كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وفائدة الحال الثانية أن العدول عن القصد قد يكون بالحق كقوله { وجزاء سيئة سيئة } [ الشورى : 40 ] واختلفوا في الإلحاد في الحرم فعن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس في رواية عطاء أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله . وقال مقاتل : نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافراً . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم . وعن مجاهد أنه الاحتكار . وقيل : المنع من عمارته . وعن عطاء : هو قول الرجل في المبايعة « لا والله » وبلى والله . ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم ، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال : كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل « لا والله » و « بلى والله » . والأولى التعميم . وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده ، وهذا وإن كان واجباً في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أو كد فللمكان خاصية كما للزمكان ولهذا قال مجاهد : تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات . عن ابن مسعود : أن القصد إلى الذنب يكتب هناك ذنباً وإن لم يخرج إلى الفعل . وعنه لو أن رجلاً يهم بأن يعمل سيئة عند البيتن اذاقه الله تعالى عذاباً أليماً . واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل : إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك ، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال { وإذ بوأنا } أي واذكر حين جعلنا { لإبراهيم مكان البيت } مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة ، ويروى أن موضع البيت كان مطموساً بفبعث الله تعالى ريحاً كنست ما حوله حتى ظهر اسه القديم فبنى إبراهيم عليه وقد مر قصة ذلك في « البقرة » . وقيل : بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها راس يتكلم وله لسان وعينان فقال : يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة . وأن في { أن لا تشرك } هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل : تعبدنا لإبراهيم قلنا له : لا تشرك وطهر وقد مر مثله في « البقرة » . وإنما قال ههنا { والقائمين } لأن العاكف ذكر مرة في قوله { سواء العاكف } والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله { والركع السجود } أو بمعنى المقيم المتوطن . والظاهر أن الخطاب في { وأذن } لإبراهيم أيضاً أي ناد { في الناس } وهو أن يقول حجوا أو عليكم { بالحج } يروى أنه صعد أبا قبيس فقال : ايها الناس حجوا بيت ربكم ، قال مجاهد : فما حج إنسان ولا يحج إلى القيامة إلا وقد سمع ذلك النداء من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب أكثر فأكثر .
ولعل الفائدة في قوله { يأتوك } هي هذه لأن الإتيان إلى مكة بسبب ندائه إتيان إليه . وأيضاً هو أول من حج وغيره يقتدي به وكأنه يأتيه . وعن الحسن وهو اختيار أكثر العلماء المعتزلة أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه معطوف على « أذكر » مقدراً ، ثم إنه عام لجميع الناس أو خاص بمن حج معه في حجة الوداع قولان . وقيل : إنه ابتداء فرض الحج والرجال المشاة واحده راجل . وقوله { وعلى كل ضامر } حال آخر كأنه قيل رجالاً وركباناً . والضامر البعير المهزول لطول السفر . { ويأتين } صفة { لكل ضامر } لأنه في معنى الجمع . والفج الطريق الواسع وقد مر في السورة المتقدمة . والعميق البعيد ومثله معيق وبه قرأ ابن مسعود . وفي تقديم المشاة تشريف لهم . روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم . قيل : يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال : الحسنة بمائة ألف حسنة » قال جار الله : نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات وقد كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله تعالى لأن المسلمين لا ينفكون عن التسمية إذا نحروا أو ذبحوا ، وفيه تنبيه على أن التسمية من الأغراض الأصلية المعتبرة خلاف ما كان يفعله المشركون من الذبح للنصب . وفي قوله { على ما رزقهم } إشارة إلى أن نفس القربان وتيسير ذلك العمل من نعم الله تعالى ولو قيل « لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام » لم يكن شيء من هذه الفوائد . والأيام المعلومات عند أكثر العلماء عشر ذي الحجة الأول آخرها يوم النحر لأنها معلومة عند الناس لحرصهم على أعمال الحج فيها . ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمعشر الحرام ، كذلك للذبح وقت بعينه وهو يوم النحر وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة . وعن ابن عباس في رواية أخرى أنها يوم النحر وثلاثة ايام بعدها وهو اختيار أبي مسلم وقول أبي يوسف ومحمد . وعلى الأول يكون قوله { في أيام } متعلقاً بكلا الفعلين أعني { ليشهدوا } { وليذكروا } وعلى الثاني يختص تعلقه بالثاني . ومعنى { بهيمة الأنعام } بهيمة من الأنعام لأن البهيمة تشمل كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ، وقد مر في أول المائدة قال مقاتل : إذا ذبحت فقل « بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك » وتستقبل القبلة .
وزاد الكلبي « إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين » . قال القفال : كأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بذل مهجته طلباً لمرضاة الله واعترافاً بأن تقصيره كاد يستحق مهجته . أما قوله { فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير } فالبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير قد مر في آية الصدقات في « التوبة » وفي غيرها . ثم من الناس من قال : الأمران للوجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها فأمر المسلمون بمخالفتهم . والأكثرون على أن الأكل ليس بواجب . ثم منهم من قال : يحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف رعاية للأمرين . ومنهم من قال : يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين لما يجيء من قوله { فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر } فجعلها على ثلاثة أقسام ومنهم من قال : يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث لما جاء في الحديث من الأمر بالادخار . والأولى وهو مذهب الشافعي أنه إن أطعم جميعها أجزأه ، وإن أكل جميعها لم يجزئه ، وإذا تصدق بأقل شيء من لحمها يكفي هذا إذا كان متطوعاً . وأما الواجبات كالنذور والكفارات وجبران النقصانات مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة فلا يأكل منها لا هو ولا أغنياء الرفقة ولا فقراؤها لما روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي « قال : قلت : يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال : انحرها ثم إغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها » وقال ايضاً صلى الله عليه وسلم في مثله : « لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك » قوله { ثم ليقضوا تفثهم } لا يبعد أن يكون معطوفاً على { ليشهدوا } فإن هذه الأعمال كلها غايات للإتيان إلا أن إسكان هذه اللامات في بعض القراآت يدل على أنها لام الأمر وعلى هذا تكون هذه الأوامر الغائبة معطوفة على الأمرين الحاضرين قبلها والله أعلم . قال أبو عبيدة : لم يجيء في الشعر ما يحتج به في معنى النفث . وقال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير . وقال القفال : قال نفطويه : سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله { ثم ليقضوا نفثهم } ؟ فقال : ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك وما أدرنك! ثم زعم القفال أن هذا أولى من قول الزجاج لأن المثبت أولى من النافي . وقال المبرد : أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها . وأجمع أهل التفسير على أن المراد ههنا إزالة الأوساخ والزوائد كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة .
فتقدير الآية ثم ليقضوا إزالة تفثهم وليوفوا نذورهم اي الأعمال التي أوجبها الحج بالشروع فيه ، أو أعمال البر التي أوجبوها على أنفسهم بالنذر فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه . { وليطوفوا } هو طواف الإفاضة والزيارة التي هي ركن وقد شرحت حاله في البقرة في قوله { فإذا أفضتم من عرفات } [ البقرة : 198 ] وقيل : هو طواف الوداع والصدر . سمي { بالبيت العتيق } لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن ، وقال قتادة : لأنه أعتق من تسلط الجبابرة عليه وهو قول ابن عباس وابن الزبير ورووه عن رسول الله صلى الله عيله وسلم . وعن ابن عيينة لأنه لم يملك قط . وعن مجاهد لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان . وقيل : معناه البيت الكريم من قولهم « عتاق الخيل والطير » . والحرمة مالا يحل هتكه وجميع التكاليف بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، ويحتمل أن يراد ههنا ما يتعلق بالحج ، عن زيد بن أسلم أن الحرمات خمس : الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل . وتعظيمها العلم بوجوبها والقيام بحقوقها . وقوله { فهو خير } أي فالتعظيم له خير من التهاون بذلك . وقوله { عند ربه } إشارة إلى أن ثوابه مدخر لأجله . قوله { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } قد مر في أول « المائدة » مثله أي إلا ما يتلى عليكم آية تحيمه وهي { حرمت عليكم الميتة } [ المائدة : 3 ] أو قوله { غير محلي الصيد وأنتم حرم } [ المائدة : 1 ] أو قوله { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 121 ] وحين حث على تعظيم الحرمات أتبعه الأمر بما هو أعظم أنواعها وأقدم أصنافها قائلاً { فاجتنبوا الرجس } وبينه بقوله { من الأوثان } أي الرجس الذي هو الأوثان كقولك « عندي عشرون من الدراهم » . والرجس العمل القبيح في الغاية وقد مر في آخر المائدة في تفسير قوله { رجس من عمل الشيطان } [ الآية : 90 ] والزور من الزور الميل والإضافة كقولهم « رجل صدق » جمع بين القول الزور وبين الشرك لأن عبادة الأوثان هي راس الزور وملاكه . قال الصم : وصف الأوثان بأنها رجس لأن عادتهم في القرابين أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها ، والأقرب أنها وصفت بذلك لأن عبادتها فعلة ممادية في القبح والسماجة . وللمفسرين في قول الزور وجوه منها : أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام . ومنها أنه شهادة الزور رفعوا هذا التفسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ومنها أنه الكذب والبهتان . ومنها أنه قول أهل الجاهلية في الطواف « لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك » وقوله { حنفاء لله غير مشركين به } حالان مؤكدان والمراد الإخلاص في التوحيد كقوله
{ حنيفاً ولم يك من المشركين } [ النحل : 120 ] وفائدة الحالين هي فائدة التولي والتبري وإنما أخر نفي الإشراك وإن كان مقدماً في الرتبة إذ التخلية والتبرئة مقدمة على التحلية والتولية ليرتب عليه قوله { ومن يشرك بالله } الآية . قال جار الله : إن كان تشبيهاً مركباً فمعناه من أشرك بالله فقد هلك نفسه غاية الإهلاك وذلك بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاحتطفه أي استلبته الطير فتفرق مزعاً أي قطعاً من اللحم في حواصلها ، أو بحال من خر فعصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح السحيقة البعيدة . وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي تركه فأشرك فقد سقط منها والإهواء التي توزع أفكاره بالطير المتخطفة ، وفي المثل الآخر شبه الشيطان الذي يطرح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بالأشياء في المهاوي المتلفة . وتعظيم شعائر الله وهي الهدايا كما مر في أمر « المائدة » هي أن يختارها عظام الأجرام غالية الأثمان . وقد مر وصفها الشرعي في « البقرة » في قوله { فما استيسر من الهدي } [ الآية : 196 ] وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب قال في الكشاف { فإنها من تقوى القلوب } أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به . وأقول : في هذا الوجوب نظر لأنه ليس بشرعي ولا بعقلي على ما تزعم المعتزلة . أما المضاف الأول فلأنه يحتمل أن يعود الضمير إلى التعظيم موحدين حتى لا يطابقها لفظ القلوب بل يحتمل أن يقدر لفظة منهم أويقدر فإن تعظيمهم إياها فيرجع الكلام إلى قلوبنا { ومن يعظم شعائر الله } فإن تلك الخلة منهم من تقوى القلوب أي ناشئة من تقوى قلوبهم ، فإن القلوب مراكز التقوى التي منها عيارها وعليها مدارها ولا عبرة بما يظهر من آثارها على سائر الجوارح دونها . ثم كان لسائل أن يسال : ما بال هذه الحيوانات تذبح فيتقرب بها إلى الله تعالى؟ فلهذا قال { لكم فيها منافع } يعني الدنيوية من الدر وركوب الظهر وسيشير إلى الدينية بقوله { لكم فيها خير } ولهذا أطلق ذلك وقيد هذه بقوله { إلى أجل مسمى } وهو أوان النحر . ثم بين أن وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها أو مكان نحرها منته إلى البيت أو إلى ما يجاوره ويقرب مه وهو الحرم كما مر في قوله { هديا بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ومثله قوله : بلغنا البلد « إذا شارفوه واتصل مسيرهم بحدوده . قال القفال : هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت مني ، فأما إذا عطبت قبل بلوغ مكة فإن محلها هو موضعها .
« روى أبو هريرة نه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى الله عليه وسلم : اركبها فقال : يا رسول الله إنها هدي . فقال : اركبها ويلك » وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال : « اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً » وهذا هو الذي اختاره الشافعي . وعن ابي حنيفة أنه لا يجوز الإنتفاع بها لأنه لا يجوز إجازتها ولو كان مالكاً لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها . وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها . وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هدياً ، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهدياً فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها . وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك . أجاب الأولون بأن الضمير في قوله { لكم فيها منافع } عائد إلى الشعائر ، وتسمية ما سيجعل شعيرة مجاز والأصل عدمه . قال في الكشاف : « ثم » للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأحوال ، والمعنى إن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم ، وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطاً في النفع محلها منتهية إلى البيت . ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف ، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه ، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال { ولكل أمة جعلنا منسكاً } موضعاً أو وقتاً يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس . ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم إلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها ، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلاً { فإلهكم إله واحد } لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا سامه . ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية ، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله . ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلاً { فله أسلموا } أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصاً لوجهه من غير شائبة إشراك . ثم أمر نبيه عليه السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض ، وعن عمرو بن أوس : هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا . قال الكلبي : هم المجتهدون في العبادة . ثم عطف على المخبتين قوله { والصابرين على ما أصابهم } أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن ، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء : إنه لا يجب الصبر عليه ولكن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال .
ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله { ومما رزقناهم } عطف على { المقيمي الصلاة } من حيث المعنى كأنه قيل : والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة اخرى وخص منها العظام الجسام بقوله { والبدن جعلناها } هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكماً . قال أبو حنيفة ومحمد : لو قال : عليَّ بدنة يجوز له نحرها في غير مكة . وقال أبو يوسف : لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك . واتفقوا فيما إذا نذر هدياً أنه يجب ذبحه بمكة ، وفيما إذا أنذر جزوراً أنه يذبحه حيث شاء . وانتصب قوله و { البدن } بفعل يفسره ما بعده . ومعنى جعلها من شعائر الله أنها من أعلام الشريعة التي شرعها الله . عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال : سمعت ربي يقول { لكم فيها خير } أي ثواب في الآخرة كما ذكرنا . وبعضهم لم يفرق بين الآيتين فحمل كلاً منهما على خير الدنيا والآخرة ، والأنسب ما فسرناه حذراً من التكرار ما أمكن . ومعنى { صواف } قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، ولعل السر فيه تكثير سوادها للناظرين وتقوية قلوب المحتاجين . { فإذا وجبت جنوبها } اي سقطت على الأرض من وجبت الحائط وجبة سقطت ، ووجبت الشمس وجبة غربت . والمعنى إذا زهق روحها حل لكم الأكل منها وإطعام القانع والمعتر فالقانع السائل والمعتر الذي لا يسأل تعففاً . وقيل : بالعكس فهماً من الأضداد كأن القانع قنع بالسؤال أو قنع بما قسم له فلا يسأل ، والمعتر رضي بعرّه اي عيبه فلا يسال أو يسأل . ثم منَّ على عباده بأن سخر لهم البدن أن يحتبسوها صافة قوائمها مطعوناً في لباتها مثل التسخير الذي شاهدوا وعلموا يأخذ بخطامها صبي فيقودها إلى حيث يشاء ، وليست بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر جرماً وأقل قوة لولا أنه سبحانه سخرها . يورى أن أهل الجاهلية كانوا يلطخون الأوثان وحيطان الكعبة بلحوم القرابين ودمائها فبين الله تعالى ما هو المقصود منها فقال { لن ينال الله } أي لن يصيب رضا الله أصحاب اللحوم والدماء المهراقة بمجرد الذبح والتصدق . { ولكن يناله التقوى منكم } بأن يكون القربان حلالاً روعي فيها جهات الأجزاء ثم يصرفها فيما آمر . ثم كرر منة التسخير وأن الغاية تكبير الله على الهداية لأعلام دينه ومناسك حجه ، وصورة التكبير وما يتعلق بها قد سبق في « البقرة » في آية الصيام . قالت المعتزلة : لما لم ينتفع المكلف بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون التقوى فعلاً له وإلا كان بمنزلة الأجسام .
وأيضاً إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله . والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله . وأيضاً إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متقٍ { وبشر المحسنين } إلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها . والإحسان بالحقيقة أن تبعد الله كأنك تراه ، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها . وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسج الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال { إن الله يدفع } ومن قرأ { يدافع } فمعناه يبالغ في الدفع { عن الذين آمنوا } فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله بقوله { إن الله لايحب كل خوان كفور } أي أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته قال مقاتل : اقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا؟ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون من المشركين أذى شديداً وكانوا يلقونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فنزل { أذن } وفاعله الله سبحانه أم لم يسم والمأذون فيه القتال بدليل قوله { للذين يقاتلون } إن فتح التاء فظاهر لأن المشركين كانوا يقاتلون المؤمنين وإنهم يؤمرون بالصبر ، وإن كسرت فمعناه أذن للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل نزل حرصهم على القتال منزلة نفس القتال { بأنهم ظلموا } أي بسبب كونهم مظلومين وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية . وقيل : نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم . وفي قوله { إن الله يدافع } ثم في قوله { وإن الله على نصرهم لقدير } عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك . لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك . ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله { الذين أخرجوا من ديارهم } ومحل { أن يقولوا } جر على الإبدال من { حق } اي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره { هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله } [ المائدة : 59 ] { ولولا دفع الله الناس } قد مر في أواخر البقرة . وللمفسرين في عبارات قال الكلبي : يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين . وعن ابن عباس : يدفع بالمحسن عن المسيء وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية » وقال الضحاك : يدفع بدين الإسلام وأهله عن أهل الذمة . وقال مجاهد : يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص . أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أنها كلها اسماء المساجد ، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة . قال الجوهري : الأصمع الصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعة ، إذا دققت وحدد راسها . وصومعة النصارى « فوعلة » من هذا لأنها دقيقة الرأس ، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصولات . وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها ، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها . وصح إيقاع الهدم عليها نظراً إلى قرائنها كقوله : مقلداً سيفاً ورمحاً . وإن كان الرمح لا يتقلد . هذا كله توجيه تفسير الحسن . والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة ، فعن ابي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين . وفي تخصيصها بقوله { يذكر فيها اسم الله كثيراً } تشريف لها وتفضيل على غيرها لأن الظاهر عود الضمير إليها فقط . وعن قتادة أن الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود . قال الزجاج : وهي بالعبرانية صلوتا . وقيل : الصوامع والبيع كلتاهما للنصارى ولكن الأولى في الصحراء والأخرى في البلد ، وإنما أخر متعبد أهل الإسلام لتأخر زمانهم ولا ضير فإن أول الفكر آخر العمل . وقال صلى الله عليه وسلم « نحن الآخرون السابقون » وتفسير الآية على قول الأكثرين لولا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة ، فهدم في زمن موسى الكنائس ، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع ، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد . وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ ، ويحتمل أن يراد لولا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم ، وهدموا المتعبدات باسرها . وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام . ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله { إن الله لقوي عزيز } ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلاً . ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره دايعة الخير والصلاح في روعه . ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله . { الذين إن مكناهم } وقيل : هو بدل من قوله { من ينصره } وهو إخبار منه عز وجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا .
وعن عثمان : هذا والله ثناء قبل بلاء ، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا . قيل : إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين فتمكينهم هو إبقاءهم إلى أوان التكليف ، وقد يشمل الأطفال أيضاً إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين . ثم ختم الآية بقوله { ولله عاقبة الأمور } أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة .
التأويل : { ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام } القلب سواء فيه من سبق إليه مدة طويلة والذي يصل إليه في الحال لأفضل إلا بسبق مقامات القلب ومنازله { وإذ بوأنا لإبراهيم } الروح مكان بيت القلب { وطهر بيتي } عن غيري وهو كل ما فيه حظ النفس دون الواردات المطيفة والأخلاق الثابتة والأحوال المتوالية كالرغبة والرهبة والقبض والبسط والأنس والهيبة { رجالاً } هي النفس وصفاتها { وعلى كل ضامر } هي البدن وجوارحه فإن الأعمال الشرعية قد ركبت الجوارح المرتاضة ، فأعمال البدن مركبة من حركات الجوارح ونيات الضمير كما أن أعمال النفس بسيطة . لأنها نيات الضمير فقط { من كل فج عميق } هو مصالح الدنيا لأن مصالحها بعيدة عن مصالح الآخرة { ليشهدوا منافع لهم } فمنافع النفس وصفاتها بتبديل الأخلاق ، ومنافع القلب والجوارح بظهور اثر الطاعة عليها { ويذكروا } اي القلب والنفس والقالب شكراً { على ما رزقهم من } تبديل الصفات البهيمية بالصفات الروحيانية فانتفعوا بها وأفيضوا منها على الطالبين فهو خير لأن العبد يصل بالطاعة إلى الجنة ويصل بحرمة الطاعة إلى الله ، وترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة . { وأحلت لكم } استعمال الصفات البهيمية بقدر الضرورة { إلا ما يتلى عليكم } في قولنا { ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم « من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه » { فاجتنبوا } مقتضيات الهوى وكونوا صادقين في الطلب لا مزورين مائلين إلى الحق غير طالبين معه غيره ، وخر من سماء القلب فاستلبه طير الشياطين أو وتهوي به ريح الهوى والخذلان إلى أسفل سافلين البعد والحرمان . لكم في شواهد آثار صنع الإرشاد منافع وهي لذة العبور على المقامات ولذة البسط ولذة الأنس إلى أجل مسمى وهو حد الكمال ، ثم انتهاء السلوك إلى حضرة القديم . ولكل سالك جعلن مقصداً وطريقاًً ، منهم من يطلب الله من طريق المعاملات ، ومنهم من يطلبه من طريق المجاهدات ، ومنهم من يطلبه بطريق المعارف ، ومنهم من يطلبه به . { فله أسلموا } أي أخلصوا والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات ، ثم الأخلاق من الكدورات ، ثم الأحوال من الالتفات ، ثم الأنفاس من الأغيار { وبشر المخبتين } عنى المستقيمين على هذه الطريقة . { وجلت قلوبهم } الوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب { والصابرين على ما اصابهم } من غير تمني ترحة ولا روم فرحة { والمقيمي الصلاة } الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون إطلاع الخلق على أحوالهم { ومما رزقناهم ينفقون } يبذلون الموجود في طلب المقصود والوجود بشهود المعبود { والبدن } يعني بدن الأبدان الجسام جعلنا قربانها عند كعبة القلب بذبحها عن شهواتها من شعائر أهل الصدق في الطلب ، فإذا ماتت عن طبيعتها فانتفعوا بها أنتم وغيركم من الطالبين والقانعين بما أفضتم عليه ، والمعترين المتعطشين الذين لا يروون رياً من ماء حياة المعرفة
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
{ وكذلك سخرناها لكم } فيه أن ذبح النفس بسكين الرياضة لا يتيسر إلا بتسخير خالقها وتيسير موجدها يؤكده قوله { إن الله يدافع } خيانة النفس وهواها { عن الذين آمنوا } { أذن للذين يقاتلون } فيه أن قتال يجب أن يكون بإذن من الله تعالى وهو أن يكون على وفق الشرع وفي أوان التكليف وعلى حسب ظلم النفس على القلب وإخراجها إياه من ديار الطمأنينة { ولولا دفع الله } النفوس بالقلوب لضيعت صوامع أركان الشريعة ، وبيع آداب الطريقة ، وصلوات مقامات الحقيقة ، ومساجد القلوب التي { يذكر فيها اسم الله كثيراً } لاتساعها بإشراف نور الله عليها { أن مكناهم في الأرض } البشرية { أقاموا } صلاة المواصلة وأتوا زكاة الأحوال وهي إيثار ربع عشر الأوقات على مصالح الخلق ، وأمروا بحفظ الحواس عن مخالفات الأمر وبمراعاة الأنفاس مع الله ، ونهوا عن مناكير الرياء والإعجاب وإلى الله عاقبة الأمور .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
القراآت : { نكيري } بإثبات الياء حيث كان في الحالين : يعقوب . وافق ورش وسهل وعباس في الوصل . { أهلكتها } على التوحيد : أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون { أهلكناها } { وبير } بالياء : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعمش وورش وربيعة وابن فليح وحمزة في الوقف . { يعدون } على الغيبة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { معجزين } بالتشديد : حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو . ثم { قتلوا } بالتشديد ابن عامر { وأن ما يدعون } بياء الغيبة وكذلك في سورة لقمان : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص .
الوقوف : { وثمود } 5 { ولوط } 5 { مدين } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى { أخذتهم } ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب { نكير } 5 { مشيد } 5 { يسمعون بها } 5 للابتداء بأن مع الفاء { الصدور } 5 { وعده } ط { تعدون } 5 { أخذتها } ط { المصير } 5 { مبين } 5 ج للابتداء مع الفاء { كريم } 5 { الجحيم } 5 { أمنيته } ج لانقطاع النظم مع إتحاد المعنى { آياته } ط { حكيم } 5 لا لتعلق اللام { قلوبهم } ط { بعيد } 5 لا { قلوبهم } ط { مستقيم } 5 { عقيم } 5 { لله } ط { بينهم } ط { النعيم } 5 { مهين } 5 { حسناً } ط { الرازقين } 5 { يرضونه } ط { حليم } 5 { ذلك } ج { لينصرنه الله } ط { غفور } 5 { بصير } 5 { الكبير } 5 { ماء } ز لنوع عدول مع العطف { مخضرة } ط { خبير } 5 { وما في الأرض } ط { الحميد } 5 .
التفسير : إنه سبحانه بعد ضمان النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم والدفع عن أمته ذكر ما فيه تسليته وهو أنه ليس بأوحدي في التكذيب له والقصص معلومة مما سلف . قال جار لله . إنما لم يقل « وقوم موسى » لأن موسى كذبه غير بني إسرائيل وهم القبط ، أو المراد وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ والنكير بمعنى الإنكار عبر به عن الهلاك المعجل لأنه يستلزمه أو لأن الهلاك رادع لغيرهم فكأنه أنكر به عليهم حتى ارتدعوا ، أو هو بمعنى التغيير لأنه أبدلهم بالنعمة محنة وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً . قوله { وهي ظالمة فهي خاوية } الأولى في محل النصب على أنها حال ، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على { أهلكناها } وهذه ليس لها محل . قال أبو مسلم : اراد هي كانت ظالمة فهي الآن خاوية على عروشها وقد مر تفسيرها في البقرة في قوله { أو كالذي مر على قرية وهي خاوية } [ الآية : 259 ] قوله { وبئر معطلة } عطف على { قرية } أي وكم بئر عطلناها عن سقائها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء ، وكم قصر مشيد مجصص أو مرتفع أخليناه عن ساكنيه؟ فحذف هذه الجملة لدلالة معطلة عليها . وقد يغلب على لاظن من هاتين القرينتين أن « على » في قوله { على عروشها } بمعنى « مع » كأنه قيل : هي خاوية أي ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها قاله في الكشاف .
وأقول : إذا كانت القرى المهلكة غير البئر والقصر فهذا الظن مرجوح أو مساوٍ لا غالب . يروى أنها بئر نزل عليها صالح مع اربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم وسميت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح واقاموا بها زماناً ثم كفروا وعبدوا صنماً وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبياً فقتلوه فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم . يحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري قال : هذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف قيل : إنه بحضرموت؟ قلت : لا غرو أن يتفق الموت بأرض والدفن بأرض أخرى . ثم أنكر على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الاثار قائلاً { أفلم يسيروا } حثهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا . ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا فلهذا جاء الإنكار كقوله { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [ الصافات : 137 ، 138 ] والمراد بالسماع سماع تدبر وانتفاع وإلا كان كلا سماع كما أن المراد بالإبصار إبصار الاعتبار ولهذا قال { فإنها } أي إن القصة { لا تعمى الأبصار } أي أبصارهم { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } وفي هذا التصوير زيادة التمكين والتقرير لغرابة نسبة العمى إلى القلب ، وجوز في الكشاف أن يكون الضمير في { فإنها } ضميراً مبهماً يفسره الأبصار وفاعل { تعمى } ضمير عائد إلى الضمير الأول المبهم . والمعنى على الوجهين أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم ، أو لا تعتدوا بعمى الأبصار وإن فرض لأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب . وزعم بعضهم أن في الآية إبطالاً لقول من جعل محل الكفر الدماغ وليس بقوي فقد يتشاركان في ذلك ، أو يكون سلطانه في القلب والدماغ كالآلة .
ثم حكى من عظيم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزؤن باستعجال العذاب العاجل والآجل كأنهم جوزوا الفوت فلهذا قال { ولن يخلف الله وعده } أو لعلهم طلبوا عذاب الآخرة فذكر أن استعجاله في الدنيا كالخلف لأن موعده الآخرة { وإن يوماً عند ربك كألف سنة } قال أبو مسلم : أراد أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة لأن يوماً واحداً من أيام عذاب الله في الشدة كألف سنة من سنينكم لأن أيام الشدائد مستطالة ، أو كالف سنة من سني العذاب إذا عدها العاد وذلك لشدة العذاب ايضاً . وقيل : أراد أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء ، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة . وقد يدور في الخلد أن هذا إشارة إلى لا تناهي طرف الأبد المستتبع لازدياد امتداد الآحاد الاعتبارية لأجل سهولة الضبط ، والغرض أن من كانت أيامه في الطول إلى هذا الحد لا يفيد الاستعجال بالنسبة إليه شيئاً فالأولى بل الواجب تفويض الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها من غير تقدم ولا تأخر ثم كرر قوله { وكأين من قرية } وليس بتكرار في الحقيقة لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسباً لقوله { فكيف كان نكير } ولهذا عطف بالفاء بدلاً عتن ذلك ، والثاني سيق لبيان الإملاء مناسباً لقوله { ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة } فكأنه قيل : وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع للكل إلى حكمي .
ثم أمر رسوله بأن يتلو عليهم جملة حاله في الرسالة وهي أنه نذير مبين وجملة حالهم في باب التكليف مآلا ، وإنما اقتصر على النذارة لأنها تتضمن البشارة فإن كلام الحيكم لا يخلو عن ترغيب وإن كان مبنياً على الترهيب بدليل { يا ايها الناس } وهو نداء الكفرة في قول ابن عباس . قال في الكشاف : هم الذين قيل فيهم { أفلم يسيروا } ووصفوا بالاستعجال ، وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا . قالت الأشاعرة : المغفرة إما للصغائر أو للكبائر بعد التوبة أو قبلها . والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفراناً فبقي الثالث ويلزم منه عفو صاحب الكبيرة من أهل القبلة ، أما الرزق فلا شك أنه الثواب ، وأما الكريم فإما أن يكون أمراً سلبياً وهو أن يكون الإنسان معه بحيث يستغنى عن المكاسب وتحمل المتاعب والذل والدناءة وما ينجر إلى المآثم والمظالم ، وإما أن يكون ثبوتياً وهو أن يكون رزقاً كثيراً دائماً خالصاً عن شوائب الضرر مقروناً بالتعظيم والإجلال { والذين سعوا في آياتنا } أي بذلوا جهدهم في تكذيبها وإرادة إبطالها كمن يسعى سعياً أي يمشي سريعاً . قال أهل اللغة : عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه . والمراد معاجزين الله ورسوله أي مقدرين ذلك ظنا منهم أن كيدهم للإسلام يتم لهم ، وأن طعنهم في القرآن وتثبيطهم الناس عن التصديق يبلغ بهم غرضهم .
ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } خصص أولاً ثم عمم ، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً ، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله ، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهراً وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره ، ولا بد للكل من المعجزة . « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً قيل : فكم الرسل منهم؟ قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جماً غفيراً »
قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية : أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم . وكان ذات يوم جالساً في نادٍ من أنديتهم وقد نزل عليه سورة { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله { أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى } [ النجم : 19-20 ] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه « تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى » فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال : ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفاً شديداً فأنزل الله تعالى هذه الآية . واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول . أما القرآن فكقوله { ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] وقوله { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] وقوله { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن } [ الإسراء : 74 ] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة ، وقد صنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي . هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم . وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق . وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضاً إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص . وايضاً إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجداً قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر . وأيضاً منع الشيطان من اصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه . وايضاً لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع ، ولناقض قوله { بلغ ما أنزل إليك } [ المائدة : 67 ] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه . إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان : الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [ الآية : 78 ] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان : أحدهما أنه يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله « تلك الغرانيق العلى » . وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها .
وكيف وقعت؟ ذهبت جماعة إلى أنه لما قرأ سورة والنجم اشتبه على الكفار فتوهموا بعض ألفاظه ذلك ، وزيف بأن هذا التوهم من الجم الغفير بعيد . وقيل : إن شيطان الجن ألقاها في البين فظنها الحاضرون من قول الرسول . وضعف بأن هذا يفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل ما يتكلم به النبي .
قلت : الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } وقيل : إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في إثناء وقفاته . وقيل : إن المتكلم به الرسول قاله سهواً كما روي عن قتادة ومقاتل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان ، ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان . وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه ، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس . وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى { أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا } [ النحل : 99 ] وذهب جماعة إلى نه قال ذلك اختياراً . ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان : أما اول ففيه طريقان : أحدهما قول ابن عباس في رواية أن « شيطاناً » يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها ، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال : إنه أتاني آتٍ على صورتك فألقاها على لساني . وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها . والطريقان منحرفان عند المحققين ، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك والمعصوم والشيطان الخبيث . والثاني أنه يؤدي إلى كونه خائناً في الوحي . وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه اراد بالغرانيق الملائكة ، وقد كان قرآناً منزلاً في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته . أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار ، أو المراد بالإِثبات ههنا النفي كقوله { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] قال الجوهري : الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق ، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون ، وغرنوق وغرانق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق . القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمراً من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى مالا ينبغي ، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو الحق . وما تلك الوسوسة؟ قيل : هي أن يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالخير وقد مر فساده .
وقال مجاهد : إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني ، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث . وقيل : كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد ، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات . وقيل : معناه إذا أراد فعلاً يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله } [ الأعراف : 200 ] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون ، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسبه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي . والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم . وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان . ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكاً بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم ، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالاً منهم . وقال صاحب الكشاف : المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمتة ولا يوافق هواهم ، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك . فقلت « تلك الغرانيق » الخ . وسبب التمكين إرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين . فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية .
وأما قوله { فينسخ الله } فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله { ثم يحكم الله آياته } فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها ، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة . ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية . وقوله { وإن الظالمين } أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق البعيد والمعاداة الكاملة . وأعلم أنه سبحانه ذكر لتمكين الشيطان من الإلقاء في الأمنية أثرين : أحدهما في حق غير أهل الإيمان وهم أهل النفاق والشرك وذلك قوله { وليجعل } الآية .
وثانيهما في حق المؤمنين العارفين بالله وصفاته وهو قوله { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق } قال مقاتل : يعني القرآن . وعن الكلبي : أي النسخ . قال جار الله : أي تمكين الشيطان من الإلقاء قلت : أما عند الأشاعرة فلأن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وأما عند المعتزلة فلأن أفعاله جارية على وفق الحكمة والتدبير . { فتخبت } تخضع وتطمئن { له قلوبهم } بناء على أصلي الفريقين . والصراط المستقيم ههنا فسروه بالتأويلات الصحيحة والبيانات المطابقة للأصول . قلت : وتفسيره بمعنى أعم من ذلك غير ضائر . ثم بين أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن يكون في شك من القرآن والرسول واليوم العقيم . قيل : يوم بدر لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه ، أو لأنه لا خير فيه للكفار من قولهم « ريح عقيم » إذا لم تنشئ مطراً ولم تلقح شجراً ، أو لأن يوم الحرب يقال له « العقيم » من حيث أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرون كأنهن عقم لم يلدن ، أو من حيث إن المقاتلين يقال لهم « أبناء الحرب » فإذا قتلوا بقي الحرب بلا أبناء . وعن الضحاك أنه يوم القيامة لأنهم لا يرون فيه خيراً ، أو لأن كل ذات حمل تضع فيه حملها ، أو لأنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على عدم الولادة . ولا تكرار على هذا القول لأن المراد بالساعة مقدماته ، أو المراد حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذابها ، فوضع يوم عقيم مقام الضمير . واستحسن بعض الأئمة قول الضحاك ورجحه لأن الأول يلزم منه أن الكفار ينتهي شكهم في يوم بدر وليس كذلك فإنهم في مرية بعد يوم بدر أيضاً . ويمكن أن يقال : « أو » للعطف على أول الآية فيكون المراد بالذين كفروا في الأول الجنس ، وفي الثاني العهد . سلمنا أنه للعطف على { تأتيهم } إلا أن اللام في { الذين كفروا } للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة .
ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار . ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصاً لهم بمزيد التشريف . يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله ، هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله عز وجل { والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا } قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة .
وقال بعضهم : هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر . ولا يبعد حمل الآية على الفريقين . والرزق الحسن نعيم الجنة . وعن الكلبي : هو الغنيمة لأنها حلال . وقال الأصم : العلم والفهم كقول شعيب { ورزقني منه رزقاً حسناً } [ هود : 88 ] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت . قال العلماء : وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلا بد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم . { وإن الله لهو خير الرازقين } لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه ، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة ، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق . ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير . وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد . وقد يستدل على التسوية بما روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان » فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية .
وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم . قيل : في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم ، لها سبعون ألف صراع . وقال أبو القاسم القشيري : هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم . وقال ابن عباس : يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولاً { وإن الله لعليم } بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم { حليم } عن تفريط المفرط منهم فيمهله حتى يتوب فيدخل الجنة . ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال { ذلك } قال الزجاج : أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصةً إذا قتلوا أو ماتوا . عن مقاتل : أن قوماً من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم ، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا ، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل { ومن عاقب } أي قاتل { بمثل ما عوقب به } أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللمبلابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه { ثم بغي عليه } أي ثم كان المجازي مبغياً عليه أي مظلوماً .
ومعنى « ثم » تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل « البادي أظلم » وهو موجب لتنصرته ظاهراً إلا أن كونه في نفس الأمر مظلوماً هو السبب الأصلي في النصرة . وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات . واستدل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص فقال : من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه . وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها : أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله { فمن عفا واصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] وكأنه قال : أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإِني عفوّ غفور . ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح . ومنها أن دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة . ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران . وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيراً أو شراً إنصافاً أو بغياً وأكد هذا المعنى بقوله { إن الله سميع بصير } يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم .
ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال { ذلك } أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولا سيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان . ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شاناً وأكبر سلطاناً . وإنما قال ههنا { من دونه هو الباطل } بزيادة هو وفي « لقمان » { من دونه الباطل } [ الآية : 30 ] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضاً زيدت اللام في قوله { وإن الله لهو الغني الحميد } بخلاف ما في « لقمان » وأيضاً يمكن أن يقال : تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف « لقمان » فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر ههنا . ثم ذكر أنواعاً أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال { الم تر } قيل : هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات . وقيل : بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها . وفي قوله { فتصبح } دون أن يقول فأصبحت مناسباً ل { أنزل } إشارة إلى بقاء أثر المطر زماناً طويلاً وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل : « أنعم فلان عليّ عام كذا فأروح وأغدو شاكراً له » .
ولو قال : « فرحت وغدوت » لم يقع ذلك الموقع . وإنما لم ينصب { فتصبح } جواباً للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك : الم تراني أنعمت عليك فتشكر . إن نصبته أو همت أنك نافٍ لشكره شاكٍ تفريطه فيه ، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى دليل الإعادة كما في أول السورة وهذا قول أبي مسلم : { إن الله لطيف خبير } قال الكلبي : لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه ، وقال مقاتل : لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه . وقال ابن عباس : لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط « الأنعام » . ثم بين أن كل ما في السموات والأرض ملكه وملكه لاي متنع شيء منها من تصرفاته ، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعاماً عليها . وإذا كان إنعامه خالياً عن غرض عائد إليه كان مستحقاً للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون .
التأويل : { وكأين من قرية } قالب { أهلكناها } بضيق الصدر وسوء الخلق واستيلاء الغفلة . { وبئر معطلة } هي القلب الفارغ عن أعمال القوى الروحانية في طلب المعارف والحقائق { وقصر مشيد } وهو الرأس الخالي عن نتائج الفكر الصافي والحواس السليمة { أفلم يسيروا } في أرض البشرية عابرين على منازل السالكين إلى أن يصلوا إلى مقام القلب { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } الرحمن بذاته { أو آذان } قلوب { يسمعون بها } أقواله أو أبصار بصائر يبصرون بها أفعاله . وإذا صح وصف القلب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر وجوه الإدراكات ، فقد يدرك نسيم الإقبال بمشام السر كقوله « إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن » وكقول يعقوب { إني لأجد ريح يوسف } [ يوسف : 94 ] { ولن يخلف الله وعده } ليس خلفه في وعيد المؤمنين بخلف في الحقيقة لأنه تصديق قوله « سبقت رحمتي غضبي » { وإن يوماً عند ربك كألف سنة } قيل : لأنه موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء فوجود الزمان وعدمه وكثرته وقلته سواء عنده والاستعجال وضده إنما يتصور في المتزمنات قلت : ففيه أن الكل بإرادته وإن ما أراد الله فأسبابه متهيئة يحصل في يوم بإرادته مالا يحصل في ألف سنة بحسب فرضنا وتقديرنا ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين { أمليت لها } فيه انه تعالى يمهل ولنه لا يهمل { لهم مغفرة } أي ستر فمنهم من يستر زلته ، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة ، ومنهم من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة كما قيل :
لا تنكرن جحدي هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل
ومنهم من يستره بين أوليائه في باب العزة كما قال « أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري » ومنهم من يستر أنانيته بهويته فيقول أنا الحق وسبحاني . والرزق الكريم هو الخالي عن شوائب الحدوث لأنه من القديم الكريم { إلا إذا تمنى } فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بل الولي لا يليق به التمني بل ما على الرسول إلا البلاغ ولا على الولي إلا الرضا والتسليم ، فلو بقي في أحدهم أدنى ملاحظة لغير الله كالحرص على إيمان القوم فوق ما أمر به ابتلاه ببلاء مجال الشيطان في أمنيته بقول أو بعمل ، فتدركه العناية الأولية ويزيل الخاطر الشيطاني ويثبته على الخاطر الرحماني ، ولا يكون لدخان الفتنة تاثير في نور يقينه كما لا تأثير للضباب في شعاع الشمس بخلاف من في قلبه ظلم الشبهات فإن ذلك الدخان يزيدها كدورة وريناً حتى تأتيه ساعة سلب الاستعداد بالكلية ، { أو يأتيهم عذاب يوم عقيم } هو الأبد لأنه لا ليل له وهو عذاب قطيعة لا وصلى بعدها { والذين هاجروا } عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة { ثم قتلوا } بسيف الصدق والرياضة حتى تزكوا أنفسهم { أو ماتوا } عن أوصاف البشرية { ليرزقهم الله رزقاً حسناً } فرزق القلوب حلاوة العرفان . ورزق الأسرار مشاهدات الجمال ، ورزق الأرواح مكاشفات الجلال . { وإن الله لهو خير الرازقين } لأنه يرزق من أوصاف ربوبيته كما قال صلى الله عليه وسلم « ابيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { ومن عاقب } بالمجاهدة نفسه { بمثل } ما عاقبت النفس بالمخالفة قلبه { ثم بغي عليه } أي غلبت النفس على القلب باستيلاء صفاتها { لينصرنه الله } باستئصال النفس وتمحيق صفاتها { إن الله لعفوّ } لما سلف { غفور } لما بقي في نفوس الطالبين من الأنانية . { يولج } ليل السر في نهار التجلي وبالعكس ، أو يولج ليل القبض في نهار البسط ، أو ليل الهيبة في نهار الأنس { أنزل من } سماء القلب ماء الحكمة { فتصبح } أرض البشرية { مخضرة } بالشريعة وأرض القلوب والأرواح والأسرار بالعلوم والكشوف والأنوار والله أعلم بالصواب .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
القراآت : { ما لم ينزل } من الإنزال ابن كثير وأبو عمرو وسهل . والآخرون بالتشديد { يصطون } بالصاد مثل { بصطة } [ الآية : 247 ] في البقرة { الذين يدعون } بياء الغيبة : سهل ويعقوب .
الوقوف : { بأمره } ط { بإذنه } ط { رحيم } 5 { أحياكم } ز لأن « ثم » لترتيب الأخبار { يحييكم } 5 ط { لكفور } 5 { إلى ربك } ط { مستقيم } 5 { تعملون } 5 { تختلفون } 5 { والأرض } ط { في كتاب } ط { يسير } 5 { علم } ط { نصير } 5 { المنكر } ط { آياتنا } ط { ذلكم } ط { النار } ط { كفروا } ط { المصير } 5 { فاستمعوا له } ط { اجتمعوا له } ط { منه } ط { والمطلوب } 5 { قدره } ط { ومن الناس } ط { بصير } 5 { خلفهم } ط { الأمور } 5 { تفلحون } 5 ج للآية مع العطف { جهاده } ط { حرج } ط { إبراهيم } ط { الناس } ج للعطف مع الفاء { بالله } ط { مولاكم } ط { النصير } 5 .
التفسير : إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم ، فلا اصلب من الحديد والحجر ، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام ايضاً ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [ الغاشية : 17 ] وسخر لهم الدواب ، وغيرها وخسر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها . ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض ، فمّن الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الإقتدار عند أهل الظاهر ، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز . وفي قوله { إلا بإذنه } إشارة إلى أن الأفلاك ستنخرق وتنشق فتقع على الأرض ، ويحتمل أ ، يقال : توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن ، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية . ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال { وهو الذي أحياكم نظيره قوله في أول البقرة { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ الآية : 28 ] وقد سبق هنالك . وفي قوله { إن الإنسان لكفور } زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ . وعن ابن عباس أنه الكافر . وبعضهم جعله أخص فقال : هو ابو جهل وأضرابه ، والأولى إرادة الجنس ، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال { لكل أمة } الآية . قال في الكشاف : إنما فقد العاطف ههنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك مناسبة لما تقدمها في هذه مباينة لها . قلت : وذلك لأن من ههنا إلى آخر السورة عوداً بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف ، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله
{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء . وقيل : أراد مكاناً معيناً وزماناً لأداء الطاعات . وقال مجاهد : هو الذبائح ولا وجه للتخصيص ههنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق . أما الضمير في قوله { فلا ينازعنك } فلا بد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال الزجاج : إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول « لا يضاربنك فلان » أي لا تضار به . وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمناً . وقال في الكشاف : هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم اي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك ، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة « مال كم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله » . ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال : { وأدع إلى ربك } أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك { إنك لعلى هدى مستقيم } أي على دين وسط دليل ظاهر . وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلاً { الله أعلم بما تعملون } وفيه وعيد وإنذار مخلوط برفق ولكن { الله يحكم بينكم } أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم ، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم . { ألم تعلم } خطاب لكل عالم أو للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد تقوية قلبه وإلا فالرسالة لا تكون إلا بعد العلم بكونه تعالى عالماً بكل المعلومات وإلا اشتبه عليه الصادق بالكاذب . { إن ذلك } الذي ذكر وهو كل ما في السماء والأرض { في كتاب } قال أبو مسلم : أراد به الحفظ والضبط كالشيء المكتوب ، والجمهور على أنه حقيقة وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه . ولعل في تلك الكتابة لطفاً للملائكة لأن مطابقة تلك الأشياء المكتوبة لما سيحدث إلى الأبد من أدل دليل على كونه عالم الذات ولذلك قال { إن ذلك } الكتب { على الله يسير } وهذا تصوير لضده وهو صعوبة مثل ذلك على غيره وإلا فلا مدخل لليسر والصعوبة في كمال قدرته .
وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله { ويعبدون } الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله { وما للظالمين من نصير } الظلم الشرك ، والصنرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران { وما للظالمين من انصار } [ الآية : 192 ] وقد مر . والمنكر دلائل الغيظ والحنق .
وقال جار الله : وهو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي : اراد أنهم كرهوا القرآن مع وضوح دلائلة . وقال ابن عباس : هو التجبر والترفع . وقال مقاتل : أنكروا أن يكون من الله تعالى . السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم . وقوله { من ذلكم } إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم . ثم إنه كأن سائلاً قائلاً ما ذلك الشر فقيل { النار } اي هو النار . قلت : وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولكن هذه أقوى ولا سيما نار جهنم . ثم استأنف للنار حكماً فقال { وعدها } الآية . ويحتمل أن تكون { النار } مبتدأ و { وعدها } خبراً . ثم ضرب للاصنام مثلا فقال { يا أيها الناس ضرب مثل } إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل . والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلاً لموردها ، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية : { فاستمعوا له } أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له . قال جار الله : محل { ولو اجتمعوا له } نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطاً عليهم اجتماعهم جميعاً فكيف لو انفردوا؟ وأقول : الظاهر أن « لو » هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره ، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه ايضاً ، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل . ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيداً بقوله { وإن يسلبهم الذباب } الاية . بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من ذلك ، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئاً لم يقدروا أيضاً على استخلاص ذلك الشيء منه . عن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله . وقيل : سمي الذباب ذباباً كلما ذب آب . ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله { ضعف الطالب والمطلوب } فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنفاذ ما سلبه منه . وقيل : الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته ، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه .
ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة { ما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في « الأنعام » . { إن الله لقوي عزيز } قادر غالب فكيف يسوِّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم . وذلك أنهم لو إعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى ، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل .
وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوَّات وهي أن الرسول لا يكون بشراً فقال { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل . ههنا سؤالات : الأول أن « من » للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضاً لقوله { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية ، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى نبي آدم وهو أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلاً إلى بعض آخر منهم . وثانيهما أنه قال في موضع آخر { لو اراد الله أن يتخذ ولداً لاصطفى مما يخلق ما يشاء } [ الزمر : 4 ] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولداً . والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا ، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر ، وأن مرجع الأمور كلها إليه ، وفي كل زجر عن الإقدام على المعصية وبعث الجد في الطاعة فلا جرم صرح بالمقصود قائلاً { يا ايها الذين آمنوا } والظاهر أنه خطاب مختص بالمؤمنين ويؤكده قوله بعد ذلك { هو اجتباكم } { هو سماكم المسلمين } وقيل : عام لكل المكلفين لأن المأمورات بعده لا تختص ببعض الناس دون بعض والتخصيص بالذكر للتشريف فإنهم الذين قبلوا الخطاب . ودل بالركوع والسجود على الصلاة لأنهما ركنان معتبران . وقيل : كان الناس أول ما اسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ذكره ابن عباس . قال جار الله : عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال : نعم أن لم تسجدهما فلا تقرأهما . وعن عبد الله بن عمر : فضلت سورة الحج بسجدتين . وهو مذهب الشافعي . وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال : فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة ، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقاً ، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال : كلفتكم الصلاة بل كلفتكم ما هو أعم منها وهو العبادة ، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق .
وقيل : معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عز وجل . وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق . ومعنى { لعلكم تفلحون } افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضاً مستورة . ثم أمر بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال { وجاهدوا في الله } اي في ذاته ومن أجله { حق جهاده } اي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه . وقيل : هو امر بالغزو ، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولاً فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر . وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أما علمت أنا كنا نقرأ { وجاهدوا في الله حق جهاده } في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ فقال عبد الرحمن : ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء . قال العلماء : لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت . وإما عبارات المفسرين فعن ابن عباس : حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم . وقال الضحاك : اعملوا لله حق عمله . وقال آخرون : استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن ، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل . وعن مقاتل والكلبي : أن الآية منسوخة بقوله { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] كما أن قوله { اتقوا الله حق تقاته } [ آل عمران : 102 ] منسوخ بذلك . وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ . ثم عظم شأن المكلفين بقوله { هو اجتباكم } أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ثم كان لقائل أن يقول : التكليف وإن كان تشريفاً إلا أن فيه مشقة على النس فقال { وما جعل عليكم في الدين من حرج } اي ضيق وشدة وذلك أنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش . يروى أن أبا هريرة قال : كيف قال سبحانه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس : بلى ولكن الإصر الذي كان علي بني إسرائيل وضع عنكم . قالت المعتزلة : لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج .
وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه ، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلاً وهو أعظم الحرج .
ثم أثنى على هذه الأمة بقوله { ملة أبيكم } أي أعني ملة أبيكم ، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل : وسع دينكم توسعة ملة ابيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف ، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وكل نبي أبو أمته . والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم . { هو } أي الله أو إبراهيم { سماكم المسلمين من قبل } اي في سائر الكتب أو في قوله { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } [ البقرة : 128 ] { وفي هذا } القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر ، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن . وقوله { ليكون الرسول } متعلق بقوله { هو اجتباكم } اي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا } [ الآية : 143 ] والأصل تقديم الأمة كما في « البقرة » لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله { فأقيموا الصلاة } والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته . قال ابن عباس : سلوا الله العصمة عن كل المحرمات . وقال آخرون : اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر . استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه : الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا ، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر ألبتة . الثالث أنه لو خلق في عبادة الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى . وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريداً لجهل نفسه . وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وايضاً الاعتصام به إنما يكون منه كقوله « أعوذ بك منه » وايضاً إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن ، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضاً مقتضياً لذلك .
التأويل : { سخر لكم ما } في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية ، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب ، ويمسك القلب أن تقع على ارض النفس بأن تتصف بصفاتها { إلا بإذنه } بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما { وهو الذي أحياكم } بازدواج الروح إلى القالب { ثم يميتكم } عن صفات البشرية { ثم يحييكم } بنور الصفات الرحمانية { فلا ينازعنك } في أمرك فإن لك مع الله وقتاً لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها { إن الذين يدعون من دون الله } كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب ، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئاً من صفاء القلب وجمعية الوقت { ضعف الطالب } وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان { والمطلوب } وهو النفس والشيطان { اركعوا } بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية :
{ ومنهم من يمشي على أربع } [ النور : 45 ] { واسجدوا } بالنزول إلى مرتبة الحيواينة { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] { واعبدوا ربكم } بجعل الطاعة خالصة له { وافعلوا الخير } بمراقبة الله في جميع أحوالكم { لعلكم تفلحون } بالوصال . { وجاهدوا في الله حق جهاده } فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين ، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده { هو اجتباكم } لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل :
فلولاكم ما عرفنا الهوى ... وما جعل عليكم في دين العشاق . وهو السير إلى الله من ضيق « من تقرَّب إلي شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً » والسير إلى الله من سنة إبراهيم { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] { هو سماكم المسلمين } في الأزل وهو في هذا الطور . وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم « أول ما خلق الله روحي » فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم . وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته { فأقيموا الصلاة } بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره { وآتوا الزكاة } بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم { واعتصموا بحبل الله } حتى تصلوا إليه هو متولي أفنائكم عنكم { فنعم المولى } في إفناء وجودكم { ونعم النصير } في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليماً كثيراً دائماً ابداً إلى يوم الدين .
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
القراآت : { لأماناتهم } على التوحيد : ابن كثير { على صلاتهم } موحدة : حمزة وعلي وخلف . و { عظماً } { العظم } موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس : ابن عار وأبو بكر وحماد و { جبلة } الأول موحداً والثاني مجموعاً : زيد بن يعقوب . وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما . الباقون مجموعين { سيناء } بكسر السين : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون بفتحها . { تنبت } من الإنبات : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح . الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات . { تسقيكم } بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد . بالتاء الفوقانية : يزيد : الباقون بضم النون . { منزلاً } بفتح الميم وكسر الزاء : ابو بكر وحماد . الآخرون بضم الميم وفتح الزاء .
الوقوف : { المؤمنون } 5 لا { خاشعون } 5 لا { معرضون } 5 لا { فاعلون } 5 لا { حافظون } 5 { ملومين } 5 لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين ايضاً { العادون } 5 ج { راعون } 5لا { يحافظون } 5 م وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط { الوارثون } 5 لا { الفردوس } ط { خالدون } 5 { طين } ج5 للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم ، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر { مكين } 5ج للعطف { لحماً } صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيماً { آخر } ط { الخالقين } 5 ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة { لميتون } 5ط لذلك { لقادرون } 5 للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء { وأعناب } م لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب { تأكلون } 5 لا لأن شجرة مفعول { أنشأنا } { لآكلين } 5 { لعبرة } ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها { تأكلون } 5 لا { تحملون } 5 ط { غيره } ط { تتقون } 5 { مثلكم } لا لأن قوله { يريد } صفة { بشر } { عليكم } ط { ملائكة } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول { الأولين } ج 5 للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام { حين } 5 { كذبون } 5 { التنور } 5 لا لأن ما بعده جواب فإذا { منهم } ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء { ظلموا } ج للابتداء بأن مع احتمال إضمار اللام والفاء للتعليل { مغرقون } 5 { الظالمين } 5 { المنزلين } 5 { المبتلين } 5 .
التفسير : لما أنجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات . « وقد » نقيضة « لما » لأنها تثبت المتوقع و « لما » تنفيه ، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم .
وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول « البقرة » . وأما الشخوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة ، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون ، وترك الالتفات ، والنظر إلى موضع السجود ، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه ، والعبث بجسده وثيابه ، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم ، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه ، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى ، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصاً أو سوطاً ونحوهما . وقال الحسن وابن سيرين : كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاة ، وهذا الخشوع واجب عند المحققين . نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي : من لم يخشع فسدت صلاته . وعن الحسن : كلا صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع . وعن معاذ بن جبل : من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له . وروي عنه مرفوعاً : إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها . وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته . ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه { افلا يتدبرون القرآن } [ النساء : 82 ] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى ، وكذا قوله { وأقم الصلاة لذكرى } [ طه : 14 ] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال { ولا تكن من الغافلين } [ الأعراف : 205 ] وقوله { حتى تعلموا ما تقولون } [ النساء : 43 ] نهي للسكران إلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته . وقوله صلى الله عليه وسلم « المصلي يناجي ربه » ولا مناجاة مع الغفلة أصلاً بخلاف سائر أركان الإسلام فإِن المقصود منها يحصل مع الغفلة ، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير ، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدّو الله ، وكذا الحج فإِن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضراً . والمتكلمون أيضاً اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا : لأن السجود لله تعالى طاعة ، وللصنم كفر ، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه ، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور .
وأما الفقهاء فالأكثرون منهم لا يوجبون ذلك فيقال لهم : هبوا أنه ليس من شرط الإجزاء وهو عدم وجوب القضاء ، أليس هو من شرط القبول الذي يترتب عليه الثواب؟ فمن استعار ثوباً ثم ردّه على أحسن الوجوه فقد خرج عن العهدة ، وكذا إن ردّه على وجه الإهانة والاستخفاف إلا أنه يستحق المدح في الصورة الأولى والذم في الصورة الثالنية .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ابصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم « لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه » ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول : اللهم زّوجني الحور العين . فقال : بئس الخاطب أنت قلت : لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك؟ فقال : أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي . وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة ، فاخترت الإمامة طلباً للخلاص عن هذا الخلاف . قال علماء المعاني : سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله ، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته ، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك . ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة ، وأيضاً كان الإعراض عنه من باب التروك كما أن الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال { والذين هم عن اللغو معرضون } واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراماً أو مكروهاً أو مباحاً لا ضرورة إليه ولا حاجة قولاًَ أو فعلاً . فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار { لا تسمعوا لهذا القرآن واللغو فيه } [ فصلت : 26 ] فإِن ذلك اللغو كفر والكفر حرام . ومن المباح قوله { لا يؤاخذكم الله بالغوا في أيمانكم } [ البقرة : 225 ] ولو لم يكن مباحاً لم يناسبه عدم المؤاخذة . والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } [ الفرقان : 72 ] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة . وليس المراد بالزكاة ههنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب . وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة ههنا على فعل محمود مرضي كقوله { قد افلح من تزكى } [ الأعلى : 14 ] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع . الصفة الرابعة قوله { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم } قال الفراء : « على » بمعنى « عن » : وقال غيره : هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم « كان زياد على البصرة » اي والياً عليها ، والمعنى أنهم مستمرون على حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسربهم . أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه { غير ملومين } كأنه قيل : يلامون على كل من يباشرونه إلا على أزواجهم فإنهم غير ملومين عليهن ، وجوّز في الكشاف أن يكون صلة لحافظين من قولهم « احفظ عليّ عنان فرسي » على تضمينه معنى الفي أي لا تسلط علي فرسي .
وإنما لم يقل « أو من ملكت » لأنه اجتمع في السرية وصفان : الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع { فمن ابتغى } حداً { وراء ذلك } الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما الإماء من الإماء وكفى به حداً فسيحاً { فأولئك هم } الكاملون في العدوان المتناهون فيه .
قيل : لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح . ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله { ولكم نصف ما ترك أزواجكم } [ النساء : 12 ] ولورثت منه لقوله { ولهن الربع } [ النساء : 12 ] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع الحرث ، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها . وقال أبو حنيفة : الاستثناء من النفي ليس بإثبات فقوله « لا صلاة إلا بطهور » « ولا نكاح إلا بولي » لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي ، ولا تخصيص عنده في الآية . والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات ، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره . الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤمتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما ، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية . ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها ، وقد مر في تفسير قوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] وقوله { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم . الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله { حافظوا على الصلوات } [ البقرة : 238 ] وذلك في « البقرة » وصفوا أولاً بالخشوع في صلاتهم وآخراً بالمداومة عليها وبمراقبة أعداها وأوقاتها فرائض كانت أو سنناً ، رواتب أو غيرها . فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل ، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان . { أولئك هم الوارثون } الأحقاء بأن يسموا ورّاثاً دون من عداهم ممن يرث مالاً فانياً أو متاعاً قليلاً أو ممن يدخل الجنة سواهم كالأطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور . ثم بين الموروث بقوله { الذين يرثون الفردوس } وقد سبق معنى هذه الوراثة في « الأعراف » في قوله { ونودوا أن تلكموا الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] قال الفقهاء : لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول .
وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير طفره ، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث ، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين ، ولكن كل افردوس لا يكون ميراثاً بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أنهم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنت الضمير في قوله { هم فيها خالدون } وقيل : إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيهاً بالميراث . والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر . روي أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر . وروى أبو موسى الشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أه قال « الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار » وعن أبي أماة مرفوعاً « سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش » ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها : تكلمي . فقالت : قد افلح المؤمنون » ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت : حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها . فإذا أضاعها قالت : ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها » قالت العلماء : أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] وكذا الكلام في كلام « طوبى » . وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة . وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك « إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر » .
ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع : الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة . قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل : المراد آدم لأنه استل من الطين ، والكناية في { جعلناه } راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون : الإنسان ههنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منياً في أوعيته ، ويحتمل أن يقال : إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأرض والماء المسمى بالسلالة .
ثم إن تلك السلالة تصير منياً وعلى هذا فكلتا لفظي « من » للابتداء . قال في الكشاف : الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط . والقرار المستقر اراد به الرحم . وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت ، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك « طريق سائر » . وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج . ومعنى « ثم » في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله { ثم أنشأناه خلقاً آخر } اي خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث جعله حيواناً وكان جماداً إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة اربعينات . ومن هنا ذهب ابو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة . وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } ويروى هذا القول أيضاً عن مجاهد وابن عمر { فتبارك الله } كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالي لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه . ومعنى { أحسن الخالقين } أحسن المقدّرين تقديراً فحذف المميز للعلم به . قالت المعتزلة : في الاية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقاً للكفر والمعاصي . وأجيب بأن الحسن ههنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه . قالوا : لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله . وعورض بقوله { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم . وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين . والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات . روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا نزلت . فقال عبد الله : إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبياً يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمك كافراً ثم اسلم يوم الفتح . وروي عن عمر ايضاً سبق لسانه بقوله { فتبارك الله أحسن الخالقين } قبل أن ينزل .
واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به .
سؤال : ما الحكمة في الموت وهلا وصل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتياً بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وابعد عن صورة المبايعة . وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر . ويمكن إن يقال : بل الآية تتضمنها فإنها ايضاً من جنس الإعادة . النوع الثاني : الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج : سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل . وقال علي بن عيسى : لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم . وقيل : لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها { وما كنا عن الخلق } أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة . وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا { غافلين } عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها . ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر . ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي اردنا كونها عليه نظيره { ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت } [ الملك : 3 ] النوع الثالث : الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات . ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء ، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا : إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر ، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك . ومعنى { بقدر } بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع ، او بمقدار يوافق حاجاتهم . ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مدداً للينابيع والآبار . وقيل : أراد إثابته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة : سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل ، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض . { وإنا على ذهاب به لقادرون } أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه . ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على ايّ وجه اراد به ، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر .
ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء ين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعاً ، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين : التفكه والتطعم .
وجوز في الكشاف أن يكون قوله { ومنها تأكلون } من قولهم « فلان يأكل من حرفة كذا » كأنه قال : ومن هذه الجنان وجوه ارزاقكم ومعايشكم ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعاً . قال جار الله : طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافاً إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون المجموع اسماً للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى . من قرأ { سيناء } بفتح السين فهو كصحراء ، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون الفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء . قال في الكشاف { بالدهن } في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية ، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل . فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت . ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا ، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز . قلت : لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت ، وكذا يحتمل أن تكون الباء في { بالدهن } للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعدياً . قال المفسرون : إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك . قوله { وإن لكم في الأنعام لعبرة } قد مر في « النحل » . ولعل القصد بالأنعام ههنا . الإِبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولانه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر . وإنما قال في هذه السورة . { فواكه كثيرة } بالجمع بخلاف ما في « الزخرف » لتناسب قوله هنا { منافع كثيرة } لتناسب قوله { جنات } كما قال هنالك { فاكهة } [ الرحمن : 11 ] على التوحيد لتناسب قوله { تلك الجنة } [ مريم : 63 ] وإنما قال هنا في الموضعين { ومنها تأكلون } بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الاية : منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها ، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم . وأعلم أنه لما أنجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من الهم صنعتها ، وفيه أيضاً تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط . وقوله { ما لكم من إله غيره } جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة . ومعنى { أفلا تتقون } أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية . ثم حكى الله سبحانه عنهم شبهاً : الأولى قولهم { ما هذا إلا بشر مثلكم } إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله { يريد أن يتفضل عليكم } أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره
{ وتكون لكما الكبرياء في الأرض } [ يونس : 78 ] ويتأكد الاحتمال والأول بالشبهة الثالثة وهي قوله { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم . وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرن في « حم السجدة » { قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة } [ فصلت : 14 ] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله { ذلك رب العالمين } [ فصلت : 9 ] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقاداً وإما استهزاء . الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد { ما سمعنا بهذا } أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة ، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى الله عليه وسلم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهراً بأنه أرجح الناس عقلاً ورزانة . قال جار الله : الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه ، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن . ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم { فتربصوا به حتى حين } أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل . وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالاً على خلاف عاداتهم . وكان رؤساؤهم يقولون للعوام : إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره . ويحتمل أن يكون هذا كلاماً مستأنفاً وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبياً حقاً فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه ، وإن كان كاذباً فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه . واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 95 ] { أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم } [ هود : 28 ] { أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } [ البقرة : 170 ] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعاً يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف . ثم حكى أن نوحاً عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر { قال رب انصرني } أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم ، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك « هذا بذاك » والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } [ الأعراف : 59 ] وباقي القصة إلى قوله { إنهم مغرقون } قد مر تفسير مثلها في سورة هود .
ومعنى { فأسلك } أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله { كذلك نسلكه } [ الاية : 12 ] و { سبق عليه القول } نقيض { سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] لأن « على » تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع . وقد جاء زيادة منهم ههنا على الأصل وحذفت في « هود » ليحسن عطف { ومن آمن } من غير التباس وبشاعة . قيل : في قوله { بأعيننا } على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته . أما قوله { فإذا استويت } أي ركبت واستوليت { أنت ومن معك على الفلك فقل } لم يقل « فقولوا » لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح ، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة . وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله { فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [ الأنعام : 45 ] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزماً لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك . ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف { وقل } على جزاء { فإذا استويت } أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها { منزلاً } اي إنزالاً أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله { وأنت خير المنزلين } أي إنزالاً وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه { إن في ذلك } الذي ذكر من القصة { لآيات } لعبراً ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير { وإن كنا } هي المخففة من الثقيلة واللام في { لمبتلين } هي الفارقة . والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله { ولقد تركناها آية فهل من مدكر } [ القمر : 15 ] وقيل : المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيب ، فليس الغرق كله على وجه واحد .
التأويل : الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله ، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوابه بعد أن فنوا فيه . الخشوع في الظاهر انتكاس الراس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد ، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين .
والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات ، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال . واللغو كل ما يشغلك عن الله . والزكاة تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه راس خطيئة { إلا على أزواجهم } في كلمة « على » دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوّاً لهم كقوله { إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لاحظ النفس وإلا كان متجاوزاً طريق الكمال { لأمانتهم } يعني التي حملها الإنسان { وعهدهم } هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع ، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة ، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب { من سلالة } لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين . بل بحسب اختلاف المركبات من الطين . ففيه حرص الفأرة والنملة ، وشهوة الحمار والعصفور ، وغضب الفهد والأسد ، وكبر النمر ، وبخل الكلب ، وشره الخنزير ، وحقد الحية ، وغير ذلك من الصفات الذميمة ، وفيه شجاعة السد ، وسخاوة الديك ، وقناعة البوم ، وحلم الجمل ، وتواضع الهرة ، ووفاء الكلب ، وبكور الغراب ، وهمة البازي ونحوها من الأخلاق الحميدة { فتبارك الله أحسن الخالقين } لأنه خلق أحسن المخلوقين . أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدناً مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح . وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعداً لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه { ثم إنكم بعد ذلك لميتون } إلى قوله { تبعثون } فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما . وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره . وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الاتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة { وما كنا عن } مصالح { الخلق غافلين } فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله { وأنزلنا من السماء } سماء العناية { ماء } الرحمة { بقدر } استعداد السالك { فأسكناه } في أرض وجوده { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل } المعارف { وأعناب } الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات { تنبت } بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح . { وصبغ } لآكل الكونين بقوة الهمة . ثم أخبر عن نعم الغلب أن فيها منافع لأنها آلة تحصيل الكمال { وعليها وعلى } ذلك الشريعة في سفر السير إلى الله { تحملونه } وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم .
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
القراآت : { هيهات هيهات } بكسر التاء فيهما : يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه : وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما . الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء { تتراً } بالتنوين : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير . الباقون بالياء في الحالين { وأن هذه } بفتح الهمزة وسكون النون : ابن عامر { وإن } بالكسر والتشديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { وأن } بالفتح والتشديد { زبراً } بفتح الباء : عباس . الآخرون بضمها .
الوقوف : { آخرين } 5 ج للآية مع الفاء واتصال المعنى { غيره } ط { يتقون } 5 { الدنيا } لا لأن ما بعده مقول القول { مثلكم } لا لأن ما بعده صفة بشر { تشربون } 5 { الخاسرون } 5 { مخرجون } 5 { لما توعدون } 5 { بمبعوثين } 5 لأن الكل مقول الكفار وباب رخصة الضرورة وجواز إتيان الآية مفتوح { بمؤمنين } 5 ط { بما كذبون } 5 { نادمين } ج 5 للآية مع حسن الوصل تصديقاً لقوله { عما } { غثاء } ط تفخيماً للكلمة التبعيدية بالابتداء مع فاء التعقيب . { الظالمين } 5 { آخرين } 5 ط لأن الجملة ليست بصفة لها لأن العجز عن سبق الأجل لا يختص بهم { يستأخرون } 5 ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار . { تترا } ط منوناً قرئ أولاً للابتداء بكلما { أحاديث } ج لما ذكر في { غثاء } { لا يؤمنون } 5 { مبين } 5 لا لتعلق الجار { عالين } 5 ج للآية مع الفاء { عابدون } 5ج لذلك { المهلكين } 5 { يهتدون } 5 { ومعين } 5 { صالحاً } ط { عليم } 5 ط لمن قرأ { وإن } بالكسر { فاتقون } 5 { زبراً } ط { فرحون } 5 { حين } 5 { وبنين } 5 لا لأن { نسارع } مفعول ثان للحسبان { الخيرات } ط { لا يشعرون } 5 .
