كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
ثم وصف حال المقربين بقوله { على سرر موضونة } قال المفسرون : أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت وقد دوخل بعضها في بعض كما توضن حلق الدرع أي استقروا على السرر { متكئين } وقوله { ولدان مخلدون } أي غلمان لا يهرمون ولا يغيرون قال الفراء : والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط إنه لمخلد . قال : ويقال مخلدون مقرطون من الخلدة وهو القرط . وقيل : هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ، ولا سيئات فيعاقبوا عليها . قال جار الله : روي هذا عن علي رضي الله عنه . والحسن قال الحديث « أولاد الكفار خدام أهل الجنة » والأكواب الأقداح المستديرة الأفواه ولا آذان لها ولا عري ، والأباريق ذوات الخراطيم الواحد إبريق وهو الذي يبرق لونه من صفائه . والباقي مفسر في « الصافات » إلى قوله { مما يتخيرون } أي يختارون تخيرت الشيء أخذت خيره ، قال ابن عباس : يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلاً بين يديه على ما اشتهى . ومن قرأ { وحور عين } بالرفع فمعناه ولهم أو عندهم حور . ومن خفضهما فعلى العطف المعنوي أي يكرمون أو يتنعمون بأكواب وبكذا وكذا . والكاف في قوله { كأمثال } للمبالغة في التشبيه . قوله { جزاء } مفعول له أي يفعل بهم ذلك لأجل الجزاء . قوله { ولا تأثيماً } أي لا يقول بعضهم لبعض أثمت لأنهم لا يتكلمون بما فيه إثم . وانتصب { سلاماً } على البدل من { قليلاً } أو على أنه مفعول به أي لا يسمعون يها إلا أن يقولوا سلاماً عقيبه سلام . ثم عجب من شأن أصحاب اليمين . والسدر شجر النبق والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه . وقال مجاهد : هو من خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب كأنه من كثرة ثمره ثنى أغصانه والطلح شجر الموز أو أم غيلان كثير النور طيب الرائحة وعن السدي : شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل . وفي الكشاف أن علياً عليه السلام أنكره وقال : ما شأن الطلح إنما هو طلع وقرأ قوله { لها طلع نضيد } فقيل : أو نحولها؟ قال : آي القرآن لا تهاج اليوم ولا تحول قال : وعن ابن عباس نحوه . قلت : وفي هذه الرواية نظر لا يخفى . والمنضود الذي نضد بالحمل من أوله إلى آخره فليست له ساق بارزة { وظل ممدود } أي ممتد منبسط كظلي الطلوع والغروب لا يتقلص . ويحتمل أن يراد أنه دائم باقٍ لا يزول ولا تنسخه الشمس ، والعرب تقول لكل شيء طويل لا ينقطع إنه ممدود .
والمسكوب المصبوب يسكب لهم أين شاؤا وكيف شاؤا ، أو يسكبه الله في مجاريه من غير انقطاع ، أو أراد أنه يجري على الأرض في خير أخدود { لا مقطوعة } في بعض الأوقات { ولا ممنوعة } عن طالبيها بنحو حظيرة أو لبذل ثمن كما هو شأن البساتين والفواكه في الدنيا { مرفوعة } أي نضدت حتى ارتفعت أو مرفوعة على الأسرة قاله علي رضي الله عنه . وقيل : هي النساء المرفوعة على الأرائك . والمرأة يكنى عنها بالفراش يدل على هذا قوله { إنا أنشأناهن } وعلى التفسير الأول جعل ذكر الفرش وهي المضاجع دليلاً عليهن . ومعنى الإنشاء أنه ابتدأ خلقهن من غير ولادة أو أعاد خلقهن إنشاء . روى الضحاك عن ابن عباس أنهن نساؤنا العجز الشمط يخلقهن الله بعد الكبر والهرم { أبكاراً عرباً } جمع عروب وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل { أتراباً } مستويات في السن بنات ثلاث وثلاثين كأزواجهن كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكاراً من غير وجع . وقوله { لأصحاب اليمين } متعلق بأنشأنا وجعلنا . ثم عجب من أصحاب الشمال . ومعنى { في سموم } في حر نار ينفذ في المسام . والحميم الماء الكثير الحرارة . واليحموم الدخان الأسود « يفعول » من الأحم وهو الأسود . ثم نعت الظل بأنه حار ضار لا منفعة فيه ولا روح لمن يأوي إليه . قال ابن عباس : لا بارد المدخل ولا كريم المنظر . قال الفراء : العرب تجعل الكريم تابعاً لكل شيء ينوي به المدح في الإثبات أو الذم في النفي تقول : هو سمين كريم وما هذه الدار بواسعة ولا بكريمة . ثم ذكر أعمالهم الموجبة لهذا العقاب فقال { إنهم كانوا قبل ذلك } أي في الدنيا { مترفين } متنعمين متكبرين عن التوحيد والطاعة والإخلاص { وكانوا يصرون على الحنث } وهو الذنب الكبير ووصفه بالعظم مبالغة على مبالغة تقول : بلغ الغلام الخنث أي الحلم ووقت المؤاخذة بالمآثم وحنث في يمينه خلاف بر فيها . وخص جمع من المفسرين فقالوا . أعني به الشرك . وعن الشعبي : هو اليمين الغموس وذلك أنهم كانوا يحلفون أنهم لا يبعثون يدل عليه ما بعده وقد مر مثله في « الصافات » . واعلم أنه سبحانه ذكر في تفصيل الأزواج الثلاثة نسقاً عجيباً وأسلوباً غريباً . وذلك أنه لم يورد في التفصيل إلا ذكر صنفين . أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . ثم بعدما عجب منهما بين حال الثلاثة السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فأقول وبالله التوفيق : هذا كلام موجز معجز فيه لطائف خلت التفاسير عنها منها : أنه طوى ذكر السابقين في أصحاب الميمنة لأن كلاً من السابقين ومن أصحاب اليمين أصحاب اليمن والبركة كما أن أصحاب الشمال أهل الشؤم والنكد ، وكأن في هذا الطي إشارة إلى الحديث القدسي
« أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري » ومنها أن ذكر السابقين وقع في الوسط باعتبار وخير الأمور أوسطها ، وفي الأول باعتبار والأشراف بالتقديم أولى ، وفي الآخر باعتبار ليكون إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم « نحن الآخرون السابقون » ومنها أن مفهوم السابق متعلق بمسبوق ، فما لم يعرف ذات المسبوق لم يحسن ذكر السابق من حيث هو سابق . فهذا ما سنح للخاطر وسمح به والله تعالى أعلم بمراده .
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقرر لهم ما شكوا فيه فقال { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات } أي ينتهي أمر جميعهم إلى وقت { يوم معلوم } عند الله وفيه رجوع إلى أول السورة . ولما كرر ذكر المعاد بعبارات شتى ذكر طرفاً من حال المكذبين المعاصرين ومن ضاهاهم فقال { ثم إنكم أيها الضالون } عن الهدى { المكذبون } بالبعث { لآكلون } أي في السموم المذكور { من شجر } هو للابتداء { من زقوم } هو للبيان { فمالئون منها البطون } آنت الضمير بتأويل الشجرة قال جار الله : عطف الشاربين على الشاربين لاختلافهما اعتباراً وذلك أن شرب الماء المتناهي الحرارة عجيب وشربه كشرب الهيم أعجب . والهيم الإبل التي بها الهيام وإذا شربت فلا تروى واحدها أهيم والمؤنث هيماء وزنه « فعل » كبيض . وجوز أن يكون جمع الهيام بفتح الهاء وهو الرمل الذي لا يتماسك كسحاب وسحب . ثم خفف وفعل به ما فعل بنحو جمع أبيض والمعنى أنه يسلط عليهم الجوع حتى يضطروا إلى أكل الزقوم . ثم يسلط عليهم العطش إلى أن يضطروا إلى شرب الحمم كالإبل الهيم { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } بالبعث بعد الخلق فإن من قدر على البدء كان على الإعادة أقدر . ثم برهن أنه لا خالق إلا هو فقال { أفرأيتم ما تمنون } أي تقذفونه في الأرحام . يقال : أمنى النطفة ومناها وقد مر في قوله { من نطفة إذا تمنى } [ النحم : 46 ] { أءنتم تخلقونه } تقدّرونه وتصورونه . ووجه الاستدلال أن المني إنما يحصل من فضلة الهضم الرابع وهو كالطل المنبث في جميع الأعضاء ولهذا تشترك كل الأعضاء في لذة الوقاع ويجب اغتسال كلها لحصول الانحلال عنها جميعاً . فالذي قدر على جمع تلك الأغذية في بدن الإنسان ثم على جمع تلك الأجزاء الطلية في أوعيتها ثم على تمكينها في الرحم إلى أن تتكون إنساناً كاملاً يقدر على جمعها بعد تفريقها بالموت المقدر بينهم بحيث لا يفوته شيء منها وإلى هذا أشار بقوله { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل } أي نحن قادرون على ذلك لا يغلبنا عليه أحد . يقال : سبقته على الشيء إذا أعجزته عنه وغلبته عليه . والأمثال جمع المثل أي على أن نبدل مكانكم أشباهكم من الخلق و { فيما لا تعلمون } أي في خلق ما لا تعلمونها وما عهدتم بمثلها ، يريد بيان قدرته على إنشائنا في جملة خلق تماثلنا أو خلق لا تماثلنا .
وجوز جار الله أن يكون جمع مثل بفتحتين والمعنى إنا قادرون على تغيير صفاتكم التي أنتم عليها وإنشاء صفات لا تعلمونها . ثم ذكرهم النشأة الأولى ليكون تذكيراً بعد تذكير فقال { ولقد علمتم } الآية . ثم دل على كمال عنايته ورحمته ببريته مع دليل آخر على قدرته قائلاً { أفرأيتم ما تحرثون } من الطعام أي تبذرون حبه { أءنتم تزرعونه } أي تجعلونه بحيث يكون نباتاً كاملاً يستحق اسم الزرع . وفي الكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يقولن أحد زرعت وليقل حرثت » والحطام ما تحطم وتكسر من الحشيش اليابس . وقوله { فظلتم } أصله فظللتم حذفت إحدى اللامين للتخفيف وهو مما جاء مستعملاً غير مقس عليه . ومعنى { تفكهون } تعجبون كأنه تكلف الفكاهة . وعن الحسن : تندمون على الإنفاق عليه التعب فيه أو على المعاصي التي تكون سبباً لذلك . من قرأ { أنا } بالخبر فواضح ويحسن تقدير القول أو لا بد منه ، ومن قرأ بالاستفهام فللتعجب ولا بد من تقدير القول أيضاً . ومعنى { لمغرمون } لمهلكون من الغرام الهلاك لهلاك الرزق ، أو من الغرامة أي لملزمون غرامة ما أنفقنا { بل نحن } قوم { محرومون } لا حظ لنا ولو كنا مجدودين لما جرى علينا ما جرى ورفضوا العجب من حالهم ، ثم أسندوا ذلك إلى ما كتب عليهم في الأزل من الإدبار وسوء القضاء نعوذ الله منهما . ثم ذكر دليلاً آخر مع كونه نعمة أخرى وهو إنزال الماء من المزن وهو السحاب الأبيض خاصة . والأجاج الماء الملح اكتفى باللام الأولى في جواب « لو » عن إشاعة الثانية وهي ثابتة في المعنى لأن « لو » شرطية غير واضحة ليس إلا أن الثاني امتنع لامتناع الأول وهذا أمر وهمي فاحتيج في الربط إلى اللام التوكيدي . ويمكن أن يقال : إن المطعوم مقدم على أمر المشروب والوعيد بفقده أشد وأصعب فلهذا خصت آية المطعوم باللام المفيدة للتأكيد . وإنما ختم الآية بقوله { فلولا تشكرون } لأنه وصف الماء بقوله { الذي تشربون } ولم يصف المطعوم بالأكل أو لأنه قال { أءنتم أنزلتموه من المزن } وهذا لا عمل للآدمي فيه أصلاً بخلاف الحرث أو لأن الشرب من تمام الأكل فيعود الشكر إلى النعمتين جميعاً ثم عد نعمة أخرى من قبيل ما مر . ومعنى { تورون } تقدحونها وتستخرجونها من الشجر وقد سبق ذكرها في آخر « يس » .
وأعلم أنه سبحانه بدأ في هذه الدلائل بذكر خلق الإنسان لأن النعمة فيه سابقة على جميع النعم . ثم أعقبه بذكر ما فيه قوام الناس وقيام معايشهم وهو الحب ، ثم أتبعه الماء الذي به يتم العجين ، ثم ختم بالنار التي بها يحصل الخبز ، وذكر عقيب كل واحد ما يأتي عليه ويفسده فقال في الأولى { نحن قدرنا بينكم الموت } وفي الثانية { لو نشاء لجعلناه حطاماً } وفي الثالثة { لو نشاء جعلناه أجاجاً } ولم يقل في الرابعة ما يفسدها بل قال { نحن جعلناها تذكرة } تتعظون بها ولا تنسون نار جهنم كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
« ناركم هذه التي يوقدها بنو آدم جزء من سبعين جزءاً من جهنم » { ومتاعاً } وسبب تمتع ومنفعة { للمقوين } للذين ينزلون القواء وهي القفر أو للذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام في السفر من أقوى الرجل إذا لم يأكل شيئاً من أيام . وفي نسق هذه الآيات بشارة للمؤمنين وذلك أنه سبحانه بدأ بالوعيد الشديد وهو تغيير ذات الإنسان بالكلية في قوله { وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم } ثم ترك ذلك المقام إلى أسهل منه وهو تغير قوته ذاتاً فقال { لو نشاء لجعلناه حطاماً } ثم عقبه بأسهل وهو تغيير مشروبه نعتاً لا ذاتاً ولهذا حذف اللام في قوله { لو نشاء جعلناه أجاجاً } ويحتمل عندي أن يكون سبب حذف اللام هو كون « لو » بمعنى « أن » وذلك أن الماء باقٍ ههنا فيكون التعليق حقيقة بخلاف الزرع فإنه بعد أن حصد صار التعليق المذكور وهمياً فافهم . ثم ختم بتذكير النار وفيه وعد من وجه ووعيد من وجه . أما الأول فلأنه لم يبين ما يفسدها كما قلنا يدل على أن الختم وقع على الرأفة والرحمة . وأما الثاني فلأن عدم ذكر مفسدها يدل على بقائها في الآخرة . وفي قوله { تذكرة } إشارة إلى ما قلنا . ثم أمر بإحداث التسبيح بذكره أو بذكر اسمه العظيم تنزيهاً له عما يقول الكافرون به وبنعمته وبقدرته على البعث ، ثم عظم شأن القرآن بقوله { فلا أقسم } أي فأقسم والعرب تزيد لا قبل فعل أقسم كأنه ينفي ما سوى المقسم عليه فيفيد التأكيد . ومواقع النجوم مساقطعها ومغاربها ولا ريب أن لأواخر الليل خواص شريفة ولهذا قال سبحانه { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] وعن سفيان الثوري : إن الله تعالى ريحاً تهب وقت الأسحار وتحمل الأذكار والاستغفار إلى الملك الجبار . وقوله { وأنه لقسم لو تعلمون عظيم } اعتراض فيه اعتراض . ومواقعها منازلها ومسايرها في أبراجها أو هي أوقات نزول نجوم القرآن الكريم الحسن المرضي من بين جنس الكتب . أو كرمه نفعه للمكلفين . أو هو كرامته على الله عز وجل { في كتاب مكنون } مستوراً على من أراد الله تعالى اطلاعه على أسراره من ملائكته المقربين وهو اللوح { لا يمسه } إن كان الضمير للكتاب فالمعنى أنه لا يصل إلى ما فيه { إلا } عبيده { المطهرون } من الأدناس الجسمية وهم الكروبيون ، وإن كان للقرآن فالمراد أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة الباطنة والظاهرة ، فلا يمسه كافر ولا جنب ولا محدث .
ومن الناس من حرم قراءة القرآن عند الحدث الأصغر أيضاً . وعن ابن عباس في رواية وهو مذهب الإمامية إباحة قراءته في الجناية إلا في أربع سور فيها سجدة التلاوة لأن سجدتها واجبة عندهم . ثم وبخ المتهاونين بشأن القرآن فقال { أفبهذا الحديث } أي بالقرآن أو بهذا الكلام الدال على حقيقة القرآن { أنتم مدهنون } متهاونون من أدهن في الأمر إذا لان جانبه ولا يتصلب فيه { وتجعلون رزقكم } أي شكر رزقكم { أنكم تكذبون } بالبعث وبما دل عليه القرآن ، ومن أظلم ممن وضع التكذيب موضع الشكر كأنه عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو ذكر تعداد النعم من قوله { أفرأيتم ما تحرثون } إلى قوله { للمقوين } وقيل : نزلت في الأنواء ونسبتهم الأمطار إليها يعني وتجعلون شكر ما يرزقكم الله من الغيث أنكم تكذبون بكونه من الله عز وجل وتنسبونه إلى النجوم . ثم زاد في توبيخ الإنسان على جحد أفعال الله وآياته . وترتيب الآية بالنظر إلى أصل المعنى هو أن يقال : فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فزاد في الكلام توكيدات منها تكرير { فلولا } التحضيضية لطول الفصل كما كرر قوله { فلا تحسبنهم } بعد قوله { لا تحسبن الذين يفرحون } [ آل عمران : 188 ] ومنها تقديم الظرف وهو قوله { إذا بلغت الحلقوم } أي النفس . وإنما أضمرت للعلم بها كقوله { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] وإنما قدم الظرف للعناية فإنه لا وقت لكون الإنسان أحوج إلى التصرف والتدبير منه ، ولأنه أراد أن يرتب الاعتراضات عليه . ومنها زيادة الجمل المعترضة وهي قوله { وأنتم } يا أهل الميت { حينئذ تنظرون } إليه { ونحن أقرب إليه منكم } بالقدرة والعلم أو بملائكة الموت { ولكن لا تبصرون } لا بالبصر ولا بالبصيرة . ومعنى مدينين مربوبين مملوكين مقهورين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم . ومنها قوله { إن كنتم صادقين } فإنه شرط زائد على شرط أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مدينين فارجعوا أرواحكم إلى أبدانكم متمنعين عن الموت ، والحلقوم الحلق وهو مجرى النفس ، والواو والميم زائدان ، ووزنه « فعلوم » ويمكن أن يقال : إن فعل { فلولا } الأول محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى تكذبون مدة حياتكم جاعلين التكذيب رزقكم ومعاشكم . فلولا تكذبون وقت الموت وأنتم في ذلك الوقت تعلمون الأحوال وتشاهدونها؟ ويحتمل أن يكون معنى مدينين مقيمين من مدن إذا أقام ، والمعنى إن كنتم على ما تزعمون من أنكم لا تبقون في العذاب إلا أياماً معدودة فلم لا ترجعون أنفسكم إلى الدنيا إن لم تكن الآخرة دار الإقامة . ويجوز أن يكون من الدين بمعنى الجزاء والمعنى يؤول إلى الأول لأن الجزاء نوع من القهر والتسخير . ويحتمل عندي أن يكون الضمير في { ترجعونها } عائداً إلى ملائكة الموت بدليل قوله { ونحن أقرب } والمعنى فلولا تردون عن ميتكم ملائكة الموت إن كنتم غير مقهورين تحت قدرتنا وإرادتنا .
وحين بين أن لا قدرة لهم على رجع الحياة والنفس إلى البدن وأنهم مجزيون في دار الإقامة فصل حال المكلف بعد الموت قائلاً { فأما إن كان } المتوفى { من المقربين } أي من السابقين من الأزواج الثلاثة { فروح } أي فله استراحة وهذا أمر يعم الروح والبدن { وريحان } أي رزق وهذا للبدن { وجنة نعيم } وهذا للروح يتنعم بلقاء المليك المقتدر . ويروى أن المؤمن لا يخرج من الدنيا إلا ويؤتى إليه بريحان من الجنة يشمه { وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك } أيها النبي { من أصحاب اليمين } أي أنت سالم من شفاعتهم . هذا قول كثير من المفسرين . وقال جار الله : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين كقوله { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] { إن هذا } القرآن أو الذي أنزل في هذه السورة { لهو حق اليقين } أي الحق الثابت من اليقين وهو علم يحصل به ثلج الصدر ويسمى ببرد اليقين . وقد يسمى العلم الحاصل بالبرهان فالإضافة بمعنى « من » كقولك « خاتم فضة » وهذا في الحقيقة لا يفيد سوى التأكيد كقولك « حق الحق » . « وصواب الصواب » أي غايته ونهايته التي لا وصول فوقه . أو المراد هذا هو اليقين حقاً لا اليقين الذي يظن أنه يقين ولا يكون كذلك في نفس الأمر . هذا ما قاله أكثر المفسرين . وقيل : الإضافة كما في قولنا « جانب الغربي » و « مسجد الجامع » أي حق الأمر اليقين . ويحتمل أن تكون الإضافة كما في قولنا « حق النبي أن يصلي عليه » و « حق المال أن تؤدى زكاته » ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها » أي إلا بحق هذه الكلمة . ومن حقها أداء الزكاة والصلاة فكذلك حق اليقين الاعتراف بما قال الله سبحانه في شأن الأزواج الثلاثة . وعلى هذا يحتمل أن يكون اليقين بمعنى الموت كقوله { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 92 ] وقال أهل اليقين : للعلم ثلاث مراتب : أولها علم اليقين وهو مرتبة البرهان ، وثانيها عين اليقين وهو أن يرى المعلوم عياناً فليس الخبر كالمعاينة ، وثالثها حق اليقين وهو أن يصير العالم والمعلوم والعلم واحداً . ولعله لا يعرف حق هذه المرتبة إلا من وصل إليها كما أن طعم العسل لا يعرفه إلأ من ذاقه بشرط أن لا يكون مزاجه ومذاقه فاسدين . روى جمع من المفسرين أن عثمان بن عفان دخل على ابن مسعود في مرضه الذي مات فيه فقال له : ما تشتكي؟ قال : ذنوبي . قال : ما تشتهي؟ قال : رحمة ربي . قال : أفلا ندعو الطبيب؟ قال : الطبيب أمرضني . قال : افلا نأمر بعطائك؟ قال : لا حاجة لي فيه . قال : تدفعه إلى بناتك . قال : لا حاجة لهن فيه قد أمرتهن أن يقرأن سورة الواقعة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « من قرأ سورة الواقعة كل يوم لم تصبه فاقة أبداً » .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
القراآت : { أخذ } مجهولاً { ميثاقكم } بالرفع : أبو عمرو { وكل } بالرفع : ابن عامر { انظرونا } من الأنظار : حمزة { الأماني } بسكون الياء : يزيد { لا تؤخذ } بالتأنيث : ابن عامر ويزيد وسهل ويعقوب { وما نزل } بالتشديد مجهولاً : عباس { نزل } بالتخفيف من النزول : نافع وحفص . الباقون : بالتشديد { ولا تكونوا } على الخطاب : رويس { المصدقين والمصدقات } بتشديد الدال فقط : ابن كثير وأبو بكر وحماد { بما أتاكم } مقصوراً من الإتيان : أبو عمرو { فإن الله هو الغني } بغير الفصل : أبو جعفر ونافع وابن عامر { إبراهام } كنظائره .
الوقوف : { الأرض } ج لعطف الجملتين المختلفتين { الحكيم } ه { والأرض } ج لاحتمال أن يكون قوله { يحيى } مستأنفاً لا محل له أو له محل بتقدير هو يحيى وأن يكون حالاً من المجرور في قوله { له } والجار عاملاً فيها . { ويميت } ج { قدير } ه { والباطن } ج { عليم } ه { العرش } ط { فيها } ط { كنتم } ط { بصير } ه { والأرض } ط { الأمور } ه { في الليل } ط { الصدور } ه { فيه } ط { كبير } ه { بالله } ط { مؤمنين } ه { إلى النور } ط { رحيم } ه { والأرض } ط { وقاتل } ط { وقاتلوا } ط { الحسنى } ط { خبير } ه { كريم } ج لاحتمال تعلق الظرف بقوله { وله أجر } أو بقوله { بشراكم } أي يقال لهم ذلك يومئذ أو هو مفعول « اذكر » { فيها } ط { العظيم } ه ج وإن وصل وقف على { نوركم } لأن { يوم } قد يتعلق بالنور فيوقف على { نوركم } وقد يتعلق بقوله { قيل ارجعوا } { نوراً } ط { باب } ط { العذاب } ط { معكم } ط { الغرور } ه { كفروا } ط { النار } ط { مولاكم } ط { المصير } ه { الحق } ط إلا لمن قرأ { ولا تكونوا } على النهي { قلوبهم } ط { فاسقون } ه { موتها } ط { تعقلون } ه { كريم } ه { الصديقون } ه والوصل أولى ومن وقف على { الصديقين } لم يقف على { ربهم } { ونورهم } ط { الجحيم } ه { والأولاد } ط { حطاماً } ط { ورضوان } ط { الغرور } ه { ورسله } ط { من يشاء } ط { العظيم } ه { نبرأها } ط { يسير } ه ج لاحتمال تعلق اللام بما قبله أو بمحذوف أي ذلك لكيلا { أتاكم } ط { فخور } ه لا لأن ما بعده بدل { بالبخل } ط { الحميد } ه { بالقسط } ط ه للعطف ظاهراً مع أن إنزال الحديد ابتداء إخبار غير مختص بالرسل { بالغيب } ط { عزيز } ه { مهتد } ج لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظاً إلا أن الأولى للبعض القليل والثانية للكثير فيبنى على الاستئناف { فاسقون } ه { ورحمة } ط لأن ما بعدها منصوب بابتدعوا المقدر { رعايتها } ط لأن الجملتين وإن اتفقتا لفظاً إلا أن قوله { فآتينا } ليس جزاء ترك الرعاية إنما هو تمام بيان الفرقة بين الفريقين فيرجع إلى قوله { فمنهم مهتد } { أجرهم } ه ط لما مر { فاسقون } ه { ويغفر لكم } ط { رحيم } ه لا وقد يجوز الوقف بناء على أن المراد ذلك ليعلم { يشاء } ط { العظيم } ه
التفسير : معنى تسبيح الموجودات قد تقدم في قوله
{ وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] والآن نقول : إنه بدأ في سورة بني إسرائيل بلفظ المصدر وهو { سبحان } وفي هذه السورة وفي الحشر والصف بلفظ الماضي . وفي الجمعة والتغابن بلفظ المستقبل ، وفي سورة الأعلى بلفظ الأمر استيعاباً للأقسام وذلك دليل على أن التسبيح لله تعالى مستمر دائم في الأوقات كلها من الأزل إلى الأبد . وتفسير أسماء الله الحسنى المذكورة في أول هذه السورة قد سبق في البسملة فلا حاجة إلى إعادة كلها إلا أننا نذكر ما أورده الإمام فخر الدين ههنا على سبيل الإيجاز مع تنقيح ما يجب تنقيحه . قال : هذا مقام مهيب والبحث فيه من وجوه : الأول أن تقدم الشيء على الشيء إما تقدم التأثير كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم ، وإما التقدم بالحاجة لا بالتأثير كتقدم الإمام على المأموم ، أو معقول كما إذا جعلنا المبدأ هو الجنس العالي ، وإما بالزمان كتقدم الأب على الابن قال : وتقدم بعض أجزاء الزمان على الزمان عندي ليس من هذه الأقسام الخمسة ، أما التأثير والحاجة فلأنه لو كان كذلك لوجدا معاً كما أن العلة والمعلول يوجدان معاً وكذا الواحد والاثنان . وأما الشرف والمكان فظاهران ، وأما بالزمان فإن الزمان لا يقع في الزمان وإلا تسلسل . قلت : لم لا يجوز أن يكون تقدم أجزاء الزمان بعضها على بعض بالحاجة أي بالطبع فإن الزمان كما لا يخفى حين كان كما متصلاً غير قار الذات اقتضت حقيقته أن يكون له وجود سيال يعقب بعض أجزائه بعضاً لا تنتهي النوبة إلى جزء مفروض منه إلا وقد انقضى منه جزء مفروض على الاتصال . وقال : إذا عرفت ذلك فنقول : القرآن دال على أنه تعالى قبل كل شيء والبرهان أيضاً يدل على هذا لأن انتهاء الممكنات لا بد أن يكون إلى الواجب إلا أن تلك القبلية ليست بالتأثير لأن المؤثر من حيث هو مؤثر مضاف إلى الأثر من حيث هو أثرو المضافان معاً . والمعي لا يكون قبل لا بالحاجة لأنهما قد يكونان معاً كما قلنا ، ولا لمحض الشرف فإن تلك القبلية ليست مرادة ههنا ولا بالمكان وهو ظاهر ، ولا بالزمان لأن الزمان يجميع أجزائه ممكن الوجود ، والتقدم على جميع الأزمنة لا يكون بالزمان فإذن تقدم الواجب تعالى على ما عداه خارج عن هذه الأقسام الخمسة وكيفيته لا يعلمها إلا هو . قلت : إنه سبحانه متقدم على ما سواه بجميع أقسام التقدمات الخمسة . أما بالتأثيبر فظاهر قوله والمضافان معاً . قلنا : إن أردت من الحيثية المذكورة فمسلم ولا محذور ، وإن أردت مطلقاً فممنوع . وأما بالطبع فلأن ذات الواجب من حيث هو لا تفتقر إلى الممكن من حيث هو وحال الممكن بالخلاف ، وأما بالشرف فظاهر ، وأما بالمكان فلأنه وراء كل الأماكن ومعها لقوله
{ فأينما تولوا فثم وجه الله } [ البقرة : 115 ] وقد جاء في الحديث « لو أدليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله » ثم قرأ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وههنا سر لعلنا قد رمزنا إليه في هذا الكتاب تفهمه بإذن الله إن كنت أهلاً له . وأما بالزمان فأظهر قوله والتقدم على الزمن لا يكون بالزمان : قلنا : ممنوع لأن الزمان عند المحققين هو أمر وهمي ، والزمان الذي يتكلم هو فيه إنما هو مقدار حركة الفلك الأعظم ، ولا ريب أن قبل هذه الحركة لا يوجد لها مقدار إلا أن قبل كل شيء يوجد امتداد وهمي يحصل فيه وجود الواجب سبحانه ، ومن هذا التحقيق يرتفع ما أشكل على الإمام من التمييز بين الأزل وما لا يزال فإن المبادىء الوهمية تتغير بتغير الاعتبارات وباختلافها تختلف حقائقها إذ ليس لها وجود سواها فقد يصير ما هو في جانب الأزل في جانب لا يزال ، وبالعكس إذا تغيرت المبادىء المفروضة . قال : أما البحث عن كونه تعالى آخراً بمعنى أنه يبقى وكل شيء يفنى فمنهم من أوجب ذلك حتى يتقرر كونه آخراً وهو مذهب جهم فإنه زعم أنه سبحانه يوصل الثواب إلى أهل الثواب ، والعقاب إلى أهل العقاب ، ثم يفني الجنة وأهلها والنار وأهلها والعرش والكرسي والملك والفلك ولا يبقى مع الله شيء أصلاً في أبد الآباد كما لم يكن قبله شيء في أزل الآزال قال : ومن حجج جهنم أنه تعالى إما أن يكون عالماً بعدد حركات أهل الجنة والنار أولاً . فإن كان عالماً لزم تناهيه فإن الأحاطة بما لا يتناهى مستحيلة . إن لم يعلم لزم نسبة الجهل إليه تعالى وذلك محال . وأيضاً الحوادث المستقبلة قابلة للزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك فهو متناه . وأجاب عن الأول بأن إمكان استمرار هذه الأشياء حاصل إلى الأبد ، والدليل عليه أن هذه الماهيات لو زال إمكانها لزم انقلاب الممكن إلى الممتنع ، ولزم أن تنقلب قدرة الله من صلاحية التأثير إلى امتناع التأثير . قلت : هذه مغالطة فإنه لا يلزم من الإمكان الذاتي للشيء وقوعه في الخارج ولا من عدم وقوعه في الخارج الامتناع الذاتي وأجاب عن الثاني بأنه لا يعلم أن عددها ليس بمعين وهذا لا يكون جهلاً إنما الجهل أن يكون له عدد معين ولا يعلمه . قلت : الذي علمه متناه يجب أن يكون معلومه متناهياً ، أما الذي لا نهاية لعلمه فلم يبعد بل يجب أن تكون معلوماته غير متناهية . وأجاب عن الثالث بأن الخارج منه إلى الوجود أحداً يكون متناهياً . قلت : الزيادة والنقصان لا يوجبان التناهي كتضعيف الألف والألفين مراراً غير متناهية قال : فالمتكلمون حين أثبتوا إمكان بقاء العالم عولوا في أبدية الجنة والنار على إجماع المسلمين .
واختلفوا في معنى كونه تعالى آخراً على وجوه أحدها : أنه تعالى يفني جميع العالم ليتحقق كونه آخراً ، ثم إنه يوجدها ويبقيها أبداَ . قلت : هذا حقيق بأن لا يسمى آخرية بل يسمى توسطاً . وثانيها أن صحة آخرية كل الأشياء مختصة به فلا جرم وصف بكونه آخراً . أقول : هذا أول المسألة لأن الكلام لم يقع في اختصاص وجوده وعدمه وإنما النزاع في معنى قوله آخراً . وثالثها أنه أول في الوجود آخر في الاستدلال لأن المقصود من جميع الاستدلالات معرفة ذات الصانع وصفاته ، وأما سائر الاستدلالات التي لا يراد بها معرفة الصانع فهي حقيرة خسيسة . قلت : أراد أنه غاية الأفكار ونهاية الأنظار وهذا معنى حسن في نفسه إلا أنه لا يطابق معنى الأول كل المطابقة . ورابعها أنه أول في ترتيب الوجود وآخر إذا عكس الترتيب . قلت : هذا تصور صحيح ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل والمعلولات ، وعلى المترتبة من الأشرف إلى الأخس . وعلى الآخذة من الوحدة إلى الكثرة ، وكما يلي الأزل إلى ما يلي الأبد ، ومما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز فهو سبحانه أول بالترتيب الطبيعي وآخر بالترتيب المنعكس فقد وضح بهذا البيان صحة إطلاق التقدمات الخمسة ومقابلاتها عليه تعالى ، وهذا من غوامض الاسرار وقد وفقني الله تعالى لحلها وبيانها فالشكر على آلائه . أما تفسير الظاهر والباطن فالمحققون قالوا : إنه الظاهر بالأدلة الدالة على وجوده . والباطن لأنه جل عن إدراك الحواس والعقول إياه إما في الدنيا أو فيها وفي الآخرة جميعاً . وقيل : معنى الظاهر الغالب ، والباطن العالم بما بطن أي خفي . قال الليث : يقال أنت أبطن بهذا الأمر أي أخبر به . وباقي الآيات قد سبق تفسيرها في مواضع إلا قوله { يعلم ما يلج } فإنه قد مر في أول « سبأ » فقط فلا حاجة إلى الإعادة . وقوله { وهو معكم } معية العلم والقدرة أو استصحاب المكان عند بعض قوله { له ملك السموات والأرض } وبعده مثله ليس بتكرار لأن الأول في الدنيا لقوله { يحي ويميت } والثاني في العقبى لقوله { وإلى الله ترجع الأمور } قوله { مستخلفين فيه } أراد أن المال مال الله والعباد عباد الله إلا أنه قد جعل أرزاقهم متداولة بيد حكمته متعلقة بالوسائط والروابط ، فالسعيد من وفقه الله تعالى لرعاية حق الاستخلاف فيتصرف فيما آتاه الله على وفق ما أمره الله من الإنفاق في سبيل الله قبل أن ينتقل منه إلى غيره بإرث أو حادث كما انتقل من غيره إليه بأحد السببين . قوله { لا تؤمنون } حال من معنى الفعل كقولك « مالك قائماً » أي ما تصنع . والواو في قوله { والرسول } للحال من ضمير { لا تؤمنون } فهما حالان متداخلتان .
