محمد بن أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني دماذ عن أبي عبيدة قال قال الأحنف ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري فقيل له وكيف ذلك يا ابا بحر فقال قتل ابن أخ له ابنا له فأتي بابن أخيه مكتوفا يقاد إليه فقال

ذعرتم الفتى ثم أقبل عليه فقال يا بني نقصت عددك وأوهيت ركنك وفتت في عضدك وأشمت عدوك وأسأت بقومك خلوا سبيله واحملوا إلى أم المقتول ديته قال فانصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه
أخبرني عبيد الله الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن ابن جعدبة وأبي اليقظان قالا وفد قيس بن عاصم على رسول الله فقال النبي عليه الصلاة و السلام هذا سيد أهل الوبر / ح /

خبره مع تاجر خمار
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي حاتم قال

جاور داري كان يتجر في أرض العرب قيس بن عاصم فشرب قيس ليلة حتى سكر فربط الداري وأخذ ماله وشرب من شرابه فازداد سكرا وجعل من السكر يتطاول ويثاور النجوم ليبلغها وليتناول القمر وقال
( وتاجِرٍ فاجِرٍ جاءَ الإلهُ بِهِ ... كأن عُثْنونَه أذنابُ أَجْمالِ )
ثم قسم صدقة النبي في قومه وقال
( ألاَ أَبْلِغَا عَنِّي قُرَيْشاً رسالَةً ... إذا ما أتَتْهُم مُهْدِيَاتُ الوَدَائِعِ )
( حَبَوْتُ بما صَدَّقْتُ في العامِ مِنْقَراً ... وأيأستْ منها كلَّ أَطلسَ طامِع )
قال فلما فعل بالداري ما فعل وسكر جعل ماله نهبى فلم تزل امرأته تسكنه حتى نام فلما أصبح أخبر بما كان منه فآلى ألا يدخل الخمر بين أضلاعه أبدا
أخبرني وكيع قال حدثنا المدائني قال ولي قيس بن عاصم على عهد رسول الله صدقات بني مقاعس والبطون كلها وكان الزبرقان بن بدر قد ولي صدقات عوف

والأبناء فلما توفي رسول الله وقد جمع كل واحد من قيس والزبرقان صدقات من ولي صدقته دس إليه الزبرقان من زين له المنع لما في يده وخدعه بذلك وقال له إن النبي قد توفي فهلم نجمع هذه الصدقة ونجعلها في قومنا فإن استقام الأمر لأبي بكر وأدت العرب إليه الزكاة جمعنا له الثانية
ففرق قيس الإبل في قومه فانطلق الزبرقان إلى أبي بكر بسبعمائة بعير فأداها إليه وقال في ذلك
( وَفَيْتُ بِأَذوَادِ النَّبيِّ محمدٍ ... وكُنْتُ امرأً لا أُفْسِدُ الدِّينَ بالغَدْرِ )
فلما عرف قيس ما كاده به الزبرقان قال لو عاهد الزبرقان أمه لغدر بها
أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا الحارث بن أسامة قال حدثنا المدائني وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال قيل لقيس بن عاصم بماذا سدت قال ببذل الندى وكف الأذى ونصر الموالي
أخبرني وكيع قال حدثنا العمري عن الهيثم قال كان قيس بن عاصم يقول لبنيه إياكم والبغي فما بغى قوم قط إلا قلوا وذلوا فكان بعض بنيه يلطمه قومه أو غيرهم فينهى إخوته عن أن ينصروه

أتى رسول الله فرحب به وأدناه
أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا الحارث عن المدائني عن ابن جعدبة أن قيس بن عاصم قال

أتيت رسول الله فرحب بي وأدناني فقلت يا رسول الله المال الذي لا يكون علي فيه تبعة ما ترى في إمساكه لضيف إن طرقني وعيال إن كثروا علي فقال نعم المال الأربعون والأكثر الستون وويل لأصحاب المئين ثلاثا إلا من أعطى من رسلها وأطرق فحلها وأفقر ظهرها ومنح غزيرتها وأطعم القانع والمعتر \ ح \ له يا رسول الله ما أكرم هذه الأخلاق إنه لا يحل بالوادي الذي أنا فيه من كثرتها قال فكيف تصنع في الإطراق قلت يغدو الناس فمن شاء أن يأخذ برأس بعير ذهب به قال فكيف تصنع في الإفقار فقلت إني لأفقر الناب المدبرة والضرع الصغيرة قال فكيف تصنع في المنيحة قلت إني لأمنح في السنة المائة قال إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت \ ح \
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال قيس بن عاصم هو الذي حفز الحوفزان بن شريك الشيباني طعنه في

استه في يوم جدود

شعره في يوم جدود
وكان من حديث ذلك اليوم أن الحارث بن شريك بن عمرو الصلب بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام كانت بينه وبين بني يربوع موادعة ثم هم بالغدر بهم فجمع بني شيبان وبني ذهل واللهازم قيس بن ثعلبة وتيم الله بن ثعلبة وغيرهم ثم غزا بني يربوع فنذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب بن شريك فنادى في قومه بني جعفر بن ثعلبة من بني يربوع فوادعه وأغار الحارث بن شريك على بني مقاعس وإخوتهم بني ربيع فلم يجيبوهم فاستصرخوا بني منقر فركبوا حتى لحقوا بالحارث بن شريك وبكر بن وائل وهم قائلون في يوم شديد الحر فما شعر الحوفزان إلا بالأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر واسم الأهتم سنان وهو واقف على رأسه فوثب الحوفزان إلى فرسه فركبه وقال للأهتم من أنت فانتسب له وقال هذه منقر قد أتتك فقال الحوفزان فأنا الحارث بن شريك فنادى الأهتم يا آل سعد ونادى الحوفزان يا آل وائل وحمل كل واحد منهما على صاحبه ولحقت بنو منقر فاقتتلوا أشد قتال وأبرحه ونادت نساء بني ربيع يا آل سعد فاشتد

قتال بني منقر لصياحهن فهزمت بكر بن وائل وخلوا من كان في أيديهم من بني مقاعس وما كان في أيديهم من أموالهم وتبعتهم بنو منقر بين قتل وأسر فأسر الأهتم حمران بن عبد عمرو وقصد قيس بن عاصم الحوفزان ولم يكن له همة غيره والحارث على فرس له قارح يدعى الزبد وقيس على مهر فخاف قيس أن يسبقه الحارث فحفزه بالرمح في استه فتحفز به الفرس فنجا فسمي الحوفزان
وأطلق قيس أموال بني مقاعس وبني ربيع وسباياهم وأخذ أموال بكر بن وائل وأساراهم وانتقضت طعنة قيس على الحوفزان بعد سنة فمات وفي هذا اليوم يقول قيس بن عاصم
( جَزَى الله يَرْبوعاً بأسوأ فِعْلِها ... إذا ذُكِرتْ في النائباتِ أمورُها )
( ويومَ جَدُودٍ قد فضحتم ذِمَارَكُم ... وسالَمْتُمُ والخيلُ تَدْمَى نُحورُها )
( سَتَخْطِمُ سعدٌ والرِّبابُ أنوفَكم ... كما حزَّ في أنف القَضِيبِ جَرِيرُها )
وقال سوار بن حيان المنقري
( ونحن حَفَرنا الحوفزانَ بطَعْنَةٍ ... سَقَتْه نَجِيعاً من دَمِ الجَوْفِ أَشْكَلاَ )
( وحُمْرَانُ قَسْراً أنزلتْه رِماحُنا ... فَعَالَجَ غُلاًّ في ذِرَاعَيْهِ مُقْفَلاَ )
قال وأغار قيس بن عاصم أيضا على اللهازم فتبعه بنو كعب بن سعد بالنباج وثيتل فتخوف أن يكره أصحابه لقاء بكر بن وائل وقد كانوا

يتناجون في ذلك فقام ليلا فشق مزادهم لئلا يجدوا بدا من لقاء العدو فلما فعل ذلك أذعنوا بلقائهم وصبروا له فأغار عليهم فكان أشهر يوم يوم ثيتل لبني سعد وظفر قيس بما شاء وملأ يديه من أموالهم وغنائمهم وفي ذلك يقول ابنه علي بن قيس بن عاصم
( أنا ابنُ الذي شقَّ المَزَادَ وقد رأى ... بثَيْتَلَ أحياءَ اللَّهازم حُضَّرَا )
( فصَبَّحَهم بالجيش قيسُ بنُ عاصمٍ ... وكان إذا ما أورد الأمرَ أَصْدَرَا )
قال وأغار قيس أيضا ببني سعد على عبد القيس وكان رئيس بني سعد يومئذ سنان بن خالد وذلك بأرض البحرين فأصابوا ما أرادوا واحتالت عبد القيس في أن يفعل ببني تميم كما فعل بهم بالمشقر حين أغلق عليهم بابه فامتنعوا فقال في ذلك سوار بن حيان
( فيا لَك من أَيَّامِ صِدْقٍ أَعُدُّها ... كيومِ جُؤاثَى والنِّباجِ وَثَيْتَلا )
قال وكان قيس بن عاصم رئيس بني سعد يوم الكلاب الثاني فوقع بينه وبين الأهتم اختلاف في أمر عبد يغوث بن وقاص بن صلاءة الحارثي حين أسره عصمة بن أبير التيمي ودفعه إلى الأهتم فرفع قيس قوسه فضرب فم الأهتم بها فهتم أسنانه فيومئذ سمي الأهتم

وصيته لأبنائه حين حضرته الوفاة
أخبرنا هشام بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن عدي قال جمع قيس بن عاصم ولده حين حضرته الوفاة وقال يا بني إذا مت فسودوا كباركم ولا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم ويستغنى به عن اللئيم وإذا مت فادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم وإياكم والمسألة فإنها آخر مكاسب العبد وإن امرأ لم يسأل إلا ترك مكسبه وإذا دفنتموني فأخفوا قبري عن هذا الحي من بكر بن وائل فقد كان بيننا خماشات في الجاهلية ثم جمع ثمانين سهما فربطها بوتر ثم قال اكسروها فلم يستطيعوا ثم قال فرقوا ففرقوا فقال اكسروها سهما سهما فكسروها فقال هكذا أنتم في الاجتماع وفي الفرقة ثم قال
( إنما المجدُ ما بَنَى والدُ الصِّدْق ... ِ وأحيا فَعالَه المولودُ )
( وتَمامُ الفضلِ الشجاعةُ والحِلْمُ ... إذا زانَه عَفَافٌ وجُودُ )
( وثلاثون يا بَنيَّ إذا ما ... جَمَعتْهم في النائباتِ العُهودُ )
( كثلاثين من قِدَاحٍ إذا ما ... شَدَّها للزمان قِدْحٌ شديد )
( لم تَكَسَّرْ وإن تَفرَّقتِ الأسْهُمُ ... أوْدَى بجمعِها التبديد )
( وذوو الحلمِ والأكابرُ أولَى ... أن يُرَى منكُمُ لهم تسويدُ )

( وعليكمْ حِفْظَ الأصاغر حتَّى ... يَبْلُغَ الحِنْثَ الأصغرُ المجهود )
ثم مات فقال عبدة بن الطبيب يرثيه
( عليكَ سلامُ الله قَيْسَ بن عاصمٍ ... ورحمتُه ما شاء أن يَتَرَحَّما )
( تحيَّة من أوليته منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ بلادَك سَلَّما )
( فما كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيانُ قومٍ تَهَدَّما )
أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال لما مات عبد الملك بن مروان اجتمع ولده حوله فبكى هشام حتى اختلفت أضلاعه ثم قال رحمك الله يا أمير المؤمنين فأنت والله كما قال عبدة بن الطبيب
( وما كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيَانُ قومٍ تَهَدَّما )
فقال له الوليد كذبت يا أحول يا مشْؤوم لسنا كذلك ولكنا كما قال الآخر
( إذَا مُقْرَمٌ مِنًّا ذَرَا حَدُّ نابِه ... تَخَمَّطَ فينا نابُ آخَرَ مُقْرَمِ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال

كان بين قيس بن عاصم وعبدة بن الطبيب لحاء فهجره قيس بن عاصم ثم حمل عبدة دما في قومه فخرج يسأل فيما تحمله فجمع إبلا ومر به قيس بن عاصم وهو يسأل في تمام الدية فقال فيم يسأل عبدة فأخبر فساق إليه الدية كاملة من ماله وقال قولوا له ليستمتع بما صار إليه وليسق هذه إلى القوم فقال عبدة أما والله لولا أن يكون صلحي إياه بعقب هذا الفعل عارا علي لصالحته ولكني أنصرف إلى قومي ثم أعود فأصالحه ومضى بالإبل ثم عاد فوجد قيسا قد مات فوقف على قبره وأنشأ يقول
( عليكَ سلامُ الله قَيْسَ بن عاصمٍ ... ورحمتُه ما شاء أنْ يترحَّما )
الأبيات

حرم الخمر على نفسه وسبب ذلك
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال ذكر عاصم بن الحدثان وهشام بن الكلبي عن أشياخهما أن قيس بن عاصم المنقري سكر من الخمر ليلة قبل أن يسلم فغمز عكنة ابنته أو قال أخته فهربت منه فلما صحا منها فقيل له أو ما علمت ما صنعت البارحة قال لا فأخبروه بصنعه فحرم الخمر على نفسه وقال في ذلك
( وجدتُ الخمرَ جامحةً وفيها ... خِصَالٌ تَفْضَحُ الرَّجُلَ الكريما )
( فلاَ واللهِ أشْرَبُها حَياتي ... ولا أدعو لها أبداً نَدِيمَا )
( ولا أُعْطي بها ثمناً حياتي ... ولا أُشْفي بها أبداً سقِيما )
( فإنَّ الخمر تَفْضَحُ شَارِبِيها ... وتَجْشِمُهُمْ بها أمراً عظيما )

( إذا دراتْ حُمَيَّاها تَعَلَّتْ ... طَوَالِعُ تُسْفِهُ الرَّجُلَ الحليما )
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال قال الزبرقان إن تاجرا ديافيا مر بحمل خمر على قيس بن عاصم فنزل به فقال قيس اصبحني قدحا ففعل ثم قال له زدني فقال له أنا رجل تاجر طالب ربح وخير ولا أستطيع أن أسقيك بغير ثمن فقام إليه قيس فربطه إلى دوحة في داره حتى أصبح فكلمته أخته في أمره فلطمها وخمش وجهها وزعموا أنه ارادها على نفسها وجعل يقول
( وتاجرٍ فاجرٍ جاء الإلهُ به ... كَأَنَّ لِحْيَتَه أذنابُ أجمالِ )
فلما أصبح قال من فعل هذا بضيفي قالت له أخته الذي صنع هذا بوجهي أنت والله صنعته وأخبرته بما فعل فأعطى الله عهداً ألا يشرب الخمر أبدا فهو أول عربي حرمها على نفسه في الجاهلية وهو الذي يقول
( فواللهِ لا أحسو يَدَ الدَّهْرِ خمرةً ... ولا شَرْبةً تُزْرِي بِذِي اللُّبِّ والفخرِ )
( فكيف أذوق الخمر والخمرُ لم تَزَلْ ... بصاحبِها حتى تَكَسَّعَ في الغَدْرِ )
( وصارتْ به الأمثالُ تُضْرَبُ بَعْدَما ... يكونُ عميدَ القومِ في السِّرِّ والجَهْرِ )

( ويَبْدُرُهُمْ في كل أمرٍ يَنُوبُهم ... ويَعْصِمُهم ما نَابهم حادثُ الدَّهْرِ )
( فيا شارِب الصَّهْباء دَعْهَا لأهلها الغُواةِ ... وسَلِّمْ للجسيم من الأمرِ )
( فإنَّك لا تَدْري إذا ما شَرِبْتَها ... وأكثرتَ منها ما تَرِيشُ وما تَبْرِي )

فارقته امرأته بعد أن أسلم
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن منصور قال أخبرني أبو جعفر المباركي قال أخبرني المدائني عن مسلمة بن محارب قال قال الأحنف بن قيس ذكرت بلاغة النساء عند زياد فحدثته أن قيس بن عاصم أسلم وعنده امرأة من بني حنيفة فأبى أهلها وأبوها أن يسلموا وخافوا إسلامها فاجتمعوا إليها وأقسموا إنها إن أسلمت لم يكونوا معها في شيء ما بقيت فطالبت قيسا بالفرقة ففارقها فلما احتملت لتلحق بأهلها قال لها قيس أما والله لقد صحبتني سارة ولقد فارقتني غير عارة لا صحبتك مملولة ولا أخلاقك مذمومة ولولا ما اخترت ما فرق بيننا إلا الموت ولكن أمر الله ورسوله أحق أن يطاع فقالت له أنبئت بحسبك وفضلك وأنت والله إن كنت للدائم المحبة الكثير المودة القليل اللائمة المعجب الخلوة البعيد النبوة ولتعلمن أني لا أسكن بعدك إلى زوج فقال قيس ما فارقت نفسي شيئا قط فتبعته كما تبعتها

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني أبو فراس قال كان قيس بن عاصم يكنى أبا علي وكان خاقان بن الأهتم إذا ذكره قال بخ من مثل أبي علي
( تُطِيفُ به كَعْبُ بن سعد كأنَّما ... يُطِيفون عُمَّاراً ببيتٍ مُحَرَّمِ )
وقال علان بن الحسن الشعوبي بنو منقر قوم غدر يقال لهم الكوادن ويلقبون أيضا أعراف البغال وهم أسوأ خلق الله جوارا يسمون الغدر كيسان وفيهم بخل شديد

أوصى بنيه بحفظ المال
وأوصى قيس بن عاصم بنيه فكان أكثر وصيته إياهم أن يحفظوا المال والعرب لا تفعل ذلك وتراه قبيحا وفيهم يقول الأخطل بن ربيعة بن النمر بن تولب
( يا منْقَرُ بنَ عُبَيْدٍ إنَّ لُؤمَكُمُ ... مُذْ عَهْدِ آدَمَ في الدِّيوانِ مكتوبُ )
( للضَّيْفِ حَقٌّ على مَنْ كان ذا كرمٍ ... والضَّيْفُ في مِنْقَرٍ عُرْيانُ مسلوبُ )
وقال النمر بن تولب يذكر تسميتهم الغدر كيسان في قصيدة هجاهم بها

( إذا ما دَعَوْا كَيْسَانَ كانتْ كُهُولُهُمْ ... إلى الغَدْرِ أدْنَى من شَبَابِهِمُ المُرْدِ )
قال وهذا شائع في جميع بني سعد إلا أنهم يتدافعونه إلى بني منقر وبنو منقر يتدافعونه إلى بني سنان بن خالد بن منقر وهو جد قيس بن عاصم
وحكى ابن الكلبي أن النبي لما افتتح مكة قدمت عليه وفود العرب فكان فيمن قدم عليه قيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم ابن عمه فلما صارا عند النبي تسابا وتهاترا فقال قيس لعمرو بن الأهتم والله يا رسول الله ما هم منا وإنهم لمن أهل الحيرة فقال عمرو بن الأهتم بل هو والله يا رسول الله من الروم وليس منا ثم قال له
( ظَلِلْتَ مُفْتَرِشَ الهَلْباء تَشْتُمُنِي ... عند الرَّسول فلم تَصْدُقْ ولم تُصِبِ )
الهلباء يعني استه يعيره بذلك وبأن عانته وافية
( إن تُبْغِضُونا فإنَّ الرُّوم أصلُكُمُ ... والرُّوم لا تملِك البغضاءَ للعَرَب )
( سُدْنا فسُودَدُنا عَوْدٌ وسُودَدُكُمْ ... مُؤَخَّرٌ عند أصل العَجْبِ والذَّنَبِ )
قال وإنما نسبه إلى الروم لأنه كان أحمر فيقال إن النبي نهاه عن هذا القول في قيس وقال إن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه و سلم كان أحمر فأجابه قيس بن عاصم فقال
( ما في بَنِي الأَهْتَمِ من طائلٍ ... يُرْجَى ولا خَيْرٍ لَهُ يَصْلُحونْ )
( قُلْ لبني الحِيريِّ مَخْصوصةً ... تُظْهِرُ منهم بعضَ ما يَكْتُمُونْ )

( لولاَ دِفاعي كنتُمُ أَعْبُداً ... مَسْكَنُها الحِيرةُ فالسَّيْلَحونْ )
( جاءت بكم عَفْرةُ من أَرْضِها ... حِيرِيَّةً ليست كما تزعُمون )
( في ظاهر الكَفِّ وفي بَطنها ... وَسْمٌ من الدَّاء الذي تَكْتُمون )

ارتد عن الإسلام بعد وفاة النبي
وذكر علان أن قيسا ارتد بعد النبي عن الإسلام وآمن بسجاح وكان مؤذنها وقال في ذلك
( أضحتْ نَبِيَّتُنا أُنْثَى نُطِيفُ بها ... وأصبحتْ أنبياءُ الله ذُكْرَانَا )
قال ثم لما تزوجت سجاح بمسيلمة الكذاب الحنفي وآمنت به آمن

