كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } من أهل العلوم الظاهرة تعلموا العلم ليباهوا به العلماء أو ليماروا به السفهاء فحصل له صفات ذميمة أخرى مثل المباهاة والمماراة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وغلبة الأقران والأنداد { بل الله يزكي من يشاء } بتسليم نفوسهم إلى ارباب التزكية من العلماء الراسخين والمشايخ المحققين كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديماً ، فإذا سلموا أنفسهم إليهم وصبروا على تصرفاتهم رأوا أثر الزكاة فيهم ولن يضيع سعيهم { يؤمنون بالجبت } بجبت النفس الأمّارة وطاغوت الهوى { ويقولون للذين كفروا } من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا } بكل ما أمر الله به ورسوله . ثم وصفهم بالبخل والحسد ثم قال : { فقد آتينا آل إبراهيم } يعني أهل الخلة والمحبة { الكتاب والحكمة } العلم الظاهر والعلم الباطن { وآتيناهم ملكاً عظيماً } هو معرفة الله تعالى { فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه } لأن من العلماء مقبلين ومنهم مدبرين { كفى بجهنم } نفسهم الحاسدة { سعيراً } تحرق حسناتهم فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب . { إن الذين كفروا بآياتنا } بأوليائنا الذين هم مظاهر آيات الحق وحجج الله على الخلق { سوف نصليهم } نار الحسد والغضب والكبر والعجب { كلما نضجت جلودهم } أي انقطعت بعض أماني نفوسهم الأمّارة ومقتضيات هواها . ولا يخفى حسن استعارة الجلود لآثار الشيء من حيث الظهور والاشتمال { بدّلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } فإن دواعي الحرص والغضب والشهوة لا تتناهى ألبتة ما دامت النفس على صفة الأمرية ، فلن تزال أسيرة في يد الشهوات ذائقة لعذاب التغلقات { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم } أي نجذبهم بجذبات العناية إلى { جنات } من الوصلة { تجري من تحتها الأنهار } من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشوف { لهم فيها أزواج } من تجلي صفات الجمال والجلال { مطهرة } من لوث الوهم والخيال { وندخلهم ظلاً ظليلاً } هو ظل شمس عالم الوجود يوم لا ظل إلاّ ظله .
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
القراآت : { أن اقتلوا } بكسر النون لالتقاء الساكنين : أبو عمرو وعاصم وحمزة وسهل ويعقوب . الباقون : بالضم نقلاً لحركة همزة الوصل إلى ما قبلها { أو اخرجوا } بكسر الواو للساكنين : عاصم وسهل وحمزة . الباقون : بالضم { إلاّ قليلاً } بالنصب : ابن عامر على أصل الاستثناء أو بمعنى إلاّ فعلاً أو أبوا إلاّ قليلاً . الباقون : بالرفع على البدل وهو أكثر .
الوقوف : { إلى أهلها } لا لأن التقدير يأمركم أن تؤدوا وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس . { بالعدل } ط { يعظكم به } ط { بصيراً } ه { منكم } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { واليوم الآخر } ط { تأويلاً } ه { أن يكفروا به } ج { بعيداً } ه { صدوداً } ه ج للآية مع فاء التعقيب { يحلفون } قد قيل على أن ما بعده ابتداء القسم والأولى تعليق الباء بيحلفون . { وتوفيقاً } ه { بليغاً } 5 { بإذن الله } ط { رحيماً } 5 { تسليماً } 5 { قليل منهم } ط { تثبيتاً } 5 لا { عظيماً } لا لأن ما بعده من تتمة جواب « لو » . { مستقيماً } ه { والصالحين } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { رفيقاً } ه { من الله } ط { عليماً } ه .
التفسير : لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف . وأيضاً لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً ، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور ، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات . وأيضاً قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال : { إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح ، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل له : إنه مع عثمان . فطلب منه فأبى فقال : لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه . فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى ركعتين . فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى العباس ثم قال : يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيباً فأنزل الله هذه الآية . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ، ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان : يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال : لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية .
فقال عثمان : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأسلم . فجاء جبريل عليه لاسلام وقال : ما دام هذا البيت كان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وقال : خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلاّ ظالم . ثم إنّ عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة وهو اليوم في أيديهم . ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات . فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه . قال ابن مسعود : الأمانة في الكل لازمة ، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم . وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلاّ بحقها وهذا باب واسع . فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها ، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام ، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب ، وكذا القول في سائر الأعضاء . ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم ، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة ، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها ، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها ، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس ، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب ، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا ، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية ، في التبعات الدائمة . وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه { إنا عرضنا الأمانة } [ الأحزاب : 72 ] { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } [ المؤمنون : 8 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « ألا لا إيمان لمن لا أمانة له » والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع . ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال : { وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } وفي قوله : { وإذا حكمتم } تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء . وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة : الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله . ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة ، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعاً وخلافاً ، وجلي القياس وخفية وصحيحه وفاسده ، ويعرف لسان العرب لغة وإعراباً خصوصاً وعموماً إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها .
وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده ، فعلى المتصدي لذلك أن يتأدب بآدابهم ويتخلق بأخلاقهم وإلا فالويل له . عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط » وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر؟ وعنه « ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلماً أو لاق لهم دواة ، فيجمعون ويلقون في النار » { إن الله نعماً يعظكم به } المخصوص بالمدح محذوف و « ما » موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير : نعم الذي أو نعم شيئاً يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل { إنّ الله كان سميعاً بصيراً } يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون ، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي .
ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } الآية . عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا . قالت المعتزلة : الطاعة موافقة الإرادة . وقالت الأشاعرة : الطاعة موافقة الأمر . ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مراداً أم لا . فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلاً بالإيمان . وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور . قال في التفسير الكبير : هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة : الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } وليس العطف للمغايرة الكلية ، ولكن الكتاب يدل على أمر الله ، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة . والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله . والإجماع والقياس . وأشير إلى الإجماع بقوله : { وأولي الأمر } لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم . ووجب أن يكون معصوماً لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال . ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون ، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون ، أو على ما روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبدالله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية .
أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني . أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم والاستفادة منه ، فلو وجب علينا طاعته على الإطلاق لزم تكليف ما لا يطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطاً ، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق على أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة . فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معاً وهو باطل . وأيضاً الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد ، ولفظ أولي الأمر جمع . أيضاً إنه قال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وعلى هذا ينبغي أن يقال : فردوه إلى الأمام . وإما سائر الأقوال فلا نزاع في وجوه طاعتهم ، لكنه إذا علم بالدليل أن طاعتهم حق وصواب . وذلك الدليل ليس الكتاب والسنة فلا يكون هذا قسماً منفصلاً كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول . أما إذا حملناه على إجماع أهل الحل والعقد لم يكن هذا داخلاً فيما تقدم إذ الإجماع قد يدل على حكم لا يوجد في الكتاب والسنة . وأيضاً قوله : { فإن تنازعتم في شيءٍ } مشعر بإجماع تقدم يخالف حكمه حكم التنازع . وأيضاً طاعة الأمراء والخلفاء مشروطة بما إذا كانوا على الحق ، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق . وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء . فالمراد بقوله : { وأولي الأمر } ما اجتمعت الأمة عليه وهو المدعى . وأما القياس فذلك قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكراراً لما تقدم ، ولا تفريض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب ولاخصومة فيها بنفي أو إثبات ، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل ، فالرد إليها لا يكون رداً إلى الله والرسول فإذاً المراد ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها وهذا معنى القياس ، فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله ، ثم لمن عدا الرسول بطاعة الرسول ، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم ، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها إن وقع اختلاف واشتباه بين الناس في حكم واقعة ما أن يستخرجوا لها وجهاً من نظائرها وأشباهها فما أحسن هذا الترتيب .
ثم في إطلاق الآية دلالة على أن الكتاب والسنة متقدمان على القياس مطلقاً سواء كان القياس جلياً أو خفياً ، وأنه لا يجوز معارضة النص ولا تخصيصه بالقياس . وقد اعتبر هذا الترتيب أيضاً في قصة معاذ واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف لا والقرآن مقطوع في متنه والقياس مظنون والقرآن كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والقياس نتيجة عقل الإنسان الذي هو عرضة الخطأ والنسيان . وقد أجمع العلماء على أن إبليس خصص عموم الخطاب في قوله : { إذ قلنا للملائكة اسجدوا } [ البقرة : 34 ] بقياس هو قوله : { خلقتني من نار وخلقته من طين } { ص : 76 ] فاستحق اللعن إلى يوم الدين . والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه . ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله : { أطيعوا } يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب ، فههنا يدل على الوجوب ظاهراً لأنه ختم الأوامر بقوله : { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله : { فردوه } وحده . وأيضاً مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلا بد للآية من فائدة خاصة ، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب . ثم هذا الوجوب يكون دائماً إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكور . فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة ، والمبين أولى من المجمل . وأيضاً تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلهاً والإلهية دائمة فالوجوب دائم . وإنما كرر لفظ { أطيعوا } للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين ، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الاجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر . ومن إطلاق قوله : { فإن تنازعتم في شيء فردوه } أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضاً . والمراد بالتنازع قال الزجاج : هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه { ذلك } الرد أو المأمور به في الآية { خير وأحسن تأويلاً } أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع . وقيل : الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تأولون أنتم .
ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله ، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية . قال الليث : قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه معموا مطية الكذب . وقال ابن الأعرابي : الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق . قال أبو مسلم : ظاهرالآية يدل على أن الزاعم كان منافقاً من أهل الكتاب مثل أن يكون يهودياً أظهر الإسلام على سبيل النفاق ، لأن قوله تعالى : { يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إلأيك وما أنزل من قبلك } إنما يليق بمثل هذا المنافق .
أما سبب النزول ففيه وجوه . والذي عليه أكثر المفسرين ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس « أن رجلاً من المنافقين يسمى بشراً خاصم يهودياً فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال المنافق : بيني وبينك كعب بن الأشرف . وذلك أن اليهودي كان محقاً وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة ، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا ، فما زال اليهودي بالمنافق حتى ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي . فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال : ننطلق إلى عمر بن الخطاب . فأقبلا إلى عمر فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه . فقال عمر للمنافق : أكذلك؟ قال : نعم . فقال لهما : مكانكما حتى أخرج إليكما ، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله وهرب اليهودي فنزلت الآية . وقالت جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنت الفاروق . وعلى هذا الطاغوت كعب بن الأشرف » وقال السدي : « كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم ، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيرياً قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر ، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقاً من تمر . وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج . فقتل نضيري قرظياً واختصموا في ذلك . فقال بنو النضير : لا قصاص لعينا إنما علينا ستون وسقاً من تمر على ما اصطلحنا عليه . وقالت الخزرج : هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا . فقال المنافقون : انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي . وقال المسلمون : لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزة ليحكم بينهم فقال : أعظموا اللقمة - يعني الرشوة - فقالوا : لك عشرة أوسق . فقال : لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريضة ، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير . فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبي أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية . فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنيه : أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبداً فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى : ألا إن كاهن أسلم قد أسلم »
وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن . وقال الحسن : إنّ رجلاً من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق ، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمنون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن ، فالطاغوت ذلك الرجل . وقيل : كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته ، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن . ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلاً للكفر به ، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصاً في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشككاً أو تمرداً ويؤكده قوله بعد ذلك : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك } الآية . ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم . ثم قال : { ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } فاحتجت المعتزلة به على أن كفر الكافر ليس بخلق الله وإلا لم يتوجه الذم على الشيطان ولم يحصل التعجب والتعجيب فإن لقائل أن يقول : إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى وقد عرفت الجواب مراراً . قوله : { فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } فيه وجهان : أحدهما - وهو قول الحسن واختاره الواحدي - أنه جملة معترضة وأصل النظم { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } { ثم جاؤك } يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيؤنك ويحلفون كذباً على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق . ووجه الاعتراض أنه حكى عنهم التحاكم إلى الطاغوت وأنهم يصدون ، ثم أتبعها ما يدل على شدة أحوالهم بسبب أعمالهم القبيحة في الدنيا والآخرة . والثاني أنه متصل بما قبله لا على وجه الاعتراض والمعنى أنه إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف تكون نفرتهم إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك كراهاً يحلفون بالله على سبيل الكذب ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة؟ أما المصيبة فقيل : إنها قتل عمر صاحبهم فإنهم جاؤوا وطلبوا بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا الصلاح وهو اختيار الزجاج . وقال الجبائي : هي ما أمر الله رسوله بها من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ويخصهم بمزيد الإذلال ، والمعنى ثم جاؤك في وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ما أردنا بما كان منا من مواساة الكفار إلا إصلاح الحال . وقال أبو مسلم : إنه تعالى بشر رسوله أن المنافقين سيصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الأيمان . ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا : كيف أنت إذا كان كذا .
ومعنى الإحسان والتوفيق ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحساناً بين الخصوم وائتلافاً بينهم فإنهم لا يقدرون عند الرسول أن يرفعوا أصواتهم ويبينوا حججهم ، أو ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه ، وما خطر ببالنا أنه يحكم بما حكم به ، وعلى هذا لا يبقى للحلف مناسبة ظاهرة . أو ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المرّ وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل بينهم الموافقة .
ثم أخبر الله سبحانه بما في ضمائرهم من الدغل والنفاق فقال : { أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم } وذلك أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني أنه لكثرته وعظم حاله لا يقدر أحد على معرفته إلا هو . ثم علّم نبيه كيف يعاملهم فأمره بثلاثة أشياء : الأول الإعراض عنهم والمراد به أنه لا يقبل منهم ذلك العذر ويستمر على السخط ، أو أنه لا يهتك سترهم ولا يظهر لهم أنه عالم بكنه ما في بواطنهم من النفاق لما فيه من حسن العشرة والحذر من آثار الفتنة . الثاني أن يعظهم فيزجرهم عن النفاق بالتخويف من عذاب الدارين . الثالث قوله : { وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً } وفيه وجوه : أحدها أن في الآية تقديماً وتأخيراً . والمعنى قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً في قلوبهم يغتنمون به اغتناماً ويستشعرون منه الخوف . الثاني وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولاً بليغاً هو أن الله يعلم ما في قلوبكم فلن يغني عنكم الإخفاء ، فطهروا قلوبكم عن دنس النفاق وإلا فسينزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شراً من ذلك وأغلظ . الثالث قل لهم في أنفسهم خالياً بهم مساراَ لهم بالنصيحة فإن النصح بين الملأ تقريع وفي لاسر أنفع ونجع ، قولاً يؤثر فيهم . وقيل : القول البليغ يتعلق بالوعظ وهو أن يكون كلاماً حسناً وجيز المباني غزير المعاني يدخل الأذن بلا إذن ، مشتملاً على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار . ثم رغب مرة أخرة في طاعة الرسول فقال : { وما أرسلنا من رسول } أكثر النحاة على أن « من » صلة تفيد تأكيد النفي والتقدير : وما أرسلنا رسولاً . وقيل : المفعول محذوف والتقيدير : وما أرسلنا من هذا الجنس أحداً . قال الجبائي : هذه الآية من أقوى الدلائل على بطلان مذهب المجبرة لكونها صريحة في أن معصية الناس غير مرادة لله تعالى . والجواب أن إرسال الرسل لأجل الطاعة لا ينافي كون المعصية مرادة لله تعالى ، على أن قوله : { بإذن الله } أي بتيسيره وتوفيقه وإعانته يدل على أن الكل بقضائه وقدره ، وكذا لو كان المراد بسبب إذن الله في طاعة الرسول .
قيل : في الآية دلالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة فإنه لو دعا إلى شرع من قبله لكان المطاع هو ذلك المتقدم ، وفيها دلالة على أن الرسل معصومون عن المعاصي وإلا لم يجب اتباعهم في جميع أقوالهم وأفعالهم { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بالتحاكم إلى الطاغوت { جاؤك } تائبين عن النفاق متنصلين عما ارتكبوا { فاستغفروا الله } من رد قضاء رسوله { واستغفر لهم الرسول } انتصب شفيعاً لهم إلى الله بعد اعتذارهم إليه من إيذائه برد قضائه { لوجدوا الله } لعلموه { تواباً رحيماً } ولم يقل : « واستغفرت لهم » لما في الالتفات عن الخطاب إلى ذكر الرسول تنبيه على أن شفاعة من أسمه الرسول من الله بمكان ، فالآية على هذا التفسير من تمام ما قبلها . وقال أبو بكر الأصم : « نزلت في قوم من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا عليه لذلك الغرض فأتاه جبريل فأخبره به فقال صلى الله عليه وسلم : إن قوماً دخلوا يريدون أمراً لا ينالونه فليقوموا فليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا . فقال : ألا يقومون فلم يفعلوا فقال صلى الله عليه وسلم : قم يا فلان حتى عدّ اثني عشر رجلاً منهم فقاموا وقالوا : كنا عزمنا على ما قلت ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا . فقال : الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب إلى الإجابة . اخرجوا عني » { فلا وربك لا يؤمنون } عن عطاء ومجاهد والشعبي أنها من تمام قصة اليهودي والمنافق . وعن الزهري عن عروة بن الزبير « أنها نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة ، والشرج مسيل الماء كانا يسقيان بها النخل فقال : اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك . فغضب حاطب . وقال : إن كان ابن عمتك؟ وذلك أن أم اللزبير صفية بنت عبد المطلب . فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر » يعني الجدار الذي يحيط بالمزرعة وهو أصغر من الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك . واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي . والرسول صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة ، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم من المسامحة لأجله أمره باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق .
وفي قوله : { فلا وربك } قولان : أحدهما أن « لا » صلة لتأكيد معنى القسم والتقدير فوربك . والثاني أنها مفيدة وعلى هذا ففيه وجهان : الأول أنه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله : { وربك لا يؤمنون } . الثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء في الجواب ، وهذا الوجه لا يتمشى فيما إذا كان الجواب مثبتاً . ومعنى شجر اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه ، والتشاجر التنازع لاختلاط كلام بعضهم ببعض ، والحرج الضيق أو الشك لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين { ويسلموا } وينقادوا . يقال : سلم لأمر الله أي سلم نفسه له وجعلها خالصة لحكمه ومن التعليمية من تمسك بالآية في أنه لا يحصل الإيمان إلا بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وهدايته والنزول على حكمه وقضائه في كل أمر ديني ، ومنع بأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور فإذن الحكم غير كلي والتقليد في جميع الأحكام غير مرضي . واعلم أن الرضا بتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون رضا في الظاهر دون القلب فلهذا قال : { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت } وهو الجزم بأن ما حكم به الرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق ، ثم من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقاً وصدقاً فقد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فعدم الحرج إشارة إلى الانقياد في الباطن والتسليم إشارة إلى الانقياد في الظاهر . وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عن الخطأ في الفتاوى والأحكام ، وعلى أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس وإلاّ كان في النفس حرج . قالت المعتزلة : لو كانت المعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض لأن الرضا بقضائه واجب فالرضا بالمعاصي واجب ، لكن الرسول قد نهى عنها فيجب أن يحصل الرضا في تركها ويلزم الرضا بالفعل والترك معاً وهو محال . وأجيب بأن المراد من قضاء الله التكوين والإيجاد . فالرضا بقضائه أن يعتقد كون الكل بإيجاده ، والمراد من الرضا بقضاء الرسول أن يلتزم ما حكم به ويتلقى بالبشر والقبول فأين ذاك من هذا .
قوله : { ولو أنا كتبنا عليهم } « روي أن حاطباً لما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوعب للزبير حقه في صريح الحكم خرجا فمرا على المقداد فقال : لمن كان القضاء؟ فقال حاطب : قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وأيم الله لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا . فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها ، وكذا قال ابن مسعود وعمار بن ياسر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي »
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال : والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك ونزلت الآية . فالضمير في قوله : { عليهم } يعود إلى الناس والمراد بالقليل المؤمنون منهم . عن ابن عباس ومجاهد أنه يعود إلى المنافقين والمراد أنا لو كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلاّ قليل منهم رياء وسمعة وحينئذٍ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم ، فإن لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به } من الانقياد والطاعة لله ولرسوله . وسمى التكليف وعظاً لاقترانه بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب { لكان خيراً لهم } أي أنفع وأفضل من غيره أو خير الدنيا والآخرة لأن { خيراً } يستعمل بالوجهين جميعاً . { وأشد تثبيتاً } أقرب إلى ثباتهم على الإيمان والطاعة لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها وتجر إلى المواظبة عليها ، ولأنه حق والحق ثابت والباطل زائل . وأيضاً الإنسان يطلب الخير أولاً فإذا حصل يطلب ثباته ودوامه . ثم بين أن ما يوعظون به كما هو خير في نفسه فهو أيضاً مستعقب للخير فقال : { وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً } وثواباً جزيلاً . « وإذاً » جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما يكون لهم بعد الخير والتثبيت؟ فقيل : هو أن نؤتيهم من لدنا أجراً عظيماً . وفي إيراد صيغة التعظيم في { آتينا } و { لدنا } وفي قوله : { من لدنا } وفي وصف الأجر بالعظم وفي تنكير الأجر من المبالغة ما لا يخفى . والصراط المستقيم الدين الحق أو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة وهذا أولى لأنه مذكور بعد استحقاق الأجر . ثم أكد أمر الطاعة بقوله : { ومن يطع الله والرسول } ولا شك أن الآية عامة في جميع المكلفين إلاّ أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها وجوهاً . قال الكلبي : « نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن . فقال له : يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال : يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة فذاك حريّ أن لا أراك أبداً »
وقال مقاتل : « نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فيما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك ، ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية . فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصاري ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اللهم أعمني حتى لا أرى شيئاً بعده فعمي مكانه » وقال السدي : إن ناساً من الأنصار قالوا : يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع فنزلت . وليس المراد من كون المطيعين مع المذكورين في الاية أن كلهم في درجة واحدة فإن ذلك يقتضي التسوية بين الفاضل والمفضول وإنه محال ، ولكن المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضاً ، أو إذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا على ذلك . والتحقيق فيه أن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع بل ينعكس بعضها على بعض ويتقوى بعضها ببعض كالمرايا المجلوة المتقابلة . { إخواناً على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] . ثم إنه تعالى ذكر أصنافاً أربعة : النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا شك في تغايرها متداخلة كانت أو متباينة . والمراد بالتداخل أن لا يمتنع كون كل مقام متقدم موصوفاً بما يتلوه كأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صديقاً وشهيداً وصالحاً ، أو الصديق شهيداً وصالحاً ، وقد مر تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل البقرة ، وأما الصديق فمبالغة الصادق وهو من غلب على أقواله الصدق وإنه لخصلة مرضية في جميع الأديان ومحققة للنطق الذي هو من مقومات الإنسان ، وكفى به منقبة أن الإيمان ليس إلا التصديق ، وكفى بنقيضه مذمة أن الكفر ليس سوى التكذيب . وذكر المفسرون أكثرهم أن الصديقين في الآية كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك لقوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } [ الحديد : 19 ] وقال قوم : هم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخصصه بعضهم بمن سبق إلى تصديق الرسول فصار في ذلك قدوة الناس كأبي بكر وعلي وأمثالهما ، ولا واسطة بين الصديق والنبي ولذلك قال في هذه الآية : { مع النبيين والصديقين } وفي صفة إبراهيم { إنه كان صديقاً نبياً } [ مريم : 41 ] يعني أنك إن ترقيت من الصديقين وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إليهم . وأما الشهداء فالمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما تعدون الشيهد فيكم؟ قالوا : يا رسول من قتل في سبيل الله . قال : إن شهداء أمتي إذاً لقليل . من قتل في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات بالبطن فهو شهيد »
وفي رواية « ومن مات بجمع فهو شهيد » وقيل : هو الذي يشهد لصحة دين الله تارة بالحجة واليان وأخرى بالسيف والسنان . وأقول : لا يبعد أيضاً أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] . وأما الصالحون فالصالح هو الذي صلح في اعتقاده وفي عمله وهذه مرتبة لا ينبغي أن تنحط عنها مرتبة المؤمن . ثم قال في معرض التعجب { وحسن ألئك رفيقاً } كأنه قيل : وما أحسن أولئك . والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه وانتصابه على الحال ، ويجوز أن يكون مفرداً بيّن به الجنس في باب التمييز . وقيل : معناه حسن كل واحد منهم رفيقاً كما قال { يخرجكم طفلاً } [ الحج : 5 ] والرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل فسمي الصاحب رفيقاً لارتفاقك به وتصحيبه ، ومن الرفقة في السفر لارتفاق بعضهم ببعض . وقد يكون الإنسان مع غيره ولا يكون رفيقاً له فبيّن الله تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء للمطيع من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته . { ذلك } مبتدأ و { الفضل } صفته و { من الله } خبره ، أو { ذلك } مبتدأ و { الفضل من الله } خبره . قالت المعتزلة : ذلك إشارة إلى الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الأنبياء وهذا شيء تفضل الله به عليهم تبعاً لثوابهم الواجب على الله . أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ولولا أنه أعطى العقل والقدرة وأزاح الأحذار والموانع لم يتمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب غيره ثوباً لينتفع به فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب . وقال أهل السنة : ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم ولا يجب على الله شيء ألبتة بل الثواب كله فضل من الله ، وكيف يجب عليه شيء وإنه هو الذي خلق القدرة والداعية؟ وأيضاً الوجوب عبارة عن استحقاق الذم عند الترك وأنه ينافي الإلهية . وأيضاً كل ما فرض من الطاعات فإنه في مقابلة النعم السالفة التي لا تعدّ ولا تحصى فيمتنع كونها موجبه الثواب في المستقبل . معنى الآية أن ذلك الثواب بكمال درجته كأنه هو الفضل وما عداه غير معتمد عليه وذلك الثواب المذكور هو من الله لا من غيره . { وكفى بالله عليماً } بالطاعة وكيفية الثواب عليها ، وفيه ترغيب للمكلف على إكمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه .
التأويل : الوجود المجازي أمانة من الله تعالى كما أنّ وجود الظل أمانة من الشمس فلا جرم إذا تجلت شمس الربوبية لظلال وجود النفس والقلب والروح يقول بلسان العزة : { إنّ الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى اهلها } فتلاشت الظلال واضحمحلّت الأغيار وانمحت الآثار وبقي الواحد القهار ، وهذا أحد أسرار قوله :
{ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] . { وإذا حكمتم } بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي بين الروح والقلب والنفس أن تحكموا بآداب الطريقة فيراقب القلب شواهد اللقاء ويلازم الروح عقبة الفناء والسر وارد سلطان البقاء { يا أيها الذين آمنوا } الخطاب مع القلب ولاروح والسر فإنهم آمنوا على الحقيقة ، وطاعة القلب لله أن يحب الله وحده ، وطاعة الروح أن لا يلتفت إلى غيره ، وطاعة السر أن لا يرى غيره في الوجود . أما الرسول فهو الرسول الوارد من الحق في الباطن كما قال صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد « استفت قلبك يا وابصة ولو أفتاك المفتون » . { وأولي الأمر منكم } يعني مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم . { فإن تنازعتم في شيء } يعني منازعة النفس القلب والروح والسر فردوه إلى الكتاب والسنة أو يريد منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنّة نزاعاً من قصور الفهم والدراية { فردوه إلى الله } لمراقبة القلوب بشواهد الغيوب { وإلى رسول } وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية ذلك الإيمان الإيقاني بشهود النور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق . ثم يخبر عن حال أهل القال المتحاكمين إلى طاغوت الهوى والخبال من أهل البدع والضلال بقوله : { ألم تر إلى الذين يزعمون } الآية . أصابتهم مصيبة ملامة من الخلق أو سياسة من السلطان . { فلا وربك لا يؤمنون } فيه أن الإيمان الحقيقي ليس بمجرد التصديق والإقرار ولكنه سيضرب على محك الاعتبار وهو تحكيم الشرع لا الطبع والنبوة لا البنوة والمولى لا الهوى ووارد الحق لا موارد الخلق فيما اختلفت آراؤهم وتحيّرت عقولهم { ثم لا يجدوا } { في } مرآة { أنفسهم } صورة كراهة من القضاء الأزلي والأحكام الإلهية . والصديقين الذين لهم قدم صدق عند ربهم ، والشهداء أهل الجهاد الأكبر ، والصالحين الذين لهم صلوح الولاية { وحسن أولئك رفيقاً } في سلوك طريق الحق والله المستعان .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
القراآت : { ليبطئن } ونحوه مثل { فلننبئن } و { لنبوّئنهم } بالياء الخالصة : يزيد والشموني وحمزة في الوقف . { كأن لم تكن } بالتاء الفوقانية : ابن كثير وحفص والمفضل وسهل ويعقوب . الباقون بياء الغيبة { يغلب فسوف } وبابه نحو { أن تعجب فعجب } [ الرعد : 5 ] { اذهب فمن تبعك } [ الإسراء : 63 ] مدغماً : أبو بكر وحمزة غير خلف وعلي وهشام . { ولا يظلمون } بالياء التحتانية : ابن كثير ، وعلي وحمزة وخلف وهشام ويزيد وابن مجاهد عن ابن ذكوان . الباقون بتاء الخطاب { بيت طائفة } مدغماً : أبو بكر وحمزة .
الوقوف : { جميعاً } ه { ليبطئن } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { شهيداً } 5 { عظيماً } 5 { بالآخرة } ط { عظيماً } 5 { أهلها } ج { ولياً } كذلك للتفصيل بين الدعوات { نصيراً } ه { في سبيل الله } ج للفصل بين القصتين المتضادتين { أولياء الشيطان } ج لاحتمال الابتداء وتقدير الفاء واللام . { ضعيفاً } ه { الزكاة } ط لأنّ جواب « فلما » منتظر ولكن التعجب في قوله : { ألم تر } واقع على قوله : { إذا فريق منهم يخشون } . { خشية } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { القتال } ج لأنّ « لولا » أي « هلاّ » استفهام آخر مع اتحاد المعمول . { قريب } ط { قليل } ج للفصل بين وصف الدارين . { فتيلا } ه { مشيدة } ط للعدول لفظاً ومعنى . { من عند الله } ط للفصل بين النقيضين { من عندك } ج . { من عند الله } ط . { حديثاً } ه . { فمن الله } ز فصلاً بين النقيضين { فمن نفسك } ط . { رسولاً } ه . { شهيداً } ه { أطاع الله } ج لحق العطف مع ابتداء بشرط آخر { حفيظاً } ط لاستئناف الفعل بعدها { طاعة } ز لابتداء بشرط مع أن المقصود من بيان نفاقهم لا يتم بعد . { يقول } ط { يبيتون } ج لاختلاف الجملتين مع الاتصال أي إذا كتب الله ما يبيتون فأعرض ولا تهتم . { على الله } ط { وكيلاً } ه .