وأخذ الميثاق إشارة إلى الأقوال المذكورة في تفسير قوله { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم } [ الأعراف : 172 ] ، والمراد أنه قد تعاضدت الدلائل السمعية والبراهين العقلية على الإيمان بالله فأي عذر لكم في تركه { إن كنتم مؤمنين } لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه ولا ريب أن الإيمان بالله شامل لتصديق بجميع أوامره وأحكامه ومن جملتها الإيمان بالرسول وبالقرآن وبما فيه . استدل القاضي بقوله { وما لكم } على أن العبد قادر على الإيمان وعلى الاستطاعة قبل لافعل وإلا لم يصح التوبيخ كما لا يقال مالك لا تطول ولا تبيض . والبحث في أمثاله مذكور في مواضع . والضمير في قوله { ليخرجكم } لله تعالى أو لعبده والميراث مجاز عن بقائه بعد فناء الخلق وقد مر في « آل عمران » : قال المفسرون : إن أبا بكر أول من أنفق في سبيل الله فنزل فيه وفي أمثاله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح } أي فتح مكة وتمامه أن يقال : ومن أنفق بعد الفتح فحذف لدلالة قوله { أولئك } الذين أنفقوا قبل الفتح وهم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه » { أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا } وسبب الفضل أنهم أنفقوا قبل عز الإسلام وقوة أهله فكانت الحاجة إلى الإنفاق حينئذ أمسّ مع أنه كان أصدق إنباء عن ثقة صاحبه بهذا الدين { وكلاً وعد الله الحسنى } المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات . ومن قرأ بالرفع فتقديره وكل وعده الله والقرض مجاز عن إنفاق المال في سبيل الله . وقد مر في أواخر « البقرة » . قال أهل السنة : إنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ أن كل من صدرعنه الفعل الفلاني فله كذا من الثواب وهو الأجر الكريم ، فإذا ضم إلى ذلك مثله فهو المضاعفة . وقال الجبائي : إن الأعواض تضم إلى الثواب فهو المضاعفة . وإنما وصف الأجر بالكريم لأنه جلب ذلك الضعف وبسببه حصلت لكل الزيادة فكان كريماً من هذا الوجه . ثم أكد الإيمان بالله ورسوله والإنفاق في سبيله بتذكير يوم المحاسبة فقال { يوم ترى } يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب وقد مر إعرابه . عن ابن مسعود وقتادة مرفوعاً أن كل إنسان مؤمن فإنه يحصل له النور يوم القيامة على قدر ثوابه منهم من يضيء له نور كما بين عدن إلى صنعاء ، ومنهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه ، وأدناهم نوراً من يكون نوره على إبهامه ينطفىء مرة ويتقد أخرى . وقال مجاهد : ما من عبد إلا وينادى يوم القيامة يا فلان هذا نورك ، ويا فلان لا نور لك .
هذا وقد بينا لك في هذا الكتاب مراراً أن الكمالات والخيرات كلها أنوار وأكمل الأنوار معرفة الله سبحانه . وإنما قال { بين أيديهم وبأيمانهم } لأن ذلك جعل إمارة النجاة ولهذا ورد أن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . ومعنى سعي النور سعيه بسعيهم جنيباً لهم ومتقدماً ويقول لهم الذي يتلقونهم من الملائكة { بشراكم اليوم جنات } قوله { يوم يقول } بدل من قوله { يوم ترى } ومنصوب ب « أذكر » مقدراً . قال جمع من العلماء : الناس كلهم يوم القيامة في الظلمات ثم إنه تعالى يعطي المؤمنين هذه الأنوار والمنافقون يطلبونها منهم قائلين { انظرونا } لأنهم إذا نظروا إليهم والنور قدامهم استضاؤا بتلألؤ تلك الأنوار . قال الفارسي : حذف الجار وأوصل الفعل وأنشد أبو الحسن :
ظاهرات الجمال والحسن ينظرن ... كما ينظر الأراك الظباء
والمعنى ينظرن إلى الأراك فإن كانت هذه الحالة عند الموقف فالمراد انظروا إلينا ، وإن كانت هذه الحالة عند سير المؤمنين إلى الجنة احتمل أن يكون النظر بمعنى الانتظار لأنهم يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة على الركاب وهؤلاء مشاة في القيود والسلاسل . ومن قرأ { انظرونا } أي أمهلونا جعل استبطاءهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إمهالاً لهم . قال الحسن : يعطى يوم القيامة كل أحد نوراً على قدر عمله . ثم إنه يؤخذ من جمر جهنم وما فيه من الكلاليب والحسك وتلقى على الطريق فتمضي زمرة من المؤمنين وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء الكواكب في السماء . ثم على ذلك ثم على ذلك ، ثم تغشاهم الظلمة فينطفىء نور المنافقين فهناك يقول المنافقون للمؤمنين انظرونا { نقتبس من نوركم } والاقتباس أخذ القبس أي الشعلة من النار { قيل ارجعوا وراءكم } أي إلى الموقف حيث أعطينا هذا النور فاطلبوا نوراً وهو تهكم بهم أو إلى الدنيا { فالتمسوا نوراً } بتحصيل سببه وهو الإيمان والعمل الصالح أو اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة كأنها خدعة خدع بها المنافقون كقوله { يخادعون الله وهو خادعهم } [ البقرة : 9 ] وعلى هذا فالسور هو امتناع العود إلى الدنيا وعلى الأول قالوا : إنهم يرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم فيجدون السور مضروباً بينهم وبين المؤمنين وهو حائط الجنة أو هو الأعراف { باطنه } أي باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة { فيه الرحمة وظاهره } وهو ما ظهر لأهل النار { من قبله } أي من جهته { العذاب } قال أبو مسلم : المراد من قول المؤمنين { ارجعوا } منع المنافقين عن الاستضاءة كقول الرجل لمن يريد القرب منه « وراءك أوسع لك » والمراد أنه لا سبيل لهم إلى هذا النور ، والمراد من السور منعهم من رؤية المؤمنين قال الأخفش : الباء في قوله { بسور } صلة وفائدته التوكيد وأرادوا بقوله { ألم نكن معكم } مرافقتهم في الظاهر .
ومعنى { فتنتم } محنتم { أنفسكم } بالنفاق وأهلكتموها { وتربصتم } بالمؤمنين الدوائر { وارتبتم } وشككتم في وعيد الله أو في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو في البعث أو في كل ما هو من عند الله { وغرتكم الأماني } بكثرة الآمال وطول الآجال { حتى جاء أمر الله } بالموت على النفاق ثم أوقعكم في النار { وغرّكم بالله } الشيطان { الغرور } فنفخ في خيشومكم إن الله غفور إن باب التوبة مفتوح { فاليوم لا يؤخذ منكم } أيها المنافقون { فدية } قيل أي توبة والأولى العموم ليشمل كل ما يفتدى به { ولا من الذين كفروا } في الظاهر . فالحاصل أنه لا فرق بين الذين أضمروه فإن كلا منكم { مأواكم النار هي مولاكم } وقيل : المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار وقيل : أراد هي أولى بكم . قال جار الله حقيقته هي محراكم ومقمنكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل « إنه لكريم » . قال في التفسير الكبير : هذا معنى وليس بتفسير للفظ من حيث اللغة ، وغرضه أن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم « من كنت مولاه فعلى مولاه » فهذا علي مولانا احتج بقول الأئمة تفسير الآية أن المولى معناه الأولى ، وإذا ثبت أن اللفظ محتمل وجب حمله عليه لأن ما عداه بين الثبوت ككونه ابن العم والناصر ، أو بين الانتفاء كالمعتق والمعتق فيكون على التقدير الأول عبثاً ، وعلى التقدير الثاني كذباً . قال : وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيراً بحسب اللغة سقط الاستدلال . قلت : في هذا الإسقاط بحث لا يخفى . وجوز أن يراد في الآية نفي الناصر لأنه إذا قال هي ناصركم على سبيل التهكم وليس لها نصرة لزم نفي الناصر رأساً كقوله تعالى { يغاثوا بماء كالمهل } [ الكهف : 29 ] ويقال ناصره الخذلان ومعينه البكاء .
قوله سبحانه { ألم يأن للذين آمنوا } من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته . قال جمع من المفسرين : نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع . وقال آخرون : نزل في المؤمنين المحقين . روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا ليناً في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية . وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم فقال : هكذا كنا حتى قست القلوب . وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين . وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة . وقوله { لذكر الله } من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن { وما نزل من الحق } وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقاً نازلاً من السماء .
ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله والقرآن كقوله { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعاً ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة . ومن قرأ { ولا تكونوا } بالتاء الفوقانية فهي الناهية . ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوباً عطفاً على أن تخشع والأمد الأجل والأمل أي طالت المدة بين اليهود والنصارى وبين أنبيائهم ، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع . وقال مقاتل بن سليمان : طال عليهم أمد خروج النبي صلى الله عليه وسلم ، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي ، وقرىء الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول { وكثير منهم فاسقون } خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين ، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر . قال الحسن : أما والله لقد استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق . قوله { اعلموا أن الله يحيي الأرض } فيه وجهان : الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث ، الثاني أنه زجر لأهل الفسق وترغيب في الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات . ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله { إن المصدقين } وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله { وأقرضوا الله } لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال : إن الذين تصدقوا وأقرضوا . والظاهر أن الأول هو الواجب الثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك . وأيضاً ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبىء عن الالتزام والوجوب . ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضاً عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه . وقال { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة ، أوهم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقاً إلى صدق وهو الإيمان بالله والاعتراف بالرسالة ، أو هم الكثيرر والصدق من حيث إنهم ضموا صدقاً إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسوله رسوله . ثم حث على الجهاد بقوله { والشهداء } وهو مبتدأ حبره { عند ربهم } وفيه بيان أنهم من الله بمنزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني { لهم أجرهم ونورهم } ويجوز أن يكون قوله { عند ربهم } حالاً أو صفة للشهداء كقوله « مررت على اللئيم يسبني » وما بعده خبر .
وقال الفراء والزجاج : هم الأنبياء لقوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] ومن جعل { الشهداء } عطفاً على ما قبله قال : أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله . قال مجاهد : كل مؤمن فهو صديق وشهيد . وقال جار الله : المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك . وقيل : أريد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده . وعن الحسن : كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه . وعن الأصم . إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة . ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه . ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في « الكهف » وفي « سبأ » وبأصحاب الجنة في « نون » . ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطاماً هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس . ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله { وفي الآخرة عذاب شديد } للكافرين { ومغفرة من الله ورضوان } للمؤمنين قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة . فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة . ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في « آل عمران » إلا أن البشارة ههنا أعم لأنه قال هناك { أعدت للمتقين الذين ينفقون } [ الآية : 133 ] إلأى آخره . وههنا قال { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } ولأن هؤلاء أدون حالاً من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال { وجنة عرضها كعرض السماء والأرض } فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالاً من المشبه به . وفي لفظ { سابقوا } ههنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ { سارعوا } هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أومتقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . قال الزجاج : لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال { ما أصاب من مصيبة } أي لا يوجد مصيبة { في الأرض } من القحط والوباء والبلاء { ولا في أنفسكم } من المرض والفتن { إلا في كتاب } أي هو مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا قال
« جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين » ولم يقل إلى الأبد .
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه لم يذكر أحوال أهل السموات وفيه سر قال أهل البرهان : فصل في هذه السورة وأجمل في « التغابن » فقال { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } [ الحديد : 22 ] والتفصيل بهذه السورة أليق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله { اعلموا إنما الحياة الدنيا } إلى آخره قوله { من قبل أن نبرأها } من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات { إن ذلك } الإثبات أو الحفظ { على الله يسير } وإن كان عسيراً على غيره . ثم بين وجه الحكمة في ذلك الإثبات قائلاً { لكيلا تأسوا } أي لكيلا تحزنوا { على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } نظيره ما ورد في الخبر : من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه . روى عكرمة عن ابن عباس : ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبراً وللخير شكراً أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر . والباقي ظاهر وقد مر في النساء . والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغياً لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي { ومن يتول } عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه { فإن الله هو الغني } عن طاعة المطيعين { الحميد } في ذاته وإن لم يحمده الحامدون . وقيل : إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبخلوا ببيان نعته .
ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم . يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال : مر قومك يزنوا به . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض . أنزل الحديد والنار والماء والملح . وعن الحسن : إنزالها تهيئتها كقوله { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] وقال قطرب : هو من النزل يقال : أنزل الأمير على فلان نزلاً حسناً منهم من قال : هو من باب « علفتها تبناً وماء بارداً » . وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه .
أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي . والثاني لا يتم بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزاً . وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالوقة النظرية الروحاينة ، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية ، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق . وثانيها المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم ، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان ، وإما أعداء فيدفعون بالسيف . وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات ، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلا بد لهم من الميزان ، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلا بدّ لهم من السيوف الزواجر . واربعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة المقربين لا يسكن إلا بكتاب الله { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة . وأصحاب اليمين لا بد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط ، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة . وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فانتبه بميزان الكتاب ، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة ، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلا بد له من الحديد . وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان ، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة . أو نقول : الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان ، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف . وسابعها الكتاب للعلماء . والميزان للعوام والسيف للملوك . قال أهل التجارب : في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها . أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعة أربعة : الزراعة والحياكة والبناء والإمارة . أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها . ثم الحبوب لا بد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضاً في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة ، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب والجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده ، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل . قال بعضهم :
سبحان من خص الفلز بعزه ... والناس مستغنون عن أجناسه
وأذ أنفاس الهواء وكل ذي ... نفس فمحتاج إلى أنفاسه
نظيره الحاجة إلى الطعام ثم إلى الهواء ، فالطعام قلما يوجد إلا بالثمن والماء قد يباع في بعض الأمكنة والزمان والهواء لا يباع أصلاً لأن الحاجة إلى النفس أمس . قال بعض المحققين ههنا إن العلم أبلغ ما يحتاج الإنسان إليه إذ به قوام روحه وصلاح معاده فلا جرم لا يقع في عرضة البيع وكثيراً ما يعطى الأجر على تعلمه قوله { وليعلم الله } ظاهره أنه معطوف على المعنى التقدير : وأنزلنا الحديد لأجل المنافع الدنيوية ولأجل المصالح الدينية وهو ظهور معلوم الله وتعلق علمه بما سيقع من نصرة دينه ورسله باستعمال السيوف والرماح وغيرها . ويجوز أن يكون المعطوف عليه محذوفاً بدليل ما تقدمه أي وأنزلنا الحديد ليقوم الناس بالقسط خوفاً من أن يجعل وليعلم الله ومعنى { بالغيب } غائباً عنهم . قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، وفيه إشارة إلى أن الجهاد المعتبر هو الذي يوجد عن إخلاص القلب خالياً من النفاق والرياء وفي قوله { إن الله قوي عزيز } رمز إلى أنه تعالى قادر على إهلاك أعداء الدين وإعلاء كلمته بدون واسطة الجهاد ، ولكنه كلفهم ذلك ليتوسلوا به إلى نيل درجة الصديقين والشهداء .
وحين حكى قصة الرسل مجملة أعقبها بنوع من التفصيل والكتاب ظاهره الوحي . عن ابن عباس هو الخط بالقلم والضمير في { فمنهم } للذرية أو للمرسل إليهم بدليل الإرسال . والفاسقون إما العاصون بارتكاب الكبائر ، وإما الكافرون ولعل هذا أظهر لوقوعه في طباق المهتدين إلا أن يحمل الفاسق على الذي لا يهتدي لوجه رشده قال مقاتل : المراد بالرأفة والرحمة هو ما أوقع الله تعالى في قلوبهم من التواد والتعاطف كما جاء في نعت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] قال أبو علي الفارسي : الرهبانية لا يستقيم حمل نصبها على { جعلنا } لأن ما يبتدعونه لا يجوز أن يكون مجعولاً لله قال في التفسير الكبير : هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين من أين يليق بأبي علي أن يخوض في أمثال هذه الأشياء . قلت : الظن بالعلماء ينبغي أن يكون أحسن من هذا ولا حاجة إلى إحالة تمام الكلام على المسألة المذكورة ولكن يرد على أبي علي أنه إذا جاز أن يكون الكفر والفسوق وسائر المعاصي الصادرة عن العبد منسوبة إلى تخليق الله ، فلم لا يجوز أن يكون الابتداع وهو إحداث أمر من عند نفسه لا على ألسنة الرسل . مجعولاً لله سبحانه؟ قال المفسرون : إن الجبابرة ظهروا على أمة عيسى بعد رفعه فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوهم حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فترهبوا على رؤوس الجبال فارين من الفتنة متحملين كلفاً ومشاق زائدة على العبادات المكتوبة عليهم من الخلوة والاعتزال والتعبد في الغيران والكهوف ، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
« يا ابن مسعود أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة كلها في النار إلا ثلاث فرق فرقة آمنت بعيسى عليه السلام وقاتلوا أعداءه في نصرته حتى قتلوا وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين فلبسوا العباء وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله { وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة } » الآية قال العلماء : لم يرد الله تعالى بقوله { ابتدعوها } طريقة الذم ولكن المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذورها . والرهبانية بفتح الراء مصدر وهو الفعلة المنسوبة إلى الرهبان بالفتح أيضاً وهو الخائف « فعلان » من رهب كخشيان من خشي . وقرىء بالضم وهو نسبة إلى الرهبان جمع الراهب . وقوله { إلا ابتغاء رضوان الله } استثناء منقطع عند الأكثر أي ما فرضناها نحن عليهم ولكنهم اتبدعوها طلب رضوان الله . وقال آخرون : إنه متصل والمعنى ما تعبدناهم بها إلا على وجه تحصيل مرضاة الله فتكون ندباً إن أتى بها ارتضاها الله وإن لم يأت بها فلا حرج . وفي قوله { فما رعوها حق رعايتها } أقول : أحدها أنهم ما أقاموا على تلك السيرة ولكنهم ضموا إليه التثليث والإلحاد إلا إناساً منهم أقاموا على دين عيسى حتى أدرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وثانيها أن أكثرهم لم يتوسلوا بها إلى مرضاة الله ولكنهم جعلوها سلماً إلى المنافع الدنيوية . وثالثها أن يكون في الكلام إضمار أي لم نفرضها أولاً عليهم بل كانت على جهة الاستحباب ، ثم فرضناها عليهم فما رعوها إلا قليلاً منهم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن استقاموا على الطريقة . ورابعها أن الصالحين من قوم عيسى ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم من لم يرعها كما رعاها الحواريون . ثم خاطب المؤمنين منهم بقوله { يا أيها الذين آمنوا } أي بعيسى { اتقوا الله وآمنوا برسوله } محمد صلى الله عليه وسلم { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } لإيمانكم أولاً بعيسى وثانياً بمحمد صلى الله عليه وسلم { ويجعل لكم نوراً تمشون به } وهو النور المذكور في قوله { يسعى نورهم } أو النور المذكور في قوله { أو من ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس } [ الأنعام : 122 ] ويجوز أن يكون الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والمراد اثبتوا على إيمانكم برسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتكم ما وعد مؤمني أهل الكتاب في قوله { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } [ القصص : 54 ] وذلك أن مؤمني أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المؤمنين بأنهم يؤتون أجرهم مرتين وادعوةا الفضل عليهم فنزلت وفيه أنهم مثلهم في الإيمانين لأنهم لا يفرقون بين أحد من رسله على أنه يجوز أن يكون النصيب الواحد من الأجر أزيد من نصيبين فإن المال إذا قسم نصفين كان الكفل الواحد نصفاً ، وإذا قسم عشرة أقسام كان الكفل الواحد جزءاً من عشرة .
ولا شك أن النصيب الواحد من القسمة الأولى أزيد من النصيب الواحد من القسمة الثانية . قوله { لئلا يعلم } الآية . أكثر المفسرين والنحويين على أن « لا » زائدة والمعنى ليعلم { أهل الكتاب } الذين لم يسلموا أن الشأن لا ينالون ولا يقدرون على شيء من الكفلين . والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم من قبله ، أو المراد أنا بالغنا في هذا البيان وأمعنا في الوعد لهم والوعيد ليعلم أهل الكتاب أن الشأن هو أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الأجر في طائفة مخصوصين { وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } وقيل : غير زائدة والضمير في { لا يقدرون } للرسول وأصحابه . والعلم بمعنى الاعتقاد والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، ولكي يعتقدوا أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، وقد خص بذلك محمداً صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وبالله التوفيق وإليه المرجع والمآب والله أعلم .
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
القراآت { يظاهرون } من المظاهرة : عاصم { يظهرون } بتشديد الظاء والهاء من الظهر وأصله « يتظهرون » أدغمت التاء في الظاء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . والباقون { يظاهرون } بتشديد الظاء ويزادة الألف من التظاهر وأصله « يتظاهرون » { ما هن أمهاتهم } بالرفع : المفضل . الآخرون : بكسر التاء على إعمال « ما » عمل ليس هذه هي الفصحى { ما تكون } بتاء التأنيث : يزيد وهو ظاهر . الآخرون : على التذكير بناء على أن التقدير ما يقع شيء من نجوى . { ولا أكثر } بالرفع : يعقوب إما على الابتداء كقولك « لا حول ولا قوة » أو للعطف على محل { من نجوى } الباقون : بالنصب على أن « لا » لنفي الجنس أو على أنهما مجروران عطفاً على { نجوى } كأنه قيل : ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم . أو عطفاً على العدد والتقدير : ما يكون من نجوى أكثر من ذلك { وتتناجوا } على باب الافتعال : حمزة ورويس { ولا تتناجوا } من الافتعال أيضاً . رويس . { المجالس } على الجمع : عاصم { انشزوا } بضم الشين فيهما : أبو جعفر ونافع وأبن عامر وعاصم غير يحيى وحماد والهراز . الآخرون : بالكسر فيهما وهما لغتان مثل { يعرشون } و { يعرشون } { ورسلي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر { عشيراتهم } على الجمع : الشموني { كتب } مجهولاً الإيمان بالرفع : المفضل .
الوقوف : { تحاوركما } ط { بصير } ه { ما هن أمهاتهم } ط { ولدنهم } ط { وزوراً } ط { غفور } ه { يتماسا } ط { به } ط { خبير } ه { يتماسا } ج { مسكيناً } ط { ورسوله } ط { الله } ط { أليم } ه { بينات } ق { مهين } ه ط لاحتمال تعلق الظرف بما قبله وكونه مفعولاً لاذكر { عملوا } ط { ونسوه } ط { شهيد } ه { وما في الأرض } ه { كانوا } ج لأن « ثم » للعطف أو لترتيب الاخبار { القيامة } ط { عليم } ه { الرسول } ز لعطف الجملتين المتفقتين معنى مع أن { جاؤك } فعل ماض لفظاً { به الله } لا لأن ما بعده حال أو عطف على { جاؤك } لمستقبل معنى { نقول } ط { جهنم } ط لاحتمال الحال وكونه مستأنفاً { يصلونها } ج { المصير } ه { والتقوى } ج { تحشرون } ه { بإذن الله } ط { المؤمنون } ه { يفسح الله لكم } ج لابتداء شرط آخر مع العطف { منكم } لا للعطف { درجات } ط { خبير } ه { صدقة } ط { وأطهر } ط { رحيم } ه { صدقات } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط { ورسوله } ط { تعملون } ه { عيلهم } ط لتناهي الاستفهام إلى الإخبار { منهم } لا بناء على أن ما بعده حاله والعامل معنى الفعل في الجار أي وهم يحلفون قاله السجاوندي ولا يبعد عندي أن يكون مستأنفاً فيحسن الوقف . { يعلمون } ه { شديداً } ط { يعملون } ه { مهين } ه { شيئاً } ط { النار } ط { خالدون } ه { على شيء } ط { الكاذبون } ه { ذكر الله } ط { أولئك حزب الشيطان } ط { الخاسرون } ه ه { الأذلين } ه { رسلي } ط { عزيز } ه { عشيرتهم } ط { بروح منه } ط للعدول عن الماضي إلى المستقبل { فيها } ط { عنه } ط { أولئك حزب الله } ط { المفلحون } ه .
التفسير : عن عائشة قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد كلمت المجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب البيت وأنا عنده لا أسمع وقد سمع الله لها . وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخلت عليه أكرمها وقال : قد سمع الله لها أي أجاب وهي خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة . ورآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم فلما سلمت راودها فأبت فغضب وكان به حدة فظاهر منها ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أوساً تزوّجني وأنا شابة مرغوب فيّ ، فلما كبر سني ونثرت بطني أي كثر منه ولدي جعلني منه كأمه . وفي رواية أنها قالت : إن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إليّ جاعوا . فقال صلى الله عليه وسلم لها : ما عندي في أمرك شيء . وروي أنه قال لها مراراً : حرمت عليه . وهي تقول : أشكو إلى الله فاقتي ووجدي فنزلت . ومعنى { في زوجها } في شأنه ومعنى « قد » في { قد سمع الله } التوقع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله عز وجل مجادلتها وشكواها وينزل في شأنها ما يفرج عنها . والتحاور التراجع في الكلام وفي الآية دلالة على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق كفاه الله همه . « يروى أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى زوجها وقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : الشيطان ، فهل من رخصة؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم وقرأ عليه الآيات الأربع وقال صلى الله عليه وسلم له : هل تستطيع العتق؟ فقال : لا والله . فقال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً؟ فقال : لا والله يا رسول الله إلا أن تعينني منك بصدقة فأعانه بخمسة عشر صاعاً وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين » وعلم أن الظهار كان من أشد طلاق الجاهلية لأنه في التحريم غاية فإن كان شرعاً متقدماً فالآية ناسخة له ولا سيما فيمن روى أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : حرمت عليه . وإن كان عادة الجاهلية فلا نسخ لأن النسخ لا يوجد إلا في الشرائع . ثم إنه سبحانه وبخ العرب أوّلاً بقوله { الذين يُظاهِرُونَ منكم } ثم بين الحكم العام في الآية الثانية ولهذا لم يورد لفظة منكم ونحن نبني تفسير الآية على أبحاث الأول في معنى الظهار وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته « أنت عليّ كظهر أمي » فاشتقاقه من الظهر .
وقال صاحب النظم : ليس الظهر بذلك أولى في يهذا المطلوب من سائر الأعضاء التي هي موضع التلذذ فهو مأخوذ من ظهر إذا علا وغلب وبه سمي المركوب ظهراً لأن راكبه يعلوه ، وكذلك امرأة الرجل مركبه وظهر له . والدليل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق : نزلت عن امرأتي أي طلقتها . وفي لفظ الظهار إضمار والتقدير : ظهرك عليّ أي علوي وركوبي عليك حرام علي كعلو أمي . ثم لا مناقشة بين العلماء في الصلات فلو قال : أنت معي أو عندي أو مني أو لي كظهر أمي صح ظهاره . وكذا لو ترك الصلات كلها وقال : أنت كظهر أمي كما أن قوله « أنت طالق » صريح وإن لم يقل « مني » أما إذا شبهها بغير الظهر فذهب الشافعي إلى أن ذلك العضو إن كان مشعراً بالإكرام كقوله أنت علي كروح أمي أو عين أمي صح ظهاره إن أراد الظهار لا الإكرام وإلا فلا . وإن لم ينو شيئاً ففيه قولان ، وإن لم يكن مشعراً بالكرامة كقوله أنت كرجل أمي أو كيدها أو بطنها ففي الجديد ظهار ، وفي القديم لا ، وقد يرجح هذا البراءة الأصلية . وقال أبو حنيفة : إن شبهها بعضو من الأم يحل له النظر إليه كاليد أو الرأس لم يكن ظهاراً ، وإن شبهها بعضو يحرم النظر إليه كالبطن والفخذ كان ظهاراً . وفي التشبيه بالمحرمات الأخر من النسب أو الرضاع سوى الأم في الجديد وعليه أبو حنيفة أنه ظهار لعموم قوله { يظاهرون } ومن قصره على الأم احتج بقوله بعده { ما هنّ أمهاتهم } وبأن حرمة الأم أشد .
البحث الثاني في المظاهر وفيه مسائل : الأولى : قال الشافعي : كل من صح طلاقه صح ظهاره وإن كان خصياً أو مجبوباً ، ويتفرع عليه أن ظهار الذمي صحيح . حجة الشافعي عموم قوله تعالى { والذين يظاهرون } وأيضاً تأثير الظهار في التحريم والذمي أهل لذلك بدليل صحة طلاقه . وأيضاً إيجاب الكفارة للزجر عن هذا الفعل الذي هو منكر من القول وزور وهذا المعنى قائم في حق الذمي . وقال أبو حنيفة ومالك : لا يصح ظهاره . واحتج أبو بكر الرازي لهما بأن قوله { والذين يظاهرون منكم } خطاب للمؤمنين . وأيضاً من لوازم الظهار تصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع لأنه مع الكفر باطل ، وبعد الإسلام غير لازم لأنه يجب ما قبله . وأجيب عن الأول بأن قوله { منكم } خطاب للحاضرين فلم قلتم : إنه يختص بالمؤمنين؟ على أن التخصيص بالذكر عندكم لا يدل على نفي ما عداه . وأيضاً العام عندكم إذا أورد بعد الخاص كان ناسخاً للخاص . وعن الثاني أن من لوازم الظهار أيضاً أنه حين عجز عن الصوم اكتفي منه بالإطعام فهو ههنا إن تحقق العجز وجب أن يكتفي فيه بالإطعام ، وإن لم يتحقق العجز زال السؤال .
وأيضاً الصوم بدل عن الإعتاق والبدل أضعف عن المبدل . ثم إن العبد عاجز عن الإعتاق مع أنه يصح ظهاره بالاتفاق فإذا كان فوات أقوى اللازمين لا يوجب منع الظهار ففوات الأضعف كيف يمنع؟ وقال القاضي حسين من أصحاب الشافعي في الجواب : نقول للذمي إن أردت الخلاص من التحريم فأسلم وصم قوله الإسلام يجب ما قبله . قلنا : إنه عام والتكفير خاص والخاص مقدّم على العام . الثانية قال مالك وأبو حنيفة والشافعي : لا يصح ظهار المرأة من زوجها وهو ظاهر ولو قال شهراً فقد قال أبو حنيفة والشافعي : بطل ظهاره بمضي المدة وكان قبل ذلك صحيحاً لام روي أن سلمة بن صخر ظاهر من امرأته حتى ينسلخ رمضان ثم وطئها في المدة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتحرير رقبة . وأما بطلان ظهاره بعد المدة فلمقتضى اللفظ كما في الأيمان . فإذا مضت المدة حل الوطء لارتفاع الظهار وبقيت الكفارة في ذمته . وقال مالك وابن أبى ليلى : هو مظاهر أبداً .
البحث الثالث في المظاهر عنها . ويصح الظهار عن الصغيرة والمجنونة والأمة المتزوّجة والذمية والرتقاء والحائض والنفساء ، ولا يصح عن الأجنبية سواء أطلق أو علق بالنكاح فقال « إذا نكحتك فأنت عليّ كظهر أمي » . ويصح عن الرجعية ولا يصح عن الأمة وأم الولد عند أبي حنيفة والشافعي لأن قوله تعالى { والذين يظاهرون من نسائهم } يتناول الحرائر دون الاماء كما في قوله { أو نسائهن } [ النور : 31 ] بدليل أنه عطف عليه قوله { أو ما ملكت أيمانهن } [ النور : 31 ] وقال مالك والأوزاعي : يصح لأن قوله { من نسائهم } يشمل ملك اليمين لغة . وفي الآية سؤال وهو أن المظاهر شبّه الزوجة بالأم ولم يقل إنها أم فيكف أنكر الله عليه بقوله { ما هن أمهاتهم } وحكم بأنه منكر وزور؟ والجواب أن قوله « أنت عليّ كظهر أمي » إن كان إخباراً فهو كذب لأن الزوجة حلال والأم حرام وتبشيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب ، وإن كان إنشاء كان معناه أن الشرع جعله سبباً في حصول الحرمة ، ولما لم يرد الشرع بهذا السبب كان الحكم به كذباً وزوراً ولهذا أوجب الله سبحانه الكفارة على صاحب القول بعد العود . سؤال آخر قوله تعالى { إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم } ظاهره يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة لكنه قال في موضع آخر { وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم } [ النساء : 23 ] وقال { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] أجاب في الكشاف بأنه يريد أن الأمهات على الحقيقة إنما هن الوالدات وغيرهن ملحقات بهن لدخولهن في حكمهن بسبب الإرضاع ، أو لكونها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أبو الأمة . وأما الزوجات فلسن من أحد القبيلين وكان قول المظاهر منكراً لمخالفة الحقيقة وزوراً لعدم موافقة الشرع .