به قيس معها فلما غزا خالد بن الوليد اليمامة وقتل الله مسيلمة أخذ قيس بن عاصم أسيرا فادعى عنده أن مسيلمة أخذ ابنا له فجاء يطلبه فأحلفه خالد على ذلك فحلف فخلى سبيله ونجا منه بذلك
قال ومما يعيرون به أن عبادة بن مرثد بن عمرو بن مرثد أسر قيس بن عاصم وسبى أمه وأختيه يوم أبرق الكبريت ثم من عليهم فأطلقهم بغير فداء فلم يثبه قيس ولم يشكره على فعله بقول يبلغه فقال عبادة في ذلك
( على أَبْرَقِ الكِبْرِيتِ قيسَ بنَ عاصمٍ ... أسَرْتُ وأطرافُ القَنَا قِصَدٌ حُمْرُ )
( مَتَى يَعْلَقِِ السَّعْدِيُّ منكَ بذِمَّةٍ ... تَجِدْهُ إذا يَلْقَى وشِيمَتُه الغَدْرُ )
قال وكان قيس بن عاصم يسمى في الجاهلية الكودن
وكان زيد الخيل الطائي خرج عن قومه وجاور بني منقر فأغارت عليهم بنو عجل وزيد فيهم فأعانهم وقاتل بني عجل قتالا شديدا وأبلى بلاء حسنا حتى انهزمت عجل فكفر قيس فعله وقال ما هزمهم غيري فقال زيد الخيل يعيره ويكذبه في قصيدة طويلة
( ولستُ بوَقَّافٍ إذا الخيلُ أحْجمَتْ ... ولستُ بكَذَّابٍ كقَيْس بنِ عاصمِ )

ومما روى قيس بن عاصم عن النبي حدثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي قال حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان الثوري عن الأغر المنقري عن خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم عن أبيه عن جده أنه أسلم على عهد النبي فأمره النبي عليه السلام أن يغتسل بماء وسدر
وحدثنا حامد قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا جرير عن المغيرة عن أبيه شعبة عن التوأم قال سأل قيس بن عاصم رسول الله عن الحلف فقال لا حلف في الإسلام ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية \ ح \
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا ابن عائشة قال حدثني رجل من الرباب قال ذكر رجل قيس بن عاصم عند النبي فقال لقد هممت أن آتيه فأفعل به وأصنع به كأنه توعده فقال له النبي إذا تحول سعد دونه بكراكرها \ ح \
قال ولما مات قيس رثاه مرداس بن عبدة بن منبه فقال
( وما كان قَيْسٌ هُلْكه هُلْك واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيَانُ قومٍ تَهَدَّمَا )

صوت
( خُذْ من العَيْشِ ما كَفَى ... ومِنَ الدَّهْر ما صَفَا )
( حَسُنَ الغَدْرُ في الأَنَامِ ... كما اسْتُقْبِحَ الوَفَا )
( صِلْ أخا الوَصْلِ إنَّه ... ليس بالهَجْرِ مِنْ خَفَا )
( عَيْنُ مَنْ لا يُريدُ وَصْلَك ... َ تُبْدِي لَكَ الجَفَا )
الشعر لمحمد بن حازم الباهلي والغناء لابن القصار الطنبوري رمل بالبنصر أخبرني بذلك جحظة

أخبار محمد بن حازم ونسبه
هو محمد بن حازم بن عمرو الباهلي ويكنى أبا جعفر وهو من ساكني بغداد مولده ومنشؤه البصرة أخبرني بذلك ابن عمار أبو العباس عن محمد بن داود بن الجراح عن حسن بن فهم
وهو من شعراء الدولة العباسية شاعر مطبوع إلا أنه كان كثير الهجاء للناس فاطرح ولم يمدح من الخلفاء إلا المأمون ولا اتصل بواحد منهم فيكون له نباهة طبقته وكان ساقط الهمة متقللا جدا يرضيه اليسير ولا يتصدى لمدح ولا طلب
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال سمعت محمد بن حازم الباهلي في منزلنا يقول بعث إلي فلان الطاهري وكنت قد هجوته فأفرطت بألف دينار وثياب وقال أما ما قد مضى فلا سبيل إلى رده ولكن أحب ألا تزيد عليه شيئا فبعثت إليه بالألف الدينار والثياب وكتبت
( لا ألبَسُ النعماءَ مِن رجلٍ ... ألبستُه عاراً على الدَّهْرِ )
63 - أخباره مع أحمد بن سعيد وسعد بن مسعود
أخبرني أحمد بن عبيدالله بن عمار حدثنا أبو علي وسقط اسمه من

كتابي قال قرأت في كتاب عمي قال لي محمد بن حازم الباهلي مر بي أحمد بن سعيد بن سالم وأنا على بابي فلم يسلم علي سلاما أرضاه فكتبت رقعة وأتبعته بها وهي
( وباهليٍّ من بني وائلٍ ... أفادَ مالاً بعد إِفلاسِ )
( قَطَّبَ في وجْهِيَ خَوْفَ القِرَى ... تَقْطِيبَ ضِرْغامٍ لَدَى البَاسِ )
( وأظهرَ التِّيهَ فتايَهْتُهُ ... تِيهَ امرئٍ لم يَشْقَ بالنَّاسِ )
( أعَرتُه إعْراضَ مُسْتَكْبِرٍ ... في مَوْكِب مرَّ بكَنَّاسِ )
أخبرني ابن عمار قال حدثني أبو علي قال
لقيت محمد بن حازم في الطريق فقلت له يا أبا جعفر كيف ما بينك وبين صديقك سعد بن مسعود اليوم وهو أبو إسحاق بن سعد وكان يكتب للنوشجاني فأنشدني
( رَاجَع بالعُتْبَى فأعتَبْتُه ... ورُبَّما أعْتَبَك المُذْنبُ )
( وإن في الدَّهْر على صَرْفه ... بين الصَّدِيقَيْن لمُسْتَعْتَبُ )

شعره في مدح الشباب وذم الشيب
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري وابن الوشاء جميعا قالا حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال

قال ابن الأعرابي أحسن ما قال المحدثون من شعراء هذا الزمان في مديح الشباب وذم الشيب
( لا حِينَ صَبْرٍ فَخَلَّ الدَّمْعَ يَنْهَمِلُ ... فَقْدُ الشَّبابِ بيوم المرءِ مُتَّصِلُ )
( سَقْياً ورَعْياً لأيَّام الشَّبَابِ وإنْ ... لم يَبْقَ منه له رسمٌ ولا طَلَلُ )
( جَرّ الزَّمانُ ذُيولاً في مَفَارِقِهِ ... ولِلزَّمانِ على إحسانِهِ عِلَلُ )
( ورُبَّما جَرَّ أذيالَ الصِّبَا مَرَحاً ... وبين بُرْدَيْهِ غُصْنٌ ناعِمٌ خَضِلُ )
( يُصْبي الغَوَاني ويَزْهَاه بِشِرَّتِهِ ... شَرْخُ الشَّبَابِ وثوبٌ حالِكٌ رَجِلُ )
( لا تَكْذِبَنَّ فما الدُّنْيَا بأجمعِها ... من الشَّبابِ بيَوْمٍ واحدٍ بَدَلُ )
( كَفَاكَ بالشَّيْبِ عيباً عند غانيةٍ ... وبالشَّبابِ شَفِيعاً أيُّها الرَّجُلُ )
( بانَ الشَّبابُ ووَلَّى عنكَ بَاطِلُهُ ... فليس يَحْسُنُ منك اللَّهْو والغَزَلُ )
( أمَّا الغواني فقد أعرَضْنَ عنك قِلىً ... وكان إعراضَهُنَّ الدَّلُّ والخَجَلُ )
( أعرْنَكَ الهَجْرَ ما لاحتْ مُطَوَّقةٌ ... فلاَ وِصَالٌ ولا عَهْدٌ ولا رُسُلُ )
( ليتَ المَنَايَا أصابَتْنِي بأَسْهُمها ... فكُنَّ يَبْكِينَ عَهْدي قبلَ أكْتَهِلُ )
( عَهْدَ الشَّبابِ لقد أبقيتَ لي حَزَناً ... ما جَدَّ ذكرُك إلاَّ جَدَّ لي ثَكَلُ )
( إنَّ الشَّبابَ إذا ما حلَّ رائدُه ... في مَنْهَلٍ رادَ يقفو إثْرَهُ أَجَلُ )
قال ابن الوشاء خاصة وما أساء ولا قصر عن الأولى حيث يقول في هذا المعنى

( أبكِي الشَّبابَ لِنَدْمانٍ وغانيةٍ ... وللمَغَانِي وللأَطلال والكُثُبِ )
( وللصَّريخ وللآجام في غَلَسٍ ... وللقَنَا السُّمْرِ والهنْدِيَّة القُضُبِ )
( وللخَيال الذي قد كَان يَطْرُقُني ... وللنَّدامَى ولِلذَّاتِ والطَّرَبِ )
( يا صاحباً لم يَدَعْ فَقْدي له جَلَداً ... أُضِعتُ بَعدك إنَّ الدهرَ ذُو عُقَبِ )
( وقد أكونُ وشَعْبانا معاً رَجُلاً ... يومَ الكريهةِ فَرَّاجاً عَنِ الكُرَبِ )

هجاؤه ابن حميد
أخبرني ابن عمار عن العنزي قال كان محمد بن حازم الباهلي مدح بعض بني حميد فلم يثبه وجعل يفتش شعره فيعيب فيه الشيء بعد الشيء وبلغه ذلك فهجاه هجاء كثيرا شنيعاً منه قوله
( عَدُوَّاكَ المَكَارمُ والكِرَامُ ... وخِلُّكَ دونَ خُلَّتِكَ اللِّئامُ )
( ونَفْسُك نَفْسُ كلبٍ عند زَوْرٍ ... وعُقْبَى زائرِ الكلبِ الْتِدَام )
( تَهِرُّ على الجليسِ بلا احترامٍ ... لِتَحْشِمَه إذا حَضَر الطَّعامُ )

( إذا ما كانت الهِمَمُ المَعَالي ... فهَمُّك ما يكون به المَلامُ )
( قَبُحْتَ ولا سَقَاك الله غيثاً ... وجانَبَك التحيَّةُ والسلامُ )
قال فبعث إليه ابن حميد بمال واعتذر إليه وسأله الكف فلم يفعل ورد المال عليه وقال فيه
( موضعُ أسرارِك المُرِيبُ ... وحَشْوُ أثوابِك العُيوبُ )
( وتمنَع الضيفَ فضلَ زادٍ ... ورَحْلُك الواسعُ الخَصِيبُ )
( يا جامعاً مانِعاً بَخِيلاً ... ليس له في العُلاَ نَصيبُ )
( أبِالرُّشَا يُسْتَمالُ مِثلي ... كَلاَّ ومَنْ عنده العُيوبُ )
( لا أرتدي حُلَّةً لمُثْنٍ ... بوجهه من يَدِي نُدوبُ )
( وبين جنبيه لي كُلومٌ ... دامِيةٌ ما لَها طَبِيبُ )
( ما كنتُ في موضِع الهَدَايا ... منكَ ولا شَعْبُنَا قَرِيبُ )
( أنّى وقد نَشَّتِ المَكَاوِي ... عن سِمَةِ شأنُها عَجِيبُ )
( وسار بالذَّمِّ فيك شِعْرِي ... وقيل لي مُحْسِنٌ مُصِيبُ )
( مالُكَ مالُ اليتيمِ عندي ... ولا أرى أَكْلَهُ يَطِيبُ )
( حَسْبُكَ من مُوجِزٍ بليغ ... يَبْلُغُ ما يبلُغُ الخَطِيبُ )
حدثني عمي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسين الشيباني قال بعث الحسن بن سهل محمد بن حميد في وجهة وأمره بجباية مال

وبحرب قوم من الشراة فخان في المال وهرب من الحرب فقال فيه محمد بن حازم الباهلي
( تَشَبَّه بالأَسَدِ الثعلبُ ... فغادَرَهُ مُعْنَقا يُجْنَبُ )
( وحاوَلَ ما ليس في طَبْعِهِ ... فَأَسْلَمَهُ النابُ والمِخْلَبُ )
( فَلَمْ تُغْنِ عنه أباطيلُهُ ... وحاصَ فَأَحْرَزَهُ المَهْرَبُ )
( وكانَ مَضِيَّاً على غَدْرِهِ ... فَعُيِّبَ والغادِرُ الأَخْيَبُ )
( أيابنَ حُمَيْدٍ كفرتَ النَّعِيمَ ... جهلاً ووسْوَسَكَ المَذْهَبُِ )
( وَمَنَّتْكَ نفسُك ما لاَ يَكُونُ ... وبعضُ المُنَى خُلَّبٌ يَكْذِبُ )
( وما زلْتَ تسعَى على مُنْعِمٍ ... بِبَغْيٍ وتُنْهَى فلا تُعْتِبُ )
( فأصبحتَ بالبَغْيِ مستبدلاً ... رشاداً وقد فات مُسْتَعْتَبُ )
قال وقال فيه لما شخص إلى حيث وجهه الحسن بن سهل
( إذا استقلَّتْ بك الرِّكابُ ... فحيثُ لادَرتِ السحابُ )
( زالتْ سِراعاً وزُلْتَ يَجْرِي ... بِبَيْنِكَ الظَّبْيُ والغُرابُ )
( بحيثُ لا يُرْتَجَى إيابٌ ... وحيثُ لا يبلغُ الكتابُ )
( فقَبْلَ معروفِكَ امتنانٌ ... ودُونَ معروفِكَ العذابُ )

( وخيرُ أخلاقِكَ اللَّواتِي ... تعاف أمثالَها الكلابُ )
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أبي قال قال يحيى بن أكثم لمحمد بن حازم الباهلي ما نعيب شعرك إلا أنك لا تطيل فأنشأ يقول
( أبى لِيَ أن أُطِيلَ الشعرَ قَصْدِي ... إلى المَعْنَى وعِلْمِي بالصَّوابِ )
( وإيجازِي بِمُخْتَصَرٍ قريبٍ ... حذفتُ به الفضولَ من الجَوابِ )
( فَأَبْعَثُهُنَّ أربعةً وَخَمْساً ... مُثَقَّفَةً بألفاظٍ عِذابِ )
( خَوَالِدَ ما حدَا ليلٌ نهاراً ... وما حَسُنَ الصِّبَا بأخي الشَّبابِ )
( وهُنَّ إذا وَسَمْتُ بهنَّ قوماً ... كأطواقِ الحمائم في الرِّقابِ )
( وهُنَّ إذا أقمتُ مسافراتٌ ... تَهَادَتْهَا الرُّواةُ مع الرِّكابِ )

خبره مع أبي ذؤيب
حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال
كان بالأهواز رجل يعرف بأبي ذؤيب من التتار وكان مقصد الشعراء وأهل الأدب فقصده محمد بن حازم فدخل عليه يوما وعليه ثياب بذة وهيئة رثة ولم يعرف نفسه وصادفهم يتكلمون في شيء من معاني الشعر وأبو ذؤيب يتكلم متحققا بالعلم بذلك فسأله محمد بن حازم وقد دخل عليه

يوما عن بيت من شعر الطرماح جهله فرد عليه جوابا محالا كالمستصغر له وازدراه فوثب عن مجلسه مغضبا فلما خرج قيل له ماذا صنعت بنفسك وفتحت عليها من الشر أتدري لمن تعرضت قال ومن ذاك قيل محمد بن حازم الباهلي أخبث الناس لسانا وأهجاهم فوثب إليه حافيا حتى لحقه فحلف له أنه لم يعرفه واستقاله فأقاله وحلف أنه لا يقبل له رفدا ولا يذكره بسوء مع ذلك أبدا وكتب إليه بعد أن افترقا
( أَخْطا وَرَدَّ عليَّ غيرَ جوابي ... وزَرَى عليّ وقال غيرَ صوابِ )
( وسكنتُ من عَجَبٍ لذاك فزادني ... فيما كَرِهْتُ بِظَنّه المُرتابِ )
( وقضى عليَّ بظاهِرٍ من كُسْرَةٍ ... لم يَدْرِ ما اشتملتْ عليه ثيابي )
( من عِفَّةٍ وتَكَرُّمٍ وتَحَمُّلٍ ... وتَجَلدٍ لمصيبةٍ وعِقابِ )
( وإذا الزمان جنى عليَّ وجدتَني ... عُوداً لبعض صفائِحِ الأقتابِ )
( ولئن سألت لَيُخْبِرَنَّكَ عالِمٌ ... أَنِّي بحيثُ أحبّ من آدابِ )
( وإذا نَبَا بِيَ مَنْزِلٌ خَلَّيْتُهُ ... قَفْراً مجالَ ثَعالِبٍ وذِئابِ )
( وأكون مُشْتَرَكَ الغِنَى مُتَبَذِّلاً ... فإذا افتقرتُ قعدتُ عن أصحابي )
( لكنَّه رجعتْ عليه ندامةٌ ... لَمَّا نُسِبْتُ وخاف مَضَّ عِتابي )

( فأقَلْتُه لمّا أقرَّ بذنبه ... ليس الكريمُ على الكريمِ بنابِ )
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا النوفلي قال كان سعد بن مسعود القطربلي أبو إسحاق بن سعد صديقا لمحمد بن حازم الباهلي فسأله حاجة فرده عنها فغضب محمد وانقطع عنه فبعث إليه بألف درهم وترضاه فردها وكتب إليه
( مُتَّسِعُ الصَّدرِ مُطِيقٌ لِمَا ... يَحارُ فيه الحُوَّلُ القُلَّبُ )
( راجعَ بالعُتْبَى فأعتبتُه ... وربَّما أعتبَك المُذْنِبُ )
( أجَلْ وفي الدَّهرِ على أنه ... موكَّل بالبين مُسْتَعْتَبُ )
( سَقْياً ورَعْياً لزمانٍ مَضَى ... عَنِّي وسَهْمُ الشَّامِتِ الأخيبُ )
( قد جاءني منكَ مُوَيْلٌ فلم ... أَعْرضْ له والحُرُّ لا يَكْذبُ )
( أَخْذِيَ مالاً منكَ بعد الَّذِي ... أَوْدَعْتَنِيهِ مَرْكَبٌ يَصْعُبُ )
( أَبَيْتُ أن أشربَ عند الرضا ... والسُّخْطِ إلاَّ مَشْرَباً يَعْذُبُ )
( أَعَزَّني اليأس وأغْنَى فما ... أرجو سِوَى اللهِ ولا أَهْرُبُ )
( قارونُ عندي في الغِنَى مُعْدِمٌ ... وهمَّتي ما فوقَها مَذْهَبُ )
( فأيّ هاتَيْنِ تَرَانِي بها ... أصبو إلى مالِكِ أو أَرْغبُ )

قصته مع أحمد بن يحيى
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي وعيسى بن الحسين الوراق واللفظ له

قالا حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا حماد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن يحيى قال آخر ما فارقت عليه محمد بن حازم أنه قال لم يبق شيء من اللذات إلا بيع السنانير فقلت له سخنت عينك أيش لك في بيع السنانير من اللذات قال يعجبني أن تجيئني العجوز الرعناء تخاصمني وتقول هذا سنوري سرق مني وأخاصمها وأشتمها وتشتمني وأغيظها وأباغضها ثم أنشدني
( صِلْ خَمرةً بِخُمَارٍ ... وصِلْ خُمَاراً بخمرِ )
( وخُذْ بِحَظِّكَ منها ... زاداً إلى حيث تدري )
قال قلت إلى أين ويحك قال إلى النار يا أحمق
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال كان إسحاق بن أحمد بن أبي نهيك آنسا بمحمد بن حازم الباهلي يدعوه ويعاشره مدة فكتب إليه يستزيره ويعاتبه عتابا أغضبه وبلغه أنه غضب فكتب إليه
( ما مُسْتَزِيرُكَ في وُدٍّ رأى خَلَلاً ... في موضع الأُنْسِ أهلاً منك للغَضَبِ )

( قد كُنْتَ تُوجِبُ لي حَقّاً وتَعْرِفُ لي ... قَدْري وتَحْفَظُ مِنِّي حُرْمَةَ الأَدَبِ )
( ثم انحرفتَ إلى الأُخْرَى فأَحْشَمَنِي ... ما كان منكَ بلا جُرْمٍ ولا سَبَبِ )
( وإنَّ أدنَى الذي عندِي مُسَامَحَةٌ ... في حاجتي بعد أن أعذرتُ في الطَّلبِ )
( فاخْتَرْ فعنديَ من ثِنْتَيْنِ واحدةٌ ... عُذْرٌ جميلٌ وشُكْرٌ ليس باللَّعِبِ )
( فإنْ تُجَدِّد كما قد كُنْتَ تفعلُهُ ... )
خبره مع الحسن بن سهل
حدثني محمد بن يونس الأنباري المعروف بمحصنة قال حدثني ميمون بن هارون قال قال محمد بن حازم الباهلي عرضت لي حاجة في عسكر أبي محمد الحسن بن سهل فأتيته وقد كنت قلت في السفينة شعرا فلما دخلت على محمد بن سعيد بن سالم انتسبت له فعرفني فقال ما قلت فيه شيئا فقال له رجل كان معي بلى قد قال أبياتا وهو في السفينة فسألني أن أنشده فأنشدته قولي
( وقالوا لو مدحتَ فَتَىً كريماً ... فقلتُ وكيف لي بفَتىً كريم )
( بَلَوْتُ الناسَ مُذْ خمسين عاماً ... وحَسْبُكَ بالمُجَرِّبِ من عليمِ )
( فما أحدٌ يُعَدُّ ليومِ خيرٍ ... ولا أحدٌ يعود ولا حميمُ )
( ويعجبني الفتى وأظنّ خيراً ... فأكشف منه عن رجل لئيم )
( تَقَيَّلَ بعضُهم بعضاً فَأَضْحَوْا ... بني أَبَوَيْنِ قُدّاً من أَدِيمِ )