التفسير : إنه سبحانه عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد لأنه أشق لاطاعات ولأنه أعظم الأمور التي بها تناط تقوية الدين فقال : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } والحذر والحذر بمعنى كالأثر والإثر والمثل والمثل . يقال : أخذ حذره إذا تيقظ واحترز عن المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه . والمعنى احذروا واحترزوا من العدو و لاتمكنوه من أنفسكم . وقيل : المراد بالحذر السلاح لأنه مما يتقي به ويحذر . فإن قيل : أي فائدة في هذا الأمر والحذر لا يغني عن القدر والمقدور كائن والهم فضل؟ قلت : هذا من عالم الأسباب والوسائط المرتبطة ولا ريب أن الكل يقع على نحو ما قدّر ، فمن امتثل وترتب عليه الأثر بقدر ، ومن أهمل حتى فاتته السلامة كان أيضاً بقدر ، وهكذا شأن جميع التكاليف إذا اعتبر . { فانفروا } إلى قتال عدوّكم انهضوا لذلك قال صلى الله عليه وسلم :
« وإذا استنفرتم فانفروا » { ثبات } جماعات متفرقة سرية بعد سرية واحدها ثبة محذوفة اللام وأصلها ثبى فعوضت الهاء عن الياء المحذوفة . والتركيب يدل على الاجتماع ومنه الثبة لوسط الحوض الذي يجتمع عنده الماء وصبيت الشيء جمعته . { أو انفروا جميعاً } مجتمعين كركبة واحدة وهذا قريب مما قاله الشاعر : طاروا إليه زرافات ووحداناً . والغرض النهي عن التخاذل وإلقاء النفس إلى التهلكة . { وإن منكم لمن ليبطئن } اللام الأولى هي الداخلة في خبر « إنّ » والثانية هي الداخلة في جواب القسم ، وتقدير الكلام : لمن حلف بالله ليبطئن وهو إما متعد بسبب التشديد فيكون المفعول محذوفاً أي ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو كما هو ديدن المنافق عبد الله بن أبي ثبَّط الناس يوم أحد ، وإما لازم فقد جاء بطأ بالتشديد بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم أي ليتثاقلن وليختلفن عن الجهاد ، وهذا المعنى أوفق بقوله : { فإن أصابتكم مصيبة } من قتل أو هزيمة { قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيداً ولئن أصابكم فضل من الله } فتح أو غنيمة ليقولن ( قوله ) { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } اعتراض بين الفعل الذي هو { ليقولن } وبين مفعوله وهو { يا ليتني } والمنادى محذوف أي يا قوم ليتني . وجوّز أبو علي إدخال حرف النداء في الفعل والحرف من غير إضمار المنادي . { كنت معهم فأفوز } منصوب بإضمار أن أي ليت لي كوناً معهم فافوز . والخطاب في قوله : { وإن منكم } للمذكورين في قوله : { يا أيها الذين آمنوا } والأظهر أن هذا المبطىء سواء جعل لازماً أو متعدياً كان منافقاً فلعله جعله من المؤمنين من حيث الجنس أو النسب أو الاختلاط أو لأنه كان حكمه حكم المؤمنين لظاهر الإيمان . والمراد يا أيها المؤمنون في زعمكم ودعواكم كقوله : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } [ الحجر : 6 ] ومعنى الاعتراض في البين أن المنافقين كانوا يوادون لامؤمنين ويصادقونهم في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن . وقال جمع من المفسرين : إنّ هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المسلمين . وعلى هذا فالتبطئة بمعنى الإبطاء ألبتة لأنّ المؤمن لا يثبط غيره ولكنه قد يتثاقل وهم المراد بقوله : { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم } [ التوبة : 38 ] ثم لما ذم المبطئين رغب في الجهاد بقوله : { فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون } ومعناه يشترون أو يبيعون . وعلى الأول فهم المنافقون المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويجاهدوا حق الجهاد ولا يختاروا الدنيا على المعاد . وعلى الثاني فهم المؤمنون الذين تركوا الدنيا لأجل الآخرة . والمراد إن أبطأ أهل النفاق وضعفة الإيمان عن القتال فليقاتل التائبون المخلصون . وقيل : يحتمل أن يراد المؤمنون على التقدير الأول أيضاُ لأن الإنسان إذا أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله ، أو لعله أريد اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي ، أو المراد أنهم كانوا يرجحون الحياة على الموت لاستيفاء السعادات البدنية فقيل لهم : قاتلوا فإنكم تستولون على الأعداء وتفوزون بالأموال .
{ ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب } وعد الأجر العظيم على تقديري المغلوبية والغالبية ليعلم أنه لا عمل أشرف من الجهاد ، وليكون المجاهد على بصيرة من حاله على أي تقدير كان فيقدم ولا يحجم ، ثم زاد في تحريضهم فقال : { وما لكم لا تقاتلون } ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ الحال إلى ما بلغ . وقوله : { والمستضعفين } إما مجرور أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين ، وإما منصوب على الاختصاص أي وأخص من سبيل الله الذي هو عام في كل خير خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون والإعسار والضعف عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم أذلاء يلقون منهم أذى شديداً ، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح . والولدان جمع ولد كخربان في خرب . وقيل : الرجال والنساء الأحرار والحرائر ، والولدان العبيد والإماء لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلاّ أنه خص الولدان بالذكر تغليباً كالآباء والإخوة مع إرادة الأمهات والأخوات أيضاً . وعن ابن عباس : كنت أنا وأمي من المستضعفين من الولدان والنساء . والظالم صفة للقرية إلاّ أنه مسند إلى أهلها فتبع القرية في الإعراب ، وهو مذكر لإسناده إلى الأهل . والأهل يذكر ويؤنث ، ولو أنّث لا لتأنيث الموصوف بل لجواز تأنيث الأهل جاز . وإنما اشترك الولدان في الدعاء وإن كانوا غير مكلفين لأن المشركين كانوا يؤذونهم إرغاماً للآبائهم ، أو لأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالاً لرحمة الله بدعاء صغائرهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس ، ووردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء . { واجعل لنا من لدنك وليّاً } أي كن أنت لنا ولياً وناصراً وولّ علينا رجلاً يوالينا ويقوم بمصالحنا . فاستجاب الله دعاءهم لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميراً لهم فكان الولي هو الرسول ، وكان النصير عتاب بن أسيد كما أرادوا . قال ابن عباس : كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعزّ بها من الظلمة . ثم شجع المؤمنين تشجيعاً بأن أخبرهم أنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليّهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في سبيل غير الله وهو الطاغوت والشيطان فلا ولي لهم إلاّ الشيطان وإن كيده أوهن شيء وأضعفه . والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال . وفائدة إدخال « كان » أن يعلم أنه منذ كان كان موصوفاً بالضعف والذلة .
ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا مجة حياتهم في غاية الخمول والفقر ، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم؟
قول سبحانه : { ألم تر إلى الذين قيل لهم } فيه قولان : الأول أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص؛ كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ائذن لنا في قتال هؤلاء . فيقول لهم « كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم » . فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم . الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح : لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أُحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد : لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فنزلت . وقد يحتج للقول الأول بأن رغبتهم في القتال أوّلاً دليل الإيمان ، ويمكن أن يجاب بأن المنافقين ايضاً كانوا يظهرون الرغبة في الجهاد إلى أن أمروا بالقتال فأحجموا . واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد ، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم : { لم كتبت علينا القتال } وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم { قل متاع الدنيا قليل } وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله : { قل متاع الدنيا قليل } إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة . والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله : { وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله } في شأنهم بلا اختلاف . وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدماً على الجهاد وهو أيضاً ترتيب مطابق لما في المعقول ، لانّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله . وإذا في { إذا فريق } للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتلا عليهم . وقوله : { كخشية الله } من إضافة المصدر إلى المفعول . ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله : { أو أشد } ثم نصب { خشية } على التمييز فالتقدير : يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله . نعم لو قيل : أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر ، اللهم إلاّ أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى : خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله وعلى هذا يجوز أن يكون محل { أشد } مجروراً عطفاً على خشية الله أي كخشية ألله أو كخشية أشد خشية منها .
وكلمة « أو » ليست للشك ههنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو ، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساوياً أو أزيد ، فبيَّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساوياً أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكاً فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين . أو هذا نظر قوله { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 117 ] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام . { وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب } [ النساء : 77 ] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنا قالوا ذلك لا اعتراضاً على الله ولكن جزعاً من الموت وحباً للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالاً إلى وقت آخر كقوله : { لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق } [ المنافقون : 10 ] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم ، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه . ومعنى { لولا أخرتنا } هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا ، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله : { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير } لا لكل الناس بل { لن اتقى } فإن للكافر والفاسق هنالك نيراناً وأهوالاً ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة ، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة ، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار ، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها . ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة . والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المراة إذا أظهرت محاسنها . والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية ، وإذا كان لا بد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى . قال المفسرون : كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال : { وما أرسلنا في قرية من نبي إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء والضراء } [ الأعراف : 94 ] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون : ما رأينا أعظم شؤماً من هذا الرجل؛ نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم . فقوله تعالى : { وإن تصبهم حسنة } يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله ، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله :
{ فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يطيروا بموسى ومن معه } [ الأعراف : 131 ] . وقال قوم : الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة ، والسيئة القتل والهزيمة . وقال أهل التحقيق : خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة . فإن كان منتفعاً به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما ، وإن كان منتفعاً به في الآخرة فهو الطاعة . فالحسنة تعم الحسنات ، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله : { قل كل من عند الله } وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لا بد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال : { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً } فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلاً عن الفقه والفهم . قالت المعتزلة : بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى ألبة أنه تعالى ما خلقها . والجواب : أنه تعالى لا يسأل عما يفعل . وأيضاً المعارضة بالعلم والداعي . وقالت المعتزلة أيضاً : الحديث « فعيل » بمعنى « مفعول » والمراد به الآيات المذكورة في هذه المواضع فيلزم منه كون القرآن محدثاً . والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي .
قوله عز من قائل : { ما أصابك من حسنة فمن الله } قال أبو علي الجبائي : السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية . ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه على الآية الأولى بقوله : { قل كل من عند الله } وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله : { وما أصابك } أي يا إنسان خطاباً عاماً { من سيئة فمن نفسك } فلا بد من التوفيق وإزالة التناقض ، وما ذاك إلاّ بأن يجعل هناك بمعنى البلية وههنا بمعنى المعصية . قال : وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا ، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل لله وألطافه فصحت إضافتها إليه ، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها . وقال في الكشاف : { وما أصابك من حسنة } أي من نعمة وإحسان { فمن الله } تفضلاً منه وأحساناً وامتناناً وامتحاناً { وما أصابك من سيئة } أي من بلية ومصيبة { فمن عندك } لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما روي عن عائشة : « ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطع شسع نعله إلاّ بذنب وما يعفو الله أكثر منه » وقالت الأشاعرة : كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه .
لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى . والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهاماً على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئاً من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته ، ويؤيده ما يروى أنه قرىء { فمن نفسك } بصريح الاستفهام . ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك : { وأرسلناك للناس رسولاً } أي ليس لك إلاّ الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت { وكفى بالله شهيداً } على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي ، فأما تحصيل الهداية فليس إليك بل إلى الله . قال علماء المعاني : قوله { رسولاً } حال من الكاف أي حال كونك ذا رسالة و { للناس } صفة { رسولاً } متعلق ب { أرسلناك } وإلاّ لقيل إلى الناس . فأصل النظم وأرسلناك رسولاً للناس فلا بد للتقديم من خاصية هو التخصيص أعنى ثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفاً لا عما عداه مطلقاً . وبعد تقديم هذه المقدمة فاللام في قوله : { للناس } إما أن يكون للعهد الخارجي أو للجنس أو للاستغراق . والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفاً فيكون مناقضاً لما في الآيات الأخر كقوله : { يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } [ الأعراف : 158 ] ولقوله : « بعثت إلى الخلق كافة » والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضاً باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن ، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفاً وهو حقيقة الجن ، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة . وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } [ الأحقاف : 29 ] الآية . فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصيل موجبة كلية وينفى نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثاً إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة ، وعلى هذا يكون لاجن مسكوتاً عنهم بالنسبة إلى هذه الآية . فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثاً إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية ، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن . ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولاً فيما رسول لا تكون إلاّ طاعة لله .
قال مقاتل في هذه الآية : إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : « من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله » فقال المنافقون : لقد قارف الرجل الشرك ، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه رباً كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية . وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلاّ لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله . { ومن تولى } قيل : هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر ، وأما البواطن فلا تتعرّض لها . وقيل هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي . { فما أرسلناك } لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده . والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله : { ا إكراه في الدين } [ البقرة : 256 ] ثم نسخ بآية الجهاد . ثم حكى سيرة المنافقين بقوله : { ويقولون } أي حين ما أمرتهم بشيء { طاعة } أي أمرنا وشأننا طاعة ، والنصب في مثل هذا جائز بمعنى أطعناك طاعة ، ولكن الرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فلهذا لم يقرأ بغيره { فإذا بروزا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول } أي دبرت خلاف ما أمرت به وما ضمنت من الطاعة . قال الزجاج : كل أمر تفكروا فيه كثيراً وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيراً قيل هذا أمر مبيت . وفي اشتقاقه وجهان : الأول أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس في بيته في الليل فهناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل فلا جرم سمي الفكر المستقصي تبييتاً . . الثاني قال الاخفش : إذا أراد العرب قرض الشعر بالقوافي بالغوا في التفكر فيه فسمي الفكر البليغ تبييتاً ، فاشتقاقه من أبيات الشعر . ثم إنه تعالى خص طائفة من المنافقين بالتبييت ، وذكروا في التخصيص وجهين : أحدهما أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه ، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فلم يذكرهم . وثانيهما أن هذه الطائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا . قلت : ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار . { والله يكتب ما يبيتون } يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم { فأعرض عنهم وتوكل على الله } في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره . قال بعضهم : الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد . والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام والنسخ والله تعالى أعلم .
التأويل : { خذوا حذركم } وهو ذكر الله { فانفروا ثبات } جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية { أو انفروا جميعاً } من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة { وإن منكم } أيها الصدّيقون { لمن ليبطئن } من المدعين المتكاسلين في السير ، القانعين بالاسم ، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة .
{ والمستضعفين من الرجال } أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها { والنساء } أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح والقلب كتصرف الزوج في الزوجة . { والولدان } الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب { من هذه القرية } قرية البدن { الظالم أهلها } وهي النفس الأمارة بالسوء { نصيراً } شيخاً مربياً { ألم تر إلى الذين قيل لهم } من أهل السلامة { كفوا أيديكم } من الاعتصام بحبل أهل الملامة { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب الغرام من أهل الملام { إذا فريق منهم يخشون الناس } ويخافون لومة الناس ولو كان من شرطهم أن لا يخافوا لومة لائم ولا يناموا نومة نائم فنفروا عن فريقهم كالبهائم ، وضلوا عن طريقهم كالهائم . { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } فنموت بالآجال فإن لنا كل لحظة موتة في ترك حظوة . في أيها البطلة في زي الطلبة الذين غلب عليكم حب الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى { أينما تكونوا يدرككم الموت } اضطراراً إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختياراً { ولو كنتم في بروج مشيدة } أجسام قوية مجسمة { وإن تصبهم } يعني أهل البطالة { حسنة } من فتوحات غيبية { يقولوا هذه من عند الله } لا يرون للشيخ فيما عليهم حقاً { وإن تصبهم سيّئة } من الرياضات والمجاهدات { يقولوا } للشيخ { هذه من عندك } أي بسببك وسعيك { قل كل من عند الله } القبض والبسط والفرح والترح { ما أصابك } من فتح وموهبة { فمن الله } فضلاً وكرماً { وما أصابك من سيّئة } بلاء وعناء { فمن } شؤم صفات { نفسك } الأمارة . والتحقيق فيه أن للأعمال أربع مراتب : التقدير والخلق وهاتان من الله تعالى ، والكسب والفعل وهاتان من العبد ، وإن كان العبد وكسبه وفعله كلها مخلوقة خلقها الله تعالى فافهم . { وأرسلناك للناس رسولاً } يهتدون بهداك ويتبعون خطاك ، ويقولون إذا كانوا حاضرين في صحبتك ، وتنعكس أشعة أنوار النبوة عليهم ، ويصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الوافية السمع والطاعة . { فإذا برزوا من عندك } وهبت عليهم رياح الهوى عاد الطبع المشؤوم إلى أصله وهكذا حال أكثر مريدي هذا الزمان من مشايخهم والله يكتب بغير عليهم { ما يبيتون } لأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم { فأعرض عنهم } واصبر معهم { وتوكّل على الله } فلعل الله يصلح بالهم .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
القراآت : { ومن أصدق } وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الصاد الزاي : علي ورويس وحمزة غير العجلي . { حصرت صدورهم } وبابه مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . وقرأ سهل ويعقوب والمفضل { حصرة صدورهم } بالنصب والتنوين .
الوقوف : { القرآن } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط . { كثيراً } ه { أذاعوا به } ط { منهم } ط { قليلاً } ه { في سبيل الله } ج ط لأن قوله : { لا تكلف } يحتمل الاستئناف والحال أي قاتل غير مكلف . { إلاّ نفسك } ط لعطف قوله : { وحرض } على قوله : { فقاتل } . { المؤمنين } ج لأنّ { عسى } مستأنف لفظاً ومتصل معنى لأنه لترجية نجح ما أمر به . { كفروا } ط { تنكيلاً } ه { نصيب منها } ط لابتداء شرط آخر مع واو العطف . { كفل منها } ط { مقيتاً } ه { ردوها } ط { حسيباً } ه { إلا هو } ط { لا ريب فيه } ط { حديثاً } ه { بما كسبوا } ط { من أضلّ الله } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط . { سبيلاً } ه { في سبيل الله } ط { وجدتموهم } ص { نصيراً } ه ط { أو يقاتلوا قومهم } ط { فلقاتلوكم } ط { السلم } لا لأن ما بعده جواب « فإن » . { سبيلاً } ه { قومهم } ط { أركسوا فيها } ج { ثقفتموهم } ط { مبيناً } ه .
التفسير : لما حكي عن المنافقين ما حكى وكان السبب فيه اعتقادهم أنه صلى الله عليه وسلم غير محق في ادعاء الرسالة ، أمرهم بالتفكر والتدبر وهو النظر في عواقب الأمور وأدبارها ، ومنه قول أكثم : لا تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها . ويقال في فصيح الكلام : لو استقبلت من أمري ما استبدرت . أي لو عرفت في صدره ما عرفت من عاقبته . وظاهر الآية يدل على أنه احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلا انقطع النظم . ودلالة القرآن على صدق النبي من ثلاثة أوجه : الفصاحة والاشتمال على الغيوب والسلامة من الاختلاف وهو المقصود من الآية . واختلف المفسرون في المراد من سلامته من الاختلاف . فقال أبو بكر الأصم : معناه أن المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكايد ، والرسول كان يخبرهم عنها حالاً فحالاً . فقيل لهم : إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لم يطرد صدقه ولظهر أنواع الاختلاف والتفاوت . وقال أكثر المتكلمين : المراد تجاوب معانيه وتلاؤم مقاصده مع أنه مشتمل على علوم كثيرة وفنون غزيرة ، ولو كان من عند غير الله لم يخل من تناقض واضطراب . والذي تظن به التناقض كقوله : { لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } [ الرحمن : 39 ] مع قوله : { لنسألنهم أجمعين } [ الحجر : 92 ] أو كقوله : { فإذا هي ثعبان مبين } [ الشعراء : 32 ] مع قوله : { كأنها جان } [ القصص : 31 ] ليس بذاك عند التدبر وملاحظة شروط التناقض من اتحاد الزمان والمكان وغيرهما وقال أبو مسلم : المراد صحة نظمه وكون كله بل كل جزء من أجزائه وأبعاضه بالغاً حد الإعجاز .
ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتاباً طويلاً مشتملاً على المعاني الكثيرة فلا بد أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قوياً متيناً وبعضه سخيفاً نازلاً ، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه معجز من عند الله تعالى . وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال أعني التدبر فيما إليه سبيل . وقال الجبائي : فيها دلالة على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله لأن فعل العبد لا ينفك عن التفاوت والاختلاف . والجواب أنه لا يلزم من كون كلامه غير متفاوت ولا مختلف أن لا تكون أفعاله مختلفة بحسب اختلاف المظاهر والقوابل . سلمنا لكن اختلافه وهو كونه غير مطابق للأغراض والمقاصد الإنسانية قد يكون بحسب نظرنا لا بحسب الأمر نفسه . ثم حكى عن المنافقين - وقيل عن ضعفة المسلمين - أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوا به وأفشوه . يقال : أذاع السر وأذاع به لغتان . ويجوز أن يكون معنى أذاع به فعل به الإذاعة وهو أبلغ . ولا يخفى ما في ذلك الإفشاء من الضرر من جهة أن الإرجاف لا ينفك عن الكذب ، ومن جهة أن تلك الزيادات إن كانت في جانب الأمن ولم تقع أورثت شبهة لضعفة المسلمين في صدق الرسول ، لأن المنافقين كانوا يروونها عن الرسول ، وإن كانت في جانب الخوف حصل اضطراب في الضعفة ووقعوا في الحيرة ، وأيضاً البحث عن الإرجاف موجب ظهور الأسرار وذلك لا يوافق مصلحة المدينة فربما وصل الخبر إلى الكفار فاستعدوا للقتال أو تحصنوا . وفي معنى الآية أقوال : الأول : ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر - وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم - { لعلمه } لعلم تدبير ما أخبروا به { الذين يستنبطونه } الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها ، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من البئر أول ما تحفر فاستعير لاستخراج المعاني . والتدبير الثاني : كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء ، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فتعود إذاعتهم مفسدة . فقيل لهم : لو فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه . الثالث : كانوا يسمعون من أفواه بعض المنافقين شيئاً من خبر السرايا غير معلوم الصحة فيذيعونه فقيل لهم : لو سكتوا حتى سمعوه من الرسول وأولي الأمر لعلمه صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع فالمستنبطون هم المذيعون . ومعنى يستنبطونه منهم يتلقونه من الرسول وأولي الأمر ويستخرجون علمه من جهنم .
قالت العلماء : في الآية دلالة على أن القياس حجة لأنهم أمروا أن يرجعوا في معرفة الوقائع إلى أولي الأمر من المستنبطين . فرواية النص لا تكون استنباطاً فهو إذن رد واقعة إلى نظيرها وهو القياس . واعترض بأنا لا نسلم أن المستنبطين هم العلماء وأولو الآراء بل هم المذيعون كما في القول الثالث . سلمنا لكن الآية نزلت في الحروب ، ولا يلزم من جواز الاستنباط في الوقائع المتعلقة بها جواز الاستنباط في الوقائع الشرعية . فإن قيس أحد البابين على الآخر كان إثباتأً للقياس الشرعي بالقياس الشرعي . سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد استخراج الأحكام الشرعية من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو بالبراءة الأصلية أو بحكم العقل كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة وكل هذه الأمور ليست من القياس الشرعي في شيء؟ سلنما أن القياس الشرعي داخل في الآية . لكن بشرط كونه مفيداً « للعلم » بدليل قوله { لعلمه الذين يستنبطونه } ولا نزاع في مثله إنما النزاع في أن القياس المفيد للظن هل هو حجة أن لا . وأجيب بأن صرف المستنبطين إلى المذيعين ليس بالقوي إذ لو كان المراد ذلك لكان الأليق بنظم الكلام أن يقال : ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلموه من غير إقامة المظهر مقام المضمر . وعن الثاني بأن الأمن او الخوف عام في كل ما يتعلق بباب التكليف . ولئن سلم أنه مخصوص بأمور الحرب فإذا عرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي لزم جواز التمسك به في سائر الوقائع إذ لا قائل بالفرق . ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه؟ وعن الثالث أن شيئاً من ذلك لا يسمى استنباطاً . وعن الرابع أن العلم قد يراد به الظن الغالب . سلمنا لكن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم لأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع ، حصل ظن أن حكم الله في الفرع مساوٍ لحكمه في الصل ، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن وهذا معنى قولهم : « الظن واقع في طريق لاحكم » والحكم مقطوع به كأنه تعالى قال : مهما غلب على ظنك كذا في الواقعة الفلانية فاعلم قطعاً أن حكمي فيها كذا . أما قوله { لا تبعتم الشيطان إلا قليلاً } فظاهره يقتضي إشكالاً وهو أن قليلاً من الناس لا يحتاج في عدم اتباع الشيطان إلى فضل الله ورحمته ، لكن الاحتياج بالنسبة إلى كل واحد من الناس ثابت بالاتفاق فهذا تناقض . فذكر المفسرون في إزالة التناقض وجوهاً الأول : أن الاستثناء راجع إلى قوله : { أذاعوا به } كأنه تعالى أخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله : { بيت طائفة } الثاني : أنه عائد إلى قوله : { لعلمه } يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلاّ قليلاً .
قال الفراء والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله . وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، قال الزجاج : هذا غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إلاّ البالغ في البلادة . والإنصاف أن الاستنباط لو حمل على مجرد تفرق الأخبار والأراجيف فكلام الزجاج الصحيح وإن كان محمولاً على استخراج الأحكام الشرعية كما مر فالحق ما ذكره الفراء والمبرد . الثالث : أن الاستثناء مصروف إلى ما يليه كما هو حق النسق لأن الفضل والرحمة مفسران بشيء خاص وفيه وجهان : أحدهما قول جماعة من المفسرين أن المراد إنزال القرآن وبعثة محمد والتقدير : لولا بعثة محمد وإنزال القرآن لاتبعتم الشيطان ولكفرتم بالله إلاّ القليل منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ، كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وثانيهما قول أبي مسلم أن المراد بالفضل والرحمة ههنا نصرته تعالى ومعونته اللذان تمناهما المنافقون بقولهم : { فأفوز فوزاً عظيماً } [ النساء : 73 ] والتقدير : لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلاّ القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم ، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقاً حصول الدولة في الدنيا ، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقاً ، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلاً ، بل الأمر في كونه حقاً وباطلاً مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه . قوله : { فقاتل } قيل : إنه جواب لقوله : { ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل } [ النساء : 74 ] كأنه تعالى قال : إن أردت الفوز فقاتل . وقيل : إنه متصل بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إليهم بل قاتل فإنك لا تؤاخذ إلاّ بفعلك ، فإذا أديت فرضك لم تكلف فرض غيرك ، ويعلم من قوله : { وحرض المؤمنين } أن الواجب على الرسول إنما هو الجهاد وتحريض الناس على الجهاد أي الحث والإحماء عليه ، فإذا أتى بالأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركاً شيء . واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات ، فما لم يغلب على الظن أنه مفيد لم يجب بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] وبدليل قوله ههنا : { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } وعسى من الله جزم لأن الرجاء عليه محال فهو إطماع وإطماع الكريم إيجاب فلزمه الجهاد وإن كان وحده فلا جرم أنه صلى الله عليه وسلم قال في بدر الصغرى :
« لأخرجن وحدي » فخرج وتبعه سبعون راكباً ، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده ، ثم إنه تعالى كف بأس المشركين وألقى الرعب في قلوب أبي سفيان وأصحابه حتى ندموا وترك الحرب في تلك السنة . وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق لأنه تعالى لم يأمره بالقتال وحده إلاّ أنه كذلك . وقيل : اقتدى به أبو بكر حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن عرف أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحدث شيء إلاّ بقضاء الله سهل عليه الفوت وكان بمعزل عن تقية الموت . { والله أشد بأساً } من قريش { وأشد تنكيلاً } تعذيباً لأن عذاب الله دائم وعذاب غيره غير دائم ، وعذاب غير الله يخلصه الله عنه وعذاب الله لا يقدر أحد على تخليصه منه ، وعذاب غير الله يكون من وجه واحد وعذاب الله يصل إلى جميع الأبعاض والأجزاء ويشمل الروح والجسم فهذا طرف من الفرق والله أعلم بكنه عذابه ونعوذ بالله من عقابه .
قوله سبحانه : { من يشفع شفاعة حسنة } وجه نظمه يعرف من تفسيره وذلك أنه قيل : المراد منه تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد ، لأنه إذا كان يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفيعاً لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد . وأيضاً التحريض وهو الحث على سبيل الرفق والتلطف والتهديد جار مجرى الشفاعة . وقيل : كان بعض المنافقين يشفع لمنافق آخر في أن يأذن له الرسول في التخلف عن الجهاد ، وكان بعض المؤمنين يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث أن يحصل له عدّة الجهاد فنزلت . ونقل الواحدي عن ابن عباس أن الشفاعة الحسنة ههنا هي ان يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار ، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالله بمحبة الكفار وترك إيذائهم . وقال مقاتل : الشفاعة إلى الله إنما هي دعوة الله المسلم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك » فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك . وقال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد : هي مطلق الشفاعة والحسنة منها هي التي بها روعي حق مسلم ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ولم يؤخذ عليها رشوة كانت في أمر حائز لا في حد من حدود الله ولا في إبطال حق من الحقوق ، والسيئة ما كان بخلاف ذلك ، وعلى هذا فوجه النظم أن التحريض على الجهاد بعث على الفعل الحسن وأنه نوع شفاعة كما مر في القول الأول .
وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال : لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها . قال أهل اللغة : الكفل أيضاً النصيب فهل لاختلاف اللفظين فائدة؟ فأجيب بأن الكفل اسم للنصيب الذي يكون عليه اعتماد الإنسان ومنه يقال « كفل البعير واكتفله » إذا أدار حول سنامه كساء وركب . والكفيل الضامن لأن الغريم اعتمد عليه . والتقدير من يشفع شفاعة سيئة يكن له منها نصيب يعتمد عليه ويكون له ذخيرة في معاشه ومعاده والغرض التهكم وحصول ضد ذلك مثل : { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] { وكان الله على كل شيء مقيتاً } أي مقتدراً وحفيظاً . واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها . والغرض أنه قادر على كل المقدورات حفيظ لجيمع الملعومات فيجازي كل شافع بما يليق بحاله ، ثم لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضاً بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة أو ألقوا في المبارزة بالسلم فقابلوهم بالإكرام وأيضاً السلام دعاء بالسلامة والدعاء من نوع من الشفاعة والتحية تفعلة من الحياة ويجيء الناقص من باب التفعيل على « تفعلة » مثل : تسلية وتعزية . لكنه أدغم ههنا لاجتماع المثلين . وكانت العرب تقول عند التلاقي حياك الله . دعاء له بالحياة فأبدل الله ذلك بالسلام ، ولعمري إن هذا أحسن لأن الحياة إن لم تكن مقرونة بالسلامة لم يعتد بها بل لعل الموت خير منها ، ولأن السلام اسم من اسماء الله تعالى فالابتداء به أولى ، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وقد سلم الله عليك يا مؤمن في اثني عشر موضعاً في الأزل ولهذا سمى نفسه بالسلام ، وعلى لسان نوح : { يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } [ هود : 48 ] والمراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم عليك على لسان جبريل : { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام } [ القدر : 45 ] قال المفسرون إنه خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى فقال الله تعالى : لا تهتم بذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا إلاّ إني جعلت جبرائيل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني . وسلم عليك على لسان موسى : { والسلام على من اتبع الهدى } [ طه : 47 ] وسلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم : { قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى } [ النمل : 59 ] وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بالسلام عليك : { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم } [ الأنعام : 54 ] وأمر المؤمنين بالسلام : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } وسلم عليك على لسان ملك الموت : { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم } [ النحل : 32 ] قيل : إن ملك الموت يسلم في أذن المسلم : السلام يقرئك السلام ويقول : أجبني فإني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك ، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول الملك الموت : لا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك .
وسلم عليك من الأرواح الطاهرة : { وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين } [ الواقعة : 9091 ] وسلم عليك على لسان خزنة الجنة : { وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] وسلم عليك على لسان الملائكة في الجنة : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 2324 ] وسلم عليك على لسان أهل الجنة : { تحيتهم يوم يلقونه سلام } [ الأحزاب : 44 ] وسلم عليك إلى الأبد : { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] ولما أراد إكرام يحيى عليه السلام وعده بالسلام في مواطن ثلاثة هي أشد الأوقات حاجة إلى السلام فقال : { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً } [ مريم : 15 ] ولما ذكر تعظيم محمد صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } { الأحزاب : 56 ] وعن عبد الله بن سلام قال : لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت عنه : « يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام » وكانت تحية النصارى وضع اليد على الفم ، وتحية اليهود الإشارة بالأصابع ، وتحية المجوس الانحناء ، وتحية الجاهلية « حياك الله » ، وتحيتهم للملوك « أنعم صباحاً » فشتان ما بين تحياتهم وتحيتنا « السلام عليك ورحمة الله وبركاته » وفي هذا دليل على أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها . ومما يدل على فضيلة السلام عقلاً أن الوعد بالنفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر ، وأما الوعد بترك الضرر فإنه يقدر عليه لا محالة والسلام يدل عليه فهو أفضل أنواع التحية . قال بعض العلماء : فمن دخل بيتاً وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « أفشوا السلام » والأمر للوجوب ، ولأن السلام بشارة بالسلامة وإزالة الضرر وهو واجب لقوله : « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده » ولأنه من شعائر الإسلام وإظهار شعائر الإسلام واجب . وعن ابن عباس والنخعي وأكثر العلماء أن السلام سنة . وأما الجواب فواجب بالإجماع لأن ترك الجواب إهانة والإهانة ضرر والضرر حرام ولقوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } وظاهر الأمر الوجوب وعن ابن عباس : ما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلاّ نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة . قال العلماء : الأحسن أن يزيد في جواب السلام والرحمة ، وإن ذكر في الابتداء السلام والرحمة زاد في جوابه البركة ، وإن ذكر المجموع أعادها فقط فإن منتهى الأمر في السلام أن يقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . لأن هذا القدر هو الوارد في التشهد . وروي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : السلام عليك يا رسول الله .
فقال : وعليك السلام ورحمة الله ، وقال آخر : السلام عليك ورحمة الله . فقال : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . وجاء ثالث وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته . فقال : وعليك فقال : نقصتني فأين قول الله : { فحيوا بأحسن منها } فقال : إنك لم تترك لي فضلاً فرددت عليك مثله . فقوله تعالى : { أو ردوها } أي أجيبوها بمثلها ، ورد السلام كرّه ورجعة إما إشارة إلى هذه الصورة وإما إلى التخيير بين الزيادة وتركها ، ورد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقين . والأولى أن يقوم به الكل إكثاراً للإكرام ، والأحسن أن يدخل حرف العطف فيقول : وعليكم السلام . وهو واجب على الفور بقدر ما يعهد بين الإيجاب والقبول في العقود فإن أخر عن ذلك كان ابتداء سلام لا جواباً وإذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتابة أيضاً واجب لقوله : { وإذا حييتم بتحية فحيوا } ومن قال لآخر أقرىء فلاناً عني السلام وجب عليه أن يفعل . قال العلماء : المبتدىء يقول السلام عليكم والمجيب يقول : وعليكم السلام ليقع الابتداء والاختتام بذكر الله . فإن خالف المبتدىء فليكن الاختتام بحاله . ويجوز « سلام عليكم » بل قالوا إنه أولى من المعرف لأن المنكر في القرآن أكثر ، وإن المنكر ورد من الله والملائكة والمؤمنين ، والمعرف ورد في تسليم الإنسان على نفسه ، قال موسى : { والسلام على من اتبع الهدى } [ طه : 47 ] وقال عيسى : { والسلام عليّ يوم ولدت } [ مريم : 33 ] وأيضاً المعرف يدل على أصل الماهية والمنكر على الماهية مع وصف الكمال . ومن السنة أن يسلم الراكب لزيادة هيبته على الماشي ، وراكب الفرس على راكب الحمار ، والصغير على الكبير ، والأقل على الأكثر احتراماً للجماعة ، والقائم على القاعد لأنه الواصل إليه لأن القائم أهيب ومن السنة الجهر بالسلام لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب . ومنها الابتداء به إظهاراً للتواضع ، ومنها الإفشاء والتعميم لأن التخصيص إيحاش ، والمصافحة عند السلام عادة النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر » ومن استقبله رجل واحد فليقل : سلام عليكم وليقصد الرجل والملكين لأنه إذا سلم عليهما ردا السلام عليه ، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب الله ، ومن دخل بيتاً خالياً فليسلم ويكون كأنه سلام من الله على نفسه ، أو سلام على من فيه من مؤمني الجن ، أو طلب السلامة ببركة اسم السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات . ولو قال : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين كان حسناً ، ومن السنة أن يكون المبتدىء بالسلام على الطهارة وكذا المجيب . روي أن واحداً سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد الجواب . وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاستماع ، فإن سلم ورد بعضهم فلا بأس ، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن .
ومن دخل الحمام فرأى الناس متزرين سلم عليهم فإن لم يكونوا مترزين لم يسلم عليهم . والأولى ترك السلام على القارىء كيلا يقطع عليه باشتغاله بالجواب ، وكذا القول فيمن كان مشتغلاً برواية الحديث ومذاكرة العلم أو بالأذان أو الإقامة . ولا يسلم على المشغول بالأكل هكذا أطلق وحمله بعضهم على ما إذا كانت اللقمة في فيه . ولا يسلم على قاضي الحاجة قال أبو يوسف : ولا على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وكل من كان مشتغلاً بنوع معصية ، ولا مانع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة . وإذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فإن حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليها ، وإذا سلمت الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل . وحيث قلنا لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يبتدأ اليهودي بالسلام » وعن أبي حنيفة أنه قال : لا تبتدئه بسلام في كتاب ولا في غيره . وعن أبي يوسف : لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل : السلام على من اتبع الهدى . ولا بأس في الدعاء له بما يصلحه في دنياه ، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة ، أما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن نقول : وعليك لما روي أن اليهود تقول للمسلمين : السلام عليكم ، وعن الحسن : يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام ولا يقل : ورحمة الله . لأنها استغفار . وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه عليك السلام ورحمة الله فقيل له في ذلك؟ فقال : أليس في رحمة الله يعيش؟ واعلم أن مذهب أبي حنيفة أن من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها ، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها . وقال الشافعي : له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي . واحتج لأبي حنيفة بالآية وذلك أن التحية تشمل جميع أنواع الإكرام فتشمل الهبة ومقتضاها وجوب الرد إذا لم يصر مقابلاً بالأحسن ، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز ، وقال الشافعي : هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالإجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يثاب بالأحسن . ثم احتج الشافعي على قوله بما روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلاّ الوالد فيما يعطي ولده »
{ إن الله كان على كل شيء حسيباً } فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها ، فكونوا على حذر من مخالفته . ثم أكد الوعيد بقوله : { الله لا إله إلاّ هو ليجمعنكم } فالأول توحيد والثاني عدل كأنه تعالى يقول : من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامة وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا اله إلاّ هو ، وإنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون والآخرون للجزاء والحساب . وقوله : { لا إله إلاّ هو } إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر : { ليجمعنكم } والتقدير الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي ليضمنكم إليه ويجمعن بينكم وبينه بأن يبعثكم فيه ، والقيامة والقيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب . قال تعالى : { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] { ومن أصدق من الله حديثاً } استفهام على سبيل الإنكار ، وذلك أن الصدق من صفات الكمال والكمال للواجب أولى وأحق وأقدم وأتم من غيره ، والمعتزلة نفوا عنه الكذب بناء على أنه قبيح ، ومن كذب لم يكذب إلاّ لأنه محتاج إلى أن يكذب لجر منفعة أو دفع مضرة ، أو هو غني عنه إلاّ أنه يجهل غناه أو هو جاهل بقبحه ، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق ، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق ، وكل هذه الأمور من الحكيم قبيح يجب تنزيهه عنها ، واعلم أن المسائل الأصولية قسمان منها ما العلم بصحة النبوة يحتاج إلى العلم بصحته كعلمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات ، فهذا القسم يمتنع إثباته بالقرآن والخبر وإلاّ وقع الدور . ومنها غير ذلك كإثبات الحشر والنشر فإنه يمكن إثباته بالقرآن والحديث فاعلم .
ثم عاد إلى حكاية أحوال المنافقين فقال : { فما لكم في المنافقين فئتين } وهو منصوب على الحال والعامل معنوي مثل : ما لك قائماً أي ما تصنع؟ وقيل : نصب على أنه خبر « كان » أي ما لكم كنتم في شأن المنافقين فئتين؟ استفهام على سبيل الإنكار أي لا تختلفوا في كفرهم ، ولكن اقطعوا بنفاقهم فقد ظهرت دلائل ذلك وانكشفت جلية الحال . وذلك أنها نزلت في قوم من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابوا وباء المدينة وحماها فقالوا : يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فأذن لنا فيه فأذن لهم . فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين . فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم : نافقوا . وقال بعضهم : هم مسلمون . فبين الله نفاقهم . وقال مجاهد وقتادة : هم قوم هاجروا من مكة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا .
وعن زيد بن ثابت : هم الذين تخلفوا يوم أحد وقالوا : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . وطعن بعضهم في هذا القول بأن نسق الكلام وهو قوله : { حتى يهاجروا في سبيل الله } يأباه إذ الهجرة تكون من مكة إلى المدينة . وعن عكرمة : هم قوم أخذوا أموال المشركين وانطلقوا بها إلى اليمامة . وقيل : هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يساراً مولى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال ابن زيد : نزلت في أهل الإفك . قال الحسن : سماهم المنافقين وإن أظهروا الكفر باعتبار حالهم التي كانوا عليها . { والله أركسهم } الركس والإركاس رد الشيء مقلوباً . ويقال للرفث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حال النجاسة ويسمى رجيعاً أيضاً لذلك والمراد ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل { بما كسبوا } أي ما أظهروا من الارتداد بعدما كانوا على النفاق { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } لأن المخلوق لا يقدر على تبديل خلق الخالق وعلى خلاف مقتضى إرادته ومشيئته . وهذا ظاهر في المقصود . والمعتزلة يقولون : قوله : { أركسهم بما كسبوا } أي بسبب كسبهم وفعلهم ينفي القول بأن ضلالهم حصل بخلق الله فإذن المراد من إضلال الله حكمه بضلالهم كما يقال : فلان يكفر فلانأً أي ينسبه إلأى الكفر ويحكم عليه بذلك . أو المراد إضلالهم عن طريق الجنة وهو مفسر بمنع الألطاف . ثم ذكر أنهم بالغوا في الكفر إلى أن تمنوا أن تصيروا كفاراً فكيف تطمعون في إيمانهم وهو قوله : { ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } أي في الكفر . والمراد فتكونون أنتم وهو سواء إلاّ أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لتقدم ذكرهم . وقوله : { فتكونون } عطف على { تكفرون } . { فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا } أي حتى يضموا إلى إيمانهم المهاجرة الصحيحة المعتمدة وهي الهجرة في سبيل الله لا لغرض من الأغراض الفانية مثل قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا بريء من كل مسلم قام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك » وكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة . عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية » وعن الحسن : إن حكم الآية ثابت في كل من أقام يف دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائماً . قال المحققون : الهجرة في سبيل الله تشمل الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان ، والانتقال من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين بل هذا أقدم وأهم لقوله صلى الله عليه وسلم : « المهاجر من هجر ما نهى الله عنه » { فإن تولوا } عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم سائر المشركين { فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم } في الحل أو في الحرم { ولا تتخذوا منهم } في هذه الحالة { ولياً } يتولى شيئاً من مهماتكم { ولا نصيراًً } ينصركم على أعدائكم بل جانبوهم مجانبة كلية .
ثم لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى عنه موضعين : الأول { إلا الذين يصلون } أي ينتهون ويتصلون { إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق } والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلاً في عهدكم فهم أيضاً داخلون في عهدكم . قال القفال : وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلتجئوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه . والقوم هم الأسلميون وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال . وقال ابن عباس : هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح . وقال مقاتل : هم خزاعة وخزيمة . وههنا نكتة وهي أنه تعالى رفع السيف عمن التجأ إلى الكفار المصالحين فلان يدفع النار عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى . وعن أبي عبيدة : المراد بالوصلة الانتساب . يقال : وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتهيت إليه . وأعترض عليه بأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول صلى الله عليه وسلم من جهة النسب مع أنه كان قد أباح دم الكفار منهم . الاستثناء الثاني قوله : { أو جاؤكم } وفي العطف وجهان : أحدهما أن يكون معطوفاً على صفة قوم والمعنى إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم جاؤوكم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم . وثانيهما العطف على صلة الذين كأنه قيل : الذين يتصلون بالمعاهد أو إلى الذين لا يقاتلونكم وهذا أنسب بقوله في صفتهم { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } إلى آخر الآية . إذ بين أن كفهم عن القتال سبب استحقاقهم لنفي التعرض لهم بالاستقلال لا بواسطة الاتصال . ومعنى { حصرت صدورهم } ضاقت . والحصر الضيق والانقباض وهو في موضع الحال بإضمار « قد » بدلالة قراءة من قرأ { حصرة } . وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف منصوب على الحال أي جاؤوكم قوماً حصرت . وقيل : هو بيان لجاؤوكم . وقوله : { أن يقاتلوكم } أي عن أن يقاتلوكم . ثم هؤلاء الجاؤون من الكفار أو من المؤمنين قال الجمهور : هم من الكفار بنو مدلج جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين . وعلى هذا يلزم النسخ لأن الكافر وإن ترك القتال جاز قتله ، وقال أبو مسلم : إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر وهما طائفتان : إحداهما الذين قصدوا الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة والنصرة إلاّ أنه كان في طريقهم كفار غالبون فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص .
والثانية من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله فيه ، ولا يقاتل الكفار أيضاً لأنهم أقاربه أو لأنه بقي أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه . فهذان الفريقان من المشركين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ومقاتلة الكفار ، وعلى هذا فمعنى قوله : { ولو شاء الله لسلطهم عليكم } أي لو شاء لقوّى قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم . وعلى الأول معناه أن ضيق صدورهم عن قتالكم لأن الله قذف الرعب في قلوبهم ، ولو قوّى قلوبهم لتسلطوا عليكم ولقاتلوكم وهو جواب « لو » على التكرير أو البدل . قال الكعبي : إنه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا ينبىء عن القدرة على الظلم وهو صحيح عندنا ولا يدل على أنه فعل الظلم وأراده والنزاع فيه { فإن اعتزلوكم } أي فإن لم يتعرضوا لكم { وألقوا إليكم السلم } أي الانقياد والاستسلام { فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً } فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم { ستجدون آخرين } هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم { كلما ردوا إل الفتنة } كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين { أركسوا فيها } أي ردوا مقلوبين منكوسين فيها . وهذه استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين ، لأن من وقع في حفر منكوساً تعذر خروجه { فإن لم يتعزلوكم ويلقوا } أي ولم يلقوا ولم يكفوا { فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث تمكنتم منهم . قال الأكثرون : وفيه دليل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم . وهذا مبني على أن المعلق بكلمة « إن » على الشرط يعدم عند الشرط . أما قوله : { سلطاناً } فمعناه حجة واضحة لانكشاف حالهم في الكفر والغدر ، أو تسلط ظاهر حيث أذنا لكم في قتلهم .
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
القراآت : { فتثبتوا } من التثبت وكذلك في الحجرات : حمزة وعلي وخلف . والباقون { فتبيّنوا } من التبين { السلم } مقصوراً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وخلف والمفضل وسهل . الباقون بالألف . { غير } بالنصب : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي وخلف . الباقون { غير } بالرفع { الذين توفاهم } مشددة التاء : البزي وابن فليح .
الوقوف : { إلاّ خطأ } ج { يصدقوا } ط لابتداء حكم آخر . { مؤمنة } ط لذلك { مؤمنة } ج { متتابعين } ز لاحتمال كون { توبة } مصدراً لفعل محذوف والأوجه كونه مفعولاً له . { من الله } ط { حكيماً } 5 { عظيماً } 5 { مؤمناً } ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستفهاماً { الدنيا } ز لانقطاع النظم مع اتصال الفاء . { كثيرة } ط { فتبينوا } ط { خبيراً } 5 { وأنفسهم } الأول ط { درجة } ط { الحسنى } ط { عظيماً } 5 لا لأن ما بعده بدل { ورحمة } ط { رحيماً } 5 { فيم كنتم } ط { في الأرض } ط { فتهاجروا فيها } ط لتناهي الاستفهام بجوابه . { جهنم } ط { مصيراً } 5 للاستثناء . { سبيلاً } 5 لا { عنهم } ط { غفوراً } 5 { وسعة } ط { على الله } ط { رحيماً } 5 { من الصلاة } ق والأصح أن شرط تغليب في المسافر { كفروا } ط { مبيناً } 5 .
التفسير : لما لم يكن بد في مجاهدة الكفار من أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلاً يظنه كافراً حربياً فيقتله ثم يتبين أنه كان مسلماً ، ذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة وأمثالها في هذه الآيات . أما سبب النزول فقد روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول : إنه أبي فلم يفهموا قوله إلاّ بعد أن قتلوه . فقال حذيفة : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين . فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك زاد وقع حذيفة عنده ونزلت الآية . وقيل : نزلت في أبي الدرداء؛ وذلك أنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلاً في غنم له فحمل عليه بالسيف ، فقال الرجل : لا إله إلاّ الله فقتله وساق غنمه . ثم وجد في نفسه شيئاً فذكر الواقعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال : هلا شققت عن قلبه؟ وندم أبو الدرداء . والذي عليه أكثر المفسرين ما ذكره الكلبي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أسلم وخاف أن يظهر إسلامه فخرج هارباً إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمها ، ثم أتى أُطُماً من آطامها فتحصن فيه فجزعت أمه جزعاً شديداً وأقسمت لا تأكل ولا تشرب ولا يؤوبها سقف حتى يرجع . فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة وكان أبو جهل أخا عياش لأمه ، فأتياه وهو في ألأطم فقالا : انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك ، وحلفت لا تأكل طعاماً ولا شراباً حتى ترجع إليها ، ولم يزل يفتل منه أبو جهل في الذروة والغارب ويقول : أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ بأمك وأنت على دينك حتى نزل فذهب معهما .
فلما أخرجاه من المدينة وأوثقاه بنسعة وجلده كل منهما مائة جلدة ثم قدما به على أمه فقالت : والله ما أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به . ثم تركوه موثقاً في الشمس فأعطاهم بعض الذي أرادوا ، فأتاه الحرث بن زيد وقال : يا عياش ، والله لئن كان الذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى ، وإن كان ضلالة فقد دخلت الآن فيه . فغضب عياش من مقالته وقال له : هذا أخي - يعني أبا جهل - فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ ، إن وجدتك خالياً أن أقتلك . ثم إن عياشاً أسلم بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة واسلم الحرث بعده وهاجر وليس عياش يومئذ حاضراً ولم يشعر بإسلامه ، فبينما هو يسير بظهر قباء إذ لقي الحرث بن زيد ، فلما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس : أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم . فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كان من أمري وأمر الحرث ما علمت وإني لم اشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت { وما كان لمؤمن } أي ما صح له ولا استقام ، أو ما كان له فيما أتاه من ربه وعهد إليه ، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك . والغرض بيان أن حرمه القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف { إلا خطأ } إلاّ لهذا العذر وبهذا السبب فيكون مفعولاً له ، أو إلاّ في حال الخطأ أو إلاّ قتلاً خطأ . قال أبو هاشم - وهو أحد رؤساء المعتزلة - : التقدير ، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً فيبقى مؤمناً إلا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذٍ مؤمناً . { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير } فعليه إعتاق { رقبة } أي نسمة مؤمنة . والحر العتيق الكريم لأنّ الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العيبد ومنه غتاق الخيل والطير لكرامها ، وحر الوجه أكرم موضع منه . وعبر عن النسمة بالرقبة كما عبر عنها بالرأس في قولهم : « فلان يملك كذا رأساً من الرقيق » . { ودية مسلمة إلى أهله } الدية من الودي كالشية من الوشي . والأصل ودية وهي مخصوصة ببدل النفس دون سائر المتلفات ، وقد تستعمل في بدل الأطراف والأعضاء والمراد بالأهل الورثة { إلاّ أن يصدقوا } أي يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد . والتصدق الإعطاء والمراد ههنا العفو ومحله النصب على الظرف أو الحال والعامل . { مسلمة } أو عليه كأنه قيل : يجب عليه الدية أو يسلمها إلاّ زمان التصدق أو إلاّ متصدقين .
وههنا مسائل : الأولى القتل على ثلاثة أقسام : عمد وخطأ وشبه عمد . اما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان جارحاً أو لم يكن . وأما الخطأ فضربان : أحدهما أن يقصد رمي مشرك أو طائر فأصاب مسلماً ، والثاني أن يظنه مشركاً بأن كان عليه شعار الكفار . فالأول خطأ في الفعل ، والثاني خطأ في القصد . وأما شبه العمد فهو أن يضربه مثلاً بعصا خفيفة لا تقتل غالباً فيموت منه فهذا خطأ في القتل وإن كان عمداً في الضرب . الثانية قال أبو حنيفة : القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ أو شبه عمد فيكون داخلاً تحت الآية فيجب في الدية والكفارة ولا يجب فيه القصاص . وقال الشافعي : إنه عمد محض يجب فيه القصاص حجة الشافعي أنه قتل عمد عدوان أما إنه قتل فبقوله تعالى لموسى : { وقتلت نفساً فنجيناك من الغم } [ طه : 40 ] يعني القبطي إذ وكزه موسى فقضى عليه . وأما أنه عمد عدوان فظاهر لأن من ضرب رأس الإنسان بحجر الرحى أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت قتله عد ماجنا ، وإذا ثبت أنه قتل عمد عدوان فهو يوجب القصاص لقوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] وأن المقصود أن شرع القصاص صون الأرواح عن الإهدار والإهدار في المثقل كهو في المحدد ، والعلم الضروري حاصل بأن التفاوت في آلة الإهدار غير معتبر . حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم : « ألا أن قتيل العمد والخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل » هذا عام سواء كان السوط أو العصا صغيراً أو كبيراً ، وأجيب بأن العصا والسوط يجب حملهما على الخفيف ليتحقق معنى الخطأ ، فإن من ضرب رأس إنسان بقطعه جبل ثم قال : ما كنت أقصد قتله لم يعبأ بقوله . الثالثة قال أبو حنيفة : القتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه شرط في الآية أن يكون القتل خطأ ، وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط . وقال الشافعي : يوجبها لما روي أن واثلة بن الأسقع قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال : اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار . وأيضاً نص الله تعالى على الكفارة في قتل الصيد عمداً في الحرم وفي الإحرام فأوجبها على الخاطىء بالاتفاق ، فههنا نص على الخاطىء فبأن نوجبه على العامد كان أولى لأنه لما أخرج نفساً مؤمنة عن جملة الإحياء عمداً لزمه أن يدخل نفساً مثلها في جملة الأحرار لأن إطلاقها من قبل الرق كاحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار كما أن الميت ممنوع من التصرف مطلقاً ، ولتحقيق هذا المعنى أوجب أن تكون الرقبة كاملة الرق ، وأن تكون سليمة عن عيب مخل بالعمل كهرم وعمى وجنون .
الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي : لا تجزىء الرقبة إلاّ إذا صام وصلى لأنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة . والإيمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي . وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي : يجزىء الصبي إذا كان أحد أبويه مسلماً لأن حكمه حكم المؤمن . الخامسة أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفيتها وإنما عرفت من السنة . عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل . وهذه المائة إذا كان القتل خطأ مخمسة عشرون منها بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة . وبه قال مالك لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الخطأ بمائة من الإبل وفصلها كما ذكرنا . وأبدل أبو حنيفة وأحمد أبناء اللبون بأبناء المخاض ، لأن هذا الأقل متفق عليه والزائد منفي بالبراءة الأصلية . وقال غيرهما : أبناء المخاض غير معتبرة في باب الزكاة فيجب أن لا تعتبر في الدية التي سببها أقوى من السبب الموجب للزكاة . واتفقوا على أن الدية في العمد المحض مغلظة من ذلك التثليث في الإبل ، وهو أن يكون ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها . ومنه الحلول على قياس أبدال سائر المتلفات خلاف دية الخطأ فإنها مؤجلة الثلث في السنة الأولى ، والثلث الآخر في السنة الثانية ، والباقي في السنة الثالثة ، استفاض ذلك عن الخلفاء الراشدين ولم ينكره أحد فكان إجماعأً . ومنه ثبوتها في ذمة الجاني لا تحملها العاقلة خلاف دية الخطأ فإنها تكون على العاقلة لام روي أن امرأتين من هذيل اقتتلنا فرمت إحداهما الأخرة بحجر ، ويروى بعمود فسطاط . فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة القاتلة . وهذه صورة شبه العمد ، والتحمل في الخطأ أولى . وجهات التحمل ثلاث : القراب والولاء وبيت المال ، والقرابة يعني بها العصبة الذين هم على حاشية النسب وهم الإخوة وبنوهم . وقال أبو حنيفة ومالك : يتحمل الآباء والبنون كغيرهم ويراعى الترتيب في العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب ، فإن كان فيهم وفاء إذا وزع عليهم لكثرتهم أو لقلة المال وإلاّ شاركهم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم . وقال أبو بكر الأصم وجمهور الخوارج : الدية في الخطأ أيضاً تجب على القاتل كما أن تحرير الرقبة أيضاً عليه ويؤيده عطف الدية في الآية على التحرير . وأيضاً الجناية صدرت عنه فلا يعقل تضمين غيره كما في سائر الإتلافات . وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز ، وأجيب بإجماع الصحابة على ذلك . السادسة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل بإجماع المعتبرين من الصحابة ، ولأن المرأة في الميراث وفي الشهادة نصف الرجل فكذلك في الدية .
وقال الأصم وابن علية : ديتها مثل دية الرجل لعموم قوله : { ومن قتل مؤمناً } . السابعة غذا لم توجد الإبل فالواجب عند الشافعي في الجديد الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت وإنما تقوم بغالب نقد البلد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوّم الإبل على أهل القرى ، فإذا غلت رفع قيمتها . وإذا هانت نقص من قيمتها ، وقال أبو حنيفة : الواجب حينئذ ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وعند مالك الدراهم اثنا عشر ألفاً . الثامنة لا فرق بين هذه الدية وبين سائر الأموال في أنه يقضي منها الدين وينفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله لما روي أن امرأة جاءت في أيام عمر تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر : لا أعلم لك شيئاً إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه . فشهد بعض الصحابة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك . وعن ابن مسعود : يرث كل وارث من الدية غير القائل . وعن شريك : لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية . وعن ربيعة : الغرة لأم الجنين وحدها وهذا خلاف الجماعة .
واعلم أنّ الله تعالى ذكر في هذه الآية أن من قتل مؤمناً خطأ فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية ثم قال : { فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة } وسكت عن الدية . فالسكوت عن إيجاب الدية في هذه الصورة مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو قوله : { وإن كان من قوم من بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة } يدل على عدم وجوب الدية ههنا . ثم المعنيّ بقوله : { من قوم عدوّ لكم } إما أن يكون أن هذا المقتول من سكان دار الحرب أو أنه ذو نسب منهم مع أنه في دار الإسلام ، والثاني باطل بالإجماع لأن قتل هذا المسلم يوجب الدية ألبتة فتعين الأول . وإنما سقطت الدية لأن إيجاب الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب محوج إلى أن يبحث الغازي عن كل شخص من أشخاص قطان دار الحرب هل هو من المسلمين أم لا ، وذلك يوجب المشقة والنفرة عن الجهاد على أنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختيار السكنى فيهم . وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى لأنه أهلك إنساناً مواظباً على طاعته فيلزمه إقامة آخر مقامه يمكنه المواظبة عليها . أما قوله : { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } ففيه قولان : أحدهما أنّ المراد الذمي؛ فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب . وعن الحسن هم المعاهدون ومنه الذمي؛ فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب .
وعن الحسن هم المعاهدون وثانيهما أن المراد منه المسلم لأنه عطف على قوله : { فإن كان من قوم عدوّ لكم } والضمير فيه عائد إلى ما تقدم وهو المؤمن فكذا ههنا . واعترض عليه بلزوم عطف الشيء على نفسه لأنّ المؤمن المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو من أهل الذمة داخل تحت قوله : { من قتل مؤمناً خطأ } إلاّ أنه أفرد المؤمن الساكن في دار الحرب لأن من حكمه سقوط ديته وههنا لا غرض في الإفراد فيكون تكراراً محضاً . وأيضاً لو كان المراد ذلك لما كانت الدية مسلمة إلى أهله كفار لا يرثونه ولكان كونه منهم مبهماً مجملاً لأنه لا يدري أنه منهم في أي أمر من الأمور بخلاف ما لو حمل كونه منهم على الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما . وأجيب بأنه لما أفرد حكم المؤمن المقتول في دار الحرب للغرض الذي ذكر ، ثم أعاد ذكر المؤمن المقتول فيما بين المعاهدين تنصيصاً على الفرق بينه وبين ما قبله وتنبيهاً على التسوية بينه وبين المسلم المقتول في دار الإسلام . وأما أهله فهم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم ، وأما الإبهام فيزول إذا جعل « من » بمعنى « في » كما في الآية المتقدمة عليه . وههنا مسألة خلافية شرعية هي أن أبا حنيفة قال : دية الذمي مثل دية المسلم لقوله تعالى : { وإن كان } أي المقتول { من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية } وقال الشافعي : دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم ، ودية المجوسي ثلث خمسها هكذا روي من قضاء الصحابة . ولا يخفى أن استدلال أبي حنيفة لا يتم على الثاني من قول المفسرين في الآية ، وعلى القول الأول أيضاً يجوز أن يكون المراد بالدية الثانية مقداراً مغايراً للأول ، وههنا سؤال وهو أنه لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وفي الأخيرة عكس الترتيب؟ ويمكن أن يقال : الفائدة فيه أن يعلم أنه لا ترتيب بين التحرير والدية ، وأيضاً ليقع الافتتاح والاختتام بحق الله تعالى . ويترتب على التحرير قوله : { فمن لم يجد } أي رقبة بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين . ومتى يعتبر الإعسار ليجوز له العدول إلى الصوم؟ الأصح عند الشافعي وقت الأداء ، وعند بعضهم وقت الوجوب . وأما الشهران فهما هلاليان ألبتة . نعم لو ابتدأ في خلال الشهر تمم المنكسر ثلاثين . والمراد بالتتابع أن لا يفطر يوماً منهما ، فلو أفطر ولو بالمرض وجب الاستئناف إلاّ أن يكون الفطر بحيض أو نفاس ، وعن مسروق أن الصوم بدل من مجموع الرقبة والدية { توبة من الله } أي شرع لكم ما شرع قبولاً من الله ورحمة منه من تاب الله عليه إذا قبل توبته . ومعنى التوبة عن الخطأ أنه لا يخلو من ترك احتياط ومن ندم وأسف على ما فرط منه .
ويجوز أن يكون المعنى نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه أي تخفيفاً منه لأن التخفيف من لوازم التوبة . { وكان الله عليماً } بأنه لم يقصد ولم يتعمد { حكيماً } محكم الفعل لا يؤاخذ الإنسان بما لا يختار ولا يتعمد . وعند المعتزلة معنى الحكيم أن أفعاله واقعة على قانون الحكمة وقضية العدالة . ثم لما ذكر حكم القتل الخطأ أردفه ببيان حكم القتل العمد وله أحكام وجوب الدية والكفارة عند غير أبي حنيفة ومالك والقصاص كما مر في البقرة ، فلا جر اقتصر ههنا على بيان ما فيه من الإثم والوعيد ، ولا يخفى ما في الآية من التخويف والتهديد فلا جرم تمسكت الوعيدية بها في القطع بخلود الفاسق في النار . وأجيب بوجهين : الأول إجماع المفسرين على أنها نزلت في كافر قتل مؤمناً . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلاً في بني النجار وكان مسلماً ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسولاً من بني فهر وقال له : ائت بني النجار فاقرأهم السلام وقل لهم : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه ، وإن لم تعملوا له قاتلاً أن تدفعوا إليه ديته ، فأبلغهم الفهري ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ، والله ما نعلم له قاتلاً ولكنا نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب ، فأتى الشيطان مقيساً فوسوس إليه فقال : أي شيء صنعت تقبل دية أخيك فيكون عليك مسبة؟ اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية . فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيراً منها وساق بقتيها راجعاً إلى مكة كافراً وجعل يقول في شعره :
قتلت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارغ
وأدركت ثأري واضطجعت مؤسداً ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
فنزلت الآية فيه { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة فأدركه الناس بالسوق فقتلوه . الوجه الثاني أنه يجوز عندنا أن يخلف الله وعيد المؤمنين فإن خلف الوعيد كرم . وضعف الوجه الأول بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبأن ما قبل الآية وما بعدها في نهي المؤمن عن قتل المؤمن فكذا هذه الآية ، وبأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو مجرد القتل العمد ، وبأن الكفر بالاستقلال موجب لهذا الوعيد فأي فائدة في ضم القتل إليه؟ وإذا لا أثر للقتل في هذه الصورة فيكون الكلام جارياً مجرى قول القائل « إنّ من تنفس لجزاؤه جهنم » وزيف الوجه الثاني بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر .
وإذا جاز الكذب فيه لغرض إظهار الكرم فلم لا يجوز في القصص والأخبار وغير ذلك لغرض المصلحة؟ وفتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع . قال القفال : الآية تدل على أنّ جزاء القتل العمد هو ما ذكر . وقد يقول الرجل لغيره : جزاؤك أني أفعل بك كذا إلاّ أن لا أفعله . ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضاً لدلالة سائر الآيات كقوله : { من يعمل سوءاً يجز به } [ النساء : 123 ] { ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 8 ] على أنه يوصل الجزاء إلى المستحقين ، ولأن قوله : { وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً } صريح في أنه تعالى سيفعل به ذلك لا سيما وقد أخبر عنه بلفظ الماضي ليعلم أنه كالواقع . ولتأكد هذه المعاني نقل عن ابن عباس أن توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة . وعن سفيان كان أهل العلم إذا سألوا قالوا : لا توبة له . وحمله الجمهور على التغليظ والتشديد وإلاّ فكل ذنب ممحوّ بالتوبة حتى الشرك . هذا عند المعتزلة ، وعند الأشاعرة كل الذنوب يحتمل العفو إلاّ الشرك لقوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] .
ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال : { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا } لتفعل ههنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية { ولا تقولوا لما ألقى إليكم السلام } وهو والسلم بمعن الاستسلام ، وقيل الإسلام ، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام . قال السدي : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على سرية ، فلقي مرداس بن نهيك رجلاً من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهرب ثقة بإسلامه ، فقتله أسامة واستاق غنماً كانت معه . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم اخبره فقال : قتلت رجلاً يقول لا إله إلاّ الله . فقال : يا رسول الله إنما تعوذ من القتل . فقال : كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلاّ الله؟ قال : فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلاً وهو يقول لا إله إلاّ الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي كان يومئذٍ فنزلت الآية . وقد روى الكلبي وقتادة مثل ذلك . وقال الحسن : « إنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه ، فلما غشيه بالسنان قال : إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلاً ، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قتلته بعد ما زعم أنه مسلم . قال : يا رسول الله إنما قالها متعوّذاً . قال : فهلاّ شققت عن قلبه؟ قال : لم؟ قال : لتنظر أصادق هو أم كاذب . قال : وكنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال : ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه . قال : فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره . قال : ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أوثلاثاً . فلما رأو أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة »
قال الحسن : إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا . وعن سعيد بن جبير قال : خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال : لا إله إلاّ الله . فقتله المقداد . فقيل له : أقتلته وقد قال لا إله إلاّ الله؟ فقال : ودّ لو فرّ بأهله وماله . فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فنزلت . قال القفال : ولا منافاة بين هذه الروايات ، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته . وعن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرفع عنه الرمح » قال الفقهاء : توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية . وقال أبو حنيفة : إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية . وقال الشافعي : لا يصح وإلاّ لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذناً في الكفر وهو يغر جائز ، لكنه غير واجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ » وقال أكثر الفقهاء : لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه . ولو قال لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمداً الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد ، فلا بد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل ، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق . { تبتغون عرض الحياة الدنيا } قال أبو عبيدة : جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء . يقال : إنّ الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر ، سمي عرضاً لأنه عارض زائل غير باقٍ ، ومنه العرض لمقابل الجوهر لقلة ثباته كما قيل : العرض لا يبقى زمانين { فعند الله مغانم كثيرة } يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام متعوّذاً به لتأخذوا ماله . وقيل : يريد ما أعدّ لعباده من حسن الثواب في الآخرة { كذلك كنتم من قبل } اختلفوا في وجه الشبه فقال الأكثرون : يريد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دمائكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم { فمنّ الله عليكم } بالاستقامة والاشتهار بالإيمان وأن صرتم أعلاماً فيه ، فعيلكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام ما فعل بكم .
واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف ، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر؟ وعن سعيد بن جبير : المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه { فمنّ الله عليكم } بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم . وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عاماً فيهم . وفي التفسير الكبير : المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان ، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه . وقيل : إنّ قوله : { فمنّ الله عليكم } منقطع عما تقدمه . وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلاّ الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر ، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير ، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال : { إنّ اله كان بما تعملون خبيراً } وفيه من الوعيد ما فيه .
ولما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم وبدر عنهم كان مظنة أن يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد فذكر من فضل الجهاد ما يزيح علّتهم ويزيد رغبتهم ، أو نقول : لما نهاهم عما نهاهم أتبعه فضيلة الجهاد ليبلغوا في الاحتراز عما يوجب خللاً في هذا المنصب الجليل فقال : { لا يستوي القاعدون } عن زيد بن ثابت قال : « كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } ولم يذكر { أولى الضرر } فقال ابن أم مكتوم : فكيف وأنا أعمى لا أبصر؟ قال زيد : فتغشّى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي فاتكأ على فخذي؛ فوالذي نفس بيده لقد ثقل عليّ حتى خشيت أن يرضها ثم سري عنه فقال : اكتب : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون } فكتبتها » رواه البخاري . والمراد بالضرر النقصان سواء كان في البنية كعمى وعرج ومرض أو بسبب عدم الأهبة . من قرأ { غير } بالنصب فعلى الاستثناء من القاعدين أو على الحال عنهم ، ومن قرأ بالرفع فعلى أنه صفة للقاعدين ويجوز أن يكون غير صفة للمعرفة كما سبق في تفسير { غير المغضوب عليهم } [ الفاتحة : 7 ] وقرىء بالجر على أنه صفة للمؤمنين .
قال الزجاج : ويجوز أن يكون رفعأً على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدين ، إلاّ أولي الضرر فإنه يساوون المجاهدين بدليل قوله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من بعض غزواته « لقد خلفتم بالمدينة أقوماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر » وعنه صلى الله عليه وسلم : « إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ » ويعلم منه أن صحة النية وخلوص الطوية لها مدخل عظيم في قبول الأعمال . وذكروا في معنى قوله : « نية المؤمن أبلغ من عمله » أنّ ما ينويه المؤمن أبلغ من عمله إذ ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبداً خير من عمله الذي أدركه في مدة حياته . قيل : إنه قدّم ذكر النفس على المال في قوله : { إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] وههنا أخر لأنّ النفس أشرف من المال . فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيهاً على أنّ الرغبة فيها أشد ، والبائع أخر تنبيهاً على أنّ المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها ، إلاّ في آخر الأمر . وفائدة نفي الاستواء ومعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان تبيين ما بينهما من التفاوت ليهتم القاعد للجهاد ويترفع بنفسه عن انحطاط مرتبته فيجاهد كقوله : { هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] تحريكاً للجاهل لينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم . ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزيادة والنقصان فأوضح الحال بقوله : { فضل الله المجاهدين } كأنه قيل : مالهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك . وانتصب { درجة } على المصدر لأن الدرجة بدل على التفضيل . وقيل : حال أي ذوي درجة . وقيل : بنزع الخافض أي بدرحة . وقيل : على الظرف أي في درجة { وكلا } وكل فريق من القاعدين والمجاهدين { وعد الله الحسنى } أي المثوبة الحسنى وهي الجنة . قال الفقهاء : فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية إذ لو كان واجباً على التعيين لم يكن القاعد أهلاً للوعد . وانتصب { أجراً } بفضل لأنّ التفضيل يدل على الأجر . وههنا سؤال وهو أنه لم ذكر أولاً درجة وثانياً درجات؟ وأجيب بأن اللام في قوله أوّلاً على القاعدين للعهد والمراد بهم أولو الضرر ، وقوله ثانياً على القاعدين للأصحاء الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو فرض كفاية . وقيل : المراد بالدرجة جنسها الذي يشمل الكثير بالنوع وهي الدرجات الرفيعة والمنازل الشريفة والمغفرة والرحمة . وقيل : المراد بالدرجة والغنيمة في الدنيا ، وبالدرجات مراتب الجنة . قيل : المراد بالمجاهد الأول صاحب الجهاد الأصغر وهو الجهاد بالنفس والمال ، وبالمجاهد الثاني صاحب الجهاد الأكبر وهو المجاهد بالرياضة والأعمال . واستدلت الشيعة ههنا بأنّ علياً رضي الله عنه أفضل من أبي بكر وغيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهد وهم بالإضافة إليه قاعدون بما اشتهر من وقائعه وأيامه وشجاعته وحماسته .
أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفاً والاحتياج إلى المدد شديداً ، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قوياً . والحق أنه لا تدل الآية إلاّ على تفضيل المجاهدين على القاعدين ، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا . قالت المعتزلة : ههنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل ، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجراً . وأجيب بأنّ العمل على الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشاعر ذلك العمل موجباً له . قالت الشافعية : الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله : { وفضل الله المجاهدين } عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية ، والمشتغل بالنكاح قاعد ، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح .
ثم لما ذكر ثواب المجاهدين أتبعه وعيد القاعدين الراضين بالسكون في دار الكفر فقال : { إنّ الذين توفاهم } وأنه يحتمل أن يكون ماضياً فيكون إخباراً عن حال قوم انقرضوا ومضوا . عن عكرمة عن ابن عباس قال : كانوا قوماً من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم فنزلت الآية . ويحتمل أن يكون مستقبلاً بحذف إحدى التاءين فيكون الوعيد عاماً في كل من كان بهذه الصفة . قال الجمهور : معنى { تتوفاهم } تقبض أرواحهم عند الموت . ولا منافاة بينه وبين قوله : { الله يتوفّى الأنفس } [ الزمر : 42 ] { قل يتوفاكم ملك الموت } [ السجدة : 11 ] لأنه تعالى هو المتوفى والفاعل لكل الأشياء بالحقيقة إلاّ أن الرئيس المفوّض إليه هذا العمل ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه . وعن الحسن : { توفاهم الملائكة } أي يحشرونهم إلى النار . أما قوله : { ظالمي أنفسهم } فمنصوب على الحال عن مفعول توفي والإضافة فيه لفظية ولذا لم تفد تعريفاً فصح وقوعه حالاً . والظلم قد يراد به الشرك { إنّ الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة . وقد يراد به المعصية { فمنهم ظالم لنفسه } [ فاطر : 32 ] فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار الإسلام حين كانت الهجرة فريضة . وفي خبر « إنّ » وجوه : الأول { قالوا فيم كنتم } والعائد محذوف للدلالة أي قالوا لهم . الثاني { فأولئك } فيكون { قالوا } حالاً من الملائكة بتقدير « قد » . الثالث إنّ الخبر محذوف وهو هلكوا . ثم فسر الهلاك بقوله : { قالوا فيم كنتم } أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والمراد التوبيخ على ترك الجهاد والرضا بالسكنى في دار الكفر وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم ليسوا من الدين في شيء ، ولهذا لم يجيبوا بقولهم كنا في كذا أو لم نكن في شيء بل أجابوا بقولهم : { كنا مستضعفين } اعتذاراً مما وبخوا به واعتلالاً بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة من أرض مكة حتى يكونوا في شيء .
ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر فبكتوهم قائلين : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمتنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة . ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين من الرجال والنساء والولدان . فسئل لم عدّ الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد ، ومن حق الاستثناء أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج وليس الولدان من أصحاب الوعيد لأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ وأجيب بأنّ المراد بالولدان العبيد والإماء البالغون ، أو المراد المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله . سلمنا أن المراد بهم الأطفال لكن السبب في سقوط الوعيد هو العجز وإنه حاصل في الولدان فحسن استثناؤهم بهذا الوجه . وقوله : { لا يستطيعون } قيل في موضع الحال ، والأصح أنه صفة للمستضعفين . وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأنّ المعرف تعريف الجنس قريب من المنكر . والمعنى أنّ العاجزين هم الذين لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ، أو يكون بهم مرض ، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم عن المهاجرة . ومعنى { لا يهتدون سبيلاً } لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلّهم على الطريق . وإنما قال سبحانه : { فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } بكلمة الإطماع تنبيهاً على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى إن المضطر من حقه أن يعفو الله عنه بل يكون من العفو على ظن وحسبان لا على جزم وإيقان ، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز ولا يكون في الواقع كذلك لأنّ الفطام عن المألوف شديد والفراق عن الأوطان شاق ، فلعل حب الوطن يحمله على تأويل غير سديد . ومع قيام هذا الاحتمال أنى يحصل الجزم بالعفو هذا من جانب العبد . وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب . فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلاّ مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضاً يخرج مما قلنا : { وكان الله عفوأً غفوراً } قال الزجاج : أي كان في الأزل موصوفاً بهذه الصفة ، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره . وأيضاً لو قال إنه عفو غفور كان إخباراً عن كونه كذلك وحيث قال كان دل على أنه إخبار وقع مخبره على وفقه فكان أدل على كونه حقاً وصدقاً . قالت الأشاعرة : أخبر عن العفو والمغفرة مطلقاً غير مقيد بحال التوبة فدل على أن العفو مرجو من غير التوبة . قال ابن عباس في رواية عطاء : كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن ، فكتب إليهم : { إِنّ الذين توفاهم الملائكة } الآية .
فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليثي لبنيه - وكان شيخاً كبيراً - احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي إلى الطريق . فحمله بنوه على سرير متوجهاً إلى المدينة ، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات حميداً . فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : فقالوا : لو وافى المدينة لكان أتم أجراً فأنزل الله تعالى فيه : { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً } أي مذهباً ومهرباً ومضطرباً قاله الفراء . وفي الكشاف يقال : راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك وأصله من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون : رغم أنفه يريدون أنه وصل إليه شيء يكرهه ، وذلك لأنّ الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة . ويمكن أن يقال : إنّ من فارق أهل بلدته فإذا استقام أمره في بلدة أخرى رغمت أنوف أهل بلدته بسبب سوء معاملتهم معه .
واعلم أنه سبحانه لما رغب في الهجرة ذكر بعده ما لأجله يمتنع الإنسان عن هجرة الوطن ، وبين الجواب عنه والمانع أمران : الأوّل أن يكون له في وطنه نوع رفاهية وراحة فيخاف زوال ذلك عنه فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { ومن يهاجر } كأنه قيل للمكلف إن كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفاً من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإنّ الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب السنية في مهاجرك ما يكون سبباً لرغم أنوف أعدائك ، ويصير سبباً لسعة عيشك ، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج المهاجر بدولته من حيث إنها سبب رغم آناف الأعداء أشد من ابتهاجه بها من حيث إنها سبب سعة رزقه وعيشه . المانع الثاني أن الإنسان يقول : إن خرجت من بيتي في طلب العمل والجهاد والمهاجرة إلى الله ورسوله ، وفي معناه كل غرض ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهداً في الدنيا وابتغاء رزق طيب ، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه ، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة لطلب شيء مظنون ، فأجاب الله سبحانه عنه بقوله : { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } قال بعضهم : ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل ، وأما أجر تمام العمل فمحال . والصحيح أن المراد من قصد طاعة ثم عجز عن إتمامها فإن له ثواب تمام تلك الطاعة كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« إن المريض إذا عجز عما كان يفعله من الطاعة في حال الصحة كتب له ثواب مثل ذلك إلى أن يبرأ » وأيضاً من المعلوم أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر فلا يبقى في الآية فائدة الترغيب . وأيضاً لا تكون الآية جواباً عن قول الصحابة في ضمرة لو وافى المدينة لكان أتم أجراً . قالت المعتزلة : في الآية دليل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأن الوقوع والوجوب السقوط . قال تعالى : { فإذا وجبت جنوبها } [ الحج : 36 ] أي وقعت وسقطت ولفظ الأجر وكلمة « على » يؤكدان ما قلنا ، وأجيب بأنا لا ننازع في أن الثواب يقع ألبتة لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم . واستدل بعض الفقهاء بالآية على أن الغازي ، إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة كما وجب أجره ، وُردَّ بأن قسم الغنيمة يتوقف على حيازتها بخلاف الأجر . { وكان الله غفوراً رحيماً } يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدين . ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال : { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } يقال : قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى . ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلاّ أنه ليس صريحاً في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها . والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين ، ويبقى المغرب والصبح بحالهما ، وعن ابن عباس : فرض الله صلاة الحضر أربعاً ، وصلاة السفر ركعتين ، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم . وعنه أيضاً أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيمان مقام الركوع والسجود ويؤكد هذا الرأي بقوله : { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما ، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما . حجة الجمهور ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } ؟ فقال عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده حديث ذي اليدين : « أقصرت الصلاة أم نسيت؟ » وأيضاً القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك ، فجمل الكلام على ما لا يلزم من التكرار أولى . أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر ، على أن كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة .
ثم إن الشافعي قال : القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله : { لا جناح عليكم } مشعر بعدم الوجوب ، ولما روي أن عائشة رضي الله عنها قالت : « اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما قدمت مكة قلت : يا رسول الله بأبي وأمي قصرت . وأتممت وصمت وأفطرت . فقال : أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ » وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه . وقال أبو حنيفة : القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعاً ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما روي عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافراً صلى ركعتين ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « فاقبلوا صدقته » وظاهر الأمر للوجوب . وعن عائشة : أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر . قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فما تصنع بقوله : { فليس عليكم جناح أن تقصروا } قلت : كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصاناً في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه . وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر ، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر . وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسداً لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل . وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعاً لا على أن الإتمام غير جائز ، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر . ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله : { وإذا ضربتم في الأرض } وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص ، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام ، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر . وقال أنس بن مالك : المعتبر خمسة فراسخ . وقال الحسن : مسيرة ليلتين . وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير : من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام . وهو قول أبي حنيفة قياساً على مدة جواز المسح للمسافر ، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان »
والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل أثنا عشر ألف قدم وهي أربعة آلاف خطوة ، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة . قالت الفقهاء : فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر . وقال أهل الظاهر : اضطراب السلف في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلاً قوياً فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن . { إن الكافرين كانوا لكم عدواً مبيناً } يريد أن العدواة الحاصلة بينكم وبينهم قديمة فكونوا على حذر منهم .
التأويل : ليس لمؤمن الروح أن يقصد قتل مؤمن القلب إلاّ أن يكون قتل خطأ؛ وذلك أن الروح إذا خلص عن حجب ظلمات الصفات البشرية يتجلى الروح للقلب فيتنور بأنوار الروحانية ، ثم تنعكس أنوار الروح عن مرآة القلب إلى النفس الأمارة فتموت عن صفاتها الذميمة الظلمانية ، وتحيا بالصفات الحميدة الروحانية ، وتطمئن إلى ذكر الله كاطمئنان القلب به ، ففي بعض الأحوال يتأيد الروح بوارد روح قدسي رباني ويتجلى في تلك الحالة الروح للقلب فيخر موسى القلب صعقاً ميتاً بسطوة تجلي الروح القدسي الرباني ويجعل جبل النفس دكاً . وكان قتله خطأ لأنه ما كان مقصوداً بالقتل في هذا التجلي وكان القصد تنويره وتصفيته وقتل النفس الكافرة . { من قتل مؤمناً } أي قلباً مؤمناً : { فتحرير رقبة مؤمنة } وهي رقبة السر الروحاني فتصير رقبة السر محررة عن رق المخلوقات { ودية مسلمة إلى أهله } يعني يسلم العاقلة - وهو الله تعالى - دية القلب إلى أهل القلب وهم الأوصاف الحميدة الروحانية من جمال كمال ألطافه لتصير الأوصاف بها أخلاقاً ربانية إلاّ أن تتصدق الأوصاف بهذه الدية على مساكين أوصاف النفس الحيوانية والشيطانية { فإن كان } القتيل بالتجلي { من قوم عدوّ لكم } أي من صفات النفس { وهو مؤمن } أي هذه الصفة قد آمنت بأنوار الروح القدسي دون أخواتها من الصفات : { فتحرير رقبة مؤمنة } وهي رقبة القلب تصير محررة عن رق حب الدنيا ولادية لأهل القتيل . { وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } وهم صفات النفس وميثاقها قبول أحكام الشرع ظاهراً وترك المحاربة مع القلب وأوصافه { فدية مسلمة } على عاقلة الرحمة إلى أهل تلك الصفة المقبولة وهم بقية صفات النفس كما قال تعالى : { إلاّ ما رحم ربي } [ يوسف : 53 ] وتحرير رقبة مؤمنة وهي رقبة الروح يصيرها محررة عن رقة الكونين . { فمن لم يجد } رقبة مؤمنة من الروح والقلب والسر للتحرير بأن تكون رقابهم قد حررت عن رق ما سوى الله : { فصيام شهرين متتابعين } أي فعليه الإمساك وعن مشارب العالمين على التتابع والدوام مراقباً قلبه لا يدخله شيئاً من الدنيا والآخرة مراعياً وقته . فلو أفطر بأدنى شيء من المشارب كلها يستأنف الصوم ولا يفطر بشيء دون لقاء الله تعالى .
قال قائلهم :
لقد صام طرفي عن شهود سواكم ... وحق له لما اعتراه نواكم
يعيد قوم حين يبدو هلالهم ... ويبدو هلال الصب حين يراكم
{ توبة من الله } جذبة منه . { ومن يقتل مؤمناً متعمداً } أي النفس الكافرة إذا قتلت قلباً مؤمناً متعمداً للعداوة الأصلية بينهما ففي حياة أحدهما موت الآخر { فجزاؤه جهنم } وهي سفل عالم الطبيعة . { إذا ضربتم في سبيل الله } بقدم السلوك حتى صار الإيمان إيقاناً والإيقان إحساناً والإحسان عياناً والعيان عيناً والعين شهوداً والشهود شاهداً والشاهد مشهوداً وهذا مقام الشيخوخة { فتبينوا } عن حال المريد في الرد والقبول { ولا تقولوا } له { لست مؤمناً } صادقاً ولا تنفروه بالتشديدات والتصرف في النفس والمال { تبتغون عرض الحياة الدنيا } أي تهتمون أجل رزقه فإن الضيف إذا نزل نزل برزقه { كذلك كنتم } ضعفاء في الصدق والطلب محتاجين إلى الصحبة في بدو الإرادة { فمنّ الله عليكم } بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم { إن الذين توفاهم الملائكة } هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها { فيم كنتم } في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري ، وفي أي واد من أودية الهوى تهيمون ، وفي أي روضة من رياض الدنيا تسرحون؟ أكنتم تؤثرون الفاني على الباقي وتنسون الشراب الطهور والساقي؟ { مستضعفين } عاجزين لاستيلاء النفس الأمارة وغلبة الهوى { ألم تكن أرض الله } أي أرض القلب { واسعة } فتخرجوا عن مضيق سجن البشرية إلى قضاء هواء الهوية { لا يستطيعون حيلة } في الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال { ولا يهتدون سبيلاً } إلى صاحب ولاية وهؤلاء المستضعفون هم الخواص المقتصدون ، وأما خواص الخواص ، وهم السابقون بالخيرات فهم المجاهدون الجهاد الأكبر وقد مر . { ومن يهاجر } عن بلد البشرية في طلب حضرة الربوبية { يجد } في أرض الإنسانية { مراغماً } متحوّلاً ومنازل مثل القلب والروح والسر { وسعة } في تلك العوالم من رحمة الله : { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] « لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن » فافهم يا قصير النظر كثير الفكر قليل العبر والله أجل وأكبر .
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
القراآت : { عن أسلحتكم وأمتعتكم } عباس بالاختلاس . { اطمأننتم } وبابه بغير همز : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف . { بريا } بالتشديد : يزيد والشموتي وحمزة في الوقف .
الوقوف : { من ورائكم } ج . { وأسلحتهم } ط لانقطاع النظم مع اتصال المعنى . { واحدة } ط { أسلحتكم } ج { حذركم } ط { مهيناً } ه { وعلى جنوبكم } ط للابتداء باذا الشرطية مع الفاء . { الصلاة } ج لاحتمال فإن أو لأن { موقوتاً } ه { القوم } ط { كما تألمون } لا لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال : { ما لا يرجون } ط { حكيمأً } ه { اراك الله } ط لأن ما بعد استئناف . { خصيماً } ه لا للعطف { واستغفر الله } ط { رحيماً } ه للآية مع العطف . { أنفسهم } ط { أثيماً } ه ج لاحتمال ما بعد الوصف . { من القول } ط { محيطاً } ه ط { وكيلاً } ه { رحيماً } ه { على نفسه } ط { حكيماً } ه { مبيناً } ه { يضلوك } ط { من شيء } ط { تعلم } ط { عظيماً } ه .
التفسير : قال أبو يوسف والحسن بن زياد : صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم ولا تجوز لغيره لقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم } ولأن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلاّ أنا جوّزنا ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لفضيلة الصلاة خلفه فينبغي لغيره على المنع . وجمهور الفقهاء على أنها عامة لأن أئمة الأمة نواب عنه في كل عصر؛ ألا ترى أن قوله : { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصاً به دون أئمة أمته؟ وذهب المزني إلى نسخ صلاة الخوف محتجاً بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في حرب الخندق ، وأجيب بأن ذلك قبل نزول الآية . عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي المشركين بعسفان ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض : كأن هذا فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم . فقال قائل منهم : فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها فأنزل الله عز وجل على نبيه : { وإذا كنت فيهم } إلى آخر الآية أما شرح صلاة الخوف فهو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بإحداهما ركعة واحدة ، ثم إذا فرغوا من الركعة سلموا منها ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم . وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة فللإمام ركعتان وللقوم ركعة ، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد . وقال الحسن البصري : إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم ، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدّو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل .
وليس في هذه الصلاة إلاّ اقتداء مفترض بمتنفل ، فإن الصلاة الثانية نافلة للإمام لا محالة . وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء . وقال الشافعي إن كان العدو في جهة القبلة صلى الإمام بجميع العسكر إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى ، فإذا حان وقت السجدة حرست فرقة إما صف أو فرقة من صف إلى أن يفرغ الإمام وغير الحارسة من السجدتين ، فإذا فرغ الإمام منهما سجدت الفرقة الحارسة ولحقت به حيث أمكنها ، وإذا سجد الإمام الركعة الثانية حرست فرقة إما الفرقة الحارسة في الركعة الأولى أو الفرقة الأخرى وهذه أولى . فإذا فرغ الإمام من السجود سجدت الحارسة ولحقت بالإمام في التشهد ليسلم بهم وليس في هذه الصلاة إلاّ التخلف عن الإمام بأركان السجدتين والجلسة بينهما ، واحتمل لحاجة الخوف وظهور العذر وبمثله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، وأما إن لم يكن العدوّ في وجه القبلة أو كانوا بحيث يمنعهم شيء من أبصار المسلمين صلى الإمام في الثنائية كالصبح أو الرباعية المقصورة بكل فرقة ركعة ، وذلك أن ينحاز الإمام بفرقة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم ركعة ، فإذا قام إلى الثانية انفردوا بها وسلموا وأخذوا مكان ، إخوانهم في الصف ، وانحاز الصف المقاتل إلى الإمام وهو ينتظر لهم واقتدوا به في الثانية ، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية ولحقوا به قبل السلام وسلم بهم ، وهذه صلاة ذات الرقاع رواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو حنيفة : ويروى عن ابن عمر وابن مسعود أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة ويعودون إلى وجه العدو تأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو ، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة . والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة فهي في حكم من خلف الإمام ، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته . ولا خلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى بهذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصالح ، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أيّ هذه الأقسام . فقال الواحدي : { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية كما هو مذهب الشافعي . وأما عند أبي حنيفة فالطائفة الثانية تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها . وأيضاً قوله : { فليصلوا معك } ظاهرة يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام .
قال أصحاب أبي حنيفة : { فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم } يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة . أجاب الواحدي بأن هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة ، لكن السجود للأولى والكون من الوراء الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية ، أو معنى سجدوا صلوا وحينئذٍ لا يبقى إشكال وأيضاً الذي اختاره الشافعي أحوط لأمر الحرب فإنها أخف على الطائفتين جميعأ والحراسة خارج الصلاة أهون وليس فيها ما في غيرها من زيادة الذهاب والرجوع وكثرة الأفعال والاستدبار وليس فيها إلاّ الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية وذلك جائز على الأصح في الأمن أيضاً ، وإلاّ انتظار الإمام بالطائفة الثانية مرتين وإن كانت الصلاة مغرباً فيصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ويجوز العكس . وإن كانت رباعية فيصلي بكل طائفة ركعتين ، ويجوز أن يفرقهم أربع فرق إن مست الحاجة إليه بأن لا يكفي نصف المسلمين لعدوهم . واعلم أن الصلاة على الوجه المشروع ليست عزيمة بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فيصلي بترك فضيلة الجماعة ويتنافسون في الاقتداء به فأمره الله تعالى بترتيبهم هكذا لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبير معه ، والأخرى فضيلة التسليم معه . فالخطاب في قوله : { وإذا كنت } للنبي صلى الله عليه وسلم أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمن في غزواتهم وخوفهم { فأقمت لهم الصلاة } فاجعلهم طائفتين { فلتقم طائفة منهم معك } فصل بهم { وليأخذوا أسلحتهم } فإن كان الضمير لغير المصلين فلا كلام ، وإن كان للمصلين فليأخذوا من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر ، ويحتمل أن يكون أمراً للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط . ثم قال للطائفة الثانية : { وليأخذوا حذرهم } فكأنه جعل الحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي . وفيه رحمة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة . وإنما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعاً لأن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين في الصلاة بل يظنونهم قياماً للمحاربة ، وأما في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأولين فربما ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم كما ذكرنا في سبب النزول ، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير { ميلة واحدة } شدة واحدة . ثم رخص لهم في وضع السلاح إذا أصابه بلل المطر فيسود وتفسد حدته وجدته أو يثقل على المرء إذا كان محشواً ، وحين كان الرجل مريضاً فيشق عليه حمل السلاح ولكنه أعاد الأمر بأخذ الحذر لأن الغفلة عن كيد العود لا تجوز بكل حال . قال بعض العلماء أخذ السلاح في صلاة الخوف سنة مؤكدة والصح أنه واجب لأن ظاهر الأمر للوجوب ، ولأن رفع الجناح عند العذر ينبىء عن وجود الجناح في غير ذلك الوقت لكن الشرط أن لا يحمل سلاحاً فحسب أن أمكنه ، ولا يحمل الرمح إلاّ في طرف الصف .
وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد وفي هذا دليل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عيله وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذراً غير غافل عن كيد العدو ، فلا يكون شيء من الروايات الواردة فيها على خلاف نص القرآن وكما أن الآية دلت على وجوب الحذر عن العدو كذلك تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنون ، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء في الجلوس تحت الجدار المائل واجباً . قالت المعتزلة : لو لم يكن العبد قادراً على الفعل والترك ، وعلى جميع وجوه الحذر لم يكن للأمر بالحذر فائدة . والجواب أن لا ننكر الأسباب لكنا ندعي انتهاء الكل إلى مسببها ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله أعد للكافرين عذاباً مهيناً } ليعلموا أنه تعالى رتب على هذا الحذر كون الكفار مخذولين مقهورين وكان كما أخبر . أما قوله : { فإذا قضيتم الصلاة } ففيه قولان : الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحرب جدير بذكر الله وإظهار الخشوع واللجا إليه . الثاني أن المراد بالذكر الصلاة أي صلوا قياماً حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة ، وقعوداً جاثين على الركب حال اشتغالكم بالرمي ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح . وأورد على هذا القول أن الذكر بمعنى الصلاة مجاز وأن المعنى يصير حينئذٍ : فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وفيه بعد اللهم إلاّ أن يقال : المراد فإذا أردتم قضاء الصلاة فصلوا في شدّة التحام القتال .
واعلم أن الآية مسبوقة بحكمين : أحدهما بيان القصر في صلاة المسافر والثاني بيان صلاة الخوف . فقوله : { فإذا اطمأننتم } يحتمل أن يراد به فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر ألبتة . ويحتمل أن يراد فإذا زال الخوف وحصل سكون القلب فأقيموا الصلاة التي كنتم تعرفونها من غير تغيير شيء من هيئاتها { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي مكتوبة موقوتة محدودة بأوقات لا يجوز إخراجها عنها ولو في شدة الخوف ، وفيه دليل للشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في في حال المسايفة والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها . وعند أبي حنيفة هو معذور في تركها إلى أن يطمئن . وأوقات الصلاة الخمس مشهورة وقد يستدل عليها بقوله : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] فإن الوسطى يجب أن تكون مغايرة للصلوات لئلا يلزم التكرار فهي زائدة على الثلاث ، ولو كان الواجب أربعاً لم يوجد لها وسطى فإذاً أقلها خمس وسيجيء آيات أخر دالة على الأوقات الخمس كقوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل } [ هود : 114 ] { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] وسنشرحها إن شاء الله تعالى في مواضعها .
قال المحققون : إن للإنسان خمس مراتب : سن النمو إلى تمام سن الشباب ، وسن الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشخص على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان ، وسن الكهولة ويظهر فيها نقصان خفي في الإنسان ، وسن الشيخوخة ويظهر فيها نقصانات جلية فيه إلى أن يموت ويهلك . وأما المرتبة الخامسة فهي أخباره وآثاره إلى أن يندرس وينطمس ويصير كأن لم يكن ، وكذا الشمس إذا ظهر سلطانها من المشرق لا يزال يزداد ضياؤها إلى طلوع جرمها ، ثم يزداد ارتفاعها شيئاً بعد شيء إلى أن يبلغ وسط السماء ، ثم يظهر فيها نقصانات خفية من الانحطاط وضعف النور والحر إلى وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله ، ثم تظهر النقصانات الجلية إلى أن يصير في زمان لطيف ظل كل شيء مثليه ، ثم أزيد إلى أن تغرب ، ثم يبقى أثرها في أفق المغرب وهو الشفق ، ثم ينمحي حتى يصير كأن الشمس لم توجد قط . فهذه الأحوال الخمس أمور عجيبة لا يقدر عليها إلاّ خالقها وخالق جميع الأشياء ، وموافقة لأسنان الإنسان فلهذا تعينت أوقاتها للعبادة والإقبال على المعبود الحق تعالى جده . ثم عاد إلى الحث على الجهاد فقال : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } لا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بما يقلقهم . ثم ألزمهم الحجة بقوله : { إن تكونوا تألمون } والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ولكم مع ذلك رجاء الثواب على الجهاد دونهم لأنهم ينكرون المعاد فأنتم أولى بالصبر على القتال والحد فيه منهم ، ويحتمل أن يراد بهذا الرجاء ما وعدهم الله من النصر والغلبة على سائر الأديان ، أو يراد أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه ، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى ، ويروى أن هذا في بدر الصغرى كان بهم جراح فتواكلوا { وكان الله عليماً حكيماً } لا يكلفكم إلا ما فيه صلاح لكم في دينكم ودنياكم . ثم رجع إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث المنافقين ، وفيه أن الأحكام المذكورة كلها بإنزال الله تعالى وليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قومه ، وفيه أن كفر الكافر لا يبيح المساهلة في النظر له وإن كان يجوز الجهاد معه بل الواجب أن يحكم له وعليه بما أنزله تعالى على رسوله . قال أكثر المفسرين : إن رجلاً من الأنصار - يقال له طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحرث - سرق درعاً من جار له - يقال له قتادة بن النعمان - وجراباً فيه دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق ، ثم خبأها عند رجل من اليهود - يقال له زيد بن السمين - فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف لهم والله ما أخذها وما له بها من علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال : دفعها إلي طعمة وشهد له ناس من اليهود .
فقالت بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه في ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي . فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وكان هواه صلى الله عليه وسلم معهم وأن يعاقب اليهودي . وقيل : همَّ أن يقطع يده فأنزل الله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق } الآيات إلى قوله : { ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } وفي الآية دليل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي . قال أبو علي : قوله : { بما أراك الله } ليس منقولاً بالهمزة من رؤية البصر لأن حكم الحادثة لا يرى بالبصر ولا من رؤية القلب وإلا لاقتضى ثلاثة مفاعيل وليس في الآية إلا اثنان : أحدهما الكاف والآخر الضمير العائد المحذوف فهو إذن بمعنى الاعتقاد معناه بما علمك الله . وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جارياً مجرى الرؤية في القوة والظهور ، وكان عمر يقول : لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه والرأي منا ظن وتكلف . قال بعض العلماء : في الآية دلالة على أنه ما كان يحكم إلا بالوحي والنص ، وأن الاجتهاد ما كان جائزاً له صلى الله عليه وسلم وحينئذ يجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله : { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأجيب بأن العمل بالقياس عمل بالنص أيضاً وكأنه تعالى قال : مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر جامع بين الصورتين ، فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن . { ولا تكن للخائنين } أي لأجلهم يريد بني ظفر وهم قوم طعمة { خصيماً } مخاصماً وأصله من الخصم بالضم والسكون وهو ناحية الشيء وطرفه ، وكأن كل واحد من الخصمين في ناحية من الحجة والدعوى . قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء صلى الله عليه وسلم : لولا أن الرسول أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه لما ورد النهي عنه ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار . والجواب أن النهي عن الشي لا يقتضي كون المنهي مرتكباً للمنهي عنه ، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يذب عن طعمة ويلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي ، ولعله أمر بالاستغفار لأنه مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين وحسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو لعل القوم شهدوا بسرقة اليهودي وبراءة طعمة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم ، فهم بالقضاء على اليهودي وبراءة طعمة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم فهم بالقضاء على اليهودي فأطلعه الله تعالى على مصدوق الحال ، أو لعل المراد واستغفر لأولئك الذين يذبون عن طعمة ثم قال : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } يعني طعمة ومن عاونه من قومه ممن علموا كونه سارقاً .
والاختيان كالخيانة يقال : خانه واختانه ، والعاصي خائن نفسه لأنه يحرم نفسه الثواب ويوصلها إلى العقاب { إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } قال المفسرون : إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة . وإنما ورد البناآن على المبالغة والعموم ليتناول طعمة وكل من خان خيانة فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه لأن الله لا يحبه . وأيضاً كان الله عالماً من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب الإثم . وروي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطاً ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله ، ومن كانت تلك خاتمة أمره لا يشك في حاله . وقالت العقلاء : إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات . وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول : هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه . فقال : كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة . وفي الآية دليل على أن من كان قليل الخيانة والإثم لم يكن في معرض السخط من الله . { يستخفون } يستترون من الناس حياء منهم وخوفاً من ضررهم { ولا يستخفون من الله } أي لا يستحيون منه لأن الاستخفاء لازم الاستحياء وهو معهم بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجراً للإنسان عن المعاصي { إذ يبيّتون } يدبرون { ما لا يرضى من القول } وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولاً ليس فيها إشكال عند القائلين بالكلام النفسي ، وأما عند غيرهم فمجاز ، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه الله ، أو المراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته { ها أنتم هؤلاء } ها للتنبيه في أنتم وأولاء وهما مبتدأ وخبر وقوله : { جادلتم عنهم } جملة موضحة للأولى كما يقال للسخي : أنت حاتم تجود بمالك . أو المراد أنتم الذين جادلتم والخطاب لقوم مؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وقومه لأنهم في الظاهر مسلمون . والمعنى : هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذي يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه { أمن يكون عليهم وكيلاً } حافظاً ومحامياً عن عذاب الله .
وهذا الاستفهام معطوف على الأول وكلاهما للإنكار والتقريع .
ثم أردف الوعيد بذكر التوبة فقال : { ومن يعمل سوءاً } قبيحاً متعدياً يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي { أو يظلم نفسه } بما يجازي به كالحلف الكاذب . وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر بخلاف الذي يعود وباله إلى فاعله فإن ذلك في الأكثر لا يكون ضرراً عاجلاً . لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه . وقد يستدل بإطلاق الآية على أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب وإن كان كفراً أو قتلاً عمداً أو غضباً للأموال ، بل على أن مجرد الاستغفار كاف . وعن بعضهم أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار فلا بد من اقترانه بالتوبة { يجد الله غفور رحيماً } أي له فحذف هذا الرابط لدلالة الكلام عليه لأنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك . وقيل : ومن يعمل سوءاً من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه أو بعث لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه . { ومن يكسب إثماً } الكسب عبارة عما يفيد جر أو منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك . والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار وكأنه قال : الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إليّ فإني منزه عن النفع والضر ، ولا تيأس من قبول التوبة . { وكان الله عليماً حكيماً } تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه { ومن يكسب خطيئة } صغيرة { وإثماً } كبيرة وقيل : الخطيئة الذنب القاصر على فاعله والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل . وقيل : الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو الخطأ ، والإثم ما حصل بسبب العمد { ثم يرم به } أي بأحد المذكورين أو بالإثم أو بذلك الذنب لأن الخطيئة في معنى الذنب ، أو بذلك الكسب { بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } لأنه بكسب الإثم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين ، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين { ولولا فضل الله عليك ورحمته } ولولا أن خصك الله الفضل وهو النبوة وبالرحمة وهي العصمة { لهمت طائفة منهم } من بني ظفر أو طائفة من الناس والطائفة بنو ظفر { أن يضلوك } عن القضاء الحق والحكم العدل { وما يضلون إلا أنفسهم } بسبب تعاونهم على الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان لأن وباله عليهم { وما يضرونك من شيء } لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالأحكام على الظواهر ، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل . ثم أكد الوعيد بقوله : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } أي إنه لما أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات؟ وعلى الأول يكون المراد أنه أوجب في الكتاب والحكمة بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر عليه { وعلمك ما لم تكن تعلم } من أخبار الأولين .
فيه معنيان : أحدهما أن يكون كما قال : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] أي أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارها وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالماً بشيء منهما ، فكذلك يفعل بك في مستأنف إيامك حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك . الثاني أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب أي علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر على الاحتراز منهم { وكان فضل الله عليك عظيماً } فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيماً وسمى متاع الدنيا بأسرها قليلاً .
التأويل : الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد فلهذا فرضت في الخوف والأمن وشدة القتال والسفر والحضر والصحة المرض ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } أي أدمتها لهم لأن النظر إليك عبادة كما أن الصلاة عبادة ، وكما أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فإنك تنهاهم عن الفحشاء والمنكر { فلتقم طائفة } هم الخواص { منهم } أي من عوامهم { معك } أي مع الله لأنك مع الله كقوله : { لا تحزن إنّ الله معنا } [ التوبة : 40 ] { وليأخذوا } يعني طائفة من بقية القوم { أسلحتهم } من الطاعات والعبادات دفعأً لعدو النفس والشيطان { فإذا سجدوا } يعني من معك ونزّلوا مقامات القرب { فليكونوا } أي هؤلاء القوم { من ورائكم } في المرتبة والمقام والمتابعة يحفظونكم باشتغالكم بالأمور الدنيوية لحوائجكم الضرورية للإنسان . { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا معك } في الصحبة { فليصلوا معك } في الوصلة { وليأخذوا حذرهم } وهو آداب الطريقة { وأسلحتهم } وهي أركان الشريعة { ودّ الذين كفروا } هم عدوّ النفس وصفاتها { إن كان بكم أذى من مطر } يعني أشغال الدنيا وضروريات حوائج الإنسان يمطر عليكم في بعض الأوقات أن تضعوا أسحلة الطاعة والأركان ساعة فساعة { وخذوا حذركم } من التوجه إلى الحق ومراقبة الأحوال وحفظ القلب وحضوره مع الله وخلو السر عن الالتفات لغير الله ورعاية التسليم والتفويض إلى الله والاستمداد من همم أعاظم الدين والالتجاء إلى ولاية النبوة { إنّ الله أعد } بهذه الأسباب { للكافرين } من كفار النفس والشيطان { عذاباً مهيناً فإذا قضيتم الصلاة } المكتوبة { فاذكروا الله } في جميع حالاتكم إنّ الصلاة كانت في الأزل { على المؤمنين كتاباً موقوتاً } مؤقتاً إلى الأبد كما أشار إليه بقوله : { إنا فتحنا لك } [ الفتح : 1 ] أي باباً من القدم إلى الحدوث { ليغفر لك الله } [ الفتح : 2 ] بما فتح عليك { ما تقدم } في الأزل { من ذنبك } [ الفتح : 2 ] بأن لم تكن مصلياً { وما تأخر } [ الفتح : 2 ] من ذنبك بأن لا تكون مصلياً { ويتم نعمته عليك } [ الفتح : 2 ] بأن يجعل سيئاتك وهي عدم صلاتك في الأزل أو الأبد مبدلة بالحسنات وهي الصلاة المقبولة من الأزل إلى الأبد { ويهديك صراطاً مستقيماً } من الأزل إلى الأبد ومن الأبد إلى الأزل { ولا تهنوا في ابتغاء القوم } النفس وصفاتها { أن تكونوا تألمون } في الجهاد بعناء الرياضات والعبادات فإنهم يألمون في طلب اللذات والشهوات { كما تألمون وترجون من الله } العواطف الأزلية والعوارف الأبدية { ما لا يرجون } لأنّ همم النفس الدنية لا تجاوز قصورها الدنية المجازية الفانية { بما أراك الله } حين أوحى إليك بلا واسطة ما أوحى وأراك آياته الكبرى .
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
القراآت : { يؤتيه } بالياء : أبو عمرو وحمزة خلف وقتيبة وسهل . الباقون بالنون . { نوله } { ونصله } مثل { يؤده } [ آل عمران : 75 ] . { يدخلون } بضم الياء وفتح الخاء وكذلك في « مريم » و « حم المؤمن » : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ويزيد وأبو بكر وحماد . الآخرون بالعكس { إبراهام } وما بعده في هذه السورة : هشام وكذلك روى الموصلي عن الأخفش عن ابن ذكوان .
الوقوف : { بين الناس } ط { عظيماً } ه { جهنم } ط { مصيراً } ه { لمن يشاء } ط { بعيداً } ه { إناثاً } ج لابتداء النفي مع واو العطف . { مريداً } لا لأن ما بعده صفى له . { لعنه الله } م لأنّ قوله : { وقال } غير معطوف على { لعنه } { مفروضاً } ه لا للعطف { خلق الله } ط { مبيناً } ط كيلا يصير { يعدهم } وصفاً للخسران { ويمنيهم } ط { غروراً } ه { محيصاً } ه { أبداً } ط { حقاً } ط { قيلاً } ه { الكتاب } ط يجز به لا للعطف { نصيراً } ه { نقيراً } ه { حنيفاً } ط { خليلاً } ه { وما في الأرض } ط { محيط } ه .
التفسير : ثم أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول . والنجوى سر بين اثنين وكذا النجو يقال : نجوته نجواَ أي ساررته وكذلك ناجيته . قال الفراء : قد تكون النجى اسماً ومصدراً ، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضاً إلاّ أنها في المعنى عامة . والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث . { إلاّ من أمر بصدقة } وفي محل « من » وجوه مبنية على معنى النجوى . فإن كان النجوى السر جاز أن يكون « من » في موضع النصب لأنه استنثاء الشيء من خلاف جنسه كقوله إلاّ أواريّ ومعناه لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، أو في موضع الرفع كقوله : إلاّ اليعافير وإلاّ العيس . أبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف معناه إلاّ نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول : لا خير في قيامهم إلاّ قيام زيد أي في قيامه ، وعلى هذا يكون الاستثناء من جنسه . وإن كان النجوى بمعنى ذوي نجوى كقوله : { وإذ هم نجوى } [ الإسراء : 47 ] كان محله أيضاً مجروراً من { كثير } أو من نجوى كما لو قلت : لا خير في جماعة من القوم إلاّ زيد إن شئت أتبعت زيداً الجماعة وإن شئت أتبعته القوم . وإنما قال : { لا خير في كثير } مع أنه يصدق الحكم كلياً بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « كلام ابن آدم كله عليه لا له إلاّ ما كان من أمر بمعروف أو نهي عن منكر » أو ذكر الله استجلاباً للقلوب وليكون أدخل في الاعتراف به ، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .
واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة ، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة ، وإن كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف . والثاني هو الإصلاح بين الناس فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق ، وهذه الأوامر وإن كانت مستحسنة في الظاهر إلاّ أنها لا تقع في حيّز القبول إلاّ إذا عمل صاحبها بما أمر كيلا يكون من زمرة { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] { لم تقولون ما لا تفعلون } [ الصف : 1 ] وإلاّ إذا طلب بها وجه الله فلهذا قال : { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } ويمكن أن يقال : إنّ معنى { ومن يفعل } الأمر والمراد ومن يأمر فعبر عن الأمر بالفعل لأنّ الأمر فعل من الأفعال . والمراد بقوله : { من أمر } من فعل لأنّ الأمر يلزمه الفعل غالباً . ثم قال : { ومن يشاقق الرسول } قال الزجاج : إنّ طعمة كان قد تبيّن له بما أظهر الله من أمره ما دلّه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعادى الرسول وأظهر الخلاف وارتد على عقبيه واتبع دين عبادة الأوثان وهو غير دبن الموحدين وسبيلهم . ومعنى { نوله ما تولى } نجعله والياً لما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه . قال بعض الأئمة : هذا منسوخ بآية السيف ولا سيما في حق المرتد . والظاهر أن المراد به الطبع والخذلان { ونصله جهنم } نلزمه إياها { وساءت مصيراً } هي . وانتصب { مصيراً } على التمييز من الضمير المبهم في ساءت لأنه يعود إلى ما في الذهن لا إلى المذكور . يحكى أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله دالّة على أن الإجماع حجة ، فقرأ القرآن ثلثمائة مرة حتى وقف على هذه الآية . ووجه الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لأنه تعالى جمع بين اتباع غير سبيلهم وبين مشاقة الرسول ورتب الوعيد عليهما ، واتباع غير سبيل المؤمنين يلزمه عدم اتباع سبيل المؤمنين لاستحالة الجمع بين الضدين أو النقيضين . فعدم اتباع سبيل المؤمنين حرام فاتباع سبيلهم واجب كموالاة الرسول . وفي الاية دلالة على وجوب عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الاقتداء بأقواله وأفعاله وإلاّ وجب المشاقة في بعض من الأمور وهي منهي عنها في الكل . قيل : في الآية دلالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلاّ بالنظر والاستدلال لأنّ الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لا معنى لتبيين العلم لكنه رتب الوعيد على المخالفة بعد تبيين الدليل فيكون تبيين الدليل معتبراً في صحة الدين . وأقول : الموقوف على النظر هو معرفة وجود الواجب لذاته وصحة نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم والباقي يكفي في اعتقاده إخبار الصادق على أن إخبار الصادق أيضاً دليل فلا حكم إلاّ عن دليل .
ثم إنه كرّر في السورة قوله : { إنّ الله لا يغفر أن يشرك به } للتأكيد . وقيل : لقصة طعمة وإشراكه بالله . { ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } لأنّه لا أجلى من وجود الصانع ووحدته ، والمطلوب كلما كان أجلى كان نقيضه أبعد . ثم أوضح هذا المعنى بقوله سبحانه : { إن يدعون } أي ما يعبدون { من دونه إلاّ إناثاً } أي أوثاناً وكانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى ، فاللات تأنيث الله ، والعزى تأنيث الأعز . قال الحسن : لم يكن حي من أحياء العرب إلاّ ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويؤيده قراءة عائشة { إلاّ أوثاناً } وقراءة ابن عباس { إلاّ أثناء } جمع وثن مثل أسد وأسد إلاّ أن الواو أبدلت همزة كأجوه . وقيل : المراد إلاّ أمواتاً لأنّ الإخبار عن الأموات يكون كالإخبار عن الإناث . تقول : هذه الأحجار أعجبتني كما تقول هذه المرأة أعجبتني ، ولأن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي . وقيل : كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله . وقيل : إنّ بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون الملائكة بنات الله . { وإن يدعون } ما يعبدون بعبادة الأصنام { إلاّ شيطاناً مريداً } بالغاً في العصيان مجرداً عن الطاعة . يقال : شجرة مرداء إذا تناثر ورقها ، والأمرد ذلك الذي لم تنبت له لحية . قال المفسرون : كان في كل واحدة من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم . وقالت المعتزلة : جعلت طاعتهم للشيطان عبادة له لأنّه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه . والظاهر أنّ المراد بالشيطان جامعاً بين وصف بقوله : { لعنه الله وقال لأتخذن } وهو جواب قسم محذوف أي شيطاناً جامعاً بين لعنة الله إياه وبين هذا القول الشنيع وهو الإخبار عن الاتخاذ مؤكداً بالقسم . ويمكن أن يقال : المراد بلغته الله ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود كقولهم : أبيت اللعن أي لا فعلت ما تستحقه به . ومعنى { نصيباً مفروضاً } حظاً مقطوعاً واجباً فرضته لنفسي وأصل الفرض القطع ومنه الفريضة لأنه قاطع الأعذار { وقد فرضتم لهن فريضة } [ البقرة : 237 ] حظاً مقطوعاً واجباً فرضته لنفس وأصل جعلتم لهن قطعة من المال . وفرض الجندي رزقه المقطوع المعين . قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وذلك لما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تعالى : « يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك . قال : أخرج بعث النار . قال : وما بعث النار؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون » الحديث . وههنا سؤال وهو أن حزب الشيطان وهم الذين يتبعون خطواته من الكفار والفساق لما كانوا أكثر من حزب الله فلم أطلق عليهم لفظ النصيب مع أنه لا يتناول إلاّ القسم الأقل؟ والجواب أنّ هذا التفاوت إنما يحصل من نوع البشر ، أما إذا ضمّ الملائكة إليهم فالغلبة للمحقين لا محالة .
وأيضاً الغلبة لأهل الحق وإن قلّوا ، وغيرهم كالعدم وإن كثروا { ولأضلنهم } يعني عن الحق قالت المعتزلة : فيه دلالة على أصلين من أصولنا : الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله ، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك . وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جداً فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله : { لأضلنهم } { لأغوينهم } [ ص : 82 ] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله : { رب بما أغويتني } [ الأعراف : 16 ] { ولأمنينهم } الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو اشد قسوة . { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } البتك القطع ، وسيف باتك أي صارم ، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة . وجمهور المفسرين على أنّ المراد به ههنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة . وقال بعضهم : كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكاً في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق . قوله : { فليبتكن } صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فوالله ليبتكن وأصله ليبتكون ، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة ، والفاء للتسبيب والإيذان يتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله : { ولآمرنهم } ومثله في الإعراب قوله : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي . فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن الضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالاً وبالعكس ، أو بإبطال الاستعداد الفطري { فطرت الله التي فطر الناس عليها } [ الروم : 30 ] « كل مولود يولد على الفطرة » ومن الثاني قول الحسن المراد ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات » وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا . أما وشم اليد فهو أن يغرزها بالإبرة ثم يذر عليها النيل . والوشر تحديد الأسنان ، والتنميص نتف شعر الحاجب وغيره . وقال أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبو صالح : تغيير خلق الله هو الخصاء وقطع الآذان وفقء العيون . وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً أعور وأعين فحلها . وخصاء البهائم مباح عند عامة العلماء وأما في بني آدم فمحظور . وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم لأنّ الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم . وقال ابن زيد : هو التخنث تشبه الذكر بالأنثى . وعلى هذا فالسحق أيضاً داخل في الآية لأنّه تشبه الأنثى بالذكر . وحكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب ، وخلق الشمس والقمر مسخرين للناس ينتفعون بهما فعبدوهما فغيروا خلق الله .