قوله { ثم يعودون لما قالوا } قال الفراء : لا فرق في اللغة بين قولك عاد لما قال وإلى ما قال وفيما قال . وقال أبو علي الفارسي : كلمة إلى واللام يتعاقبان قال الله تعالى { الحمد لله الذي هدانا لهذا } [ الأعراف : 43 ] وقال { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقال أهل اللغة : إذا قال قائل عاد لما فعل جاز أن يريد أنه فعله مرة أخرى وهذا ظاهر ، وجاز أن يريد أن نقض ما فعل لأن التصرف في الشيء بالإعدام لا يمكن إلا بالعودة إليه ، وإلى هذا ذهب أكثر المجتهدين إلا أن الشافعي قال : معنى العود لما قالوا السكوت عن الطلاق قعد الظهار زماناً يمكنه أن يطلقها فيه ، وذلك أنه لما ظاهر فقد قصد التحريم فإن وصل ذلك بالطلاق فقد تمم ما شرع فيه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه ، فإذا سكت عن الطلاق دل على أنه ندم على ما ابتدأه من التحريم فحينئذ تجب عليه الكفارة . واعترض أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عليه من وجهين : الأول أنه تعالى قال { ثم يعودون } وكلمة « ثم » تقتضي التراخي . وعلى قول الشافعي يكون المظاهر عائداً عقيب القول بلا تراخ وهذا خلاف مفهوم الآية . الثاني أنه شبهها بالأم والأم لا يحرم إمساكها فلا يكون إمساك الزوجة نقضاً لما قال . وأجيب عن الأول بأنه يوجب أن لا يتمكن المظاهر من العود إليها بهذا التفسير عقيب فراغه من التلفظ بلفظ الظهار حتى يحصل التراخي مع أن الأمة مجمعة على أن له ذلك . والتحقيق أن العبرة بالحكم ونحن لا نحكم بالعود ما لم ينقض زمان يمكنه أن يطلقها فيه فقد تأخر كونه عائداً عن كونه مظاهراً بهذا القدر من الزمان وهذا يكفي في العمل بمقتضى كلمة « ثم » . وعن الثاني أن المراد إمساكها على سبيل الزوجية واللفظ محتمل لهذا وإمساك الأم بهذا الوجه محرم . وقال أبو حنيفة : معناه استباحة الوطء والملامسة والنظر إليها بالشهوة ، وذلك أنه لام شبهها بالأم في حرمة هذه الشياء ثم قصد استباحتها كان مناقضاً لقوله « أنت عليّ كظهر أمي » . وقال مالك : العود إليها عبارة عن العزم على جماعها ، وضعف بأن العزم على جماعها لا يناقض كونها محرمة إنما المناقض لكونها محرمة هو القصد إلى استحلال جماعها فيرجع إلى قول أبي حنيفة . ولا يرد عليه إلا أنه خص وجه التشبيه من غير دليل ، والذي ذكره الشافعي أعم وأقل ما يطلق عليه اسم العود فكان أولى . وعن طاوس والحسن أن العود إليها عبارة عن جماعها وخطىء لقوله { فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا } وإذا كان التكفير قبل الجماع والتكفير لا يثبت إلا بعد العود فالعود غير الجماع .
وأما الاحتمال الأول وهو أن العود لما فعل هو فعلة مرة أخرى ففيه أيضاً وجوه : الأول : قول الثوري : إن العود هو الإتيان بالظهار في الإسلام وزيف بأنه يرجع حاصل المعنى إلى قوله { والذين } كانوا { يظاهرون من نسائهم } في الجاهلية { ثم يعودون لما قالوا } في الإسلام { فكفارته } كذا وكذا وهذا إضمار من غير دليل مع أنه خلاف الأصل . الثاني قال أبو العالية : إذا كرر لفظ الظهار فهو عود وإلا فلا . وضعف بحديث أوس وحديث سلمة بن صخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لزمهما الكفارة مع أنهما لم يكررا الظهار . الثالثة : قال أبو مسلم الأصفهاني : العود هو أن يحلف على ما قال أوّلاً من لفظ الظهار فإذا لم يحلف لم تلزمه الكفارة قياساً على ما لو قال في بعض الأطعمة « إنه حرام عليّ كلحم الآدمي » فإنه لا يلزمه الكفارة إلا إذا حلف عليه . ورد بأن الكفارة قد تجب بالإجماع في المناسك ولا يمين . وعندي أن هذا الرد مردود لأنه لا يلزم من وجوب الكفارة في الصورتين من غير يمين وجوبها في كل صورة بلا يمين . نعم يرد على أبي مسلم أن تفسير العود بالحلف إثبات اللغة بالقياس ، ولا يخفى أن العود لما قالوا على هذا الاحتمال ظاهر لأنه أريد بالقول اللفظ . وأما الاحتمال الآخر فيحتاج إلى تأويل القول بالمقول فيه وهو ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار كما مر في قوله { ونرثه ما يقول } [ مريم : 81 ] أي المال والواو للحال .
مسائل : الأولى : الجديد وأبو حنيفة أن الظهار يحرم جميع جهات الاستمتاعات لأن قوله سبحانه { من قبل أن يتماسا } يعم جميع ضروب المس من المس بيد وغيرها . « وروى عكرمة أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال : اعتزلها حتى تكفِّر » الثانية : اختلفوا فيمن ظاهر مراراً فقال أبو حنيفة والشافعي : لكل ظهار كفّارة إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار للتأكيد . وقال مالك : من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة . وحجتهما أنه تعالى رتب الكفّارة على التلفظ بكلمة الظهار والمعلول يتكرر بتكرر العلة ، ويتفرع عليه أنه لو كانت تحته أربع نسوة وقال لهن : أنتن عليّ كظهر أمي لزمه أربع كفارات لأن الحكم يتكرر ويتعدّد المحل . حجته أنه رتب الكفارة على مطلق الظهار والمطلق شامل للمتعدد ، ونوقض باليمين فإن الكفارة لازمة في كل يمين . الثالثة : دلت على إيجاب الكفارة قبل التماس فإن جامع قبل أن يكفر لم يجب عليه إلا كفارة واحدة وهو قول أكثر أهل العلم كمالك وأبي حنيفة والشافعي وسفيان وأحمد وإسحق ، لأن سلمة بن صخر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها .
فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفّر . وقال بعضهم ومنهم بعد الرحمن بن مهدي : إذا واقعها قبل أن يكفر فعليه كفارتان . الرابعة : لا ينبغي للمرأة أن تدع الزوج يقربها حتى يكفّر فإن تهاون حال الإمام بينهما ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع . قال الفقهاء : ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة وامتناع من إيفاء حقها . الخامسة : قد ذكرنا أن الاستمتاعات محرمة عليه إلى أن يكفّر وذلك صريح في تحرير الربة وفي الصيام والآن نقول : إن التكفير بالإطعام أيضاً كذلك وإن لم يتعرض للتماس في قوله { فإطعام ستين مسكيناً } حملاً للمطلق على المقيد عند اتحاد الواقعة ، وللأقل وهو صورة واحدة على الأكثر وهذه من فصاحات القرآن . السادسة : مذهب أبي حنيفة أن هذه الرقبة تجزي وإن كانت كافرة لإطلاق الآية . وقال الشافعي : لا بد أن تكون مؤمنة قياساً على كفارة القتل . والجامع أن الإعتاق إنعام والمؤمن أولى به ، ولأن المشركين نجس وكل نجس خبيث بالإجماع . وقال الله تعالى { ولا تيمموا الخبيث } [ البقرة : 267 ] ولا تجزي أم الولد ولا المكاتب عند الشافعي لضعف الملكية فيه ولا يحصل الجزم بالخروج عن العهدة . وقال أبو حنيفة : إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً جاز عن الكفارة لأنه رقبة بدليل قوله { وفي الرقاب } [ البقرة : 177 ] وإن أعتقه بعد أن يؤدي شيئاً لم يجز . والمدبر يجزي عند الشافعي ولا يجزي عند أبي حنيفة . السابعة : يعتبر في الرقبة بعد الإيمان على خلاف فيه السلامة عن العيوب لا التي يثبت بها الرد في البيع ولكن التي تخل بالعمل والاكتساب لأن المقصود هناك المالية وههنا تكميل حاله ليتفرغ للعبادات والوظائف المخصوصة بالأحرار ، فلا يجزي مقطوع اليدين أو الرجلين أو إحداهما ولا المجنون ، ويجزي الأعور والأصم والأخرس ومقطوع الأذنين أو الأنف أو أصابع الرجلين لا أصابع اليد لأن البطش والعمل يتعلق بها . والعبد الغائب . إن انقطع خبره لا يجزي ولو أعتق بعده عن كفارته شرط أن يردّ ديناراًَ أو غيره لم يجز بل يجب أن يكون الإعتاق خالياً من شوائب العوض . الثامنة : كفارة الظهار مرتبة على ما في الآية . فإن كان في ملكه عبد فاضل عن حاجته فواجبه هو ، وإن احتاج إلى خدمته لمرض أو كبر أو لأن منصبه يأبى أن يخدم نفسه لم يكلف صرفه إلى الكفارة ، ولو وجد ثمن العبد فكالعبد . والشرط أن يفضل عن حاجة نفقته وكسوته ونفقة عياله وكسوتهم وعن المسكن وما لا بدّ له من الأثاث ولو كانت له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه ويفي ما يحصل منهما بكفايته بلا مزيد ولو باعهما لارتدّ إلى حد المساكين لم يكلف صرفه إلى الكفارة .
ولو وجد ثمن العبد فكالعبد والشرط بيعها وإن كان ماله غائباً أو لم يجد الرقبة في الحال لم يجز العدول إلى الصوم بل يصبر ، وإن كان يتضرر بامتناع الابتياع لأنه تعالى قال { فمن لم يجد } وهو واجد . أما من كان مريضاً في الحال ولا يقدر على الصوم فإنه ينتقل إلى الإطعام لأنه تعالى قال { فمن لم يستطع } وهو غير مستطيع ، والمآل غير معلوم ولا هو متعلق باختياره بخلاف إحضار المال أو تحصيل الرقبة فإن ذلك قد يمكنه . التاسعة : لو أطعم مسكيناً واحداً ستين مرة لا يجزي عند الشافعي لظاهر الآية ، ولأن إدخال السرور في قلب ستين أجمع وأقرب من رضا الله . وقال أبو حنيفة : يجزي . العاشرة : الشبق المفرط والغلمة عذر عند الأكثرين في الانتقال إلى الإطعام كما في قصة الأعرابي وهل أتيت إلا من قبل الصوم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم وقال : أطعم . وحمله آخرون على خاصة الأعرابي . ولنكتف بهذا القدر من المسائل الفقهية في تفسير آية الظهار .
قال الزجاج { ذلكم توعظون } أي ذلك التغليظ وعظ لكم حتى تتركوا الظهار . وحين ذكر حكم الآية عقبه بقوله ذلك فيحتمل أن يعود إلى مطلق بيان كفارة الظهار ، ويحتمل أن يعود إلى التخفيف والتوسيع لتصدقوا بالله ورسوله فإن التخفيف مناسب للتصديق والعمل بالشريعة { وللكافرين } الذين استمروا على أحكام الجاهلية { عذاب أليم } وإنما قال في الآية الثانية { عذاب مهين } ليناسب قوله { كبتوا } أي أخزوا وأهلكوا . قيل : أريد كبتهم يوم الخندق . وفي الحدود مع المحادة نوع من التجانس ، والمحادّة المشاقة من الحد الطرف كأن كلاً من المتخاصمين في طرف آخر كالمشاقة من الشق . وقال أبو مسلم : هي من الحديد كأن كلا منهما يكاد يستعمل الحديد أي السيف وهم المنافقون أو الكافرون على الإطلاق . قوله { أحصاه الله } أي أحاط بما عمل كل منهم كماً وكيفاً وزماناً ومكاناً { ونسوه } لكثرته أو لقلة اكتراثهم بالمعاصي وإنما يحفظ معظمات الأمور . ثم قرر كمال علمه بقوله { ما يكون من نجوى ثلاثة } نفر ويجوز أن يكون ثلاثة وصفاً للنجوى على حذف المضاف أي من أهل نجوى ، أو لأنهم جعلوا نجوى مبالغة وكذلك كل مصدر وصف به . قال الزجاج : هي مشتقة من النجوة المكان المرتفع لأن الكلام المذكور سراً يجل عن استماع الغير . سؤال : لم ذكر الثلاثة والخمسة وأهمل ذكر الاثنين والاربعة؟ الجواب من وجوه أحدها : أن الآية نزلت في قوم من المنافقين اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين وكانوا على هذين العددين فحص صورة الواقعة بالذكر . عن ابن عباس أن ربيعة وحبيباً ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً مّا يتحدثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول . فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً .
وقال الثالث : إن كان يعلم بعضاً فهو يعلم كله فنزلت . قالت جماعة : الحق مع الثالث فلعل الآخر كان فلسفي الاعتقاد القائل بأنه تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات . ثانيها أن العدد الفرد أشرف من الزوج لأن الله تعالى وتر ولأن الزوج يحتاج إلى الوتر دون العكس كالواحد . وثالثها أن المتشاورين الاثنين كالمتنازعين في النفي والإثبات ، والثالث كالمتوسط الحكم وهكذا في كل زوج اجتمعوا للمشاورة فلا بد فيهم من واحد يكون حكماً فذكر سبحانه الفردين الأولين تنبيهاً على الأفراد الباقية . ورابعها أن هذا إشارة إلى كمال المرحمة ، وذلك أن الثلاثة إذا أخذ اثنان منهم في التناجي والمسارّة بقي الواحد ضائعاً وحيداً فيضيق قلبه فيقول الله تعالى : أنا جليسك وأنيسك . وكذا الخمسة إذا اجتمع اثنان اثنان منهم بقي الخامس فريداً فنفس الله تعالى عنه ببشارة المعية . وهذا التأويل لا يتأتى في الاثنين والأربعة فأهمل ذكرهما . وفيه أن من انقطع عن الخلق لم يتركه الله ضائعاً . وخامسها وهو من السوانح . أنه سبحانه لما أراد تكميل الكلام بقوله { ولا أدنى من ذلك ولا أكثر } لم يكن بد من الابتداء بالثلاثة مع أنها عدد أكثري في التشاور ، ثم بالخمسة ليكون لكل من العددين طرفا قلة وكثرة . وفيه أيضاً من الفصاحة أنه لم يقع حروف الأربعة مكرراً إذ لو قال « ولا أربعة إلا وهو خامسهم » على ما وقع في مصحف عبد الله لكان في ذكر الرابع والأربعة شبه تكرار . ولعل في الآية إشارة إلى التناجي لا ينبغي أن يكون إلا بين اثنين إلى ستة لتكون الزيادة على الخمسة بقدر احتمال النقصان على الثلاثة ، ويعضده ما روي أن عمر بن الخطاب ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع ، وهذه من نكت القرآن زادنا الله اطلاعاً عليها . قال أكثر المفسرين : كانت اليهود والمنافقون يتناجون فيما بينهم ويتغامزون بأعينهم إذا رأوا المؤمنين يريدون بذلك غيظهم ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فعادوا لمثله وكان تناجيهم بما هو إثم وعدوان للمؤمنين وتواص بمحالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فنزل { ألم تر إلى الذين } الآية منهم من قال : هم المنافقون ومنهم من قال : فريق من الكفار . والأول أقرب بدليل قوله { وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك } وذلك أنهم كانوا يقولون « السلام عليك يا محمد » والله تعالى يقول { وسلام على عباده الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] و « يا أيها الرسول » و « يا أيها النبي » . وحديث عائشة مع اليهود في هذا المعنى مذكور مع شهرته وكانوا يقولون : ما له إن كان نبياً لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول ، فأجاب الله تعالى عن قولهم بأن جهنم تكفيهم .
قال أبو علي : التناجي والانتجاء بمعنى نحو اجتوروا واعتوروا في معنى تجاوروا وتعاوروا . ثم نهى المؤمنين عن مثل تلك النجوى وهو ظاهر . وقال جمع من المفسرين : وهو خطاب المنافقين الذين آمنوا باللسان دون مواطأة القلوب . وأعلم أن المناجاة إذا كانت على طريقة البر والتقوى فقلما تقع الداعية إلى كتمانها فلا تكره النجوى ولا يتأذى بها أحد إذا عرفت سيرة المناجي فلهذا أمر الله سبحانه أن لا يقع التناجي إلا على وجه البر .
قوله { إنما النجوى } الألف واللام فيه لا يمكن أن تكون للاستغراق أو للجنس ، فمن النجوى ما تكون ممدوحة لاشتمالها على مصلحة دينية أو دنيوية فهي إذن للعهد وهو التناجي بالإثم والعدوان زينة الشيطان لأجلهم { ليحزن } الشيطان ، أو التناجي المؤمنين وكانوا يقولون ما نراهم متناجين إلا وقد بلغهم عن أقاربنا الذين خرجوا إلى الغزوات أنهم قتلوا أو هربوا . ثم بين أن الشيطان أو الحزن لا يضر المؤمن أصلاً إلا بمشيئة الله وإرادته . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه » وفي رواية « دون الثالث » . وحين نهى تعالى عباده المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر حثهم على ما يوجب مزيد المحبة والألفة . والتفسح في المجلس التوسع لله والمراد مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتضامّون فيه تنافساً في القرب منه وحرصاً على استماع كلامه . ومن قرأ على الجمع جعل لكل جالس مجلساً على حدة . وقيل : هو المجلس من مجالس القتال أي مراكز القتال . كان الرجل يأتي الصف فيقول : تفسحوا . فيأبون حرصاً على الشهادة . والقول الأول أصح . قال مقاتل بن حيان : كان صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا حيال النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على الرسول فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان قم يا فلان . فلم يزل كذلك حتى أقعد النفر الذين هم قيام بين يديه فعرفت الكراهية في وجه من أقيم من مجلسه ، وطعن المنافقون في ذلك قالوا : والله ما عدل على هؤلاء وإن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم فأجلس من أبطأ عنه فنزلت { وإذا قيل انشزوا } أي انهضوا للتوسعة على المقبلين فانشزوا ولا تملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالارتكاز فيه { يرفع الله الذين آمنوا منكم } أيها الممتثلون والعالمين منهم خاصة { درجات } قال بعض أهل العلم : المراد به الرفعة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وهو مناسب للمقام لقوله
« ليليني منكم أولو الأحلام والنهي » والمشهور أنه الرفعة في درجات ثواب الآخرة وقد أطنبنا في فضيلة العلم في أوائل البقرة عند قوله { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] والأمر يقتضي أن يقتدى بالعالم في كل شيء ولا يقتدى بالجاهل في شيء ، وذلك أنه يعلم من كيفية الاحتراز عن الحرام والشبهات ومحاسبة النفس ما لا يعرفه الغير ، ويعلم من كيفية التوبة وأوقاتها وصفاتها ما لا خبر فيه عند غيره ، ويتحفظ فيما يلزمه من الحقوق ما لا يتحفظ غيره ولكنه كما تعظم منزلته عند الطاعة ينبغى أن يعظم عتابه عند التقصيرات حتى كاد تكون الصغيرة بالنسبة إليه كبيرة ، واللهم ثبتنا على صراطك المستقيم ووفقنا للعمل بما فهمنا من كتابك الكريم . قال ابن عباس : كان المسلمون أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه وأراد الله أن يخفف عن نبيه ، فلما نزلت آية النجوى شح كثير من الناس فكفوا عن المسئلة . وقال مقاتل بن حيان : إن الأغنياء غلبوا الفقراء في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأكثروا مناجاته فأمر الله بالصدقة عند المناجاة فازدادت درجة الفقراء وانحطت رتبة الأغنياء وتميز محب الآخرة عن محب الدنيا . قال بعضهم : هذه الصدقة مندوبة لقوله { ذلك خير لكم } ولأنه أزيل العمل به بكلام متصل وهو قوله { أأشفقتم } والأكثرون على أنها كانت واجبة لظاهر الأمر والواجب قد يوصف بكونه خيراً ولا يلزم من اتصال الآيتين في القراءة اتصالهما في النزول . وقد يكون الناسخ متقدماً على المنسوخ كما مر في آية الاعتداد بالحول في البقرة . واختلفوا في مقدار تأخرها : فعن الكلبي ما بقى ذلك التكليف إلا ساعة من نهار . وعن مقاتل بقي عشرة أيام . وعن علي رضي الله عنه : لما نزلت الآية دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقول في دينار؟ قلت : لا يطيقونه . قال : كم؟ قلت : حبة أو شعيرة . قال : إنك لزهيد أي إنك لقليل المال فقدرت على حسب مالك . وعنه عليه السلام : إن في كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي . كان لي دينار فاشتريت به عشرة دراهم فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم . قال الكلبي : تصدق به في عشر كلمات سألهن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال القاضي : هذا لا يدل على فضله على أكابر الصحابة لأن الوقت لعله لم يتسع للعمل بهذا الفرض . وقال فخر الدين الرازي : سلمنا أن الوقت قد وسع إلا أن الاقدام على هذا العمل مما يضيق قلب الفقير الذي لا يجد شيئاً وينفر الرجل الغني ولم يكن في تركه مضرة . لأن الذي يكون سبباً للألفة أولى مما يكون سبباً للوحشة . وأيضاً الصدقة عند المناجاة واجبة : أما المناجاة فليست بواجبة ولا مندوبة بل الأولى ترك المناجاة لما بيّنا من أنها كانت سبباً لسآمة النبي صلى الله عليه وسلم .
قلت : هذا الكلام لا يخلو عن تعصب مّا . ومن أين يلزمنا أن نثبت مفضولية علي رضي الله عنه في كل خصلة ، ولم لا يجوز أن يحصل له فضيلة لم توجد لغيره من أكابر الصحابة . فقد روي عن ابن عمر كان لعلي رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى . وهل يقول منصف إن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم نقيصة على أنه لم يرد في الآية نهي عن المناجاة وإنما ورد تقديم الصدقة على المناجاة فمن عمل بالآية حصل له الفضيلة من جهتين : سدّ خلة بعض الفقراء ، ومن جهة محبة نجوى الرسول صلى الله عليه وسلم ففيها القرب منه وحل المسائل العويصة وإظهار أن نجواه أحب إلى المناجي من المال والظاهر أن الآية منسوخة بما بعدها وهو قوله { أأشفقتم } إلى آخرها . قاله ابن عباس . وقيل : نسخت بآية الزكاة . أما أبو مسلم الذي يدعي أن لا نسخ في القرآن فإنه يقول : كان هذا التكليف مقدراً بغاية مخصوصة ليتميز الموافق من المنافق والمخلص من المرائي ، وانتهاء أمد الحكم لا يكون نسخاً له . ومعنى الآية أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الإنفاق المنقص للمال الذي هو أحب الأشياء إليكم { فإذا لم تفعلوا } ما أمرتم به { وتاب الله عليكم } ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات . ومن زعم أن العمل بآية النجوى لم يكن من الطاعات قال : إنه لا يمتنع أن الله تعالى علم ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب فقال : إذا كنتم تائبين راجعين إلى الله وأقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة فقد كفاكم هذا التكليف . قال المفسرون : كان عبد الله بن نبتل المنافق يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود . فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجراته إذ قال : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان ، فدخل ابن نبتل وكان أزرق فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل فعلت . فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزل { ألم تر إلى الذين تولوا } أي وادّوا { قوماً غضب الله عليهم } وهم اليهود { ما هم منكم } لأنهم ليسوا مسلمين بالحقيقة { ولا منهم } لأنهم كانوا مشركين في الأصل { ويحلفون على الكذب } وهو ادعاء الإسلام . وفي قوله { وهم يعلمون } دلالة على إبطال قول الجاحظ إن الخبر الكذب هو الذي يكون مخالفاً للمخبر عنه مع أن المخبر يعلم المخالفة وذلك أنه لو كان كما زعم لم يكن لقوله { وهم يعلمون } فائدة بل يكون تكراراً صرفاً .
قال بعض المحققين : العذاب الشديد هو عذاب القبر ، العذاب المهين الذي يجيء عقيبه هو عذاب الآخرة . وقيل : الكل عذاب الآخرة لقوله { الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب } [ النحل : 88 ] قال جار الله : معنى قوله { إنهم ساء ما كانوا يعملون } إنهم كانوا في الزمان الماضي المتطاول مصرين على سور العمل ، أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة . ومعنى الفاء في { فصدوا } أنهم حين دخلوا في حماية الايمان بالأيمان الكاذبة وأمنوا على النفس والمال اشتغلوا بصدّ الناس عن الدخول في الإسلام بإلقاء الشبهات وتقبيح حال المسلمين . ويروى أن رجلاً منهم قال : لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا فنزل { لن تغني عنهم } الآية .
ثم أخبر عن حالهم العجيبة الشأن وهو أنهم يحلفون يوم المحشر لعلام الغيوب كما يحلفون لكم في الدنيا وأنتم بشر يخفى عليكم السرائر { ويحسبون أنهم على شيء } من النفع . والمراد أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف . قال القاضي والجبائي : إن أهل الآخرة لا يكذبون . ومعنى الآية أنهم يحلفون في الآخرة إما ما كنا كافرين عند أنفسنا . وقوله { ألا أنهم هم الكاذبون } في الدنيا . ولا يخفى ما في هذا التأويل من التعسف وقد مر البحث في قوله { والله ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ثم بين أن الشيطان هو الذي زين لهم ذلك . ومعنى استحوذ استولى وغلب ومنه قول عائشة في حق عمر : كان أحوذياً أي سائساً غالباً على الأمور وهو أحد ما جاء على الأصل نحو « استصوب واستنوق » احتج القاضي به في خلق الأعمال بأن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله لكانت إضافتها إلى الشيطان كذباً ، ولكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان . والجواب ظاهر مما سلف مراراً فإن الكلام في الانتهاء لا في الوسط . قوله { أولئك في الأذلين } قال أهل المعنى : إن ذل أحد الخصمين تابع لعز الخصم الآخر . ولما كانت عزة أولياء الله تعالى غير متناهية فذل أعدائه لا نهاية له فهم إذن أذل خلق الله . ثم قرر سبب ذلهم بقوله { كتب الله } في اللوح { لأغلبن أنا ورسلي } إما بالحجة وحدها أو بها وبالسيف . قال مقاتل : إن المسلمين قالوا : إنا لنرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم . فقال عبد الله بن أبيّ : أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتموهم عليها؟ كلا والله إنهم أكثر عدداً وعدّة فنزلت الآية . ثم بين أن الجمع بين الإيمان الخالص وموادّة من حادّ الله ورسوله غير ممكن ولو كان المحادّون بعض الأقربين .
وقال جار الله : هذا من باب التمثيل والغرض أنه لا ينبغي أن يكون وحقه أن يمتنع ولا يوجد . قلت : لو اعتبر كل من الأمرين من حيث الحقيقة كان بينهما أشد التباين ولا حاجة إلى هذا التكلف إلا أن يحمل أحدهما على الحقيقة والآخر على الظاهر فحينذ قد يجتمعان كما في حق أهل النفاق ، وكما يوجد بعض أهل الإيمان يخالط بعض الكفرة ويعاشرهم لأسباب دنيوية ضرورية . عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة فإني أجد فيما أوحي إليّ » { لا تجد قوماً } يروى أنها نزلت في أبي بكر ، وذلك أن أبا قحافة سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصكه صكة سقط منها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو قد فعلته؟ قال : نعم . قال : لا تعد . قال : والله لو كان السيف قريباً مني لقتلته . وقيل : في أبي عبيدة بن الجراح فقتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد ، وفي كثير من أكابر الصحابة أعرضوا عن عشائرهم وعادوهم لحب الله ورسوله . فذهب جمع من المفسرين إلى أنها نزلت في حاطب ابن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النبي صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح وسيجيء في الممتحنة . والأظهر عندي نزولها في المؤمنين الخلص لقوله { أولئك كتب } أي أثبت { في قلوبهم الإيمان } إثبات المكتوب في القرطاس . وقيل : معناه جمع . والتركيب يدور عليه أي استكلموا أجزاء الإيمان بحذافيرها ليسوا ممن يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض . قوله { وأيديهم بروح منه } قال ابن عباس : أي نصرهم على عدوّهم . وسمي النصرة روحاً لأن الأمر يحيا بها . ويحتمل أن يكون الضمير للإيمان على أنه في نفسه روح فيه حياة القلوب والباقي ظاهر والله أعلم وإليه المصير وبيده التوفيق والإتمام بالصواب .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
القراآت : { يخربون } بالتشديد : أبوعمرو . والباقون : بالتخفيف من الإخراب { تكون } بالتاء الفوقانية { دولة } بالرفع على « كان » التامة : يزيد . والآخرون : على التذكير والنصب { جدار } بالألف على التوحيد : ابن كثير وأبو عمرو . والآخرون : بضمتين من غير ألف . { إني أخاف } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . و { الباري } بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو طريق ابن عبدوس .
الوقوف { وما في الأرض } ط { الحكيم } ه { الحشر } ط { الأبصار } ط { في الدنيا } ط { النار } ط ه { ورسوله } ج بناء على أن الشرط من جملة المذكور { العقاب } ه { الفاسقين } ه { من يشاء } ط { قدير } ه { السبيل } ه { منكم } ط { فانتهوا } ج لابتداء من بعد جزاء الشرط مع اتفاق النظم { واتقوا الله } ط { العقاب } ه لئلا يوهم أن قوله { للفقراء } يتعلق ب { شديد } { ورسوله } ط { الصادقون } ه ج بناء على أن ما بعده مستأنف أو معطوف ويجيء وجه كل منهما في التفسير . { خصاصة } قف قيل : وقفة والأحسن الوصل لأن الاعتراض مؤكد لما قبله { المفلحون } ه لمثل المذكور { رحيم } ه { أبداً } لا لأن ما بعده من تمام القول { لننصركم } ط { لكاذبون } ه { معهم } ج { لا ينصرونهم } ط للعطف فيهما مع الابتداء بالقسم { لا ينصرون } ه { من الله } ط { لا يفقهون } ه { جدر } ط { شديد } ه { لا يعقلون } ه ج لتعلق الكاف ب { لا يعقلون } أو بمحذوف أو مثلهم كمثل { أمرهم } ط لاختلاف الجملتين { أليم } ه ج لما قلنا { اكفر } ط { العالمين } ه { فيها } ط { الظالمين } ه { لغد } ج لاعتراض خصوص بين العمومين أي لم يتق الله كل واحد منكم فلتنظر لغدها نفس واحد منكم { واتقوا الله } ه { تعلمون } ه { أنفسهم } ط { الفاسقون } ه { الجنة } الأولى ط { الفائزون } ه { من خشية الله } ط { يتفكرون } ه { إلا هو } ج لاحتمال كون ما بعده خبر مبتدأ محذوف { والشهادة } ج لاحتمال كون الضمير بدلاً من عالم أو مبتدأ { الرحيم } ه { إلا هو } ط لما قلنا { المتكبر } ط { يشركون } ه { الحسنى } ط { والأرض } ط { الحكيم } ه .
التفسير : قال المفسرون : صالح بنو النضر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما غلب الكفار يوم بدر قالوا : هوالنبي الذي نعته في التوراة لا ترد له رأيه ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبين إلى مكة فعاهدوا قريشاً عند الكعبة ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعباً غيلة وكان اخا كعب من الرضاعة ثم صبحهم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف فقال لهم : اخرجوا من المدينة فقالوا : الموت أحب إلينا من ذاك .
فتنادوا بالحرب . وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج فأرسل إليهم عبد الله بن أبيّ المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ولا نخذلكم ولئن خرجتم لنخرجن معكم فدرّبوا على الأزقة وحصنوها ، فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة . فلما قذف الله الرعب في قلوبهم وأيسوا من نصرة المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم ، فذهبوا إلى اريحاء وأذرعات من الشأم إلا أهل بيتين منهم ابن أبي الحقيق وحُيَيّ بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة . واللام في قوله { لأول الحشر } بمعنى الوقت كقولك « جئت ليوم كذا » . وهم أولم ن أخرج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام . فمعنى الحشر إخراج الجميع من مكان ، ومعنى الأولية أنه لم يصبهم قبل ذلك مثل هذا الذل لأنهم كانوا أهل منعة هذا قول ابن عباس والأكثرين . وقيل : هذا أول حشرهم ، وآخره حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام كما جاء في الحديث « نار تخرج من المشرق وتسوق الناس إلى المغرب » قاله قتادة . وقيل : آخر حشرهم إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام . وقيل : معناه لأول ما حشر بقتالهم لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال في الكشاف : الفرق بين النظم الذي جاء عليه وبين قول القائل « وظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم » هو أن في تقديم الخبر على المبتدأ دليلاً على فرط وثوقهم بحصانتها ، وفي نصب ضميرهم اسماً لأن إسناد الجملة إليه دليل على أنهم اعتقدوا عزة أنفسهم ومنعتها بحيث لا يمكن لأحد أن يتعرض لهم . قلت : حاصل كلامه رضي الله عنه الحصر . ومعنى إتيان الله إتيان أمره وهو النصر إن عاد إلى اليهود وهذا أظهر ليناسب قوله تعالى { في قلوبهم } ولاستعمال القرآن نظيره في مواضع أخر في معرض التهديد { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله } [ البقرة : 210 ] { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] ومعنى { لم يحتسبوا } أنه لم يخطر ببالهم قتل كعب غيلة على يد أخيه . وقذف الرعب في قلوبهم وهذا من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم كما مر في آل عمران { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وفي لفظ القذف زيادة تأكيد ولهذا قالوا في صفة الأسد « مقذف » فكأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه . قال الفراء { يخربون } بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخرجون منها ويتركونها . وكان أبو عمرو ويقول : الإخراب أن يترك الشيء خراباً ، والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا . وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الأحكام نحو « فرحته » و « أفرحته » و « حسنة الله » و « أحسنه » .
قال المفسرون : إنهم لما أيقنوا بالجلاء حسدوا المسلمين أن يسكنوا منازلهم فجعلوا يخربونها من داخل والمسلمون من خارج . قلت : ويحتمل أن يكون بعض التخريب لسدّ أفواه الأزقة بالخشب والحجارة أو لنقل ما أرادوا حمله من جيد الخشب والساج . وأما المؤمنون فداعيهم إلى ذلك إزالة تحصنهم أو أن يتسع لهم في الحرب مجال ، ومعنى تخريبهم بأيدي المؤمنين أنهم كانوا السبب فيه وأنهم عرضوا المؤمنين لذلك . ثم أمر أهل الابصار الباطنة بالاعتبار وهو العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ومنه العبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، والتعبير لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، والعبارة لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى فهم المستمع ، والسعيد من اعتبر بغيره لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، أو القائس يعبر عن المقيس عليه إلى المقيس . ومعنى الاعتبار في الآية أنهم اعتمدوا على حصونهم وعدّتهم فأمر الله تعالى أرباب العقول بأن ينظروا في حالهم ولا يعتمدوا على شيء غير الله ، أو المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الكفر والغدر والطعن في النبوّة فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر والكفر في البلاء والجلاء . واعترض بأن رب شخص وكفر وما عذب في الدنيا ، ورب ممتحن مبتلى هو نبي أو ولي . وأجيب بأن حاصل القياس والاعتبار يرجع إلى أن الغادر الكافر معذب أعم من أن يكون بالتخريب أو بالقتل أو في الدنيا أو في الآخرة والعكس لا يلزم . وقيل : معنى الاعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدهم أن يورثهم أرضهم وأموالهم بغير قتال فكان كما وقع فدل على صحة نبوّته . والجلاء أن لم يبق لهم بالمدينة دار ولا فيها منهم ديار وهذا عندهم أشدّ من الموت فلهذا قال { ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا } بالقتل { ولهم في الآخرة } بعدما عاينوا في الدنيا { عذاب النار ذلك } التخريب أو الجلاء أو العذاب بسبب مخالفتهم وعصيانهم الله ورسوله . قالت الفقهاء : فيه دليل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها فليس أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب . يروى أنه صلى الله عليه وسلم حين أمر أن يقطع نخلهم ويحرق قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فكان في أنفس المؤمنين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى { ما قطعتم } محله نصب و { من لينة } بيان له كأنه قيل : أي شيء قطعتم من لينة وهي النخلة من الألوان ما خلا العجوة والبرنية وهما أجود النخل . وياؤها واو في الأصل كالديمة . وقيل : هي النخلة الكريمة من اللين فتكون الياء أصلية ، فبين الله تعالى أن ذلك جائز غيظاً لقلوب الكفرة .