( فطافَ الناسُ بالحَسَنِ بن سَهْلٍ ... طَوَافَهُمُ بِزَمْزَمَ والحَطِيمِ )
( وقالوا سَيِّدٌ يُعْطِي جزيلاً ... ويَكْشِفُ كُرْبَةَ الرجلِ الكظيمِ )
( فقلتُ مضى بِذَمِّ القومِ شِعْري ... وقد يُؤْتَى البَرِيءُ مِنَ السَّقيمِ )
( وما خَبَرٌ تُرَجِّمُهُ ظُنُونِي ... بأشْفَى من مُعايَنةِ الحَليمِ )
( فجئتُ وللأمورِ مُبَشِّراتٌ ... ولن يخفَى الأَغْرٌّ من البَهِيمِ )
( فَإِنْ يَكُ ما تَنَشَّر عنه حَقّاً ... رجعت بأُهْبَةِ الرجلِ المُقِيمِ )
( وإنْ يكُ غيرُ ذاكَ حَمِدتُ رَبِّي ... وزال الشكُّ عن رجلٍ حكيم )
( وما الآمال تَعْطِفُنِي عليه ... ولكنَّ الكريمَ أخو الكريمِ )
قال فلما أنشدته هذا الشعر قال لي بمثل هذا الشعر تلقى الأمير والله لو كان نظيرك لما جاز أن تخاطبه بمثل هذا فقلت صدقت فكذلك قلت إنني لم أمدحه بعد ولكنني سأمدحه مدحا يشبه مثله قال فافعل وأنزلني عنده ودخل إلى الحسن فأخبره بخبري وعجبه من جودة البيت الأخير فأعجبه فأمر بإدخالي إليه بغير مدح فأدخلت إليه فأمرني أن أنشد هذا الشعر فاستعفيته فلم يعفني وقال قد قنعنا منك بهذا القدر إذ لم تدخلنا في جملة من ذممت وأرضيناك بالمكافأة الجميلة فأنشدته إياه فضحك وقال ويحك مالك وللناس تعمهم بالهجاء حسبك الآن من هذا النمط وأبق عليهم فقلت وقد وهبتهم للأمير قال قد قبلت وأنا أطالبك بالوفاء مطالبة من أهديت إليه هدية فقبلها وأثاب عليها ثم وصلني فأجزل وكساني فقلت في ذلك وأنشدته ( وهبتُ القومَ للحَسَن بن سَهْلٍ ... فَعَوَّضَنِي الجزيلَ من الثَّوابِ )

( وقال دَعِ الهجاءَ وقُلْ جَميلاً ... فإنَّ القَصْدَ أقربُ للثوابِ )
( فقلت له برِئتُ إليكَ منهمْ ... فليتَهُمُ بمُنْقَطَعِ التُّرابِ )
( ولولا نعمةُ الحَسَنِ بن سهلٍ ... عليَّ لَسُمْتُهُمْ سُوءَ العذاب )
( بِشعْرٍ يَعْجَبُ الشعراءُ منه ... يُشَبَّه بالهجاء وبالعِتابِ )
( أَكِيدُهُمُ مُكَايَدة الأعادي ... وأَخْتِلُهُمْ مُخاتلةَ الذِّئابِ )
( بَلَوْتُ خيارَهم فَبَلَوْتُ قوماً ... كُهولُهُمُ أَخَسُّ من الشَّبابِ )
( وما مُسِخُوا كِلاباً غيرَ أَنِّي ... رأيتُ القومَ أشباهَ الكِلابِ )
قال فضحك وقال ويحك الساعة ابتدأت بهجائهم وما أفلتوا منك بعد فقلت هذه بغية طفحت على قلبي وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير

شعره في صديق علا قدره فجفاه
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال كان لمحمد بن حازم الباهلي صديق على طول الأيام فنال مرتبة من السلطان وعلا قدره فجفا محمدا وتغير له فقال في ذلك محمد بن حازم
( وَصْلُ المُلُوكِ إلى التَّعالي ... ووَفَا المُلُوكِ من المُحَالِ )
( مالي رَأَيْتُكَ لا تَدُومُ ... على المَوَدَّةِ للرِّجَالِ )
( إنْ كَانَ ذا أَدَبٍ وظَرفٍ ... قلتَ ذاكَ أخو ضَلاَلِ )

( أو كان ذا نُسُكٍ ودِينٍ ... قلتَ ذاك من الثِّقالِ )
( أو كان في وَسَطٍ من المْرَيْنِ ... قلتَ يُريغُ مالي )
( فَبِمِثْلِ ذا ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ... َ تبتغي رُتَبَ المعالي )
حدثني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن علي الشيباني قال كان محمد بن حازم الباهلي قد نسك وترك شرب النبيذ فدخل يوما على إبراهيم بن المهدي فحادثه وناشده وأكل معه لما حضر الطعام ثم جلسوا للشراب فسأله إبراهيم أن يشرب فأبى وأنشأ يقول
( أبعد خمسين أصبو ... والشَّيْبُ للجهل حَرْبُ )
( سِنٌّ وشَيْبٌ وجَهْلٌ ... أمرٌ لَعَمْرُكَ صَعْبُ )
( يابنَ الإمامِ فَهَلاَّ ... أَيَّامَ عُودِيَ رَطْبُ )
( وَشَيْبُ رأسي قليلٌ ... ومَنْهَلُ الحُبِّ عَذْبُ )
( وإذْ سِهامِي صِيَابٌ ... ونَصْلُ سَيْفِيَ عَضْبُ )
( وإذْ شِفاءُ الغَوَانِي ... مِنِّي حديثٌ وقُرْبُ )
( فالآن لمّا رأى بي العُذَّالُ ... ُ لي ما أَحَبوا )
( وأقْصَرَ الجهلُ مِنِّي ... وساعدَ الشَّيْبَ لُبُّ )
( وآنَسَ الرُّشْدَ مِنِّي ... قومٌ أُعاب وأصبوا )
( آليتُ أشربُ كأساً ... ما حَجَّ للَّهِ رَكْبُ )
حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهروية قال حدثني الحسن بن أبي السري قال

وعد النوشجاني محمد بن حازم شيئا سأله إياه ثم مطله وعاتبه فلم ينتفع بذلك واقتضاه فأقام على مطله فكتب إليه
( أبَا بْشرٍ تَطاوَلَ بِي العِتَابُ ... وطال بِيَ التَّرَدُّدُ والطِّلاَبُ )
( ولم أَتْرُكْ من الأعذارِ شيئاً ... أُلام به وإنْ كَثُرَ الخِطَابُ )
( سَأَلْتُكَ حاجةً فَطَوَيْتَ كَشْحاً ... على رَغْمٍ وللدَّهْرِ انْقِلاَبُ )
( وسُمْتَني الدَّنِيَّةَ مُسْتَخِفّاً ... كما خُزِمتْ بآنفها الصِّعابُ )
( كأنَّك كنتَ تطلُبني بثأر ... وفي هذا لك العَجَبُ العُجَابُ )
( فإنْ تَكُ حاجتي غَلَبَتْ وأعيَتْ ... فمعذورٌ وقد وَجَبَ الثوابُ )
( وإنْ يكُ وَقْتُهَا شَيْبَ الغُرابِ ... فلا قُضِيتْ ولا شابَ الغُرابُ )
( رجوتُكَ حين قيل لي ابنُ كِسْرَى ... وإنِّكَ سِرُّ مُلْكِهِمُ اللُّبَابُ )
( فَقَدْ عَجَّلْتَ لي من ذاكَ وَعْداً ... وأقربُ من تَنَاولِهِ السَّحابُ )
( وكلٌّ سوف يُنْشَرُ غيرَ شَكٍّ ... ويَحْمِلُهُ لِطِيَّتِهِ الكتابُ )
أخبرني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال قصد محمد بن حازم بعض ولد سعيد بن سالم وقد ولي عملا واسترفده فأطال مدته ولم يعطه شيئا وانصرف عنه وقال

( أَللِدُّنْيَا أُعِدُّكَ يا بنَ عَمِّي ... فَأَعْلَمَ أم أُعِدُّكَ للحسابِ )
( إلى كَمْ لاَ أراكَ تُنِيل حَتَّى ... أَهُزَّكَ قد بَرِئتُ من العتابِ )
( وما تنفكُّ من جَمْعٍ ووضعٍ ... كأنَّك لستَ تُوقِنُ بالإيابِ )
( فَشَرُّكَ عن صديقك غيرُ ناءٍ ... وخَيْرُكَ عند مُنْقَطَعِ الترابِ )
( أتيتُكَ زائراً فأتيتُ كلباً ... فَحَظِّي من إخائِكَ لِلْكِلاَبِ )
( فبئس أخو العشيرةِ ما عَلِمْنَا ... وأخبثُ صاحبٍ لأخي اغترابِ )
( أَيَرْحَلُ عنك ضَيْفُكَ غيرَ راضٍ ... ورَحْلُكَ واسِعٌ خِصْبُ الجنابِ )
( فقد أصبحتَ من كرمٍ بعيداً ... ومن ضِدّ المكارِمِ في اللُّبابِ )
( وما بَيَ حاجةٌ لجَدَاك لكن ... أَرُدُّكَ عن قَبِيحِك للصَّوابِ )
حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال كنا عند المتوكل يوما وقد غاضبته قبيحة فخرج إلينا فقال من ينشدني منكم شعرا في معنى غضب قبيحة علي وحاجتي أن أخضع لها حتى ترضى فقلت له لقد أحسن محمد بن حازم الباهلي يا أمير المؤمنين حيث يقول
( صفحتُ بِرَغْمِي عنكَ صَفْحَ ضرورةٍ ... إليك وفي قلبي نَدُوبٌ من العَتْبِ )
( خضعتُ وما ذَنْبِي إن الحُبّ عَزَّنِي ... فأغضيتُ صفحاً عن معالَجة الحبِّ )
( وما زال بي فقرٌ إليك مُنَازعٌ ... يُذَلِّلُ مِنِّي كلَّ مُمْتَنِعِ صَعْبِ )
( إلى اللهِ أشكو أنّ وُدِّي مُحَصَّلٌ ... وقلبي جميعاً عند مُقْتَسِمِ القَلْبِ )
الغناء لعبيدة الطنبورية رمل بالوسطى قال أحسنت وحياتي يا يزيد وأمر بأن يغنى فيه وأمر لي بألف دينار

شعره في هجاء بني نمير
حدثني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثنا علي بن خالد البرمكي قال سافر محمد بن حازم الباهلي سفرا فمر بقوم من بني نمير فسلوا منه بعيرا له عليه ثقله فقال يهجوهم
( نُمَيْر أجُبْنا حيث يختلف القنا ... ولُؤْماً وبُخْلاً عند زادٍ ومِزْوَدِ )
( ومنْعَ قِرَى الأضياف من غير علَّةٍ ... ولا عَدَمٍ إلا حِذَارَ التَّعَوُّدِ )
( وبَغْياً على الجار الغريب إذا طَرَا ... عليكم وَخَتْلَ الرَّاكب المُتَفَرِّدِ )
( على أنَّكُم تَرْضَوْنَ بالذُّلِّ صاحباً ... وتُعْطُونَ مَنْ لا حاكمُ الضَّيمَ عن يَدِ )
( أمَا وأبي إنَّا لَنَعْفُو وإنَّنَا ... على ذاكِ أحياناً نَجُورُ ونعتدي )
( نَكِيدُ العِدَا بالحِلْمِ من غيرِ ذِلَّةٍ ... ونَغْشَى الوَغَى بالصِّدْقِ لا بالتَّوَعُّدِ )
( نَفَى الضَّيْمَ عَنَّا أنفسٌ مُضَرِيَّةٌ ... صِرَاحٌ وطَعْنُ الباسِلِ المُتَمَرِّدِ )
( وإنَّا لمن قَيْسِ بن عَيْلاَن في التي ... هي الغايةُ القُصْوَى بِعَزٍّ وسُودَدِ )
( وإنَّ لنا بالتُّرْكِ قَبْرَاً مُبَاركاً ... وبالصِّينِ قَبراً عِزَّ كلِّ مُوَحِّدِ )
( وما نابَنَا صَرْفُ الزَّمانِ بِسَيِّدٍ ... بَكَيْنَا عليه أو يُوَافِي بسَيِّدِ )
( ولو أنَّ قوماً يَسْلَمُونَ من الرَّدَى ... سَلِمْنَا ولكنَّ المَنَايَا بِمَرْصَدِ )

( أَبَى الله أن يَهْدِي نُمَيْرَاً لِرُشْدِها ... ولا يَرْشُدُ الإنسانُ إلاَّ بِمُرْشِدِ )

هجاؤه عامل الأهواز
حدثني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم ورجل من ولد البختكان من الأهوازيين أن محمد بن حامد ولي بعض كور الأهواز في أيام المأمون وأن محمد بن حازم الباهلي قدم عليه زائرا ومدحه فوصله وأحسن إليه وكتب له إلى تستر بحنطة وشعير فمضى بكتابه وأخذ ما كتب له به وتزوج هناك امرأة من الدهاقين فزرع الحنطة والشعير في ضيعتها وولى محمد بن حامد رجلا من أهل الكوفة الخراج بتستر فوكل بغلة محمد بن حازم وطالبه بالخراج فأداه فقال يهجوه
( زَرَعنا فلمَّا سلَّم الله زَرْعَنا ... وأوفى عليه مِنْجَلٌ بِحَصَادِ )
( بُلِينَا بِكُوفِيٍّ حَليفِ مجاعَةٍ ... أَضَرَّ علينا من دَباً وجَرادِ )
( أتى مُسْتَعِدَّاً ما يُكَذِّبُ دونه ... ولَجَّ بإرغَامٍ له وبِعَادِ )
( فَطَوْراً بإلحاحٍ عليَّ وغِلْظَةٍ ... وطوراً بِخَبْطٍ دائم وفسادِ )
( ولولا أبو العبَّاس أعني ابنَ حامِدٍ ... لَرَحَّلْتُهُ عن تُسْتَرٍ بِسَوَادِ )
( فَكُفُّوا الأذى عن جارِكم وتَعَلَّمُوا ... بِأَنِّي لكم في العالمين مُنَادِي )
فبعث محمد بن حامد إلى عامله فصرفه عن الناحية وقال له عرضتني لما أكره واحتمل خراج محمد بن حازم

أخبرني محمد بن الحسين بن الكندي المؤدب قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول قال هذا الباهلي محمد بن حازم في وصف الشيب شيئا حسنا فقال له أبو محمد الباهلي تعني قوله
( كفاكَ بالشَّيْبِ ذنباً عند غانيةٍ ... وبالشَّبَابِ شفيعاً أيُّها الرَّجُلُ )
فقال إياه عنيت فقال له الباهلي ما سمعت لأحد من المحدثين أحسن منه
حدثني عمي قال حدثنا حسين بن فهم قال حدثني أبي قال دخل محمد بن حازم على محمد بن زبيدة وهو أمير فدعاه إلى أن يشرب معه فامتنع وقال
( أبعد خمسين أصبو ... والشَّيْبُ للجهل حَرْبُ )
( سِنٌّ وشَيْبٌ وجهلٌ ... أمرٌ لَعَمْرُكَ صَعْبُ )
( يابْنَ الإمامِ فَهَلاَّ ... أيَّامَ عُودِيَ رَطْبُ )
( وشيبُ رأسي قليلٌ ... ومَنْهَلُ الحُبِّ عَذْبُ )
( وإذْ شِفَاءُ الغَوَانِي ... مِنِّي حديثٌ وشُرْبُ )
( الآن حين رأى بي ... عواذِلِي ما أَحَبُّوا )
آليتُ أشْرَبُ كأساً ... ما حَجَّ للهِ رَكْبُ )
قال فأعطاه محمد بن زبيدة ووصله

أخبار ابن القصار ونسبه
اسمه فيما أخبرني به أبو الفضل بن برد الخيار سليمان بن علي وذكره جحظة في كتاب الطنبوريين فتله في نفسه وأخلاقه ومدح صنعته وقال مما أحسن فيه قوله
( أَرِقْتُ لِبَرْقٍ لاَحَ في فَحْمَةِ الدُّجَى ... فأذْكَرَنِي الأحبابَ والمنزلَ الرَّحبا )
قال وهذا خفيف رمل مطلق
ومما أحسن فيه أيضا
( تعالَيْ نُجَدِّدُ عهدَ الصِّبَا ... ونَصْفَحُ للحُبِّ عمّا مَضَى )
وهو خفيف رمل مطلق أيضا وذكر أنه كان مع أبيه قصارا وتعلم الغناء فبرع فيه ومن طيب ما ثلبه به جحظة وتنادر عليه به وأراها مصنوعة أنه مر يوما على أبيه ومعه غلام يحمل قاطرميز نبيذ

وجوامرجة مذبوحة مسموطة فقال الحمد لله الذي أراني ابني قبل موتي يأكل لحم الجواميرات ويشرب نبيذ القاطرميزات
وحدث عن بعض جيرانه أن ابن القصار غنى له يوما بحبل ودلو وأن إسماعيل بن المتوكل وهب له مائتي أترجة كانت بين يديه فباعها بثلاثة دنانير وأنه يحمل بلبكيذه إلى دار السلطان وله فيه خبز وجبن فيأكله ويحمل في البلبكيذ ما يوضع بين يديه في دار السلطان فيدعو إخوانه عليه وأكثر من ثلب الرجل مما لا فائدة فيه ولو أراد قائل أن يقول فيه ما لا يبعد من هذه الأخلاق لوجد مقالا واسعا ولكنه مما يقبح ذكره سيما وقد لقيناه وعاشرناه عفا الله عنا وعنه
أخبرنا ذكاء وجه الرزة قال كنا نجتمع مع جماعة في الطنبوريين ونشاهدهم في دور الملوك وبحضرة السلطان فما شاهدت منهم أفضل من المسرور وعمر الميداني وابن القصار

قصته مع قمرية زوجة البلوري
وحدثتني قمرية البكتمرية قالت كنت لرجل من الكتاب يعرف بالبلوري وكان شيخا وكانت ستي التي ربتني مولاته وكانت مغنية شجية الصوت حسنة الغناء وكانت تعشق ابن القصار وكانت علامة مصيره إليها أن يجتاز في دجلة وهو يغني فإن قدرت على لقائه أوصلته إليها وإلا مضى فأذكره وقد اجتاز بنا في ليلة مقمرة وهو يغني خفيف رمل قال

( أنا في يُمْنَى يَدَيْهَا ... وهي في يُسْرَى يَدَيَّهْ )
( إنَّ هذا لقَضَاءٌ ... فيه جَوْرٌ يا أُخَيَّهْ )
ويغني في آخر رده
( وَيْل وَيْلِي يا أبَيَّهْ ... )
وكانت ستي واقفة بين يدي مولاها فما ملكت نفسها أن صاحت أحسنت والله يا رجل فتفضل وأعد ففعل وشرب رطلا وانصرف وعلم أنه لا يقدر على الوصول إليها وكان مولاها يعرف الخبر فتغافل عنها لموضعها من قلبه فلا أذكر أني سمعت قط أحسن من غنائه

صوت
( باح بالوجدِ قلبُك المُسْتَهامُ ... وجرت في عِظامك الأسقامُ )
( يوم لا يملك البكاءَ أخو الشَّوْقِ ... فيُشْفَى ولا يُرَدُّ سلامُ )
لم يقع إلي قائل هذا الشعر والغناء لمعبد اليقطيني ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي

أخبار معبد
كان معبد اليقطيني غلاما مولدا خلاسيا من مولدي المدينة اشتراه بعض ولد علي بن يقطين وقد شدا بالمدينة وأخذ الغناء عن جماعة من أهلها وعن جماعة أخرى من علية المغنين بالعراق في ذلك الوقت مثل إسحاق وابن جامع وطبقتهما ولم يكن فيما ذكر بطيب المسموع ولا خدم أحدا من الخلفاء إلا الرشيد ومات في أيامه وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة
خبره مع غلام من المدينة
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني معبد الصغير المغني مولى علي بن يقطين قال كنت منقطعا إلى البرامكة آخذ منهم وألازمهم فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا بابي يدق فخرج غلامي ثم رجع إلي فقال على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك فأذنت له فدخل علي شاب ما رأيت أحسن وجها منه ولا أنظف ثوبا ولا أجمل زيا منه من رجل دنف عليه آثار السقم ظاهرة

فقال لي إني أرجو لقاك منذ مدة فلا أجد إليه سبيلا وإن لي حاجة قلت ما هي فأخرج ثلثمائة دينار فوضعها بين يدي ثم قال أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنيني به فقلت هاتهما فأنشدهما وقال