واعلم أن دخول الضرر في الإنسان إنما يكون على ثلاثة أوجه : التشويش والنقصان والبطلان ، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في ضرر الدين وهو قوله : { لأضلنهم } ثم فصل ذلك بقوله : { ولأمنينهم } وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبة الشهوية والغضبية والشيطانية . وقوله : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة . وقوله : { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظباً على طلب اللذات العاجلة معرضاً عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة . { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به { فقد خسر خسراناً مبيناً } إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها . والسبب فيه أنّ الشيطان يعدهم ويمنيهم فيقول للشخص إنه سيطول عمره وينال من الدنيا مقصوده ويستولي على أعدائه ويوقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت لي كما تيسرت لغيري { وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً } لأنه ربما لم يطل عمره ، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه ، وإن طال عمره ونال مأموله على أحسن الوجوه فلا بد أن يكون عند الموت في أشد حسرة وأبلغ حيرة لأنّ المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته آلم وأنكى . وأيضاً لعل الشيطان يعدهم أنه لا قيامة ولا حساب ولا جزاء ولا عقاب فاجتهدوا في استيفاء اللذات العاجلة واغتنموا فرصة الحياة الزائلة فلذلك قيل : { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً } مفراً ومعدلاً وله معنيان : أحدهما لا بدّ لهم من ورودها ، الثاني التخليد بمعنى الدوام للكفار أو طول المكث للفساق .
ثم أردف الوعيد بالوعد على سنته المعهودة فقال : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } قال أهل السنة : لو كان الخلود الدوام لزم التكرار فإذن هو طول المكث المطلق . وقوله : { أبداً } مفيد للتأبيد . { وعد الله حقاً } مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن قوله : { سندخلهم } وعد منه تعالى ومضمونه هو مضمون وعد الله ، وأما { حقاً } فمضمونه أخص من مضمون الوعد لأن الوعد من حيث هو وعد يحتمل أن يكون حقاً وأن لا يكون فمضموناهما متغايران تغاير الجنس والنوع { ومن أصدق من الله قيلاً } توكيد ثالث بليغ من قبل الاستفهام المتضمن للإنكار . وفائدة هذه التوكيدات معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وإلقاء أمانية الفارغة والتنبيه على أن قول أصدق القائلين أولى بالقبول من قول من لا أحد أكذب منه .
والقيل : مصدر قال قولاً . وعن ابن السكيت أن القيل والقال اسمان لا مصدران . عن أبي صالح قال : جلس أهل الكتب أهل التوراة والإنجيل وأهل القرآن كل صنف يقول لصاحبه نحن خير منكم فنزلت : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } وقال مسروق وقتادة : احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم؛ نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أهدى منكم وأولى بالله؛ نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب التى قبله فنزلت . ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناواهم من أهل الأديان بقوله : { ومن يعمل من الصالحات } وبقوله : { ومن أحسن ديناً } الآيتان . وقيل : الخطاب في : { أمانيكم } لعبدة الأوثان وأمانيهم أن لا يكون حشر ولا نشر ولا معاد ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله . وقيل : الخطاب للمسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر ، وأما أماني أهل الكتاب فقولهم : { لن يدخل الجنة إلاّ من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] { ولن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] واسم « ليس » مضمر فقيل : أي ليس وضع الدين على أمانيكم . وقيل : ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله : { سندخلهم } وعن الحسن ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب أي أثر فيه وصدقه العمل ، إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا : نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل . ويؤيد هذا المعنى قوله بياناً للمذكور : { من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } فمن هنا استدلت المعتزلة بالآية على القطع بوعيد الفساق ونفي الشفاعة ، وأجيب بأنه مخصوص بالكفار لأنهم مخاطبون بالفروع عندنا . سلمنا أنه يعم المؤمن والكافر إلاّ أنه مخصوص في حق المؤمن بقوله : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون جزاؤهم الآلام والأسقام والهموم والغموم الدنيوية؟ روي أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر : كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم : « غفر الله لك يا أبا بكر؛ ألست تمرض أليس يصيبك اللأواء؟ فهو ما تجزون » عن عائشة أن رجلاً قرأ هذه الآية فقال : أنجزى بكل ما نعمل لقد هلكنا . فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال : « يجزي المؤمن في الدنيا بمصيبة في جسده وبما يؤذيه » وعن أبي هريرة لما نزلت الآية بكينا وحزنا وقلنا : « يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : أبشروا فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلاّ جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه »
، سلمنا أن الجزاء إنما يصل إليه في الأخرة لكنه روي عن ابن عباس « أنه لما نزلت الآية شقت على المسلمين وقالوا : يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءاً فكيف الجزاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات ، وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة ، فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره » وأيضاً المؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة . قالوا : إن صاحب الكبيرة غير مؤمن ، وأجيب بنحو قوله : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] أما حديث نفي الشفاعة فإذا كانت شفاعة الملائكة والأنبياء بإذن الله صدق أنه لا ولي لأحد ولا نصيراً إلاّ الله . قال في الكشاف : « من » في قوله : { من الصالحات } للتبعيض أراد ومن يعمل بعض الصالحات لان كلاّ لا يتمكن من كل الصالحات لاختلاف الأحوال ، وإنما يعمل منها ما هو في وسعه ، وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة ولا صلاة في بعض الأحوال . ومن في قوله : { من ذكر } لتبيين الإبهام في : { من يعمل } والضمير في : { لا يظلمون } عائد إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعاً ، أو يعود إلى الصالحين فقط . وذكره عند أحد الفريقين يغني عن ذكره عند الآخر والمسيء مستغن عن هذا القيد ، فمن المعلوم أن أرحم الراحمين لا يزيد في عقابه وأما نقصان الفضل في الثواب كان محتملاً فأزيل ذلك الوهم ، ثم بين فضل الإيمان المشروط به الفوز بالجنة فقال : { ومن أحسن ديناً } وبيان الفضل من وجهين :
الأول أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والانقياد لله وإليه الإشارة بقوله : { أسلم وجهه لله } وهو راجع إلى الاعتقاد الحق وعلى إظهار كمال الطاعة وحسن العمل والإخلاص وإليه الإشارة بقوله : { وهو محسن } وهو عائد إلى فعل الخيرات وترك المنكرات بصفاء النيات وخلوص الطويات . وفيه تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلاّ عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق ، وإظهار التبري من الحول والقوة ، ومن الاستعانة بغير المعبود الحق من الأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها كائناً من كان الوجه الثاني أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما دعا الخلق إلى ما يشبه دين أبيه إبراهيم عليه السلام ، ومن المشهور فيما بين أهل الأديان أنه ما كان يدعو إلى عباده فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة ، بل كان مائلاً عن الملل الباطلة بعيداً عنها بعد المركز عن جميع أجزاء الدائرة ولهذا شرف بقوله : { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } وهذه جملة معترضة والسبب في إيرادها أن يعلم أن من كان في علو الدرجة بهذه الحيثية كان جديراً بأن تتبع طريقته .
قال العلماء : إن خيل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره وقد دخل حبه في خلال قلبه ، ولما أطلع الله تعالى إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجوم والقمر والشمس وعن عبادة الأوثان ، ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ، ثم جعله الله إماماً للناس ورسولاً إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته إلى يوم الدين كان خليلاً لله ، لأن خلته عبارة عن إرادة إيصال الخيرات والمنافع . وقيل : الخليل ، هو الذي يوافقك في خلالك وقد قال صلى الله عليه وسلم : « تخلقوا بأخلاق الله » فلما بلغ إبراهيم عليه السلام في مكارم الأخلاق مبلغاً لم يبلغه من تقدمه فلا جرم استحق اسم الخليل . وقيل : الخليل الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل ، فلما كان إبراهيم منقاداً لكل ما أمر به مجتنباً عن كل ما نهى عنه فكأنه ساير ووافق أوامر الله تعالى ونواهيه فاستحق اسم الخليل لذلك . هذا من جهة الاشتقاق وأما من قبل أسباب النزول فعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلاً؟ قال : لإطعامه الطعام يا محمد » وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي : دخل إبراهيم فجأة فرأى ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه ، فقال إبراهيم عليه السلام : بإذن من دخلت؟ فقال : بإذن رب المنزل . فعرفه إبراهيم عليه السلام . فقال له ملك الموت : إن ربك اتخذ من عباده خليلاً . قال إبراهيم : ومن ذلك؟ قال : وما تصنع به؟ قال : أكون خادماً له حتى أموت . قال : فإنه أنت . وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : أصاب الناس سنة جهدوا فيها فحشدوا إلى باب إبراهيم : ومن ذلك؟ قال : وما تصنع به؟ قال : أكون خادماً له بمصر ، فبعث غلمانه بالإبل إلى خليله بمصر يسأله الميرة ، فقال خليله : لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ولكنه يريد للأضياف وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة ، فرجع رسل إبراهيم فمروا ببطحاء فقالوا : لو أنا احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة إنا لنستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة ، فملؤا تلك الغرائر . ثم إنهم أتوا إبراهيم وسارة نائمة فأعلموه ذلك فاهتم إبراهيم لمكان الناس فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود حوّاري تكون فأمرت الخازين فخبزوا وأطعموا الناس واستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال : يا سارة من أين هذا الطعام؟ فقالت : من عند خليلك المصري . فقال : هذا من عند خليلي الله فيومئذٍ اتخذه الله خليلاً .
وقال شهر بن حوشب : هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شج . فقال إبراهيم : اذكره مرة أخرى فقال : لا أذكره مجاناً . فقال : لك مالي كله . فذكره الملك بصوت أشجى من الأول . فقال : اذكره مرة ثالثة ولك أولادي . فقال الملك : أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك . فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فلا جرم اتخذه الله خليلاً . وروى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه ، فظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلاً سميناً وقربه إليهم وقال : كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره . فقال جبريل : أنت خليل الله . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً . ثم قال : وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي » قلت : ذكرت الفرق بين الخليل والحبيب في سورة البقرة في تفسير قوله : { إذ قال له ربه أسلم } [ البقرة : 131 ] فتذكر ، قال في التفسير الكبير : إذا استنار جوهر الروح بالمعارف القدسية الجلايا الإلهية صار الإنسان متوغلاً في عالم القدس فلا يرى إلا الله ، ولا يسمع إلا الله ، ولا يتحرك إلا لله ، ولا يسكن إلا لله ، فهذا الشخص يستحق أن يسمى خليل الله لما أن محبة الله ونوره تخللت في جميع قواه . قال بعض النصارى : إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفاً فلم له يجز إطلاق الابن على آخر لمثل ذلك؟ والجواب أن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة وإنه سبحانه متعال عن مجانسة المحدثات . ولهذا قال بعد ذلك : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطاً } ليعلم أنه لم يتخذ إبراهيم خليلاً للمجانسة أو الاحتياج ولكنه اصطفاه لمجرد الفضل والأمتنان ، وفيه أنه مع خلته لم يستنكف أن يكون عبداً له داخلاً تحت ملكه وملكه ، وفيه أن من كان في القهر والتسخير بهذه الحيثية وجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وينقاد لأوامره ونواهيه كما قال إبراهيم : { أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وأيضاً إنه لما ذكر الوعد والوعيد وإنه لا يمكن الوفاء بهما إلاّ بالقدرة التامة على جميع الممكنات والعلم الكامل الشامل لجميع الكليات والجزئيات أشار إلى الأول بقوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } وإلى الثاني بقوله : { وكان الله بكل شيء محيطاً } وإنما قدم القدرة على العلم لأن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الإحكام والإتقان يدل على العلم ، ولا ريب أن الاعتبار الأول مقدم على الثاني . وقال بعضهم : الإحاطة أيضاً ههنا بمعنى القدرة كقوله تعالى : { وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها }
[ الفتح : 21 ] ولا يلزم تكرار لأن الأول لا يدل إلا على مالك لكل ما في السموات والأرض قادر عليهما والثاني يفيد القدرة المطلقة على جميع الأشياء وإن فرضت خارج السموات والأرض ، وعلى أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه .
التأويل : { لا خير في كثير } من نجوى النفس والهوى والشيطان إلاّ فيمن أمر بالخيرات وهو الله بالوحي وبالخواطر الرحمانية ثم خواص عباده . { ومن يشاقق الرسول } أي يخالف الإلهام الرباني { ويتبع غير سبيل المؤمنين } بأن يتبع الهوى وتسويل النفس والشيطان { نوله ما تولى } نكلله بالخذلان إلى ما تولي { ونصله } بسلاسل معاملاته . { جهنم } الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية . { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ولو كان مغفوراً لم يشرك به { ومن يشرك بالله } الآن { فقد ضل ضلالاً بعيداً } وهو الضلال بالإضلال الأزلي فافهم { إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً } صفات ذميمة يتولد منها الشرك { وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً } هي الدنيا كما قال عليه السلام : « الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله وما والاه » والنصيب المفروض طائفة خلقهم الله أهلاً للنار { ولأضلنهم } كذب عدو الله فإنه مزين وليس إليه من الضلالة شيء كما قال صلى الله عليه وسلم : « بعثت مبلغاً وليس إليّ من الهداية شيء » { وعد الله حقاً } وهو قوله : « هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي » { ليس بأمانيكم } يعني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم وقد قال : { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً } [ طه : 82 ] و { ولا أماني أهل الكتاب } علماء السوء الذين يغرون العوام بالرجاء الطمع ويقطعون عليهم طريق الطلب والاجتهاد فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعنى في خدمته من غير أن يتمنى نعمته { من يعمل سوءاً يجز به } في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه كما قال صلى الله عليه وسلم : « إذا أذنب عبد ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل » { ولا يجد له من دون الله ولياً } يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة والتوبة . { ولا نصيراً } ينصره بالظفر على النفس الأمارة { من ذكر أو أنثى } أي من قلب أو نفس { ومن أحسن ديناً } يعني من محمد صلى الله عليه وسلم حين أسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه كما قال : « أسلم شيطاني على يدي » ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة : « أمتى أمتي » حين يقول الأنبياء نفسي نفسي { وهو محسن } بمعنى أنه من أهل المشاهدة يعبد الله كأنه يراه بل يراه ولأنه أحسن خلقه العظيم إلى أن بلغ حد الكمال والختم . واتبع ملة إبراهيم بأن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً . قيل لمجنون بني عامر : ما اسمك؟ قال : ليلى . وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم . ما اسمك؟ قال : الحبيب . فكان محمد صلى الله عليه وسلم حبيباً خليلاً أي فقيراً من الخلة الحاجة لأنه افتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله . والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب أن الخليل اتخذ الآلهة عدواً في الله { فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] والحبيب اتخذ نفسه عدواً في الله وقال : ليت رب محمد لم يخلق محمداً وهذا مقام الفناء في الفناء بل البقاء بعد الفناء فلا جرم يقول بالرب عن الرب .
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
القراآت : { يصلحا } من الإصلاح : عاصم وعلي وحمزة وخلف . الباقون . { يصالحا } من التصالح وإدعام التاء في الصاد { إن يشأ } حيث كان بغير همز : الأعشى وأوقيه وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف . { وإن تلوا } بواو واحدة : ابن عامر وحمزة . الباقون بالواوين { نزل } و { أنزل } كلاهما على ما لم يسم فاعله من التنزيل والإنزال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والباقون : { نزل } و { أنزل } مبنيين للفاعل من التنزيل والإنزال أيضاً . { وقد نزل } مشدداً مبنياً للفاعل : عاصم ويعقوب . الباقون مبنياً للمفعول .
الوقوف : { في النساء } ط { فيهن } لا للعطف أي الله والمتلو يفتيكم { الولدان } لا للعطف أيضاً أي في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا { بالقسط } ط { عليماً } ه { صلحاً } ط { خير } ط { الشح } ط { خبيراً } ه { كالمعلقة } ط { رحيماً } ه { سعته } ط { حكيماً } ه { وما في الأرض } ط { أن اتقوا الله } ط { وما في الأرض } ط { حميداً } ه { وما في الأرض } ط { وكيلاً } ه { بآخرين } ط { قديراً } ه { والآخرة } ط { بصيراً } ه { والأقربين } ج لابتداء الشرط مع اتفاق المعنى { أن تعدلوا } ج لذلك { خبيراً } ه { من قبل } ط { بعيداً } ه { سبيلاً } ه { أليماً } ه لا لأن « الذين » صفة المنافقون وإن كان يحتمل النصب والرفع على الذم { المؤمنين } ط { جميعاً } ه { غيره } ج لأن ما بعد كالتعليل . { مثلهم } ط { جميعاً } ه لا لأن ما بعده صفة المنافقين . { لكم } ج لابتداء الشرط مع أنه بيان التربص { معكم } ز لترجيح جانب العطف وإتمام بيان النفاق . { نصيب } لا لأن { قالوا } جواب : « إن » { المؤمنين } ط { القيامة } ط { سبيلاً } ه .
التفسير : أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق والبعث على قبول التكاليف هو ما عليه القرآن الكريم من اقتران الوعد بالوعيد وخلط الترغيب بالترهيب وضم الآيات الدالة على العظمة والكبرياء إلى بيان الأحكام . والاستفتاء طلب الفتوى . يقال : استفتيت الرجل فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى وهما اسمان يوضعان موضع الإفتاء وهو إظهار المشكل من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل كأنه قوي بيانه ما أشكل فشب وصار فتياً قوياً . والاستفتاء لا يقع في ذوات النساء وإنما يقع في حالة من أحوالهن فلذلك اختلفوا؛ فعن بعضهم أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان شيئاً من الميراث كما مر في أول السورة فنزلت في توريثهم . وقيل : إنه في الأوصياء . وقيل : في توفية الصداق لهن كانت اليتيمة تكون عند الرجل فإن كانت جميلة ومال إليها تزوج بها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها . أما قوله : { وما يتلى عليكم } ففيه وجوه : أحدها أنه رفع بالابتداء معطوفاً على اسم الله أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب يفتيكم أيضاً .
ويجوز أن يكون رفعاً على الفاعلية لكونه عطفاً على المستتر في يفتيكم ، وجاز بلا تأكيد للفصل أي يفتيكم الله والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى كقولك : أعجبني زيد وكرمه . وذلك المتلو هو قوله : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } [ النساء : 3 ] كما سلف في أول السورة جعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب . وثانيها { وما يتلى عليكم } مبتدأ و { في الكتاب } خبره وهي جملة معترضة ويكون المراد من الكتاب اللوح المحفوظ . والغرض تعظيم حال هذه الآية وأن المخل بها وبمقتضاها من رعاية حقوق اليتامى ظالم متهاون بما عظمه الله ، ونظيره في تعظيم القرآن قوله : { وإنه في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم } [ الزخرف : 4 ] وثالثها أنه مجرور على القسم لمعنى التعظيم أيضاً كأنه قيل : قل الله يفتيكم فيهن وحق المتلو . ورابعها أن يكون مجروراً على أنه معطوف على المجرور في { فيهن } قال الزجاج : إنه ليس بسديد لفظاً لعدم إعادة الخافض ، ومعنى لأنه لا معنى لقوله القائل : يفتي الله فيما يتلى عليكم من الكتاب ، لأن الإفتاء إنما يكون في المسائل . وقوله : { في يتامى النساء } على الوجه الأول صلة { يتلى } أي يتلى عليكم في معناهن أو بدل من { فيهن } وعلى سائر الوجوه بدل من { فيهن } لا غير . والإضافة في { يتامى النساء } قال الكوفيون : إنها إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله في النساء اليتامى . وقال البصريون : إنها على تأويل جرد قطيفة وسحق عمامة . وجوز بعضهم أن يكون المراد بالنساء أمهات اليتامى كما في قصة أم كحة . ومعنى { لا تؤتونهن ما كتب لهن } قال ابن عباس : يريد ما فرض لهن من الميراث بناء على أنها نزلت في ميراث اليتامى والصغار . وقال غيره : يعني ما كتب لهن من الصداق . { وترغبون أن تنكحوهن } قال أبو عبيدة : هذا يحتمل الشهوة والنفرة أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن ، أو ترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن احتج أصحاب أبي حنيفة بالآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة . ورد باحتمال أن يكون المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن ، ولأن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغبت أمها في المال ، فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قدامة : أنا عمها ووصي أبيها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنها صغيرة وأنها لا تزوج إلا بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر » ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة ، وذلك لا يدل على الجواز { والمستضعفين من الولدان } نزلت في ميراث الصغار . والخطاب في { أن تقوموا } للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم . قيل : ويجوز أن يكون { وأن تقوموا } منصوباً أي ويأمركم أن تقوموا .
ومن جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء لكن لم يتقدم ذكره . قوله { وإن امرأة خافت } ارتفاع { امرأة } بفعل يفسره خافت أي علمت . وقيل : ظنت والظاهر أنه على معناه الأصلي إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور العلامات الدالة على وقوع المخوف كأن يقول الرجل لامرأته : إنك دميمة أو مسنة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة ، والبعل الزوج ، والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل منهما صاحبه ويتبع نشوز الرجل أن يعرض عنها ويقبح وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها . عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول : أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها يومها . ومعنى الصلح وهو مصدر من غير لفظ الفعل مثل { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] { أن يصالحا } على أن تطيب المرأة له نفساً عن القسمة أو عن بعضها أو عن المهر والنفقة فإن هذه الأمور هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى . أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء { والصلح خير } من الفرقة أو من النشوز والإعراض فاللام للعهد ، أو هو خير من الخصومة في كل شيء فاللام للاستغراق وبه تمسك أصحاب أبي حنيفة في جواز الصلح على الإنكار ، أو الصلح خير من الخيرات كما أن الخصومة شر من الشرور والجملة معترضة ، وكذا قوله : { وأحضرت الأنفس الشح } إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب محصل للمقصود . والشح البخل مع حرص ، وأرض شحاح لا تسيل إلا من مطر كثير . جعل الشح كالأمر الحاضر للنفوس لأنها جلبت على ذلك . ثم يحتمل أن يكون هذا تعريضاً بالمرأة أنها تشح ببذل نصيبها أو حقها ، أو بالزوج أنه يشح بأنه ينقضي عمره معها مع دمامتها وكبر سنها وعدم الالتذاذ بصحبتها . واعلم أنه رخص أولاً في الصلح بقوله : { فلا جناح عليهما } وغايته ارتفاع الإثم ، ثم بين أنه كما لا جناح فيه فكذلك فيه خير كثير .
ثم حث على الإحسان والتقوى وحسم مادة الخصومة رأساً فقال : { وإن تحسنوا } أي بالإقامة على نسائكم { وإن كرهتموهن } وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة المحوجة إلى الصلح { فإن الله كان بما تعملون } من الإحسان والتقوى { خبيراً } فيثيبكم على ذلك . وعلى هذا فالخطاب للأزواج ، وقيل : الخطاب للزوجين أن يحسن كل منهما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم . وقيل : لغيرهما أن يحسنوا في المصالحة بينهما ويتقوا الميل إلى واحد منهما . يحكى أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم .
فأجالت يوماً نظرها في وجهه ثم قالت : الحمد لله . فقال : مالك؟ فقالت : حمدت الله على إني وإياك من أهل الجنة . لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، والشاكر والصابر من أهل الجنة . { ولن تستطيعوا أن تعدلوا } لن تقدروا على التسوية بين النساء في ميل الطباع { ولو حرصتم } وإذا لم تقدروا عليها بحيث لا يقع ميل ألبتة ولا زيادة ولا نقصان لم تكونوا مكلفين به ، وهذا تفسير يناسب مذهب المعتزلة من أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز { فلا تميلوا كل الميل } أي رفع عنكم تمام العدل وغايته ولكن ائتوا منه ما استطعتم بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم . وبوجه آخر لن تستطيعوا التسوية في الميل القلبي { ولو حرصتم } ولا التسوية الكلية في نتائج الحب من الأقوال والأفعال لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال { فلا تميلوا كل الميل } فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها ونفقتها وسائر حقوقها وحظوظها من غير رضا منها { فتذروها كالمعلقة } بين السماء والأرض لا على قرار أي غير ذات بعل ولا مطلقة . والغرض النهي عن الميل الكلي مع جواز التفريط في العدل الكلي في نتائج الميل القلبي ، وأما الميل القلبي فمعفو بالكل وبالبعض لأن القلب ليس في تصرف الإنسان وإنما هو بين أصبعين من أصابع الرحمن . عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل فيقول : « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك » يعني المحبة لأن عائشة كانت أحب إليه . وعنه صلى الله عليه وسلم : « من كانت له امرأتان يميل مع أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل » { وإن تصلحوا } ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة { وتتقوا } فيما يستقبل { فإن الله كان غفوراً رحيماً وإن يتفرقا يغن الله كلاً } يرزق كل واحد منهما زوجاً خيراً من زوجه وعيشاً أهنأ من عيشته . والسعة الغنى والمقدرة { وكان الله واسعاً } من الرزق والفضل والرحمة والعلم وأي كمال يفرض ولهذا أطلق . { حكيماً } قال ابن عباس : فيما حكم ووعظ . وقال الكلبي : فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان .
ثم قال : { ولله ما في السموات وما في الأرض } وهو كالتفسير لسعة ملكه وملكه . وفيه أن الذي أمر به من العدل والإحسان إلى اليتامى والنسوان ليس لعجز أو افتقار وإنما يعود فائدة ذلك إلى المكلف لأنه الأحسن له في دنياه وعقباه . ثم بين أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة لم يلحقها نسخ وتبديل ، وإن استغناءه تعالى بالنسبة إلى الأمم السالفة كهو بالنسبة إلى الأمم الآتية فقال : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب } أي جنسه ليشمل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف .
وقوله : { من قبلكم } إما أن يتعلق ب { وصينا } أو ب { أوتوا } وقوله : { وإياكم } عطف على { الذين } ومعنى { أن اتقوا } بأن اتقوا وتكون « أن » المفسرة لأن التوصية في معنى القول . { وإن تكفروا } عطف على { اتقوا } أي أمرناهم وأمرناكم بالتقوى . وقلنا لهم ولكن إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحقه أن يكون مطاعاً في خلقه غير معصى يخشون عقابه ويرجون ثوابه . أو قلنا لهم ولكم : إن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة وغيرهم من يوحده ويعبده ويتقيه { وكان الله } مع ذلك { غنياً } عن خلقه وعن عباداتهم { حميداً } في ذاته وإن لم يحمده واحد منهم . ثم كرر قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } تقريراً لأنه أهل أن يتقى وتوكيداً لاستغنائه عن طاعات المطيعين وسيئات المذنبين . ثم بالغ في هذا المعنى بقوله : { إن يشأ يذهبكم } يعدمكم أيها الناس { ويأت بآخرين } يوجد خلقاً آخرين غير الإنس أو من جنس الإنس { وكان الله } على ذلك الإعدام ثم الإيجاد { قديراً } بليغ القدرة لم يزل موصوفاً بذلك ولن يزال كذلك . وفي الآية من التخويف والغضب ما لا يخفى . وقيل : الخطاب لأعداء النبي صلى الله عليه وسلم من العرب والمراد بآخرين ناس يوالونه . يروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال : « إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس » ثم رغب الإنسان فيما عنده من الكرامة فقال : { من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فماله يطلب الأخس بالذات مع أنه إذا طلب الأشرف تبعه الأخس . فالتقدير : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ليحصل ربط الجزاء بالشرط { وكان الله سميعا } لأقوال المجاهدين والطالبين { بصيراً } بمطامح عيونهم ومطارح ظنونهم فيجازيهم على نحو ذلك . ثم بيّن أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله فقال : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مجتهدين في اختيار العدل محترزين عن ارتكاب الميل { شهداء لله } لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو كانت تلك الشهادة وبالاً على أنفسكم ، أو الوالدين والأقربين بأن يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره . وفي كلام الحكماء : « إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى » . أو المراد الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها وأن يقول : أشهد أنّ لفلان على والدي كذا أو على أقاربي كذا . وإنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لله عكس قوله : { شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط } [ آل عمران : 18 ] لأنّ شهادة الله تعالى عبارة عن كونه خالقاً للمخلوقات ، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية قوانين العدل في تلك المخلوقات ، والأول مقدم علىلثاني .
وأما في حق العباد فالعدالة مقدمة على الشهادة تقدم الشرط على المشروط فاعلم { إن يكن } المشهود عليه { غنياً أو فقيراً } فلا تكتموا الشهادة طلباً لرضا الغني أو ترحماً على الفقير { فالله أولى } بأمورهما ومصالحهما . وكان حق النسق أن لو قيل فالله أولى به أي بأحد هذين إلاّ أنه ثنى الضمير ليعود إلى الجنسين كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الفقير والغني أي بالأغنياء والفقراء يريد بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها . قال السدي : اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقر وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلاّ أن يقوم بالقسط في الغني والفقير وأنزل الآية . وقوله : { أن تعدلوا } يحتمل أن يكون من العدل أو من العدول فكأنه قيل : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس ، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق . واحتمال آخر وهو أن يراد اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا أي حتى تتصفوا بصفة العدالة لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى . ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر { وأن تلووا } بواوين من لوى يلوي إذا فتل ، وبواو واحدة من الولاية والمعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل { أو تعرضوا } عن الشهادة بما عندكم أو إن وليتم إقامة الشهادة أو تركتموها . واعلم أن الإنسان لا يكون قائماً بالقسط إلاّ إذا كان راسخ القدم في الإيمان فلهذا أردف ما ذكر بقوله : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } وظاهر مشعر بالأمر بتحصيل الحاصل . فالمفسرون ذكروا فيه وجوهاً الأول : { يا أيها الذين آمنوا } في الماضي والحاضر { آمنوا } في المستقبل أي دوموا على الإيمان واثبتوا . الثاني : { يا أيها الذين آمنوا } تقليداً { آمنوا } استدلالاً . الثالث : { يا أيها الذين آمنوا } استدلالاً إجمالياً { آمنوا } استدلالاً تفصيلياً . الرابع : { يا أيها الذين آمنوا } بالله وملائكته وكتبه ورسله { آمنوا } بأن كنه الله تعالى وعظمته وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا ينتهي إليها عقولكم . الخامس قال الكلبي : إن عبد الله بن سلام وأسداً وأسيداً ابني كعب وثعلبة بن قيس وجماعة من مؤمني أهل الكتاب قالوا : يا رسول الله ، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فأنزل الله هذه الآية فآمنوا بكل ذلك . وقيل : إن المخاطبين ليسوا هم المسلمين والتقدير : { يا أيها الذين آمنوأ } بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل { آمنوا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبجميع الكتب المنزلة من قبل لا ببعضها فقط ، لأن طريق العلم بصدق النبي هو المعجز وأنه حاصل في الكل ، فالخطاب لليهود والنصارى .