واحتج الفقهاء بها على جواز هدم حصون الكفار وقلع أشجارهم . وعن ابن مسعود : قطعوا منها ما كان موضعاً للقتال . وروي أن رجلين كان يقطع أحدهما العجوة والآخر يترك فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال هذا : قطعتها غيظاً للكفار . وقد يستدل بهذا على جواز الاجتهاد ولو بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أن كل مجتهد مصيب .
قوله { وما أفاء الله } أدخل العاطف ههنا دون الأخرى لأن تلك بيان لهذه فهي غير أجنبية عنها والأولى معطوفة على ما قبلها . ومعنى أفاء جعله فيئاً من فاء إذا رجع وذلك لرجوعه من ملك الكفار إلى ملك المسلمين . والإيجاف من الوجيف وهو السير السريع . وقوله { عليه } أي على ما أفاء . والركاب ما يركب من الإبل واحدتها راحلة ولا واحد لها من لفظها ، وقلما تطلق العرب الراكب إلا على راكب البعير ، بين الله سبحانه الفرق بين الغنيمة والفيء حين طلب الصحابة أن يقسم أموال أولئك اليهود بينهم اعترض بعضهم بأن أموال بني النضير أخذت بعد القتال لأنهم حوصروا أياماً وقاتلوا وقتلوا ثم صالحوا على الجلاء فوجب أن تكون تلك الأموال من الغنيمة لا من الفيء . وأجاب المفسرون من وجهين : الأول أنها لم تنزل في بني النضير وإنما نزلت في فدك ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على نفسه وعلى عياله من غلة فدك ويجعل الباقي في السلاح والكراع . الثاني تسليم أنها نزلت فيهم ولكن لم يكن للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ، وإنما كانوا على ميلين من المدينة فمشوا على أرجلهم ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان راكب جمل ، فلما كان المعاملة قليلة ولم يكن خيل ولا ركاب أجراه الله مجرى ما لم يكن قتال ثمة . ثم روي أنه قسمها بين المهاجرين ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة وهو أبو دجانة وسهل بن حنيف والحرث بن أبرهة قال الواحدي : كان الفيء مقسوماً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم : أربعة منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكذا خمس الباقي ، والسهم الأربعة من هذا الباقي لذي القربى ولد بني هاشم والمطلب ، واليتامى والمساكين وابن السبيل . وأما بعد الرسول فللشافعي فيه قولان : أحدهما أنه للمجاهدين المترصدين للقتال في الثغور لأنهم قاموا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في رباط الثغور . والثاني أنه يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثغور وحفر الأنهار وبناء القناطر الأهم فالأهم . هذا في الأربعة الأخماس التي كانت له ، وأما السهم الذي كان له من خمس الفيء فإنه لمصالح المسلمين بلا خلاف وقد مر سائر ما يتعلق بقسمة الغنائم في سورة الأنفال .
ثم بين الغرض من قسمة الفيء على الوجه المذكور فقال { كيلا يكون دولة } قال المبرد : هي اسم للشيء الذي يتداوله الناس بينهم يكون لهذا مرة ولهذا مرة كالغرفة اسم لما يغرف . والدولة بالفتح انتقال حال سارة إلى قوم عن قوم . قال جار الله : هي بالضم ما يدول للانسان أي يدور من الجد يقال دالت الدولة . فعلى قول المبرد معناه كيلا يكون الفيء شيئاً يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب الفقراء ، وعلى قول جار الله : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء جداً بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو لكيلا يكون الفيء دولة جاهلية كان الرؤساء منهم يستأثرون بالغنائم لأنهم أهل الرياسة والجد والغلبة وكانوا يقولون من عزبر ومنه قول الحسن « اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله دولاً » يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به . ومن قرأ على « كان » التامة فالمعنى كيلا يقع شيء متعاوراً بينهم غير مخرج إلى الفقراء ، أو كيلا تقع دولة جاهلية أي ينقطع أثرها . قوله { وما آتاكم } الآية . قيل : يختص بأنه يقسم الغنائم وأن على المؤمنين أن يرضوا بما يعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم منها ، والأولى عند المحققين العموم . قوله { للفقراء } بدل من قوله { ولذي القربى } إلى آخر الأصناف الأربعة . ولا يجوز أيضاً أن يكون ابتدال البدل من قوله { فلله } لأنه يخل بتعظيم قولهم { وللرسول } لأنه تعالى أخرجه عن الفقراء بقوله { وينصرون الله ورسوله } ولترفع منصبه عن التسمية بالفقير . ولئن صح أنه صلى الله عليه وسلم قال « الفقر فخري » فذاك معنى آخر وهو غنى القلب وانقطاع التعلق عما سوى الله وجعل الهموم هماً واحداً وهو الافتقار بالكلية إلى الله . إستدل بعض العلماء بقوله { أولئك هم الصادقون } على إمامة أبي بكر لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يقولون له يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلو لم تكن خلافته حقه لزم كذبهم وهو خلاف الآية . وقال في الكشاف : أراد صدقهم في إيمانهم وجهادهم . قوله { والذين تبوّؤا الدار } معطوف على المهاجرين وكذا قوله { والذين جاءوا } وذلك عند من يجعل الغنائم حلاً للمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان أو التابعين لهم إلى يوم القيامة وعلى هذا يكون قوله { يحبون } و { يقولون } حالين أي الغنائم لهم محببن قائلين . ومن جعل المراد بيان غنائم بني النضير وقف على { هم الصادقون } و { المفلحون } وجعل الفعلين خبرين . وعلى هذا يكون الآيتان ثناء على الأنصار على الإيثار ، وللتابعين على الدعاء . قال مقاتل : أثنى على الأنصار حين طالبت أنفسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم . وههنا سؤالان أحدهما : أنه لا يقال تبوؤا الإيمان .
الثاني بتقدير التسليم أن الأنصار ما تبوؤا الإيمان قبل المهاجرين . والجواب من الأول أن المراد تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان كقوله :
« علفتها تبناً وماء بارداً » ... أو هو مجاز من تمكنهم واستقامتهم على الإيمان كأنهم جعلوه مستقراً لهم كالمدينة أو هو مجاز بالنقصان . والمعنى تبوّؤا دار الهجرة ودار الإيمان فأقام لام التعريف في الدار مقام المضاف إليه وحذف المضاف من الثاني ، أو سمى المدينة بالإيمان لأنها مكان ظهور الإيمان وهذا يؤل بالحقيقة إلى الوجه الذي تقدمه . وعن الثاني أن المراد من قبل هجرتهم أو هو من تمام تبوء الدار ، ولا شك أن الأنصار سبقوهم في ذلك وإن لم يسبقوهم في الإيمان { ولا يجدون في صدورهم حاجة } أي حسداً وغيظاً مما أوتى المهاجرون من الفيء وغيره . وإطلاق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة من إطلاق اسم اللازم على الملزوم لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة . وقال جار الله : المحتاج إليه يسمى حاجة يعني أن نفوسهم لم تتبع ما أعطوا ولم تطح إلى شيء منه يحتاج إليه { ولو كان بهم خصاصة } أي خلة فهي من خصاص البيت أي فرجه ، وكل خرق في منخل أو باب أو سحاب أو برقع فهي خصاص الواحد خصاصة . وفعول { يؤثرون } محذوف أي يؤثرونهم ويخصونهم بأموالهم ومنازلهم على أنفسهم . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لكم من الفيء كما قسمت لهم ، وإن شئتم كان لهم القسم ولكم دياركم وأموالكم . فقالوا : لا بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا نؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها فنزلت . والشح المنع الذاتي الذي تقتضيه الحالة النفسانية ولهذا أضيف إلى النفس ، والبخل المنع المطلق من غير اعتبار صيرورته غريزة وملكة . قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً نهاه الله عن أخذه ولم يمنع شيئاً أمره الله بإعطائه فقد وقي شح نفسه . وذكر المفسرون أنواعاً من إيثار الأنصار الضيف بالطعام وتعللهم عنه حتى شبع الضيف . والظاهر أنها نزلت في الفيء كما مر ويدخل فيه غيره . قوله { والذين جاءوا من بعدهم } أي هاجروا بعد المهاجرين الأوّلين . وقيل : هم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين ، فتشمل الآيات الثلاث جميع المؤمنين . ثم عجب من أحوال أهل النفاق من أهل المدينة كعبد الله بن أبيّ وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن زيد ، كانوا في الظاهر من الأنصار ولكنهم يوالون اليهود في السر فصاروا إخوانهم في الكفر وقالوا له ملا نطيع في قتالكم أو خذلانكم أحداً . ثم شهد إجمالاً عليهم بأنهم كاذبون ، ثم فصل ذلك قائلاً { لئن أخرجوا } إلى قوله { ولئن نصروهم } وهذا على سبيل الفرض لأنه تعالى كما يعلم ما يكون فهو يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون .
والمعنى لو فرض نصر المنافقين اليهود ليهزمن المنافقون { ثم لا ينصرون } بعد ذلك أي لا يمنعهم من عذاب الله مانع لظهور كفرهم . وقيل : ليهزمن اليهود ثم لا تنفعهم نصرة المنافقين . وعلى هذا يكون « ثم » لترتيب الأخبار كقوله { ثم اهتدى } [ طه : 82 ] ثم بيّن الحكمة في الغزو فقال { لأنتم أشد رهبة } قال في الكشاف : أي مرهوبية هي مصدر رهب المبني للمفعول . وقوله { في صدورهم } دلالة على نفاقهم يعني أنهم يظهرون لكم في العلانية خوف الله خوفاً شديداً ورهبتهم في السر منكم أشد من ذلك لأنهم لا يفقهون عظمة الله فلا يخشونه حق خشيته . وجوز أن يكون المراد أن اليهود يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله وكانوا يتشجعون للمسلمين مع إضمار الخيفة في صدورهم . قلت : الأظهر أن المراد أنتم فيه أكثر مكانة من مواعظ الله أو لثمرة جهادكم معهم أوفر من ثمرة ترهبهم بعقاب الله { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } من سر التكاليف وتبعة الكفر والنفاق في الآخرة فلا يرتدعون إلا خوفاً من العقوبة العاجلة . ومن هذا أخذ عمر فقال : ما يزع السلطان أي منع أكثر مما يزع القرآن . وقال الشاعر :
السيف أصدق إنباء من الكتب ... وقيل : العبد لا يردعه إلا العصا . ثم شجع المسلمين بقوله { لا يقاتلونكم } أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين { إلا في قرى محصنة } غاية التحصين { أو من وراء جدر } لا مبارزين مكشوفين في الأراضي المستوية { بأسهم بينهم شديد } لا بينكم لأنكم منصورون بنصرة الله مؤيدون بتأييده ، أو لأنهم يحسبون في أنفسهم وفيما بينهم أموراً يعلم الله أنها لا تقع في الخارج على وفق حسبانهم وعن ابن عباس : معناه بعضهم لبعض عدوّ يؤيده قوله { تحسبهم جميعاً } مجتمعين ذوي تآلف ومحبة { وقلوبهم شتى } متفرقة وهو فعلى من الشت . وإنما قال ههنا { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } وفي الأوّل { لا يفقهون } لأن الفقه معرفة ظاهر الشيء وغامضه فنفي عنهم ذلك كما قلنا ، وأراد ههنا أنهم لو عقلوا لاجتمعوا على الحق ولم يتفرقوا فتشتتهم دليل عدم عقلهم لأن العقل يحكم بأن الاجتماع معين على المطلوب والتفرق يوهن القوى ولا سيما إذا كانوا مبطلين . ثم شبه حالهم بحال من قتلوا قبلهم ببدر في زمان قريب . قال جار الله : انتصب { قريباً } بمحذوف أي كوجود مثل أهل بدر قريباً . قلت : لا يبعد أن يتعلق بصلة الذين . ثم ضرب مثلاً آخر لإغراء المنافقين اليهود على القتال ووعدهم إياهم النصر ، والمراد إما عموم دعوة الشيطان للإنسان إلى الكفر وإما خصوص إغراء إبليس قريشاً يوم بدر كما مر في الأنفال في قوله سبحانه { وإذ زين لهم الشيطان } [ الأنفال : 48 ] إلى قوله { إني برىء منكم } [ الأنفال : 48 ] قال مقاتل : وكان عاقبة اليهود والمنافقين مثل عاقبة الشيطان والإنسان حتى صار إلى النار .
قال جار الله : كرر الأمر بالتقوى تأكيداً أو لأن الأول في أداء الواجبات لأنه قرن بما هو عمل والثاني في ترك المعاصي لأنه قرن بما يجري مجرى الوعيد . وسمى القيامة بالغد تقريباً لمجيئها . عن الحسن : لم يزل بقربه حتى جعله كالغد . وقيل : جعل مجموع زمان الدنيا كنهار عند الآخرة . قال أهل المعاني : تنكير { نفس } للتقليل كما مر في الوقوف وتنكير { غد } للتعظيم والتهويل . قال مقاتل : ونسوا حق الله فأنساهم حق أنفسهم حتى لم يشعروا لها بما ينفعها ، أو فأراهم يوم القيامة من الأحوال ما نسوا فيه أنفسهم . قلت : يجوز أن يراد نسوا ذكر الله فأورثهم القسوة وفساد الاستعداد بالكلية . وحين نهى المؤمنين عن كونهم مثل الناسين الغافلين ذكرهم بأنه لا استواء بين الفريقين ففيه شبه قرع العصا كأنهم غفلوا عن هذا الواضح البين كما تقول لمن يعصي أباه « هو أبوك » . استدل أصحاب الشافعي بالآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي وإلا استويا ، وأن الكافر لا يملك مال المسلم بالقهر وإلا استويا . واحتج بعض المعتزلة بها على أن صاحب الكبيرة لو دخل الجنة وهو من أهل النار لزم خلاف الآية . والجواب ظاهر لأنه على تقدير إمكان العفو لا يحكم أنه من أهل النار . ثم عظم أمر القرآن الذي يعلم منه هذا البيان . قال الكشاف : هو مثل وتخييل بدليل قوله { وتلك الأمثال } يعني هذا وغيره من أمثال التنزيل . وقال غيره : المعنى إشارة إلى قوله { كمثل الذين } { كمثل الشيطان } ولما وصف القرآن بما وصف عظم شأنه بوجه آخر وهو التنبيه على أوصاف منزله ، وقد سبق شرح أكثر هذه الأسماء في هذا الكتاب ولا سيما في البسملة . والقدّوس مبالغة القدس وهو التبليغ في الطهارة والبراءة عما يشين هذا بالنسبة إلى زمان الماضي والحال . والسلام إشارة إلى كونه سالماً عن الآفات والعاهات والنقائص في زمان الاستقبال ، ويجوز أن يراد أنه المعطي للسلامة . المؤمن الواهب الأمن والمصدق لأنبيائه بالمعجزات . وقد مر معنى المهيمن وأصل اشتقاقه في المائدة في قوله { ومهيمناً عليه } [ الآية : 48 ] وأن معناه الرقيب الحافظ لكل شيء . ولمكان تعداد هذه الأوصاف كرر قوله { يسبح له } إلى آخر السورة . فمن عزته كان منزهاً عن النقائص أهلاً للتسبيح ، ومن حكمته أمر المكلفين في السموات والأرضين بأن يسبحوا له ليربحوا لا ليربح هو عليهم وهو تعالى أعلم بمراده وبالله التوفيق للخير وإليه المآب .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
القراآت : { يفصل } ثلاثياً معلوماً : عاصم غير المفضل وسهل ويعقوب { يفصل } بالتشديد : حمزة وعلي وخلف . مثله ولكن مجهولاً : ابن ذكوان . الآخرون : ثلاثياً مجهولاً { في إبراهام } كنظائره { أن تولوهم } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { تمسكوا } بالتشديد : أبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف { من الحق } ج لأن ما بعده يحتمل الحال من ضمير { كفروا } والاستئناف { بالله ربكم } ط { أعلنتم } ط { السبيل } ه { تكفرون } ه { أولادكم } ج لاحتمال تعلق الظرف ب { لن تنفعكم } أو يفصل { يوم القيامة } ج بناء على المذكور { بينكم } ط { بصير } ه { والذين معه } ج لأن الظرف قد يتعلق باذكر محذوفاً أو أسوة { من دون الله } ط لأن ما بعد مستأنف في النظم وإن كان متصلاً في المعنى { من شيء } ط { المصير } ه { لنا ربنا } ه للابتداء بأن مع أن التقدير فإنك { الحكيم } ه { الآخر } ط { الحميد } ه { مودة } ط { قدير } ه { رحيم } ه { إليهم } ط { المقسطين } ه { تولوهم } ج للشرط مع العطف { الظالمون } ه { فامتحنوهنّ } ط { بإيمانهنّ } ط { الكفار } ط { لهنّ } ط { ما أنفقوا } ط { أجورهنّ } ط { ما أنفقوا } ط { حكم الله } ط { بينكم } ط { حكيم } ه ز { ما أنفقوا } ط { مؤمنون } ه { لهنّ الله } ط { رحيم } ه { القبور } ه .
التفسير : يروى أن مولاة أبي عمرو ابن صيفي بن هاشم يقال لها سارة ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متجهز لفتح مكة فعرضت حاجتها ، فحث بني المطلب على الإحسان إليها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دناينر وكساها برداً واستحملها كتاباً إلى أهل مكة هذه نسخته « من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة . اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم » . فخرجت سارة ونزل جبريل عليه السلام بالخبر ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه وعماراً وعمرو فرساناً أخر وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فإن أبت فاضربوا عنقها . فأدركوها فجحدته وحلفت فهموا بالرجوع فقال علي رضي الله عنه : والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسل سيفه وقال : أخرجي الكتاب أن تضعي رأسك فأخرجته من عقاص شعرها . فقال رسول الله عليه وسلم لحاطب : ما حملك عليه؟ فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم ولكني كنت غريباً في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أن الله ينزل عليهم بأسه وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق .
فقال : وما يدريك يا عمر لعل الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم وأنزلت السورة . و { تلقون } مستأنف أو حال من ضمير { لا تتخذوا } أو صفة لأولياء ، ولا حاجة إلى الضمير البارز وهو أنتم وإن جرى على غير من هو له لأن ذاك في الأسماء دون الأفعال كما لو قلت مثلاً ملقين أنتم والإلقاء عبارة عن الإيصال التام . والباء في { بالمودة } إما زائدة كما في قوله { ولا تلقوا بأيديكم } [ البقرة : 195 ] أو للسببية ومفعول { تلقون } محذوف معناه تلقون إليهم أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب المودة . و { أن تؤمنوا } تعليل ل { يخرجون } أي يخرجونكم لإيمانكم . و { إن كنتم خرجتم } تأكيد متعلق ب { لا تتخذوا } وجوابه مثله . وانتصب { جهاداً } و { ابتغاء } على العلة أي إن كنتم خرجتم من أوطانكم لأجل جهاد عدوّى ولابتغاء رضواني فلا تتولوا أعدائي . وقوله { تسرون } مستأنف والمقصود أنه لا فائدة في الإسرار فإن علام الغيوب لا يخفى عليه شيء . ثم خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أنهم إن يظفروا بهم أخلصوا العداوة ويقصدونهم بكل سوء باللسان والسنان . قال علماء المعاني : إنما عطف قوله { وودّوا } وهو ماضٍ لفظاً على ما تقدمه وهو مضارع تنبيهاً على أن ودادهم كفرهم أسبق شيء عندهم لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من الأرواح والأموال وأهم شيء عند العدوّ أن يقصد أعز شيء عند صاحبه . ثم بين خطأ رأيهم بوجه آخر وهو أن المودة إذا لم تكن في الله لم تنفع في القيامة لانفصال كل اتصال يومئذ كما قال { يوم يفر المرء من أخيه } [ عبس : 34 ] الآية . ويجوز أن يكون الفصل بمعنى القضاء والحكم . ثم ذكر أن وجوب البغض في الله وإن كان أخاه أو أباه أسوة في إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه حيث جاهروا قومهم بالعداوة وقشروا لهم العصا وصرحوا بأن سبب العدوة ليس إلا الكفر بالله ، فإذا آمنوا انقلبت العداوة موالاة والمناوأة مصافاة والمقت محبة . ثم استثنى { إلا قول إبراهيم } من قوله أسوة كأنه قال حق عليكم أن تأتسوا بأقواله إلا هذا القول الذي هو الاستغفار لقوله { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] أما قوله { وما أملك لك من الله من شيء } فليس بداخل في حكم الاستثناء لأنه قول حق ، وإنما أورده إتماماً لقصة إبراهيم مع أبيه . وقال في الكشاف : هو مبني على الاستغفار وتابع له كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلا الاستغفار . ثم أكد أمر المؤمنين بأن يقولوا { ربنا عليك توكلنا } الآية . ويجوز أن يكون من تتمة قول إبراهيم ومن معه وفيه مزيد توجيه .
ثم أكد أمر الائتساء بقوله { لقد كان } فأدخل لام الابتداء وأبدل من قوله { لكم } قوله { لمن كان يرجو } وختم الآية بنوع من الوعيد . ثم أطمع المؤمنين فيما تمنوا من عداوة أقاربهم بالمودة { والله قدير } على تقليب القلوب وتصريف الأحوال { والله غفور رحيم } لمن وادهم قبل النهي أو لمن أسلم من المشركين ، فحين يسر الله فتح مكة أسلم كثير منهم ولم يبق بينهم إلا التحاب والتصافي . ولما نزلت هذه الآيات تشدّد المؤمنون في عداوة أقاربهم وعشائرهم فنزل { لا ينهاكم الله } وقوله { أن تبروهم } بدل من { الذين لم يقاتلوكم } وكذا قوله { أن تولوهم } من { الذين قاتلوكم } والمعنى لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء . ومعنى { تقسطوا إليهم } تعطوهم مما تملكون من طعام وغيره قسطاً . وعدّي ب « إلى » لتضمنه معنى الإحسان وقال في الكشاف : تقضوا إليهم بالقسط أي العدل ولا تظلموهم . وقيل : أراد بهم خزاعة وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه . وعن مجاهد : الذين آمنوا بمكة . وقيل : هم النساء والصبيان . وعن قتادة : نسختها آية القتال .
قال المفسرون : إن صلح الحديبية كان على أن من أتاكم من أهل مكة رد إليهم ومن أتى مكة منهم لم يرد إليكم وكتبوا بذلك كتاباً وختموه . فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة والنبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، فأقبل زوجها مسافراً المخزومي . وقيل : صيفي بن الراهب فقال : يا محمد اردد إليّ امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منا وهذه طية الكتاب لم تجف فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } الآية . فكانت بياناً لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء . وعن الضحاك : كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين عهد أن تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا ، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها . وللنبي صلى الله عليه وسلم من الشرط مثل ذلك فأتت امرأة فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { فامتحنوهن } فحلفت فأعطى زوجها ما أنفق ونزوّجها عمر . وفائدة قوله { الله أعلم بأيمانهنّ } أنه لا سبيل لكم إلى ما تسكن إليه النفس من اليقين الكامل لأنكم تختبرونهن بالحلف والنظر في سائر الأمارات التي لا تفيد إلا الظن ، وأما الإحاطة بحقيقة إيمانهن فإن ذلك مما تفرد به علام الغيوب { فإن علمتموهن مؤمنات } العلم الذي يليق بحالكم وهو الظن الغالب { فلا ترجعون إلى } أزواجهن { الكفار } لأنه لا حلّ بين المؤمنة والمشرك وآتوا أزواجهن { مثل ما أنفقوا } مثل ما دفعوا إليهن من المهور . ثم نفى عنهم الحرج في تزوّج هؤلاء المهاجرات إذا أعطوهن مهورهن .
قال العلماء : إما أن يريد بهذا الأجر ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزوّجهن تقديم أدائه ، وإما أن يراد بيان أن ذلك المدفوع لا يقوم مقام المهر وأنه لا بد من إصداق . احتج أبو حنيفة بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلماً أو بذمة وبقي الآخر حربياً وقعت الفرقة بينهما ولا يرى العدة على المهاجرة ويصح نكاحها إلا أن تكون حاملاً { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } وهو ما يعتصم به من عقد وسبب قال ابن عباس : أراد من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعدّها من نسائه لأن اختلاف الدين قطع عصمتها وحل عقدتها . وعن النخعي : هي المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر . وقال مجاهد : هذا أمر بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن { واسئلوا ما أنفقتم } من مهور أزواجكم الملحقات بالكفار { وليسئلوا ما أنفقوا } من مهور نسائهم المهاجرات . أمر المؤمنين بالإيتاء ثم أمر الكافرين بالسؤال وهذه غاية العدل ونهاية الإنصاف . ثم أكد ما ذكر من الأحكام بأنها حكم الله . قال جار الله : { يحكم بينكم } كلام مستأنف أو حال من حكم الله على حذف العائد أي يحكمه الله ، أو جعل الحكم حاكماً على المبالغة . يروى أن بعض المشركين أبوا أن يؤدّوا شيئاً من مهور الكوافر إلى أزواجهن المسلمين فأنزل الله تعالى { وإن فاتكم } أي سبقكم وانفلت منكم { شيء من أزواجكم } أحد منهن قال أهل المعاني : فائدة إيقاع شيء في هذا التركيب التغليظ في الحكم والتشديد فيه أي لا ينبغي أن يترك شيء من هذا الجنس وإن قل وحقر غير معوّض عنه . ويجوز أن يراد وإن فاتكم شيء من مهور أزواجكم . ومعنى { فعاقبتم } فجاءت عقبتكم من أداء المهر والعقبة النوبة شبه أداء كل طائفة من المسلمين والكافرين المهر إلى صاحبتها بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب وغيره { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم } إلى الكفار { مثل ما أنفقوا } أي مثل مهرها من مهر المهاجرة ولا تؤتوه زوجها الكافر . وقال الزجاج : معنى { فعاقبتم } فأصبتموهم في القتال بعقوبة حتى غنمتم ، فالذي ذهبت زوجته كان يعطي من الغنيمة المهر . قال بعض المفسرين : جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة : أم الحكم ينت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شدّاد الفهرى ، وفاطمة بنت أبي أمية كانت تحت عمر بن الخطاب وهي أخت أم سلمة ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن نصلة وزوجها عمرو بن عبد ودّ ، وهند بنت أبي جهل كانت تحت هشام بن العاص ، وكلثوم بنت جرول كانت تحت عمر . أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهور نسائهم من الغنيمة . وفي قوله { واتقوا الله } ندب إلى سيرة التقوى ورعاية العدل ولو مع الكفرة .
ثم نبّه نبيه صلى الله عليه وسلم على شرائط المبالغة وهي المعاهدة على كل ما يقع عليه اتفاق كالإسلام والإمارة والإمامة ، والمراد ههنا المعاقدة على الإسلام وإعطاء العهود به وبشرائطه وعدم قتل الأولاد ووأد البنات ، وكانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها هو ولدي منك فكني عنه بالهتان المفترى بين يديها ورجليها لأن بطنها الذي تحمله فيه هو بين اليدين وفرجها الذي تلد به بين الرجلين . وقيل : البهتان في الآية الكذب والتهمة والمشي بالسعاية مختلفة من تلقاء أنفسهنّ . وقيل : قذف المحصنين . قال ابن عباس : في قوله { ولا يعصينك في معروف } إنما هو شرط شرطه الله تعالى على النساء ، والمعروف كل ما ندب إليه الشرع ونهى عنه من المحسنات والمقبحات . واختلف في كيفية مبايعته إياهنّ فقيل : دعا بقدح من ماء وغمس يده فيه ثم غمسن أيديهنّ . وقيل : صافحهنّ وكان على يده ثوب . وقيل : كان عمر يصافحهنّ ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة يملكها إنما كان كلاماً . وعن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من الأنصار نبايعه على الإسلام فأخذ علينا يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيما استطعن وأطقتن . قلنا؛ الله وسوله أرحم بنا منا بأنفسنا هلمّ نصافحك يا رسول الله . قال : إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة . يروى أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود طمعاً في ثمارهم فنزلت { لا تتلوا قوماً } الآية . وسبب يأسهم من الآخرة تكذيبهم بصحة نبوّة الرسول ثم عنادهم كما يئس الكفار من موتاهم أن يرجعوا أحياء . وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار لأنهم أيسوا من خير الآخرة ومعرفة المعبود الحق فكأنهم أولى .
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
القراآت : { زاغوا } بالإمالة مثل { زاغ البصر } [ النجم : 17 ] { بعدي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحماد وأبو بكر غير ابن غالب { متم نوره } بالإضافة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وحفص . الآخرون : بالتنوين ونصب { نوره } { تنجيكم } بالتشديد : ابن عامر { أنصاراً } بالتنوين { لله } جاراً ومجروراً : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . والباقون : بالإضافة { أنصاري إلى الله } بالفتح كما مر في « آل عمران » .
الوقوف : { وما في الأرض } ط { الحكيم } ه ج { تفعلون } ه { تفعلون } ه { مرصوص } ط { إليكم } ط { قلوبهم } ط { الفاسقين } ه { أحمد } ط { مبين } ه { الإسلام } ط { الظالمين } ه { الكافرون } ه { المشركون } ه { أليم } ه ز { وأنفسكم } ط { تعلمون } ه لا لأن قوله { يغفر لكم } جواب { تؤمنون } على أنه خبر في معنى الأمر { عدن } ط { العظيم } ه ج للعطف { تحبونها } ط لحق الحذف أي هي نصر { قريب } ه لانقطاع النظم واختلاف المعنى { المؤمنين } ه { إلى الله } ط { وكفرت طائفة } ه لاتفاق الجملتين مع تخصيص الثانية ببيان حال أحد الفريقين { ظاهرين } ه .
التفسير : يروى أن المؤمنين قالوا قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملناه فدلهم الله على الجهاد فولوا يوم أحد فعيرهم . وروي أن الله تعالى حين أخبر بثواب شهداء بدر قالوا : لئن لقينا قتلالاً إلى الله لنفرغن فيه وسعنا ففرّوا يوم أحد ولم يفوا . وقيل؛ كان الرجل يقول : قلت ولم يقل وطعنت ولم يطعن فأنزل الله تعالى { لم تقولون } واللام الجاره إذا دخلت على « ما » الاستفهامية أسقطت الألف لكثرة الاستعمال . وقد عرفت مراراً أن خصوص سبب النزول لا ينافي عموم الحكم ، وهذا التفسير يتناول إخلاف كل وعد . وقال الحسن : نزلت في الذين آمنوا بلسانهم لا بقلوبهم . ثم عظم أمر الإخلاف في قلوب المنافقين فقال { كبر } الآية . وفيه أصناف مبالغة من جهة صيغة التعجب والتعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله ، ومن جهة إسناد الفعل إلى { أن تقولوا } ونصب { مقتاً } على التمييز ومن قبل أن المقت أشدّ من البغض أو من وصفه بأنه { عند الله } لأن الممقوت عنده ممقوت عند كل ذي لب . ثم حث على الجهاد بنوع آخر وذلك أنه نسب أوّلاً ترك الجهاد بعد تمنيه إلى المقت ثم نسب الجهاد إلى الحب . وانتصب { صفاً } على المصدر بمعنى الحال . وقوله { كأنهم } مع الأول حالان متداخلان أي صافين أنفسهم أو مصفوفين كأنهم في تراميهم من غير فرجة ولا خلل { بنيان } رص بعضه على بعض أي رص صف . وجوزوا أن يراد صف معنوي وهو اتفاق كلمتهم واستواء نياتهم في الثبات . وعلى الأول استدل بعضهم به على تفضيل القتال راجلاً بناء على أن الفرسان لا يصطفون من غير فرجة ، ثم ذكرهم قصة موسى عليه السلام مع قومه كيلا يفعلوا بنبيهم مثل ما فعل به بنو إسرائيل .
تفسير الإيذاء مذكور في آخر « الأحزاب » وسائر أصناف إيذائهم إياه من عبادة العجل وطلب الرؤية والالتماسات المنكرة مشهورة { وقد تعلمون } في موضع الحال . وفائدة « قد » تأكيد العلم لا تقليله وفيه إشارة إلى نهاية جهلهم إذا عكسوا القضية وصنعوا مكان تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذاءه . والزيغ الميل عن الحق والإزاغة الإمالة فكأنهم تسببوا لمزيد الانحراف عن الجادة ، فالطاعة تجر الطاعة والمعصية تجر المعصية . قال بعض العلماء : إنما قال عيسى { يا بني إسرائيل } ولم يقل يا قوم كما قال موسى ، لأنه لا نسب له فيهم . قلت : ممنوع لقوله تعالى في « الأنعام » { ومن ذريته داود } [ الأنعام : 84 ] إلى قوله { وعيسى } [ الآية : 85 ] قال النحويون : قوله { مصدّقاً } و { مبشراً } حالان والعامل فيهما معنى الإرسال في الرسول فلا يجوز أن يكون { إليكم } عاملاً لأنه ظرف لغو . عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال : نعم أمة محمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل . قوله { وهو يدعى إلى الإسلام } نظير ما مر من قوله { وقد تعلمون إني رسول الله } ففي كل منهما تعكيس القضية إذ جعل مكان إجابة النبي إلى الإسلام الذي فيه سعادة الدارين افتراء الكذب على الله وهو قولهم للمعجزات هي سحر ، لأن السحر كذب وتمويه ولهذا عرف الكذب بخلاف آخر « العنكبوت » . ثم ذكر غرضهم من الافتراء بقوله { يريدون ليطفؤا } ولهذا خص هذه السورة باللام كأنه قال : يريدون الافتراء لأجل هذه الإرادة كما زيدت اللام في « لا أبالك » لتأكيد معنى الإضافة . وباقي الآيتين سبق تفسيره في « براءة » . وإنما قال ههنا { والله متم نوره } لمكان الفصل بالعلة كأنه قال : يريدون الافتراء لغرض إطفاء نور الله والحال أن الله متم نوره ، وأما هنالك فإنه عطف قوله { ويأبى } على قوله { يريدون } .
ثم دل أهل الإيمان على التجارة الرابحة وهي مجاز عن وجدان الثواب على العمل كما قال { إن الله اشترى } [ التوبة : 111 ] إلى قوله { فاستبشروا ببيعكم } [ التوبة : 111 ] قال أهل المعاني : فائدة إيقاع الخبر موقع الأمر هي التنبيه على وجوب الأمر وتأكيده كأنه أمتثل فهو يخبره به كأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان؟ وعن الفراء أن قوله { يغفر لكم } جواب { هل أدلكم } بتأويل أن متعلق الدلالة هو التجارة والتجارة مفسرة بالإيمان والجهاد فكأنه قيل : هل تتجرون بالإيمان والجهاد يغفر لكم { ذلكم } يعني ما ذكر من الإيمان والجهاد { خير لكم } من أموالكم وأنفسكم وهو اعتراض .