صوت
( واللهِ يا طَرْفِيَ الجانِي على بَدَنِي ... لَتُطْفِئَنَّ بِدَمْعِي لوعةَ الحَزَنِ )
( أو لأبُوحَنَّ حَتَّى يَحْجُبُوا سَكَنِي ... فلا أراه ولو أُدْرِجْتُ في كَفَنِي )
الغناء فيه لمعبد اليقطيني ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى قال فصنعت فيهما لحنا ثم غنيته إياه فأغمي عليه حتى ظننته قد مات ثم أفاق فقال أعد فديتك فناشدته الله في نفسه وقلت أخشى أن تموت
فقال هيهات أنا أشقى من ذاك وما زال يخضع لي ويتضرع حتى أعدته فصعق صعقة أشد من الأولى حتى ظننت أن نفسه قد فاظت فلما أفاق رددت الدنانير عليه ووضعتها بين يديه وقلت يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عني فقد قضيت حاجتك وبلغت وطرا مما أردته ولست أحب أن أشرك في دمك فقال يا هذا لا حاجة لي في الدنانير فقلت لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط قال وما هن قلت أولها أن تقيم عندي وتتحرم بطعامي والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشد قلبك وتسكن ما بك والثالثة أن تحدثني بقصتك فقال أفعل ما تريد فأخذت الدنانير ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذر ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا وغنيته بشعر غيره في معناه وهو يشرب ويبكي ثم قال الشرط أعزك الله فغنيته فجعل يبكي أحر بكاء

وينشج أشد نشيج وينتحب فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه ورأيت النبيذ قد شد من قلبه كررت عليه صوته مرارا ثم قلت حدثني حديثك فقال أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزها في ظاهرها وقد سال العقيق في فتية من أقراني وأخداني فبصرنا بقينات قد خرجن لمثل ما خرجنا له فجلسن حجرة منا وبصرت فيهن بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما فأطلنا وأطلن حتى تفرق الناس وانصرفن وانصرفنا وقد أبقت بقلبي جرحا بطيئا اندماله
فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ
وخرجت من الغد إلى العقيق وليس به أحد فلم أر لها ولا لصواحباتها أثرا
ثم جعلت أتتبعها في طرق المدينة وأسواقها فكأن الأرض أضمرتها فلم أحس لها بعين ولا أثر وسقمت حتى أيس مني أهلي
ودخلت ظئري فاستعلمتني حالي وضمنت لي حالها والسعي فيما أحبه منها فأخبرتها بقصتي فقالت لا بأس عليك هذه أيام الربيع وهي سنة خصب وأنواء وليس يبعد عنك المطر وهذا العقيق فتخرج حينئذ وأخرج معك فإن النسوة سيجئن
فإذا فعلن ورأيتها تبعتها حتى أعرف موضعها ثم أصل

بينك وبينها وأسعى لك في تزويجها
فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك ووثقت به وسكنت إليه فقويت وطمعت وتراجعت نفسي وجاء مطر بعقب ذلك فأسال الوادي وخرج الناس وخرجت مع إخواني إليه فجلسنا مجلسنا الأول بعينه فما كنا والنسوة إلا كفرسي رهان
وأومأت إلى ظئري فجلست حجرة منا ومنهن وأقبلت على إخواني فقلت لقد أحسن القائل حيث قال
( رَمَتْنِي بسهم أَقْصَدَ القلبَ وانْثَنَتْ ... وقد غادرتْ جُرْحاً به ونُدُوبَا )
فاقبلت على صواحباتها فقالت أحسن والله القائل وأحسن من أجابه حيث يقول
( بِنَا مثلُ ما تَشْكُو فَصَبْراً لَعَلَّنا ... نرى فَرَجاً يَشْفى السَّقامَ قَرِيبَا )
فأمسكت عن الجواب خوفا من أن يظهر مني ما يفضحني وإياها وعرفت ما أرادت
ثم تفرق الناس وانصرفنا وتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها وصارت إلي فأخذت بيدي ومضينا إليها
فلم تزل تتلطف حتى وصلت إليها
فتلاقينا وتداورنا على حال مخالسة ومراقبة
وشاع حديثي وحديثها وظهر ما بيني وبينها فحجبها أهلها وتشدد عليها أبوها
فما زلت أجتهد في لقائها فلا أقدر عليه
وشكوت إلى أبي لشدة ما نالني حالي وسألته خطبتها لي
فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها فخطبوها
فقال لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس ولكنه قد فضحها فلم أكن لأحقق قول الناس فيها بتزويجه إياها فانصرفت على يأس منها ومن نفسي
قال معبد فسألته أن ينزل فحبرني وصارت بيننا عشرة
ثم جلس جعفر بن يحيى للشرب فأتيته فكان أول صوت غنيته صوتي في شعر الفتى فطرب

عليه طربا شديدا وقال ويحك إن لهذا الصوت حديثا فما هو فحدثته فأمر بإحضار الفتى فأحضر من وقته واستعاده الحديث فأعاده عليه
فقال هي في ذمتي حتى أزوجك إياها فطابت نفسه وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح
وغدا جعفر إلى الرشيد فحدثه الحديث فعجب منه وأمر بإحضارنا جميعا فأحضرنا وأمر بأن أغنيه الصوت فغنيته وشرب عليه وسمع حديث الفتى فأمر من وقته بالكتاب إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته فلم يمض إلا مسافة الطريق حتى أحضر
فأمر الرشيد بإيصاله إليه فأوصل وخطب إليه الجارية للفتى وأقسم عليه ألا يخالف أمره فأجابه وزوجه إياها وحمل إليه الرشيد ألف دينار لجهازها وألف دينار لنفقة طريقه وأمر للفتى بألف دينار وأمر جعفر لي وللفتى بألف دينار
وكان المدني بعد ذلك في جملة ندماء جعفر بن يحيى
صوت
هل نَفْسُكَ المستهامة السَّدِمَهْ ... ساليةٌ مَرَّةً ومُعْتَزمَهْ )
( عن ذِكْرِ خَوْدٍ قَضَى لها المَلِكُ الْخَالِقُ ... أَلاَّ تُكِنَّها ظُلُمَهْ )
الشعر لابن أبي الزوائد والغناء لحكم رمل بالوسطى عن الهشامي

أخبار ابن أبي الزوائد ونسبه
اسمه سليمان بن يحيى بن زيد بن معبد بن أيوب بن هلال بن عوف بن نضلة بن عصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور
ويقال له ابن أبي الزوائد أيضا
شاعر مقل من مخضرمي الدولتين وكان يؤم الناس في مسجد رسول الله
ذكره لجارية تعشقها في شعره
أخبرني بذلك محمد بن خلف وكيع قال حدثنا ابن أبي خيثمة عن بعض رجاله عن الأصمعي وأخبرني وكيع قال حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال
كان ابن أبي الزوائد يتعشق جارية سوداء مولاة الصهيبيين وكان

يختلف إليها وهي في النخل بحاجزة فلما حان الجداد قال
( حُجَيْجُ أمسَى جَدَادُ حاجزةٍ ... فليتَ أنَّ الجَدَاد لم يَحِنِ )
( وشَتَّ بَيْنٌ وكُنْتِ لي سَكَناً ... فيما مَضَى كان ليس بالسَّكَنِ )
( قد كانَ لي مِنْكِ ما أُسَرُّ به ... وليتَ ما كان مِنْكِ لم يَكُنِ )
( نَعِفُّ في لَهْوِنا ويَجْمَعُنَا المَجْلِسُ ... بين العريش والجرُنِ )
( يُعْجِبُنَا اللَّهْوُ والحديثُ ولا ... نَخْلِط في لَهْوِنَا هَنًا بِهنِ )
( لَوْ قَدْ رحلتُ الحمارَ منكشفاً ... لم أَرَها بَعْدَها ولم تَرَني )
فقال له أبو محمد الجمحي إن الشعراء يذكرون في شعرهم أنهم رحلوا الإبل والنجائب وأنت تذكر أنك رحلت حمارا
فقال ما قلت إلا حقا والله ما كان لي شيء أرحله غيره
قال وقال فيها أيضا
( يا ليتَ أنَّ العرَبَ اسْتَلْحَقُوا ... رِيمَ الصُّهَيْبِيِّينَ ذاكَ الأجَمّ )
( وكان منهم فتزوَّجْتُه ... أو كنتُ من بعض رجال العَجَمْ )
أخبرني وكيع قال حدثني طلحة بن عبد الله بن الزبير بن بكار عن عمه قال

كان أبو عبيدة بن عبد الله بن ربيعة صديقا لابن أبي الزوائد ثم تباعد -

ما بينهما لشيء بلغ أبا عبيدة عنه فهجره من أجله فهجاه فقال
( قَطَع الصفاء ولم أكن ... أهلاً لذاك أبو عُبَيْدَهْ )
( لا تَحْسَبَنَّكَ عاقلاً ... فلأنتَ أحمقُ من حُمَيْدَهْ )
حميدة امرأة كانت بالمدينة رعناء يضرب بها المثل في الحمق
شعر قبيح في قيان حماد بن عمران وهجاؤه لامرأته
)
حدثني عمي ووكيع قالا حدثنا الكراني عن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
دخل ابن أبي الزوائد إلى حماد بن عمران الطليحي وكان يلقب بعطعط وكان له قيان يسمعهن الناس عنده فرآهن ابن أبي الزوائد فقال فيهن
( أقولُ وقد صُفَّتِ البُظْرُلي ... أَلِلْبُظْرِ أدخلني عُطْعُطُ )
( فإنِّي امرؤٌ لا أحِبُّ الزِّنَا ... ولا يَسْتَفِزُّنِي البَرْبَطُ )
( ولو بَعْضُهُنَّ ابتغى صَبْوَتِي ... لَخالَطَ هَامَتَها المِخْبَطُ )
( لبئس فعالُ امرئٍ قد قَرَا ... وهَمَّتْ عَوَارِضُهُ تَشْمَطُ )
( وما كنتُ مفترشاً جارتي ... وسَيِّدُها نائمٌ يَضْرِطُ )
( أَأُفْرِغُ في جارتي نُطْفَةً ... حَراماً كما يُفْرَغُ المُسْعُطُ )

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني أبو هفان قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني المسيبي
أن ابن أبي الزوائد كانت عنده امرأة أنصارية فطال لبثها عنده حتى ملها وأبغضها فقال يهجوها
( يا رَمْلُ أنتِ الغُولُ بين رِمَالِ ... لم تَظْفَرِي بِتُقًى ولا بِجَمَالِ )
( يا رَمْل لو حُدِّثْتُ أَنَّكِ سَلْفَعٌ ... شَوْهَاءُ كالسِّعْلاةِ بين سَعَالي )
( ما جاء يطلبُكَ الرسولُ بِخِطْبَةٍ ... مِنِّي ولا ضُمَّت عليكِ حبالي )
( ولقد نَهَى عنكِ النَّصيحُ وقال لي ... لا تَقْرِنَنَّ بَذِيَّةً بِعِيالِ )
( لَمَّا هَزَزْتُ مُهَنَّدي وقذفتُهُ ... فيها وقد ارهفتُه بصِقَالِ )
( رَجَعَ المُهَنَّدُ ما لَه من حيلةٍ ... وهناك تَصْعُبُ حِيلةُ المحتالِ )
( وكأنَّما أولجتُهُ في قُلَّةٍ ... قد بُرِّدَتْ للصومِ أو بوقالِ )
( ورأيتُ وجهاً كاسفاً مُتَغَيِّراً ... وحِراً أشَقَّ كَمِرْكَنِ الغَسَّالِ )
( ما كان أَيْرُ الفيل بالِغَ قَعْرِهِ ... بِتَحَامُلٍ عَنْهُ ولا إدخالِ )
( ولقد طعنت مبالَها بسُلاحِها ... فوجدتُ أخبثَ مَسْلَح ومَبَالِ )
قال وقال لها وقد فخرت
( هلاَّ سألتِ مَنَازِلاً بِغُرارِ ... عَمَّنْ عَهِدْتُ به من الأَحْرَارِ )
( أينَ انْتَأَوْا ونحاهُمُ صَرْفُ النَّوَى ... عَنَّا وصَرْفُ مُقَحِّمٍ مِغْيَارِ )

( كَرِهَ المُقَامَ وظَنَّ بي وبأهلِها ... ظَنّاً فكان بنا على إصْرارِ )
( عُدِّي رجالَكِ واسْمَعِي يا هَذِهِ ... عَنِّي مَقَالَةَ عالمٍ مِفْخَارِ )
( سأعُدُّ ساداتٍ لنا ومَكارِماً ... وأُبوّةً ليستْ عليَّ بِعَارِ )
( قَيْسٌ وخِنْدِفُ والدايَ كِلاهُما ... والعَمُّ بَعْدُ ربيعةُ بنُ نزارِ )
( مَنْ مِثْلُ فارِسنا دُرَيْدٍ فارساً ... في كلِّ يومِ تَعَانُقٍ وكِرارِ )
( وبنو زِيادٍ مَنْ لِقَوْمِكِ مِثْلُهُمْ ... أو مِثْلُ عَنترةَ الهِزَبْرِ الضَّاري )
( والحيُّ من سعدٍ ذُؤابةُ قَوْمِهِمْ ... والفَخْرُ منهم والسَّنامُ الواري )
( المانِعُونَ من العَدُوِّ ذِمَارَهُمْ ... والمُدْرِكُونَ عَدُوَّهم بالثَّارِ )
( والناكحونَ بناتِ كلِّ مُتَوَّجٍ ... يومَ الوَغَى غَصْباً بلا إِمهارِ )
( وبنو سُلَيْم نُكْلُ مَنْ عاداهُمُ ... وحَيَا العُفَاةِ ومَعْقِلُ الفُرَّارِ )
( ليسوا بأنكاسٍ إذا حاسَتْهُمُ المَوْتَ ... العُدَاةُ وصَمَّمُوا لِمُغَارِ )

أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال
كان ابن أبي الزوائد وفد إلى بغداد في ايام المهدي فاستوخمها فقال يتشوق إلى المدينة ويخاطب أبا غسان محمد بن يحيى وكان معه نازلا
( يابْنَ يحيى ماذا بدا لَكَ ماذا ... أَمُقَامٌ أم قد عَزَمْتَ الخِياذَا )
( فالبراغيثُ قد تَثَوَّرَ منها ... سامرٌ ما نَلُوذ منها مَلاَذَا )
( فَنَحُكُّ الجُلُودَ طَوْراً فَتَدْمَى ... وَنَحُكُّ الصُّدُورَ والأفخاذَا )
( فَسَقَى الله طَيْبَةِ الوَبْلَ سَحّاً ... وسقى الكَرْخَ والصَّرَاةَ الرَّذاذَا )
( بلدةٌ لا ترى بها العَيْنُ يوماً ... شارباً للنَّبيذِ أو نَبَّاذَا )
( أو فَتًى ماجناً يرى اللَّهْوَ والباطِلَ مجداً أو صاحباً لَوَّاذا )
( هذه الذال فاسمعوها وهاتُوا ... شاعِراً قال في الرَّويِّ على ذَا )
( قالها شاعرٌ لَوَ أنَّ القوافي ... كُنَّ صخراً أطارَهُنَّ جُذَاذَا )

سكر فشعر
قال الزبير وأنشدني له أبو غسان محمد بن يحيى وكان قد دخل إلى

رجلين من أهل الحجاز يقال لأحدهما أبو الجواب والآخر أبو ايوب فسقياه نبيذا على أنه طري لا يسكر فأسكره فقال
( سَقَانِي شربةً فَسَكِرْتُ منها ... أبو الجَوَّابِ صاحِبيَ الخبيثُ )
( وعاوَنَهُ أبو أيُّوبَ فيها ... ومِنْ عاداته الخُلُقُ الخَبِيثُ )
( فلمَّا أن تَمَشَّتْ في عِظامِي ... وهَمَّتْ وثْبَتِي منها تَرِيثُ )
( علمتُ بأنَّني قد جئتُ أمراً ... تسوءُ به المقالةُ والحديثُ )
( فَدَعْهُم لا أبا لك واجْتَنِبْهُمْ ... فإنَّ خَلِيطَهُمْ لَهُوَ اللّوِيثُ )
وتمام الأبيات التي فيها الغناء بعد البيتين المذكورين
( كالشمس في شَرْقِها إذا سَفَرَتْ ... عنها ومِثْلُ المَهَاةِ مُلْتَثِمَهْ )
( ما صَوَّرَ الله حين صَوَّرها ... في سائر النَّاسِ مثلَها نَسَمَهْ )
( كلَّ بلادِ الإلهِ جئتُ فما ... أبصرتُ شِبْهاً لها وقد عَلِمَهْ )
( أنْثَى من العالمين تُشْبِهُهَا ... عابسةً هَكَذَا ومُبْتَسِمَهْ )
( فَتَّانَةُ المُقْلَتَيْنِ مُخْطَفَةُ الأحشاءِ ... منها البَنَانُ كالعَنَمَهْ )
( إذا تعاطتْ شيئاً لتأخذَه ... قلتَ غَزَالٌ يَعْطُو إلى بَرَمَهْ )

( يا طِيبَ فِيها وطِيبَ قُبْلتها ... والقُرْبِ مِنْها في اللَّيلة الشَّبِمَهْ )
( إنَّ من اللَّذَّةِ التي بَقِيتْ ... غِشيانَكَ الخَوْدَ من بني سَلَمَهْ )
( لا تَهْجُرِ الخَوْدَ إنْ تُغالِ بها ... بعد سُلُوٍّ وقبلَ ذاك فَمَهْ )
( آتِي مُعِدّاً لها الكلامَ فما ... أنْطِقُ من هَيبةٍ ولا كَلِمَهْ )
( أُحِبُّ واللهِ أن أزورَكُمُْ ... وَحْدِي كذا أو أَزُورَكُم بِلُمَهْ )
( هذا الجمالُ الذي سمعتَ به ... سبحانَ ذي الكِبْرِيَاءِ والعَظَمَهْ )
( مَنْ أبصرتْ عَيْنُه لها شَبَهاً ... حَلَّ عليه العذابُ والنَّقِمَهْ )

صوت
( يا هِنْدُ يا هِنْدُ نَوِّلِي رَجُلاً ... وكيف تنويلُ مَنْ سَفَكْتِ دَمَهْ )
( أو تُدْرِكِي نَفْسه فقد هَلَكتْ ... أو تَرْحَمِيهِ فمِثْلُكم رَحِمهْ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن جعفر بن قادم مولى بني هاشم قال حدثني عمي أحمد بن جعفر عن ابن دأب قال
أمر المنصور أن لا تتزوج منافية إلا منافيا
ً
خرجت أنا وأخي يحيى وابن أبي السعلاء ومعنا مصعب بن عبد الله النوفلي وثابت والزبير ابنا خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وابن أبي الزوائد السعدي وابن أبي ذئب متنزهين إلى العقيق وقد سال يومئذ إذ أتانا آت ونحن جلوس فسألناه عن الخبر بالمدينة فقال ورد كتاب أمير المؤمنين

المنصور أن لا تتزوج منافية إلا منافيا
قال ابن أبي ذئب إذن والله لا يخطب قرشي إلا من لا يحبها ولا يرغب فيمن لا يرغب فيها ممن لا فضل له عليها وكان غير حسن الرأي في بني هاشم
وتكلم ابنا خبيب بمثل ذلك وقال أحدهما إن نسبنا من بني عبد مناف قد طال فأدالنا الله منهم
قال فغضب مصعب النوفلي وكان أحول فازدادت عيناه انقلابا فقال أما أنت يابن أبي ذئب فوالله ما شرفتك جاهلية ولا رفعك إسلام فيقع في بال أحد أنك عنيت بما جرى
وأما أنتما يا بني خبيب فبغضكما لبني عبد مناف تالد موروث ولا يزال يتجدد كلما ذكرتم قتل الزبير وإنكم لمن طينتين مختلفتين أما إحداهما فمن صفية وهي الطينة الأبطحية السنية تنزعان إليها إذا نافرتما وتفخران بها إذا افتخرتما والأخرى الطينة العوامية التي تعرفانها ولو شئت أن أقول لقلت ولكن صفية تحجزني فأحسنا الشكر لمن رفعكما ولا تميلا عليه بمن وضعكما
فقالا له مهلا فوالله لقديمنا في الإسلام أفضل من قديمك ولحظنا فيه بالزبير أفضل من حظك
فقال مصعب والله ما تفخران في نسبكما إلا بعمتي ولا تفضلان في دينكما إلا بابن عمي فمفاخره لي دونكما
ثم تفرقوا فقال ابن أبي الزوائد

( لَعَمْرُكُما يابني خُبَيبِ بن ثابتٍ ... تجاوزتما في الفَخْرِ جَهْلاً مَداكما )
( وأنكرتُما فضلَ الذين بِفَضْلِهِمْ ... سَمَتْ بين أيدي الأكْرَمِين يَداكُمَا )
( فإنَّكما لم تَعْرِفَا إذ سَمَوْتُمَا ... إلى العِزِّ مِنْ آل النبيِّ أباكما )
( ولم تَعْرِفَا الفضلَ الذي قد فَخَرْتُما ... فليس من العَوَّامِ حَقّاً أتاكما )
( فلولا الكِرامُ الغُرُّ من آل هاشمٍ ... فلا تجهلا لَمْ تدفَعا مَنْ رَماكما )