أو { يا أيها الذين آمنوا } بالسان { آمنوا } بالقلب فهم المنافقون أو { يا أيها الذين آمنوا } باللات والعزى { آمنوا } بالله فهم المشركون ، والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل جنسه . فإن قيل : لم ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة : الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب . وذكر في مراتب الكفر أموراً خمسة؟ أجيب بأن الإيمان بالثلاثة يلزم منه الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر ، لكنه ربما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالثلاثة ثم إنه ينكر الملائكة واليوم الآخر لتأويلات فاسدة ، فلما كان هذا الاحتمال قائماً نص على أن منكر الملائكة والقيامة كافر بالله . فإن قيل : لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب في مراتب الكفر عكس الأمر؟ فالجواب أن الكتاب مقدم على الرسول في مرتبة النزول من الخالق إلى الخلق ، وأما في العروج فالرسول مقدم على الكتاب . وبوجه آخر الرسول الأول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والرسل عام له ولغيره ، فلما خص ذكره أولاً للتشريف جعل ذكره تالياً لذكر الله لمزيد التشريف ولبيان أفضليته صلى الله عليه وسلم .
ثم لما رغب في الإيمان والثبات عليه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً } والمراد الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان تارات وأطواراً . قال القفال : وليس المراد بيان العدد بل المراد ترددهم وتمرنهم على ذلك . وقيل : اليهود هم آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هم المنافقون أظهروا الإسلام ثم كفروا بنفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم ، ثم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ، ثم ازدادوا كفراً بجدهم واجتهادهم في استخراج وجوه المكايد في حق المسلمين . قيل : هم طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } [ آل عمران : 72 ] ثم إنهم بالغوا في ذلك وازدادوا إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام . وفي الآية دلالة على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وذلك يبطل مذهب القائلين بالموافات وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت الشخص على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان . وفيها أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فيجب أن يكون الإيمان كذلك لأنهما ضدان متنافيان ، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذا الآخر . وكيف يزداد كفرهم فيه وجوه : أحدهها أنهم ماتوا على كفرهم . وثانيها بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا فإصابة الطاعات وقت الإيمان تكون زيادة في الإيمان . وثالثها استهزاؤهم بالدين . أما قوله تعالى : { لم يكن الله ليغفر لهم } فقيل عليه اللام تفيد نفي التأكيد وهذا لا يليق بالوضع إنما اللائق به تأكيد النفي .
وأجيب بأن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم أفاد تأكيد النفي . ثم أورد عليه أن الكفر قبل التوبة غير مغفور على الإطلاق وحينئذٍ تضيع الشرائط المذكورة في الآية ، وبعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة فكيف يصح النفي؟ وأجيب بأن اللام في الذين لمعهودين وهم قوم علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر لا يتوبون عنه قط ، فقوله : { لم يكن الله ليغفر لهم } إخبار عن موتهم على الكفر ، أو اللام للاستغراق وخرج الكلام على الغالب المعتاد وهو أن من كان مضطرب الحال كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر ، لم يكن للإيمان في قلبه وقع واحتشام . فالظاهر من حال مثله أنه يموت على الكفر ، فليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبراً بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب كالفاسق يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق . { ولا ليهديهم سبيلاً } أي إلى الإيمان عند الأشاعرة ، وعند المعتزلة إلى الجنة . أو محمول على المنع من زيادة الألطاف . { بشر المنافقين } تهكم كقولهم : عتابك السيف وتحيتهم الضرب { أيبتغون عندهم العزة } كان المنافقون يوادّون اليهود اعتقاداً منهم أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ يبتغون بودّهم أن يحصل لهم بهم قوة وغلبة ، فخيّب الله آمالهم بقوله : { فإن العزة لله جميعاً } وعزّة الله تستتبع عزة الرسول والمؤمنين كقوله : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] و { جميعاً } حال من العزة أي مجموعة . قال المفسرون : إنّ المشركين كانوا بمكة يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به وبين أظهرهم المسلمون ولا يتهيّأ لهم حينئذِ الإنكار عليهم ظاهراً فنزلت إذا ذاك . { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } فكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ويجالسهم بعض المنافقين فأنزل الله تعالى في هؤلاء المنافقين { وقد نزل عليكم في الكتاب } معنى آية الأنعام { أن إذا سمعتم آيات الله } هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر والمعنى أنه إذا سمعتم آيات الله حال كونها يكفر بها ويستهزأ بها . وقال الكسائي : المعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها ، ولكن أوقع فعل السماع على الآيات كما يقال : سمعت عبد الله يلام وفيه نظر ، لأنّ إيقاع فعل السماع على الآيات ممكن بخلاف إيقاعه على عبد الله . { إنكم } أيها المنافقون { إذا مثلهم } مثل الأحبار في الكفر و « إذن » ههنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ولذلك لم يذكر بعدها الفعل أي إذن تكونوا مثلهم ، وأفرد { مثلهم } لأنها في معنى المصدر نحو { أنؤمن لبشرين مثلنا } [ المؤمنون : 47 ] وقد جمع في قوله :
{ ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] وإنما لم يحكم بكفر المسلمين بمكة لمجالسة المشركين الخائضين وحكم بنفاق هؤلاء بالمدينة لمجالسة أحبار اليهود الخائضين ، لأن مجالسة أولئك المسلمين كانت للضرورة وفي أوان ضعف الإسلام ولم يرد نهي بعد ، ومجالسة هؤلاء المنافقين كانت في وقت الاختيار وقوة الإسلام وبعد ورود النهي . قال أهل العلم : في الآية دليل على أن من رضي بالكفر فهو كافر ، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان شريكهم في الإثم .
ثم حقق كون المنافقين مثل الكافرين بقوله : { إنّ الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } يعني القاعدين والمقعود معهم . والضمير في { معهم } يعود إلى الكافرين المستهزئين بدلالة { يكفر بها ويستهزأ بهأ } وأراد { جامع } بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين تخفيفاً في اللفظ . والمعنى أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : « المرء مع من أحب » { يتربصون بكم } ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من نصر أو إخفاق . { فإن كان لكم فتح من الله } ظهور على اليهود { قالوا ألم نكن معكم } مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة { وإن كان للكافرين } أي اليهود نصيب استيلاء مّا في الظاهر { قالوا ألم نستحوذ عليكم } الحوذ السوق السريع والاستحواذ الغلبة . وهذا جاء بالواو على أصله كما جاء استروح واستصوب . وفي الآية وجهان : الأول ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئاً من ذلك { ونمنعكم من المؤمنين } بأن ثبطناهم عنكم فهاتوا نصيباً لنا مما أصبتم . الثاني أنّ أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام . ثم إنّ المنافقين نفروهم وأطعموهم أنه سيضعف أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويقوى أمركم . فالمراد ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وأرشدناكم إلى مصالحكم فادفعوا إلينا نصيباً مما وجدتم . وفي تسمية ظفر المؤمنين فتحاً وظفر الكافرين نصيباً تثبيت للمؤمنين وتعظيم لما هم عليه من الدين وتحقير لشأن الكافرين وتوهين لأمرهم ، فكان ظفر المسلمين أمر عظيم يفتح له أبواب السماء حين ينزل على أولياء الله ، وظفر الكافرين حظ دنيوي ينقضي ولا يبقى منه إلاّ الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } أي بين المؤمن والمنافق . والغرض أنه يقال : ما وضع السيف على المنافقين في الدنيا ولكن أخر عقابهم إلى يوم القيامة { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } قال علي وابن عباس : المراد في الدنيا ولكن بالحجة أي حجة المسلمين غالبة على حجة الكل . وقيل : في الآخرة . وقيل : عام في الكل . والشافعي بنى عليه مسائل منها : أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه إلى دار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية .
ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدأً مسلماً . ومنها أنّ المسلم لا يقتل بالذمي والله تعالى أعلم .
التأويل : النفس للروح كالمرأة للزوج و { يتامى النساء } صفات النفوس و { ما كتب لهن } ما أوجب الله للنفوس من الحقوق . وحاصل المعنى أنّ نفسك مطيتك فارفق بها وإليه الإشارة بقوله : { والصلح خير وأحضرت الأنفس الشح } فالروح تشح بترك حقوق الله ، والنفس تشح بحظوظها { فلا تميلوا كل الميل } في رفض حظوظ النفس { فتذروها كالمعلقة } بين العالم العلوي والعالم السفلي { وإن يتفرّقا } أي الروح والنفس فالروح تجتذب بجذبة دع نفسك وتعالى إلى سعة غنى الله في عالم هويته لتستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود . والنفس تجتذب عن الروح بجذبة ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله في عالم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي { يا أيها الذين آمنوا آمنوا } للإيمان ثلاث مراتب : إيمان للعوام أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجنة والنار والقدر وهذا إيمان غيبي ، وإيمان للخواص وهو أنه تعالى إذا تجلّى للعبد بصفة من صفاته خضع له جميع أجزاء وجوده وآمن بالكلية وهذا إيمان عياني ، وإيمان للأخص وهو بعد رفع الحجب الأنانية حين أفناه بصفة الجلال وأبقاه بصفة الجمال فلم يبق له إلا عين وبقي في العين وهذا إيمان عيني { إنّ الذين آمنوا } أي بالتقليد { ثم كفروا } إذ لم يكن للتقليد أصل { ثم آمنوا } بالاستدلال العقلي { ثم كفروا } إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي { ثم ازدادوا كفراً } بالشبهات والاعتراضات { لم يكن الله } في الأزل غافراً لهم بنوره عند الرش { ولا ليهديهم سبيلاً } اليوم لأن الأصل لا يخطىء { بشر المنافقين } أي بشرهم بأن أصلهم من جوهر الكفار ولهذا اتخذوا الكافرين أولياء فإنّ ائتلافهم ههنا نتيجة تعارف أرواحهم وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يحشرون .
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
القراآت : { في الدرك } بسكون الراء : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير الأعشى . الباقون بالفتح { يؤتيهم } بالياء : حفص وعياش . الباقون بالنون .
الوقوف : { خادعهم } ط لعطف المختلفين . { كسالى } لا لأن { يراؤون } . صفتهم { قليلاً } ه ز بناء على أن { مذبذبين } نصب على الذم ، والأوجه أنه حال أي يراؤون مذبذبين { بين ذلك } ق وقد قيل على تقدير الابتداء أي لا هم إلى هؤلاء ، والأوجه أنه بيان الذبذبة أي لا منسوبين إلى هؤلاء { هؤلاء } الثانية ط { سبيلاً } ه { من دون المؤمنين } ط { مبيناً } ه { من النار } ج لابتداء النفي مع العطف { نصيراً } ه ط للاستثناء . { مع المؤمنين } ط { عظيماً } ه { وآمنتم } ط { عليماً } ه { ظلم } ط { عليماً } ه { قديراً } ه { ببعض } لا للعطف { سبيلاً } ه لأ لأن ما بعده خبر « إن » وقيل : إن الخبر محذوف أي هلكوا وما يتلوه مستأنف . { حقاً } ج لاحتمال ما بعده للعطف والاستئناف { مهيناً } ه { أجورهم } ط { رحيماً } ه .
التفسير : قال الزجاج : أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] وهو خادعهم اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه . قال ابن عباس : يعطيهم نوراً كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم . وباقي تفسير المخادعة تقدم في أول البقرة . كسالى جمع كسلان كسكارى في سكران أي يقومون متثاقلين متباطئين متقاعسين كما يرى من يفعل شيئاً على كره لا عن طيب نفس ورغبة وهو معنى الكسل . والسبب في ذلك أنهم يبتغون بها في الحال ولا يرجون من فعلها ثواباً ولا يخافون من تركها عقاباً . { يراؤون الناس } أي لا يقومون إلى الصلاة إلاّ لأجل الرياء والسمعة . ومعنى المفاعلة في الرياء أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل ، أو فاعل ههنا بمعنى فعل بالتشديد كقولك : ناعمة ونعمه { ولا يذكرون الله } أي ولا يصلون { إلا قليلاً } لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لا يصلون ، وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلفون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس ، فإن لم يجدوا مندوحة فحينئذٍ يصلون . وقيل : إنهم في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلاً وهو الذي يظهر مثل التكبيرات ، فأما الذي يخفى وهو القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها . وقيل : إنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات إلا ذكراً قليلاً في الندرة كما ترى من بعض المتهاونين بأمور الدين لو صحبته أياماً وليالي لم تسمع منه تهليله ولا تسبيحه ولا تحميدة ، ولكن حديث الدنيا يستغرق أوقاته ، ويجوز أن يراد بالقلة العدم ، قال قتادة : يريد أن الله لا يقبل صلاتهم لأن ما رده الله فكثيره قليل ، وما قبله الله فقليله كثير .
ومعنى مذبذبين ذبذبهم الشيطان والهوى . وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كل الجانبين أي يذاد ويدفع إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه . وقرأ ابن عباس { مذبذبين } بالكسر أي يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم . وعن أبي جعفر « مدبدين » بالدال غير المعجمة والمعنى أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة والدبة الطريقة . ومعنى { بين ذلك } أي بين الكفر والإيمان لأن ذكر الكافرين والمؤمنين يدل على الكفر والإيمان وذلك قد يشار به إلى اثنين كقوله : { عوان بين ذلك } [ البقرة : 68 ] واعلم أن السبب في التذبذب هو أن الفعل يتوقف على الداعي ، فإذا كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم وأنها سيالة متغيرة لزم وقوع التغير في الميل والرغبة ، وإذا تعارضت الدواعي والصوارف بقي الإنسان في الحيرة والتردد ، وأما من كان مطلوبه في فعله اقتناء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والزوال ، لا جرم كان هذا الإنسان ثابتاً في إيمانه راسخاً في شأنه فلهذا المعنى وصف أهل الإيمان بالثبات { يثبت الله الذين آمنوا } [ إبراهيم : 27 ] { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] { يا أيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] قيل : إنه تعالى ذمهم ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكفار ، والذم على ترك طريقة الكفار غير جائز قلنا : إنما توجه الذم لأنهم عدلوا عن الكفر إلى ما هو أخبث وهو طريق النفاق ولهذا ورد فيهم من المبالغات ما ورد من قوله : { ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً } [ الرعد : 28 ] { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء } أي لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء ، وهو نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين والتخلق بأخلاقهم ومذاهبهم . ومعنى { سلطاناً } حجة بينة على النفاق لأن وليّ المنافق منافق لا محالة . ومعنى قوله : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } أي في أقصى قعرها فإن القعر الأخير من النار درك ودرك ومع ذلك وصف بالأسفل . ودركات النار منازلها نقيض درجات الجنة ، فبين أن المنافق في غاية البعد ونهاية الطرد عن حضرة الله تعالى وأنه مع فرعون لأنّ الدرك الأسفل أشد العذاب وقد قال عز من قائل : { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46 ] وقيل : إن النار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض . قال أبو حاتم : جمع الدرك أدراك كفرس وأفراس ، وجمع الدرك أدرك كفلس وأفلس . ثم قال : { ولن تجد لهم نصيراً } احتجوا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل القبلة لأنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق ، فلو حصل نفي الشفاعة مع عدم النفاق لم يبق هذا زجراً عن النفاق من حيث إنه نفاق .
ثم استثنى منهم التائبين فشرط أموراً أربعة أولها التوبة . وثانيها إصلاح ما أفسدوا من أسرارهم . وثالثها الاعتصام بدين الله . ورابعها الإخلاص لأنه إذا كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار تغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعاً ، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله وسعادة الآخرة والاعتصام بحبل الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها . وعند حصول الشرائط قال : { فأولئك مع المؤمنين } ولم يقل مؤمنون تشريفاً للمؤمنين أنهم متبعون والمنافقون بعد الشرائط تبع لهم . ثم بين وعد المؤمنين بقوله : { وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً } ليشمل المنافقين التائبين بالتبعية . ثم برهن على أن فائدة الإيمان والعمل الصالح إنما ترجع على المكلفين فقال : { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } لأن تعذيب الملوك بعض الرعية إنما يكون للتشفي من الغيظ ولدرك الثأر أو لجلب المنافقع أو لدفع المضار وأمثال هذه الأمور في حقه تعالى محال ، وإنما المقصود حمل المكلفين على فعل الحسن وترك القبيح لينالوا السعادة العظمى ، فمن امتثل وأطاع فكيف يليق بكرمه تعذيبه . قالت المعتزلة : هذا صريح في أنه تعالى لم يخلق أحداً لغرض التعذيب . وفي أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وإلاّ لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إن خلق الشكر والإيمان فيكم ، ومعلوم أن هذا غير منتظم . والجواب مسلم أنه تعالى غير مستكمل بالتعذيب ولا بالإثابة لكن وقوع البعض في مظاهر اللطف والبعض في مظاهر القهر ضروري كما سبق . وأيضاً انتهاء الكل إلى إرادته وخلقه وتكوينه ضروري بواسطة أو بغير واسطة ، فيؤل المعنى إلى أنه لا يعذبكم إن كنتم مظاهر اللطف وهذا كلام في غاية الصحة . قال في الكشاف : وإنما قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر أولاً إلى النعمة فيشكر شكراً مبهماً ، ثم إذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به . وأقول : إن لم تكن الواو للترتيب فلا سؤال ، وإن كانت للترتيب فلعله إنما قدم الشكر في هذه الآية خلاف أكثر الآيات التي قدم الإيمان فيها على العمل الصالح وهو الأصل ، لأن الآية مسوقة في غرض المنافقين ، ولم يقع نزاع في إيمانهم ظاهراً وإنما يقع النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني ، فكان تقديم الشكر ههنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة { وكان الله شاكراً } مثيباً على الشكر فسمى جزاء الشكر شكراً ، وفيه أنه يجزي على العمل القليل ثواباً كثيراً { عليماً } بالكليات والجزئيات من غير غلط ونسيان فيوصل جزاء الشاكرين إليهم كما يليق بحالهم بل كما يليق بكرمه وسعة فضلة ورحمته .
ثم إنه سبحانه لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر منافياً للكرم والرحمة ظاهراً ذكر ما يجري مجرى العذر من ذلك فقال : { لا يحب الله الجهر } الآية يعني أنه لا يحب إظهار الفضائح إلا في حق من ظلم وهم المسلمون الذين عظم ضرر المنافقين وكيدهم فيهم .
وأيضاً إن المنافقين إذا تاب وأصلح لم يكد يسلم من تعيير المسلمين إياه على ما صدر عنه في الماضي فبيّن تعالى أن تعييرهم بعد التوبة أمر مذموم وأنه تعالى لا يرضى به إلا من ظلم نفسه وعاد إلى نفاقه . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته . وقالت الأشاعرة : المحبة عبارة عن إيصال الثواب على الفعل وحينئذ يصح أن يقال : إنه أراده وما أحبه . قال أهل العلم : إنه لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر ، ولكنه ذكر هذا الوصف لأن كيفية الواقعة أوجبت ذلك كقوله : { إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا } [ النساء : 94 ] والتبين واجب في الطعن والإقامة . أما قوله : { إلاّ من ظلم } فالاستثناء فيه متصل أو منقطع . وعلى الأول قال أبو عبيدة : تقديره إلاّ جهر من ظلم فحذف المضاف . وقال الزجاج : الجهر بمعنى المجاهر أي لا يحب الله المجاهر بالسوء إلاّ من ظلم . وعلى الثاني المعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته . وماذا يفعل المظلوم؟ قال ابن عباس : له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه . وقال مجاهد : له أن يخبر بظلم ظالمه له . وقال الأصم : لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكنونة حذراً من الغيبة والريبة لكن له إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب . وقال الحسن : له أن ينتصر من ظالمه . وعن مجاهد أن ضيفاً تضيف قوماً فأساؤا قراه فاشتكاهم فنزلت الآية رخصة في أن يشكو . وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير { إلاّ من ظلم } على البناء للفاعل . وقيل : إنه كلام منقطع عما قبله أي لكن من ظلم فدعوه وخلوه . وقال الفراء والزجاج : معناه لكن من ظلم فإنه يجهر له بالسوء من القول { وكان الله سميعاً عليماً } فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستوراً . ثم حث على العف بقوله : { إن تبدوا خيراً أو تخفوه } وهو إشارة إلى إيصال النفع { أو تعفوا عن سوء } وهذا إشارة إلى دفع الضرر ، وعلى هذين تدور المعاشرة مع الخلق . { فإنّ الله عفواً قديراً } قال الحسن : أي يعفو عن الجاني مع قردته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنّة الله . وقيل : عفو لمن عفا ، قدير على إيصال الثواب إليه ، وقال الكلبي : معناه أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك . وفي الخبر أن أبا بكر الصديق شتمه رجل فسكت مراراً ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر : شتمني وأنت جالس فلام رددت عليه قمت .
قال : إن ملكاً كان يجيب عنك ، فلما رددت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان . ثم إنه سبحانه تكلم بعد ذكر أحوال المنافقين في مذاهب اليهود والنصارة وأباطيلهم . وذلك أنواع : الأول إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض فسلكهم في سلك من لا يقر بالوحدانية ولا بالنبوّات وهم الذين يكفرون بالله ورسله ، وفي سلك من يقر بالوحدانية وينكر النبوّات وهم الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله في الإيمان بالله والكفر بالرسل؛ وذلك أن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان ، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا لمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا بالبعض وأرادوا أن يتخذوا بين ذلك أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلاً أي واسطة { أولئك } أي الطوائف الثلاث { هم الكافرون } أما الطائفة الأولى فكفرهم ظاهر ، وأما الثانية فلأنّ تكذيب الأنبياء وإنكارهم يستلزم تكذيب الله { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] وأما الطائفة الثالثة فلأنّ الدليل الدال على نبوة بعض الأنبياء هو المعجزة ويلزم منه حصول النبوة حيث حصل المعجز فالقدح في بعض من ظهر على يده المعجزة هو القدح في كل نبي . فقيل : هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على إنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلاً به ، فإلزام الكفر أمر والتزام الكفر غيره . فالجواب أن الإلزام إذا كان خفياً يحتاج فيه إلى فكر وتأمل فالأمر كما ذكرتم ، أما إذا كان جلياً واضحاً لم يبق بين الإلزام والإلتزام فرق . وانتصاب { حقاً } على أنه مصدر مؤكد لغيره كقوله : زيد قائم حقاً أي أخبرتك بهذا المعنى إخباراً حقاً أي ثابتاً . وقيل : المراد هم الكافرون كفراً حقاً وطعن الواحدي فيه بأن الكفر لا يكون حقاً بوجه من الوجوه . وأجيب بأن الحق ههنا الكامل الراسخ الثابت . ثم ختم النوع بوعد المؤمنين . ومعنى : { بين أحد } بين اثنين منهم أو جماعة لأن أحداً في سبياق النفي يفيد التعدد . ومعنى { سوف } توكيد الوعيد لا التأخر المجرد ولهذا قال سيبويه : لن أفعل نفى سوف أفعل . فالمعنى أن إيتاء الأجور كائن لا محالة وإن تأخر .
التأويل : إنّ المنافقين يخادعون الله في الدنيا لأن الله خادعهم في الأزل حيث رش نوره وشاهدوه ثم أخطأهم إن شكرتم نعم الله عليكم وآمنتكم أنفسكم من عذابه { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } من العوام ولا من التحدث بالنفس من الخواص ولا من الخواطر من الأخص { إلاّ من ظلم } إما بتقاضي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار . وأيضاً { لا يحب الله الجهر بالسوء من القول } بإفشاء سر الربوبية ، وإظهار مواهب الألوهية ، أو بكشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب { إلا من ظلم } بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني : أنا الحق وسبحاني { إن تبدوا خيراً } مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيهاً للخلق وإفادة بالحق ، أو تخفوه صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وفطامها عن المشارب { أو تعفوا عن سوء } مما يدعو إليه هوى النفس الأمارة ، أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوءاً { فإن الله كان عفواً } فتكون عفواً متخلقاً بأخلاقه { إن الذين يكفرون } فيه إشارة إلى أن الإيمان لا يتبعض وإن كان يزيد وينقص مثاله شعاع الشمس؛ إذا دخل كوّة البيت فيزيد وينقص بحسب سعة الكوة وضيقها ، ولكن لا يمكن تجزئتها بحيث يؤخذ جزء منه فيجعل في شيء آخر غير محاذ للشمس والله تعالى أعلم .
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
القراآت : { لا تعدوا } بتشديد الدال مع سكون العين : أبو جعفر نافع غير ورش وقرأ ورش مفتوحة العين مشددة . { بل طبع } بالإدغام : علي وهشام وأبو عمرو وعن حمزة { بل رفعه } مظهراً وبابه : الحلواني عن قالون { سيؤتيهم } حمزة وخلف وقتيبة . الباقون بالنون { زبوراً } بضم الزاي حيث كان : حمزة وخلف والباقون بالفتح .
الوقوف : { بظلمهم } ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع أن مراد الكلام متحد . { عن ذلك } ج لأن التقدير وقد آتينا . { مبيناً } ه { غليظاً } 5 { غلف } ط { قليلاً } ه ص للعطف . { عظيماً } ه لا لأنّ التقدير وفي قولهم . { رسول الله } ج لأن ما بعده يحتمل ابتداء النفي والحال . { شبه لهم } ط { منه } ط { الظن } ج لاحتمال الاستئناف والحال { يقيناً } ج لتقرير نفي القتل بإثبات الرفع { إليه } ط { حكيماً } ه { قبل موته } ط لأن الواو للاستئناف مع اتحاد المقصود . { شهيداً } ه ج للآية ولأن قوله : { فبظلم } راجع إلى قوله : { فبما نقضهم } { وقولهم } متعلق الكل { حرمنا } . { كثيراً } لا { بالباطل } ط { اليماً } ه { واليوم الآخر } ط { عظيماً } ه { من بعده } ج للعطف من مع تكرار الفعل . { وسليمن } ج لأنّ التقدير وقد آتينا التخصيص داود بإيتاء الزبر . { زبوراً } ه ج لأنّ التقدير وقصصنا رسلاً . { عليك } ط . { تكليماً } ه ج لاحتمال البدل والنصيب على المدح . { الرسل } ط ج { حكيماً } ه { بعلمه } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال . { يشهدون } ط { شهيداً } ه { بعيداً } ه { طريقاً } ه لا { أبداً } ط { يسيراً } ه .
التفسير : هذا نوع ثان من جهالات اليهود فإنهم قالوا : إن كنت رسولاً من عند الله فأتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح . وقيل : اقترحوا أن ينزل عليهم كتاباً إلى فلان وكتاباً إلى فلان بنك رسول الله . وقيل : كتاباً نعاينه حين ينزل . فإن استكبرت ما سألوه { فقد سألوا } بمعنى سأل آباؤهم ومن هؤلاء على مذهبهم { موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } وأنما كان سؤال الرؤية أكبر من سؤال تنزيل الكتاب لأن التنزيل أمر ممكن في ذاته بخلاف رؤية الله عياناً فإنها ممتنعة لذاتها عند المعتزلة ، أو ممتنعة في الدنيا عند غيرهم . وفي قوله : { من بعد ما جاءتهم البينات } وجوه : أحدها أن البينات الصاعقة لأنها تدل على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفاً للأجسام والأعراض ، وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة . وثانيها أنها إنزال الصاعقة واحياؤهم بعد إماتتهم . وثالثها أنها الآيات التسع من العصا واليد وفلق البحر وغيرها . وفحوى الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فاعلم أنهم لا يطلبونه منك إلاّ عناداً ولجاجاً فإن موسى عليه السلام قد أنزل عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات الباهرة ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل ، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق { فعفونا عن ذلك } حيث لم نستأصل عبدة العجل { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } تسلطاً ظاهراً وهو أن أمرهم بقتل أنفسهم ، أو المراد قوّة أمره وكمال حاله وانكسار خصومه ففيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم .
ثم حكى عنهم سائر جهالاتهم واصرارهم على أباطيلهم منها أنه تعالى رفع الطور بميثاقهم أي بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه ، ومنها قصة دخولهم الباب باب بيت المقدس ، ومنها قصة اعتدائهم في السبت باصطياد السمك وقد مر جميع هذه القصص في سورة البقرة ، وقيل : إن العدو ههنا ليس بمعنى الاعتداء وإنما هو بمعنى الحضر والمراد به النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قيل لهم : اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا الرزاق . ثم قال : { وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً } أي العهد المؤكد غاية التوكيد على أن يتمسكوا بالتوراة ويعملوا بما فيها { فبما نقضهم } « ما » مزيدة للتوكيد أي فبنقضهم وبسبب كذا وكذا ثم قال : { بل طبع الله عليها } ردّاً لقولهم قلوبنا أوعية للعلم وتنبيهاًَ على أنه تعالى ختم عليها فلهذا لا يصل أثره الدعوة البيان إليها ، أو تكذيباً لادعائهم إن قلوبنا في أكنة وذلك بحسب تفسيري الغلف كما مر في سورة البقرة { فلا يؤمنون إلاّ } إيماناً { قليلاً } وهو إيمانهم بموسى والتوراة على زعمهم وإلا فالكافر بنبي واحد كافر بجميع الأنبياء فالقلة في الحقيقة بمعنى العدم { وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً } فإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب وكذا إنكارهم نبوة عيسى كفر ونسبتهم الزنا لمريم بهتان عظيم لأنه ظهر لهم عند ولادة عيسى من الكرامات والمعجزات ما دلهم على براءتها من كل سوء { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله } قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] أو أنه تعالى جعل الذكر الحسن مكان القبيح الذي كانوا يطلقونه عليه من الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة . { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه } أي المقتول { لهم } لدلالة ذكر قتلنا على المقتول ، أو يكون شبه مسنداً إلى الجار والمجرور وهولهم أي وقع لهم التشبيه ، ولا يجوز أن يكون في شبه ضمير المسيح لأنه المشبه به وليس بمشبه . قال أكثر المتكلمين : إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله إلى السماء فخاف رؤساء اليهود وقوع الفتنة فيما بين عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبَّسوا على الناس أنه هو المسيح ، والناس ما كانوا يعرفون المسيح ، إلاّ بالاسم لإنه كان قليل المخالطة مع الناس .