وقوله { إن كنتم تعلمون } اعتراض زائد على اعتراض ومعناه إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيراً لكم لأن نتيجة الخير إنما تحصل بعد اعتقاد كونه خيراً . ثم قال { و } لكم مع هذه النعم الآجلة نعمة { أخرى } عاجلة { تحبونها } وهي فتح مكة كما قال { وأثابكم فتحاً قريباً } [ الفتح : 18 ] وعن الحسن : هو فتح فارس والروم . قال في الكشاف : في قوله { تحبونها } شيء من التوبيخ على محبة العاجلة . وعندي أنه سبحانه رتب أمرين على أمرين : المغفرة وإدخال الجنة على الإيمان ، والنصر والفتح على الجهاد ، ومحبة النصر من الله والفتح القريب لا تقتضي التوبيخ وإنما ذلك مطلوب كل ذي لب ودين . وقال في قوله { وبشر } إنه معطوف على { تؤمنون } لأنه بمعنى الأمر . والأظهر عند علماء المعاني أنه معطوف على « قل » مقدراً قل يا أيها الذين آمنوا يؤيد تقدير قل . قوله { هل أدلكم } فإن نسبة هذا الاستفهام إلى رسوله أولى من نسبته إلى الله سبحانه على ما لا يخفى . قوله { كونوا أنصار الله } أي أعوان دينه { كما قال عيسى ابن مريم للحوارين } أي أصفيائه وقد مر ذكرهم في « آل عمران » { من أنصاري } متوجهاً { إلى } نصرة دين { الله } قال أهل البيان : فيه تشبيه كونهم أنصاراً بقول عيسى وإنه لا يصح على الظاهر لأن الكون يشبه بالكون لا القول ، فوجهه أن يحمل التشبيه على المعنى وبيانه أن كون الحواريين أنصار الله يعرف من سياق الآية بعدها وهو قول الحواريين { نحن أنصار الله } وارد بطريق الاستئناف كأن سائلاً سأل : فماذا قال الحواريون حينئذ؟ فأجيب بما أجيب . وقولهم لا يخالف كونهم فيعود معنى الآية إلى قول القائل : كونوا أنصار الله مثل كون الحواريين أنصار عيسى وقت قوله { من أنصاري } على أن « ما » مصدرية والمصدر يستعمل مقام الظرف اتساعاً كقولك « جئتك قدوم الحاج » و « خفوق النجم » أي وقت القدوم والخفوق والسر في العدول عن العبارة الواضحة إلة العبارة الموجودة هو أن سوق الكلام بطريق الكناية حيث جعل المشبه به لازم ما هو المشبه به أبلغ من التصريح ، وأن بناء الكلام على السؤال والجواب أوكد ، وأن المجاز وهو استفادة كونهم من قولهم أبلغ من الحقيقة ، ولعل في الآية أسراراً آخر لم نطلع عليها . ومعنى { ظاهرين } غالبين . عن زيد بن علي : كان ظهورهم بالحجة .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
القراآت : { كمثل الحمار } و { التوراة } بالإمالة قد سبق ذكرهما .
الوقوف { وما في الأرض } لا { الحكيم } ه { مبين } ه لا للعطف أي وفي آخرين { بهم } ط { الحكيم } ه { من يشاء } ط { العظيم } ه { أسفاراً } ط { بآيات الله } ط { الظالمين } ه { صادقين } ه { أيديهم } ط { بالظالمين } ه { تعملون } ه { البيع } ط { تعلمون } ه { تفلحون } ه { قائماً } ط { للتجارة } ط { الرازقين } ه .
التفسير : في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى . وقد مر سائر الوجوه في « الأعراف » في قوله { النبيّ الأميّ } [ الآية : 157 ] وباقي الآية مذكورة في « البقرة » و « آل عمران » . والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة . ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم حاملوا التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحمار الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب . ومعنى { حملوا } كلفوا العمل بما فيها . ومحل { يحمل } جر صفة للحمار كما في قوله « على اللئيم يسبني » وهذا مثل كل من علم علماً يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به . ثم قبح مثلهم بقوله { بئس } مثلاً { مثل القوم الذين } وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم : إن كان قولكم حقاً { فتمنوا الموت } ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرع وقد مر مثله في أول « البقرة » إلا أنه قال ههنا { ولا يتمنونه } وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن « لن » أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص الأبلغ بتلك السورة . ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة . قال أهل النظم : قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث : زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله { فتمنوا الموت } وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً ، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة . قال جار الله : يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه ، وضمَّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسرة . قلت : ومما يدل على أن أصلها الكسون جمعها على جمع كقدرة وقدر . وفي الكشاف أن { من يوم الجمعة } بيان « إذا » وتفسير له . وأقوال : إن اليوم أعم من وقت النداء والعام . لإبهامه لا يصير بياناً ظاهراً فالأولى أن تكون « من » للتبعيض . والنداء الأذان في أول وقت الظهر ، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة ، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك ، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذناً آخر ، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني ، فإذا نزل أقام للصلاة .
وعن ابن عباس : إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لجمعة أجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة . وكنيته أبو إمامة وقالوا : هلموا نجعل لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة ، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتمعاهم فيه ، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما قدم المدينة مهاجراً نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخمس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة . وفضيلة صلاة الجمعة كثيرة منها ما ورد في الصحاح عن أبي هريرة « إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول » و « مثل المبكر كمثل الذي يهدي بدنه ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشاً ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر » وعنه صلى الله عليه وسلم « من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر » وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أول بدعة أحدثت مع الإسلام ترك البكور إلى الجمعة . ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة إلا في مصر جامع وهو ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام . وقد يقال : ما يكون فيه نهر جار وسوق قائم وملك قاهر وطبيب حاذق . وعنده تنعقد بثلاثة سوى الإمام ، وعند الشافعي لا تنعقد إلاّ بأربعين متوطنين . وأعذار الجمعة مشهورة في كتب الفقه . ومعنى السعي القصد دون العدو ومنه قول الحسن : ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب . وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي . قال العلماء : وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه . قوله { إلى ذكر الله } أي إلى الخطبة والصلاة وهي تسمية الشيء بأشرف أجزائه . ومذهب أبي حنيفة أنه لو اقتصر على كل ما يسمى ذكراً مثل الحمد لله أو سبحان الله جاز .
وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة . وعن جابر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ثم يقول : من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له ، إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار . وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان صلاته قصداً وخطبته قصداً . وعن أبي وائل قال : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « إن طول الصلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأقصر الخطبة وأطل الصلاة » وإن من البيان لسحراً . قوله { وذروا البيع } خاص ولكنه عام في الحقيقة لكل ما يذهل عن ذكر الله . وسبب التخصيص أن أهل القرى وقتئذ يجتمعون من كل أوب في السوق وأغلب اجتماعهم على البيع والشراء . ولا خلاف بين العلماء في تحريم البيع وقت النداء . وهل يصح ذلك البيع إن وقع الأكثرون؟ نعم لأن المنع غير متوجه نحو خصوص البيع . وإنما هو متوجه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب النهي ولو باع في غير تلك الحالة لم يصادفه نهي . قوله { فانتشروا } وابتغوا إباحة بعد حظر . وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا امتثالاً للآية . وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله . وعن الحسن وسعيد بن المسيب : الطلب طلب العلم . وقيل : صلاة التطوع . وفي قوله { واذكروا الله كثيراً } إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن ذكر ربه في كل حال كما قال { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } [ النور : 37 ] عن جابر قال : بينا نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا قيل : عير تحمل طعاماً فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } أي تفرقوا إليها { وتركوك قائماً } في الصلاة أو في الخطبة أو في الزاوية ، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهذا هو المراد باللهو والتقدير إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه . يروى أنه صلى الله عليه وسلم وآله قال : والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً . ثم حث على تجارة الآخرة وعلى تيقن أن لا رازق بالحقيقة إلا هو سبحانه وقد مر مراراً .
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
القراآت { خشب } بالسكون : أبو عمرو وعلي وابن مجاهد { لووا } بالتخفيف : نافع وقالون { تعملون } على الغيبة : يحي وحماد .
الوقوف : { لرسول الله } ط م لئلا يوهم أن قوله { والله يعلم } من مقول المنافقين { لرسوله } ط { لكاذبون } ه لا لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافاً { عن سبيل الله } ط { يعملون } ه { لا يفقهون } ط { أجسامهم } ط { لقولهم } ط { مسندة } ط { عليهم } ط { فاحذرهم } ط { قاتلهم الله } ط ز لابتداء الاستفهاهم مع اتصال المعنى { يؤفكون } ه { مستكبرون } ه { تستغفر لهم } ط { لن يغفر الله لهم } ط { الفاسقين } ه { ينفضوا } ط { لا يفقهون } ه { الأذل } ط { لا يعلمون } ه { عن ذكر الله } ط للشرط مع الواو { الخاسرون } ه { قريب } ج ه لتعلق الجواب { الصالحين } ه ز { أجلها } ط { تعملون } ه .
التفسير : قال علماء المعاني : أرادوا بقولهم نشهد إنك لرسول الله شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم كما ينبىء عنه « إن واللام » وكون الجملة اسمية مع تصديرها بما يجري مجرى القسم وهو الشهادة ، فكذبهم الله تعالى لأجل علمه بعدم المواطأة . أو يراد والله يشهد إنهم لكاذبون عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول الله كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه . قلت : هذا مذهب الجاحظ وأنه خلاف ما عليه الجمهور وهو أن مرجع كون الخبر صدقاً أو كذباً إلى طباق الحكم للواقع أو لإطباقه ولهذا أوّلوا اآية بما أوّلوا ، وهو أن التكذيب توجه إلى ادّعائهم أن قولهم قول عن صميم القلب ، ومما يدل على أن مرجع كون الخبر صدقاً إلى ما قلنا لا إلى طباقه اعتقاد المخبر أو ظنه ولا إلى عدم طباقه لذلك الاعتقاد والظن تكذيبنا اليهودي إذا قال : الإسلام باطل مع أنه مطابق لاعتقاده ، وتصديقنا له إذا قال : الإسلام حق مع أنه غير مطابق لاعتقاده . وفائدة إقحام قوله { والله يعلم إنك لرسوله } النتصيص على التأويل المذكور وإلا أمكن ذهاب الوهم إلى أن نفس قولهم { إنك لرسول الله } كذب . ثم أخبر عن استثباتهم بالايمان الكاذبة كما مر في « المجادلة » . وجوز في الكشاف أن تكون اليمين الكاذبة ههنا إشارة إلى قولهم { نشهد } لأن الشهادة تجري في إفادة التأكيد مجرى الحلف وبه استدل أبو حنيفة على أن أشهد يمين . { ذلك } الذي مر من أوصافهم وأخلاقهم أو من التسجيل عليهم أنهم مقول في حقهم ساء ما كانوا يعملون { ب } سبب { أنهم آمنوا } باللسان { ثم كفروا } بظهور نفاقهم أو نطقوا بالإسلام عند المؤمنين ثم نطقوا بكلمة الكفر إذا خلوا إلى شياطينهم ، ويجوز أن يراد أهل الردة منهم وكان عبد الله بن أبيّ رجلاً جسيماً فصيحاً وكذا أضرابه من رؤساء النفاق يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستندون ، فيه وكان النبي صلى الله عليه وسلم والحاضرون يعجبون بهياكلهم ويستمعون إلى كلامهم فنزلت { وإذا رأيتهم } أيها الرسول أو يا من له أهلية الخطاب .
ثم شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام فارغة عن الإيمان والخير بالخشب المستندة إلى الحائط . ويجوز أن تكون الخشب أصناماً منحوتة شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون وجه التشبيه مجرد عدم الانتفاع لأن الخشب المنتفع بها هي التي تكون في سقف أو جدار أو غيرهما ، فأما المسندة الفارعة المتروكة فلا نفع فيها . قلت : فعلى هذا لا يكون لتخصيص الخشب بالذكر فائدة لاشتراكها في هذا الباب مع الحجر والمدر المتروكين وغيرهما ، والخشب جمع خشبة كثمرة وثمر ، ومحل الجملة رفع على « هم كأنهم خشب » أو هو كلام مستأنف فلا محل له . قوله { عليهم } ثاني مفعولي { يحسبون } أي يحسبونها واقعة عليهم صادرة لهم لجبنهم والصيحة كنداء المنادي في العسكر ونحو ذلك ، أو هي أنهم كانوا على وجل من أن ينزل الله فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم . ثم أخبر عنهم بأنهم { هم العدو } أي هم الكاملون في العداوة لأن أعدى الأعداء هو العدوّ المداجي المكاشر تظنه جاراً مكاشراً وتحت ضلوعه داء لا دواء له . ويقال : ما ذم الناس مذمة أبلغ من قولهم « فلان لا صديق له في السر ولا عدوّ له في العلانية » وذلك أن هذه من آيات النفاق { فاحذرهم } ولا تغتر بظاهرهم ، وجوز أن يكون { هم العدو } المفعول الثاني و { عليهم } لغو . وإنما لم يقل « هي العدو » نظراً إلى الخبر أو بتأويل كل أهل صيحة { قاتلهم الله } دعاء عليهم باللعن والإخزاء أي أحلهم الله محل من قاتله عدو قاهر . ويجوز أن يكون تعليماً للمؤمنين أي ادعوا عليهم بهذا . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لقي بني المصطلق على المريسيع وهو ماء لهم وهزمهم ازدحم على الماء جمع من المهاجرين والأنصار واقتتلا ، فلطم أحد فقراء المهاجرين شاباً حليفاً لعبد الله بن أبيّ ، فبلغ ذلك عبدالله فقال : ما صحبنا محمداً إلا لنلطم والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قيل « سمن كلبك يأكلك » ، أما والله { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } عنى بالأعز نفسه وبالأذل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لقومه : لو أمسكتم عن هؤلاء الفقراء فضل طعامكم لم يركبوا رقابكم ولا تفضوا من حول محمد ، فسمع بذلك زيد بن أرقم وهو حدث فقال : أنت والله الذليل القليل . فال عبد الله : اسكت فإنما كنت ألعب . فأخبر زيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق .
فقال : إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب . قال : فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصارياً فقال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه . ولما أنزل الله تعالى تصديق قول زيد وبان نفاق عبد الله قيل له : قد نزلت فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أومن فآمنت وأمرتموني أن أزكي مالي فزكيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزلت { وإذا قيل لهم تعالوا } ولم يلبث إلا أياماً قلائل حتى اشتكى ومات وقد تقدم قصة هذا المنافق في سورة « براءة » بأكثر من هذا ، وقد نفى عن المنافقين الفقه أولاً وهو معرفة غوامض الأشياء ، ثم نفى عنهم العلم رأساً كأنه قال : لا فقه لهم بل لا علم . أو نقول : إن معرفة كون الخزائن لله مما يحتاج إلى تدبر وتفقه لمكان الأسباب والوسائط والروابط المفتقرة في رفعها من البين إلى مزيد توجه وكمال نظر ، فأما كون الغلبة والقوة لدين الإسلام فذلك بظهور الإمارات وسطوع الدلائل بلغ مبلغاً لم يبق في وقوعه شك لمن به أدنى مسكة وقليل علم ، فلا جرم أورد في خاتمة كل آية ما يليق بها . وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر بعده . وعن الحسن بن علي رضي الله عنه أن رجلاً قال له : إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً فقال : ليس بتيه ولكنه عزة وتلا الآية . وحينئذ عير المنافقين بما عير . وحث المؤمنين على ذكر الله في كل حال بحيث لا يشغلهم عنه التصرف في الأموال والسرور بالأولاد وكل ما سوى الله حقير في جنب ما عند الله ، فإن من تصرف في شيء ما المال أو صرف زمانه في طرف من أمر الأولاد فلله وبالله وفي الله . وقال الكلبي : ذكر الله الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن : جميع الفرائض . وقيل : القرآن . وقيل : الصلوات الخمس { يفعل ذلك } أي ومن أشغلته الدنيا عن الدين . ثم حثهم على الإنفاق إما على الإطلاق وإما في طريق الجهاد . وإتيان الموت إتيان سلطانه وأماراته حين لا يقبل توبته ولا ينفع عمل فيسأل الله التأخير في الأجل لتدارك ما فات ومن له بذلك كما قال { ولن يؤخر الله نفساً } والمعنى هلا أخرت موتي إلى زمان قليل { فأصدّق وأكون } من قرأ بالنصب فظاهر ، ومن قرأ بالجزم فعلى وهم أن الأول مجزوم كأنه قال : إن أخرتني أصدق وأكن . وقيل : هذا الوعيد لمانع الزكاة .
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)
القراآت : { يوم نجمعكم } بالنون : رويس . الباقون : على الغيبة { نكفر } و { ندخله } بالنون فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل . الآخرون : على الغيبة .
الوقوف : { وما في الأرض } ط لاختلاف الجملتين { وله الحمد } ط النوع اختلاف وهو تقديم الخبر على المبتدأ في الأوّل { قدير } ه { مؤمن } ط { بصير } ه { صوركم } ج لعطف المختلفين { المصير } ه { تعلنون } ه { الصدور } ه { من قبل } ط لتناهي الاستفهام إلى الاخبار مع صدق الاتصال بالفاء { أليم } ه { يهدوننا } ه لاعتراض الاستفهام بين المتفقين { الله } ط { حميد } ه { يبعثوا } ط { عليم } ه { يسير } ه { أنزلنا } ط { خبير } ه { التغابن } ط { أبداً } ط { العظيم } ه { فيها } ط { المصير } ه { بإذن الله } ط { قلبه } ط { عليم } ه { الرسول } ج ط { المبين } ه { إلا هو } ط { المؤمنون } ه { فاحذروهم } ج { رحيم } ه { فتنة } ط { عظيم } ه { لأنفسكم } ط { المفلحون } ه { ويغفر لكم } ط { حليم } ه لا { الحكيم } ه .
التفسير : قال في الكشاف : قدم الظرفين في قوله { له الملك وله الحمد } لمكان الاختصاص وأن لا ملك بالحقيقة إلا له ولا استحقاق حمد في التحقيق إلا له . قلت : لو عكس الترتيب أفاد الخصوصية بوجه آخر وهو أن هذا الجنس وهذه الطبيعة له كما سبق في « الفاتحة » { هو الذي خلقكم } ذا فطرة سليمة . وقوله { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } بحسب الأسباب الخارجية كقوله صلى الله عليه وسلم « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه » والكل على وفق المشيئة . قالت المعتزلة : أراد هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق فكان يجب عليكم أن تقابلوه بالتوحيد والتكبير مجتمعين مطيعين لا أن يغلب الكفر والجحود عليكم ، ولمكان هذه الغلبة قدم الكافر . والعجب من صاحب الكشاف أنه سلم أن في خلق الكافر قد يكون وجه حسن ولكنه يخفى علينا ولا يسلم أن في خلق داعية الكفر في الكافر قد يكون وجه حسن يخفى عليه . وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية ، ومنكم مؤمن . قووله { فأحسن صوركم } كقوله في { أحسن } [ التين : 4 ] وسيجيء في « التين » إن شاء الله العزيز . وكل قبيح من الإنسان فهو في نوعه كامل إلا أن الله تعالى خلق أكمل منه من نوعه وأحسن فلهذا يحكم بدمامته وقبحه ، ولهذا قالت الحكماء : شيئان لا غاية لهما : الجمال والبيان . وحين وصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم الشامل أعم أولاً ثم أخص ثم أخفى ، هدد كفار مكة بحال الأمم الماضية فقال { ألم يأتكم } الآية { ذلك } الوبال الدنيوي والعذاب الأخروي { بأنه } أي بأن الشان { كانت } أي كانت القضية وقد مر نظيره في « حم المؤمن » .
{ أبشر } فاعل فعل محذوف تفسيره { يهدوننا } وجمع الضمير لأن البشر اسم جمع { إنّما أنا بشر } [ الكهف : 110 ] { إن نحن إلا بشر } [ إبراهيم : 11 ] قال أهل المعاني : لم يذكر المستغنى عنه في قوله { واستغنى الله } ليتناول كل شيء ومن جملته إيمانهم وطاعتهم . قال في الكشاف : معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان مع قدرته على ذلك ، وإنما ذهب إلى هذا التأويل لئلا يوهم أن يوجد التولي والاستغناء معاً ويلزم منه أن لا يكون الله في الأزل غنياً . قلت : لو جعل الواو للحال أي وقد كان الله مستغنياً قديماً أو والحال وجود استغناء الله في وجودكم لم يحتج إلى التأويل . قوله { زعم } من أفعال القلوب وفيه تقريع لكفار مكة لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه ويؤيده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « زعموا مطية الكذاب » و { أن لن يبعثوا } في تقدير مفرد قائم مقام المفعولين . قال جار الله : { يوم يجمعكم } منصوب بقوله { لتنبؤن } أو ب { خبير } لأنه في معنى الوعد كأنه قيل : واله يعاقبكم يوم كذا أو بإضمار « اذكر » قلت : يجوز أن يكون { يوم } مبنياً على الفتح ومحله ابتداء والخبر جملة قوله { ذلك يوم التغابن } .
سؤال : ما الفائدة في زيادة قوله { ليوم الجمع } الجواب إن كان الخطاب في { يجمعكم } لكفار مكة فظاهر أي اذكروا وقت جمعكم الواقع في وقت يجمع فيه الأوّلون والآخرون ، وإن كان لعموم الناس فلعل اللام في الجمع للمعهود الذي سلف في نحو قوله { يوم يجمع الله الرسل } [ المائدة : 109 ] { وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً } [ الكهف : 47 ] { قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } [ الواقعة : 49 ، 50 ] هذا ما سمح به الفكر الفاتر والله تعالى أعلم بمراده . قال جار الله : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغببن بعضهم بعضاً لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء ، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي ينزلونها لو كانوا أشقياء . قلت : في تسمية القسم الأخير تغابناً نظر إلا أن يفرض بنزول الشقي في ذلك المنزل يزيد عذاب الشقي ، وزيادة العذاب سبب تضيق المكان عليه . واعتذر عنه جار الله بأنه تهكم بالأشقياء لأن خسران أحد الفريقين مبني على ربح الآخر ولا ربح في التحقيق فيلزم التهكم مثل { فبشرهم } [ آل عمران : 21 ] وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ما من عبد يدخل الجنة إلا يرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً وما من عبد يدخل النار إلا يرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة » ويجوز أن يفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صح مجيء التغابن بمعنى الغبن فذلك واضح في حق كل مقصر صرف شيئاً من استعداده الفطري في غير ما أعطى لأجله .
قوله { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } كقوله { وزدناهم هدى } [ الكهف : 13 ] والأول باللسان والثاني بالجنان أي هدينا قلبه إلى حقيقة الإيمان . وقال جار الله : يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير ، والتحقيق فيه أن نور الإيمان ينبسط كل يوم بسبب الرسوخ والثبات وتكامل المغيبات وتزايد المعارف والطاعات إلى أن يتنور جميع أجزاء القلب وينعكس منه إلى كل الأعضاء والجوارح . وعن الضحاك : يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه . وعن مجاهد : إن ابتلى صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر { والله بكل شيء عليم } يعلم درجات القلوب من الإيمان . ولما كان أكثر ميل الناس عن الطاعات والكمالات الحقيقيات لأجل صرف الزمان في تهيئة أمور الأزواج والأسباب المفضية إيلهن أو المعينة عليهن ، ثم الأولاد الذين هم ثمرات الأفئدة وحياة القلوب وقرة العيون ، بيّن الله سبحانه أن العاقل لا ينبغي أن يصرف كده في ذلك ويكون على حذر منهم ومن تكثيرهم ، وبيع الدين بالدنيا لأجلهم فمن الأزواج أزواج يعادين بعولتهن وأعدى عدوّك هي التي تضاجعك ، وهل يستلذ الوسنان إذا كان في مضجعه ثعبان . ومن الأولاد أولاد كيد زائدة قطعها مؤذ وفي إبقائها عيب { وإن تعفوا } عنهم إذا أطلعتم منهم على معاداة فإن الله يجازيكم . وروى أن ناساً أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزلت . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجرة على المنبر فقال : صدق الله { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما . وعن بعض السلف : العيال سوس الطاعات . وقال بعض أهل التفسير : أراد إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما . وحين بين أن الأزواج والأولاد لا ينبغي أن يمنعوا المكلف عن طاعة الله أنتج من ذلك الأمر بتقوى الله بمقدار الوسع والطاقة . « وما » للمدة أو للمصدر وقوله { خيراً لأنفسكم } نصب بمحذوف هو افعلوا أو ائتوا وقد مر نظيره في آخر « النساء » في قوله { انتهوا خيراً لكم } [ الآية : 171 ] وفيه إشارة إلى أن أمثال هذه الأوامر خير من التهالك في أمور الأزواج والأولاد وإغضاب الرب وإتعاب النفس لتكثير المال المخلف ومن أشقى ممن لا يقدّم لأجل نفسه شيئاً يستقرضه منه رازقه مع شدة احتياجه إلى ذلك بعد مماته ويؤخر لأجل وارثه أموالاً عظيمة مع عدم وثوقه بأنه هل يكون له انتفاع بها أم لا اللهم اشغلنا بما يغنينا وبالله .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
القراآت { بالغ أمره } بالإضافة : حفص . الآخرون : بالتنوين والنصب { وجدكم } بكسر الواو : روح . { ندخله } بالنون : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل .
الوقوف : { العدة } ج تعظيماً لأمر الاتقاء { ربكم } ط لاتصال المعنى مع عدم العاطف { مبينة } ج { وتلك حدود الله } ط { نفسه } ط { أمراً } ه { لله } ط { الآخر } ط { مخرجاً } لا { لا يحتسب } ط { حسبه } ط { أمره } ط { قدراً } ه { أشهر } لا للعطف أي واللائي لم يحضن كلذلك { لم يحضن } ط { حملهن } ط { يسراً } ه ط { إليكم } ط { أجراً } ه { عليهن } ط { حملهن } ط { أجورهن } ط { بمعروف } ك { أخرى } ه ط { من سعته } ط { آتاه الله } ط { يسراً } ه { نكراً } ه { خسراً } ه { الألباب } ه ز والوصل ههنا والوقف على { آمنوا } أجوز من العكس { ذكراً } ه لأن ما بعده بدل أو غيره كما يجيء { إلى النور } ط { أبداً } ط { رزقاً } ه { مثلهن } ط { علماً } ه .
التفسير : لما نبه في آخر السورة المتقدمة على معاداة بعض الأزواج والمعاداة كثيراً ما تفضي إلى الفراق بالطلاق أرشد في هذه السورة إلى الطلاق السني الذي لا يحرم إيقاعه وإلى أحكام أخر معتبرة في فراق الزوجين . وقبل الخوض في تقرير أقسام الطلاق نقول : إنه يورد ههنا سؤال وهو أنه كيف نادى نبيه صلى الله عليه وسلم وحده ثم قال { إذا طلقتم } على الجمع؟ والجواب أنه كما يقال لرئيس القوم يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه وأن من سواه من قومه تبع له في الخطاب . وقيل : الجمع للتعظيم والمراد بالخطاب النبيّ أيضاً . وقيل : أراد يا أيها النبي والمؤمنون فحذف للدلالة . وقيل : يا أيها النبي قل للمؤمنين . ومعنى { إذا طلقتم } إذا أردتم تطليقهن كقوله { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] واللام في قوله { لعدتهنّ } بمعنى الوقت أي للوقت الذي يمكنهنّ الشروع في العدّة وهو الطهر الذي لم يجامعها فيه . وقال جار الله : فطلقوهن مستقبلات لعدّتهن كقولك « أتيته لليلة بقيت من شهر كذا » أي مستقبلاً لها . قال الفقهاء : السنيّ طلاق المدخول بها التي ليست بحامل ولا صغيرة ولا آيسة في غير حالة البدعة ، والبدعيّ طلاق المدخول بها في حيض أو نفاس أو طهر جامعها فيه ولم يظهر حملها . فلتحريم الطلاق سببان : أحدهما وقوعه في حال الحيض إذا كانت المرأة ممسوسة وكانت ممن تعتدّ بالإقراء لقوله تعالى { فطلقوهن لعدّتهن } وطلق ابن عمر امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : مرة ليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم يطلقها إن شاء . فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء . والمعنى فيه أن بقية الحيضة لا تحسب من العدة فتطول عليها مدة التربص .
وثانيهما إذا جامع امرأته في طهرها وهي ممن تحبل ولم يظهر حملها حرم عليه أن يطلقها في ذلك الطهر لقوله صلى الله عليه وسلم في قصة ابن عمر « ثم إن شاء طلقها قبل أن يسمها » ولأنه ربما يندم على الطلاق لظهور الحمل . هذا تقرير السنة والبدعة من جهة الوقت . أما السنة والبدعة من جهة العدد فقال مالك : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة أو مفرقة على الأطهار . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يكره ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، فأما متفرقاً في الأطهار فلا لما روي في قصة ابن عمر : إنما السنة أن يستقبل الطهر استقبالاً ، ويطلق لكل قرء تطليقة . وقال الشافعي : لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة . وقد يستدل بما روي في حديث اللعان أن اللاعن قال : هي طالق ثلاثاً . ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقالت الشيعة : إذا طلقها ثلاثاً يقع واحدة . ومنهم من قال : لا يقع شيء وهو قول سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين . والأصح عند أكثر المجتهدين أن الطلاق البدعي واقع وإن كان صاحبه آثماً وعاصياً وهذا مبنيّ على أن النهي لا يوجب فساد المنهي عنه . « وفي قصة ابن عمر أنه قال : يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثاً؟ فقال له : إذن عصيت وبانت منك امرأتك » قالت العلماء : المحرم هو الطلاق بغير عوض فأما إذا خلع الحائض أو طلقها على مال فلا لإطلاق قوله تعالى { فلا جناح عليهما فيما أفتدت به } [ البقرة : 229 ] ولأن المنع كان رعاية لجانبها وبدل المال دليل على شدة الحاجة إلى الخلاص بالمفارقة . قال جار الله : اللام في قوله { النساء } للجنس وقد علم بقوله { فطلقوهن لعدتهن } أنه مطلق على البعض وهنّ ذوات الأقراء المدخول بهن فلا عموم ولا خصوص . قلت : ما ضره لو جعله عاماً لأنه إذا روعي الشرط المذكور في هذا البعض لزم أن يكون طلاق كل النساء من الصغيرة والآيسة والحامل وغير المدخول بها والمدخول بها بحيث يمكنهن أن يشرعن الطلاق في العدة . قوله { وأحصوا العدة } أي اضبطوها واحفظوا عدد أيامها ثلاثة أقراء كوامل لا أزيد ولا أنقص { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } يعني من مساكن الفراق وهي بيوت الأزواج أضيفت إليهن لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى إلى انقضاء العدة ، وكما أن البعولة لا ينبغي أن يخرجوهنّ غضباً عليهنّ أو لحاجة لهم إلى المساكن كذلك لا ينبغي لهنّ أن يخرجن بأنفسهنّ . وقوله { إلا أن يأتين } استثناء من الجمة الأولى أي إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ ، أو إلا أن يطلقهن على النشوز فإن النشوز يسقط حقهنّ في السكنى ، أو إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهن ويؤيده قراءة أبيّ { إلا أن يفحشن عليكم } وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه .
والمعنى إن خرجت فقد أتت بفاحشة مبينة وعلى هذا يكون الاستثناء من الجملة الثانية . قوله { لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أي أحصوا العدة وألزموهن مساكنكم فلعلكم تندمون بقلب الله البغضة محبة والمقت مقة والطلاق رجعة . والخطاب في { لا تدري } للنبي صلى الله عليه وسلم على نسق أول السورة أو لكل مكلف { فإذا بلغن أجلهنّ } أي شافن انقضاء عدتهن فأنتم بالخيار إن شئتم فالإمساك بالرجعة لا على وجه الضرار بل بالشرع والعرف ، وإن شئتم فالفراق بالمعروف كما مر في « البقرة » { وأشهدوا } على الرجعة أو الفرقة و { ذوى عدل منكم } أي من جنسكم من المسلمين قاله الحسن . وعن قتادة : من أحراركم . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، وعند الشافعي واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة . وفائدة الإشهاد أن لا يقع التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها أو يموت أحدهما فيدعي الآخر ثبوت الزوجية لأجل الميراث .
ثم حث الشهود على أن لا يشهدوا إلا لوجه الله من غير شائبة غرض أخروي أو عرض دنيوي { ذلكم } الحث على أداء الشهادة لله { يوعظ به من } هو من أهل الإيمان بالله والمعاد لأن غيره لا ينتفع به ، ويجوز أن تكون الإشارة بذلكم إلى ما مر من الإمساك أو الفراق بالمعروف لا على وجه الضرار فيكون موافقاً لما مر في « البقرة » إلا أنه وحد كاف الخطاب هنالك لأنه أكد الكلام بزيادة منكم ، وههنا جمع فلم يحتج إلى لفظ منكم والله تعالى أعلم بأسرار كلامه . ثم حض على التقوى في كل باب ولا سيما فيما سبق من أمر الطلاق وكأنه قال { ومن يتق الله } فطلق للسنة ولم يضار المعتدة ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد { يجعل له مخرجاً } ومخلصاً من غموم الدنيا والآخرة ومن جملة ذلك تأيم الأزواج { ويرزقه } من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه بدل ما أدى وبذل من المهر والحقوق . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم » { ومن يتق الله } فما زال يقرؤها ويعيدها . « وروي أن عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أسر ابني وشكا إليه الفاقة . فقال : ما أمسى عند آل محمد إلا مدّ فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله . ففعل » ، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل تغفل عنها العدوّ فاستاقها فنزلت هذه الآية . قلت : قد جربت الآية في محن ومهالك فوجدت مفرجة منفسة .