صوت
( مُحبٌّ صَدَّ آلِفُهُ ... فليس لِلَيْلِه صُبْحُ )
( يُقلِّبُه على مَضَضٍ ... مَوَاعِدُ ما لَها نُجْحُ )
( له في عَيْنِه غَرْبٌ ... وفي أحشائه جُرْحُ )
( صحَا عنه الَّذي يرجو ... وما يَصْحُو )
الشعر لأبي الأسد والغناء لعلويه هزج بالوسطى وخفيف ثقيل بالوسطى

أخبار أبي الأسد ونسبه
اسمه فيما ذكر لنا عيسى بن الحسين الوراق عن عيسى بن إسماعيل تينة عن القحذمي نباتة بن عبد الله الحماني
وذكر أبو هفان المهزمي أنه من بني شيبان
وهو شاعر مطبوع متوسط الشعر من شعراء الدولة العباسية من أهل الدينور
وكان طبا مليح النوادر مزاحا خبيث الهجاء وكان صديقا لعلويه المغني الأعسر ينادمه ويواصل عشرته ويصله علويه بالأكابر ويعرضه للمنافع وله صنعة في كثير من شعره
شعره في جارية وعدته أن تزوره ليلا
فأخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال
كان أبو الأسد الشاعر صديقا لعلويه وكان كثيرا ما يغني في شعره
فدعانا علويه ليلة ووعدته جارية لآل يحيى بن معاذ وكانت تأخذ عنه الغناء أن تزوره تلك الليلة وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وكان علويه يهيم بها فانتظرناها حتى أيسنا منها احتباسا
فقال علويه لأبي الأسد قل في هذا شعرا فقال

( محبٌّ صدَّ آلِفُه ... فليس لِلَيْلِه صُبْحُ )
( صحا عنه الذي يرجو ... زيارتَه وما يصحو )
قال فصنع علويه فيه لحنا من خفيف الثقيل هو الآن مشهور في ايدي الناس وغنانا فيه فلم نزل نشرب عليه حتى أصبحنا
وصنع في تلك الليلة بحضرتنا فيه الرمل في شعر أبي وجزة السعدي
( قَتَلتْنِي بغير ذنبٍ قَتُولُ ... وحَلاَلٌ لها دَمِي المطلُولُ )
( ما على قاتلٍ أصابَ قَتِيلاً ... بدَلاَلٍ ومُقْلَتَيْنِ سَبِيلُ )
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو هفان قال
كتب أبو الأسد وهو من بني حمان إلى موسى بن الضحاك
( لِموسَى أَعْبُدٌ وأنَا أخُوهُ ... وصاحِبه وما لي غيرُ عَبْدِ )
( فلو شاء الإلهُ وشاء موسى ... لآنَسَ جانِبي فَرَجٌ بِسَعْدِ )
قال وفرج غلام كان لأبي الأسد وسعد غلام كان لموسى فبعث إليه موسى بسعد وقاسمه بعده بقية غلمانه فأخذ شطرهم وأعطاه شطرهم
أخبرني محمد الخزاعي قال حدثني العباس بن ميمون طائع قال
هجا أبو الأسد أحمد بن أبي دواد فقال

( أنت امرؤ ٌغَثَّ الصَّنِيعَةِ رَثُّها ... لا تُحْسِنُ النُّعْمَى إلى أمثالي )
( نُعْمَاك لا تَعْدُوكَ إلاَّ في امرئٍ ... في مَسْكِ مِثْلِك من ذَوي الأَشْكَالِ )
( وإذا نظرتَ إلى صَنيعِك لم تَجِدْ ... أَحَداً سَمَوْتَ به إلى الإفْضالِ )
( فاسْلَمْ بغير سَلاَمةٍ تُرْجَى لها ... إلاَّ لِسَدِّكَ خَلَّةَ الأَنْذَالِ )
قال فأدى إليه سلامة وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عائشة هذه الأبيات عن أبي الأسد فبعث إليه ببرد واستكفه وبعث بابن عائشة إلى مظالم ماسبذان وقال له قد شركته في التوبيخ لنا فشركناك في الصفقة فإن كنتما صادقين في دعواكما كنتما من الأنذال وإن كنتما كاذبين فقد جزيتما بالقبيح حسنا

سبب هجائه أحمد بن أبي دواد
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن بن الحرون قال كان سبب هجاء أبي الأسد أحمد بن أبي دواد أنه مدحه فلم يثبه ووعده بالثواب ومطله فكتب إليه
( ليتَك إذ نُبْتَنِي بواحدةٍ ... تُقْنِعُنِي منك آخِرَ الأَبَدِ )
( تَحْلِفُ ألاَّ تَبَرَّني أبداً ... فإنّ ! َ فيها بَرْداً على كَبِدي )
( اشْفِ فُؤادي مِنِّي فإنَّ به ... منِّي جُرْحاً نَكَأْتُه بِيَدِي )
( إنْ كان رِزْقي إليكَ فارْمِ به ... في نَاظِرَيْ حَيَّةٍ على رَصَد )

( قد عشْتُ دهراً وما أقدِّر أنْ ... أرضَى بما قد رَضِيتُ من أحدِ )
( فكيف أخطأتُ لا أَصبتُ ولا ... نَهَضْتُ من عَثْرَةٍ إلى سَدَدِ )
( لو كنتُ حُرّاً كما زعمتُ وقد ... كَدَدْتَنِي بالمِطَالِ لم أَعُدِ )
( صَبَرْتُ لمَّا أسأتَ بي فإذا ... عُدْتُ إلى مِثْلِها فعُدْ وعُدِ )
( فإنَّنِي أهلُ ذاكَ في طَمَعِي ... وفي خَطَائي سبيلَ مُعْتَمِدِ )
( أَبْعَدَنِي اللهُ حين يَحْمِلُني ... حرْصِي على مِثْلِ ذَا من الأَوَدِ )
( الآنَ أيقنتُ بعد فِعْلِكَ بي ... أَنِّيَ عَبْدٌ لأعْبُدٍ قُفُد )
( فصِرْتُ من سُوء ما رُمِيتُ به ... أُكْنَى أبا الكَلْبِ لا أبا الأَسَدِ )
أخبرني علي بن الحسين بن عبد السميع المروزي الوراق قال حدثني عيسى بن إسماعيل تينة عن القحذمي قال
كان أبو الأسد الشاعر واسمه نباتة بن عبد الله الحماني منقطعا إلى الفيض بن صالح وزير المهدي وفيه يقول
( ولائمةٍ لامَتْكَ يا فَيْضُ في النَّدَى ... فقلتُ لها لن يَقْدَحَ اللَّوْمُ في البَحْرِ )
( أرادتْ لِتَنْهَى الفَيْضَ عن عادةِ النَّدَى ... ومَنْ ذا الذي يَثْني السَّحَابَ عن القَطْرِ )
( مَوَاقِعُ جُودِ الفَيْضِ في كلِّ بلدةٍ ... مَوَاقِعُ ماءِ المُزْنِ في البَلَدِ القَفْرِ )
( كأنَّ وُفودَ الفَيْضِ لما تَحَمَّلُوا ... إلى الفيض لاقَوْا عندَه ليلةَ القَدْرِ )
وكان أبو الأسد قبله منقطعا إلى أبي دلف مدة فلما قدم عليه علي بن

جبلة العكوك غلب عليه وسقطت منزلة أبي الأسد عنده فانقطع إلى الفيض بعد عزله عن الوزارة ولزومه منزله وذلك في أيام الرشيد وفيه يقول
( أتيتُ الفَيْضَ مُشْتَكِياً زَمَاني ... فأَعْدَانِي عليهِ جُودُ فَيْضِ )
( وفاضتْ كَفُّهُ بالبَذْلِ منه ... كما كَفُّ ابنِ عيسى ذاتُ غَيْضِ )

مدح حمدون بن إسماعيل وهجاء علي بن المنجم
أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن بن الأعرابي قال
سأل أبو الأسد بعض الكتاب وهو علي بن يحيى المنجم حاجة يسأل فيها بعض الوزراء فلم يفعل
وبلغ حمدون بن إسماعيل الخبر فسأل له فيها مبتدئا ونجزها وأنفذها إليه
فقال أبو الأسد يهجو الرجل الذي كان سأله الحاجة ويمدح حمدون بن إسماعيل
( صُنْعٌ من اللهِ أَنِّيِ كنتُ أَعْرِفكم ... قبلَ اليَسَارِ وأنتمْ في التَّبَابينِ )

( فما مضتْ سَنَةٌ حتَّى رأيتكُمُ ... تَمْشُون في القَزِّ والقُوهِيّ واللِّينِ )
( وفي المَشَارِيق ما زالتْ نساؤكُم ... يَصِحْن تحت الدَّوالي بالوَرَاشِينِ )
( فصرْنَ يَرْفُلْنَ في وَشْي العِرَاقِ وفي ... طَرائِف الخَزِّ من دُكْنٍ وطَارُونِي )
( أُنْسِينَ قَطْعَ الحُلاَوَى من مَعَادِنها ... وحَمْلَهُنَّ كَشُوثاً في الشَّقابين )
( حتى إذا أيسروا قالوا وقدكذبوا ... نحن الشَّهاريجُ أولادُ الدّهاقِين )
( في آسْتِ امِّ ساسانَ أَيْرِي إنْ أقرّبكم ... وأيْرُ بَغْلٍ مُشِظٍّ في آسْتِ شِيرين )
( لو سِيلَ أوْضَعُهُم قَدْراً وأنْذَلُهم ... لقال من فَخْرِه إنِّي ابنُ شُوبِينِ )
( وقال أقطَعني كِسْرَى وَورَّثني ... فَمَنْ يُفَاخِرُني أَمْ مَنْ يُنَاوِيني )

( من ذَا يُخَبِّر كسْرَى وهو في سَقَر ... دعوى النَّبيط وهم بَيْضُ الشياطين )
( وأنهم زعموا أنْ قد ولدتَهُمُ ... كما ادَّعى الضب إني نُطْفةُ النُّونِ )
( فكان يَنْحَزُ جَوْفَ النار واحدةً ... تَفْرِي وتَصْدَعُ خوفاً قلبَ قارون )
( أما تراهم وقد حَطُّوا بَرادِعَهُمْ ... عن أُتْنهمْ واستبدُّوا بالبَرَاذِينِ )
( وأفرجوا عن مَشارات البُقول إلى ... دُورِ المُلوك وأبواب السَّلاطِينِ ) تَغْلي على العُرْب من غَيْظٍ مَرَاجِلُهُمْ ... عداوةً لِرسول الله في الدِّين )
( فقل لهم وهُم أهلٌ لتَزْنِيَةٍ ... شَرَّ الخَلِيقةِ يا بُخْرَ العَثَانِين )
( ما النَّاسُ إلا نِزارٌ في أَرومَتها ... وهاشمٌ سُرْجُها الشُّمُّ العَرَانينِ )
( والحَيُّ من سَلَفَيْ قَحْطَانَ إنَّهمْ ... يُزْرُونَ بالنّبَطِ اللُّكْنِ المَلاَعِين )
( فما على ظهرها خَلْقٌ له حَسَبٌ ... مما يُناسب كِسْرَى غيرُ حَمْدون )

( قَرْمٌ عليه شَهَنْشَاهِيَّةٌ ونَباً ... يُنْبيكَ عن كسرويّ الجَدِّ مَيْمُونِ )
( وإنْ شَكَكْتَ ففي الإيوانِ صُورتُه ... فانْظُرْ إلى حَسَبٍ بادٍ ومخزون )

حجب عن أبي دلف فعاتبه
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر
إن أبا الأسد زار أبا دلف في الكرج فحجب عنه أياما فقال يعاتبه وكتب بها إليه
( ليت شعري أضاقت الأرضُ عَنِّي ... أم بِفَجٍّ أنا الغداةَ طَرِيدُ )
( أم أنا قانعُ بأدنَى مَعَاشٍ ... هِمَّتي القُوتُ والقليلُ الزَّهِيدُ )
( مِقْوَلي قاطعٌ وسيفي حُسَامٌ ... ويَدِي حُرَّةٌ وقلبي شَديدُ )
( رُبَّ بابٍ أعزَّ من بابك اليَوْم ... َ عليه عَسَاكرٌ وجُنودُ )
( قد ولَجْناهُ داخلينَ غُدُوّاً ... ورَوَاحاً وأنت عنه مَذُودُ )
( فاكْفُفِ اليومَ من حِجَابِكَ إذ لستَ ... أميراً ولا خَميساً تَقُودُ )
( واغْتَرب في فَدافِد الصدِّ إذ لست ... ُ أسيراً ولا عليّ قُيُودُ )

( لا يُقيمُ العزيزُ في بلد الهُون ... ولا يُكْبَتُ الأرِيبُ الجَليدُ )
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال أنشدني أبو هفان لأبي الأسد في صديق له يقال له بسطام كان برا به قال وهذا من جيد شعره وقد سرق البحتري معناه منه في شعر مدح به علي بن يحيى المنجم
( أعْدُو على مال بِسْطامٍ فأَنْهَبُهُ ... كما أشاءُ فلا تُثْنَى إليّ يَدِي )
( حتى كأنِّيَ بِسْطامٌ بما احتكمتْ ... فيه يَدايَ وبِسْطامٌ أبو الأَسَد )

رثاؤه إبراهيم الموصلي
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان وأخبرني به يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثنا أبو هفان قال حدثني أبو دعامة قال لما مات إبراهيم الموصلي قيل لأبي الأسد وكان صديقه ألا ترثيه فقال يرثيه
( تَوَلَّى المَوْصِليُّ فقد تَوَلَّتْ ... بَشَاشاتُ المَزَاهِرِ والقِيَانِ )
( وأيُّ مَلاَحةٍ بَقِيَتْ فتَبْقَى ... حياةُ المَوْصِليِّ على الزَّمانِ )
( ستَبْكِيهِ المَزَاهِرُ والمَلاَهي ... ويُسْعِدُهُنَّ عاتقةُ الدِّنان )
( وتَبْكِيهِ الغَوِيَّةُ إذ تَوَلَّى ... ولا تَبْكِيهِ تالية القُرَانِ )
فقيل له ويحك فضحته وقد كان صديقك
فقال هذه فضيحة عند من

لا يعقل أما من يعقل فلا
وبأي شيء كنت أذكره وأرثيه به أبالفقه أم بالزهد أم بالقراءة وهل يرثى إلا بهذا وشبهه

هجاؤه شاهين بن عيسى
قال أبو الفرج نسخت من كتاب لأحمد بن علي بن يحيى أخبرني أبو الفضل الكاتب وهو ابن خالة أبي عمرو الطوسي قال
كنت مقيما بالجبل فمر بي أبو الأسد الشاعر الشيباني فأنزلته عندي أياما وسألته عن خبره فقال صادفت شاهين بن عيسى ابن أخي أبي دلف فما احتبسني ولا برني ولا عرض علي المقام عنده وقد حضرني فيه أبيات فاكتبها ثم أنشدني
( إنيِّ مررتُ بِشاهينٍ وقد نَفَحت ... رِيحُ العَشِيِّ وبَرْدُ الثَّلج يُؤذِينِي )
( فما وَقَى عِرْضَهُ مِنِّي بكُسْوَتِهِ ... لا بل ولا حَسَبٍ دانٍ ولا دِين )
( إن لم يكن لَبَنُ الدَّايَاتِ غَيَّرَه ... عن طبع آبائه الشُّمِّ العَرَانين )
( فرُبَّما غابَ بعلٌ عن حَلِيلته ... فناكها بعضُ سُوَّاسِ البَراَذِين )
( وما تحرَّك أيرٌ فامتلا شَبَقاً ... إلاَّ تَحرَّك عرْقٌ في اسْت شاهين )
ثم قال لأمزقنه كل ممزق ولأصيرن إلى أبي دلف فلأنشدنه
ومضى من فوره يريد ابا دلف فلم يصل إليه حتى بلغ أبا دلف الشعر فشق عليه وغمه
وأتاه أبو الأسد فدخل عليه فسأله عن قصته مع شاهين فأخبره بها فقال هبه لي قال قد فعلت
وأمر له بعشرة آلاف درهم فأمسك عنه

قال أبو الفرج هذا البيت الأخير لبشار كان عرض له فقال
( وما تحرَّك أَيْرٌ فامتلا شَبَقاً ... إلا تحرَّك عِرْقٌ في است )
ثم قال في است من ومر به تسنيم بن الحواري فسلم عليه فقال في است تسنيم والله
فقال له أي شيء ويلك فقال لا تسل
فقال قد سمعت ما أكره فاذكر لي سببه
فأنشده البيت فقال ويلك أي شيء حملك على هذا قال سلامك علي
لا سلم الله عليك ولا علي إن سلمت عليك بعدها وبشار يضحك
وقد مضى هذا الخبر بإسناده في أخبار بشار

صوت
وقد جمع معه كل ما يغنى في هذه القصيدة
( أجِدَّكَ إنْ نُعْمٌ نأتْ أنت جازعُ ... قدِ اقْتربتْ لَوْ أنّ ذلك نافعُ )
( وحَسْبُكَ مِن نأيٍ ثلاثةُ أَشْهُرٍ ... ومن حَزَنٍ أنْ شَاقَ قَلبَك رابعُ )
بكتْ عَيْنُ مَنْ أبكَاك ليس لك البُكى ... ولا تَتَخالجْك الأُمورُ النَّوازِعُ )
( فلا يَسْمَعَنْ سِرَّي وسِرَّك ثالثٌ ... ألا كلُّ سِرٍّ جَاوَزَ اثْنَيْن شائعُ )
( وكيف يَشِيعُ السِّرُّ مِنَّي ودُونَه ... حجابٌ ومن فوق الحِجَابِ الأضَالِعُ )
( كأنَّ فُؤادي بين شِقَّينِ من عَصاً ... حِذَارَ وُقوع البَيْنِ والبَينُ واقعُ )
( وقالت وعيناها تَفِيضانِ عَبْرةً ... بأهلِيَ بَيِّنْ لي مَتَى أنت راجعُ )
( فقلتُ لها بالله يَدْرِي مُسافِرٌ ... إذا أضمرته الأرضُ ما الله صانعُ )
( فشَدَّت على فِيها اللِّثَام وأَعرضتْ ... وأقبلنَ بالكُحْلِ السَّحِيقِ المدامِعُ )

عروضه من الطويل
الشعر لقيس بن الحدادية والغناء لإسحاق في الاول
والثاني من الأبيات خفيف رمل بالوسطى وفي الثالث وما بعده أربعة

أخبار قيس بن الحدادية ونسبه
هو قيس بن منقذ بن عمرو بن عبيد بن ضاطر بن صالح بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة وهو خزاعة بن عمرو وهو مزيقياء بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد وهو رداء ويقال رديني وقد مضى نسبه متقدما والحدادية أمه وهي امرأة من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ثم من قبيلة منهم يقال لهم بنو حداد
شاعر من شعراء الجاهلية وكان فاتكا شجاعا صعلوكا خليعا خلعته خزاعة بسوق عكاظ

وأشهدت على أنفسها بخلعها إياه فلا تحتمل جريرة له ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه

شعره حين أغار على بني قمير
قال أبو الفرج نسخت خبره من كتاب أبي عمرو الشيباني لما خلعت خزاعة بن عمرو وهو مزيقياء بن عامر وهو ماء السماء بن الحارث قيس بن الحدادية كان أكثرهم قولا في ذلك وسعيا قوم منهم يقال لهم بنو قمير بن حبشية بن سلول فجمع لهم قيس شذاذا من العرب وفتاكا من قومه وأغار عليهم بهم وقتل منهم رجلا يقال له ابن عش واستاق أموالهم فلحقه رجل من قومه كان سيدا وكان ضلعه مع قيس فيما جرى عليه من الخلع يقال له ابن محرق فأقسم عليه أن يرد ما استاقه فقال أما ما كان لي ولقومي فقد أبررت قسمك فيه وأما ما اعتورته أيدي هذه الصعاليك فلا حيلة لي فيه فرد سهمه وسهم عشيرته وقال في ذلك
( فاقسم لولا أَسْهَم ابنُ مُحَرِّقٍ ... مع الله ما أكثرتُ عدَّ الأقاربِ )
( تركت ابن عُشٍّ يرفَعونَ برأسه ... يَنُوءُ بساقٍ كعبُها غيرُ راتِبِ )
( وأنهاهُم خلعي على غيرِ ميرةٍ ... من اللحم حتى غُيِّبُوا في الغوائبِ )

وقال أبو عمرو أغار أبو بردة بن هلال بن عويمر أخو بني مالك بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن امرئ القيس على هوازن في بلادها فلقي عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وبني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو عامر وبنو نصر وقتل أبو بردة قيس بن زهير أخا خداش بن زهير الشاعر وسبى نسوة من بني عامر منهن صخرة بنت أسماء بن الضريبة النصرى وامرأتين منهم يقال لهما بيقر وريا ثم انصرفوا راجعين فلما انتهوا إلى هرشى خنقت صخرة نفسها فماتت وقسم أبو بردة السبي والنعم والأموال في كل من كان معه وجعل فيه نصيبا لمن غاب عنها من قومه وفرقه فيهم
ثم أغارت هوازن على بني ليث فأصابوا حيا منهم يقال لهم بنو الملوح بن يعمر بن عوف ورعاء لبني ضاطر بن حبشية فقتلوا منهم رجلا وسبوا منهم سبيا كثيرا واستاقوا أموالهم فقال في ذلك مالك بن عوف النصري