التفسير : عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن هذه القرون هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله تعالى في الأعراف { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الآية : 69 ] وقيل : إنهم ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة وقد قال الله تعالى في هذه القصة { فأخذتهم الصيحة } ومعنى { فأرسلنا فيهم } جعلناهم موضع إرسال وإلا فلفظة أرسل لا تعدى إلا « بإلى » وضمن الإرسال معنى القول ولهذا جيء بأن المفسرة اي قلنا لهم على لسان الرسول { اعبدوا الله } قال بعضهم : قوله { افلا تتقون } غير موصول بما قبله وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردّوا عليه الحجة . والجمهور على أنه موصول لأنه دعاهم إلى الله وحذرهم عقابه إن لم يقبلوا قوله ولم يتركوا عبادة الأوثان . قال جار الله : إنما قال في هذه السورة { وقال الملأ } بالواو وفي الأعراف { قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة } [ الآية : 66 ] بغير واو ومثله ف سورة هود
{ قالوا يا هود جئتنا ببينة } [ الآية : 53 ] لأنه بنى الأمر في ذينك الموضعين على تقدير سؤال سائل ، وفي هذه السورة أراد أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل فعطف قولهم على قوله . وقال السكاكي صاحب المفتاح : إنما قدم الجار والمجرور أعني قوله { من قومه } على وصف الملا وهم الذين كفروا لطول الصلة بالمعطوفات ، ولأنه لو أخر لأوهم أن قوله { من قومه } متعلق بالدنيا . ومعنى لقاء الآخرة لقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب . { و } معنى { أترفناهم } أنعمناهم بحيث شغلوا بالدنيا عن الأخرى . وقوله { مما تشربون } أي من الذي تشربونه فحذف الضمير أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه . ثم أكدوا شبهتهم أن الرسول لا يكون من جنس البشر بقولهم { ولئن أطعتم } « واذن » واقع في جزاء الشرط وجواب لقومهم اي إنكم إذا قبلتم قول مثلكم وأطعتموه خسرتم عقولكم وأبطلتم آراءكم إذ لا ترجيح لبعض البشر على بعض في معنى الدعوة إلى طريق مخصوص هذا بيان كفرهم . ثم بين تكذيبهم بلقاء الآخرة وطعنهم في الحشر بقوله { أيعدكم } الآية . قال جار الله : ثنى { أنكم } للتوكيد وحسن ذلك الفصل بالظرف و { مخرجون } خبر الأول أو { أنكم مخرجون } مبتدأ معناه إخراجكم وخبره { إذا متم } والجملة خبر الأول أو { أنكم مخرجون } في تقدير وقع إخراجكم وهذه الجملة الفعلية جواب « إذا » والجملة الشرطية خبر الأول وفي حرف ابن مسعود { ايعدكم إذا متم } ثم أكدوا الاستفهام الإنكاري بقولهم { هيهات } ومعناه بعد وهو اسم هذا الفعل ، وفي التكرير تأكيد آخر وكذا في إضمار الفاعل وتبيينه بقوله { لما توعدون } قال جار الله : اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في { هيت لك } [ يوسف : 23 ] لبيان المهيت به . وقال الزجاج : هو في تقدير المصدر أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نون . ثم بين إترافهم بأنهم قالوا { إن هي إلا حياتنا } أي إلا هذه الحياة لأن « إن » النافية دخلت على « هي » العائدة إلى الحقيقة الذهنية فنفت ما بعدها نفي الجنس ، وقد مر في « الأنعام » . وإنما زيد في هذه السورة قوله { نموت ونحيا } لأن هذه الزيادة لعلها وقعت في كلام هؤلاء دون كلام أولئك ولم يريدوا بهذا الكلام أنفس المتكلمين وحدهم بل أرادوا أنه يموت بعض ويولد بعض وينقرض قرن ويأتي قرن آخر ، ولو أنهم اعتقدوا أنهم يحيون بعد الموت لم يتوجه عليهم ذم ولناقضه قولهم { وما نحن بمبعوثين } . ثم حكى أنهم زعموا أن كل ما يدعيه هود من الاستنباء وحديث البعث وغيره افتراء على الله وأنهم لا يصدقونه ألبتة فلا جرم { قال } هو داعياً عليهم كما دعا نوح على قومه { رب انصرني بما كذبون } قال الله مجيباً له أي عما زمان قليل قصير { ليصبحن } جعل صيرورتهم { نادمين } دليلاً على إهلاكهم لأنه علم أنهم لا يندمون إلا عند ظهور سلطان العذاب ووقوع أماراته وذلك وقت إيمان الياس .
وزيادة « ما » لتوكيد قصر المدة و { الصيحة } صيحة جبريل كما سلف في الأعراف وفي « هود » ومعنى { بالحق } بالعدل كقولك « فلان يقضي بالحق » وعلى اصول الاعتزال بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك . والغثاء حميل السيل مما بلي واسودَّ من الأوراق واليعدان وغيرها ، شبههم بذلك في دمارهم واحتقارهم أو في قلة الاعتناء بهم ، وفي ضمن ذلك تشبيه استيلاء العذاب عليهم باستيلاء السيل على الغثاء يقلبه كيف يشاء . ثم دعا عليه بالهلاك في الدارين بقوله { فبعداً للقوم الظالمين } كما مر في سورة هود . وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم وعرف الظالمين لكونهم مذكورين صريحاً بخلاف ما يجيء من قوله { فبعداً لقوم لا يؤمنون } لأنهم غير مذكورين إلا بطريق الإجمال وذلك قوله { ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين } والظاهر أنهم قوم صالح ولوط وشعيب كما ورد في قصصهم على هذا الترتيب في « الأعراف » وفي « هود » وغيرهما . وعن ابن عباس أنهم بنو اسرائيل . والمعنى إنا بعد ما أخلينا الديار من المكلفين أنشأناهم وبلغناهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كانوا قبلهم . ثم بين كمال علمه وقدرته في شأن المكلفين بقوله { ما تسبق من أمة } اي كل طائفة مجتمعة في قرن لها آجال مكتوبة في الحياة وفي الموت بالهلاك أو الإهلاك ، لا يتقدمها ولا يتأخر عنها ، وفي أن المقتول ميت بأجله . وقال الكعبي : معنى الاية أنهم لا يتقدمون وقت عذابهم إن لم يؤمنوا ، ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عناداً ، وأنهم لا يلدون مؤمناً ، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم . ثم بين أن رسل الله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأنهم في التكذيب كان واحداً ، وكانت سنة الله فيهم باتباع بعضهم بعضاً في الإهلاك . والتاء في { تترى } بدل من الواو في الوتر وهو الفرد أي أرسلناهم واحداً بعد واحد ، والرسول يلابس المسرل والمرسل إليه جميعاً فلذلك جاء في القرآن « رسلنا » و « رسلهم » و « رسولها » وأحاديث يكون اسم جمع للحديث أو جمعاً له من غير لفظة ، ومنه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون جمعاً للأحدوثة من لفظها كالأضحوكة والأعجوبة وهو المراد من الآية أي جعلناهم أخباراً يسمعونها ويتعجب منها لأنهم استؤصلوا فلم يبق فيهم عين ولا أثر سوى الحكاية . ثم ذكر طرفاً من قصة موسى عليه السلام . عن الحسن { بآياتنا } أي بديننا كيلا يلزم منه تكرار لأن السلطان المبين هو المعجز ، والأقرب قول ابن عباس أنها الآيات التسع لأن الآيات عند ذكر الرسل يراد بها المعجزات في عرف القرآن ، والسلطان هو العصا لأنها كانت أم آياته وأقدمها فخصت بالذكر لشرفها وقوة دلالتها .
ويجوز أن يراد أنها آيات في أنفسها وحجة بينة بالنسبة إلى المتحدين بها ، او يراد به تسلط موسى عليه السلام في الاستدلال على الصانع وأنه ما كان يقيم لهم وزناً . ثم حكى عن فرعون وقومه صفتهم وشبهتهم . أما الصفة فهي الاستكبار والعلو أي طلبوا الكبر وتكلفوه واستنكفوا عن قبول الحق وكانوا مع ذلك رفيعي الحال في أمور الدنيا غالبين قاهرين مستظهرين بالعدد والعدد ، وأما الشبهة فهي إنكار كون الرسول من جنس البشر ولا سيما إذا كان قومهما وهم بنو إسرائيل خدماً وعيبداً لهم . قال أبو عبيدة : العرب تسمي كل من دان لملك عابداً له ، ويحتمل أن يقال : إنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وإن طاعتهم عبادة على الحقيقة والبشر يقع على ا لواحد وعلى الجمع . والمثل يوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث . ويقال أيضاً : هما مثلاه وهم أمثاله . ثم بين أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب فأهلكوا لذلك وكانوا في حكم الله وعلمه كذلك . ثم حكى ما جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم { ولقد آتينا موسى الكتاب } أي التوراة { لعلهم يهتدون } ومن الناس من ظن أن هذا الضمير راجع إلى فرعون وملئه . والمعنى أنه خص موسى بالكتب لا للتكذيب ولكن يهتدوا به ، فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا الإهلاك وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك القبط بدليل قوله { ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] وفي قوله في أول « البقرة » { وإذ نجيناكم من آل فرعون } إلى قوله { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } [ الآية : 51 ] والقصة مشهورة . فالصحيح أنه ذكر موسى وأراد قومه كما يقال « هاشم وثقيف » ويراد قومهم نظيره { على خوف من فرعون وملئهم } [ يونس : 83 ] وقد مر في آخر « يونس » .
ثم أجمل قصة عيسى بقوله { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } وقد مر بيانه في آخر الأنبياء في قوله { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [ الآية : 91 ] قال جار الله : لو قيل آيتين لجاز لأن مريم ولدت من غير مسيس ، وعيسى روح من الله ألقى إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر . واللفظ محتمل للتثنية على تقدير : وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها . والأقرب حمل اللفظ على وجه الذي لا يتم إلا بمجموعها وهو الولادة على الوجه العجيب الناقص للعادة . والربوة بحركات الراء هي الأرض المرتفعة .
عن كعب وقتادة وأبي العالية : هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلاً . وعن الحسن : فلسطين والرملة . ومثله عن أبي هريرة قال : إلزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله . وقال الكلبي وابن زيد : هي مصر . والأكثرون على أنها دمشق وغوطتها والقرار المستقر من أرض منبسطة مستوية . وعن قتادة : أراد ذات ثمار وماء يعني لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض من عانه إذا أدركه بعينه فوزنه « معيون » على « مفعول » وقال الفراء والزجاج : إن شئت جعلته « فعيلاً » من الماعون وهو ما سهل على معطيه من أثاث البيت ومثله قول أبي علي : المعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى . وقال جار الله : ووجه من جعله « فعيلاً » أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة . قال المفسرون : سبب الإيواء أنها قرت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة ، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ثم رجعت غلى أهلها بعد ما مات ملكهم . قوله سبحانه { يا ايها الرسل } ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة وفي تأويله وجوه : أحدها الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمراً نودي له جميع الرسل حقيق أن يؤخذ به ويعمل عليه ، ويؤيد هذا التأويل « ما روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره صلى الله عليه وسلم وهو صائم فرده الرسول إليها وقال : من اين لك هذا؟ فقالت : من شاة لي ثم رده وقال : من أين هذه الشاة؟ فقالت : اشتريتها بمالي فأخذه . ثم إنها جاءته وقالت : يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم : بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيباً ولا تعمل إلا صالحاً » وثانيها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى وقد خاطب الواحد خطاب الجمع لشرفه وكقوله { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] والمراد نعيم بن مسعود . ووقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي آويناهما وقلنا لهما هذا أي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا الكلام ، فكلا مما رزقناكما واعملا عملاً صالحاً اقتداء بالرسل . وثالثها وهو الأظهر عندي أن المراد نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل . ووجه اتصال الكلام بما بعده ظاهر كما نقرره ، ووجه اتصاله بما قبله هو انتهاء الكلام إلى ذكر المستلذ وبالحقيقة المراد به الأمة كقوله { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء }
[ الطلاق : 1 ] والطيب ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه أو هو الحلال . وقيل : طيبات الرزق حلال لا يعصى الله فيه ، وصاف لا ينسى الله فيه ، وقوام يمسك النفس ويحفظ العقل . وفي تقديم الأكل من الطيبات على الأمر بالعمل الصالح دليل على أن العمل الصالح لا بد أن يكون مسبوقاً بأكل الحلال . وفي قوله { إني بما تعملون عليم } تحذير من مخالفة هذا الأمر . وقال في سورة سبأ { إني بما تعملون بصير } [ الآية : 11 ] وكلاهما من أسمائه تعالى إلا أنه ورد ههنا على الأصل لأن العلم أعلم وهناك راعى الفاصلة أو خصص لأن الخطاب مخصوص بآل داود .
ومن قرأ { وإن } بالكسر فعلى الاستئناف ، ومن قرأ بالفتح مخففاً ومشدداً فعلى حذف لام التعليل والمعلل { فاتقون } ثم من قال : الخطاب لجميع الرسل فالمشار إليه بهذه هو أصول الأديان والشرائع التي لا خلاف فيها بين الرسل وجملتها تقوى الله كما ختم به الآية . والضمير في { تقطعوا } راجع إلى أممهم . قال الكلبي ومقاتل والضحاك : يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى . ومن قال : الخطاب لعيسى فهذه إشارة إلى ملته في وقتها . وعلى القول الأظهر بل على جميع الأقوال المشار إليه ملة الإسلام كما مر مثله في آخر سورة الأنبياء ، كأنه أمر هناك بالعبادة التي هي أعم ثم أمر بالتقوى التي هي أخص ولهذا قال { فتقطعوا } بالفاء ليتوجه الذم أتم فإن المأتي به كلما كان أبعد من المأمور به كان سبب الذم اقوى ، فلا يكون ترتيب التقطع على التقوى كترتبه على العبادة ولهذا أكد التقطع بقوله { زبراً } بضم الباء جمع زبور اي حال كونه كتباً مختلفة يعني جعلوا دينهم أدياناً ومذاهب شتى . ومنقرأ بفتح الباء فمعناه قطعاً استعيرت من زبر الفضة والحديد . ثم أكد الذم بقوله { كل حزب بما } اي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به يرى أنه المحق الرابح وغيره المبطل الخاسر . ثم بالغ في الذم والتهديد بقوله { فذرهم في غمرتهم } وهذا الأمر مما يدل على أن المخاطب بقوله { يا أيها الرسل } هو نبينا صلى الله عليه وسلم وقد يطلق لفظ الجاعة على الواحد تعظيماً وتفخيماً كقوله { إنّ إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] والغمرة الماء الذي يغمر القامة . قال جار الله : ضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وغايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل . قلت : وأنت إذا تأملت فيما أسلفنا لك في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب عرفت الفرق بين الوجهين . قال في الكشاف { إلى حين } أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا . والتحقيق أنه الحالة التي يظهر عندها الحسرة والندامة وذلك إذا عرّفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرّفهم سوء منقلبهم فيشمل الموت والقبر والمحاسبة والنار ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهي عن الجزع من تأخير عقابهم .
ثم إن القوم كانوا أصحاب نعمة ورفاهية فبين الله تعالى أن ذلك الذي جعله مدداً لهم وهو المال والبنون سبب لاستدراجهم إلى زيادة الإثم نظيره في آل عمران { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ الآية : 178 ] وما في { أنما } موصولة والرابط محذوف أي نسارع لهم فيه . وفي قوله { بل لا يشعرون } أنهم اشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخبر . وفيه انه سبحانه أعطاهم هذه النعم ليكونوا متمكنين بها من الاشتغال بطلب الحق وحين أعرضوا عن الحق كان لزوم الحجة عليهم أقوى .
التأويل : { يأكل مما تأكلون } لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون . « المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء » { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { وقومهما لنا عابدون } اي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع { وآويناهما } يعني مريم النفس وعيسى القلب { إلى ربوة } القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان { يا أيها الرسل } أي القوى المرسلة إلى القالب .
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
القراآت : { تهجرون } بضم التاء وكسر الجيم : نافع . الآخرون بفتح التاء وضم الجيم { خرجاً فخرج } بغير اللف فيهما : ابن عامر كلاهما بالألف حمزة وعلي وخلف . الباقون بحذف الألف من الأول وإثباتها في الثاني { فتحنا } بالتشديد : يزيد { سيقولون الله } الثانية والثالثة : أبو عمرو وسهل ويعقوب . الآخرون باللام فيهما كالأول حملا على المعنى لأن قولك « من رب هذا » « ولمن هذا » في معنى واحد .
الوقوف : { مشفقون } 5 لا { يؤمنون } لا { يشركون } 5 لا { راجعون } 5 لا لأن الكل معطوفات على اسم « إن » والخبر { أولئك } الجملة { سابقون } 5 لا { يظلمون } 5 { عاملون } 5 { يجأرون } 5 لا لحق القول { لا تنصرون } 5 { تنكصون } 5 لا لأن ما بعده حال { مستكبرين } 5 قد قيل : على جعل الجار والمجرور مفعول { سامراً } أو مفعول { تهجرون } 5 { الأولين } 5 { منكرون } 5 لصورة الاستفهام وهو العطف { جنة } ط { كارهون } 5 { فيهن } ط { معرضون } 5 ط لأن الاستفهام إنكار { خير } ز وقد قيل : بناء على أن الواو للابتداء والحال أوجه . { الرازقين } 5 { مستقيم } 5 { الناكبون } 5 { يعمهون } 5 { يتضرعون } 5 { مبلسون } 5 { والأفئدة } ط { تشكرون } 5 { تحشرون } 5 { والنهار } ط { تعقلون } 5 { الأوّلون } 5 { لمبعوثون } 5 { الأوّلين } 5 { تعملون } 5 { لله } ط { تذكرون } 5 { العظيم } 5 { لله } ط { تتقون } 5 { تعلمون } 5 { لله } ط { تسحرون } 5 { لكاذبون } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما نفى الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبعه ذكر من هو أهل للخيرات عاجلاً وآجلاً فوصفهم بصفات أربع : الأولى الإشفاق من خشية ربهم وظاهره ينبئ عن تكرار ، لأن الإشفاق يتضمن الخشية فمنهم من قال : جمع بينهما للتأكيد ، ومنهم من حمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل ، ومنهم من حمل الإشفاق على اثره وهو الدوام في الطاعة . والمعنى الذين هم من خشيته دائمون على طاعته جادّون في طلب مرضاته . ومنهم من قال : الإشفاق كمال الخوف اي هم من سخط الله عاجلاً ومن عقابه آجلاً في نهاية الخوف ، ويلزم ذلك أن يكونوا في غاية الاحتراز عن المعاصي . وفيه أنهم إذا كانوا خائفين من الخشية فلأن يخافوا من عدم الخشية أولى . الثانية قوله { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } والظاهر أنها القرآن . وقيل : هي المخلوقات الدالة على وجود الصانع . وليس المراد التصديق بوجودها فقط فإن ذلك معلوم بالضرورة فلا يوجب المدح ، بل التصديق بكونها دلائل موصلة إلى العرفان ويتبعه الإقرار اللساني ظاهراً . الثالثة التبري عما سوى الله ظاهراً وباطناً بأن لايشرك به طرفة عين . الرابعة قوله { والذين يؤتون ما آتوا } أي يعطون ما أعطوا { وقلوبهم وجلة } خائفة في شأن ذلك الإعطاء .
ثم علل ذلك الوجل بقوله { أنهم } اي لأنهم { إلى ربهم راجعون } فإن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وعلم أن المجازي هو الذي لا يخفى عليه الضمائر والسرائر لم يخل عمله من حسن النية وخلوص الطوية بحيث يكون أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص . والظاهر أن هذا الإيتاء مختص بالزكاة والتصدق ، ويحتمل أن يراد إعطاء كل فعل أو خصلة أي إتيانها يؤيده ما روي أن رسول الله صلى الله عليه سولم قرأ { ويأتون ما أتوا } أي يفعلون ما فعلوا . وعن عائشة أنها قالت : قلت يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال : لا يا بنت الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه . وفي قوله { يسارعون في الخيرات } معنيان : أحدهما يرغبون في الطاعات اشد الرغبة فيبادرونها ، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا وجوه المنافع والإكرام لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها . قال جار الله : وهذا الوجه أحسن طباقاً للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين . وقال في قوله { وهم لها سابقون } إنه متروك المفعول أو منويه أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها ، والمراد إياها سابقون كقولك « هو لزيد ضارب » بمعنى « هو زيداً ضارب » جئت باللام لضعف عمل اسم الفاعل ولا سيما فيما قبله ، والمعنى أنهم ينالون الخيرات قبل الأخرى حيث عجلت لهم في الدنيا . وجوّز أن يكون { لها سابقون } خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك « هذا هو » لهذا الأمر أي صالح له .
وحين أنجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر حكمين لهما الأوّل قوله { ولا نكلف نفساً إلا وسعها } وفي الوسع قولان : أحدهما أنه الطاقة والآخر أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي ، لأنه اتسع فيه على المكلف ولم يضيق مثاله إن لم يستطيع أن يصلي قائماً فليصل قاعداً وإلا فليوم إيماء . وفيه أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من وسعهم . الثاني قوله { ولدينا كتاب ينطق } والمراد ينطقه إثبات كل عمل فيه وهو اللوح أو صحيفة الأعمال لا يقرأون منها يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل . والبحث بين الأشاعرة والمعتزلة في مثل هذا المقام معلوم . أما قوله { بل قلوبهم في غمرة من هذا } ففيه طريقان : أحدهما رادع إلى الكفار والمعنى بل قلوب الكفار في غفلة غامرة لها من هذا الذي بيناه في القرآن ، أو من هذا الذي ينطق بالحق أو الذي عليه هؤلاء المؤمنون . { ولهم أعمال } متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون كمتابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن المولى .
{ هم لها عاملون } في الحال على سبيل الاعتياد لا يفطمون عنها حتى يأخذهم العذاب أو في الاستقبال لأنها مبينة في علم الله مكتوبة في اللوح عليهم أن يعملوا بها حكم الشقاء الأزلي . وثانيهما وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم { ولا نكلف نفساً إلا وسعها } ونهايته ما أتى به هؤلاء . { ولدينا كتاب } يحفظ أعمالهم . { بل قلوبهم في غمرة من هذا } الذي وصفناهم به أهو مقبول عند الله أم مردود { ولهم أعمال } من { دون ذلك } الذي وصف { هم لها عاملون } وهي النوافل السرية والأعمال القلبية . ثم إنه رجع إلى وصف الكفار بقوله { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } وهو عذاب الآخرة أو قتلهم يوم بدر أو الجوع حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف » فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة واقدّ والأولاد . والجؤار الصراخ باستغاثة . ثم أخبر أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت { لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون } لا تغاثون من جهتنا أو لا تمنعون منا ، ثم عدد عليهم التوبيخ بمقابحهم . ومعنى النكوص على العقبين التباعد عن الحق والتجافي عنه كمن رجع على ورائه وقد مر في « الأنعام » .
وفي مرجع الضمير في { به } أقوال : أحدها أنه للبيت العتيق أو للحرم . والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت والتفاخر بولايته والقيام به وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم . وثانيها مستكبرين بهذا التراجع والتباعد . وثالثها مستكبرين بالقرآن على تضمين الاستكبار معنى التكذيب ، أو على أن الباء للسببية لأن سماع القرآن كان يحدث لهم استكباراً وعتوّاً . ورابعها أنه يتعلق ب { سامراً } أو ب { تهجرون } والهجر بالضم الفحش وبالفتح الهذيان ، و أهجر في منطفه إذا أفحش . والضمير للقرآن أو للنبي أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه أو في النبي ، وكانت عامة سمرهم حول البيت ذكر القرآن وتسميته سحراً وشعراً وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع . ثم بين أن سبب إقدامهم على الكفر أحد أمور اربعة : الأوّل عدم التدبر في القرآن لأنهم إن تدبروه وتأملوا مبانيه ومعانيه ظهر لهم صدقه وإعجازه فيصدقوا به وبمن جاء به . الثاني قوله { أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الولين } والمراد أمر الرسالة . ثم المقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأقربين رسول كقوله { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] فلذلك أنكروه واستبعدوه ، أو تقرير أنه أتى آباءهم الأقدمين رسل وذلك أنهم عرفوا بالتواتر أن رسل الله فيهم كثيرة وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال ، فما دعاهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان .
وقيل : إراد أفلم يدبروا القرآن فيخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين ، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟ عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قساً فإنه كان مسلماً ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا اسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعاً كان مسلماً » الثالث قوله { أم لم يعرفوا } نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلاً ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام إبقاء على مناصبهم ورياستهم . ثم أضرب عن أقوالهم منبهاً على مصدوقية أمر النبي فقال { بل جاءهم } متلبساً { بالحق } أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم { وأكثرهم للحق كارهون } واقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفاً من قالة الأعداء كما يحكى عن ابي طالب ، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه . ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي ، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره إله العالمين وقدّره فقال { ولو اتبع الحق أهواءهم } نظيره ما مر في قوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقيل : الحق الإسلام ، والمراد لو انقلب الإسلام شركاً كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة ، ولأهلك العالم ولم يؤخر . وعن قتادة : الحق هو الله ، والمعنى لو كان الله آمراً بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلهاً ولكان شيطاناً فلا يقدر على إمساك السموات والأرض ، وحينئذ يختل نظام العالم . ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال { بل أتيناهم بذكرهم } إن كانت الباء للتعدية فظاهر ، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف اي أتاهم رسولنا متلبساً بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم ، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون { لو أن عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين } [ الصافات : 168169 ] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال { أم تسألهم خرجاً } أي جعلاً وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف . وقيل : الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون { خرجاً فخراج } يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلاً من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير .
وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال { وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم } هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب ، وأشار إلى هذه الطرق بقوله { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة } هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالآخرة عن { الصراط } المستقيم المذكور { لناكبون } والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع عظم العضد والكتف ، والنكباء للريح التي تعدل عن مهاب الرياح للقوم .
ثم بين إصرارهم على الكفر بقوله { ولو رحمناهم } الآية . « يروى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنه الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز ، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال : بلى . فقال الاباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله أن يكشف عنا الضر » فأنزل الله الآية . والمعنى لو كشف الله برحمته هذا الهزال والجوع عنهم لأصروا على ما هم فيه من الطغيان . ثم استشهد على ذلك بقوله { ولقد أخذناهم } اي قبل ذلك { بالعذاب } يعني ما جرى عليهم يوم بدر { فما استكانوا لربهم } أي ما خضعوا له وقد مر اشتقاقه في « آل عمران » { وما يتضرعون } عدل إلى المضارع لأنه أراد وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى فتحنا عليهم باب العذاب الشديد وهو الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل ، فأبلسوا الساعة أي خضعت رقابهم وجاء أعتاهم واشدهم شكيمة وأخشنهم عريكة يستعطفك . ويحتمل أن يراد محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما شوهد منهم انقياد للحق وهم كذلك إذ عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون ، والإبلاس السكوت مع تحير أو الياس من كل خير . ثم نبه بقوله { وهو الذي أنشأ لكم } على أن اسباب التأمل في الدلائل موجودة ، وابواب الأعذار بالكلية مسدودة ، فما كفر من كفر ولا عند من عند إلا للشقاء الأزلي . وفي قوله { قليلاً ما تشكرون } أي تشكرون شكراً قليلاً « وما » مزيدة للتوكيد دليل على أن المقر أقل من الجاحد . وعن أبي مسلم أنه قال : اراد بالقلة العدم . وفي الآية ثلاثة معان : أحدها إظهار النعمة . وثانيها مطالبة العباد بالشكر عليها فشكر السمع أن لا يسمع إلا لله وبالله ومن الله ، وشكر البصر أن ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله ، وشكر الفؤاد تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين لشهوده بالله . وثالثها الشكاية أن الشاكر قليل .
ثم بين دلائل أخر على الوحدانية فقال { وهو الذي ذرأكم } اي خلقكم وبثكم في الأرض للتناسل وإلى حيث لا مالك سواه تحشرون بعد تفرقكم { وهو الذي يحيي ويميت } وفيه مع تذكر نعمة الحياة بيان أن المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب { وله اختلاف الليل والنهار } أي هو مختص بتصريفهما وأنهما يشبهان الموت والحياة .
وفي قوله { أفلا تعقلون } توبيخ وتهديد . ثم نبه بقوله { بل قالوا } الآيات على أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد والاستبعاد . قال علماء المعاني : قوله { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا } واراد على الأصل لأن التأكيد مذكور عقيب المؤكد وبعده المفعول الثاني . وأما في سورة النمل فسبب تقديم المفعول الثاني على الضمير وعلى المعطوف هو أنه اقتصر هناك على قوله { تراباً } والتراب أبعد في باب الإعادة من العظام ، فقدم ليدل على مزيد الاعتناء به في شأن الاستنكار . ثم رد على منكري الإعادة أو على عبدة الأوثان بقوله { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } أي إن كان عندكم علم فأجيبوني وفيه استهانة بهم وتجهيل لهم بأمر الديانات حتى جوّز أن يشتبه عليهم مثل هذا المكشوف الجلي . وفي قوله { افلا تذكرون } ترغيب في التدبر وبعث على التأمل في أمر التوحيد والبعث ، فإن من قدر على اختراع الأرض ومن فيها كان حقيقاً بأن لا يشرك به بعض خلقه وكان قادراً على إعادة ما أفناه ، وفي قوله { أفلا تتقون } مثل هذا الترغيب مع التخويف وكان أولى بالآية الثانية لأجل التدرج ولتعظيم السموات والعرش ، ولأن تذكر واجب الوجود مقدم على اتقاء مخالفته ، قال جار الله : أجرت فلاناً على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث احد منه أحداً { إن كنتم تعلمون } بهذه الصفة غيره فأجيبوني به . ومعنى { تسحرون } تخدعون عن طاعته والخادع هو الشيطان والهوى . ثم بين بقوله { بل أتيناهم بالحق } أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات حتى استبان بما هو الحق والصدق { وإنهم } مع ذلك { لكاذبون } حيث يدعون له الولد والشريك وينسبون إليه العجز عن الإعادة .
التأويل : { من خشية ربهم مشفقون } إشارة إلى استيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة { بآيات ربهم يؤمنون } هي ما يكاشف لهم من شواهد الحق في السر والعلانية { بربهم لا يشركون } هو ترك الملاحظة في رد الناس وقبولهم ومدحهم وذمهم وانقطاع النظر في المضار والضار عن الوسائط والأسباب { يسارعون في الخيرات } يتوجهون إلى الله وينقطعون عما سواه { وهم لها سابقون } على قدر سبق العناية { ولا نكلف نفساً إلا وسعها } كلفهم أن يقولوا لا إله إلا الله وهم قادرون على ذلك ، وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء وما هم بعد بعاجزين عنه ، وقد كتب في اللوح أنهم يقدرون على هذه التكاليف . { وهم لا يظلمون } فلا يكلفون ما ليس في وسعهم واستعدادهم { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } مجرميهم بعذاب فساد الاستعداد لفسدت سموات أرواحهم وأرض نفوسهم ومن فيهن من القلب والسر { وهو خير الرازقين } فيه أن العلماء بالله عليهم أن لا يدنسوا وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفارقة . { ولقد أخذناهم } أولاً بعذاب الغبن { حتى إذا فتحنا عليهم } باب عذاب الرين يحيي بنوره قلوب بعض عباده ويميت نفوسهم عن صفاتها الذميمة ، أو يحيي بعض النفوس باتباع شهواتها ويميت بعض القلوب باستيلاء ظلمات الطبيعة عليها { وله اختلاف } ليل البشرية ونهار الروحانية أو طول ليل الفراق وقصر نهار الوصال { قالوا أئذا متنا } فيه أن الياس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت { أو من كان ميتاً فأحييناه } ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته { وهو يجير } الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره .
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
القراآت : { عالم } بالرفع : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز . وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ ، الآخرون بالخفض { لعلي أعمل } بسكون الياء : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان . { شقاوتنا } حمزة وعلي وخلف والمفضل . الباقون { شقوتنا } بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف . { سخرياً } بضم السين وكذلك في صاد : ابو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف والمفضل والخزاز عن هبيرة . الآخرون بكسرها { إنهم } بالكسر : حمزة وعلي والخزاز عن هبيرة . { قل كم } { قل إن لبثم } على الأمر فيهما : حمزة وعلي وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل وافق ابن كثير في الأول . { لا ترجعون } على البناء للفاعل يعقوب وحمزة وعلي وخلف .
الوقوف : { على بعض } ط { يصفون } 5 ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف { يشركون } 5 { ما يوعدون } 5 لا لأن قوله « فلا » جواب للشرط وهو إما والنداء عارض { للظالمين } 5 لا { لقادرون } 5 { السيئة } ط { يصفون } 5 { الشياطين } 5 لا { يحضرون } 5 { ارجعون } 5 لا لتعلق لعل { كلا } ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع . وقيل : مبتدأ بها بمعنى حقاً والأول أحسن { قائلها } ط { يبعثون } 5 { ولا يتساءلون } 5 { المفلحون } 5 { خالدون } 5 { كالحون } 5 { تكذبون } 5 { ضالين } 5 { ظالمون } 5 { ولا تكلمون } 5 { الراحمين } 5 ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء { تضحكون } 5 { صبروا } ط لمن قرأ { إنهم } بالكسر { الفائزون } 5 { سنين } 5 { العادين } 5 { تعلمون } 5 { لا ترجعون } 5 { الحق } 5 لا لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً أي تعالى متوحداً غير مشارك { إلا هو } 5 لا لأن قوله { رب العرش } يصلح بدلاً من هو وخبر مبتدأ محذوف { الكريم } ط { آخر } لا لأن الجملة بعده صفة { به } لا لأن ما بعده جواب { عند ربه } ط { الكافرون } 5 { الراحمين } 5 .
التفسير : لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله { ما اتخذ الله من ولد } بقوله { وما كان معه من إله } وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال الأقوال اليهود والنصارى والثنوية . ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله { إذاً لذهب } وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره : ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لانفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به ، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق ، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزاً عن ملك الآخرين .
{ ولعلا بعضهم على بعض } أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب ، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله { سبحان الله عما يصفون } إلى قوله { عما يشركون } ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلاً { قل رب إما تريني } أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة { فلا تجعلني } قريباً لهم . وقد يجوز أن يستعيذ العبد بالله مما علم أنه لا يفعله اظهاراً للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين . وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } قيل : فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة . أو نقول : المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن . عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك . وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه . قيل : هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال : هي محكمة لأن المداراة مستحبة مالم تؤد إلى محذور { نحن أعلم بما يصفون } مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه . ثم أتبع هذا التعميم ما يقويه على ذلك وهو الإستعاذة بالله من همزات الشياطين . والهمز النخس ومنه « مهماز الرائض » وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه . عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد استفتاح الصلاة « اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه » فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر . ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلاً كما يقال : أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك . وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن . وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقاً به فقال : « إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون » قوله { حتى إذا جاء } قيل : متعلق بقوله { وإنهم لكاذبون } وقيل : ب { يصفون } اي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإعضاء عنهم مستعيناً بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم .
والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسال الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد } [ الأنعام : 27 ] والأكثرون على أنهم الكفار . وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني } [ المنافقون : 10 ] وأما وجه الجمع في قوله { ارجعون } مع وحدة المنادى فقيل : إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال : ارجع مرات ونظيره { ألقيا في جهنم } [ ق : 24 ] أي ألق ألق . وقيل { رب } للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر :
ألا فارحموني يا إله محمد ... وقوله :
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان بل قدوماً إلى الله . وأما الكافر فيقول : رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت » قال جار الله : أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحاً كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أساً وأبني عليه . وقيل : أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما افسدوه ويطيعوا فيما عصوا . قيل : كيف سألوا الرجعة وقد عملوا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئاً مع علمه بتعذره كقول القائل « ليت الشباب يعود » والاستغاثة بحنس هذه المسألة قد تحسن . قولهم { لعلي } ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر « مكنوني لعلي أتدارك » مع كونه جازماً بأنه سيتدارك . ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي . ثم ردعهم بقوله { كلا } أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة { إنها كلمة } والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله { ارجعون لعلي أعمل صالحاً } { هو قائلها } لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه { ومن ورائهم } الضمير لكل المكلفين أي أمامهم { برزخ } حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام { إلى يوم يبعثون } وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث ، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة . وقال في الكشاف : حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة . ثم وصف يوم البعث بقوله { فإذا نفخ في الصور } قد مر معناه في أواخر « طه » .
وقوله { فلا أنساب بينهم } ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل ، فقد يكون أحد القريبين في الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه . عن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء . وأما الجمع بين قوله { ولا يتساءلون } وبين قوله { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } [ المؤمنون : 101 ] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة . ولو سلم أن كليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرها من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس : حين يرمي إلى كل إنسان كتابه ، وعند الموازين وعلى جسر جهنم » وقد مر مثل أية الموازين في أول « الأعراف » فليرجع إلى هنالك . وقوله { في جهنم خالدون } بدل من { خسروا أنفسهم } ولا محل له كالمبدل فإِن اصللة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف . ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها . وقال ابن عباس : خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين . ومعنى { تلفح } تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار ، قاله ابن عباس . وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيراً والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية . يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته . وقال الجوهري : الكلوح تكشر في عبوس .
ثم بيّن سبحانه أنه قال لهم حينئذ تقريعاً وتوبيخاً { الم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } قالت المعتزلة : لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي . وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم . وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار . ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر . وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله : معناه ملكتنا وأخذت منا . وقال الجبائي : أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة ، فأطلق اسم المسبب على السبب . وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه ، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم .
وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله { وكنا قوماً ضالين } اي في علم الله وسابق تقديره . وحمله المعتزلة على الاعتراف بأ ، هم اختاروا الضلال قالوا : ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذراً لهم أولى . وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا . عن ابن عباس : أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة { ربنا أبصرنا وسمعنا } [ السجدة : 12 ] فيجابون { حق القول مني } [ السجدة : 13 ] فينادون ألفاً { ربنا أمتنا اثنتين } [ غافر : 11 ] فيجابون { ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم } [ غافر : 12 ] فينادون ألفاً { يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] فيجابون { إنكم ماكثون } [ الزخرف : 77 ] فينادون ألفاً { ربنا أخرنا إلى أجل قريب } [ إبراهيم : 44 ] فيجابون { أو لم تكونوا أقسمتم من قبل } [ إبراهيم : 44 ] فينادون الفاً { ربنا أخرجنا نعمل صالحاً } [ فاطر : 37 ] فيجابون { أولم نعمركم } [ فاطر : 37 ] فينادون ألفاً { ربنا أخرجنا منها } [ المؤمنون : 6 ] فيجابون { اخسئوا فيها } [ المؤمنون : 108 ] وهو آخر كلام يتكلمون به ، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله { ولا تكلمون } أي في رفع العذاب وليس نهياً عن الكلام فإِنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف . ومعنى { اخسؤاً } انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت . يقال : خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية . ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله { إنه كان فريق من عبادي } هم الصحابة . وقيل : أهل الصفة خاصة . عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد . وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤاً وتشاغلتم بهم ساخرين { حتى أنسوكم } بتشاغلكم بهم على تلك الصفة { ذكرى } فلم تذكروني حتى تخافوني .
ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين . فمن قرأ { إنهم } بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا ، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم . ومن قرأ { قال } فاضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة ، ومن قرأ { قل } فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار . والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة ، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا { كم لبثتم } تنبيهاً لهم على أن ما ظنوه دائماً طويلاً فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول ايام سرور والثاني ايام غم وخزن . واختلفوا في الأرض فقيل : وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها ، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخاً .
وقال آخرون : المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة « في » ولقوله { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة } [ الروم : 55 ] وقوله { عدد سنين } بدل من مميزكم . وقيل : احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله { في الأرض } يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتاً في بطن الأرض . فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون { لبثنا يوماً أو بعض يوم } واجيب بأن الجواب لا بد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر . ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض ، فصح أن يكون جوابهم { لبثنا يوماً أو بعض يوم } عند أنفسنا . وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا : إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوماً أو بعض يوم . وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا { فاسأل العادّين } اي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره ، أو اسأل الملائكة الذي يعدّون أعمار العباد ويحصون أعمالهم . وعن ابن عباس : أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين . وقيل : أرادوا بقولهم { لبثنا يوماً أبو بعض يوم } تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة غلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب . وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال { إن لبثتم غلا قليلاً } ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله { لو أنكم كنتم تعلمون } أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلاً . ثم زاد في التوبيخ بقوله { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة . وجوّزوا أن يكون قوله { وأنكم إلينا لاترجعون } معطوفاً على { عبثاً } أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء . ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلاً { فتعالى } الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال « بيت كريم » إذا كان ساكنوه كراماً . وقرئ { الكريم } بالرفع وهو ظاهر . ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله { ما لم ينزل به سلطاناً } [ آل عمران : 151 ] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان . وجوّز جار الله أن يكون اعتراضاً بين الشرط والجزاء كقول القائل : من أحسن إلى زيداً لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه .
ومعنى { حسابه عند ربه } أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله . وقرئ { أنه لا يفلح } بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع { الكافرون } موضع الضمير . جعل فاتحة السورة { قد افلح المؤمنون } وأورد في خواتيهما { إنه لا يفلح الكافرون } فشتان ما بين الفريقين . وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون { ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين } نبه في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان .
التأويل : { فإذا نفخ في الصور } فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب ، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة ، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها { لكل امريء منهم يومئذ } [ عبس : 37 ] في طلب الحق { شأن يغنيه } [ عبس : 37 ] عن طلب الغير { فأولئك الذينخسروا أنفسهم } لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعليقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب ، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها ، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقياً ، فإذا تصرفت الدجاجة يها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ : مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة . ولهذا قال { في جهنم خالدون } وأجيبوا بقوله { اخسئوا فيها ولا تكلمون } لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده { إنه كان فريق من عبادي } هم العلماء بالله النصحاء لأجله { فاتخذتموهم سخرياً } فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية { حتى أنسوكم } بهممهم وبيد الرد { ذكرى وكنتم منهم تضحكون } لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب { جزيتهم اليوم بما صبروا } فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم ، ومثله حال أهل الشقاء في الجانب الآخر وهو الاستضرار { لا برهان له به } أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات .
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
القراآت : { فرضناها } بالتشديد : ابن كثير وأبو عمرو { ورأفة } بفتح الهمزة : ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر . وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه ، وروى ابن شنبوذ عن البزي ههنا وفي الحديد متحركة الهمزة ، وعن قنبل ههنا بالفتح وفي الحديد بالسكون . وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز { أربع شهادات } بالرفع : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعاً { أن } مخففة { لعنة الله } بالرفع : نافع وسهل ويعقوب والمفضل . الباقون بالتشديد والنصب { والخامسة } الثانية بالنصب : حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة . { أن } مخففاً { غضب } فعلاً ماضياً { الله } بالرفع : نافع والمفضل { أن } بالتخفيف { غضب الله } بالرفع : سهل ويعقوب . الباقون { أن غضب الله } بالتشديد والنصب .
الوقوف : { تذكرون } 5 { جلدة } ص { الآخر } 5 للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين { المؤمنين } 5 { مشركة } 5 للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين { مشرك } ج لاختلاف الجملتين { المؤمنين } 5 { أبداً } 5 { الفاسقون } 5 { وأصلحوا } ج للفاء وإن { رحيم } 5 { بالله } ط في الموضعين لأن ما بعده جواب لما في حكم القسم { الصادقين } 5 { الكاذبين } 5 { الصادقين } 5 { حكيم } 5 .
التفسير : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاتمة السورة المتقدمة بطلب المغفرة والرحمة وطلبه يستلزم مطلوبة لا محالة بدليل سل تعط ، أردفه بذكر ما هو اصل كل رحمة ومنشأ كل خير فقال { سورة } أي هذه سورة { أنزلناها وفرضناها } أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها . وقرئ بالنصب على « دونك سورة » أو « اتل سورة » أو على شريطة التفسير . وعلى هذا لا يكون لقوله { أنزلناها } محل من الإعراب لأنها ليست بصفة وإنما هي مفسرة للمضمر فكانت في حكمه . ومعنى إنزال الوحي قد سلف في أول البقرة . والفرض القطع والتقدير : ولا بد من تقدير مضاف لأن السورة قد دخلت في الوجود فلا معنى لفرضها فالمراد : فرضنا أحكامها التي فيها . ومن شدد فللمبالغة أو للتكثير ففي أحكام هذه السورة كثرة . ويجوز أن يرجع معنى الكثرة إلى المفروض عليهم فإنهم كل المكلفين من السلف والخلف . وأما الآيات البينات فإنها دلائل التوحيد التي يذكرها الله تعالى بعد الأحكام والحدود ويؤيده قوله { لعلكم تذكرون } فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكرها بخلاف دلائل التوحيد فإنها كالمعلومة لظهورها فيكفي فيها التذكر . وقال أبو مسلم : هي الحدود والأحكام أيضاً ولا بعد في تسميتها آيات كقول زكريا { رب اجعل لي آية } [ مريم : 10 ] سأل ربه أن يفرض عليه عملاً . وقال القاضي : أراد بها الأشياء المباحة المذكورة في السورة بينها الله تعالى لأجل التذكر .
فمن جملة الأحكام حكم الزنا . قال الخليل وسيبويه : رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف اي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني ، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون : الخبر { فاجلدوا } والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره : التي زنت والذي زنى فاجلدوا . وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب { سورة أنزلناها } لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال « رأسه » أي ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع ، وفيه إشارة إلى أن إقامة هذا الحد ينبغي لأأن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم . فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلاً عالماً بصيراً يعقل كيف يضرب . فالرجل يجلد قائماً على تجرده ليس عليه إزاره ضرباً وسطاً لا مبرحاً ولا هيناً على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج ، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو . والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله { ولا يزنون } [ الفرقان : 68 ] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل ، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة . فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر ، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار » واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا ، وثانيها عن أحكام الزنا ، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجباً لتلك الأحكام ، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا ، وخامسها عن كيفية إقامة هذا الحد الأول . قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعاً محرم شرعاً . قالوا : فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر ايضاً ، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل ، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين . والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا ، لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث ، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة . وما روى عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال « إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان » محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل قوله أيضاً « إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان »
وقوله « اليدان تزنيان والعينان تزنيان » والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجاً . لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجاً .
واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصناً فيرجم ، وإن لم يكن محصناً فيجلد ويغرب . والثاني قتل الفاعل والمفعول . والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد ، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق ، أو بالهدم عليه . ويروى عن أبيّ : أو بالرمي من شاهق . ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوطٍ عذبوا كل هذه الوجوه قال عز من قائل { جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } [ هود : 82 ] وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكروهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوَّم ، وإن كان مكلفاً طائعاً فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر ، وقيل زناً لأنه وطء أثنى فأشبه الوطء في القبل ، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح . ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي . وقال أبو حنيفة : إن الائط لا يحدّ بل يعزر . حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري . فإِنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم . وأيضاً إنه صلى الله عليه وسلم قال « من عمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل منهما والمفعول به » وقال صلى الله عيه وسلم « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس » وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول . وأيضاً قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعياً إليه فيناسب الزاجر . وفرق بأن الزنا أكثر وقوعاً وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر اشد ، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط ، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء . حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال : إنه لا يساوي الزنا في الحاجة على شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعاً ، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب . وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع ، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل . وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال : أحدهما أنه كالزنا في أحكامه ، وثانيها القتل مطلقاً لما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه » فقيل لابن عباس : ما شأن البهيمة؟ قال : لأنه كره أن يؤكل لحمها .
وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعاً . والحديث ضعيف الإسناد وبتقدير صحته معارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله . ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزير . البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب ، والإيذاء بالقول في حق البكر ، ثم نسخ بآية الزنا وبقوله صلى الله عليه وسلم : « الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام » والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا ينتصف وقد قال تعالى { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره ، فلو كان الرجم مشروعاً لكان أولى بالذكر ، ولأن قوله { الزانية والزاني } يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم ينتصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي . وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات . وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعاً في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون . سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه ابو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة . وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد ، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصناً فأمر به فرجم . وقوله صلى الله عليه وسلم « الثيب بالثيب جلد مائة » ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال : يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها . ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره . وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية . وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال : قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل : لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة » فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده .
فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجباً مع الرجم لذكره . قال الشافعي : يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر . وقال أبو حنيفة : يجلد .
وأما التغريب فمفوَّض إلى راي الإمام . وقوله صلى الله عليه وسلم « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام » وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب . وقال مالك : يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب . حجة الشافعي حديث عبادة « البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام » وقد ورد مثله في قصة العسيف . حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد . بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء ، ومعنى الجزاء كونه كافياً في ذلك الباب منه قوله صلى الله عليه وسلم « يجزيك ولا يجزي أحداً بعدك » وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافياً ولو كان النفي مشروعاً لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر . وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأمة « إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها » والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما روي أن شيخاً وجد على بطن جارية ، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اجلدوه مائة . فقالوا : إنه اضعف من ذلك . فقال : خذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ فاضربوه بها خلوا سبيله . لا يقال : إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزاً عن الحركة لأنا نقول : كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها . ولا يقال : لعله كان ضعيفاً عن الركوب أيضاً لأنا نقول : القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك . وأيضاً الأمر بالنفي لو كان مشروعاً لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته ، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها ، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقاة مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة ، لهذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين : إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة . وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها . وأيضاً النفي نظير القتل لقوله تعالى { اقتلوا أنفسكم أو أخرجوا من دياركم } [ النساء : 66 ] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا يشرع نظيره وهو التغريب . وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الاية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية .
فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كافٍ في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام . ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما روى أبو علي في جامعة أنه صلى الله عليه وسلم جلد وغرّب . ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزاً عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل ، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف . وقيل : سنة كاملة لأن التغريب للإِيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة . وأما المرأة فلا تغرّب وحدها لقوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم » فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان ، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنما إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب ، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب . وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها . واعلم أن قولنا { الزانية والزاني } إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل ما اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فتقول : أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف . هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها : الحرية بالإجماع . ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض ، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد . ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين ، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ . ومنهما الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين : أحدهما التزويج بنكاح صحيح ، والآخر الدخول . وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام . ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال ، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة ، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل . وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح الفاسد قولان : أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب ، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال .
وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية؟ الأصح عند إمام الحرمين لا ، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان . والأرجح عند معظم الأصحاب نعم ، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل ، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعاً؟ قال أبو حنيفة : نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملاً دون آخر لم يصر الكامل محصناً ايضاً .
وقال الشافعي في اصح قولية : لا بل لكل منهما حكم نفسه . ومنها الإسلام عند أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم « من أشرك بالله فليس بمحصن » دون الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم « إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين » ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا . فلو حكم بشرعه فظاهر ، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعاً له ، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلا الزاجر ولهذا قلنا : إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبراً بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه . ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } [ الأحزاب : 30 ] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد . وزيادة الخدمة إن لم تكن سبباً للعذر فلا أقل من أن لا تكون سبباً لزيادة العقوبة . قالوا : إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة . وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلاً للكرامة وصيانة للعرض . والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمى مشرك ، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله { فإذا أحصن } [ النساء : 25 ] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم « وزنا بعد إحصان » وبقوله « عليهم ما على المسلمين » قال بعض أهل الظاهر : عموم قوله { الزانية والزاني } يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النصب بالتنصيف في حق الأمة ، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس . ومنهم من قال : الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله { فإذا أحصن } [ النساء : 25 ] أي تزوّجن { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات } [ النساء : 25 ] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله { الزانية } واتفاق الجمهور على حذف هذين . وقال الشافعي وأبو حنيفة : الذمي يجلد للعموم ولأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فالجلد أولى . وقال مالكك لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع .
البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة : الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ رجح كلاً مرجحون . وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى .
ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده . وهذا الوجه في حدود الله تعالى ارجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا قال النبي في قضية اللعان « لو كنت راجماً بغير بينة لرجمتها » ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما . وعن أبي حنيفة أنه إن حصل العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا . الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة . وقال أبو حنيفة : لا بد من أربع مرات في أربع مجالس . وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحداً . حجة الشافعي قصة العسيف « فإن اعترفت فارجمها » والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل ، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين . حجة ابي حنيفة قصة ما عز وإعراضه صلى الله عليه وسلم عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعدما أقر ثلاث مرات : لو اقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس على الشهادة . وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب ، والثانية على كمالها . والفرق أن المقذوف لو اقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف ، ولو شهد اثنان بزناة لم يسقط . الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود اربعة من الرجال لقوله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ولقوله { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود اربعة . وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان .
البحث الخامس : أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله { فاجلدوا } هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقال الشافعي : السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يملك . حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم قال « أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم » وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « ذا زنت أمة أحدكم فليجلدها » وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود ، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر . وأيضاً إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى . وأيضاً الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى . حجة أبي حنيفة في قوله { فاجلدوا } الخطاب للأمة بالتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد .
وأيضاً لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه . وأيضاً المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفى الحد . أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه . فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كافٍ في بقاء الآية على عمومها . وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين : أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبداً له سرق . وثانيهما لا ، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير . وفي سماع المولى الشهادة ايضاً وجهان : فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحداً من الصلحاء ليقوم بها ، وفي الخارجي المتغلب خلاف .
البحث السادس في كيفية إقامة الحد : إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لاي كون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر ، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } وذلك إما بأن يترك الحد راساً ، أو ينقص شيء منه ، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم . وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطاً أو سوطين ، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلاً كان محسوباً لحصول التكليف . والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } قال الجبائي : فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير : إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود . وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك إقامة الحد ، وحينئذ يكون منكراً للدين فلهذا يخرج من الإيمان . وفي الحديث « يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له : لم فعلت ذاك؟ فيقول : رحمة لعبادك . فيقول له : أنت ارحم بهم مني فيؤمر به إلى النار » روى أبو عثمان النهدي قال : أتي عمر برجل في حد ، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال : اريد الين من هذا . فأتي بسوط فيه لين فقال : أريد اشد من هذا . فأتي بسوط بين السوطين . وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال : ماينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص . فقال أبو عبيدة : لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه . ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريجها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة .
وجوّز اشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال : اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه . وقال أبو حنيفة : حكم الراس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد ، وأما في سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة . وأيضاً إن ضرب الرأس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه ايضا عرضة للآفات وفيه الأعضاء الشريفة اللطيفة . وللشافعي أن يقول : إنما يحترم الوجه لما جاء في الحديث « إن الله تعالى خلق آدم على صورته » وهذا المعنى مفقود في الرأس . ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجماً فإن المقصود - وهو قتله - لا يتفاوت بذلك . ولهذا يرجم المريض أيضاً في مرضه . وقيل : إن كان مرضاً يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه ، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط . وفي الجلد إن كان المرض مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي ، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما روي أن مقعداً اصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة . والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره . وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط . ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق ، لأن ماعزاً لما مسته الحجارة هرب فقال صلى الله عليه وسلم : « هلا تركتموه » وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أن لا يقبل رجوعه . ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها ، ولا يحفر للجرل كما في حق ماعز إذ لو كان في الحفرة لم يمكنه الهرب . ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته « فما أوثقناه ولا حفرنا له » . وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين . ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه { وليشهد } ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضورالجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع ، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد . وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقرة في قوله { ولهم عذاب عظيم } [ الآية : 7 ] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة . فقال النخعي ومجاهد : هي في الآية واحد .
وعن عطاء وعكرمة اثنان . وعن الزهري وقتادة ثلاثة . وقال ابن عباس والشافعي : اربعة بعدد شهود الزنا . وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد . وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلاً من المصدقين بالله . وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجم ماعز والغامدية . وقال أبو حنيفة : إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس .
ثم ذكر شيئاً من خواص الزناة فقال : { الزاني لا ينكح } وهو خبر في معنى النهي كقراءة عمرو بن عبد { لا ينكح } بالجزم . ويجوز أن يكون خبراً محضاً على معنى أن عادتهم جارية بذلك . وفي الآية أسئلة : الأول : كيف قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وعكس الترتيب في هذه؟ والجواب أن تلك الاية مسبوقة لبيان عقوبتهما على جنياتهما وكانت المرأة أصلاً فيها لأنها هي التي أطمعت الرجل في ذلك . وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة . والثاني : ما الفرق بين الجملتين في الآية؟ والجواب معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر ، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء ، ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان لأنه لا يلزم عقلاً من كون الزاني كذلك أن يكون حال الزانية منحصرة في ذلك فأخبره الله تعالى بالجملة الثانية عن هذا الانحصار . الثالث أنا نرى الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف ، وايضاً المؤمن قد يحل له التزوج بالمرأة الزانية . الجواب للمفسرين فيه وجوه . أحدها وهو الأحسن قول القفال : إن اللفظ وإن كان عاماً إلا أن المراد منه الأعم الأغلب ، وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة ، والفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء في الأغلب وإنما يرغب فيها أشكالها من الفسقة أو المشركين نظير هذا الكلام قول القائل « لا يفعل الخير إلا الرجل التقي » . وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي . وأما المحرم على المؤمنين فصرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات لانخراطهم بسبب هذا الحصر في سلك الفسقة المتسمين بالزنا . الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله { الزاني } وفي قوله { المؤمنين } للعهد . روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة أنه قدم المهاجرون المدينة وليست لهم أموال ولا عشائر وبها نساء يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها لتعرف بها وكان لا يدخل عليها إلا زانٍ أو مشرك ، فرغب فيهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا : نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن .
فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية . والتقدير : أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات ، وتلك الزانيات لا ينكحها إلا أولئك الزواني ، وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين . الوجه الثالث أن هذا خبر في معنى النهي كما مر . وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام . ثم قيل : إن ذلك الحكم باقٍ إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزويج بالعفيفة والعفيف وبالعكس . ويقال : هذا مذهب ابي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة . ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول : كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك إذا زنت تحته لا يحل له أن يقيم عليها . ومنهم من يفصل لأن في جملة ما منع من التزوج مالا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة . وقيل : إنه صار منسوخاً إما بالإجماع - وهو قول سعيد بن المسيب - وزيف بأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به ، وإما بعموم قوله { وأنكحوا الأيامى } [ النور : 32 ] { فانكحوا كا طاب لكم } [ النساء : 3 ] وهو قول الجبائي . وضعف بأن ذلك العام مشروط بعدم الموانع السببية والنسبية وليكن هذا المانع أيضاً من جملتها . وسئل ابن عباس عن ذلك فأجازه وشبه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال : « أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال » . الوجه الرابع قول أبي مسلم : إن النكاح محمول على الوطء وذلك إشارة إلى الزنا أي وحرم الزنا على المؤمنين . قال الزجاج : هذا التأويل فاسد من جهة أن النكاح في كتاب الله لم يرد إلا بمعنى التزويج ، ومن جهة أن يخرج الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لقول القائل « الزاني لا يطأ إلا الزانية » حتى يكون وطؤه زناً ، ولو أريد حين التزوج فالإشكال عائد لأن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها . الحكم الثاني من أحكام السورة حد القذف والرمي قد يكون بالزنا وبغيره كالكفر والسرقة وشرب الخمر ، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المراد به في الآية هو الرمي بالزنا بالقرائن : منها تقدم ذكر الزنا ، ومنها ذكر المحصنات وهن العفائف ، ومنها قوله { لم يأتوا بأربعة شهداء } أي على صحة ما رموها به ، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا ، والقذف بغير الزنا يكفي فيه شاهدان . وألفاظ القذف تتقسم إلى صريح وكناية وتعريض ، فالصريح أن يقول : يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك . والأصح أن قوله « زنى بدنك » صريح لأن الفعل لكل البدن والفرج آلة . والكناية أن يقول « يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا ينت الحرام أو امراة لا تردّ يد لامس » فهذا لا يكون قذفاً إلا أن يريده .
وكذا لو قال العربي « يا نبطي الدار واللسان » وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه . والتعريض ليس بقذف كقوله « يا ابن الحلال » و « أما أنا فليست أمي بزانية » وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه . وقال مالك : يجب الحد فيه . وقال أحمد وإسحق : هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « ادرؤا الحدود بالشبهات » والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الإيذاء الحاصل بالتعريض .
حجة المخالف ما روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر : والله ما أرى أبي بزانٍ ولا أمي بزانية . فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل : مدح اباه وأمه . وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا . فجلده عمر ثمانين . وإذا قذف شخصاً واحداً مراراً فإن اراد بالكل زنية واحدة كما لو قال مراراً؟زنيت بعمرو « لم يجب إلا حد واحد . ولو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول عزر للثاني . وإن أراد زنيات مختلفة كأن قال » زنيت بزيد وزنيت بعمرو « فالأصح تداخل الحدود لأنهما حدان من جنس واحد فصار كما لو قذف زوجته مراراً يكتفي بلعان واحد . وإذا قذف جماعة بكلمات أو بكلمة واحدة كأن قال » يا ابن الزانيين « فعليه حدان لأنه قذف لكل واحد من أبويه ، هذا هو الجديد من قولي الشافعي . وعند أبي حنيفة لا يجب إلا حد واحد لأن قوله { والذين يرمون المحصنات } معناه كل من رمى جماعة من المحصنات فاجلدوه ثمانين ، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال الهلال بن أمية » أو حدّ في ظهرك « فلم يوجب عليه إلا حداً واحداً مع قذفه لامرأته . ولشريك بن سحماء للقياس على من زنى مراراً أو شرب أو سرق مراراً والجامع رفع مزيد الضرر . وأجيب بأن قوله { والذين } صيغة جمع وقوله { المحصنات } كذلك . وإذا قوبل الجمع بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى : كل من رمى محصنة فاجلدوه . وفيه أن رمي المحصنة علة الجلد فحيث وجدت وجد . ولا شك أن هذه العلة موجودة عند رمي كل واحدة من المحصنات فيترتب عليها الجلد لا محالة . وأما السنة فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب قوية ، وأما القياس فالفرق أن هذا الآدمي وتلك حدود الله تعالى . هذا كله هو البحث عن الرمي . وأما البحث عن الرامي فنقول : لا عبرة بقذف الصبي والمجنون إلا في باب التعزير للتأديب إن كان لهما تمييز ولو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ . قال القفال : يسقط التعزير لأنه كان للزجر . والعقل زاجر قوي وإشارة الأخرس وكتابته قذف ولعان عند الشافعي قياساً على سائر الأحكام ، ولأنه كافٍ في لحوق العار .
وعند ابي حنيفة لا يصح قذفه ولعانه لضعف تاثيرهما . وإذا قذف العبد حراً فعليه أربعون جلدة قاله مالك والشافعي وابو حنيفة واصحابه على قانون قوله { فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } [ النساء : 25 ] وعند الشيعة ويروى عن علي رضي الله عنه أنه يجلد ثمانين أخذاً بعموم الآية ، ولهذا اتفقوا على دخول الكافر فيه حتى لو قذف اليهودي مسلماً جلد ثمانين . ويستثنى من الرماة الأب أو الجد إذا قذف أولاده أو أحفاده فإنه لا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص . وأما البحث عن المرمي فالمحصنات العفائف لأنهن منعن فرجهن إلا من زوجهن وهي عامة إلا أن الفقهاء اعتبروا لكونها محصنة شرائط خمساً : الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم « من أشرك بالله فليس بمحصن » والعقل والبلوغ لأن المجنون والصبي لا اهتمام لهما بدفع العار عن أنفسهما ، والحرية لمثل ما قلنا ، والعفة لأن الحد شرع لتكذيب القاذف فإذا كان صادقاً فلا معنى للحد حتى لو زنى مرة في عنفوان شبابه ثم تاب وحسنت حاله لم يحد قاذفه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف فإنه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا . ولو زنى بعد القذف وقبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن قاذفه . قال أبو حنيفة والشافعي لأن ظهور الزنا منه خدش ظن الإحصان به وقت القذف ، ودل على أنه كان متصفاً به قبله كما روي أن رجلاً زنى في عهد عمر فقال : والله ما زنيت إلا هذه . فقال عمر : كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة . وقال أحمد والمزني وأبو ثور : الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف . ولفظ المحصنات لا يتناول الرجال عند جمهور العلماء إلا أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات والقذف بغير الزنا كأن يقول « يا آكل الربا » يا « شارب الخمر » يا « يهودي » يا « مجوسي » يا « فاسق » وكذا قذف غير المحصنين بالزنا لا يوجب الا التعزير ، ولو كان المقذوف معروفاً بما ذكره فلا تعزير أيضاً . واعلم أنه سبحانه حكم على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام : جلد ثمانين وبطلان الشهادة والحكم بفسقه إلى أن يتوب . فذهب جمع من الأئمة كالشافعي والليث بن سعد إلى أنه رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أموراً ثلاثة معطوفة بعضها على بعض بالواو وهو لا يفيد الترتيب ، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتباً على إقامة الحد ، بل يجب أن يثبت رد الشهادة بالقذف مع عدم البينة سواء اقيم عليه الحد أم لا .
وقال مالك وأبو حنيفة واصحابه : شهادته مقبولة ما لم يحد فإذا استوفى لم تقبل شهادته . وإنما ذهب إلى هذا نظراً إلى ظاهر الترتيب مع موافقته للأصل وهو كونه مقبول الشهادة ما لم يطرأ مانع ولقوله صلى الله عليه وسلم « المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدوداً في قذف » أخبر ببقاء عدالته ما لم يحدّ .
أما الاستثناء في قوله { إلا الذين تابوا } فإنه لا يرجع إلا الجملة الأولى اتفاقاً لأنه إذا عجز عن البينة وهو الإتيان بأربعة شهداء وجب عليه الجلد ولم يكن للإمام ولا للمقذوف أن يعفو عن القاذف لأنه خالص حق الله عز وجل ، ولهذا لا يصح أن يصالح عنه بمال . هذا قول أبي حنيفة وأصحابه . وقال الشافعي : إذا عجز عن البينة وجب على الإمام وهو المخاطب بقوله { فاجلدوهم } أن يأمر بجلده وإن تاب لأن القذف وحده حق الآدمي والمغلب فيه حقه ، فليس للإمام أن يعفو عنه . ولا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وأن المراد أنهم محكوم عليهم بالفسق . إلا أن تابوا . بقي الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة المتوسطة ، منشأ الخلاف مسألة أصولية هي أن الاستثناء بعد جمل معطوف بعضها على بعض للجميع وهو مذهب الشافعية ، أو للاخيرة وهو مذهب الحنفية ، ويتفرع على مذهب الشافعي أن القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفاً إلى مدة كونه قاذفاً وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف . ويتفرغ على مذهب أبي حنيفة أنه لم تقبل شهادته وإن تاب والأبد عنده مدة حياته . وقوله { وأولئك هم الفاسقون } جملة مستأنفة عنده لا معطوفة لأنها خبرية وما قبلها طلبية ، ولو سلم أنها معطوفة فالاستثناء يرجع إليها فقط . قال صاحب الكشاف : حق المستثنى عند الشافعي أن يكون مجروراً بدلاً من هم في لهم ، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوباً لأنه عن موجب . قلت : حقه عند الإمامين أن يكون منصوباً لأن الاستثناء يعود عند الشافعي إلى الجملتين ، ولا يمكن أن يكون الاسم الواحد معرباً بإعرابين مختلفين في حالة واحدة ، لكنه يجب نصبه نظراً إلى الأخيرة فتعين نصبه نظراً إلى ما قبلها أيضاً ، وإن جاز البدل في غير هذه المادة . هذا وقد احتجت الشافعية أيضاً في قبول شهادة القاذف بعد التوبة بقوله صلى الله عليه وسلم « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » وإذا كانت التوبة من الكفر والزنا والقتل مع غلظها مقبولة فلأن تقبل من القذف أولى . وأيضاً إن أبا حنيفة يقبل شهادته قبل الحد فبعده وقد تاب وحسن حاله أولى . وأيضاً الكافر يقذف فيتوب من الكفر فتقبل شهادته بالإجماع ، فالقاذف المسلم إذا تاب من القذف كان أولى بأن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالاً من القذف مع الكفر .
لا يقال : المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار لاشتهارهم بعداوتهم والطعن فيهم فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر عار حادث بخلاف ما لو قذفه مسلم . وأيضاً الإيمان يجب ما قبله وبهذا لا يلزم الحد بعد التوبة من الكفر ويلزم بعد التوبة من القذف لأنا نقول : هذا الفرق ملغى في أهل الذمة لقوله صلى الله عليه وسلم « لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين » واحتجت الحنفية في عدم قبول شهادته بما روى ابن عباس في قصة هلال بنأمية يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ولم يشترط التوبة ، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم « المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف » ولم يذكر التوبة . وروى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا تجوز شهادة محدود في الإسلام » والشافعية عارضوا هذه الحجج بوجوه : منها قوله صلى الله عليه وسلم « إذا علمت مثل الشمس فاشهد » فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم يقبل كان عبثاً . ومنها قوله نحن نحكم بالظاهر ، وههنا قد ظهرت العفة والصلاح . ومنها أن عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم ابو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم : من أكذب نفسه قبلت شهادته . فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا فكان يقبل شهادتهما .
وقد بقي في الآية مسائل .
الأولى : قال الشافعي : لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين . وقال أبو حنيفة : إذا جاؤوا متفرقين لم يثبت وعليهم حد القذف كما لو شهد على الزنا أقل من أربعة . حجة الشافعي أن الآتي بالشهداء متفرقين آتٍ بمقتضى النص واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية . وأيضاً القياس على سائر الأحكام بل تفريقهم أولى لأنه ابعد عن التهمة والتواطؤ . وكذلك يفعل القاضي في كل حكم سواه عند الريبة . وايضاً لا يجب أن يشهدوا معاً في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي ويقوم واحد بعد آخر ويشهد جاز فكذا إذا اجتمعوا على بابه ويدخل واحد بعد آخر . حجة أبي حنيفة الشاهد الواحد لما شهد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد فخرج عن كونه شاهداً ، ولا عبرة بتسميته شاهد إذا فقد المسمى فلا خلاص عن هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع ، ونظيره ما روي أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب اربعة : أبو بكرة ونافع ونفيع . وقال زياد : وكان رابعهم : رايت رجليها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك . فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر . فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف في الحد للاحتياط .
الثانية : جوّز أبو حنيفة أن يكون زوج المقذوفة واحداً من الشهداء الأربعة وأباه الشافعي .
الثالثة : قال الشافعي : في أحد قوليه : إذا أتي بأربعة فساق فهم قذفه يجب عليهم الحد كما يجب على القاذف الأول . وقال أبو حنيفة : لا حد عليهم ولا على القاذف لأنه أتى باربعة من أهل الشهادة إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم ، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك يجب اعتبارها في نفي الحد عنهم .
الرابعة : لا يكفي في الشهادة إطلاق الزنا لا بد ان يذكروا التي زنى بها وأن يذكروا الزنا مفصلاً مفسراً فيقولوا : رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر ، ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم . ولو أقر على نفسه بالزنا فهل يشترط التفسير والبيان؟ فيه وجهان : نعم كالشهود لا كالقذف .
الخامسة : قالوا : أشد الحدود ضرب الزنا ثم ضرب الخمر ثم القذف لأن سبب عقوبته يحتمل الصدق والكذب . إلا أنه عوقب صيانة للأعراض .
السادسة : حد القذف يورث عند مالك والشافعي بناء على أنه حق الآدمي . وقد قال صلى الله عليه وسلم « من ترك حقاً فلورثته » والأصح أنه يرثه جميع الورثة . وفي قول سوى الزوج والزوجة لأن الزوجية ترفع بالموت ، ولأن لحوق العار بها أقل . وعلى هذا القول اعتراض أبو حنيفة بأنه لو كان موروثاً لكان للزوج والزوجة فيه نصيب .
السابعة : إذا قذف إنسان إنساناً بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلاناً قد قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له حق على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه ، وبهذا المعنى بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيساً ليخبرها بأن فلاناً قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها .
قال الشافعي : وليس للإمام إذا رمى رجل بالزنى أن يبعث إليه فيساله عن ذلك لأن الله تعالى قال { ولا تجسسوا } [ الحجرات : 12 ] وأراد به إذا لم يكن القاذف معيناً كأن قال رجل بين يدي الحاكم : الناس يقولون إن فلاناً زنى : فلا يبعث الحاكم إليه فيساله . الثامنة : قال الشافعي : توبة القاذف إكذابه نفسه . وفسره الأصطخري بأن يقول : كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله . وقال أبو إسحق : لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقاً فيكون قوله كذبت كذباً والكذب معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى بل يقول : القذف باطل وندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه . ولا بد من مضيّ مدة عليه في حسن الحال وهو المراد بقوله { واصلحوا } وقدّروا تلك المدة بسنة لأن مرور الفصول الأربعة كلها له تاثير في الطباع . وأن الشارع جعل السنة معتبرة في الزكاة والجزية وغيرهما . أما قوله { وأولئك هم الفاسقون } ففيه دليل على أن القذف من جملة الكبائر ، وأن الفاسق اسم من يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقاً من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب ، اللهم إلا أن يقال : إنما لا يطلق عليه هذا الاسم بعد التوبة للتعظيم كما لا يقال الأكابر الصحابة كافر لكفر سبق .