ومن أسرار القرآن ولطائفه أنه سبحانه حث على التقوى في هذه السورة ثلاث مرات : بقوله { ومن يتق الله } وذلك على عدد الطلقات الثلاث ، ووعد في كل مرة نوعاً من الجزاء : الأول أنه يخرجه مما دخل فيه وهو كاره ويتيح له خيراً ممن طلقها . الثاني اليسر في الأمور والموالاة في المقاصد ما دام حياً . الثالث أفضل الجزاء وهو ما يكون في الآخرة من النعماء . ثم حث في التوكل بثلاث جمل متقاربة الخطى : الأولى { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } لأن المعبود الحقيقي القادر على كل شيء الغنيّ عن كل شيء الجواد بكل شيء إذا فوض عبده الضعيف أمره إليه لا يهمله البتة . الثاني { إن الله بالغ أمره } أي يبلغ كل أمر يريده ولا يفوته المطلوب . الثالثة { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي وقتاً ومقداراً . وهاتان الجملتان كل منهما بيان لوجوب التوكل عليه لأنه إذا علم كونه قادراً على كل شيء وعلم أنه قد بيّن وعيّن لكل شيء حداً ومقدراً لم يبقَ إلا التسليم والتفويض . قال جار الله : قال المفسرون : إن ناساً قالوا : قد عرفنا عدة ذوات الأقراء فما عدة اللواتي لم يحضن فنزلت { واللائي يئسن } فمعنى إن ارتبتم إن أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن . قلت : في حصة هذه الرواية نظر فإن السورة ليس فيها بيان عدة ذوات الأقراء وإحالتها على ما في « البقرة » ، والمطلقات يتربصن لا يجوز لأن هذه مكية وتلك مدنية . نعم لو ثبت أن هذه متأخرة النزول كان له وجه كما روي عن عبد الله بن مسعود : من شاء باهلته إن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في البقرة . والجمهور أن المراد أن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضت { فعدّتهن ثلاثة أشهر } وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب أولى . وسن اليأس مقدر بخمس وخمسين وبستين . والمشهور عند أكثر أصحاب الشافعي النظر إلى نساء عشيرتها من الأبوين ، فإذا بلغت السن التي ينقطع فيها حيضهن فقد بلغت سن اليأس . { واللائي لم يحضن } هن الصغائر والتقدير فعدتهن أيضاً ثلاثة أشهر حذف لدلالة ما قبله عليه . قوله { وأولات الأحمال } أي النساء الحوامل { أجلهن } بعد الطلاق أو بعد وفاة الزوج أي انقضاء عدتهن { أن يضعن حملهن } هذا قول أكثر الأئمة والصحابة وإما تنقضي العدة بوضع الحمل بتمامه . فلو كانت حاملاً بتوأمين لم تنقض العدة حتى ينفصل الثاني بتمامه ، وإنما يكون الولدان توأمين إذا ولدا على التعاقب وبينهما دون ستة أشهر وإلا فالثاني حمل آخر . وعن علي وابن عباس أن عدة الحامل المتوفي عنها زوجها أبعد الأجلين من بقية الحمل ومن أربعة أشهر وعشر ، ووضع الحمل لا يتفاوت بكونه حياً أو ميتاً أو سقطاً أو مضغة لا صورة فيها ، وصدقت المرأة بيمينها لأنهنّ مؤتمنات على أرحامهنّ .
وحين كرر شرط التقوى كان لسائل أن يسأل : كيف يعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل { أسكنوهن من حيث سكنتم } أي بعض مكان سكناكم الذي تطيقونه . والوجد . الوسع والطاقة . قال قتادة : فإن لم يكن إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه . قال أبو حنيفة : السكنى والنفقة واجبتان لكل مطلقة . وعند الشافعي ومالك : ليس للمبتوتة إلا السكنى . وعن الحسن وحماد : لا نفقة لها ولا سكنى لما في حديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا سكنى لك ولا نفقة . وضعف بقول عمر : لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة نسيت أو شبه لها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها السكنى والنفقة { ولا تضاروهن } بإنزال مسكن لا يوافقهن أو بغير ذلك من أنواع المضار حتى تضطروهن إلى الخروج وقيل : هو أن يراجعها كلما قرب انقضاء عدتها ليضيق أمرها وقد يلجئها إلى أن تفتدي منه . قوله { وإن كن أولات حمل } تخصيص للحامل بالنفقة لأجل الحمل وإن كانت بائنة . هذا عند الشافعي ، وأما عند أبي حنيفة ففائدته أن مدة الحمل ربما تطول فيظن ظان أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار عدة الحامل فنفى ذلك الوهم ، وأما الحامل المتوفى عنها فالأكثرون على أنه لا نفقة لها لوقوع الإجماع على من أجبر الرجل على إنفاقه من امرأة أو ولد صغير لا يجب أن ينفق عليه من ماله بعد موته فكذلك الحامل . وعن علي وعبد الله وجماعة ومنهم الشافعي أنهم أوجبوا نفقتها .
ثم بين أمر الطفل قائلاً { فإن أرضعن } أي هؤلاء المطلقات { لكم } أي لأجلكم ولداً منهن أو من غيرهن بعد انفصام عرى الزوجية . وهذه الإجارة لا تجوز عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان الولد منهن ما لم تحصل البينونة . وجوز الشافعي مطلقاً كلما صار . ثم خاطب الآباء والأمهات جميعاً بقوله { وأتمروا } قال أهل اللغة : الائتمار بمعنى التآمر كالاشتوار بمعنى التشاور أي ليأمر بعضكم بعضاً بالجميل وهو المسامحة وأن لا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما معاً { وإن تعاسرتم } أي أظهرتم من أنفسكم العسر والشدة في أم مؤنة الإرضاع { فسترضع } أي الطفل { له } أي للأب مرضعة { أخرى } وفيه طرف من معاتبة الأم على التعاسر كما تقول لمن تطلب منه حاجة وهو يتأنى في قضائها : سيقضيها قاضٍ . يريد لا تبقى غير مقضية وأنت ملوم . ثم بين أن ما أمر به من الإنفاق على المطلقات والمرضعات هو بمقدار الوسع والطاقة كما في « البقرة » على الموسر قدره وعلى المقتر قدره إلى أن يفتح الله أبواب الرزق عليهم . ثم هدد من خالف الأحكام المذكورة بأحوال الأمم السابقة .
والحساب الشديد أي بالاستقصاء والمناقشة ، والعذاب النكر أي المنكر الفظيع . يحتمل أن يراد بهما حساب الدنيا وعذابها وهو إحصاء صغائرهم وكبائرهم في ديوان الحفظة وما أصاب كل قوم من الصيحة ونحوها عاجلاً ، وأن يراد عذاب الآخرة وحسابها . ولفظ الماضي لتحقق الوقوع مثل { وسيق } [ الزمر : 72 ] { ونادى } [ الأعراف : 38 ] وعلى هذا يكون قوله { أعد الله } تكريراً للوعيد وبياناً لكونه مترقباً كأنه قال : أعد الله لهم هذا العذاب فاحذروا مثله { يا أولى الألباب } وجوز جار الله أن يكون { عتت } وما عطف عليه صفة للقرية و { أعد الله } عاملاً في { كأين } . قوله { رسولاً } قال جار الله : هو جبرائيل أبدل من { ذكراً } لأنه وصف بتلاوة آيات الله وكان إنزاله في معنى إنزال الذكر فصح إبداله منه ، أو أريد بالذكر الشرف كقوله { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] فأبدل منه كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله ، أو جعل لكثرة ذكره الله وعبادته كأنه ذكر ، أو أريد ذا ذكر ملكاً مذكوراً في السموات وفي الأمم كلها ، أو دل قوله { قد أنزل الله } على أرسل فكأنه قيل : أرسل رسولاً أو أعمل { ذكراً } في { رسولاً } إعمال المصدر في المفاعيل أي أنزل الله أن ذكر رسولاً أو ذكره رسولاً . قلت : لم يبعد على هذه الوجوه أن يكون المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم . ثم ذكر غاية الإنزال أو التلاوة بقوله { ليخرج } والمعنى ليخرج الله أو الرسول { الذين } عرف منهم أنهم سيؤمنون من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أو ليوفقهم بعد الإيمان والعمل الصالح لمزيد البيان والعيان الذي ينجيلي به ظلم الشكوك والحسبان . قوله { قد أحسن الله له رزقاً } فيه معنى التعجب والتعظيم . ثم ختم السورة بالتوحيد الذي هو أجل المطالب وتفسيره ظاهر مما سلف مراراً إلا أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الأرض متعددة وأنها سبع كالسموات فذهب بعضهم إلى أن قوله { مثلهن } أي في الخلق لا في العدد . وقيل : هن الأقاليم السبعة ، والدعوة شاملة لجميعها . وقيل : إنها سبع أرضين متصل بعضها ببعض وقد حال بينهم بحار لا يمكن قطعها والدعوة لا تصل إليهم . وقيل : إنها سبع طبقات بعضها فوق بعض لا فرجة بينها وهذا يشبه قول الحكماء : منها طبقة هي أرض صرفة تجاوز المركز ، ومنها طبقة طينية تخالط سطح الماء من جانب التقعير ، ومنها طبقة معدنية يتولد منها المعادن ، ومنها طبقة تركبت بغيرها وقد انكشف بعضها ، ومنها طبقة الأدخنة والأبخرة على اختلاف أحوالها أي طبقة الزمهرير ، وقد تعدّ هذه الطبقة من الهواء . وقيل : إنها سبع أرضين بين كل واحدة منها إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام كما جاء في ذكر السماء وفي كل أرض منها خلق حتى قالوا : في كل منها آدم وحواء ونوح وإبراهيم وهم يشاهدون السماء من جانب أرضهم ويستمدون الضياء منها أو جعل لهم نوراً يستضيئون به . وذكر النقاش في تفسيره فصلاً في خلائق السموات والأرضين وأشكالهم وأسمائهم أضربنا عن إيرادها لعد الوثوق بمثل تلك الروايات . ومعنى { تنزل الأمر بينهن } أن حكم الله وأمره يجري فيما بين السموات والأرضين أو فيما يتركب منهما ولا يعلم تلك الأجرام ولا تلك الأحكام ولا كيفية تنفيذها فيهن إلا علام الغيوب تعالى وتقدس .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
القراآت { عرف } بالتخفيف : عليّ { تظاهرا } عاصم وحمزة وعلي وخلف . { أن يبدله } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { نصوحاً } بضم النون : يحيى وحماد { وكتبه } على الجمع : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص .
الوقوف { لك } ج لاحتمال أن الجملة بعده حال أو استفهامية بحذف الحرف وهذا أحسن ، لأن تحريم الحلال بغير ابتغاء مرضاتهن أيضاً غير جائز { أزواجك } ط { رحيم } ه { أيمانكم } ج لعطف الجملتين المختلفتين { مولاكم } ط للابتداء بذكر ما لم يزل من الوصفين مع اتفاق الجملتين { الحكيم } ه { حديثاً } ج { عن بعض } ج { هذا } ط { الخبير } ه { قلوبكما } ج { المؤمنين } ه لتناهي الشرط إلى الإخبار { ظهير } ه { وأبكاراً } ه { ما يؤمرون } ه { اليوم } ط { تعملون } ه { نصوحاً } ط { الأنهار } لا بناء على أن الظرف يتعلق بقوله { ويدخلكم } وج لاحتمال أن { يوم } متعلق بقوله { يسعى } بعد { واغفر لنا } ج للابتداء بأن مع احتمال اللام { قدير } ه { عليهم } ه { جهنم } ط { المصير } ه { لوط } ط لابتداء الحكاية { الداخلين } ه { فرعون } ج لئلا يتوهم أن الظرف متعلق ب { ضرب } بل التقدير « اذكروا » { الظالمين } ه لأن ما بعده معطوف على امرأة فرعون { القانتين } ه .
التفسير : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي زينب بنت جحش فيشرب عندها العسل ، فتواطأت عائشة وحفصة فقالتا له : إنما نشم منك ريح المغافير . والمغفور والمغثور شيء واحد ينضحه العرفط والرمث مثل الصمغ وهو حلو كالعسل ويؤكل وله ريح كريهة . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره التفل فحرم لقولهما على نفسه العسل . الثاني أنه ما أحل الله له من ملك اليمين . وههنا روايتان : الأولى « أنه صلى الله عليه وسلم خلا بمارية القبطية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي » ، فأخبرت به عائشة وكانتا متصادقتين . الثانية أنه خلا بمارية في يوم حفصة فأرضاها بذلك واستكتمها فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه ومكث تسعاً وعشرين ليلة في بيت مارية فقال عمر لابنته : لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك . فنزل جبريل صلى الله عليه وسلم وقال : راجعها فإنها صوّامة قوّامة وإنها لمن نسائك في الجنة . قال جمع من العلماء : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم حلال بأن يقول : هو عليّ حرام ولكنه كان يميناً كقوله « والله لا أشرب العسل ولا أقرب الجارية بعد اليوم » فقيل له : لم تحرم أي لم تمتنع منه بسبب اليمين يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر عن يمينك { والله غفور } لك { رحيم } بك لوالدليل عليه ظاهر .
قوله { قد فرض الله لكم تحلة } بمعنى التحليل كالتكرمة { أيمانكم } أي شرع لكم تحليلها بالكفارة . وقيل : قد شرع الله لكم الاستثناء في أيمانكم من قولك حلل فلان في يمينه إذا استثنى فيها وذلك أن يقول : إن شاء الله عقبها حتى لا يحنث . والتحلة تفعلة بمعنى التحليل كالتكرمة بمعنى التكريم . عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم لم يكفر عن يمينه لأنه كان مغفوراً له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين . وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية . وما حكم تحريم الحلال؟ قال أبو حنيفة : هو يمين على الامتناع من الانتفاع المقصود ، فلو حرم طعاماً فهو يمين على الامتناع من أكله ، أو أمه فعلى الامتناع من وطئها ، أو زوجة فمحمول على ما نوى ، فإن نوى الظهار فظهار ، أو الطلاق فطلاق بائن ، وإن لم ينو شيئاً فعلى الإيلاء ، وإن قال : كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى . وعن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وزيد أن الحرام يمين . وقال الشافعي : هو في النساء من صرائح ألفاظ الطلاق . وعن عمر : إذا نوى الطلاق فرجعي . وعن علي رضي الله عنه : ثلاث . وعن عثمان : ظهار . وعن مسروق والشعبي أنه ليس بشيء فما لم يحرمه الله ليس لأحد أن يحرمه { والله مولاكم } متولي أموركم وقيل : أولى بكم من أنفسكم ونصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم { وهو العليم } بما يصلحكم { الحكيم } فيما يأمركم به وينهاكم عنه { و } اذكر { إذا أسرّ النبي إلى بعض أزواجه } وهي حفصة { حديثاً } هو حديث مارية وإمامة الشيخين { فلما نبأت به } حفصة عائشة { وأظهره الله } على نبيه أي أطلعه على إفشائه على لسان جبريل . وقيل : أظهر الله الحديث على النبي فيكون من الظهور { عرف بعضه } أعلم ببعض الحديث . ومن قرأ بالتخفيف من العرفان فمعناه المجازاة من قولك للمسيء « لأعرفنّ لك ذلك » وكان جزاؤه تطليقه إياها . وقيل : المعرف حديث الإمامة والمعرض عنه حديث مارية . وإنما أعرض عن البعض تكرماً . قال سفيان : ما زال التغافل من فعل الكرام . وروي أنه قال لها : ألم أقل لك اكتمي عليّ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي فرحاً بالكرامة التي خص الله بها أبي . وإنما ترك المفعول ولم يقل « فلما نبأت به بعضهنّ وعرفها بعضه لأن ذلك ليس بمقصود وإنما الغرض ذكر جناية حفصة في وجود الإنباء به » ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرمه وحلمه لم يوجد منه إلا الإعلام بالبعض وهو حديث الإمامة . ولما كان المقصود في قوله { من أنبأك هذا } ذكر المنبأ به أتى بالمفعولين جميعاً . ثم وبخ عائشة وحفصة على طريقة الالتفات قائلاً { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } أي فقد وجد منكما ما يوجب التوبة وهو ميل قلوبكما عن إخلاص رسول الله صلى الله عليه وسلم من حب ما يحبه وبغض ما يكرهه والأصل قلباكما .
ووجه الجمع ما مر في قوله { فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] { وإن تظاهرا } أي تعاونا على ما يوجب غيظه فلم يعدم هو من يظاهره كيف والله { مولاه } أي ناصره { وجبريل } خاصة من بين الملائكة { وصالح المؤمنين } قال أكثر العلماء : هو واحد في معنى الجمع لأنه أريد الجنس لشمول كل من آمن وعمل صالحاً . وجوز أن يكون جمعأً وقد أسقط الواو في الخط لسقوطه في اللفظ . عن سعيد بن جبير : هو كل من برىء من النفاق . وقيل : الأنبياء والصحابة والخلفاء . { والملائكة } على كثرة جموعهم { بعد ذلك } الذي عرف من نصرة المذكورين { ظهير } فوج مظاهر له كأنهم يد واحدة فأي وزن لاتفاق امرأتين بعد تظاهر هؤلاء على ضد مطلوبهما . ولا يخفى أن الكلام مسوق للمبالغة في الظاهر وإلا فكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً .
ثم وبخهما بنوع آخر وهو قوله { عسى ربه إن طلقكنّ } الآية . والسائحات الصائمات كما في آخر التوبة . قال جار الله : شبه الصائم في إمساكه إلى أن يجيء وقت إفطاره بالسائح الذي لا زاد معه فلا يزال ممسكاً إلى أن يجد من يطعمه . وقيل : السائحات المهاجرات فانظر في شؤم العصيان فإن أمهات المؤمنين وهنّ خير نساء العالمين يصير غيرهن بفرض عدم العصيان خيراً منهن بفرض العصيان وتطليق الرسول إياهن . وقد عرفت في النظائر أن الواو في قوله { وأبكاراً } يقال لها « واو الثمانية » إلا أن للواو في هذا المقام فائدة أخرى وهي أن وصفي الثيابة والبكارة متنافيان لا يكون إلا أحدهما بخلاف الصفات المتقدمة فإنها ممكنة الاجتماع ، فالمراد أن أولئك النساء جامعات للأوصاف المتقدمة ولأحد هذين . ثم عمم التحذير فقال { قوا أنفسكم } وهو أمر من الوقاية في الحديث « رحم الله رجلاً قال يا أهلاه صلاتكم وصيامكم وزكاتكم مسكينكم ويتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعهم معه في الجنة » وتفسير قوله { وقودها الناس والحجارة } قد مر في أول « البقرة » . وكونها معدّة للكافرين لا ينافي تعذيب المؤمنين الفسقة بها إن استحقوها . وجوز أن يكون أمراً بالتوقي من الارتداد وأن يكون خطاباً للذين آمنوا بألسنتهم { عليها ملائكة } أي موكل على أهلها الزبانية التسعة عشر الموصوفون بالغلظة والشدة في الإجرام أو في الأفعال أو فيهما لأنه لا تأخذهم رأفة بمن عصى الله . وقوله { ما أمرهم } نصب على البدل أي لا يعصون أمر الله . ولا يخفى أن عدم العصيان يستلزم امتثال الأمر فصرح بما عرف ضمناً قائلاً { ويفعلون ما يؤمرون } ويجوز أن يكون الأوّل عائداً إلى الماضي والثاني إلى المستقبل .
ثم وعظ المؤمنين بما يقال للكافرين عند دخولهم النار وهو قوله { لا تعتذروا } لأنه لا عذر لكم أو لا عذر مقبولاً لكم ، وليس هذا من قبيل الظلم ولكنه جزاء أعمالهم . ثم أرشد المؤمنين إلى طريق التوبة ، ووصفت بالنصوح على الإسناد المجازي لأن النصح صفة التائبين وهو أن ينصحوا أنفسهم بالتوبة لا يكون فيها شوب رياء ولا نفاق . وقيل : هو من نصاحة الثوب أي توبة ترفأ خروقك في دينك . وقيل : خالصة عسل ناصح إذا خلص من الشمع . وقيل : توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها . و { عسى } من الكريم إطماع ولئلا يتكلوا . قوله { لا يخزي } تعريض لمن أخزاهم من أهل النار { ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته } [ آل عمران : 192 ] كأنه استحمد المؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم . قوله { نورهم يسعى } قد مرّ في الحديد قوله { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } أي قائلين ذلك إذا طفىء نور المنافقين خوفاً من زواله على عادة البشرية ، أو لأن الإخلاص والنفاق من صفة الباطن لا يعرفه إلا الله سبحانه على أنه يجوز أن يدعو المؤمن بما هو حاصل له مثل اهدنا ، ويجوز أن يدعو به من هو أدنى منزلة لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه تفضلاً لا مجازاة لانقطاع التكليف والعمل يومئذ . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة أو بإقامة الحدود عليهم ، وأمر باستعمال الغلظة والخشونة على الفريقين هذا عذابهم في الدنيا ولهم في الآخرة جهنم وقد سبق نظير الآية في « التوبة » . ثم ضرب مثلاً لأهل الكفر امرأة نوح واسمها قيل واعلة وامرأة لوط . واسمها قيل واهلة ومثلاً لأهل الإيمان امرأة فرعون واسمها آسية وهي عمة موسى ومريم ابنة عمران . وفي ضمن التمثيلين تعريض بما مرّ في أول السورة من حال عائشة وحفصة وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص كهاتين المؤمنتين لا الكافرتين اللتين حين خانتا زوجيهما لم يغنيا عنهما من عذاب الله شيئاً ، وقيل لهما عند موتهما أو يوم القيامة { ادخلا النار مع } سائر { الداخلين } الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء من قوم نوح وقوم لوط أو من كل قوم . وفي قوله { عبدين من عبادنا } إشارة إلى أن سبب المزية والرجحان عند الله ليس إلا الصلاح كائناً من كان . وخيانة المرأتين ليست هي الفجور وإنما هي نفاقهما وإبطانهما الكفر وتظاهرهما على الرسولين . فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون ، وامرأة لوط دلت على ضيفانه . قال ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط . عن أبى هريرة أن آسية حين آمنت بموسى عليه السلام وتدها فرعون باربعة أوتاد واستقبل بها الشمس وأضجعها على ظهرها ووضع الرحى على صدرها .
قال الحسن : فنجاها الله أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتنعم فيها . وقيل : لما { قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة } بنى من درّة . ومعنى { عندك بيتاً في الجنة } أنها طلبت القرب من الله والبعد عن عدوّه في مقام القرب ، أو أرادت أعلى موضع في الجنة . وقولها { من فرعون وعمله } كقولك « أعجبني زيد وكرمه » وفيه دليل على أن الاستعاذة بالله من الأشرار دأب الصالحين . والضمير في { فيه } للفرج . وقيل : هو جيب الدرع وقد مرّ في « الأنبياء » . وكلمات الله صحف إبراهيم وغيره أو جميع ما كلم الله به وكتبه اللوح أو الكتب الأربعة ومن وحد فهو الإنجيل . وقرىء { بكلمة الله } أي بعيسى { وكانت من القانتين } من باب التغليب كما مرّ في قوله { واركعي مع الراكعين } [ آل عمران : 43 ] وقيل : « من » للابتداء أي ولدت منهم لأنهم من أعقاب هارون عليه السلام .
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
القراآت { من تفوّت } من التفعل : حمزة وعلي { هل ترى } بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام { ولقد زينا } مثل { لقد سمع } : ابن فليح { فسحقا } بالضم : يزيد وعلي الآخرون : بالسكون { أءمنتم } بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وابن عامر . والباقون { ءأمنتم } بتوسيط ألف بين الهمزتين { نذيري } { ونكيري } كنظائرهما . { سيئت } مثل ضربت : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس . { يدعون } بسكون الدال : يعقوب . { أهلكني الله } بسكون الياء : حمزة { معي } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وعاصم غير يحيى وحماد { فسيعلمون } على الغيبة : علي .
الوقوف { الملك } ط لنوع اختلاف بين الجملتين من حيث تقدم الظرف في الأولى { قدير } ه لا لأن { الذي } بدل { عملاً } ه { الغفور } ه لا لأن ما بعده صفة أو بدل { طباقاً } ط { تفاوت } ط { البصر } ط في الموضعين لأن ما بعد الأول مفعول أي فانظر هل ترى ، وما بعد الثاني ظرف مع أن الجواب منتظر { فطور } ه { حسير } ه { السعير } ه { جهنم } ط { المصير } ه { تفور } ه لا لأن ما بعده خبر آخر أو بدل { الغيظ } ط { نذير } ه { من شيء } ط ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الكفار وأن يكون مقول قول محذوف للخزنة { كبير } ه { السعير } ه { يذنبهم } ج لابتداء الشتم مع الفاء { كبير } ه { أو اجهروا به } ه ط { الصدور } ه { خلق } ط لتناهي الاستفهام مع أن الواو يحسن حالاً . { الخبير } ه { من رزقه } ط { النشور } ه { هي تمور } ه لا لأن أم معادل { أم أمنتم } { حاصبا } ط لابتداء التهديد { نذير } ه { نكير } ه { ويقبض } م { الرحمن } ط { بصير } ه { الرحمن } ط { غرور } ه { رزقه } ط { ونفور } ه { مستقيم } ه { والأفئدة } ط { تشكرون } ه { تحشرون } ه { صادقين } ه { عند الله } ط ص { مبين } ه { تدعون } ه { رحمنا } لا لأن ما بعده جواب الشرط { أليم } ه { توكلنا } ج ومن قرأ { فسيعلمون } بياء الغيبة فوقفه مطلق للعدول { مبين } ه { معين } ه .
التفسير : كثير خير من تحت تصرفه وتسخيره { الملك } الحقيقي { وهو على } إيجاد { كل } ممكن وإعدامه { قدير } بيانه أنه { خلق الموت والحياة } وهما عرضان يتعاقبان على كل من صح عليه ذلك . فالموت نظير الإعدام والحياة مثلا الإيجاد ، وتقديم الموت لأن الأصل في الأشياء العدم ، قال مقاتل : يعني كونه نطفة وعلقة ومضغة ثم نفخ فيه الروح .
وعن ابن عباس : الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان ، وإن الله خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحته شيء إلا مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيي ، قال الحكماء الإسلاميون : هذا على سبيل التمثيل وإلا فالعرض لا يكون جوهراً .
أقول : لعل الأملح والبلقاء إشارة إلى أن هذين العرضين في عالمنا هذا لا يطرآن إلا على ما فيه طبائع متضادة فتكون بسبب ذلك تارة وتفقد أخرى . قال جار الله : إنما قدم الموت لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهم . زعم الكلبي أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد ، وقال أبو علي وأبو هاشم : إنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد . وقالت الأشاعرة : إنه قادر على القبيلين وإلا لم يكن على كل شيء قدير وهو خلاف الآية فلزمهم صحة وجود مقدور بين قادرين وبهذا بطل القول بالطبائع على ما تقوله الفلاسفة ، وبالمتولدات على ما تقوله المعتزلة ، ويكون العبد موجد الأفعال نفسه . ومعنى الغاية في قوله { ليبلوكم } أنه إذا علم أن وراء الموت حياة وحالة يستوي فيها الغني والفقير والمولى والعبد ولا ينفعه إلا ما قدم من خير صار ذلك داعياً إلى جسن العمل وزاجراً عن ضده . وكذا لو قيل : إن الموت حال كونه نطفة والحياة نفخ الروح في الجنين فإنه إذا تفكر في أمور نفسه علم أن وراء هذه الحياة موتاً ينقطع به تدارك ما فات ، وأن الدنيا مزرعة الآخرة . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلاها فلما بلغ قوله { أيكم أحسن عملاً } قال : أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لقومه « لو أكثرتم ذكرها ذم اللذات لشغلكم عما أرى » والابتلاء مجاز كما مر في قوله { وإذ ابتلى إبراهيم } وفي الكهف قوله { أيكم أحسن عملاً } مفعول ثاني { ليبلوكم } على أنه متضمن معنى العلم وليس هذا من باب التعليق لأن التعليق هو أن تكون الاستفهامية سادة مسد المفعولين جميعاً نحو « علمت أزيد منطلق » نعم إنه تعليق على قول الفراء والزجاج لأنهما قالا تقديره ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن عملاً { وهو العزيز } الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل { الغفور } لمن تاب من أهل الإساءة ، وهذان الوصفان يتوقفان على كمال القدرة والعلم فلا جرم دل عليهما { الذي خلق سبع سموات طباقاً } أي ذات طباق أو طوبقت طباقاً أو هو وصف بالمصدر مبالغة أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا طار طارقها . ثم أشار إلى أنها محكمة متقنة بقوله { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } أو تفوّت قال الفراء : وهما واحد ومعناه يرجع إلى عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر الفهم لو كان كذا لكان أحسن ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل راءٍ . والأصل ما ترى فيهن فعدل إلى العبارة الموجودة تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على أنه سبب تناسبهن كقوله « خلق الرحمن » .
فلو علم للمكلفين أنفع من هذا الخلق لفعل . وفسر بعضهم التفاوت بالفطور لقوله { هل ترى من فطور } أي صدوع وشقوق وخروق وفتور كل هذه من عبارات المفسرين وهو كقوله في أول « ق » { وما لها من فروج } [ ق : 4 ] وإنما أمر برجع البصر لأن النظرة الأولى حمقاء ، ثم أمر بتكرير رجع البصر كرتين وهو تثنية الكرة مثل لبيك وسعديك إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من الخلل والعيب ، ومعنى { خاسئاً } بعيداً عن إصابة الملمس ، قوله { ولقد زينا } قد مر تفسيره في « حم السجدة » . والرجوم جمع رجم مصدر سمي به ما يرجم به . وقيل : معناه جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من أهل التنجيم . وحين بين أنه أعد لهؤلاء عذاب السعير في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عمم الوعيد بقوله { وللذين كفروا } الآية . ثم وصف جهنم بصفات منمها أن { لها شهيقاً } تشبيهاً لحسيسها المنكر الفظيع بصوت الحمار . ويجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم أو من أنفسهم ومنها الفوران . قال ابن عباس : تغلي بهم كغلي المرجل . وقال مجاهد : تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل . ويجوز أن يكون من فور الغضب يؤيده قوله { تكاد تميز من الغيظ } يقال فلان يتميز غيظاً وغضباً فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه ، ولعل السبب في هذا المجاز هو أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب ، والدم عند الغليان يصير أعظم حجماً ومقداراً فيمدد الأوعية حتى كادت تنشق وتنخرق ، فجعل ذكر هذا اللازم كناية عن شدة الغضب ، وقيل : الغيظ للزبانية احتجت المرجئة بقوله { كلما ألقي } الآية . على أنه لا يدخل النار إلا الكفار لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي فيها أنه قال كذبنا النذير أجاب القاضي بأن النذير قد يطلق على ما في المقول من الأدلة المحذرة عن المعصية فيشمل الفاسق ، القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود الشرع . احتجوا بأنه تعالى ما عذبهم إلا بعد مجيء النذير . ثم حكى عن أهل النار أنهم يقولون للخزنة { لو كنا نسمع } الإنذار سماع من كان طالباً للحق أو نعقله عقل متأمل متفكر { ما كنا في أصحاب السعير } وإنما جمع بين السمع والعقل لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل واحتج بالآية من فضل السمع على البصر لأنه تعالى جعل مناط الفوز السمع ولم يذكر البصر القائل بأن الدين لا يتم إلا بالتعليم . احتج بأنه قدم السمع على العقل تنبيهاً على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد وهداية الهادي .
وأجيب بأن سبب التقديم هو أن المكلف لا بد أن يسمع قول الرسول ثم يتفكر فيه . قال في الكشاف : ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أوعلى مذهب أصحاب الرأي ، ثم قال في إبطاله كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين ، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم ، وكأن من كان من هؤلاء فهو من الناجين لا محالة . قلت : الإنصاف أن نزول الآية قبل المذهبين لا ينافي توبيخ أهل النار يوم القيامة أنفسهم بأنهم على تلك السيرة ، وكم من قصة قد أخبر الله بوقوعها من قبل أن تقع وهو أحد أنواع إعجاز القرآن وأيضاً لا يلزم من كونهما ناجمين كون غيرهما من أهل الوعيد . وأيضاً على هذا التفسير لو صح يلزم كونهما من أهل النجاة قطعاً فينضم إلى المبشرين أفراد غير محصورة فضلاً عن حادي عشر فيكون دعوى انحصار المبشرين في العشرة مصادرة على المطلوب . والفاء في قوله { فاعترفوا } للنتيجة أي فصح بعد البيانات السابقة أنهم اعترفوا { بذنبهم } قال مقاتل : يعني تكذيبهم الرسل . قال الفراء : الذنب ههنا بمعنى الجمع لأن فيه معنى الفعل كما يقال : خرج عطاء الناس أي أعطيتهم . ثم بين أن ذلك الاعتراف مما لا ينفع قائلاً فيه { فسحقاً } أي فبعداً لهم عن رحمة الله اعترفوا أو جحدوا . والتخفيف والتثقيل لغتان والمعنى أسحقهم الله سحقاً . وقال أبو علي : إسحاقاً إلا أن المصدر جاء على الحذف كقولهم « عمرك الله » ثم أتبهم الوعيد الوعد قائلاً { إن الذين } الآية . وقد مر مراراً . ثم هدد على العموم فقال { وأسروا } وهو من التسرية وعلل ذلك بقوله { أنه عليم بذات الصدور } قال ابن عباس : كانوا يتكلمون فيما بينهم بأشياء فيخبره جبرائيل فقالوا : أسروا قولكم لئلا يسمعه إله محمد فأنزل الله الآية بياناً لجهلهم . ثم استدل على كمال علمه بنوع آخر قائلاً { ألا يعلم من خلق } ومحل « من » رفع أي ألا يعلم من خلق مخلوقه ، وذلك أن خلق الشيء يتوقف على معرفة تفاصيل كمياته وكيفياته من خلقه ، وجوز أن يكون « من » بمعنى « ما » ويكون إشارة إلى ما يسره الخلق ويجهرونه ويضمرونه في صدورهم ، وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى . وقد يستدل بالوجهين الأولين أيضاً على ذلك لأن العبد لو كان موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها بناء على الآية . ولكنه غير عالم بتفاصيلها لأنه لا يعرف مقادير حركته وسكونه وكمية الجواهر الفردة الواقعة على مسافته ، بل لا يعرف الأسباب السابقة والغايات اللاحقة لا بكلها ولا بأكثرها في كل من أفعاله . وأنكر في الكشاف أن يكون قوله { ألا يعلم } متروك المفعول على تقادير كون « من » مرفوع المحل نحو « فلان يعطي » قال : لأن قوله { وهو اللطيف الخبير } حال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال : ألا يعلم وهو عالم ولكن ، ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء قلت : أما قوله { وهو اللطيف } حال فممنوع ولم لا يجوز أن يكون مستأنفاً ، وعلى تقدير تسليمه فليس معنى قوله { ألا يعلم } متروك المفعول على تقدير كون « من » مرفوع المحل حتى يلزم توقيت الشيء بنفسه ، بل المعنى ألا يتصف الخالق بالعلم والحال أن علمه وصل إلى بواطن الأشياء وخبايا الأمور .