( نحن جَلَبْنَا الخيلَ من بطن لِيَّةٍ ... وجِلدانَ جُرْداً مُنْعَلاتٍ ووُقَّحا )
( فأصبحن قد جاوزن مَرَّا وجُحْفةً ... وجاوزن من أكناف نخلةَ أَبطَحا )
( تلقَّطن ضَيطارِي خُزاعة بعدما ... أَبَرْنَ بصحراء الغميم الملوَّحا )
( قتلناهُم حتى تركنا شريدهُمْ ... نساء وأيتاماً ورَجْلاً مُسَدَّحا )
( فإنَّك لو طالعتهم لحسِبتهم ... بمنعرَج الصَّفراء عِتْرا مُذْبَحا )

شعره حين أغار على هوازن
فلما صنعت هوازن ببني ضاطر ما صنعت جمع قيس بن الحدادية قومه فأغار على جموع هوازن فأصاب سبيا ومالا وقتل يومئذ من بني قشير أبا زيد وعروة وعامرا ومروحا وأصاب أبياتا من كلاب خلوفا واستاق أموالهم

وسبيا ثم انصرف وهو يقول
( نحن جَلَبْنَا الخيلَ قُبّاً بطونُها ... تراها إلى الدَّاعي المَثوّبِِ جُنَّحا )
( بكلّ خُزاعِيٍّ إذا الحربُ شَمَّرتْ ... تسربَلَ فيها بُردَه وتوشَّحا )
( قرعْنا قُشيراً في المحلّ عشِيَّةً ... فلم يجدوا في واسع الأرض مَسْرَحا )
( قَتَلْنَا أبا زيد وزيداً وعامراً ... وعروة أقصدْنَا بها ومُرَوّحا )
( وأُبْنَا بإبْل القومِ تُحدَى ونسوةٍ ... يبكِّين شِلْواً أو أسيراً مُجرَّحا )
( غداةَ سَقينا أرضَهم من دمائهم ... وأُبْنا بِأُدْمٍ كنَّ بالأمس وُضَّحا )
( ورُعْنا كلاباً قبل ذاك بِغارة ... فسُقْنَا جِلاداً في المُبَارَكِ قُرَّحا )
( لقد علمتْ أفناءُ بكر بنِ عامرٍ ... بأنَّا نَذودُ الكاشحَ المتزحزِحا )
( وأنا بلا مَهْرٍ سوى البيض والقَنَا ... نُصيب بأفناء القبائل مَنْكَحَا )

شعره حين أغار على خزاعة وعامر بن الظرب
وقال أبو عمرو وزعموا أن قيس بن عيلان رغبت في البيت وخزاعة يومئذ تليه وطمعوا أن ينزعوه منهم فساروا ومعهم قبائل من العرب ورأّسوا

عليهم عامر بن الظرب العدواني فساروا إلى مكة في جمع لهام فخرجت إليهم خزاعة فاقتتلوا فهزمت قيس ونجا عامر على فرس له جواد فقال قيس بن الحدادية في ذلك
( لقد سُمْتَ نفسكَ يابْنَ الظَّرِبْ ... وجشَّمتهمْ منزلاً قد صَعُبْ )
( وحمَّلتهمْ مركباً باهظاً ... من العِبء إذ سُقتَهم للشَّغَبْ )
( بحربِ خُزاعة أهلِ العُلا ... وأهلِ الثّناءِ وأهلِ الحسبْ )
( هم المانعو البيت والذائدون ... عن الحُرُماتِ جميعَ العربْ )
( نَفَوا جُرْهُماً ونَفَوا بعدهم ... كِنَانَة غَصْباً ببيض القُضُبْ )
( وسُمْرِ الرِّماحِ وجُرْدِ الجياد ... عليها فوارسُ صدقٍ نُجُبْ )
( وهمْ ألحقوا أَسَداً عَنْوَةً ... بأحياء طيٍّ وحازُوا السلَبْ )
( خُزاعةُ قومي فإن أفتخِر ... بهم يَزْكُ مُعتَصَري والنَّسبْ )
( هم الرأس والناس مِن بعدهم ... ذُنابَى وما الرأس مِثْلُ الذَّنَبْ )
( يُواسَى لدى المَحْلِ مولاهُمُ ... وتُكشَف عنه غُموم الكُرَبْ )

0ف - جارُهُم آمنٌ دهرَهُ ... بهمْ أن يُضامَ وأن يُغتَصَبْ )
( يلبُّون في الحرب خوفَ الهجاء ... ويَبرُون أعداءَهم بالحَرَبْ )
( ولو لم ينجِّك من كيدهم ... أمينُ الفُصوص شديدُ العَصَبْ )
( لزرتَ المنايا فلا تكفُرَنْ ... جوادَكَ نُعْماه يابنَ الظَّرِبْ )
( فإنْ يلتقوك يزُرْك الحِمام ... أو تنجُ ثانيةً بالهرب )
قال أبو الفرج هذه القصيدة مصنوعة والشعر بين التوليد
وقال أبو عمرو أغارت هوازن على خزاعة وهم بالمحصب من منى فأوقعوا ببطن منهم يقال لهم بنو العنقاء وبقوم من بني ضاطر فقتلوا منهم عيدا وعوفا وأقرم وغبشان فقال ابن الأحب العدواني يفخر بذلك
( غداةَ التقينا بالمحصَّب من مِنىً ... فلاقت بنو العنقاء إحدى العظائمِ )
( تَرَكْنَا بها عَوْفاً وعَبْداً وأَقرَماً ... وغبشانَ سُؤراً للنُّسور القشاعمِ )
فأجابه قيس بن الحدادية فقال يعيره أن فخر بيوم ليس لقومه
( فخرْت بيوم لم يكن لك فخرُه ... أحاديثُ طَسْمٍ إنما أنت حالمُ )
( تفاخِر قوماً أطردتْك رماحُهُمْ ... أكعبُ بنَ عمرو هل يُجاب البهائمُ )

( فلو شهدت أمُّ الصبيَّين حَمَلنا ... وركْضَهُم لابيضّ منها المَقادِمُ )
( غداةَ تولَّيتُمْ وأدبرَ جمعُكُمْ ... وأُبنا بأَسْراكم كأنَّا ضَراغمُ )
قال أبو عمرو وكان ابن الحدادية أصاب دما في قوم من خزاعة هو وناس من أهل بيته فهربوا فنزلوا في فراس بن غنم ثم لم يلبثوا أن أصابوا أيضا منهم رجلا فهربوا فنزلوا في بجيلة على أسد بن كرز فآواهم وأحسن إلى قيس وتحمل عنهم ما اصابوا في خزاعة وفي فراس فقال قيس بن الحدادية يمدح أسد بن كرز
( لا تعذلينيَ سلمى اليومَ وانتظري ... أن يجمع الله شَملاً طالما افترقَا )
( إن شتّت الدهر شملاً بين جيرتكم ... فطال في نعمةٍ يا سَلْم ما اتفقا )
( وقد حللنا بقَسْرِيٍّ أخي ثقةٍ ... كالبدرِ يجلو دُجى الظلماء والأفقا )
( لا يَجيرُ الناسُ شيئاً هاضَه أسدٌ ... يوماً ولا يَرتُقون الدهرَ ما فَتَقَا )
( كم من ثناءٍ عظيم قد تَدَارَكَهُ ... وقد تفاقَمَ فيه الأمرُ وانخرقا )
قال أبو عمرو وهذه الأبيات من رواية أصحابنا الكوفيين وغيرهم يزعم أنها مصنوعة صنعها حماد الراوية لخالد القسري في أيام ولايته وأنشده إياها فوصله والتوليد بين فيها جدا

شعره حين أغار الضريس على بني ضاطر
وقال أبو عمرو غزا الضريس القشيري بني ضاطر في جماعة من قومه

فثبتوا له وقاتلوه حتى هزموه وانصرف ولم يفز بشيء من أموالهم فقال قيس بن الحدادية في ذلك
( فِدًى لبني قيس وأفناءِ مالكٍ ... لدى الشِّسْعِ من رجلي إلى الفَرْق صاعدا )
( غداة أتى قوم الضريس كأنهم ... قَطا الكُدْرِ من ودّان أَصبَح واردا )
( فلم أر جمعاً كان أكرمَ غالباً ... وأَحمى غلاماً يوم ذلك أطردا )
( رميناهُم بالحُوِّ والكُمْتِ والقَنَا ... وبِيضٍ ِخِفافٍ يختِلين السواعدا )

مدحه عدي بن عمرو وعدي بن نوفل
قال أبو عمرو ولما خلعت خزاعة قيسا تحول عن قومه ونزل عند بطن من خزاعة يقال لهم بنو عدي بن عمرو بن خالد فآووه وأحسنوا إليه وقال يمدحهم
( جزى الله خيراً عن خليع مطرَّدٍ ... رجالاً حَمَوْهُ آل عَمْرو بن خالدِ )
( فليس كمن يغزو الصديق بنَوْكِهِ ... وهمتُه في الغزو كسبُ المَزاوِدِ )
( عليكم بعرْصات الديار فإنني ... سواكم عديدٌ حين تُبْلَى مَشاهدي )

( ألا وَذْتُمُ حتى إذا ما أمِنْتُم ... تعَاوَرْتُمُ سَجْعا كسجع الهداهِدِ )
( تَجَنَّى عليَّ المازنانِ كلاهما ... فلا أنا بالمغصِي ولا بالمساعِدِ )
( وقد حدِبت عمرو عليَّ بعزّها ... وأبنائها من كل أروَعَ ماجدِ )
( مَصاليتُ يومَ الرَّوع كَسْبُهم العُلا ... عِظامُ مَقيل الهامِ شُعْرُ السواعِدِ )
( أولئك إخواني وجُلُّ عشيرتي ... وثروتُهم والنصرُ غيرُ المُحارِدِ )
أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عمي أن خزاعة أغارت على اليمامة فلم يظفروا منها بشيء فهزموا وأسر منهم أسرى فلما كان أوان الحج أخرجهم من أسرهم إلى مكة في الأشهر الحرم ليبتاعهم قومهم فغدوا جميعا إلى الخلصاء وفيهم قيس بن الحدادية فأخرجوهم وحملوهم وجعلوهم في حظيرة ليحرقوهم فمر بهم عدي بن نوفل فاستجاروا به فابتاعهم وأعتقهم فقال قيس يمدحه

( دعوت عديّاً والكُبولُ تَكُبني ... ألا يا عديُّ بن نوفلِ )
( دعوت عدياً والمنايا شوارعٌ ... ألا يا عديّ للأسير المكبَّلِ )
( فما البحر يجري بالسَّفينِ إذا غدا ... بأجوَدَ سَيْبَاً منه في كُلِّ محفلِ )
( تداركت أصحاب الحظيرة بعدما ... أصابهُمُ منّا حريقُ المحلّلِ )
( وأتبعت بين المَشْعَرينِ سِقايَةً ... لحجّاج بيت الله أكرمَ مَنْهِلِ )

شعره حين خرجت بطون من خزاعة لأنهم أجدبوا
قال أبو عمرو وكان قيس بن الحدادية يهوى أم مالك بنت ذؤيب الخزاعي وكانت بطون من خزاعة خرجوا جالين إلى مصر والشام لأنهم أجدبوا حتى إذا كانوا ببعض الطريق رأوا البوارق خلفهم وأدركهم من ذكر لهم كثرة الغيث والمطر وغزارته فرجع عمرو بن عبد مناة في ناس كثير إلى أوطانهم وتقدم قبيصة بن ذؤيب ومعه أخته أم مالك واسمها نعم بنت ذؤيب فمضى فقال قيس بن الحدادية هذه القصيدة التي فيها الغناء المذكور
( أجِدَّكَ إنْ نُعْمٌ نأت أنت جازِعُ ... قد اقتربَتْ لو أن ذلك نافعُ )
( قد اقتربت لو أن في قُرب دارها ... نوالاً ولكن كلُّ من ضَنَّ مانعُ )
( وقد جاوَرَتْنا في شهوِ كثيرة ... فما نَوَّلَتْ واللهُ راءٍ وسامعُ )
( فإنْ تَلْقَيَنْ نعمى هُدِيتَ فحيِّها ... وسل كيف تُرْعَى بالمَغِيبِ الودائعُ )
( وظنِّي بها حفظٌ لِغَيبي ورِعيةٌ ... لِما استُرْعِيَتْ والظن بالغيبِ واسِعُ )
( وقلت لها في السِّرِّ بيني وبينها ... على عجلٍ أيَّانَ مَنْ سارَ راجِعُ )

( فقالت لقاءٌ بعد حَوْل وحِجَّةٍ ... وشَحْطُ النوى إلا لذي العهدِ قاطِعُ )
( وقد يلقى بعد الشَّتات أولو النَّوَى ... ويسترجع الحيَّ السحابُ اللوامِعُ )
( وما إنْ خَذولٌ نازَعَتْ حبلَ حابِلٍ ... لتنجوَ إلا استسلَمَتْ وهي ظالِعُ )
( بأحسنَ منها ذاتَ يوم لقيتُها ... لها نظرٌ نحوي كذي البَثِّ خاشِعُ )
( رأيت لها ناراً تُشَب ودونها ... طويلُ القَرَا من رأس ذَروةَ فارِعُ )
( فقلت لأصحابي اصطَلُوا النار إنها ... قريبٌ فقالوا بل مكانكَ نافِعُ )
( فيا لك من حادٍ حَبوت مقيَّداً ... وأنحى على عِرنينِ أنفِك جادِعُ )
( أغيظاً أرادَتْ أن تُخَبَّ حمالُها ... لتفجَعَ بالإظعانِ مَنْ أنتَ فاجِعُ )
( فما نُطفة بالطَّود أو بِضَرِيّة ... بقية سيلٍ أحرزَتْها الوقائعُ )
( يطيف بها حَرَّانُ صادٍ ولا يرى ... إليها سبيلاً غيرَ أنْ سيطالِعُ )
( بأطيبَ مِنْ فيها إذا جئت طارقاً ... من الليل واخضلَّتْ عليك المَضاجِعُ )

( وحَسْبُكَ من نأيٍ ثلاثةُ أشهرٍ ... ومِن حَزَنٍ أن زادَ شوقَكَ رابِعُ )
( سعى بينهم واشٍ بأفلاق بِرمةٍ ... ليفجَعَ بالاظعانِ مَنْ هو جازِعُ )
( بكت من حديث بَثَّه وأشاعه ... ورصَّفه واشٍ من القومِ راصِعُ )
( بكت عينُ من أبكاكِ لا يعرف البكا ... ولا تتخالجك الأمور النوازِعُ )
( فلا يسمَعْن سرِّي وسرِّك ثالثٌ ... ألاَ كلُّ سرّ جاوَزَ اثنينِ شائِعُ )
( وكيف يَشيع السرُّ منِّي ودونَهُ ... حجاب ومِن دون الحجابِ الأضالِعُ )
( وحِبٌّ لهذا الرَّبع يمضي أمامه ... قليلُ القِلَى منه جليلٌ ورادِعُ )
( لهوتُ به حتى إذا خِفتُ أهلَهُ ... وبيّنَ منه للحبيب المخادِعُ )
( نزعتُ فما سرِّي لأوَّل سائل ... وذو السر ما لم يَحفظ السرَّ ماذعُ )
( وقد يَحمِد اللهُ العزَاءَ من الفتى ... وقد يجمع الأمرَ الشتيتَ الجوامِعُ )
( ألا قد يُسلَّى ذو الهوى عن حبيبه ... فَيَسْلَى وقد تُردِي المطيَّ المطامعُ )
( وما راعني إلاَّ المنادي ألاَ اظعنوا ... وإلا الرواغِي غُدوةً والقعاقعُ )
( فجئت كأني مستضيفٌ وسائل ... لأخبرها كلَّ الذي أنا صانِعُ )
( فقالت تزحزحْ ما بنا كُبْرُ حاجةٍ ... إليك ولا منّا لفقرك راقعُ )

( فما زلتُ تحت السِّتر حتى كأنني ... من الحرِّ ذو طِمْرَيْن في البحر كارِعُ )
( فهزَّت إليّ الرأس مني تعجُّباً ... وعُضِّض مما قد فعلتُ الأصابعُ )
( فأيُّهما من أتبعَنّ فإنني ... حزين على إثر الذي أنا وادعُ )
( بكى من فراق الحيِّ قيسُ بنُ مُنقِذ ... وإذراءُ عيني مثلَهُ الدمعَ شائِعُ )
( بأربعة تنهلُّ لمّا تقدَّمتْ ... بهم طُرُق شتَّى وهن جوامِعُ )
( وما خِلْتُ بينَ الحيِّ حتى رأيتهم ... ببَيْنُونَةَ السفلَى وهبَّت سَوافعُ )
( كأن فؤادي بين شِقَّين من عَصاً ... حِذرا وقوعِ البين والبينُ واقعُ )
( يَحُثُّ بهم حادٍ سريعٌ نَجاؤه ... ومُعْرًى عن الساقين والثوب واسِعُ )
( فقلت لها يا نُعم حُلِّي محلَّنا ... فإن الهوى يا نُعم والعيش جامِعُ )
( فقالت وعيناها تَفيضان عَبْرَةً ... بأهليَ بَيِّنْ لي متى أنت راجِعُ )
( فقلت لها تالله يدري مسافر ... إذا أضمرتْه الأرضُ ما الله صانِعُ )
( فشدَّت على فيها اللثامَ وأعرضَتْ ... وأمعن بالكُحْلِ السَّحيقِ المدامِعُ )
( وإني لِعهد الودِّ راعٍ وإنَّني ... بوصلك ما لم يطوني الموتُ طامِعُ )

قال أبو عمرو فأنشدت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله هذه القصيدة فاستحسنتها وبحضرتها جماعة من الشعراء
فقالت من قدر منكم أن يزيد فيها بيتا واحدا يشبهها ويدخل في معناها فله حلّتى هذه فلم يقدر أحد منهم على ذلك

نسيبه في معشوقته نعم
قال أبو عمرو وقال قيس أيضا يذكر بين الحي وتفرقهم وينسب بنعم
( سقى الله أطلالاً بنعمٍ ترادفت ... بهن النَّوى حتى حَلَلْن المَطاليا )
( فإن كانت الأيام يا أمَّ مالك ... تسلِّيكم عنِّي وتُرضِي الأعاديا )
( فلا يأمنَنْ بعدي امرؤ فجعَ لذَّةٍ ... من العيش أو فجعَ الخطوبِ العَوافيا )
( وبُدِّلت مِن جَدواكِ يا أمَّ مالكٍ ... طوارقَ همٍّ يحتضِرْنَ وِساديا )
( وأصبحت بعد الأنس لابسَ جُبَّةٍ ... أُساقي الكماةَ الدارعين العَواليا )
( فَيَوْمَايَ يومٌ في الحديد مُسربَلاً ... ويوم مع البِيضِ الأوانِسِ لاهيا )
( فلا مدركاً حظّاً لدى أمِّ مالك ... ولا مستريحاً في الحياة فقاضيا )
( خليليّ إن دارت على أمّ مالك ... صُروفُ الليالي فابعثا ليَ ناعيا )

( ولا تتركاني لا لخيرٍ معجَّل ... ولا لبقاءٍ تنظران بقائيا )
( وإن الذي أمَّلْتُ من أمّ مالك ... أشابَ قَذالي واستهامَ فؤاديا )
( فليت المنايا صبَّحتني غُدَيَّةً ... بذَبح ولم أسمع لِبَيْنٍ مناديا )
( نظرتُ ودوني يذبُلٌ وعَمايةٌ ... إلى آل نُعمٍ مَنظراً مُتَنَائِيا )
( شكوتُ إلى الرحمن بُعْدَ مزارها ... وما حمَّلتني وانقطاعَ رجائيا )
( وقلتُ ولم أملكْ أعمرو بن عامر ... لحتفٍ بذات الرَّقْمتين يرى ليا )
( وقد أيقنتْ نفسي عشيَّة فارقوا ... بأسفل وادي الدَّوحِ أن لا تلاقيا )
( إذا ما طواكِ الدهرُ يا أمَّ مالكٍ ... فشأنُ المنايا القاضياتِ وشانيا )
قال أبو عمرو وقد أدخل الناس أبياتا من هذه القصيدة في شعر المجنون

قتل وهو يرتجز
قال أبو عمرو وكان من خبر مقتل قيس بن الحدادية أنه لقي جمعا من مزينة يريدون الغارة على بعض من يجدون منه غرة فقالوا له استأسر