وقيل : إن اليهود لما علموا أنه في البيت الفلاني مع أصحابه أمر يهوذا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له طيطانوس أن يدخل على عيسى ويخرجه ليقتله ، فلما دخل عليه أخرج الله تعالى عيسى من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فخرج فظنوا أنه هو المسيح فصلبوه وقتلوه . وقيل : وكلوا بعيسى عليه السلام رجلاً يحرسه وصعد عيسى في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله الشبه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست عيسى . وقيل إن رهطاً من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم : اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني وسب والدتي . فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير ، فأجمعت اليهود على قتله فلما هموا بأخذه وكان معه عشرة من أصحابه قال لهم : من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم : أنا فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى . وقيل : كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى وكان منافقاً ، فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه ألقى الله شبهه عليه فقتل وصلب { وإنّ الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } قيل : إن المختلفين هم اليهود لما قتلوا الشخص المشبه ونظروا إلى بدنه قالوا : الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره . وقال السبكي : لما قتلوا اليهودي المشبه مكانه قالوا : إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقيل : إن المختلفين هم النصارى وذلك أنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة : النسطورية والملكانية واليعقوبية . فالنسطورية زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وهو قريب من قول الحكماء إنّ القتل والموت يرد على الهيكل لا على النفس المجردة ، وعلى هذا فالفرق بين عيسى وبين سائر المصلوبين أن نفسه كانت قدسية علوية مشرقة قريبة من عالم الأرواح فلم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن . وقالت الملكانية : القتل والصلب وصل إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة . وقالت اليعقوبية : القتل والصلب وقع للمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين ، والشك في الأحكام استواء طرفي نقيضه عند الذاكر وقد يطلق عليه الظن وبهذا ذم في قوله : { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } وأما العمل بالقياس فليس من اتباع الظن في شيء لأنه عمل بالطرف الراجح ، ولأن العلم بوجوب العمل قطعي . ثم قال : { وما قتلوه يقيناً } وإنه يحتمل عدم يقين القتل أي قتلاً يقيناً أو متيقنين . واليقين عقد جازم مطابق ثابت لدليل ويحتمل يقين عدم القتل على أن { يقيناً } تأكيد لقوله : { وما قتلوه } أي حق انتفاء قتله حقاً وهذا أولى لقوله : { بل رفعه الله إليه } وقيل : هو من قولهم قتلت الشيء علماً إذا تبالغ فيه علمه فيكون تهكماً بهم لأنه نفى عنهم العلم أولاً نفياً كلياً ثم نبه بقوله : { وكان الله عزيزاً حكيماً } على أن رفع عيسى إلى السماء بالنسبة إلى قدرته سهل وأن فيه من الحكم والفوائد ما لا يحصيها إلاّ هو .
ثم قال : { وإن من أهل الكتاب إلاّ ليومننّ به قبل موته } فقوله : { إلاّ ليؤمنن به } جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف « وإن » هي النافية . التقدير : وما من أهل الكتاب أحد إلاّ ليؤمنن به كقوله : { وما منا إلاّ له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] والضمير في { به } عائد إلى عيسى ، وفي { موته } إلى أحد . عن شهر بن حوشب قال لي الحجاج : آية ما قرأتها إلاّ تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال : إني أوتي بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك . فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدوّ الله أتاك عيسى نبياً فكذبت به فيقول : آمنت أنه عبد نبي . وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبياً فزعمت أنه الله أو ابن الله فيؤمن به ويقول : إنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه . قال : وكان متكئاً فاستوى جالساً فنظر إليّ وقال : ممن قلت؟ قلت : حدثني محمد بن علي ابن الحنفية فأخذ ينكت الأرض بقضيبه ثم قال : لقد أخذتها من عين صافية أو من معدنها . وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه . قال : وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال : يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به . وفائدة هذا الإخبار الوعيد وإلزام الحجة والبعث على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع ، لأنه إذا لم يكن بد من الإيمان به فلأن يؤمنوا به حال التكليف ليقع معتداً به أولى . وقيل : الضميران في { به } وفي { موته } لعيسى والمراد بأهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله . روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود والنمور مع الإبل والبقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه . قال بعض المتكلمين : ينبغي أن يكون هذا عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكليف على وجه يعرف أنه عيسى . فأما أن يكون نبياً - ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم - أو غير نبي وعزل الأنبياء لا يجوز .
وأجيب بأنه كان نبياً إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك انتهت مدة نبوته فلا يلزم عزله فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال في الكشاف : ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلاّ ليؤمن به على أن الله تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما أنزل له ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم وقيل : الضمير في { به } يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم { ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً } يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله وكذلك كل نبي شاهد على أمته . قوله : { فبظلم } التنوين للتعظيم يعني فبأي ظلم { من الذين هادوا } والذنوب نوعان : الظلم على الخلق وهو قوله : { فبظلم من الذين هادوا } الآية والإعراض عن الدين الحق وهو قوله : { وبصدّهم عن سبيل الله كثيراً } أي ناساً كثيراً أو صداً كثيراً . ومن هذا القبيل أخذ الربا بعد النهي عنه وأكل أموال الناس بالباطل أي بالرشا على التحريف؛ فهذه الذنوب هي الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فتحريم بعض المطاعم الطيبة كما يجيء في سورة الأنعام : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [ الأنعام : 146 ] الآية وأما في الآخرة فقوله : { وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً } واعلم أن في متعلق قوله : { فبما نقضهم } وما عطف عليه قولين : الأوّل أنه محذوف والتقدير : فبنقضهم وبكذا وكذا لعناهم أو سخطنا عليهم أو نحو ذلك ثم استأنف قوله : { فبظلم } ومتعلقه { حرمنا } وكذا متعلق المعطوفات بعده . الثاني أن متعلق الكل { حرمنا } وقوله : { فبظلم } بدل من قوله : { فبما نقضهم } قاله الزجاج . ويرجح الأوّل بأن حذف المتعلق أفخم ليذهب الوهم كل مذهب ، ولأنّ تحريم الطيبات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقها بتلك الجنايات العظائم . قلت : لو جعل قوله : { وأعتدنا } معطوفاً على { حرمنا } زال هذا الإشكال ، أما تكرار الكفر في الآيات ثلاث مرات ويلزم من عطف الثالث على الأوّل أو على الثاني عطف الشيء على نفسه فقد أجاب عنه في الكشاف بأنه قد تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض ، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه كأنهم قيل : فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء عليهم السلام ، وقولهم قلوبنا غلف ، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى ، عاقبناهم أو بل طبع الهل عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا . ثم وصف طريقة المؤمنين المحقين منهم فقال : { لكن الراسخون في العلم منهم } يعني عبدالله بن سلام وأضرابه ممن نبت في العلم وثبت وأتقن واستبصر حتى حصلت له المعارف بالاستدلال واليقين دون التقليد والتخمين ، لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك تشكك ، أما المستدل فإنه لا يتشكك ألبتة { والمؤمنون } يريد المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار .
والراسخون مبتدأ و { يؤمنون } خبره . أما قوله : { والمقيمين الصلاة } ففيه أقوال : الأوّل روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا : إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها ، ولا يخفى ركاكة هذا القول لأن هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ الثاني قول البصريين إنه نصب على المدح لبيان فضيل الصلاة { والمؤتون الزكاة } رفع على المدح لبيان فضل الزكاة كقولك : جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد . فتقدير الآية أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } وطعن الكسائي في هذا القول بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وههنا الخبر وهو قوله : { أولئك } إلخ منتظر . والجواب أن الخبر { يؤمنون } ولو سلم فما الدليل على أنه لا يجوز الاعتراض بالمدح بين المبتدأ وخبره؟ الثالث وهو اختيار الكسائي أن المقيمين خفض للعطف على ما في قوله : { إنما أنزل إليك } والمراد بهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع واحد منهم من الصلاة قال تعالى : { وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة } [ الأنبياء : 73 ] أو الملائكة لقوله : { وإنا لنحن الصافون } [ الصافات : 165 ] واعلم أن العلماء ثلاثة أقسام : العلماء بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه ، والعلماء بذات الله وصفاته الواجبة والممتنعة وأحوال المبدإ والمعاد ، والعلماء الجامعون بين العلمين المذكورين مع العمل بما يجب العمل به وهم الراسخون في العلم وأنهم أكابر العلماء ، وإلى الأقسام الثلاثة أشار بقوله صلى الله عليه وسلم : « جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء » اللهم اجعلنا من زمرتهم بفضلك يا مستعان . ثم إنه سبحانه عاد إلى الجواب عن سؤال اليهود وهو اقتراح نزول الكتاب جملة فقال : { إنا أوحينا إليك } الآية . فبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه أول من شرع الله على لسان الأحكام والحلال والحرام ، ثم قال : { والنبيين من بعده } ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم ، ولم يذكر فيهم موسى لأن المقصود من تعداد هؤلاء الأنبياء أنهم كانوا رسلاً مع أن واحداً منهم ما أوتي كتاباً مثل التوراة دفعة واحدة . ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله : { وآتينا داود زبوراً } يعني أنكم اعترفتم ، أن الزبور من عند الله ، ثم إنه ما نزل على داود جملة واحدة وهذا إلزام حسن قوي والزبور كتاب داود عليه السلام . من قرأ بضم الزاي فعلى أنه جمع زبر وهو الكتاب كقدر وقدور . ثم قال : { ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك } والمعنى أنه تعالى إنه ذكر أحوال بعض الأنيباء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل { وكلم الله موسى تكليماً } هذا أيضاً من تتمة الجواب .
والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بشرف التكليم معهم ولم يلزم منه الطعن في سائر الأنبياء فكيف يلزم الطعن بإنزال التوراة عليه دفعة وإنزال غيرها على غيره منجماً { رسلاً مبشرين ومنذرين } يعني أن المقصود من بعثة الأنبياء إلزام التكاليف بالإنذار والتبشير ، وقد يتوقف هذا المطلوب على إنزال الكتب وقد يكون إنزال الكتاب منجماً مفرقاً أقرب إلى المصلحة لأنه إذا نزل جملة كثرة التكاليف فيثقل القبول كما ثقل على قوم موسى فعصوا . ثم ختم الآية بقوله : { وكان الله عزيزاً حكيماً } والمعنى أن عزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه وإن كان أمراً هيناً في القدرة وكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع ، لأنه لو فعل ذلك لأصروا على اللجاج في كل قضية . واحتج الأشاعرة بالآية على أن معرفة الله لا تثبت إلاّ بالسمع لقوله : { لئا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } فيكون قبل البعثة لهم حجة في ترك الطاعات والمعارف . وأجابت المعتزلة بأن الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر وكان إرسالهم إزاحة للغفلة وتتميماً لإلزام الحجة مع إفادة تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع . والمعتزلة قالوا : في الآية دلالة على امتناع تكليف ما لا يطاق لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذراً فبأن يكون عدم القدرة والمكنة صالحاً للعذر أولى وعورض . وأيضاً قالوا : الآية تدل على أن العبد قد يحتج على الرب فيبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض عليه لأحد . وأجيب بأنه يشبه الحجة وليس حجة في الحقيقة . قوله : { لكن الله يشهد } لا بد له من مستدرك لأن { لكن } لا يبتدأ به . وفي ذلك المستدرك وجهان : أحدهما أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قول اليهود لو كان نبياً لنزل عليه الكتاب جملة ، وهذا الكلام يتضمن أنه هذا القرآن ليس كتاباً نازلاً عليه من السماء فلا جرم قيل : { لكن الله يشهد } بأنه نازل عليه من السماء . الثاني أنه تعالى لما قال : { إنا أوحينا إليك } قال القوم : نحن لا نشهد لك بذلك فنزل { لكن الله يشهد } ومعنى شهادة الله إنزال القرآن بحيث عجز عن معارضته الأولون والآخرون أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك . ثم فسر ذلك وأوضح بقوله : { أنزله بعلمه } أي متلبساً بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره ، أو بسبب علمه الكامل مثل : كتبت بالقلم وهذا كما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل إذا صنف كتاباً واستقصى في تحريره إنما صنف هذا بكمال علمه يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف ذلك الكتاب ، أو أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه ، أو أنزله بما علم من مصالح العياد فيه ، أو أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من شياطين الجن والإنس { والملائكة يشهدون } لأنهم لا يسبقونه بالقول فشهادة تستتبع شهادتهم ومن صدقه رب العالمين وملائكة السموات والأرضين لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس إياه { وكفى بالله شهيداً } وإن لم يشهد غيره { إن الذين كفروا } بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن { وصدوا } غيرهم { عن سبيل الله } بإلقاء الشبهات كقولهم : لو كان رسولاً لأنزل عليه القرآن دفعة كما نزلت التوراة على موسى ، وكقولهم إن شريعة موسى لا تنسخ وإن الأنبياء لا يكونوا إلاّ من ولد هارون وداود { قد ضلوا ضلالاً بعيداً } لأن غاية الضلال أن ينضم معه الإضلال .
{ إنّ الذين كفروا وظلموا } محمداً صلى الله عليه وسلم بكتمان بعثته أو عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم . ومعنى قوله : { ولا ليهديهم طريقاً } أنهم لا يسلكون إلاّ الطريق الموصل إلى جهنم أو لا يهديهم يوم القيامة إلاّ طريقها . والعامل في { خالدين } معنى لا ليهديهم أي يعاقبهم أو يدخلهم النار خالدين . { وكان ذلك على الله يسيراً } لأنه لا صارف له عن ذلك ولا يتعذر عليه إيصال الألم إليه شيئاً بعد شيء إلى غير النهاية . واللام في { الذين } إما لقوم معهودين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ، وإما للاستغراق فيجب أن يضمر شرط عدم التوبة . وحمل المعتزلة قوله : { وظلموا } على أصحاب الكبائر بناء على أنه لا فرق عندهم بين الكافر وصاحب الكبيرة في أنه لا يغفر لهما إلاّ بالتوبة .
التأويل : { أرنا الله جهرة } لعل خرة موسى بلن تراني كانت بشؤم القوم وما كان في انفسهم من سوء أدب هذا السؤال لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نبيهم ، فما اتعظوا بحالة نبيهم لأنهم كانوا أشقياء والسعيد من وعظ بغيره . فكما زاد عنادهم زاد بلاؤهم وابتلاؤهم كرفع الطور فوقهم وغير ذلك . قال أهل الإشارة : ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات والطيبات التي أحلت لهم ولأزواجهم الطيبين قبل التلوث بقذر المخالفات والإسراف في المباحات يستتبع حرمان المناجاة والقربات { لكن الراسخون في العلم } هم الذين رسخوا بقدمي الصدق والعمل في العلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية واللدنية { إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } أي كل ما أوحينا إليك من سر { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] { ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } أي ليلة المعراج { ورسلاً لم نقصصهم عليك } [ النساء : 164 ] الآن في القرآن مفصلة { أنزله بعلمه } تجلى له بصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون { والملائكة يشهدون } على تلك الخلوة وإن لم يكونوا معك في الخلوة { وكفى بالله شهيداً } على ما جرى .
قد كان ما كان سراً لا أبوح به ... ظن خيراً ولا تسأل عن الخبر
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
القراآت : { فسنحشرهم } بالنون : المفضل . الباقون بالياء . الوقوف : { خيراً لكم } ط . { والأرض } ط { حكيماً } ه { إلاّ الحق } ط . { وكلمته } ج للاستئناف مع اتحاد المقصود . { وروح منه } ز لعطف المختلفين ولكن فاء التعقيب توجب تعجيل الإيمان مع تمام البيان . { ورسله } ط . { ثلاثة } ط { خيراً لكم } ط { إله واحد } ط . { ولد } ج لأن المنفي منه مطلق الولد ولو وصل أوهم أن المنفي ولد موصوف بأنه له ما في السموات وما في الأرض . { وكيلاً } ه { المقربون } ط { جميعاً } ه . { من فضله } ج { أليماً } ه { ولا نصيراً } ه { مبيناً } ه { وفضل } لا للعطف . { مستقيماً } ه { يستفتونك } ط . { الكلالة } ط { ما ترك } ج لأن ما بعده مبتدأ ولكن الكلام متحد البيان . { لها ولد } ط لأن جملة الشرط تعود إلى قوله : { فلها نصف } وبينهما عارض { مما ترك } ط لابتداء حكم جامع للصنفين { الأنثيين } ط { أن تضلوا } ط { عليم } ه .
التفسير : لما بينّ فساد طريقة اليهود وأجاب عن شبههم عمم الخطاب فقال : { يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق } أي بالقرآن والقرآن معجز فيكون حقاً أو بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره وهو الحق الذي تشهد له العقول السليمة { فآمنوا خيراً لكم } انتصابه بمضمر وكذا في { انتهوا خيراً لكم } لأنه لما بعثهم على الإيمان والانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر . فالمعنى : اقصدوا وأتوا خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد ، فإن الإيمان لا شك أنه أحمد عاقبة من الكفر بل العاقبة كلها له . وقيل : إنه منصوب على خبرية « كان » أي يكن الإيمان خيراً لكم والأول أصح لئلا يلزم الحذف من غير قرينة { وإن تكفروا } فإن الله غني عنكم لأنه مالك الكل ، أو هو قادر على إنزال العذاب لأن الكل تحت قهره وتسخيره ، أو له عبيد أخر يعبدونه غيركم { وكان الله عليماً } بأحوال العباد { حكيماً } لا يضيع أجر المسحن ولا يهمل جزاء المسيء . ثم لما أجاب عن شبه اليهود خاطب النصارى ومنعهم عن الغلو في الدين وهو الإفراط في شأن المسيح إلى أن اعتقدوه إلهاً لا نبياً ، وحثهم على أن لا يقولوا على الله إلاّ الحق الذي يحق ويجب وصفه به وهو تنزيهه عن الحلو في بدن إنسان والاتحاد بروحه واتخاذه لصاحبه وولد { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته } وجد بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة { ألقاها } أي الكلمة { إلى مريم } أي أوصلها إليها وحصلها فيها { وروح منه } أي إنه ظاهر نظيف بمنزلة الروح كما يقال : هذه نعمة من الله ، أو سمي بذلك لأنه سبب حياة الأرواح أو كمالها كما سمي القرآن روحاً في قوله :
{ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] وقيل : أي رحمة منه كقوله : { وأيدهم بروح منه } [ المجادلة : 22 ] ولا شك أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة قال تعالى : { وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « إنما أنا رحمة مهداة » وقيل : الروح هو الريح يعني أن النفخ من جبريل كان بأمر الله تعالى فهو منه والتنكير للتعظيم أي روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية . وقوله : { منه } إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف . { فآمنوا بالله ورسله } أي آمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلهاً { ولا تقولوا ثلاثة } هي خبر مبتدأ محذوف أي الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد وأنه ثلاثة بالصفات ويسمونها الأقانيم أقنوم الأب أقنوم الأب وأقنوم روح القدس ، وربما يقولون أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة ، أو الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها الأب والأم والابن . ولعل القولين مرجعهما إلى واحد لأنهم إذا جوزوا على الصفات الانتقال والحلول في عيسى وفي مريم فقد جعلوها مستقلة بأنفسها ولهذا لزم الكفر والشرك ، وإلا فمجرد إثبات الصفات لله تعالى لا يوجب الشرك . فالأشاعرة أثبتوا لله تعالى ثمان صفات قدماء . { انتهوا } عن التثليث واقصدوا { خيراً لكم إنما الله إله واحد } لا تركيب فيه بوجه من الوجوه { سبحانه أن يكون له ولد } أسبحه تسبيحاً وأنزهه تنزيهاً من أن يكون له ولد فلا يتصل به عيسى اتصال الأبناء بالآباء ولكن من حيث إنه عبده ورسوله موجود بأمر جسداً حياً من غير أب { له ما في السموات وما في الأرض } فكيف يكون بعض ملكه جزءاً منه على أن الجزء إنما يصح في المنقسم عقلاً أو حساً ، وإنه لا ينقسم بجهة من الجهات لا العقلية ولا الحسية { وكفى بالله وكيلاً } وإذا كان كافياً في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر مستقل أو مشارك . قال الكلبي : إن وفد نجران قالوا : يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال : ومن صاحبكم؟ قالوا : عيسى . قال : وأي شيء أقول فيه؟ قالوا : تقول إنه عبد الله ورسوله . فقال هلم : إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبدالله . قالوا : بلى . فنزل { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله } والتحقيق أن الشبهة التي عليها يعوّلون في دعوى أنه ابن الله هي أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات كإحياء الأموات فقيل لهم { لن يستكف المسيح } بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبودية الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالاً منه لأنهم مطلعون علىللوح المحفوظ ، وقد حمل العرش مع عظمته ثمانية منهم ثم إنهم لم يستنكفوا عن كونهم عباداً لله تعالى فكيف يستنكف المسيح عن ذلك أي يمتنع ويأنف؟ والتركيب يدور على التحية والإزالة من ذلك نكفت الدمع أنكفه إذا نحيته عن خدك بأصبعك ، ونكفت عن الشيء أي عدلت .
والقائلون بأفضلية الملائكة استدلوا بهذه الآية وقد تقدم الاستدلال بها والجواب عنها والبحث عليها في سورة البقرة في تفسير قوله : { وإذا قلنا للملائكة اسجدوا } [ البقرة : 34 ] الآية . أما قوله : { ولا الملائكة } فإنه معطوف على { المسيح } وهو الأظهر ، وجوز بعضهم عطفه على الضمير في { يكون } أو في { عبداً } لمعنى الوصفية فيه فيكون المعنى : أنّ المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا الملائكة موصوفين بالعبودية ، أو لا يأنف أن يعبد الله هو والملائكة . وفي المعنيين انحراف عن الغرض فالأول أولى . والمراد بالملائكة كل واحد منهم حتى يكون خبره أيضاً { عبداً } أو يكون الخبر { عباداً } وحذف لدلالة { عبداً } عليه { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه } أي يجمعهم يوم القيامة إليه حيث لا يملكون لأنفسهم شيئاً .
ثم إنه تعالى لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولاً ثواب المؤمنين المطيعين فسئل إن التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فأجاب في الكشاف بأن هذا كقولك : جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به . فحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه ، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله : { فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به } أو قدم ثواب المؤمنين توطئة كأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وسيعاقب مع ذلك بما يصيبهم من العذاب . أقول : لو جعل الضمير قي قول : { فسيحشرهم } راجعاً إلى الناس جميعاً لم يحتج إلى هذه التكلفات ويحصل الربط بسبب العموم ومثله غير عزيز في القرآن كقوله : { إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً } [ الكهف : 30 ] ثم عاد إلى تعميم الخطاب بقوله : { يا أيها الناس قد جاءكم برهان } الآية . فيحتمل أن يراد بالبرهان والنور كليهما القرآن ، ويحتمل أن يراد بالبرهان محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يقيم البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل والنور المبين القرآن لأن سبب لوقوع نور الإيمان في القلب . { فأما الذين آمنوا بالله } في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه { واعتصموا به } تمسكوا بدينه أو لجؤا إليه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان { فسيدخلهم في رحمة منه وفضل } قال ابن عباس : الرحمة الجنة ، والفضل ما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت { ويهديهم إليه } أي إلى عبادته { صراطاً مستقيماً } هو الدين الحنيفي والتقدير صراطاً مستقيماً إليه ، ويحتمل أن يراد بالرحمة والفضل اللذات الحسية الباقية ، وبالهداية اللذات الروحانية الدائمة .
ثم إنه سبحانه ختم السورة بنحو مما بدأها به وهو أحكام المواريث فقال : { يستفتونك } الآية .
قال أهل العلم : إنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة ، والأخرى في الصيف وهي هذه ولهذا تسمى آية الصيف . عن جابر قال : اشتكيت فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي سبع أخوات فنفخ في وجهي فأفقت فقلت : يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث . قال : أحسن . فقلت : الشطر؟ قال : أحسن . ثم خرج وتركني قال : ثم دخل فقال : يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك وجعل لأخواتك الثلثين . وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع فأتاه جابر بن عبد الله فقال : إن لي أختاً فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ فنزلت . هذا وقد تقدم أن الكلالة اسم يقع على الوارث وهو من عد الوالد والولد وعلى المورث وهو الذيب لا ولد له ولا والدين . { إن امرؤ هلك } ارتفع { امرؤ } بمضرم يفسره هذا الظاهر ، ومحل { ليس له ولد } الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ وغير ذي ولد . اعلم أن ظاهر الآية مطلق ولا بد فيه من تقييدات ثلاثة : الأول أن الولد مطلق والمراد به الابن لأنه هو الذي يسقط الأخت ، وأما البنت فلا تسقطها ولكنها تعصبها لما روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت . فعلى هذا فلو خلف بنتاً وأختاً فللبنت النصف والباقي للأخت بالعصوبة . الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك على الإطلاق ، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع . الثالث قوله : { وله أخت } المراد الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم ذكر حكمهما في أول السورة بالإجماع . ثم قال : { وهو يرثها } أي وأخوها يرثها ويستغرق مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها { إن لم يكن لها ولد } أي ابن كما قلنا لأن الابن يسقط الأخ دون البنت . وأيضاً إن هذا في الأخ من الأبوين أو من الأب ، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث . وأيضاً المراد إن لم يكن لها ولد ولا والد لأن الأب أيضاً مسقط للأخ لقوله صلى الله عليه وسلم : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر » والأب أولى من الأخ . ثم قال : { وإن كانتا } يعني من يرث بالإخوة { اثنتين } فأنث وثنى باعتبار الخبر كقولهم من كانت أمك وكذا الكلام في قوله : { وإن كانوا إخوة } وأراد بالإخوة الإخوة والأخوات لكنه غلب جانب الذكورة .
روي أن الصديق قال في خطبة : ألا إنّ الآيات التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض أولاها في الوالد والولد ، وثانيتها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والتي ختم بها الأنفال في أولي الأرحام { يبين الله لكم أن تضلوا } قال البصريون : المضاف محذوف أي كراهة أن تضلوا . وقال الكوفيون : لئلا تضلوا . وقال الجرجاني صاحب النظم : يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتتجنبوها { والله بكل شيء عليم } فيكون بيانه حقاً وتعريفه صدقاً . ختم السورة ببيان كمال العلم كما أنه ابتدأها بكمال القدرة فبهما تتم الإلهية ويحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع والله المستعان .
التأويل : { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات والأرض } يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له { لا تغلوا في دينكم } لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط . فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبياً وهموا بقتله ، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله ، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته ، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تطروني كما أطرت النصارة عيسى ابن مريم » { وروح منه } لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان؛ فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذاناً صماً وعيوناً عمياً فيكون في قومه كالنبي في أمته { ولا تقولوا ثلاثة } يعني نفوسكم والرسول والله . بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم { إنما الله إله واحد } سبحانه أنه يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] { وكفى بالله وكيلاً } لكل هالك . { لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً الله } لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله : { إني عبد الله } [ مريم30 ] { ولا الملائكة المقربون } إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله . { قد جاءكم برهان } جعل نفس النبي برهاناً لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه . فمن ذلك برهان بصره { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] ومنه برهان أنفه « إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن »
ومنه برهان لسانه { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز . وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر ، وبرهان يده { وما رميت إذ رميت } [ الأنفال : 17 ] وسبح الحصى في يده ، وبرهان أصبعه أشار بها إلى القمر فانشق فلقتين ، وقد جرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلق كثير ، وبرهان صدره كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل . { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] وبرهان قلبه « تنام عيناي ولا ينام قلبي » { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 ] وبرهان كله { سبحان الذي أسرى بعبده } [ الإسراء : 1 ] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
القراآت : { ولا يجرمنكم } بالنون الخفيفة : روي عن رويس . الباقون مثقلة . { شنآن } في الموضعين بسكون النون : ابن عامر وإسماعيل وأبو بكر وحماد ويزيد من طريق ابن وردان . الباقون بالفتح . { أن صدّوكم } بكسر الهمز : ابن كثير أبو عمرو . الباقون بالفتح . { ولا تعاونوا } بتشديد التاء : البزي وابن فليح . { الميتة } و { فمن اضطر } كما مر في البقرة . { واخشوني } بالياء في الوقف : سهل ويعقوب . { وأرجلكم } بالنصب : ابن عامر ونافع وعلي والمفضل وحفص ويعقوب والأعشى في اختياره . الباقون بالجر .
الوقوف : { بالعقود } ط لاستئناف الفعل . { حرم } ط { ما يريد } ه { ورضواناً } ط { فاصطادوا } ط لابتداء نهي أن تعتدوا لئلاّ يتوهم العطف وحذف التاء من تعاونوا . { والتقوى } ص لعطف المتفقتين { والعدوان } ص كذلك { واتقوا الله } ط { شديد العقاب } ه { بالأزلام } ط { فسق } ط { واخشوني } ط { دينأً } ط لأنّ الشرط من تمام التحريم لا مما يليه . { لإثم } لا لأن ما بعده جزاء { رحيم } ه { أحل لهم } ط فصلاً بين السؤال والجواب . { الطيبات } ط للعطف أي وصيد ما علمتم { مما علمكم الله } ز لفاء التعقيب مع عطف المختلفين . { عليه } ص { واتقوا الله } ط { الحساب } ه { الطيبات } ط لأن ما بعده مبتدأ . { لكم } ص لعطف المتفقتين { لهم } ز لأن قوله : { والمحصنات } عطف على { وطعام الذين } لا على ما يليه { أخذان } ط { عمله } ز لعطف المختلفين مع أن ما بعده من تمام جزاء الكفر معنى . { الخاسرين } ه { الكعبين } ط لابتداء حكم . { فاطهروا } ط كذلك . { وأيديكم منه } ط { تشكرون } ه { واثقكم به } لا لأن « إذ » ظرف المواثقة { وأطعنا } ز لعطف المتفقتين مع وقوع العارض { واتقوا الله } ط { الصدور } ه { بالقسط } ز لعطف المتفقتين مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف { أن لا تعدلوا } ط للاستئناف . { اعدلوا } ج وقفة لطيفة لأن الضمير مبتدأ مع شدة اتصال المعنى . { للتقوى } ز { واتقوا الله } ط { بما تعملون } ه { الصالحات } لا لأن ما بعده مفعول الوعد أي أن لهم { عظيم } ه { الجحيم } ه { أيديهم عنكم } ج لاعتراض الظرف بين المتفقين { واتقوا الله } ط { المؤمنون } ه .
التفسير : وفي بالعهد وأوفى به بمعنى . والعقد وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والإحكام والعهد وإلزام مع إحكام . والمقصود من الإيفاء بالعقود أداء تكاليفه فعلاً وتركاً . والتحقيق أن الإيمان معرفة الله بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله فكأنه قيل : يا أيها الذين التزمتم بأيمانكم أنواع العقود أوفوا بها . ومعنى تسمية التكاليف عقوداً أنها مربوطة بالعباد كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق . قال الشافعي : إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا نذر في معصية الله » وقال أبو حنيفة : يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى : { أوفوا بالعقود } غايته أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعاً في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح في الولد .