قالت الأشاعرة : في قوله { فإن الله غفور رحيم } دلالة على أن قبول التوبة لا يجب عليه وإلا لم يفد المدح . الحكم الثالث : اللعان وسببه قذف الزوجات خاصة . القذف أمر محظور في نفسه إلا إذا عرض ما يباح أو يجب به . وتفضيل ذلك أنه إن رآها الزوج بعينه تزني ، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها ، أو سمع ممن يثق بقوله ، أو استفاض بين الناس أن فلاناً يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها ، أو رآه معها في بيت ، أبيح له القذف لتأكيد التهمة . ويجوز أن يمسكها أو يستر عليها لما روي أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي امرأة لا تردّ يد لامس . قال : طلقها . قال : إني أحبها . قال : فأمسكها أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله ، أو استفاض ولكن لم يره الزوج معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه ربما دخل لخوف أو سرقة أو لطلب فجور وابت المرأة هذا كله إذا لم يكن ثمة ولد يريد نفيه ، فإن كان ثمة ولد فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستى اشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته . وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الشهاد من الأولين والآخرين » وإن احتمل أن يكون الولد منه بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولأقل من أربع سنين ، فإن لم يكن استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لم يحل له القذف والنفي ، وإن اتهمها بالزنا وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي ، والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل . وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه كأن كانا أبيضين وأتت به أسود فإن لم يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما « روى أبو هريرة أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن امرأتي ولدت غلاماً أسود فقال : هل لك من إبل؟قال : نعم . قال : ما لونها؟ قال : حمر . قال : فهل فيها أورق؟ قال : نعم قال : فكيف ذاك؟ قال : نزعه عرق . قال : فلعل هذا نزعه عرق »
وإن كان يتهمها بزنا أو برجل فأتت بولد يشبهه فهل يباح نفيه؟ فيه وجهان : أما سبب نزول الاية فقد قال ابن عباس : لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدي الأنصاري : إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلاً على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن قتله قتل به ، وإن قال : وجدت فلاناً مع تلك المرأة ضرب ، وإن سكت سكت على غيظ ، اللهم افتح . وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر ، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس ، فأتى عويمر عاصماً وقال : رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي . أخبرني عويمر أنه رأى شريكاً على بطن امرأته ، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم أبناء عم عاصم . فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً وقال لعويمر : اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها . فقال : يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكاً على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة اشهر وأنها حبلى من غيري . فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت . فقالت : يا رسول الله إن عويمراً رجل غيور وإنه رأى شريكاً يطيل التردد ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه هذه الآيات . { والذين يرمون أزواجهم } إلى آخرها . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي بالصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين . ثم قال في الثانية قل أشهد بالله إني رايت شريكاً على بطنها وإني لمن الصادقين . ثم قال في الثالثة : قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين . ثم قال في الرابعة : قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين . ثم قال في الخامسة : قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قاله . ثم قال : اقعد . وقال لخولة : قومي فقامت . وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمراً لمن الكاذبين . وقالت في الثانية : اشهد بالله ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين . وقالت في الثالثة : اشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين . وفي الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين . وفي الخامسة : غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله .
ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما . وعن ابن عباس أيضاً في رواية الكلبي أن عاصماً رجع إلى أهله فوجد شريكاً على بطن امرأته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث كما تقدم . وفي رواية عكرمة عن ابن عباس : « لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار : ولو وجدت رجلاً على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب . فقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور . فقال سعد : يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه . فقال صلى الله عليه وسلم : فإن الله أبى لي ذلك فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال : يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلاً رأيت بعيني وسمعت باذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به ، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقاً . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إما البينة وإما إقامة الحد عليك . فاجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد . فبيناهم كذلك إن نزل الوحي فقال : يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجاً وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال : أبصروها فإن جاءت به اصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال ، وإن جاءت به اورق جعداً خدلج الساقين . اي ضخمهما فهو لصاحبه . فجاءت به خدلج الساقين فقال صلى الله عليه وسلم : لولا الإيمان لكان لي ولها شأن . قال عكرمة : لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه » .
واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناة ، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان . وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره ، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والسنب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمتعذر . وأيضاً الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته إلا عن حقيقة ، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء : إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان .
ولنذكر ههنا مسائل :
الأولى : قال الشافعي : إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف ، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا .
وقال أبو حنيفة : إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة . حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد . وايضاً قوله { ويدرأ عنها العذاب } ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب ، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الاية إلا حد القذف ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله . وللمرأة أن تقول : إن كان الرجل صادقاً فحدّوني وإن كان كاذباً فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله . حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره .
الثانية : الجمهور على أنه إذا قال « يا زانية » وجب اللعان لعموم قوله { والذين يرمون } وقال مالك : لا يلاعن إلا أن يقول : رأيتك تزني وينفي حملاً بها أو ولداً منها .
الثالثة : قال الشافعي : من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف ، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين . وذهب أبو حنيفة إلى ان الزوج ينبغي أن يكون مسلماً حراً عاقلاً بالغاً غير محدود في القذف ، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة . فإذا كان الزوج عبداً أو محدوداً في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات . دليل الشافعي عموم قوله { والذين يرمون أزواجهم } والإجماع . على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة ، فكذا القول في غيرهما ، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار . دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحّرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر . وأيضاً اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي . وأيضاً اللعان شهادة لقوله تعالى { فشهادة أحدهم أربع شهادات } وقد جاء مثله في أحاديث اللعان . وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر . أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين ، ومما يدل على أنه يمين قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية : احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق . وقوله : لولا الإيمان لكان لي ولها شأن . وأيضاً لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل ، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة .
لا يقال : الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول : العبد أيضاً قد يعتق ، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال ، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار . ثم ألزم الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية . ثم قال الشافعي بعد ذلك : وتختلف الحدود لمن وقعت له ، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه ، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها .
الرابعة : اختلف المجتهدون في نتائج اللعان ، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلاً لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقاً في قذفه وهذا لا يوجب تحريماً كما لو قامت البينة عليها . وأيضاً إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم . وأيضاً إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد . وأيضاً إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان . وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثاً قبل اللعان . وعن أبي حنيفة وأصحابه إلاَّ زفر ، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد : مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبداً ، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثاً ، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها . وقال مالك والليث وزفر : إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم ، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما . وقال الشافعي : إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج : درء الحد عنه ، ونفي الولد ، والفرقة ، والتحريم المؤبد ، ووجوب الحد عليها . ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها ، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما . وزعم ابو بكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية ، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية ، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين ، وأيضاً اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات . وأيضاً اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم . وأيضاً اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم . ولقائل أن يقول : سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق ، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة . ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله { ويدرأ عنها العذاب أن تشهد } ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب .
وأيضاً أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها ، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه ، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلاً لقوله « الولد للفراش » . الخامسة : مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق ، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبداً وهو قول علي وابن مسعود . ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد ، ولما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها . ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة ، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } [ البقرة : 230 ] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] وقوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] .
السادسة : اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان . وخالف بعضهم مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم « الولد للفراش » وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها .
السابعة : لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم .
الثامنة : كيفية اللعان كالصريحة في الاية وأن الحديث قد زادها بياناً كما مر . وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة ، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد ، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى العنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس : اتق الله فإنها موجبة . وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب . ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح ، التغليظ بالزمان . وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة ، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام ، وبالمدينة بين المنبر والمدفن ، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع ايضاً وهو المقصورة ، وفي بيت المقدس في المسجد القصى عند الصخرة ، ولليهود في الكنيسة ، وللنصارى في البيعة ، وللمجوس في بيت نارهم ، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام . ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة ، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة .
التاسعة : قال جار الله : إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظاً عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد .
العاشرة : في فوائد متعلقة بالآية منها : إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر ، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف ، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان : ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان . ومنها أن المعتزلة قالوا : المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار . أجابت الاشاعرة بأن كونه مغضوباً عليه بفسقه لا ينافى كونه مرضياً عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب . ثم أخبر عن كمال رافته بقوله { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة . وجواب « لولا » محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد . وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه ابلغ من منطوق به .
التأويل : النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها ، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها { فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } من الجوع وترك الشهوات والمرادات ، ومن حملهما على المخالفات . ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته اربع وعشرون منها : أربع ساعات لأجل النوم { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل ، فيكون المجموع مائة وتأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم . { وليشهد عذابهما } ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط { الزاني لا ينكح } فيه أن الطبع يسرق والجنس إلى الجنس يميل ، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح إلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد . { وحرم ذلك } الذي قلنا من اختلاط الأشرار { على المؤمنين } { والذين يرمون المحصنات } أي الأرواح الذين ينسبون إلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها . الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل { فاجلودهم ثمانين جلدة } مر وهم بالخلوة أربعين يوماً وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن ، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى النفوس السمتعدة . { والذين يرمون أزواجهم } وهن القوالب المزدوجة بالأرواح { ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم } لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح { فشهادة أحدهم أربع شهادات } هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال . { والخامسة } وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان ، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه . والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل المعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم .
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
القراآت : { كبره } بضم الكاف : يعقوب . { إذ سمعتموه } وبابه مدغماً : أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة غير خلف ورجاء والعجلي { إذ تلقونه } بالإظهار وتشديد التاء : البزي وابن فليح { ولا يتأل } من التألي : يزيد { ما زكى } بالتشديد والإمالة : روح وقرأ قتيبة ممالة مخففة . { يوم يشهد } على التذكير : حمزة وعلي وخلف . والباقون بتاء التأنيث .
الوقوف : { عصبة منكم } ط { شراً لكم } ط { خير لكم } ط { من الإثم } ج لنوع عدول من إجمال حكم الكل إلى بيان حكم البعض مع اتفاق الجملتين { عظيم } 5 { خيراً } لا للعطف { مبين } 5 { شهداء } ج للشرط معنى مع الفاء { الكاذبون } 5 { عظيم } ج لاحتمال أن يكون « إذ » ظرف قوله { لمسكم } أو { أفضتم } واحتمال كونه منصوباً باذكر وبهذا قد قيل : الوصل ألزم لأن قوله { سبحانه } من جملة مفعول { قلتم } { عظيم } 5 { مؤمنين } 5 ج لاتفاق الجملتين مع تكرار اسم الله دون الاكتفاء بالضمير وأنها آية { الايات } ط { حكيم } 5 { أليم } 5 لا لتعلق الظرف { والآخرة } ط { لا تعلمون } 5 { رحيم } 5 { خطوات الشيطان } ط { والمنكر } ط { ابداً } لا لتعلق لكن { من يشاء } ط { عليم } 5 { في سبيل الله } ط والوصل أولى للعطف { وليصفحوا } ط { لكم } ط { رحيم } 5 { والآخرة } ص { عظيم } 5 لا لتعلق الظرف { يعملون } 5 { المبين } 5 { للخبيثات } ج للعطف مع التضاد { للطيبات } 5 ج لاتحاد المعنى مع فقدان العاطف { يقولون } ط { كريم } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق . روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن ابي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة . قال الزهري : هي غزوة المريسيع . وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة . قال : وهي غزوة المريسيع أيضاً . فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلاً ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع ، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه . وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير ، فلما رجعت إلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت : يعودون في طلبي فنمت . وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعته فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء ، فلما رآني عرفني وقال : ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت ، ثم قاد البعير وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري .
فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومكثت شهراً أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } [ يوسف : 18 ] إلى أن نزل فيّ { إن الذين جاؤا بالإفك } إلى آخر الآيات . وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول . وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء . وقيل : هو البهتان . والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين . والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة . قال المفسرون . هم عبد الله بن أبي رأس النفاق ، وزيد بن رفاعة ، وحسان بن ثابت ، ومسطح ابن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم . ومعنى { منكم } أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهراً . أما الخطاب فيب قوله { لا تحسبوه شراً لكم } فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعائشة وصفوان . ومعنى كوكنه خيراً لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء ، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية . وقيل : الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها . وقيل : الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك ، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة . وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله { لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم } أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض . { والذي تولى كبره } أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امرأة من قريش ، والشهر أنه عبد الله راس النفاق . ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال : من هذه؟ فقالوا : عائشة . فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها . ويروى أن عائشة ذكرت حساناً وقالت : أرجو له الجنة . فقيل : أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت : إذا سمعت شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم رجوت له الجنة . وفي رواية أخرى قالت : واي عذاب أشد من العمى .
ثم علم أدباً حسناً في مثل هذه الواقعة فقال { لولا إذ سمعتموه ظن } فصل بين « لولا » التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف مالا يتسع في غيره تنزيلاً للظرف منزلة المظروف نفسه ، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف .
والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك ، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم ومثله { ولولا إذ سمعتموه قلتم } [ النور : 16 ] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال : لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً وقلتم هذا إفك . ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات ، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة ، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات ، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحاً ببراءة ساحته { هذا إفك مبين } وذلك أن المؤمن معه من العقل والدين ما يهديه إلى الاصلح ويؤخره عن الأقبح ، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل : كلام العدى ضرب من الهذيان . فوجب أن لا يلتفت المؤمن إلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به ، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه . روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب : أما ترين ما يقال؟ فقالت : لو كنت بدل صفوات أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءاً؟ قال : لا . قلت : لو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك . وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة . ومن هنا قال أيضاً : إذ باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز . ومثله إذا باع سيفاً محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف . وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملاً لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة . وزعم مالك أنهما يحدان إن لم يقيما بينة على النكاح . وقيل : إن الآية مختصة بعائشة لأن كونها زوجة النبي كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح . قال العلماء : يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات ألبتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة . قال : وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات . قيل : في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال إلى نفسها . ويقال : كشخنته أي قلت له ياكشخان . ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله { لولا جاؤا } وهي أيضاً تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتفٍ في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون .
وهذا القدر كافٍ في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفاً . ثم زاد في التهديد والزجر بقوله { ولولا فضل الله } هي « لولا » الامتناعية . قال جمهور المفسرين : لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة ، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة ، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك . وعن مقاتل أن في الآية تقديماً وتأخيراً والمعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة { لمسكم في ما } انفعتم { فيه عذاب عظيم } في الدنيا والآخرة معاً . وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله ، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرئ به . كان الرجل يلقى الرجل فيقول له : ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر . وفي زيادة قوله { بأفواهكم } إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع . والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم فلهذا قال { وهو عند الله عظيم } عن بعضكم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال : أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم . وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير . وصفهم في الاية بارتكاب ثلاثة آثام : تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم ، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكداً لعظمه . وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر .
ثم علمهم أدباً آخر ومعنى { ما يكون لنا } لا ينبغي ولا يصح لنا . ومعنى { سبحانك } تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه إليه فاجرة ، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم ، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه . والفرق بين هذه الآية وبين قوله { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون } هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته { يعظكم الله } بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة { أن تعودوا } أو في شأن أن تعودوا { لمثله ابداً } أي مدة حياتكم .
ولا دلالة للمعتزلة في قوله { إن كنتم مؤمنين } على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار { ويبين الله لكم } أي لانتفاعكم { الآيات } الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده { والله عليم حكيم } هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى ، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض . والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور ، وليس في تكليفه عيب ولا عبث . ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثبت ولا يعاقب . استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإيمان من الكل وإلا لم يكن واعظاً ولا مبيناً آياته لانتفاعهم ولا حكيماً لا يفعل القبائح . ولا جواب للاشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه . ثم بين بقوله { إن الذين يحبون } أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم ، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين ، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب . والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه ، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم ، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئاً من المضار والأذيات . وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص ما يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي . وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان ، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح . وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء ، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن ابي وحساناً ومسطحاً ، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره . وعذاب الآخرة في القبر وفي القيامة هو النار . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني لأعرف قوماً يضربون صدورهم ضرباً يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم » وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » من الخير وأما قوله { والله يعلم وأنتم لا تعلمون } ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه . وإنما نعرف نحن شيئاً من ها بالقرائن والإمارات وفيه وجر عظيم لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليماً من النفاق والغل ، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأول ملكة والثاني حال ، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم .
قال أبو حنيفة : المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها . وقالت المعتزلة : في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة . ولقائل أن يقول : قياس الغائب على الشاهد فاسد . ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتميكن من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم . وجواب « لولا » محذوف على نسق ما مر . وقيل : جوابه ما يدل على ذلك في قوله { ما زكى منكم } وهو بعيد . عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم . ثم نهى عن اتباع آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب مال تنكره العقول وتأباه . وقوله { فإنه يأمر بالفحشاء } من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل . قالت الاشاعرة : في قوله { ما زكى } بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله { ولكن الله يزكي } دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله ، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار . وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة ، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه ، وبأن قوله { من يشاء } ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عيه .
ثم علم أدباً آخر جميلاً بقوله { ولا يأتل } وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان ، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيراً فهي كقراءة من قرأ { ولا يأتل } وقيل : هو من قولهم « ما ألوت جهداً » إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئاً اي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين . قالوا : نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة ابي بكر الصديق فقيراً من فقراء المهاجرين ، وكان أبو بكر ينفق عليه . فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر ، فلما وصل إلى قوله { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } قال أبو بكر : بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال : والله لا أنزعها أبداً . قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الاية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه ، وذلك أن الفضل المذكور في الاية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق . تركنا العمل به في حق النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولاً به . وأيضاً ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم . وأيضاً قد قيل :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد امره الله تعالى بالصفح عنه ، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسن ذلك . وأيضاً في تسميته أولي الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له : أنت أفضل من أن تقابل إنساناً بسوء وأنت أوسع قلباً من أن تقيم للدنيا وزناً فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن اساء إليك . وأيضاً أرمه الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه { فاعف عنهم واصفح } [ المائدة : 13 ] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق . وأيضاً علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة ألبتة في الحال وفي الاستقبال لقوله { أن يغفر } فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصياً والعاصي في النار . وليس النهي في قوله { ولا يأتل } نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو . عن النبي صلى الله عليه وسلم « أفضل أخلاق المسلمين العفو » وعنه صلى الله عليه وسلم « لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه » واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحاً كان مذنباً لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس ، ولهذا حده رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأجمعوا ايضاً على أنه من البدريين وقد ورد فيهم الخبر الصحيح « لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله « اعملوا ما شئتم » أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلاً أو كثيراً فقد أعطيتكم الدرجات العليات في الجنة ، أو اراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال : قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة . قالت الأشاعرة : في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجراً لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلاً . استدل جمهور الفقهاء بالاية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت دايعة للخير لا صارفة عنه . ثم قالوا : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان } [ المائدة : 89 ] وهو عام في جانب الخير وفي غيره . ومثله ما ورد في قصة أيوب { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به } [ ص : 44 ] ولو كان الحنث كفارة لو يؤمر بضرب الضغث عيها . وقال بعض العلماء : إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر
« من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خبراً منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته » ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولو يوجب عليه كفارة . وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال ، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقاً للحديث الآخر « من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه » وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة . قوله { أن الذين يرمون المحصنات } قد مر تفسير المحصنة . وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب ، وقد يعين على ذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال . قال الأصوليون : خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها ، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال : المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم . ومنهم من قال : عائشة مع سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم من قال : هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان . وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله { إلاّ الذين تابوا } وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء . وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة . وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أن كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال : من أذنب ذنباً ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة . ومنهم من قال : نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد ، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : إنما خرجت لتفجر . أما شهادة الجوارح فلا إشكال فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون : البنية ليست شرطاً في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علماً وقدرة وكلاماً . وقالت المعتزلة : المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى . ويجوز أن يبني الله هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله . ومعنى { دينهم الحق } الجزاء المستحق . وقال في الكشاف : معنى قوله { هو الحق المبين } العادل الظاهر العدل . وقال غيره : سمي حقاً لأنه حق عبادته أو لأنه الموجود بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل . والمبين ذو البيان الصحيح أو المظهر للموجودات . فالحصال أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره . ثم ختم الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله { الخبيثات } يعني الكلمنات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك ، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعاً وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيباً .
وعلى الوجهين يراد بالخبيثين الرجال والنساء جميعاً إلا أنه غلب الرجال . والحاصل أن الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء ، والخبيثون من الصنفين للخبيثات من القول وكذلك الطيبات والطيبون { أولئك } الطيبون { مبرؤن مما } يقول الخبيثون من خبيثات الكلم . قال جار الله : هو كلام جارٍ مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب ، وجوز بقرينة الحال أن يكون { أولئك } إشارة إلى أهل البيت عليهم السلام وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك . وفي الآية قول آخر وهو أن يراد بالخبيثات النساء الخبائث ، وبالخبيثين الرجال الذين هم أشكال لهن فيكون أول الآية نظير قوله { الزاني لا ينكح إلا زانية } وكذلك الكلام في أهل الطيب ولا أطيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أزواجه مثله فلذلك أخبر عن حالهن بقوله { لهم مغفرة ورزق كريم } وقد مر تفسير الرزق الكريم في « الحج » نظيره قوله في الأحزاب { واعتدنا لها رزقاً كريماً } [ الآية : 31 ] وفي الآية دلالة على أن عائشة من أهله الجنة . وقال بعض الشيعة : هذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر وقد فعلت عائشة من البغي يوم الجمل ما فعلت ، والصحيح عند العلماء إنها رجعت عن ذلك الاجتهاد وتابت . عن عائشة : لقد أعطيت تسعاً من أعطيتهن امرأة : لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر النبي أن يتزوجني ، ولقد تزوجني بكراً وما تزوج بكراً غيري ، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفته الملائكة في بيتي ، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإني لابنة خليفته وصدّيقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيبة عند طيب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً . وعن بعضهم : برأ الله أربعة بأربعة : برأ يوسف بلسان الشاهد { وشهد شاهد من أهلها } [ يوسف : 26 ] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه ، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إلى عبد الله ، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات ، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة سيد الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين .
التأويل : إذا حصل لأهل الله مسألة إلى غيره قيض الله له ما يرده إليه ، وأن النبي عليه السلام لما قيل له : أي الناس أحب إليك؟ قال : عائشة فساكنها وقال : يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة .
وقالت عائشة : إني أحبك وأحب قربك فالله تعالى حل عقدة الحب عن قلبه لحديث الإفك ورد قلب عائشة إلى حضرته حتى قالت حين ظهرت براءة ساحتها « بحمد الله لا بحمدك » . وقيل : الملامة مفتاح باب حبس الوجود بها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس { يوم تشهد عليهم } شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وبالحقيقة هي في الدنيا معجلة كقوله { تعرفهم بسيماهم } [ البقرة : 273 ] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقال الشاعر :
عيناك قد حكتا مبيتك ... كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرتك ... مبيت صاحبها عياناً
وإذا كانت الإمارة في الدنيا ظاهرة فهي في القيامة أولى فاللسان يشهد بالإقرار بقراءة القرآن ، واليد تشهد بأخذ المصحف ، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد ، والعين تشهد بالبكاء ، والأذن تشهد باستماع كلام الله . وعند الحكماء تظهر أنوار الملكات الحميدة على النفس من البدن وبالعكس كما تتعاكس أنوار المرايا المتقابلة ، ويعلمون أهل الوصول والوصال أن الله هو الحق المبين لا شيء في الوجود غيره لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وحينئذ يحق أن يقال : { الخبيثات } وهن الملوثات بلوث الوجود المجازي { للخبيثين } وهم أمثالهن { والطيبات } من لوث الحدوث { للطيبين } وهم أشكالهن ولا طيب إلا الله وحده .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
القراآت : { وليضربن } بكسر اللام على الأصل : عياش { جيوبهن } بضم الجيم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وهشام وعاصم غير الأعشى والبزي والعواس من طريق الهاشمي . وفي رواية خلف عن حمزة بإشمام الجيم الضم ثم يشير إلى الكسر وبضم الياء . الآخرون : بالسكر الخالص . { غير } بالنصب على الاستثناء أو الحال : ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد . الباقون : بالكسر على الوصف { آية المؤمنون } بضم الهاء في الحالين : ابن عامر . وقرأ ابو عمرو وعلي وابن كثير بألف في الوقف . الباقون بفتح الهاء بغير ألف في الوقف وبالف في الوصل .
الوقوف : { أهلها } ط { تذكرون } 5 { يؤذن لكم } ج للشرط مع العطف { أزكى لكم } ط عليمر 5 { متاع لكم } ط { تكتمون } 5 { فروجهم } ط { لهم } ط { ما يصنعون } 5 { جيوبهن } صل { عورات النساء } ص { زينتهن } ط { تفلحون } 5 { وإمائكم } ط { فضله } ط { عليهم } 5 { فضله } ط { خيراً } ق قد قيل : والوصل أوجه للعطف . { آتاكم } ط للعدول إلى حكم آخر الدنيا ط { رحيم } 5 { للمتقين } 5 .