وذلك أن المتصف بالأخص متصف بالأعم ضرورة . قوله { هو الذي جعل لكم الأرض } قال أهل النظم : وجه التعلق أنه سبحانه وتعالى قال : أيها الكافرون أنا عالم بسركم وجهركم فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم أنا الذي ذللتها لكم وإن شئت خسفت بكم إياها ، والذلول من كل شيء المناقد الذي يذل لك ، ومن ذلها أنه ما جعلها خشنة يمتنع المشي عليها ، ولا صلبة بحيث لا يمكن حفرها والبناء عليها ، ولا متحركة على الاستقامة واستدارة ، بل جعلها ساكنة في جو الهواء عند المركز . قال جار الله : المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل لأن ملتقى المنكبين من الغارب أبعد شيء من أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا كان هذا الموضع ذلولاً فما ظنك بغيره ، وعن ابن عباس والضحاك وقتادة أن مناكب الأرض جبالها وآكامها ، وإذا كانت هذه الأمكنة مع شخوصها وارتفاعها مذللة فغيرها أولى . قال الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل ، وهو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره الفراء وابن قتيبة : أن مناكبها جوانبها وطرقها ، ومنكبا الرجل جانباه فيكون كقوله { والله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سبلاً فجاجاً } [ نوح : 19 ، 20 ] { وكلوا من رزقه } الذي خلق لكم في الأرض ولا يخفى أن الأمر بالمشي والأكل للإباحة . ثم قال { وإليه النشور } يعني ينبغي أن يكون مشيكم في الأرض وأكلكم من رزق الله مشي من يعلم وأكل من يتيقن أن المصير إلى الله ، والمراد التحذير من المعاصي سراً وجهراً . ثم بين أن بقاءهم سالمين على هذه الأرض إنما هو بفضل الله ولو شاء لخسف بهم الأرض أو أمطر عليهم مطر القهر ، واستدلال المشبهة بقوله { من في السماء } ظاهر . وأهل السنة يتأولونه بوجوه منها : قول أبي مسلم أن العب كانوا يقرون بوجود الإله لكنهم يزعمون أنه في السماء فقيل لهم على حسب اعتقادهم { أأمنتم من } تزعمون أنه { في السماء } ومنها قول جمع من المفسرين أأمنتم من السماء ملكوته أو سلطانه أو قهره لأن العادة جارية بنزول البلاء من السماء . ومنها قول آخرين أن المراد جبرائيل يخسف بهم الأرض بأمر الله والمور حركة في اضطراب وقد مر في « الطور » .
والحاصل ريح فيها حصباء وقد مر أيضاً . ثم هدد وأوعد قائلاً { فستعلمون كيف نذير } قال عطاء والضحاك عن ابن عباس : هو المنذر يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والمعنى فستعلمون رسولي وصدقه حين لا ينفعكم ذلك . وقيل : بمعنى الإنذار أي عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول ، ثم مثل بحال الأمم السابقة . قال أبو مسلم : النكير عقاب المنكر . وقال الواحدي : أراد إنكاري وتغييري . ثم برهن على الوحدانية وكمال القدرة بوجوه : الأول { أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات } أي باسطات أجنحتهن لأنهم إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً . قال أهل المعاني : وإنما قيل { ويقبضن } دون « قابضات » على نحو « صافات » لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في كل منهما مد الأطراف وبسطها ، والقبض طارىء على البسط لأجل الإعانة فالمعنى أنهن صافات ويكون منهن القبض في بعض الأوقات كما يكون من السابح . وإنما قال في « النحل » { ما يمسكهن إلا الله } [ الآية : 79 ] وفي هذه السورة { ما يمسكهن إلا الرحمن } لأن التسخير في جو السماء محض الآلهية ، وأما صافات وقابضات فكان إلهامها كيفية البسط والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن . { إنه بكل شيء بصير } فيعلم أو يرى كيف يدبر العجائب . قالوا وفي الآية دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى ، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري لها وقد أضافه الله تعالى إلى نفسه ، ثم إن الكفار كانوا يمتنعون من الإيمان ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول وكان تعويلهم على أمرين : أحدهما القوة من جهة الإخوان والأعوان . والثاني الاستظهار بالأصنام والأوثان وكانوا يقولون إنها توصل إلينا جميع الخيرات وتدفع عنا كل الآفات ، فأبطل الله الأول بقوله { أمن هذا الذي } يعني من يشار إليه من المجموع ويقال هذا الذي { هو جند لكم } هو { ينصركم من دون الرحمن } إن أرسل عذابه عليكم { إن الكافرون إلا في غرور } من الشياطين يغرونهم أن العذاب لا ينزل بهم ولو أنزل دفعه أصنامهم وأبطل الثاني بقوله { أمن هذا الذي } يشار إليه هذا الذي { يرزقكم } بزعمكم { إن أمسك } الله { رزقه } بإمساك أسبابه من المطر وغيره هل يقدر على رزقكم { بل لجوا في عتو } وتباعد عن الحق { ونفور } عنه بالطبع والأول دليل فساد القوة العلمية ، والثاني إشارة إلى فساد القوة النظرية . ثم نبه على قبح هذين الوصفين قائلاً { أفمن يمشي مكباً } قال الواحدي « أكب » مطاوع « كب » . وأنكر عليه صاحب الكشاف بأن مطاوع « كب » هو « انكب » ومثله « قشعت الريح السحاب فانقشع » وأما الهمزة في « أكب » و « أقشع » فللصيرورة أي صار ذا كب وقشع ، أو دخل فيهما ولا شيء من بناء أفعل مطاوعاً ولا يخفى أن هذا نزاع لفظي ، أما المثل فقيل : هو في حق راكب التعاسيف وفي الذي يمشي على الصراط السوي وقيل : هو الأعمى والبصير أو العالم والجاهل .
وعن قتادة : الكافر أكب على معاصي الله فحشره يوم القيامة على وجهه ، والمؤمن كان على الدين الواضح فهداه الله للطريق السوي إلى الجنة . ومنهم من قال : هو في شخصين فقال مقاتل : أبو جهل والنبي صلى الله عليه وسلم وقال عطاء عن ابن عباس : أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب . وعن عكرمة : أبو جهل وعمار بن ياسر . والأصح التعميم وإن كان السبب خاصاً . البرهان الثاني ابتداء خلق الإنسان وتبيين جوارحه . وفي قوله { قليلاً ما تشكرون } إشارة إلى أنه أعطاهم هذه القوى الشريفة ولكنهم ضيعوها في غير ما خلقت لأجله . البرهان الثالث ذرء الناس ونشرهم { في الأرض } ثم أشار إلى المعاد بقوله { وإليه تحشرون } لأن القادر على البدء أقدر على الإعادة وقد مر نظير الآيتين في سورة « المؤمنين » . وحين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار أنهم طالبوه بتعيين الوقت . قال أبو مسلم : المراد كانوا { يقولون متى هذا الوعد } يعني العذاب النازل بعاد وثمود وغيرهما لقوله بعد ذلك { فلما رأوه } ومن حمل اللفظ على المستقبل وفسر الوعد بالقيامة كان قوله { فلما رأوه } من قبيل { وسيق } [ الزمر : 72 ] وأجابهم الله بقوله { قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين } العلم بوقوعه حاصل عندي وكان كافياً الإنذار والتحذير ، وأما العلم بوقته فليس إلا لله ولا حجة في النذارة إلى ذلك . والضمير في { رأوه } للوعيد في الدنيا أو في الآخرة والزلفة القرب . قال الحسن : أراد عياناً لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة . وقال في الكشاف : انتصابها على الحال أو الظرف أي رأو ذا زلفة أو مكاناً ذا زلفة . قوله { سيئت } قال ابن عباس : اسودت وعلتها الكآبة والقترة كوجه من يقاد إلى القتل . وقال الزجاج : تبين فيها السوء وهذا الفعل يستعمل لازماً ومتعدياً بمعنى القبح أو التقبيح . قوله { وقيل هذا الذي } الأكثرون على أن القائلين هم الزبانية . وقال آخرون : بل يقول بعضهم لبعض . و { تدعون } تفعلون من الدعاء أي تتمنون وتستعجلون به ويؤيده قراءة من قرأ بالتخفيف . وقيل : هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وكنتم ببطلانه مدعين . وقيل : استفهام على سبل الإنكار والمعنى ، أهذا ما ادعيتموه لا بل كنتم بسببه تدعون عدمه . يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين . بالهلاك ويتربصون بهم الدوائر فأمر الله بنوعين من الجواب الأول . { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي } كما تتمنون فنقلب إلى الجنة { أو رحمنا } بالنصرة وإمهال المدة كما نرجو { فمن يجير الكافرين من عذاب } النار فنحن متربصون لإحدى الحسنيين وأنتم هالكون بالهلاك الذي لا هلاك بعده ، وإن أهلكنا الله بالموت فمن يخلصكم من النار بعد موت هداتكم؟ وإن رحمنا بالإمهال والغلبة عليكم فمن ينجيكم من العذاب فإن المقتول على أيدينا هالك؟ وإن أهلكنا الله في الآخرة بذنوبنا ونحن له مسلمون فأي خلاص ومناص للكافرين؟ وإن رحمنا لأجل الإيمان فمن يرحم الكافرين ولا إيمان لهم؟ النوع الثاني في الجواب { قل هو الرحمن آمنا به } ولم نكفر كما كفرتم { وعليه } خاصة { توكلنا } لا على غيره ، وفيه تعريض بالكفرة أنهم متكلون على الرجال والأموال وإذا كانت حالنا هكذا فكيف يقبل الله دعاءكم علينا؟ ثم أشار إلى وجوب الاعتماد عليه في كل حاجة مع أنه برهان آخر على كمال قدرته ووحدانيته فقال { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً } أي غائراً مصدر بمعنى الفاعل للمبالغة .
عن الكلبي : لا تناله الدلاء . والمعين الجاري على وجه الأرض وقد ذكرنا الخلاف في اشتقاقه في « الصافات » . يحكى أن بعض المتجبرين على الله قرئت الآية عنده فقال : تأتينا به الفؤس والمتكل فذهب ماء عينيه وهذا من الإعجاز . قال مؤلف الكتاب : وحكم القريحة كذلك فإن فتح باب العويصات لا يتيسر إلا بإعانة رب الأرض والسموات والله الموفق وإليه المآب وبالله التوفيق والنصر
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
القراآت : { ن والقلم } مظهراً : يزيد وأبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وابن كثير ونافع وعاصم غير يحيى وحماد وغالب وهو الأصل للوقف . ووجه الإخفاء نية الوصل { آن كان } بهمزتين : حمزة وأبو بكر وحماد { آن كان } بقلب الثانية ألفاً ، ابن عامر ويزيد ويعقوب الباقون بهمزة واحدة { يبدلنا } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { لما تخيرون } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { ليزلقونك } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع الآخرون : بالضم من الإزلاق .
الوقوف : { يسطرون } ه ط لأن ما بعده جواب القسم { لمجنون } ه ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وعطفاً على جواب القسم { ممنون } ه ج لذلك { عظيم } ه { ويبصرون } ج لأن ما بعد مفعول { المفتون } ه { سبيله } ط لاتفاق الجملتين { بالمهتدين } ه { المكذبين } ه { فيدهنون } ه { مهين } ه لا { بنميم } ه لا { أثيم } ه لا { زنيم } ه ط لمن قرأ { أن كان } مستفهماً { وبنين } ه ومن قرأ مقصوراً يقف على البنين دون { زنيم } { الأولين } ه { الخرطوم } ه { الجنة } ط لاحتمال أن يكون « إذ » ظرفاً ليكون وأن يكون مفعول « أذكر » محذوفاً { مصبحين } ه لا لتعلق أن المفسرة { صارمين } ه { يتخافتون } ه لا { مسكين } ه { قادرين } ه { الضالون } ه لا لعطف « بل » واتحاد المفعول { محرومون } ه { تسبحون } ه { ظالمين } ه { يتلاومون } ه { طاغين } ه { راغبون } ه { العذاب } ط { أكبر } م { يعلمون } ه { النعيم } ه { كالمجرمين } ه ط { مالكم } ص وقفة لطيفة لاستفهام آخر { تحكمون } ه ج { تدرسون } ه ج لأن ما بعده مفعول { تدرسون } وإنما كسرت « أن » لدخول اللام في خبرها { تخيرون } ه لا لأن « أم » معادل الاستفهام أو بمعنى ألف الاستفهام { القيامة } لا لأن « أن » جواب الأيمان { تحكمون } ه { زعيم } ه لما مر في { تخيرون } { شركاء } ج للابتداء بأمر التعجيز مع الفاء { صادقين } ه { فلا يستطيعون } ه لا لأن ما بعده حال { ذلة } ط { سالمون } ه { بهذا الحديث } ط { لا يعلمون } ه ج للعطف { لهم } ط { متين } ه { مثقلون } ه { يكتبون } ه { الحوت } م بناء على أن « إذ » مفعول « اذكر { مكظوم } ه ط { مذموم } ه { الصالحين } ه { لمجنون } ه لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار { للعالمين } ه .
التفسير : الأقوال المشتركة في فواتح نحو هذه السورة مذكورة . أما المخصوصة بالمقام فعن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدى أن النون السمكة أقسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى ، أو بالحوت الذي احتبس يونس في بطنه ، أو بالحوت بالذي لطخ سهم نمرود بدمه ، اقوال . عن ابن عباس في رواية الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة .
قال :
إذا ما الشوق برّح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون قسماً بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة . وعن بعض الثقات أن أصحاب السجر يستخرجون من بعض الحيتان شيئاً أسود كالنقس أو أشد سواداً منه يكتبون منه فيكون النون . وهو الحوت عبارة عن الدواة ، ويعضده ما روي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال « أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة » وعن معاوية بن قرة مرفوعاً أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه يأمرهم الله به . وقيل : نهر في الجنة . اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنساً لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علماً منصرفاً ، وإن كان علماً غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم ، وقيل : النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الروحم ون هذا الإسم الخاص . أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون : هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن « أول ما خلق الله القلم » والجوهرة التي وردت في الحديث « أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض » كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب . و « ما » في قوله { وما يسطرون } موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة . وقيل : أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج : « أنت » اسم « ما » والخبر { بمجنون } وقوله { بنعمة ربك } كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك ، أو انتفى عنك الجنون متلبساً بنعمة الله كما لو قلت : أنت عاقل بحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبساً بحمد الله ، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد . وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة . وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان . { وإن لك } على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة { لأجراً غير ممنون } قال الأكثرون : أي غير مقطوع كقوله { عطاء غير مجذوذ } [ هود : 108 ] وعن مجاهد ومقاتل والكلبي أنه غير مكدر عليك بسبب المنة .
وقالت المعتزلة : في تقرير هذا الوجه أن له ممنا لأنه ثواب يستوجبه على عمله وليس بتفضل ابتداء ، وضعف لأنه يلزم منه التكرار لأن الأجر عندهم شيء ينبىء عن كونه غير ممنون . الحاصل أنه لا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا الخطب الجسيم وهو دعاء الخلق إلى الدين القويم فإن لك بسببه ثواباً عظيماً . { وإنك لعلى خلق عظيم } والخلق ملكة نفسانية يقدر معها على الإتيان بالفعل الجميل بمواتاة وسهولة ، فإذا وصفه مع ذلك بالعظم وهو كونه على الوجه الأجمل والنهج الأفضل لم يكن خلق أحسن منه . وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة نفي الجنون عنه ودلالة على تكذيب الحساد لأن المجنون لا خلق له يحمد أو عليه يعتمد ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان من حسن الخلق المتشابه بحيث كان مجمع أخلاق سائر الأنبياء وكان يوجد فيه ما كان متفرقاً فيهم ، وإليه الإشارة بقوله { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] أي اقتد بكل منهم فيما اختص به من الخلق الكريم وفي قوله { لعلى } إشارة إلى أنه مستول على أحسن الأخلاق الفاضلة لا يزعه عنها وازع . قال سعيد بن هشام : قلت لعائشة : أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان خلقه القرآن . وفي روياة : قرأت { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، وقال أنس : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي في شيء فعلته لمَ فعلته ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت ، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم وهدد أعداءه بقوله { فستبصر } يا محمد ما قدر لك من عز الدارين { ويبصرون } في الدنيا بالقتل والسبي كما في بدر أو في الآخرة . قوله { بأيكم المفتون } قال الأخفش وأبو عبيدة وابن قتيبة : الباء صلة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون . وقال الفراء والمبرد والحسن والضحاك عن ابن عباس : المفتون مصدر بمعنى المجنون كالمعقول والمجلود . وقيل : الباء بمعنى « في » وعل هذا يجوز أن يكون الفتون بمعنى المجنون أي في أي الفريقين من يستحق هذا الاسم أو في أيهما الشيطان لأن الشيطان مفتون في دينه . وكانت العرب تزعم أنه من يخبله الجن فقال الله تعالى سيعلمون غداً بأيهم الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون وإختلاط العقل ، وفيه تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد بن المغيرة وأضرابهما . ثم أحال كيفية الحال إلى كمال علمه فقال { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } أي بمن جن { وهو أعلم بالمهتدين } وهم العقلاء . والأظهر أن يراد الضلال في غوائلهم والاهتداء في الدين وفيه وعد ووعيد .
قال المفسرون : إن المشركين أرادوا من النبي أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة وهم يعبدون الله مدة وآلهتهم مدة فأنزل الله تعالى { فلا تطع المكذبين } وهو كالنتيجة لما تقدمه لأنه سبحانه حين وعده أنصار العز والرفعة في الدارين وأوعد أعداءه بضد ذلك وكان علمه شاملاً بحال الفريقين وجزائهما لم يبق لطاعة الأعداء وجه .
ثم ذكر تمنيهم فقال { ودوا لو تدهن } تلين وتصانع { فيدهنون } أي فهم يدهنون حينئذ لأن النفاق يجر النفاق أي ودوا ادهانك فهم الآين يدهنون طمعاً في ادهانك . قال المبرد : أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر . ثم حض النبي قائلاً { ولا تطع كل حلاف مهين } لأن من أكثر الحلف بالله ولم يعرف قدر المعبود بالحق أذله الله . وفيه إشارة إلى أن عزة النفس منوطة بتصحيح نسبة العبودية ، ومهانة النفس مربوطة بالغفلة عن سر الربوبية . وأيضاً الحلاف يتفق له الكذب كثيراً والكذب حقير عند الناس . والهماز الذي يذكر الناس بالمكروه . وعن الحسن : يلوي شدقيه في أقفية الناس . { مشاء بنميم } أي لأجل سعاية . والنميم مصدر نم ينم { مناع للخير } أي للمال أو مناع أهل الخير وهو الإسلام فذكر الممنوع منه دون الممنوع فكأنه قال مناع من الخير { معتد } مجاوز في الظلم حده { أثيم } كثير الإثم { عتل } غليظ في الخلقة جاف في الخليقة . الزنيم الدعي ومعنى { بعد ذلك } التبعيد في الرتبة أي مع الأوصاف المعدودة له هذا الوصف الذي هو أشنعها لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث جميع أخلاق الولد . عن ابن عباس في رواية أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسراً وله عشر بنين يقول لهم : من أسلم منكم منعته رفدي وفي رواية أخرى ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده ويقال : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية . وقوله { أن كان } بهمزة واحدة تقديره لأن كان أي لا تطع صاحب هذه المثالب لكثرة ماله وولده ومن قرأ بهمزتين فمعناه ألأن كان { ذا مال } كذب فمتعلق الجار مدلول . قوله { إذا تتلى عليه آياتنا قال } وذلك أن قال لا يصلح أن يعمل فيه لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله ولا قوله { يتلى } لأنه مضاف إليه . عن مجاهد أنه الأسود بن عبد يغوث وعن السدى : الأخنس بن شريق أصله في ثقيف وعداده في زهرة . وقيل : كان الوليد دعياً في قريش { سنسمه على الخرطوم } أي الأنف وفيه استخفاف به من جهة الوسم ومن جهة التعبير عن أنف الآدمي بالخرطوم الذي هو أنف الحيوانات المنكرة كالخنزير والفيل كما لو عبر عن شفاه الناس بالمشافر ، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر ، ثم الأنف أكرم موضع من الوجه ولهذا قيل : الجمال في الأنف وله التقدم ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا : في الذليل « جدع أنفه ورغم أنفه » والوسم في الأنف إهانة فوق إهانة .
ومتى هذا الوسم؟ منهم من قال في الدنيا فعن ابن عباس خطم يوم بدر بالسيف فبقيت سمته على خرطومه . وعن النضر بن شميل : الخرطوم الخمر أي سنسمه على شربها . وسمي الخمر خرطوماً كما قيل لها السلافة وهو ما سلف عن عصير العنب ، أو لأنها تطير في الخياشيم وتؤثر فيها . ومنها من قال في الآخرة نعلمه فعبر عن سواد الوجه كله بسواد الخرطوم . ومنهم من قال في الدارين أي سنشهره بهذه السمة وهي أنّه { حلاف } إلى { زنيم } فلا يخفى كما لا تخفى السمة على الخرطوم . ولا شك أن هذه الأوصاف الذميمة وتبعاتها بقيت في حق الوليد بن المغيرة في الدنيا والآخرة كالوسم على الأنف والوسم على الجبهة . ثم بين أنه إنما أعطى رؤساء مكة الآلاء ليواظبوا على شكر نعم الله وإلا صب عليهم بدل الآلاء البلاء ومكان السراء والضراء . وهذه صورة الابتلاء كما أنه كلف أصحاب الجنة ذات الثمار أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم ، يروى أن واحداً من ثقيف وكان مسلماً كان ملك ضيعة فيها نخل وزروع بقرب صنعاء ، وكان يجعل منها نصيباً وافراً للفقراء ، فلما مات ورثها منه بنوه ثم قالوا : عيالنا كثير والمال قليل فلو فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا { ليصر منها } أي ليقطعن ثمر نخيلها في وقت الصباح { ولا يستثنون } أي لا يقولون « إن شاء الله » وأصله من الثني وهو الرد كأن الحالف يرد انعقاد اليمين بالثنيا . ولعلهم إنما لم يقولوا إن شاء الله لوثوقهم بالتمكن من صرامها . هذا قول الأكثرين . وزعم الآخرون أن المراد يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملته ذلك القدر الذي كان يدفع أبوهم إليهم { فطاف عيلها } عذاب { طائف من } حكم { ربك } أو بعض من عذاب ربك ، والطائف لا يكون إلا ليلاً . قال الكلبي : أرسل الله عليها ناراً من السماء فاحترقت { وهم نائمون فأصبحت } الجنة { كالصريم } « فعيل » بمعنى « فاعل » أو معنى « مفعول » والأول قول من قال إنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم ، أو سمي الليل صريما لأنه يصرم نور البصر فيقطعه أو لأنه يقطع بظلمته عن التصرف ، وقيل : النهار يسمى أيضاً صريماً لأن كل واحد من الملوين ينصرم بالآخر فالصريم بمعنى الصارم . ووجه التشبيه أنها يبست وذهبت خضرتها أو لم يبق منها شيء من قولهم « صرم الإناء » إذا أفرغه . والثاني وهو الأولى قول من قال إنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمرة وإن كان أثر الاحتراق مغايراً لأثر الصوم .
وقال الحسن : أي صوم عنها الخير : وقيل : الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه للصرائم شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال وهي ما لا تنبت شيئاً ينتفع به . قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض { اغدوا على حرثكم } وعنوا بالحرث الزرع والثمار والأعناب ولذلك قالوا { صارمين } لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار وضمن الغدو معنى الإقبال فلهذا عدي بعلى أي أقبلوا على حرثكم باكرين ، أو عبر عن الغدو لأجل الصرم بالغدو عليه كما قال : غدا عليهم العدو { يتخافتون } يتسارون فيما بينهم والنهي عن الدخول للمسكين نهي لأصحاب الجنة عن تمكين المسكين منه كأنهم قالوا فيما بينهم لا تمكنوه من الدخول . قوله { وغدوا على حرد } هو المنع ومنه حاردت السنة إذا منعت خيرها ، وحاردت الإبل إذا منعت درها ، أي قادرين على منع المساكين لا غير يعني أنهم عزموا على حرمان المساكين مع كونهم قادرين على نفعهم . وغدوا بحال فقر وذهاب ثمر لا يقدرون فيها إلا على النكد والمنع . وفيه أنهم طلبوا حرمان الفقراء فعورضوا بنقيض مقصودهم فتعجلوا الحرمان والمسكنة . ويجوز أن تكون المحاردة للجنة أي غدوا حاصلين على منع الجنة خيرها لا على إصابة النفع منها . ويجوز أن لا يكون قوله { على حرد } صلة { قادرين } ولكن الكل يعود إلى قوله { أن اغدوا على حرثكم } أي عاقبهم الله بأن حاردت جنتهم فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرج وقوله { قادرين } يكون من باب عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين . وقيل : الحرد بالتسكين والتحريك وهو الأكثر بمعنى الغضب أي لم يقدروا إلا على غضب بعضهم على بعض كقوله { يتلاومون } وقيل : الحرد القصد والسرعة قطا حراد أي سراع يعني وغدوا على حالة سرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم على صرامها ومنع خيرها من المساكين . وقيل : حرد علم للجنة بعينها والمعنى كما تقدم لأن قوله { إنا لضالون } يحتمل أن يراد الضلال عن الطريق كأنهم لما رأوا جنتهم محترقة سبق إلى ذهنهم أنها ليست هي وأنهم ضلوا الطريق ، فلما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا { بل نحن محرومون } حرمنا خيرها لشؤم عزمنا على البخل ومنع المساكين . ويحتمل أن يراد الضلال عن الدين لأن منع حق الله نوع من الضلال . ومعنى بل أنهم اعتقدوا كونهم قادرين على الانتفاع به ومنع الغير منها فقالوا : بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين . { قال أوسطهم } أي أعدلهم وخيرهم كما مر في قوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] .
{ ألم أقل لكم لولا تسبحون } قال الأكثرون : معنى التسبيح ههان الاستثناء لأنه تعالى وبخهم بقوله { ولا يستثنون } والاستثناء نوع من التنزيه لأنه لو دخل في الوجود شيء على خلاف مشيئته كان نقصاً في كمال القدرة .
وعن الحسن : هو الصلاة كأنهم يتكاسلون فيها وإلا لنهتهم عن الفحشاء والمنكر . وقال آخرون : إن أوسطهم كان يقول لهم عند عزمهم على منع حقوق الفقراء : لولا تذكرون الله وتتوبون إليه من هذه العزيمة الخبيثة . لم يلتفتوا إلى قوله إلا بعد خراب الجنة قائلين { سبحان ربنا } عن أن يجري في ملكه شيء على خلاف مشيئته . قالت المعتزلة : سبحان الله عن الظلم وعن كل قبيح { إنا كنا ظالمين } بمنع المعروف وترك الاستثناء . ومعنى { يتلاومون } يلوم بعضهم بعضاً يقول واحد لغيره : أنت أشرت علينا بهذا الرأي ويقول الآخر : أنت خوفتنا بالفقر . ويقول الثالث : أنت الذي رغبتني في جمع المال . ثم قالوا جميعاً { يا ويلنا إنا كنا طاغين } اعترافاً بالذنب ثم قووا رجاءهم قائلين { عسى ربنا } الآية . سئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال : لقد كلفتني تعباً كأنه توقف في المسألة . وعن مجاهد : إن هذه كانت توبة منهم فأبدلوا خيراً منها . وعن ابن مسعود : بلغني أنهم أخلصوا وعرف الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقوداً . ثم هدد المكلفين بقوله { كذلك العذاب } أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من القحط والقتل وبلونا أصحاب الجنة عذاب الدنيا { ولعذاب الآخرة } أشد وأعظم . ثم مزج وعيد الأشقياء بوعد السعداء قائلاً { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } ليس فيها إلا النعيم الخالص لا يشوبه منغص كجنان الدنيا . قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن الله فضلنا عليكم في فنفى الله معتقدهم بقوله { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } قال القاضي : فيه دليل واضح على أن وصفي المسلم والمجرم متنافيان فلا يكون الفاسق مسلماً . وأجيب بأنه تعالى لم ينف المماثلة من كل الوجوه لتماثلهما في الجوهرية والجسمية وسائر الأوصاف التي لا تكاد تحصر ، فإذن المراد نفي التسوية في أثري الإسلام والإجرام ولا نزاع في ذلك فإن أثر أحدهما وعد وأثر الآخر وعيد أو يكون ثواب المسلم غير المجرم أكثرمن ثواب المسلم المجرم على أن المجرم في الآية يحتمل أن يراد به الكافر الذي ضرب مثل أصحابه الجنة فيه وفي أمثاله نظير الآية { أم نجعل المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] وقد مر في « ص » . ثم قال لهم على طريقة الالتفات { ما لكم كيف تحكمون } هذا الحكم المعوج وتخير الشيء واختاره إذا أخذ خيره { أم لكم أيمان علينا } يقال لفلان علي يمين بكذا إذا ضمنته منه وحلفت له على الوفاء به . ومعنى { بالغة } مؤكدة مغلظة وقوله { إلى يوم القيامة } يجوز أن يتعلق ببالغة أي هذه الإيمان في قوتها وكمالها بحيث تنتهي إلى يوم القيامة لم تبطل منها يمين على أن يحصل المقسوم عليه وهو قوله { إن لكم لما تحكمون } ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أو لكل من يستأهل الخطاب { سلهم أيهم بذلك } الحكم { زعيم } أي كفيل بالإستدلال على صحته { أم لهم } ناس { شركاء } في هذا القول .
والمراد من الآيات أنه ليس لهم دليل عقلي في إثبات مذهبهم ولا نقلي وهو كتاب يدرسون ولا عهد لهم به عند الله ولا زعيم لهم يقوم به ولا لهم من يوافقهم من العقلاء ، فدل ذلك على أنه باطل من كل الوجوه . قوله { يوم يكشف } قيل : منصوب بقوله { فليأتوا } أي إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة لتنفعهم وتشفع لهم . وقيل : بإضمار « اذكر » وقيل : التقدير يوم يكشف { عن ساق } كان كيت وكيت . احتجت المشبهة على أن لله ساقاً وأيدوه بما يروى عن ابن مسعود مرفوعاً أنه يتمثل الحق يوم القيامة ثم يقول : هل تعرفون ربكم؟ فيقولون : إذا عرفنا نفسه عرفناه فعند ذلك يكشف الرحمن عن ساقه ، فأما المؤمنون فيخرون سجداً ، وأما المنافقون فتكون ظهورهم كالطبق الواحد وذلك قوله { ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } حال كونهم { خاشعة أبصارهم } يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم لم يكونوا مواظبين على خدمة مولاهم في حال السلامة ووجود الأصلاب والمفاصل على هيآتها المؤدية للركوع والسجود .
وقال أهل السنة : الدليل الدال على أنه تعالى منزه عن الجسمية وعن كل صفات الحدوث وسمات الإمكان دل على أن الساق لم يرد بها الجارحة ، فأولوه أنه عبارة عن شدة الأمر وعظم الخطب ، وأصله في الروع والهزيمة وتشمير المخدرات عن سوقهن ومثله . « وقامت الحرب بنا على ساق » . ومعناه يوم يشتد الأمر ويتفاقم ولا كشف ثمة ولا ساق كما تقول للأقطع الشحيح « يده مغلولة » ولا يد ثمة ولا غل وإنما هو مثل في البخل ، وهكذا في الحديث ومعناه يشتد أمر الرحمن ويتفاقم هوله . قال في الكشاف : ثم كان من حق الساق أن تعرف على ما ذهب إليه المشبه لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن . وإنما جاءت منكرة في التمثيل للدلالة على أنه أمر فظيع هائل : قلت : الإنصاف أن هذا لا يرد على المشبه فإن له أن يقول إنما نكر الساق لأجل التعظيم أي ساق لا يكتنه كنة عظمتها كما يقول غيره . وقال أبو سعيد الضرير : ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان ، فمعنى الآية يوم تظهر حقائق الأشياء ، وأصولها . وقيل : يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب . وقال أبو مسلم : هذا في الدنيا لأنه تعالى قال في وصف ذلك اليوم { ويدعون إلى السجود } ولا ريب أن يوم القيامة ليس فيه تعبد وتكليف فهو زمان العجز ، أو آخر أيام دنياه فإنه في وقت النزع ترى الناس يدعون إلى الصلاة بالجماعة إذا حضرت أوقاتها وهؤلاء لا يستطيعون الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفساً إيمانها .
والتحقيق أن الذي ذكره محتمل إلا أن في تعليله ضعفاً فإنا نوافقه أن يوم القيامة ليس وقت تعبد وتكليف . ولكن لا مانع من الدعاء إلى السجود للتوبيخ والتفضيح على رؤس الأشهاد . وقال الجبائي : لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل على أنهم كانوا يستطيعون فيبطل هذا قول من قال لا قدرة له على الإيمان ، والجمع بين المتنافيين محال فالاستطاعة في الدنيا أيضاً غير حاصلة على قول الجبائي . والجواب الصحيح عندي أن عدم الاستطاعة في الدنيا لمانع آخر وهو أنه تعالى لم يرد منهم الإيمان وعلم منهم الكفر وقدر لهم ذلك ، وعدم الاستطاعة في الآخرة لمانع آخر له من السجود وهو لين المفاصل ومطاوعة الأعصاب وسلامة الفقر . ثم خوفهم بنوع آخر قائلاً { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم كأنه قال : حسبي مجازياً لمن يكذب بالقرآن فلا تشغل قلبك بشأنه . وقوله { سنستدرجهم } إلى قوله { مبين } قد مر في آخر « الأعراف » . وقوله { أم تسألهم } إلى { يكتبون } قد مر في « الطور » . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر ونهاه عن الضجر في أمر التبليغ كحال يونس عليه السلام وقد تقدم مراراً . قال بعض العلماء : معنى قوله { كصاحب الحوت } أنه كان في ذلك الوقت مكظوماً أي مملوءاً من الغيظ فكأنه قيل : لا تكن مكظوماً أولا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة . وقال جمع من المفسرين : أن الآية نزلت بأحد حين حل بالمؤمنين ما حل فأراد أن يدعو على من انهزم . وقيل : نزلت حين أراد أن يدعو على ثقيف والنعمة التي تداركت يونس أي التحقت به وسدت خلته هي النبوة أو عبادته السابقة ، أو قوله في بطن الحوت « لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين » ، وهذه النعمة التوبة بالحقيقة . وقد اعتمد في جواب لولا على الحال أعني قوله { وهو مذوم } والمعنى أن حاله كانت على خلاف الصبر حين نبذ بالعراء أي الفضاء كما مر في « الصافات » . لولا تسبيحه لكانت حاله على الذم . ويل : أراد لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة ، ثم نبذ بعراء القيامة أي بعرصتها مذموماً { فاجتباه ربّه } بقبول التوبة { فجعله من الصالحين } أي من الأنبياء عن ابن عباس : رد الله إليه الوحي وشفعه في نفسه وقومه . ثم أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم عن حسد قومه وحرصهم على إيقاع المكروه به بعد أن صبره وشجعه فقال { وإن يكاد } هي مخففة من الثقيلة واللام دليل عليها .