فقال وما ينفعكم مني إذا استأسرت وأنا خليع والله لو أسرتموني ثم طلبتم بي من قومي عنزاً جرباء جدماء ما أعطيتموها فقالوا له استأسر لا أم لك فقال نفسي علي أكرم من ذاك وقاتلهم حتى قتل
وهو يرتجز ويقول
( أنا الذي تَخلعه مواليهْ ... وكلُّهم بعد الصَّفاء قالِيهْ )
( وكلّهم يُقْسم لا يبالِيهْ ... أنا إذا الموت ينوب غاليهْ )
( مختلطٌ أسفلُهُ بعاليهْ ... قد يعلم الفتيان أنِّي صاليهْ )
( إذا الحديد رفعتْ عَواليهْ ... )
وقيل إنه كان يتحدث إلى امرأة من بني سليم فأغاروا عليه وفيهم زوجها فأفلت فنام في ظل وهو لا يخشى الطلب فاتبعوه فوجدوه فقاتلهم فلم يزل يرتجز وهو يقاتلهم حتى قتل

صوت
( صَرمْتنِي ثم لا كلَّمتِني أبداً ... إن كنت خنتُكِ في حال من الحالِ )
( ولا اجترمت الذي فيه خيانتُكم ... ولا جَرَتْ خَطرةٌ منه على بالي )
( فسوِّغيني المُنى كيما أعيشَ بها ... وأَمسِكي البذلَ ما أطلعتِ آمالي )
( أو عجِّلي تَلَفي إن كنتِ قاتلتي ... أو نوِّليني بإحسان وإجمالِ )

الشعر لابن قنبر والغناء ليزيد بن حوراء خفيف رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة وذكر إسحاق أنه لسليم ولم يذكر طريقته

أخبار ابن قنبر ونسبه
هو الحكم بن محمد بن قنبر المازني مازن بني عمرو بن تميم بصري شاعر ظريف من شعراء الدولة الهاشمية وكان يهاجي مسلم بن الوليد الأنصاري مدة ثم غلبه مسلم
هجاؤه مسلم بن الوليد
قال أبو الفرج نسخت من كتاب جدي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه حدثني الحسن بن سعيد قال حدثني منصور بن جهور قال لما تهاجى مسلم بن الوليد وابن قنبر أمسك عنه مسلم بعد أن بسط عليه لسانه فجاء مسلما ابن عم له فقال أيها الرجل إنك عند الناس فوق هذا الرجل في عمود الشعر وقد بعثت عليه لسانك ثم أمسكت عنه فإما أن قاذعته وإما أن سالمته فقال له مسلم إن لنا شيخا وله مسجد يتهجد فيه وله دعوات يدعوها ونحن نسأله أن يجعل بعض دعواته في كفايتنا إياه فأطرق الرجل ساعة ثم قال

( غلَبَ ابن قُنْبُر واللئيم مغلَّب ... لما اتَّقَيْتُ هجاءه بدعاء )
( ما زال يقذف بالهجاء ولذعهِ ... حتى اتقوه بدعوة الآباء )
قال فقال له مسلم والله ما كان ابن قنبر ليبلغ مني هذا فأمسك عني لسانك وتعرف خبره بعد قال فبعث الرجل والله عليه من لسان مسلم ما أسكته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي القسري قال رأيت مسلم بن الوليد والحكم بن قنبر في مسجد الرصافة في يوم جمعة وكل واحد منهما بإزاء صاحبه وكانا يتهاجيان فبدأ مسلم فأنشد قصيدته
( أنا النار في أحجارها مستَكِنَّة ... فإن كنتَ مِمّن يقدحُ النار فاقدحِ )
وتلاه ابن قنبر فأنشد قوله
( وقد كدتَ تهوِي وما قوسي بموتَرةٍ ... فكيف ظنُّكَ بي والقوسُ في الوَتَرِ )
فوثب مسلم وتواخزا وتواثبا حتى حجز الناس بينهما فتفرقا فقال رجل لمسلم وكان يتعصب له ويحك أعجزت عن الرجل حتى واثبته قال أنا وإياه لكما قال الشاعر
( هنيئاً مريئاً أنتَ بالفُحْشِ أبصَرُ ... )
وكان ابن قنبر مستعليا عليه مدة ثم غلبه مسلم بعد ذلك فمن مناقضتهما قول ابن قنبر

( ومِن عَجَبِ الاشياء أنَّ لمسلم ... إليَّ نِزاعاً في الهجاء وما يدري )
( ووالله ما قِيستْ عليَّ جُدُودُهُ ... لدى مَفخَر في الناس قوساً ولا شعري )
ولابن قنبر قوله
( كيف أهجوكَ يا لئيمٌ بِشعْرِي ... أنت عندي فاعلمْ هِجاءَ هجائي )
( يا دعيَّ الأنصارِ بل عبدَها النذلَ ... َ تعرَّضتَ لي لدَرْك الشقاء )

كان شعره يلحن ويغنى
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة عن محمد بن جبير عن الحسين بن محرز المغني المديني قال دخلت يوما على المأمون في يوم نوبتي وهو ينشد
صوت
( فما أقصرَ اسمَ الحبّ يا وَيْحَ ذي الحبّ ... وأعظمَ بلواهُ على العاشقِ الصبِّ )
( يمرّ به لفظُ اللِّسان مشمِّراً ... ويغرَق من ساقاه في لُجَجِ الكربِ )
فلما بصر بي قال تعال يا حسين فجئت فأنشدني البيتين ثم أعادهما علي حتى حفظتهما ثم قال اصنع فيهما لحنا فإن أجدت سررتك فخلوت وصنعت فيهما لحني المشهور وعدت فغنيته إياه فقال أحسنت وشرب عليه بقية يومه وأمر لي بألف دينار والشعر لحكم بن قنبر
أخبرني محمد بن الأزهر قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن

محمد بن سلام قال أنشدني ابن قنبر لنفسه
( ويْلِي على من أطارَ النومَ وامتنعَا ... وزاد قلبي على أوجَاعِهِ وَجَعَا )
( ظبيٌ أغرٌّ ترى في وجهه سُرُجاً ... تُعشِي العيونَ إذا ما نورهُ سطعَا )
( كأنما الشمس في أثوابه بَزَغَتْ ... حُسناً أو البدرُ في أردانِهِ طلعَا )
( فقد نسيتُ الكرى من طُول ما عطِلتْ ... منه الجفونُ وطارت مهجتي قِطَعَا )
قال ابن سلام ثم قال ابن قنبر لقيتني جوار من جواري سليمان بن علي في الطريق الذي بين المربد وقصر أوس فقلن لي أنت الذي تقول
( ويلي على من أطارَ النومَ وامتنعَا ... )
فقلت نعم فقلن أمع هذا الوجه السمج تقول هذا ثم جعلن يجذبنني ويلهون بي حتى أخرجنني من ثيابي فرجعت عاريا إلى منزلي قال وكان حسن اللباس
أخبرني محمد بن الحسين الكندي مؤدبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني عمي قال دخل الحكم بن قنبر على عمي وكان صديقا له فبش به ورفع مجلسه وأظهر له الأنس والسرور ثم قال أنشدني أبياتك التي أقسمت فيها بما في قلبك فأنشده

( وحقِّ الذي في القلب منك فإنه ... عظيم لقد حصَّنت سرَّك في صدري )
( ولكنَّما أفشاه دمعي وربَّما ... أتى المرء ما يخشاه من حيث لا يدري )
( فهب لي ذنوب الدمع إني أظنّه ... بما منه يبدو إنما يَبتغي ضرّي )
( ولو يَبتغي نفعي لخلَّى ضمائري ... يردّ على أسرار مكنونِها ستري )
فقال لي يا بني اكتبها واحفظها ففعلت وحفظتها يومئذ وأنا غلام

اعتراض محمد بن سلام على شعره
أخبرني اليزيدي قال أخبرني عمي عن ابن سلام وأخبرني به أحمد عن ابن عباس العسكري عن القنبري عن محمد بن سلام قال أنشدني ابن قنبر لنفسه قوله
( صرمْتِنِي ثم لا كلّمتِنِي أبدا ... إن كنت خنتُكِ في حالٍ من الحالِ )
( ولا اجترمت الذي فيه خيانتكم ... ولا جرتْ خطرة منه على بالي )
قال فقلت له وأنا أضحك يا هذا لقد بالغت في اليمين
فقال هي عندي كذاك وإن لم تكن عندك كما هي عندي )
قال اليزيدي قال عمي وهو الذي يقول وفيه غناء
صوت
( ليس فيها ما يقال له ... كملتْ لو أنّ ذا كَمَلاَ )
( كلّ جزء من محاسنها ... كائنٌ في فضله مَثَلاَ )

( لو تمنّت في مَلاحتِها ... لم تجد من نفسها بَدَلاَ )
فيه لحن لابن القصار رمل
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال قال لي إبراهيم بن المدبر أتعرف الذي يقول
( إن كُنْتَ لا تَرْهبُ ذَمِّي لما ... تَعرف من صفحي عن الجاهلِ )
( فاخشَ سُكوتي فَطِناً مُنْصِتاً ... فيكَ لتحسين خنا القائلِ )
( مقالةُ السُّوء إلى أهلها ... أسهلُ من منحدر سائِلِ )
( ومن دعا الناسَ إلى ذمِّه ... ذمُّوه بالحقِّ وبالباطلِ )
فقلت هذه للعتابي فقال ما أنشدتها إلا لابن قنبر فقلت له من شاء منهما فليقلها فإنه سرقه من قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة
( وإن أنا لم آمر ولم أنهَ عنكما ... سكتّ له حتى يلجّ ويستشري )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو مسلم يعني محمد بن الجهم قال أطعم رجل من ولد عبد الله بن كريز صديقا له ضيعة فمكثت في يده مدة ثم مات الكريزي فطالب ابنه الرجل بالضيعة فمنعه إياها فاختصما إلى عبيد الله بن الحسن فقيل له ألا تستحي تطالب بشيء إن كنت فيه كاذبا أثمت وإن كنت صادقا فإنما تريد أن تنقض مكرمة

لابيك فقال له ابن الكريزي وكان ساقطا الشحيح أعظم من الظالم أعزك الله فقال له عبيد الله بن الحسن هذا الجواب والله أعز من الخصومة ويحك وهذا موضع هذا القول اللهم اردد على قريش أخطارها ثم أقبل علينا فقال لله در الحكم بن قنبر حيث يقول
( إذا القُرَشيّ لم يُشبِه قريشاً ... بفعلهم الذي بَذَّ الفعالاَ )
( فَجَرْمِيٌّ له خُلُقٌ جميل ... لدى الأقوام أحسنُ منه حالا )

تمثل الرشيد بشعره
أخبرني محمد بن الحسين الكندي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا مسعود بن بشر قال شكا العباس بن محمد إلى الرشيد أن ربيعة الرقي هجاه فقال له قد سمعت ما كان مدحك به وعرفت ثوابك إياه وما قال في ذمك بعد ذلك فما وجدته ظلمك به ولله در ابن قنبر حيث قال
( ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطلِ )
وبعد فقد اشتريت عرضك منه وأمرته بأن لا يعود لذمك تعريضا ولا تصريحا
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا محمد بن سلام قال مرض ابن قنبر فأتوه بخصيب الطبيب يعالجه فقال فيه
( ولقد قلتُ لأهلي ... إذ أَتَوْني بخَصِيبِ )
( ليس والله خصيبُ ... لِلَّذِي بي بطبيبِ )
( إنَّما يَعْرِف دائي ... من به مِثل الّذي بي )

قال وكان خصيب عالما بمرضه فنظر إلى مائه فقال زعم جالينوس أن صاحِب هذه العلة إذا صار ماؤه هكذا لم يعش فقيل له إن جالينوس ربما أخطأ فقال ما كنت إلى خطأه أحوج مني إليه في هذا الوقت
قال ومات من علته

صوت
( خليليَّ من سعد ألمَّا فسلِّما ... على مريمٍ لا يبعد الله مريما )
( وقولا لها هذا الفراق عزمته ... فهل من نوال قبل ذاك فنعلما )
الشعر للأسود بن عمارة النوفلي والغناء لدهمان ثاني ثقيل بالوسطى

أخبار الأسود ونسبه
هو فيما أخبرني به الحرمي بن أبي العلاء والطوسي عن الزبير بن بكار عن عمه الأسود بن عمارة بن الوليد بن عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وكان الأسود شاعرا أيضا
شعره في معشوقته هند
قال الزبير فيما حدثنا به شيخانا المذكوران عنه وحدثني عمي قال كان عمارة بن الوليد النوفلي أبو الأسود بن عمارة شاعرا وهو الذي يقول
صوت
( تلك هندٌ تصُدُّ للبَيْن صدَّا ... أدلالاً أم هندُ تهجُرُ جِدّا )
( أم لِتَنْكَا به قُروحَ فؤادي ... أم أرادت قتلي ضِراراً وعمدا )
( قد براني وشفَّني الوجدُ حتى ... صرتُ مما أَلقَى عظاماً وجِلدا )
( أيها الناصح الأمين رسولاً ... قل لهندٍ عنِّي إذا جئتَ هندا )
( عَلِمَ الله أن قد أوتيتِ مني ... غيرَ منٍّ بذاكِ نصحا وودّا )
( ما تقرَّبتُ بالصفاء لأدنو ... منكِ إلاَّ نأيتِ وازددتِ بعدا )

الغناء لعبادل خفيف رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وفي كتاب حكم الغناء له خفيف رمل وفي كتاب يونس فيه لحن ليونس غير مجنس وفيه ليحيى المكي أو لابنه أحمد بن يحيى ثقيل أول
قال الزبير قال عمي ومن لا يعلم يروى هذا الشعر لعمارة بن الوليد النوفلي قال وكان الأسود يتولى بيت المال بالمدينة وهو القائل
( خليليَّ من سعدٍ أَلِمَّا فسلِّما ... على مريمٍ لا يبعد الله مريما )
( وقولا لها هذا الفراق عزمته ... فهل من نوال قبل ذاك فنعلما )
قال وهو الذي يقول لمحمد بن عبيد الله بن كثير بن الصلت
( ذكرناك شُرْطياً فأصبحت قاضياً ... وصرت أميراً أبشري قحطانُ )
( أرى نَزَواتٍ بينهن تفاوت ... وللدهر أحداث وذا حَدَثَانُ )
( أقيمي بني عمرو بن عوف أو اربَعي ... لكل أناس دولة وزمانُ )
قال وإنما خاطب بني عمرو بن عوف ها هنا لأن الكثيري كان تزوج إليهم وإنما قال أبشري قحطان لأن كثير بن الصلت من كندة حليف لقريش

خبره مع معشوقته مريم
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن سليمان النوفلي أحد بني نوفل بن عبد مناف قال كان أبي يتعشق جارية مولده مغنية لامرأة من أهل المدينة ويقال للجارية مريم فغاب غيبة إلى الشام ثم قدم فنزل في طرف المدينة وحمل متاعه على حمالين وأقبل يريد منزله وليس شيء أحب إليه من صفاء مريم فبينا هو يمشي إذ هو بمولاة مريم قائمة على قارعتها وعيناها تدمعان فساءلها وساءلته فقال للعجوز ما هذه المصيبة التي أصبت بها قالت لم أصب بشيء إلا مبيعي مريم قال وممن بعتها قالت من رجل من أهل العراق وهو على الخروج وإنما ذهبت بها حتى ودعت أهلها فهي تبكي من أجل ذلك وأنا أبكي من أجل فراقها قال الساعة تخرج قالت نعم الساعة تخرج فبقي متبلدا حائرا ثم ارسل عينيه يبكي وودع مريم وانصرف وقال قصيدته التي أولها
( خليليَّ من سعد ألِمَّا فسلِّما ... على مريمٍ لا يُبعِد الله مريَما )
( وقُولاَ لها هذا الفراق عزمته ... فهل من نوال قبل ذاك فنعلما )
قال وهي طويلة وقد غنى بعض أهل الحجاز في هذين البيتين غناء زيانبيا
هكذا قال ابن عمار في خبره
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو العباس أحمد بن مالك اليمامي عن

عبد الله بن محمد البواب قال سألت الخيزران موسى الهادي أن يولي خاله الغطريف اليمن فوعدها بذلك ودافعها به ثم كتبت إليه يوما رقعة تتنجزه فيها أمره فوجه إليها برسولها يقول خيريه بين اليمن وطلاق ابنته أو مقامي عليها ولا أوليه اليمن فأيهما اختار فعلته فدخل الرسول إليها ولم يكن فهم عنه ما قال فأخبرها بغيره ثم خرج إليه فقال تقول لك ولاية اليمن فغضب وطلق ابنته وولاه اليمن ودخل الرسول فأعلمه بذلك فارتفع الصياح من داره فقال ما هذا فقالوا من دار بنت خالك قال أو لم تختر ذلك قالوا لا ولكن الرسول لم يفهم ما قلت فأدى غيره وعجلت بطلاقها ثم ندم ودعا صالحا صاحب المصلى وقال له أقم على رأس كل رجل بحضرتي من الندماء رجلا بسيف فمن لم يطلق امرأته منهم فلتضرب عنقه ففعل ذلك ولم يبرح من حضرته أحد إلا وقد طلق إمرأته قال ابن البواب وخرج الخدم إلي فأخبروني بذلك وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه يراوح بين رجليه فخطر ببالي
( خليليَّ من سعد ألّمَا فسلِّما ... على مريمٍ لا يُبِعد اللهُ مَريَما )
( وقُولاَ لها هذا الفراق عزمِته ... فهل من نوال قبل ذاك فنعلَمَا )
فأنشدته فيعلما بالياء فقال لي فنعلما بالنون فقلت له فما الفرق بينهما فقال إن المعاني تحسن الشعر وتفسده وإنما قال فنعلما ليعلم هو القصة وليس به حاجة إلى أن يعلم الناس سره فقلت أنا أعلم بالشعر منك قال فلمن هو قلت للأسود بن عمارة قال أو تعرفه قلت لا

قال فأنا هو فاعتذرت إليه من مراجعتي إياه ثم عرفته خبر الخليفة فيما فعله فقال أحسن الله عزاءك وانصرف وهو يقول هذا أحق منزل بترك

يسخر من محمد بن عبيد الله حين تولى المدينة
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال كان محمد بن عبيد الله بن كثير بن الصلت على شرطة المدينة ثم ولي القضاء ثم ولاه أبو جعفر المدينة وعزل عبد الصمد بن علي فقال الأسود بن عمارة
( ذكرتك شُرْطياً فأصبحتَ قاضياً ... فصرتَ أميراً أبْشري قَحْطَانُ )
( أرى نَزَواتٍ بينهنَّ تفاوتٌ ... وللدهر أحداث وذا حَدَثَانُ )
( أرى حَدَثاً مِيطانُ منقَطعٌُ له ... ومنقطع مِنْ بعده وَرِقانُ )
( أقيمي بني عمرو بن عوف أو اربَعي ... لكلّ أناس دولةٌ وزمانُ )
صوت
( هل لدهر قد مضى من مَعادٍ ... أو لهمٍّ داخلٍ من نَفادِ )
( أذكرتْني عِيشةً قد توَّلت ... هاتفاتٌ نُحْنَ في بطن وادي )
( هِجْنَ لي شوقاً وألهبْنَ ناراً ... للهوى في مستَقَرِّ الفؤادِ )
( بان أحبابي وغُودرتُ فَرداً ... نُصْبَ ما سَرَّ عيونَ الأعادي )
الشعر لعلي بن الخليل والغناء لمحمد الرف ولحنه خفيف رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة

أخبار علي بن الخليل
هو رجل من أهل الكوفة مولى لمعن بن زائدة الشيباني ويكنى أبا الحسن وكان يعاشر صالح بن عبد القدوس لا يكاد يفارقه فاتهم بالزندقة وأخذ من صالح ثم أطلق لما انكشف أمره
قال محمد بن داود بن الجراح حدثني محمد بن الأزهر عن زياد بن الخطاب عن الرشيد أنه جلس بالرافقة للمظالم فدخل عليه علي بن الخليل وهو متوكئ على عصا وعليه ثياب نظاف وهو جميل الوجه حسن الثياب في يده قصة فلما رآه أمر بأخذ قصته فقال له يا أمير المؤمنين أنا أحسن عبارة لها فإن رأيت أن تأذن لي في قراءتها فعلت
قال إقرأها فاندفع ينشده فيها قصيدته
( يا خير من وَخَدَت بأَرْحُلِه ... نُجُبُ الرِّكابِ بِمَهْمَهٍ جَلْسِ )

فاستحسنها الرشيد وقال له من أنت قال أنا علي بن الخليل الذي يقال فيه إنه زنديق فضحك وقال له أنت آمن وأمر له بخمسة آلاف درهم وخص به بعد ذلك وأكثر مدحه

مدحه الرشيد حين أطلقه من السجن
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال كان الرشيد قد أخذ صالح بن عبد القدوس وعلي بن الخليل في الزندقة وكان علي بن الخليل استأذن أبا نواس في الشعر فأنشده علي بن الخليل
( يا خير من وخدَتْ بأَرْحُلِهِ ... نُجُبٌ تخُبُّ بِمَهْمَهٍ جَلْسِ )
( تَطوِي السباسِبَ في أزمَّتها ... طَيَّ التِّجار عمائمَ البُرْسِ )
( لما رأتك الشمسُ إذ طلعتْ ... كسفتْ بوجهك طلعةُ الشمس )
( خير البرية أنت كلِّهِمُ ... في يومك الغادي وفي أمسِ )
( وكذاك لن تنفكَّ خيرَهُمُ ... تُمسي وتُصبح فوق ما تُمسي )
( لله ما هرون من مَلِك ... بَرِّ السريرة طاهرِ النَّفس )
( ملك عليه لربِّه نِعَمٌ ... تزداد جِدَّتُها على اللُّبسِ )
( تحكي خلافتُه ببهجتها ... أنَقَ السرور صبيحةَ العُرْس )
( من عِترةٍ طابت أَرومَتُهُمْ ... أهلِ العفاف ومنتهى القُدْسِ )