التفسير : الحكم الرابع الاستئذان : لما كانت الخلوة طريقاً إلى التهمة ولذلك وجد أهل الإفك سبيلاً إلى إفكهم شرع أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان . وفي الآية أسئلة : الأول الاستئناس هو الأنس الحاصل بعد المجانسة قال الله تعالى { ولا مستأنسين لحديث } [ الأحزاب : 53 ] ولا يكون ذلك في الأغلب إلا بعد الدخول والسلام ، فلم عكس هذا الترتيب في الآية؟ جوابه بعد تسليم أن الواو للترتيب ، هو أن الاستئناس طلب الأنس وأنه مقدم على السلام . وقال جار الله : هو من باب الكفاية والإرداف لأن الأنس الذي هو خلاف الوحشة يردف الإذن فوضع موضع الإذن كأنه قيل : حتى يؤذن لكم . أو هو استفعال من آنس إذا أبصر ، فالمراد حتى تستكشفوا الحال ويبين هل يراد دخولكم أم لا . أو هو من الإنس بالكسر وهو أن يتعرف هل ثمَّ إنسان لأنه لا معنى للسلام ما لم يعلم أفي البيت إنسان أم لا . وعن ابن عباس وسعيد بن جبير : إنما هو « حتى تستأذنوا » فأخطأ الكاتب ولا يخفى ضعف هذه الرواية لأنها توجب الطعن في المتواتر وتفتح باب القدح في القرآن كله نعوذ بالله منه . الثاني : ما الحكمة في شرع الاستئذان؟ الجواب : كيلا يطلع الداخل على عورات ، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه ، ولئلا يوقف على الأحوال التي تخفيها الناس في العادة ، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ولذلك قال سبحانه { ذلكم } يعني الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور اي الدخول من غير إذن .
قال صلى الله عليه وسلم « من سبقت عينه استئذانه فقد دمر » واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب { لعلكم تذكرون } أي أنزل عليكم . أو قيل لكم : هذا إرادة أن تتعظوا أو تعملوا به . الثالث : كيف يكون الاستئذان؟ جوابه : استأذن رجل على رسول الله فقال : الج . فقال : لامرأة يقال لها روضة : « قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول » السلام عليكم أدخل « فسمع الرجل فقالها فقال : ادخل . ويؤيده قراءة عبد الله { حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا } وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته : حييتم صباحاً وحييتم مساء ثم يدخل ، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فمنع الله تعالى عن ذلك وعلم الأدب الأحسن . وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح ونحوه . وقال عكرمة : هو التسبيح والتكبير وقرع الباب بعنف والتصبيح بصاحب الدار منهي عنه وكذا كل ما يؤدي غلى الكراهية وينبئ عن الثقل . الرابع : كم عدد الاستئذان؟ الجواب روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال » الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون « ومثله عن أبي موسى الأشعري وقصته مع عمر مشهورة في ذلك . وعن قتادة الاستئذان ثلاثة : الأول يسمع الحي : الثاني ليتهيأ . والثالث إن شاؤا أذنوا وإن شاؤا ردوا . وينبغي أني كون بين المرات فاصلة وإلا كان الكل في حكم واحد . الخامس : كيف يقف على الباب؟ جوابه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكنه يقف من ركنه الأيمن أو الأيسر ، فإن كان للباب ستر كانت الكراهية أخف . السادس : قوله { حتى تستأنسوا وتسلموا } يدل على أنه يجوز الدخول بعد الاستئذان والتسليم وإن لم يكن ثمة إذن أو من يأذنن لأن » حتى « للغاية والحكم بعد الغاية يكون خلاف ما قبلها جوابه . سلمنا المخالفة لكن لا نسلم المناقضة ، وذلك أن قبل الاستئذان لا يجوز الدخول مطلقاً وبعده فيه تفصيل ، وهو أنه إن لم يجد فيها أحداً من الآذنين مطلقاً أو من يعتبر إذنه شرعاً فليس له الدخول وذلك قوله { فإن لم تجدوا فيها أحداً } اي على الإطلاق أو ممن له الإذن { فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم } اي حتى تجدوا من يأذن لكم أو من يعتبر إذنه ، وإن وجد فيها من له الإذن فإن أذن دخل وإن لم يأذن وقال ارجع رجع وهو قوله { وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى } أي الرجوع أطيب { لكم وأطهر } لما فيه من سلامة الصدر والبعد من الريبة . وفي قوله { والله بما تعملون عليم } نوع زجر للمكلف فعليه أن يحتاط كيف يدخل ولأي غرض يدخل وكيف يخرج .
وهل يقوم غير الإذن مقام الإذن؟ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « رسول الرجل إلى الرجل إذنه » وفي رواية أخرى « إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن » وقيل : إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان . والجمهور على أن إذن الصبي والعبد والمرأة معتبر وكذلك الهدايا لأجل الضرورة . وهل يعتبر الاستئذان على المحارم؟ « روي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : استأذن على أمي؟ قال : نعم . قال : إنها ليس لها خادم غيري أستأذن عليها كلما دخلت عليها . قال : أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل : لا . قال : فأستأذن » قال العلماء : إن كان المنع من الهجوم على الغير لأجل أنه لا يراه منكشف الأعضاء فتستثنى منه الزوجة وملك اليمين ، وإن كان لأجل أنه لا يراه مشغولاً بما يكره الاطلاع عليه فالمنع عام إلا إذا عرض ما يبيح هتك الستر كحريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره . التاسع : ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟ الجواب : قال الشافعي : لو فقأ عينه فهي هدر وتمسك بما روى سهل بن سعد « أنه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال : لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك ، إنما الاستئذان من النظر » وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه » قال أبو بكر الرازي : هذا الخبر مردود لوروده على خلاف الأصول ، فلا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه ضامناً وعليه القصاص إن كان عامداً ، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع . فمعنى الحديث لو صح أنه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم ثم منع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر ، وأجيب بالفرق فإنه إذا علم القوم دخوله عليهم احترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر على حين غفلة منهم اطلع على ما لا يراد الاطلاع عليه فلا يبعد في حكمة الشرع أن يبالغ ههنا في الزجر حسماً لمادة هذه المفسدة . جميع هذه الأحكام فيما إذا كانت الدار مسكونة فإن لم تكن مسكونة فذلك قوله { ليس عليكم جناح } الآية .
وللمفسرين فيه أقوال : الأول : قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرجال والسلع والبيع والشراء . يروى أن ابا بكر قال : يا رسول الله ، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت .
وقيل : هي الخربات يتبرز فيها الوتاع التبرز . وقيل : الأسواق . والأولى العموم . وإنما لم يحتج إلى الإذن دفعاً للحرج ، ولأنها ماذون في دخولها من جهة العرف . ثم ختم الآية بوعيد مثل ما تقدم الحكم الخامس ، غض البصر وحفظ الفرج عما لا يحل . وتخصيص المؤمنين بهذا التكليف عند من لا يجعل الكفار مكلفين بفروع الإسلام ظاهر ، وأما عند من يجعلهم مكلفين بالفروع أيضاً فالتخصيص للتشريف ، أو نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان التكليف وإن كان حالهم في الحقيقة كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها . قال أكثر النحويين : « من » للتبعيض والمراد غض شيء من البصر لأن غض كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق . وجوز الأخفش أن تكون « من » مزيدة . وقيل : صلة للغض أي ينقصوا من نظرهم . يقال : غضضت من فلان إذا انقضت من قدره . فالنظر إذا لم يكن من عمله فهو معفو موضوع عنه . وإعراب قوله { يغضوا } كما مر في سورة إبراهيم في قوله { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا } [ الآية : 31 ] قال الفقهاء : العورات على أربعة أقسام : عورة الرجل مع الرجل ، وعورة المرأة مع المرأة ، وعورة المرأة مع الرجل ، وبالعكس . أما الرجل مع الرجل فيجوز أن ينظر إلى جميع بدنه إلا إلى عورته ، وعورته ما بين السرة والركبة ، والسرة والركبة ليستا بعورة . وعند أبي حنيفة : الركبة عورة . قال مالك : الفخذ ليست بعورة وهو خلاف ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي : « لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي وميت . » فإن كان في نظره إلى وجه الرجل أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه . ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان واحد منهما في جانب الفراش لرواية أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد » ويكره المعانقة وتقبيل الوجه . إلا لولده شفقة . وتستحب المصافحة والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة ، ولا يجوز عند خوف الفتنة ، ولا تجوز المضاجعة أيضاً لما مر في الحديث . والصح أن الذمية لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول { أو نسائهن } أما عورة المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة فجيمع بدنها عورة لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والإعطاء . ويعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين . وقيل : ظهر الكف عورة . وفي هذا المقام تفصيل : قال العلماء : لا يجوز أن يعمد النظر إلى وجه الأجنبية بغير غرض فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى { قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم } ولقوله صلى الله عليه وسلم
« يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة » فإن كان هناك غرض ولا شهوة ولا فتنة فذاك والغرض أمور منها : أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفها . روى أبو هريرة أن رجلاً أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً . » ومنها إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها . ومنها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملاً حتى يعرفها عند الحاجة . ومنها أنه ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به . ومنها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون لأنه محل ضرورة . وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة ، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة ، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع . فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور قال صلى الله عليه وسلم « العينان تزنيان » وقيل : مكتوب في التوراة : النظر يزرع الشهوة في القلب ورب شهوة أورثت حزناً طويلاً . ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها . وإن كانت الأجنبية أمة فالأصح أن عورتها ما بين السرة والركبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يشتري الأمى « لا باس أن ينظر إليها إلا إلى العورة وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها » وقيل : إلا ما تبدي المهنة فيخرج منه أن رأسها وعنقها وساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة ، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف . وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة ولا يجوز لمسها ولا لها مسه لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطر .
وقال أبو حنيفة : يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه ، وأما إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجل . وعند أبي حنيفة : عورتها مالا يبدو عند المهنة ، فإن كانت مستمتعاً له كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها جاوز له أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج ، وكذا إلى فرج نفسه لما روي أن يورث الطمس . وقيل : لا يجوز النظر إلى فرجها ، فإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو مزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية .
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجبره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة » وأما عورة الرجل مع المرأة فإن كان أجنبياً منها فعورته معها ما بين السرة والركبة . وقيل : جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه . والأصح هو الأول لأن بدن المرأة في نفسه عورة بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن ، وبدن الرجل بخلافه . ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة « أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونه إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل فقال صلى الله عليه وسلم : احتجبا منه . فقالت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال : أعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ » وإن كان محرماً لها فعورته معها ما بين السرة والركبة ، وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها . ولا يجوز للرجل أن يجلس عارياً في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال : « الله أحق أن يستحي منه . » وعنه « إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله » ولما كان النظر بريد الزنا ورائد الفجور أمر بغض الأبصار أولاً ثم بحفظ الفروج عن الزنا والفجور ثانياً . وعن أبي العالية أن كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلاّ هذا فإنه أراد الاستثناء وأن لا ينظر إلى الفروج أحد ، وعلى هذا ففائدة التخصيص بعد التعميم أن يعلم أن أمر الفرج أضيق . وحين خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين ذكر أن ذلك الذي أمر به من غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم لأنهم يتطهرون بذلك من دنس الآثام ، ويستحقون الثناء والمدح ، وهذا لا يليق بالكافر . وفي قوله { إن الله خبير بما يصنعون } ولا ثاني له في القرآن إشارة إلى وجوب الحذر في كل حركة وسكون . وتفسير قوله { وقل للمؤمنات يغضضن من ابصارهن ويحفظن فروجهن } يعلم من التفصيل المتقدم . أما قوله { ولا يبدين زينتهن } فمن الأحكام التي تختص بالنساء في الأغلب . وقد يحرم على الرجل إبداء زينته للنساء الأجنبيات إذا كان هناك فتنة . قال أكثر المفسرين : الزينة ههنا أريد بها أمور ثلاثة : أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والحمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها . وثانيها الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلائد والإكليل والوشاح والقرط . وثالثها الثياب .
وقال : آخرون : الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلي وغير ذلك .
يدل على ذلك أن كثيراً من النساء يتفردن بخلقهن عن سائر ما يعدّ زينة . وفي قوله { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } إشارة إلى ذلك وكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار . قال القفال : بناء على هذا القول معنى قوله { إلا ما ظهر منها } إلا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية وذلك في النساء الحرائر الوجه والكفان ، وفي الإماء كل ما يبدو عند المهنة . وفي صوتها خلاف ، الأصح أنه ليس بعورة لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم يروين الأخبار للرجال . وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فذهبوا إلى أنه تعالى إنما حرم النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة لأجل المبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة إلا ما ظهر من هذه الزينة كالثياب مطللقاً إذا لم تصف البدن لرقتها ، وكالحمرة والوسمة في الوجه ، وكالخضاب والخواتيم في اليدين ، وما سوى ذلك يحرم النظر إليه . ولهذا قال { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } والخمر جمع الخمار وهي كالمقنعة . قال المفسرون : إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام وساعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن ، فأمر أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستتر بذلك أعناقهن ونحورهن وما حواليها من شعر وزينة . وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء شبيه الإلصاق . وعن عائشة : ما رأيت نساء خيراً من نساء الأنصار ، لما نزلت هذه الاية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان .
ثم بين أن الزينة الخفية يحل إبداؤها لاثنتي عشرة فرقة : الأولى بعولتهن أي أزواجهن والتاء لتأكيد الجمع كصقورة . الثانية : آباؤهن وإن علوا من جهة الأب والأم . الثالثة : آباء بعولتهن وإن علوا . الرابعة : أبناؤهن وإن سفلوا الخامسة : أبناء بعولتهن وإن سفلوا ايضاً . السادسة : إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما . السابعة : بنو إخوانهن . الثامنة : بنو أخواتهن وحكم أولاد الأولاد حكم اولاد فيهما . وهؤلاء كلهم محارم وترك من المحارم العم والخال ، فعن الحسن البصري أنهما كسائر المحارم في جواز النظر . وقد يذكر البعض لينبه على الجملة ولهذا لم يذكر المحارم من الرضاع في هذه الآية ، وكذا في سورة الأحزاب قال { لا جناح عليهن في آبائهن } [ الآية : 55 ] إلى آخر الآية . ولم يذكر البعولة ولا أبناءهم . وقال الشعبي : إنما لم يذكرهما الله تعالى لئلا يصفها العم عند ابنه والخال عند ابنه ، وذلك أن العم والخال يفارقان سائر المحارم في أوان أبناءهما ليسوا من المحارم ، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ومعرفة الوصف قريب من النظر ، وهذا أيضاً من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر . وإنما أبيح إبداء الزينة الخفية لهؤلاء المذكورين لاحتياجهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولا سيما في السفار للنزول والركوب .
وأيضاً لقلة وقوع الفتنة من جهاتهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب الأقارب . التاسعة : قوله { أو نسائهن } فذهب أكثر السلف غلى أن المراد أهل أديانهن ومن هنا قال ابن عباس : ليس للمسلمة أن تتجرد بين سناء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها . وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات . وقال آخرون : والعمل عليه إن المراد جميع النساء وقول السلف محمول على الأولى والأحب . العاشرة : قوله { أو ما ملكت ايمانهن } وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ويؤيده ما روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : « إنه ليس عليك بأس إنما هو ابوك وغلامك ، » وعن عائشة أنها قالت لذكوان : إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر . وعنها أنها كانت تمشط والعبد ينظر إليها . وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب : إن العبد ينظر إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة إذ ليس ملكها للعبد كملكه للأمة فلا خلاف أنها لا تستبيح بملك العبد شيئً من التمتع منه كما يملك الرجل من الأمة . وتحريم تزوج العبد لمولاته عارض غير مؤبد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهن ، فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب خصياً كان العبد او فحلاً . وأورد على هذا القول لزوم التكرار ضرورة أن الإماء من حملة نسائهن . وأجيب بأنه أراد بالنساء الحرائر كما أراد بالرجال الأحرار في قوله { شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] الحادية عشرة قوله { أو التابعين غير أولي الإربة } وهي الحاجة وهم البله . وأهل العنة الذين لا يعرفون شيئاً من أمور النساء إنما يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم أو شيوخ صلحاء لا حاجة بهم إلى النساء لعفة أو عنانة . عن زينب بنت أم سملة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة وقال : يا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان عنى عكن بطنها . فقال صلى الله عليه وسلم : « لا يدخلن عليكم هذا . » فأباح النبي صلى الله عليه وسلم دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة ، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء واوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه .
الثانية عشر قوله { أو الطفل } وهو جنس يقع على الواحد والجمع وهو المراد ههنا .
قال ابن قتيبة معنى { لم يظهروا } لم يطلعوا { على عورات النساء } والعورة سوأة الإنسان وكل مايستحيا منه . وقال الفراء والزجاج : هو من قولهم « ظهر على كذا » إذا قوي عليه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء . فعلى الأول يجب الاحتجاب ممن ظهر فيه داعية الحكاية ، وعلى الثاني إنما يجب الاحتجاب من المراهق الذي ظهرت فيه مبادي الشهوة ، قال الحسن : هؤلاء الفرق وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الظاهرة فهم على أقسام ثلاثة : فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها ، والثاني الأب والابن والأخ والجد وأبو الزوج وكل محرم من الرضاع أو النسب كل يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك . والثالث التابعون غير أولي الإربة ، وكذا المملوك لا بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة ، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعراً ولا بشراً ولا يصح للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب . فهذا ضبط هذه المراتب ثم علمهن أدباً آخر جميلاً بقوله { ولا يضربن بأرجلهن } قال ابن عباس : كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال . وقيل : كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين . وفي النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة ليعلم أن كل ما يجر إلىلفتنة يجب الاحتراز عنه ، فإن الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعياً له إلى مشاهدتهن ، ومنه يعلم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم يؤمن الفتنة ولهذا كرهوا أذان النساء ، ثم ختم الآية بالأمر بالدوام على التوبة والاستغفار لأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يكاد يقدر على رعاية الأوامر والنواهي كما يجب . قال العلماء : إن من أذنب ذنباً ثم تاب عنه لزمه كلما ذكر أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه عز وجل . وعن ابن عباس : اراد توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة . قال جار الله : من قرأ { آية المؤمنون } بضم الهاء فوجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف ، فلما سقطت اللف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها .
الحكم السادس : النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج ارشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة . وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء ، ويشمل الرجل والمرأة . قال النضر بن شميل : الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول : زوِّجوا اياماكم بعضهم من بعض .
وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين . قال : فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت افتى منكم أتأيم . وظاهر الأمر الوجوب إلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجباً لشاع في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشر ، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه . وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة كقوله صلى الله عليه وسلم « النكاح سنتي » وكقوله صلى الله عليه وسلم « من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح » وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه . واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته . نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤاً . استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها وإعترض أبو بكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها » وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي . والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر ، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال ، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضاً نزاع . واستدل ابو حنيفة بعموم الآية أيضاً على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه . قال الشافعي : من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء » والذي جاء لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم مالا يمكنه القيام بحقه ، وإن لم يكن به عجز وكان قادراً على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى . وقال أبو حنيفة : النكاح افضل . حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله { وسيداً وحصوراً } [ آل عمران : 39 ] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « أفضل أعمالكم الصلاة » وقال « أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن » وقال « احب المباحات إلى الله تعالى النكاح » والمباح ما استوى طرفاه ، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر .
والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر! ولو كان النكاح مساوياً للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك ، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم . فالاشتغال بالزراعة أيضاً أولى من النافلة للعلة المذكورة . وقد وقع الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح ، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال » وعنه صلى الله عليه وسلم « يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة » حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صوت النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع . وأيضاً النكاح يتضمن العدل . وقد ورد في الحديث « لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة » وقال صلى الله عليه وسلم « النكاح سنتي » وقال في الصلاة « إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل » ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله { وأحل لكم ما وراء ذلكم } [ النساء : 24 ] ومعنى { منكم } أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك . ومنهم من قال : أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب . ومنهم من قال : الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام .
ثم امر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين . واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضاً ، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم . وأيضاً الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد . ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح ، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح . وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد . أما قوله { إن يكونوا فقراء } فالأصح أن هذا ليس وعداً من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف ، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح . على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطاً بالمشيئة في قوله { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء } [ التوبة : 28 ] فالمطلق محمول على المقيد .
وقيل : أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا . وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد . وعن أبي بكر قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى . وعن ابن عباس : التمسوا الرزق بالنكاح . وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال : « عليك بالباءة . » وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم يتصور فقرهما وغناهما . والمفسرون قالوا : الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى ، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بعد في رجوعه إلى الكل { والله واسع } إفضاله ولكنه { عليم } يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي . وفيه إشارة إلى قيد المشيئة في الوعد المذكور . ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله { وليستعفف } أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه ، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف . وفي قوله { حتى يغنيهم } نوع تأميل للمستعففين . وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب .
الحكم السابع : المكاتبة : وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال { والذين يبتغون } ومحله إما رفع والخبر { فكاتبوهم } والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره { فكاتبوهم } والفاء للإيذان يتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة ، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض . وقال الأزهري : هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفس أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليَّ العتق ، وقيل : سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجباً عند الشافعي وندباً عند ابي حنيفة كما تجيء . والأجل يستدعي الكتابة لقوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمة فاكتبوه } [ البقرة : 282 ] قال محي السنة : الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى مالا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم ، وما يؤدى في كل نجم ويقول : إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه . ويقول العبد : قبلت وفي هذا الضبط أبحاث : الأول قال الشافعي : إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينوِ بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة ، فإن ما في يد العبد فهو ملك لاسيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بعين ملكه . فقوله « كاتبتك » كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته . وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر : لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله { فكاتبوهم } وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع .
الثاني : لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال . وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية ، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق ، فالكتابة ايضاً مثله . الثالث : قال الشافعي : لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين . روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر . وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام الإرفاق التنجيم ، وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود . الرابع : جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال : ويقبل عنه المولى . وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلاً بالغاً لأنه تعالى قال { والذين يبتغون } والصبي لا يتصور منه الطلب . الخامس : جوز أبو حنيفة أن يكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفاً مطلقاً ، لأن قوله { فكاتبوهم } خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله { فكاتبوهم } أمر إيجاب أو استحباب ، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيراً ، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت . ويروى أن عمر أمر إنساناً بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين ، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه . وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب لقوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب من قلبه » ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة ، وهذه طريقة المعاوضات أجمع . قال العلماء : إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له ، ومن هنا يكسب مولاه الثواب .
أما قوله { إن علمتم فيهم خيراً } قال عطاء : الخير هو المال كقوله { إن ترك خيراً } [ البقرة : 180 ] قال : بلغني ذلك عن ابن عباس . وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال ، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده ، وعن ابن سيرين : اراد إذا صلى . وعن النخعي : وفاء وصدقاً . وقال الحسن : صلاحاً في الدين . والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب . ويروى مثله مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه . واختلفوا أيضاً في المخاطب بقوله { وآتوهم } فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة ، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال ، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب .
والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما قاله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة « هو لها صدقة ولنا هدية » وعن كثير من الصحابة وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئاً من أموالهم ، أو يحطوا عنهم جزءاً من مال الكتابة . ثم اختلفوا في قدره فعن علي عليه السلام أنه كان يحط الربع ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاماً له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له بخمسة وثلاثين ألفاً ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع . والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول . عن ابن عباس : يضع له من كتابته شيئاً . وعن عمر أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام ، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال : استعن به على مكاتبتك . فقال : لو أخرته إلى آخر نجم ، فقال : أخاف أن لا أدرك ذلك ، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما روى عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال « إيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلاّ عشر أواق فهو عبد » فلو كان الحط واجباً لأسقط عنه بقدره ، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم . وايضاً لو كان الحط واجباً فإن كان معلوماً لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق ، ولو كان مجهولاً لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولاً فلا تصح الكتابة . وأيضاً أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس ، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم قال صلى الله عليه وسلم « من أعان مكاتباً في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه » . الحكم الثامن : المنع من إكراه الإماء على الزنا : كان لعبد الله بن ابيّ راس النفاق ست جوار : معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، يكرهن على البغاء - أي الزنا- فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] والنص وإن كان مختصاً بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضاً كذلك .