زلقه وأزلقه بمعنى . يقال زلق الرأس وأزلقه أي حلقه . قال جار الله : يعني أنهم من شدة تخوفهم ونظرهم إليك سراً بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك أو يهلكونك من قولهم « نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني » أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله . ثم بين بقوله { لما سمعوا الذكر } أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن حسداً على ما أوتي من النبوة . { ويقولون إنه لمجنون } حيرة في أمره وتنفيراً عنه مع علمهم بأنه أعقلهم . ثم قال تعالى { وما هو } أي القرآن { إلا ذكر } وموعظة { للعالمين } وفيه استجهال أن يجنبن من جاء بمثله من الآداب والحكم وأصول كل العلوم والمعارف . واعلم أن للعقلاء خلافاً في أن الإصابة بالعين هل لها في الجملة حقيقة أم لا؟ وبتقدير كونها حقيقة فهل الآية مفسر بها أم لا؟ أما المقام الأول فقد شرحناه في أول « البقرة » في قوله { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } [ الآية : 102 ] وفي يوسف في قوله { يا بني لا تدخلوا من باب واحد } [ الآية : 67 ] والذي نقوله ههنا : فمنهم من أنكر ذلك بناء على أن تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة وهو ضعيف لأن النفوس والأمزجة له تأثيرات خاصة . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال « العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر » وأما المقام الثاني فقد قال بعض المفسرين : كانت العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ويرتاض وثلاثة أيام فلا يمر به شيء فيقول فيه : لم أر كاليوم مثله إلا عانه . فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لم أر كاليوم رجلاً مثله . فعصمه الله تعالى . طعن الجبائي في هذا التأويل وقال : الإصابة بالعين مقرونة باستحسان الشيء ، والقوم كانوا يبغضون النبي صلى الله عليه وسلم وأجيب بأنهم كانوا يبغضونه من حيث الدين إلا أنهم كانوا يستحسنون مصاحبته بإيراده الأعاجيب من الحجج والبيان وأنواع المعجزات . وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية وبالله التوفيق .
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
القراآت : { وما أدراك } بالإمالة حيث كان : حمزة وخلف والخراز عن هبيرة ، وأبو عمرو والنجاري عن ورش ، وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { فهل ترى } كما في الملك { ومن قبله } بكسر القاف وفتح الباء : أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون : بفتح القاف وسكون الباء { وتعيها } بسكون العين تشبيهاً بخاء « فخذ » : القواس عن حمزة عن خلف وخلف لنفسه والهاشمي عن قنبل والخزاعي عن ابن فليح وأبو ربيعة عن أصحابه { فهي يومئذ } بالإدغام : شجاع أبو شعيب { لا يخفى } على التذكير : حمزة وعلي وخلف { كتابي } { وحسابي } بغير هاء السكت في الوصل : سهل ويعقوب { مالي } و { سلطاني } بدون الهاء في الوصل : حمزة وسهل ويعقوب { يؤمنون } و { يذكرون } على الغيبة : ابن كثير وسهل ويعقوب وابن عامر .
الوقوف : { الحاقة } ه لا لأن ما بعده خبرها { ما الحاقة } ه لا لاحتمال الواو بعده الحال والاسئناف { الحاقة } ه م { القارعة } ه { بالطاغية } ه ط { عاتية } ط { أيام } لا لأن { حسوماً } صفة الثمانية { صرعى } لا لأن ما بعده صفة { خاوية } ه ج للاستفهام مع الفاء { باقية } ط { بالخاطئة } ه { رابية } ه { الجارية } ه ج { واعية } ه { واحدة } ه لا { واحدة } ه ط { الواقعة } ه لا للعطف { واهية } ه لا لذلك { رجائها } ط لاختلاف النظم { ثمانية } ط { خافية } ه { كتابيه } ه ج { حسابيه } ه ج { راضية } ه لا { عالية } ه لا { دانية } ه { الخالية } ه { كتابيه } ه ج { حسابيه } ه ج { القاضية } ه ج { ماليه } ه كلها جائزات وتفصيلاً بين الندامات مع اتحاد المقولات { سلطانية } ه { فغلوه } ط للعطف { صلوه } ه لا لذلك { فاسلكوه } ه ط { العظيم } ه لا { المسكين } ه ط { حميم } ه لا { غسلين } ه لا { الخاطئون } ه { تبصرون } ه لا { وما لا تبصرون } ه لا { كريم } ه لا { شاعر } ط { تؤمنون } ه { كاهن } ط { تذكرون } ه أي هو تنزيل { العالمين } ه { باليمين } ه لا { الوتين } ه والوصل أجوز لدخول الفاء واتحاد الكلام { حاجزين } ه { للمتقين } ه { مكذبين } ه لا { الكافرين } ه { اليقين } ه { العظيم } ه .
التفسير : { الحاقة } وهي القيامة بالاتفاق إلا أنهم اختلفوا في سبب التسمية فقال أبو مسلم : هي الفاعلة من حقت كلمة ربك أي الساعة واجبة الوقوع لا ريب في مجيئها ، وقريب منه قول الليث أنها النازلة التي حقت فلا كاذبة لها . وقيل : إنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته ، جعل الفعل لها وهو لأهلها ، وقيل : هي التي يوجد فيها حواق الأمور وهي الواجبة الحصول من الثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة . وهذا الوجه والذي تقدمه يشتركان في الإسناد المجازي إلا أن الفاعل في الأول بمعنى المفعول والثاني على أصله ، وقريب منه قول الزجاج أنها تحق أي يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين ويخرج عن حد الانتظار .
قال الأزهري : سميت بذلك أنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه . وأورد في التفسير الكبير وجوهاً أخر إلى تمام العشرة فهي في التحقيق مكررة فلذلك حذفناها . قوله { ما الحاقة } مبتدأ وخبره والمجموع خبر الحاقة . والأصل ما هي يعني وأي شيء هي؟ وفي هذا الاستفهام تعظيم وتفخيم لشأنها ، وفي وضع الظاهر موضع المضمر تهويل فوق تهويل وفي قوله { وما أدراك ما الحاقة } مبالغة أخرى والمعنى أي شيء أعلمك ما الحاقة؟ وفيه أن مدى عظمها بحيث لا يبلغه وصف واصف ولا نعت مخبر . قال جار الله : ما يعني في ما الحاقة الثانية في موضع الرفع على الابتداء . { وأدراك } معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام . قلت : ولولا ذلك لنصب الجزأين على أنهما مفعول ثان وثالث كقولك « أعلمتك زيداً فاضلاً » . وحين ذكر الحاقة على أبلغ وجوه التعظيم أتبعها ذكر من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب تخويفاً لأهل مكة فقال { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } والأصل بها أي بالحاقة إلا أنه وضع القارعة موضع الضمير ليدل بذلك على معنى الروع في الحاقة زيادة في وصف شدتها . ولا ريب أنها تفزع الناس بالأفزاع والأهوال ، والسماء بالانشقاق ، والأرض بالدك ، والنجوم بالطمس إلى غير ذلك . وكانت عادة القرآن جارية بتقديم قصة عاد على ثمود إلا أنه قلب ههنا لأن قصة ثمود بنيت على غاية الاختصار ومن عادتهم تقديم ما هو أخصر . قوله { بالطاغية } أي بالواقعة المجاوزة للحد وهي الرجفة أو الصاعقة أو الصحية ، وقيل : الطاغية مصدر أي بسبب طغيانهم . واعترض بأنه لا يطابق قصة عاد فأهلكوا بريح . ويمكن أن يجاب بأن السبب الفاعلي والسبب الآلي كلاهما يشتركان في مطلق السببية ، وهذا القدر من المناسبة كافٍ في الطباق وعلى هذا القول يحتمل أن تكون الطاغية صفة موصوف أي بشؤم الفرقة الطاغية التي تواطأت على عقر الناقة . ويجوز أن يراد بها عاقر الناقة وحده والتاء للمبالغة . الصرصر الشديد الصوت أو الكثير سميت عاتية بشدة عصوفها . قال جار الله : العتو استعارة قلت : لأنه مستعمل في مجاوزة الإنسان حد الطاعة والانقياد . قال عطاء عن ابن عباس : يريد أن الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببيت واستناد إلى جبل ، فإنها كانت تزعجهم من مكانهم . قال الكلبي : عتت على خزانها كما جاء في الحديث « ما أرسل الله من ريح إلا بمكيال ولا قطرة من مطر إلا بمكيال إلا يوم نوح ويوم عاد ، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان والريح يوم عاد عتت على الخزان فلم يكن لهم عليها سبيل »
وقيل : العاتية من عتا النبت أي بلغ منتهاه وجف قال تعالى { وقد بلغت من الكبر عتياً } [ مريم : 8 ] أي ريح بالغة منتهاها في الشدة والقوة { سخرها } أي سلطها بدليل { عليهم } وقال الزجاج : أقامها وقيل : أرسلها . قوله { حسوماً } جمع حاسم كشهود جمع شاهد . والتركيب يدور على القطع والاستئصال ومنه الحسام لأنه يحسم العدو عما يريد من بلوغ أمله ، وذلك أن تلك الريح حسمت كل خير واستأصلت كل بركة . وقيل : إنها تتابعت من غير فتور ولا انقطاع حتى أتت عليهم ، فمثل تتابعها بتتابع فعل الحاسم في إعادة الكي على الداء مرة بعد أخرى إلى أن ينحسم . ويجوز أن يكون { حسوماً } مصدراً كالدخول والخروج وعلى هذا انتصب بفعل مضمر أي يستأصل استئصالاً ، أو يكون وصفاً بالمصدر أي ذات حسوم ، أو مفعولاً له ، وقيل : هي أيام العجوز وذلك أن عجوزاً من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها . والصحيح أنها أيام العجز وهي آخر الشتاء وأساميها . الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر . وقيل : ومكفىء الظعن . والضمير في { فيها } للجهات أو الليالي والأيام الخاوية الساقطة . وقيل : الخاوية لأن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم ، وعلى هذا يحتمل أن تكون الخاوية بمعنى البالية لأن النخل إذا بليت خلت أجوافها والباقية مصدر . وقيل : من نفس باقية : قال ابن جريج : كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عذاب الله ، فلما كان اليوم الثامن ماتوا فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر فذلك قوله { فهل ترى لهم من باقية } وقوله { فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم } [ الأحقاف : 25 ] ومن قرأ { ومن قبله } بالفتح والسكون فظاهر أي ومن تقدمه من رؤساء الكفر والضلال كنمرود ونحوه . ومن قرأ بالسكر والفتح أراد ومن عنده من أتباعه وجنوده . والخاطئة مصدر أي بالخطأ أو صفة أي بالفعلة أو الأفعال ذوات الخطأ العظيم { رابية } من ربا الشيء يربو إذا زاد أي زائدة في الشدة كما كانت فعلاتهم زائدة في القبح . وقيل : معنى الزيادة اتصال عذابهم في الدنيا بعذاب الآخرة . { أغرقوا فأدخلوا ناراً } . ولاريب أن عذاب الآخرة أشد وكان عقابهم ينمو ويزيد إلى حد ليس فوقه عذاب . قال الوحدي : الوجه في قوله { رسول ربهم } أن يكون رسول الأمم الماضية كلهم أعني موسى ولوطاً وغيرهما من رسل من تقدم فرعون كقوله { أنا رسول رب العالمين } [ الشعراء : 16 ] ولو جعل عبارة عن موسى عليه السلام لزم التخصيص من غير مخصص . ثم ذكر قصة بعض من تقدم فرعون فقال { إنا لما طغى الماء } وطغيان الماء كعتو الريح وقد سبق في عدة سور . ومعنى { حملناكم } حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم { في الجارية } في السفينة وهي سفينة نوح { لنجعلها } قال الفراء : أي الجارية لأنها المذكور .
والأظهر عودة إلى الواقعة والحالة وهي نجاة المؤمنين وإغراق الكافرين فإنها هي التذكرة والعبرة ولقوله { وتعيها أذن واعية } من شأنها حفظ كل ما تسمع لتعمل به . قال أهل اللغة : كل ما حفظته في نفسك فقد وعيته وما تعيه في غير نفسك فقد أوعيته . يقال : أوعيت المتاع في البيت .
والشر أخبث ما أوعيت من زاد ... قال جار الله : إنما قيل { أذن واعية } على التوحيد والتنكير للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة ، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، للدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت فهي عند الله بمكان وما سواها لا يلتفت إليه وإن ملأ العالم . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه عند نزول هذه الآية : سألت الله يجعلها أذنك يا علي . قال علي رضي الله عنه : فما نسيت شيئاً بعد ذلك وما كان لي أن أنسى . وحين فرغ من بيان القدرة والحكمة عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث الحاقة ، والنفخة الواحدة عن ابن عباس أنها الأولى التي عندها خراب العالم ، وفي رواية عنه أنها الثانية لقوله بعد ذلك { يومئذ تعرضون } والعرض عند الثانية . ولناصر الرواية الأولى أن يقول : اليوم اسم للحين الواسع الذي يقع فيه النفخات والصعقة والنشور والوقوف والحساب كما تقول « جئته عام كذا » وإنما جئت في وقت واحد من أوقاتها . قوله { واحدة } صفة مؤكدة قوله { وحملت } أي رفعت من جهاتها بريح شديدة أو بملك أو بقدرة الله من غير واسطة . والضمير في { دكتا } لجماعتي الأرض والجبال والمراد أن هاتين الجملتين يضرب بعضها ببعض حتى يندك ويرجع كثيباً مهيلاً منثوراً . والدك أبلغ من الدق . وقيل : فبسطتا بسطة واحدة فصارتا قاعاً صفصفاً من قولك « اندك السنام » إذا انقرش « وبعير أدك » « وناقة دكاء » قوله { فيومئذ } جواب { فإذا نفخ } والواقعة النازلة وهي القيامة { واهية } مسترخية بعد أن كانت مستمسكة { والملك } جنس ولهذا كان أعم من الملائكة لشموله الواحد والاثنين دونها . والأرجاء الجوانب جمع رجا مقصوراً . والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء .
سؤال : الملائكة يموتون في الصعقة الأولى فكيف يقفون على أرجاء السماء؟ الجواب أنهم يقفون لحظة ثم يموتون أو هم المستثنون بقوله إلا ما شاء الله ، والضمير في { فوقهم } عائد إلى الملك على المعنى لأن التقدير الخلق الذي يقال له الملك ، والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش ، وقال مقاتل : الضمير للحملة أي فوق رؤسهم والإضمار قبل الذكر جائز لأنه بعده حكماً كقوله « في بيته يؤتى الحكم » وعن الحسن : لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف . وعن الضحاك : ثمانية صفوف ولا يعلم عددهم إلا الله .
قال المفسرون : الحمل على الأشخاص أولى لأن هذا أقل ما يصدق اللفظ عليه والزائد لا دليل له ، وكيف لا والمقام مقام تهويل وتعظيم؟ فلو كان المراد ثمانية آلاف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل ويؤيده ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة أخرى » وروي « ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤسهم وهم مطرقون يسبحون » وقيل : بعضهم على صورة الإنسان ، وبعضهم على صورة الأسد ، وبعضهم على صورة الثور ، وبعضهم على صورة النسر ، وروي « ثمانية أملاك في خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاماً » وعن شهر بن حوشب : أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك . وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك . ولولا هذه الروايات لجاز أن يكون الثمانية من الروح أو من خلق آخر . قالت المشبهة : لو لم يكن الله على العرش لم يكن لحمله فائدة وأكدوا شبهتهم بقوله { يومئذ تعرضون } للمحاسبة والمساءلة فلو لم يكن الإله حاضراً لم يكن للعرض معنى . وأجيب بأن الدليل على أن حمل الإله محال ثابت فلا بد من التأويل وهو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه فخلق نفسه بيتاً يزورونه ليس ليسكن فيه ، وجعل في ذلك البيت حجراً هو يمينه في الأرض إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم ، وجعل على العباد حفظة لا لأن النسيان يجوز عليه بل لأنه المتعارف . فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله أن يجلس لهم على سرير ويقف الأعوان حواليه صور الله تعالى تلك الصورة المهيبة لا لأنّه يقعد على السرير . روي أن في القيامة ثلاث عرضات . فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ ، وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب . قوله { لا تخفى منكم خافية } أي تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلاً وقيل : أراد لا يخفى منكم يوم القيامة ما كان مخفياً في الدنيا على غير الله وذلك ليتكامل سرور المؤمنين ويعظم توبيخ المذنبين . ثم أخذ في تفصيل عرض الكتب . « وهاء » صوت بصوت به فيفهم منه « خذ » وله لغات واستعمالات مذكورة في اللغة منها ما ورد به الكتاب الكريم وهو « هاء » مثل باع للواحد المذكور « وهاؤما » بضم الهمزة وإلحاق الميم بعدها ألف للتثنية { هاؤم } بضم الهمة بعده ميم ساكنة لجمع المذكر . « هاء » بالكسر للمؤنثة « هاؤن » لجمعها { كتابيه } مفعول { هاؤم } عند الكوفيين و { اقرؤا } عند البصريين لأنه أقرب أصله هاؤم كتابي اقرأوا كتابي فحذف لدلالة الثاني عليه . قال البصريون : ولو كان العامل الأول لقيل اقرأه إذ المختار إضمار المفعول ليكون دليلاً على المحذوف .
وأجاب الكوفيون بأن الظاهر قد أغنى عن الضمير كما في قوله { والذاكرين الله كثيراً والذاكرات } [ الأحزاب : 35 ] والهاء في { كتابيه } وغيره هاء السكت ومن ههنا تثبت في الوقف وتسقط في الوصل لكنه استحب التلفظ بها في الوصل عند جماعة اتباعاً لوجودها في المصحف ، وإنما قال { من أوتي كتابه } { هاؤم اقرؤا كتابيه } ابتهاجاً وفرحاً . وقيل : يقول ذلك لأهل بيته وقرابته .
وفي قوله { إني ظننت } وجوه كما مر في قوله { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [ البقرة : 46 ] ومما يختص بالمقام قول بعضهم أنه أراد الن في الدنيا لأن أهل الدنيا لا يوقنون بنيل الدرجات ، وفي هذا الوجه نظر لأنهم كانوا غير قاطعين بالجنة إلا أنهم يجب أن يقطعوا بالحساب الجزاء . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى بكتابه فتكتب حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له : اقلب كفك فيرى حسناته فيفرح ثم يقول { هاؤم اقرؤا كتابيه إني ظننت } » عند النظر الأولى { أني ملاق حسابيه } على سبيل الشدة ، وأما الآن فقد فرج الله عني ذلك الغم ، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا . ثم بين عاقبة أمره قائلاً { فهو في عيشة } فعلة من العيش للنوع { راضية } منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل للمنسوب إلى الدرع والنبل ، وهذا من النسبة بالصيغة كما أن قولك « بصري » أو « هاشمي » من النسبة بالحروف ، ويجوز أن يكون من الإسناد المجازي كقولك « نهاره صائم » جعل الصوم للنهار وهو لصاحبه كذلك ههنا جعل الرضا للعيشة وهو لصاحبها { في جنة عالية } درجاتها لأنها فوق السموات على تفاوت الطبقات أو في جنة رفعية المباني والقصور والأشجار { قطوفها دانية } ثمارها قريبة التناول . والقطوف جمع قطف بالكسر وهو المقطوف كالطحن بمعنى المطحون . يروى أن ثمارها يقرب تناولها للقائم والجالس والمضطجع وإن أحب أن تدنو دنت { كلوا } على إرادة القول و { هنيئاً } مصدر أو صفة كما مر في « الطور » جمع الخطاب في { كلوا } مع أنه وحد الضمير في قوله { أوتي } وغيره حملاً على لفظ من ثم على معناه . والغرض من هذا الأمر التوقير والعرض لا التكليف . ومن قال بالإباحة ليس بتكليف فلا إشكال . وقوله { بما أسلفتم } كقوله في « الطور » { بما كنتم تعملون } [ الآية : 19 ] والإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالافتراض ومنه يقال « أسلف في كذا » إذا قدم فيه ماله . والمعنى بسبب ما عملتم من الأعمال الصالحة في أيام الدنيا الماضية . وعن مجاهد والكلبي : هي أيام الصيام فيكون الأكل والشرب في الجنة بدل الإمساك عنهما في الدنيا . ثم أخذ في قصة الأشقياء .
وإنما تمنى أنه لم يدر أي شيء حسابه لأنه عليه لا يعود منه إليه سوى الضر . والضمير في { يا ليتها } عائد إلى الموتة الأولى يدل عليها سياق الكلام . ولعل في قوله { ولم أدر } إشارة إليها لأنها حالة العدم المستلزمة لعدم الإدراك أي الموتة التي متها يا ليتها { كانت القاضية } لأمري أو للحياة فلم أبعث بعدها . وقيل : هاء الضمير للحال أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليّ . قال القفال : تمنى الموت حين رأى من الخجل وسوى المنقلب ما هو أشد وأشنع من الموت . قوله { ما أغني } نفي . ويجوز أن يكون استفهاماً على سبيل الإنكار ومعناه أي شيء أغنى { عني } ما كان لي من اليسار فإنه لم يبق منه إلا الوبال { هلك عني } تسلطي على الناس وزال عني ما كنت أتصوره حجة وبرهاناً . قال ابن عباس : ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا . وقال مقاتل : إنما يقول هذا حين شهدت عليه الجوارح بالشرك . يحكى عن عضد الدولة أنه قال قصيدة مطلعها هذا البيت :
ليس شرب الكاس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها
ملك الأملاك غلاب القدر ... يروى بضم القاف جمع القدرة وبفتحها وهو ما قدر الله على عباده وقضى . ولا ريب أن المصراع الأخير فيه سوء الأدب والجراءة على الله من وجهين : أحدهما أنه سمى نفسه ملك الأملاك ولا يصلح هذا الاسم إلا لله سبحانه ولهذا جاء في الحديث « أفظع الأسماء عند الله رجل تسمى ملك الأملاك » ويقال لها بالفارسية شاهنشاه والثاني أنه زعم الغلبة على القدر وهذا أيضاً من أوصاف الله جل وعلا لا يصلح لغيره . وإن زعم أنه قال ذلك بالنسبة إلى ملوك دونه فذلك قيد لا يدل عليه الإطلاق فسوء الأدب باقٍ فمن ههنا روي أن الله تعالى ابتلاه عقيب ذلك بالجهل وفساد الذهن وخور القوى ، وكان لا ينطلق لسانه إلا بتلاوة { ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه } { خذوه } على إرادة القول أي يقال لهم خذوه أيها الخزنة يروى أنهم مائة ألف ملك تجمع يده إلى عنقه . والتصلية في الجحيم وفي النار العظمى ، إشارة إلى أنه كان سلطاناً يتعظم على الناس . والسلسلة حق منتظمة كل حلقة منها في حلقة . وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل . والذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد .
وقوله { سبعون ذراعاً } يجوز أن يكون محمولاً على الظاهر وأن يراد المبالغة على عادة العرب . وتقديم الجحيم على التصلية والسلسلة على السلك للحصر أي لا تصلوه إلا في الجحيم ولا تسلكوه إلا في هذه السلسلة الطويلة لأنها إذا طالت كانت الكلفة أشد .
قالوا : كل ذراع سبعون باعاً أبعد مما بين مكة والكوفة . قال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هو قال ابن عباس : تدخل السلسة في دبره وتخرج من حلقه ثم يجمع بين ناصيته وقدميه قال الكلبي : كما يسلك الخيط في اللؤلؤ يجعل في عنقه سلوكها . عن بعضهم أن جمعاً من الكفار يقرن في هذه السلسلة الطويلة ليكون العذاب عليهم أشد وإنما لم يقل فاسلكوا السلسلة فيه لأنه أراد أن السلسلة تكون ملتفة على جسده بحيث لا يقدر على حركة . وقيل : هو كقولهم « أدخلت القلنسوة في رأسي » او « الخاتم في أصبعي » . ومعنى « ثم » التراخي في الرتبة . ثم ذكر سبب هذا الوعيد الشديد وهو عدم الإيمان بالله العظيم وعدم بذل المال للمساكين ولعل الأول إشارة إلى فساد القوة النظرية ، والثاني إلى فساد القوة العملية . قال جار الله : وعطف حرمان المساكين على الكفر تغليظ ، وفي ذكر الحض دون الفعل تغليظ دون تغليظ ليعلم أن ترك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل؟ وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ، وكان يقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلا نخلع نصفها الآخر إلا بالإطعام . والطعام اسم بمعنى الإطعام كالعطاء اسم بمعنى الإعطاء . وفي الآية دلالة على أن الكفار مخطابون بالفروع . والحميم القريب النافع وقوله { ههنا } إشارة إلى مكان عذابهم أو إلى مقام الوصول إلى هذا الحد من العذاب . يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين فقال : لا أدري . وقال الكلبي : هو ما يسال من أهل النار . فغسلين من الغسالة والطعام ما يهيأ للأكل . ويجوز أن يكون إطلاق الطعام عليه من باب التهكم أو مثل عقابك السيف . قال ابن عباس : الخاطئون في الآية هم المشركون . ثم عظم شأن القرآن بالإقسام بكل الأشياء لأنها إما مصبر أو غير مبصر . وقيل : الدنيا والآخرة والأجسام والأرواح والإنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة . والأكثرون على أن الرسول الكريم ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر ولا كاهن ، والقوم ما كانوا يصفون جبرائيل بالعشر والكهانة وإنما يصفون محمداً صلى الله عليه وسلم وأما في سورة التكوير فالأكثرون على أنه جبرائيل عليه السلام لأن الأوصاف التي بعده تناسبه كما يجيء . وفي ذكر الرسول إشارة إلى أن هذا القرآن ليس قوله من تلقاء نفسه وإنما هو قول المؤدي عن الله بطريق الرسالة ، وهكذا لو كان المراد جبرائيل . وفي وصفه بالكرم إشارة إلى أمانته وأنه ليس ممن يغير الرسالة طمعاً في أغراض الدنيا الخسيسة . وأيضاً من كرمه أنه أتى بأفضل أنواع المزايا والعطايا وهو المعرفة والإرشاد والهداية . وإنما قال عند نفي الشعر عنه { قليلاً ما تؤمنون } وعند نفي الكهانة { قليلاً ما تذكرون } لأن انتفاء الشعرية عن القرآن أمر كالبين المحسوس .
أما من حيث اللفظ فظاهر لأن الشعر كلام موزون مقفى وألفاظ القرآن ليست كذلك إلا ما هو في غاية الندرة بطريق الاتفاق من غير تعمد ، وأما من جهة التخيل فلأن القرآن فيه أصول كل المعارف والحقائق البراهين والدلائل المفيدة للتصديق إذا كان المكلف ممن يصدق ولا يعاند . وانتفاء الكهانة عنه أمر يفتقر إلى أدنى تأمل يوقف . على أن كلام الكهان أسجاع لا معاني تحتها وأوضاع تنبو الطباع عنها . وأيضاً في القرآن سب الشياطين وذم سيرتهم والكهان إخوان الشياطين فكيف رضوا بإظهار قبائحهم . ثم صرح بالمقصود فقال { تنزيل من رب العالمين } أي هو تنزيل ثم بين أن المفتري لا يفلح وإن فرض أنه نبي فقال { ولو تقول } وهو تكلف القول من غير أن يكون له حقيقة و { الأقاويل } جمع أقوال . وقال جار الله : في اللفظ تصغير وتحقير كالأعاجيب والأضاحيك كأنه جمع « أفعولة » من القول . ومعنى الآية لو نسب إلينا قولاً لم نقله لقتلناه أشنع قتل وهو أن يؤخذ بيمينه وتضرب رقبته وهو ينظر إلى السيف ، وهذه فائدة تخصيص اليمين لأن القتال إذا أخذ بيسار المقتول وقع الضرب في قفاه . ومعنى { لأخذنا منه باليمين } لأخذنا بيمينه ، وكذا قوله { لقطعنا منه الوتين } لقطعنا وتينه وهذا تفسير منقول عن الحسن البصري . والوتين العرق المتصل من القلب بالرأس فإذا انقطع مات الحيوان : قال ابن قتيبة : لم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه كما يفعل الملوك فكان كمن أخذ بيمينه فقطع وتينه ونظيره « ما زالت أكلة خبير تعاودني ، فهذا أوان اقطع أبهري » . والأبهر عرق متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : هذا أوان يقتلني السم . وعن الفراء والمبرد والزجاج أن اليمين القوة وقوة كل شيء في ميامنه والباء زائدة ومعنى الأخذ السلب أي سلبنا عنه القدرة على التكلم بذلك القول وهذا كالواجب في حكمة الله تعالى كيلا يشتبه الصادق بالكاذب وقال مقاتل : اليمين الحق كقوله { إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } [ الصافات : 28 ] أي من قبل الحق . والمعنى منعناه بواسطة إقامة الحجة وقضينا له من يعارضه فيه فيظهر للناس كذبه { فما منكم من أحد عنه } أي عن الرسول أو عن القتل ، والخطاب للناس وأحد في معنى الجمع لأنه في سياق النفي فلذلك قال { حاجزين } أي مانعين . وحين بين أن القرآن تنزيل من عند الله بواسطة جبرائيل على محمد الذي صفته أنه ليس بشاعر ولا كذاب ، بين أن القرآن ما هو وإلى أي صنف يعود نفعه فقال { وإنه لتذكرة للمتقين } ثم أوعد على التكذيب . قائلاً { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } ثم بين أن تكذيب القرآن سبب حسرة الكافرين في القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين ، لأن القرآن حق اليقين أي حق يقين لا ريب فيه ، فأضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد كقوله « هو حق العالم » . ثم أمر بالتسبيح شكراً له على الإيحاء إليه ، أو على أن عصمه من الافتراء عليه .
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
القراآت : { سأل } بغير همز مثل باع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة على التذكير : علي { ولا يسأل } بضم الياء : البزي من طريق الهاشمي والبرجمي { يومئذ } بالفتح على البناء : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعباس وعلي والشموني والبرجمي { توويه } بغير همز : يزيد والأعشى وحمزة في الوقف { نزاعة } بالنصب : حفص والمفضل { يخرجون } من الإخراج : الأعشى وحمزة في الوقف { إلى نصب } بضمتين : ابن عامر وسهل وحفص { نصب } بالضم فالسكون : المفضل الباقون : بالفتح والسكون .
الوقوف : { واقع } ه لا { دافع } ه لا { المعارج } ه لا { سنة } ج { جميلاً } ه { بعيداً } ه لا { قريباً } ه ط { كالمهل } ه لا { كالعهن } ه لا { حميماً } ه ج لأن ما بعده منقطع عنه مستأنف ولكن أصلحوا الوقف على { يبصرونهم } { ببنيه } ه لا { وأخيه } ه { تؤويه } ه لا { جميعاً } ه لا للعطف { ينجيه } ه لا { كلا } ط { لظى } ه ج لأن من قرأ { نزاعة } بالرفع جاز أن يكون بدلاً أو خبر { لظى } والضمير في { أنها } للقصة أو خبر مبتدأ محذوف . ومن نصب فعلى الحال المؤكدة أو على الإختصاص . { للشوى } ه ص لأن { يدعو } يصلح مستأنفاً وبدلاً من { نزاعة } { وتولى } ه لا { فأوعى } ه { هلوعاً } ه لا { جزوعاً } ه لا { منوعاً } ه لا { المصلين } ه لا { دائمون } ه لا { معلوم } ه لا { والمحروم } ه ص { الدين } ه { مشفقون } ه ج { مأمون } ه { حافظون } ه لا { ملومين } ه ج { العادون } ه ج { راعون } ه لا { قائمون } ه ك { يحافظون } ه لا { مكرمون } ه ط لانقطاع المعنى { مهطعين } ه لا { عزين } ه { نعيم } ه { كلا } ط { يعلمون } ه { لقادرون } ه ج { منهم } ج بناء على أن الواو للحال { بمسبوقين } ه { يوعدون } ه لأن ما بعد بء دل { يوقضون } ه ج لأن ما بعد حال من الضمير { ذلة } ط { يوعدون } ه .
التفسير : من قرأ { سأل } بالهمزة ففيه وجهان : الأول عن ابن عباس أن النضر بن الحرث قال { اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة } [ الأنفال : 32 ] الآية فأنزل الله تعالى { سأل سائل } أي دعا داع ولهذا عدي بالباء . يقال : دعاه بكذا إذا استدعاه وطلبه . وقال ابن الأنباري : الباء للتأكيد والتقدير : سأل سائل عذاباً لا دافع له البتة . إما في الآخرة وإما في الدنيا كيوم بدر . الثاني قال الحسن وقتادة : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم استعجل بعذاب الكافرين ، أو سأل عن عذاب . والباء بمعنى « عن » . قال ابن الأنباري : أو عنى واهتم بعذاب أنه على من ينزل وبمن يقع ، فبين الله تعالى أن هذا واقع بهم فلا دافع له .
والذي يدل على صحة هذا الوجه قوله في آخر الآية { فاصبر صبراً جميلاً } ومن قرأ بغير همز فله وجهان أيضاً : الأول أنه مخفف « سأل » وهي لغة قريش والمعاني كما مرت ، والآخر أن يكون من السيلان ويعضده قراءة ابن عباس « سال سيل » وهو مصدر في معنى سائل كالفوز بمعنى الفائز . والمعنى اندفع وأدى عذاب فذهب بهم وأهلكهم أما { سائل } فلا يجوز فيه إلا الهمز وفاقاً لأنه إن كان من سأل المهموز فظاهر ، وإن كان من غير المهموز انقلبت الياء همزة كما في بائع . وقوله { للكافرين } صفة أخرى للعذاب أي بعذاب واقع ، لا محالة كائن للكافرين ، أو متعلق بواقع أي نازل لأجلهم ، أو كلام مستأنف جواب للسائل الذي سأل : إن العذاب على من ينزل أي هو للكافرين . والظاهر أن قوله { من الله } يتعلق { بدافع } أي لا دافع له من جهة الله لأنه قضاء مبرم . وجوز أن يتصل بواقع أي نازل من عند { ذي المعارج } المصاعد . روى الكلبي عن ابن عباس أنها السموات لأن الملائكة يعرجون فيها . وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم بحسب الأرواح ومراتب الاستحقاق والاستعداد . وقيل : هي الجنة لأنها درجات . وقال في التفسير الكبير . وهي مراتب أرواح الملكية المختلفة بالشدة والضعف وبسببها يصل آثار فيض الله إلى العالم السفلي عادة ، أو غير عادة فتلك الأرواح كالمصاعد لمراتب الحاجات التي ترفع إليها ، كالمنازل لآثار الرحمة من ذلك العالم إلينا . قوله { تعرج الملائكة والروح } وفي مواضع أخرى يوم يقوم الروح والملائكة . قيل : إن الروح أعظم الملائكة قدراً وهو أول في درجة نزول الأنوار من جلال الله ، ومنه تتشعب إلى أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح . وبين الطرفين معارج مراتب أرواح الملائكة ومدارج منازل الأنوار القدسية ولا يعلم تفصيلها إلا الله . وأما المتكلمون فالجمهور منهم قالوا : إن الروح هو جبريل عليه السلام . ولا استدلال لأهل التشبيه في لفظ { المعارج } فإنا بينا أنها المراتب . قووله { إليه } إلى عرشه أو حكمه أو إلى حيث تهبط أوامره أو إلى مواضع العز والكرامة . والأكثرون على أن قوله { في يوم } من صلة { تعرج } . أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم وهو يوم القيامة . قال الحسن : يعني من موقفهم للحساب إلى حين يقضي بين العباد خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، ثم بعد ذلك يستقر أهل الجنة في الجنة إلى آخر الآية . والأصح أن هذا الطول إنما يكون للكافر لما « روي عن أبي سعيد الخدري أنه قيل لرسوله صلى الله عليه وسلم : ما أطول هذا اليوم؟ فقال : والذي نفسي بيه إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة في الدنيا » ومنهم من قال : إن ذلك الموقف وإن طال فقد يكون سبباً لمزيد السرور والراحة للمؤمن .