( نُطُقٍ إذا احتُضِرت مجالسُهم ... وعن السفاهة والخنا خُرس )
( إني إليك لجأتُ من هربٍ ... قد كان شرَّدني ومن لَبسِ )
( واخترتُ حكمَك لا أجاوزُهُ ... حتى أوسَّدَ في ثَرَى رَمْسي )
( لما استخرتُ الله في مَهَلٍ ... يَمَّمتُ نحوَكَ رحلةَ العَنْسِ )
( كم قد قطعتُ إليك مُدَّرِعاً ... ليلاً بَهيمَ اللَّونِ كالنَّقسِ )
( إن هاجني من هاجسٍ جزعُ ... كان التوكل عنده تُرسي )
( ما ذاك إلا أنني رجل ... أصبو إلى بَقَر من الإنسِ )
( بقرٍ أوانسَ لا قُرونَ لها ... نُجْلِ العيونِ نواعِمٍ لُعْسِ )
( رَدْعُ العَبيرِ على ترائبها ... يُقبلْن بالترحيب والخلْسِ )
( وأشاهد الفتيان بينهمُ ... صفراءُ عند المَزْجِ كالوَرْسِ )
( للماء في حافاتها حَبَبٌ ... نُظُمٌ كرقْمِ صحائف الفُرْسِ )
( والله يعلم في بقيته ... ما إن أضعْتُ إقامَةَ الخَمْسِ )

فأطلقه الرشيد وقتل صالح بن عبد القدوس واحتج عليه في أنه لا يقبل له توبة بقوله
( والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يُوارَى في ثرى رَمْسِه )
وقال إنما زعمت ألا تترك الزندقة ولا تحول عنها أبدا
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير بن حرب قال كان عافية بن يزيد يصحب ابن علاثة فأدخله علىالمهدي فاستقصاه معه بعسكر المهدي وكانت قصة يعقوب مع أبي عبيد الله كذلك أدخله إلى المهدي ليعرض عليه فغار عليه فقال علي بن الخليل في ذلك
( عجباً لتصريف الأمور ... مسرّةً وكراهيهْ )
( رَثَّتْ ليعقوبَ بن داود ... ٍ حبالُ معاويهْ )
( وعدت على ابن عُلاثَة القاضي ... بوائقُ عافيه )

( أدخلتَه فعَلا عليك ... كذاك شؤمُ الناصيه )
( وأخذتَ حتفكَ جاهداً ... بيمينك المتراخيه )
( يعقوبُ ينظر في الأمور ... وأنت تنظرُ ناحيهْ )

خبر ابن الجهم مع المأمون
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عمرو بن فراس الذهلي عن أبيه قال قال لي محمد بن الجهم البرمكي قال لي المأمون يوما يا محمد أنشدني بيتا من المديح جيدا فاخرا عربيا لمحدث حتى أوليك كورة تختارها
قال قلت قول علي بن الخليل
( فمع السماءِ فروعُ نَبْعتهم ... ومع الحضيض مَنابِتُ الغَرْس )
( متهلِّلين على أسِرَّتهم ... ولدى الهِياج مَصاعبٍ شُمْسِ )
فقال أحسنت وقد وليتك الدينور فأنشدني بيت هجاء على هذه الصفة حتى أوليك كورة أخرى فقلت قول الذي يقول
( قبُحتْ مناظرُهم فحين خَبَرتهم ... حسُنت مناظرُهم لقُبح المَخبَرِ )
فقال قد أحسنت قد وليتك همذان فأنشدني مرثية على هذا حتى أزيدك كورة أخرى فقلت قول الذي يقول
( أرادوا ليُخفوا قبرَه عن عدوِّه ... فطِيبُ تراب القبر دل على القبر )

فقال قد أحسنت قد وليتك نهاوند فأنشدني بيتا من الغزل على هذا الشرط حتى أوليك كورة أخرى فقلت قول الذي يقول
( تعالَيْ نجدِّد دارس العِلم بيننا ... كلانا على طول الجفاء مَلُوم )
فقال قد أحسنت قد جعلت الخيار إليك فاختر فاخترت السوس من كور الأهواز فولاني ذلك أجمع ووجهت إلى السوس بعض أهلي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن التوزي قال نزل أبو دلامة بدهقان يكنى أبا بشر فسقاه شراباً أعجبه فقال في ذلك
( سقاني أبو بشر من الراح شَربةً ... لها لذَّةٌ ما ذُقتها لشراب )
( وما طبخوها غير أنّ غلامهمْ ... سعى في نواحي قرمها بشِهاب )
قال فأنشد علي بن الخليل هذين البيتين فقال أحرقه العبد أحرقه الله

تهنئته ليزيد بن مزيد بمولوده الجديد
أخبرني الحسن بن علي وعمي الحسن بن محمد قالا حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي عن علي بن يزيد قال ولد ليزيد بن مزيد ابن فأتاه علي بن الخليل فقال اسمع أيها الأمير تهنئة بالفارس الوارد فتبسم وقال هات فأنشده

( يزيدُ يابن الصَّيد من وائلٍ ... أهلِ الرياسات وأهلِ المعالْ )
( يا خير من أنجبَه والد ... لِيَهنِك الفارسُ ليث النزالْ )
( جاءت به غَرَّاءُ ميمونة ... والسعد يبدو في طلوع الهلالْ )
( عليه من مَعْن ومن وائلٍ ... سِيمَا تباشيرٍ وسيمَا جَلال )
( والله يُبقيه لنا سيّداً ... مدافِعاً عنَّا صُروفَ اللَّيالْ )
( حتى نراه قد علا مِنبراً ... وفاض في سُؤاله بالنوال )
( وسَدَّ ثَغْراً فكفى شرَّه ... وقارَعَ الأبطالَ تحت العَوالْ )
( كما كفانا ذاك آباؤه ... فَيحتذِي أفعالَهمْ عن مِثال )
فأمر له عن كل بيت بألف دينار

المهدي يذكره بشعره في الخمر
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني ابن الأعرابي المنجم الشيباني عن علي بن عمرو الأنصاري قال دخل علي بن الخليل على المهدي فقال له يا علي أنت على معاقرتك الخمر وشربك لها قال لا والله يا أمير المؤمنين قال وكيف ذاك قال تبت منها قال فأين قولك
( أُولِعتْ نفسي بلذّتها ... ما ترى عن ذاك إقصارا )
وأين قولك
( إذا ما كنتَ شارِبَها فسِرّاً ... ودع قولَ العواذل واللَّواحي )

قال هذا شيء قلته في شبابي وأنا القائل بعد ذلك
( على اللَّذَّات والراحِ السلامُ ... تقضَّى العهدُ وانقطع الذِّمامُ )
( مضى عهد الصِّبا وخرجتُ منه ... كما مِن غِمده خرج الحسامُ )
( وقُرتُ على المَشيب فليس منِّي ... وصالُ الغانيات ولا المُدام )
( ووَلَّى اللهوُ والقَيْناتُ عنِّي ... كما ولَّى عن الصبح الظلامُ )
( حلبْتُ الدهرَ أَشطُرَه فعندي ... لصَرف الدهرِ محمودٌ وذَامُ )
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون عن علي بن عبيدة الشيباني قال دخل علي بن الخليل ذات يوم إلى معن بن زائدة فحادثه وناشده ثم قال له معن هل لك في الطعام قال إذا نشط الأمير فأتيا بالطعام فأكلا ثم قال هل لك في الشراب قال إن سقيتني ما أريد شربت وإن سقيتني من شرابك فلا حاجة لي فيه فضحك ثم قال قد عرفت الذي تريد وأنا أسقيك منه فأتي بشراب عتيق فلما شرب منه وطابت نفسه أنشأ يقول
( يا صاحِ قد أنعمتَ إصباحي ... ببارد السَّلسال والراحِ )
( قد دارت الكأسُ برَقْراقةٍ ... حياةِ أبدانٍ وأرواح )
( تجري على أغيَدَ ذي رَونقٍ ... مهذَّب الأخلاق جَحْجاح )
( ليس بفحّاش على صاحب ... ولا على الراح بفَضَّاح )

( تسرّه الكأسُ إذا أقبلت ... بريح أُترُجٍّ وتُفَّاح )
( يَسعَى بها أزهر في قُرْطَق ... مقلَّد الجِيد بأوضاح )
( كأنها الزَّهرة في كفِّه ... أو شُعلة في ضوءِ مصباحِ )

هجا صديقا له من الدهاقين لأنه تعالى عليه
حدثنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان لعلي بن الخليل الكوفي صديق من الدهاقين يعاشره ويبره فغاب عنه مدة طويلة وعاد إلى الكوفة وقد أصاب مالا ورفعة وقويت حاله فادعى أنه من بني تميم فجاءه علي بن الخليل فلم يأذن له ولقيه فلم يسلم عليه فقال يهجوه
( يَرُوح بِنِسبة المَوْلَى ... ويصبح يَدَّعي العَرَبا )
( فلا هذا ولا هذاك ... يدركُه إذا طَلبا )
( أتيناه بشَبُّوطٍ ... ترى في ظهره حَدَبا )
( فقال أمَا لبخلك من ... طعامٍ يُذهب السَّغَبا )
( فصد لأخيك يَرْبُوعاً ... وضَبّاً واترك اللعبا )
( فَرشتُ له قَريح المسك ... والنِّسرينَ والغَرَبا )
( فأمسَكَ أنفَه عنها ... وقام مولِّياً هَربا )

( يشمُّ الشّيِحَ والقَيْصومَ ... كي يستوجبَ النسبا )
( وقام إليه ساقينا ... بكأسٍ تَنظِم الحبَبا )
( معتَّقةٍ مروَّقةٍ ... تسلِّى همَّ من شرِبا )
( فآلَى لا يُسلْسِلها ... وقال اصبُبْ لنا حَلَبا )
( وقد ابصرتُه دهراً ... طويلاً يشتهي الأدبا )
( فصار تشبُّهاً بالقوم ... جِلفاً جافياً جَشِبا )
( إذا ذُكر البَرِيرُ بكى ... وأبدَى الشوقَ والطَّرَبَا )
( وليس ضميرُه في القوم ... م إلاَّ التِّينَ والعنبا )
( جحدت أباك نسبتَه ... وأرجو أن تفيد أبا )
قال علي بن سليمان وأنشدني محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى جميعا لعلي بن الخليل في هذا الذكر وذكر ثعلب أن إسحاق بن إبراهيم أنشد هذه الأبيات لعلي قال
( يا أيُّها الراغب عن أصله ... ما كنتَ في موضع تهجينِ )
( متى تعرَّبتَ وكنت امرأً ... من الموالي صالحَ الدِّينِ )
( لو كنتَ إذ صرتَ إلى دعوة ... فزتَ من القوم بتمكينِ )
( لكَفَّ من وجدي ولكنني ... أراك بين الضَّبِّ والنُّونِ )

( فلو تراه صارفاً أنفَه ... من ريح خِيريٍّ ونِسرينِ )
( لقلتَ جِلفٌ من بني دارمٍ ... حَنَّ إلى الشِّيح بِيَبْرِين )
( دُعْموصُ رمل زَلَّ عن صخرةٍ ... يعاف أرواحَ البساتين )
( تنبو عن الناعم أعطافُه ... والخَزِّ والسِّنجابِ واللِّينِ )
أخبرني جحظة ومحمد بن مزيد جميعا قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان علي بن الخليل جالسا مع بعض ولد المنصور وكان الفتى يهوى جارية لعتبة مولاة المهدي فمرت به عتبة في موكبها والجارية معها فوقفت عليه وسلمت وسألت عن خبره فلم يوفها حق الجواب لشغل قلبه بالجارية فلما انصرفت أقبل عليه علي بن الخليل فقال له
( راقِب بطَرْفك مَن تخاف ... إذا نظرت إلى الخليلِ )
( فإذا أمِنتَ لِحاظَهمْ ... فعليك بالنظر الجميل )
( إن العيون تَدُلّ بالنظر ... المليح على الدَّخِيل )
( إمَّا على حبٍّ شديدٍ ... أوعلى بُغضٍ أصيل )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال كان علي بن الخليل يصحب بعض ولد جعفر بن المنصور فكتب إليه

والبة بن الحباب يدعوه ويسأله ألا يشتغل بالهاشمي يومه ذلك عنه ويصف له طيب مجلسه وغناء حصله وغلاما دعاه فكتب إليه علي بن الخليل
( أمَا ولحَاظِ جارية ... تُذيب حُشاشةِ المُهَجِ )
( وسحر جفونها المُضْنيك ... بين الفَتْر والدَّعَج )
( مليحةُ كلِّ شيء ما ... خلا من خُلْقها السَّمِج )
( وحُرْمةِ دَنِّك المبزول ... ِ والصهباءُ منه تجي )
( كأنَّ مجيئها في الكأس ... حين تُصَبُّ من وَدَج )
( لو انعرج الأنام إلى ... بشاشة مجلسٍ بَهِج )
( وكنت بجانب جدْبٍ ... لكان إليك مُنعرَجي )
وصار إليه في إثر الرقعة

أخبار محمد الزف
هو محمد بن عمرو مولى بني تميم كوفي الأصل والمولد والمنشأ والزف لقب غلب عليه وكان مغنيا ضاربا طيب المسموع صالح الصنعة مليح النادرة أسرع خلق الله أخذا للغناء وأصحهم أداء له وأذكاهم إذا سمع الصوت مرتين أو ثلاثا أداه لا يكون بينه وبين من أخذه عنه فرق وكان يتعصب على ابن جامع ويميل إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق فكانا يرفعان منه ويقدمانه ويجتلبان له الرفد والصلات من الخلفاء وكانت فيه عربدة إذا سكر فعربد بحضرة الرشيد مرة فأمر بإخراجه ومنعه من الوصول إليه وجفاه وتناساه وأحسبه مات في خلافته أو في خلافة الأمين
أمثلة على قوة حفظه
أخبرني بذلك ذكاء وجه الرزة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل
أخبرني ابن جعفر جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال غنى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد

صوت
( جَسورٌ على هجري جبانٌ على وصلي ... كَذوب غدا يستتبع الوعد بالمطلِ )
( مقدِّم رِجل في الوصال مؤخِّر ... لأخرى يشوب الجِدّ في ذاك بالهزل )
( يهمّ بنا حتى إذا قلتُ قد دنا ... وجاد ثَنى عِطفاً ومال إلى البخلِ )
( يزيد امتناعاً كلَّما زِدت صبوةً ... وأزداد حرصاً كلَّما ضنَّ بالبذل )
فأحسن فيه ما شاء وأجمل فغمزت عليه محمدا الزف وفطن لما أردت واستحسنه الرشيد وشرب عليه واستعاده مرتين أو ثلاثا ثم قمت للصلاة وغمزت الزف وجاءني وأومأت إلى مخارق وعلويه وعقيد فجاؤوني فأمرته بإعادة الصوت فأعاده وأداه كأنه لم يزل يرويه فلم يزل يكرره على الجماعة حتى غنوه ودار لهم ثم عدت إلى المجلس فلما انتهى الدور إلي بدأت فغنيته قبل كل شيء غنيته فنظر إلي ابن جامع محددا نظره وأقبل علي الرشيد فقال أكنت تروي هذا الصوت فقلت نعم يا سيدي فقال ابن جامع كذب والله ما أخذه إلا مني الساعة فقلت هذا صوت أرويه قديما وما فيمن حضر أحد إلا وقد أخذه مني وأقبلت عليه فغناه علويه ثم عقيد ثم مخارق فوثب ابن جامع فجلس بين يديه وحلف بحياته وبطلاق امرأته أن اللحن صنعه منذ ثلاث ليال ما سمع منه قبل ذلك الوقت فأقبل علي فقال بحياتي اصدقني عن القصة فصدقته فجعل يضحك ويصفق ويقول لكل شيء آفة وآفة ابن جامع الزف

لحن هذا الصوت خفيف ثقيل أول بالبنصر والصنعة لابن جامع من رواية الهشامي وغيره
قال أبو الفرج وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن حمّاد عن أبيه بخلاف هذه الرواية فقال فيه قال محمد الزف أروى خلق الله للغناء وأسرعهم أخذا لما سمعه منه ليست عليه في ذلك كلفة وإنما يسمع الصوت مرة واحدة وقد أخذه وكنا معه في بلاء إذا حضر فكان من غنى منا صوتا فسأله عدو له أو صديق أن يلقيه عليه فبخل ومنعه إياه سأل محمدا الزف أن يأخذه فما هو إلا أن يسمعه مرة واحدة حتى قد أخذه وألقاه على من سأله فكان أبي يبره ويصله ويجديه من كل جائزة وفائدة تصل إليه فكان غناؤه عنده حمى مصونا لا يقربه ولم يكن طيب المسموع ولكنه كان أطيب الناس نادرة وأملحهم مجلسا وكان مغرى بابن جامع خاصة من بين المغنين لبخله فكان لا يفتح ابن جامع فاه بصوت إلا وضع عينه عليه وأصغى سمعه إليه حتى يحكيه وكان في ابن جامع بخل شديد لا يقدر معه على أن يسعفه ببر ورفد فغنى يوما بحضرة الرشيد

غناء لابن جامع بحضرة الرشيد
صوت
( أرسلت تُقرئ السلامَ الرَّبابُ ... في كتابٍ وقد أتانا الكتابُ )
( فيه لو زُرتَنا لزرناك ليلاً ... بمِنىً حيث تستقلّ الركاب )
( فأجبتُ الرَّباب قد زرت لكن ... ليَ منكم دون الحجاب حجاب )
( إنما دهرك العتاب وذمّي ... ليس يُبقي على المحبّ عتابُ )

ولحنه من الثقيل الأول فأحسن فيه ما شاء ونظرت إلى الزف فغمزته وقمت إلى الخلاء فإذا هو قد جاءني فقلت له أي شيء عملت فقال قد فرغت لك منه قلت هاته فرده علي ثلاث مرات وأخذته وعدت إلى مجلسي وغمزت عليه عقيدا ومخارقا فقاما وتبعهما فألقاه عليهما وابن جامع لا يعرف الخبر فلما عاد إلى المجلس أومأت إليهما أسألهما عنه فعرفاني أنهما قد أخذاه فلما بلغ الدور إلي كان الصوت أول شيء غنيته فحدد الرشيد نظره إلي ومات ابن جامع وسقط في يده فقال لي الرشيد من أين لك هذا قلت أنا أرويه قديما وقد أخذه عني مخارق وعقيد فقال غنياه فغنياه فوثب ابن جامع فجلس بين يديه ثم حلف بالطلاق ثلاثا بأنه صنعه في ليلته الماضية ما سبق إليه ابن جامع أحد فنظر الرشيد إلي فغمزته بعيني أنه صدق وجد الرشيد في العبث به بقية يومه ثم سألني بعد ذلك عن الخبر فصدقته عنه وعن الزف فجعل يضحك ويقول لكل شيء آفة وآفة ابن جامع الزف قال حماد وللزف صنعة يسيرة جيدة منها في الرمل الثاني
صوت
لمن الظعائن سيرُهنَّ تزحُّفُ ... عَوْمَ السَّفينِ إذا تَقَاذَفَ مِجذَفُ )
( مرَّت بذي حُسُمٍ كأنَّ حُمولَها ... نخل بيثربَ طلعُها متزحِّف )
( فلئن أصابتْني الحروب لربَّما ... أُدعَى إذا مُنع الرِّدافُ فأردف )

( فأثير غاراتٍ وأشهد مَشْهَداً ... قلبُ الجبان به يَطيش فَيرجُف )
قال ومن مشهور صنعته في هذه الطريقة

صوت
( إذا شئت غنَّتني بأجراع بِيشةٍ ... أو النخل من تَثْليثَ أو من يَلَمْلَمَا )
( مطوَّقةٌ طَوْقاً وليس بِحلْيةٍ ... ولا ضربَ صوَّاغٍ بكفّيه دِرهما )
( تُبكِّي على فرخٍ لها ثم تَغتدي ... مدلَّهةً تَبغِي له الدهرَ مَطعمَا )
( تؤمل منه مؤنِساً لانفرادها ... وتبكي عليه إن زَقَا أو ترنما )
ومن صنعته في هذه الطريقة
صوت
( يا زائرَيْنا من الخيامِ ... حيَّاكما الله بالسلامِ )
( يَحزُنني أن أطعتُماني ... ولَم تَنالاَ سوى الكلام )
( بُورِك هارونُ من إمامٍ ... بطاعة الله ذي اعتصامِ )
( له إلى ذي الجلال قُربَى ... ليست لعدل ولا إمام ) وله في هذ الطريقة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45