كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها . ومعنى { ما جعل } ما حكم بذلك ولا شرع . والبحيرة « فعيلة » من البحر الشق . وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول . قال أبو عبيدة والزجاج : كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجاً . وأما السائبة فإنها فاعلة من « ساب » إذا جرى على وجه الأرض . يقال ساب الماء وسابت الحية ، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت ، قال أبو عبيدة : كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذراً أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها . وقيل : هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت ، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعاً وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة . وقال ابن عباس : السائبة هي التي تسيب الأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل . وقيل هي العبد يعتق على أن يكون عليه ولاء ولا ميراث وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم ، إن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم ، وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم . فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها . وأما الحامي فيقال : حماه يحميه إذا حفظه . قال السدي : هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى وقيل : إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت . فإن قيل إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فام لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معيناً له على ما خلق لأجله ، أما العجم من الحيونات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها .
وأيضاً الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب ، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق . { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } قال ابن عباس : يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه « لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه » والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم { وأكثرهم لا يعقلون } يعني العوام والأتباع . ثم رد على أهل التقليد بقوله { وإذا قيل لهم } الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة . فنفى العقل عنهم هناك والعلم ههنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل . قال أهل البرهان : العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل ، وكان دعواهم ههنا أبلغ لقولهم { حسبنا ما وجدنا } فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ . ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون ، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه . تقول العرب : عليك زيداً وعندك عمراً يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل : خذ زيداً فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه . وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف ، بل الجار والمجرور معاً منقول الى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي أسم فعل . فإن قيل : ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب ، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا خطب أبو بكر فقال : إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضوعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب » وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى { عليكم أنفسكم } احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضاً ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات { لا يضركم } ضلال { من ضل إذا اهتديتم } فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم { فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك }
[ النساء : 84 ] وقيل : إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الأنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله . وكان ابن شبرمة يقول : من فرَّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر . وقيل : إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ ، يؤكده ما روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب : عجباً من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق . وقيل : كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال : إن هذا في آخر الزمان . ومثله ما روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل : سألت عنها خبيراً سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : « ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام ، وإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله » وقيل : كان الرجل إذا أسلم قالوا له : سفهت آباءك ولاموه فنزلت .
ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله { عليكم أنفسكم } أمر بحفظ المال . عن ابن عباس أن تميماً الداري وأخاه عدياً - وكانا نصرانيين - ، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص - وكان مسلماً مهاجر - خرجوا للتجارة . فلما قدموا الشأم مرض بديل فكتب كتاباً فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات . ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت . ومعنى { شهادة بينكم } شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر . وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند النزاع { وإذا حضر } ظرف للشهادة { حين الوصية } بدل منه . وفي هذا دليل على أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان .
وارتفع { اثنان } على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم أن يشهد اثنان . وفي قوله اثنين ، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان . وفي قوله { منكم } و { من غيركم } قولان : فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن { منكم } أي من أقاربكم و { من غيركم } أي من الأجانب . والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين . وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به . وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريح وابن سرين أن { منكم } أي من أهل ملتكم و { من غيركم } أي من كافر كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن . قال الشافعي : مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان والياً عليها فأخبراه بالواقعة . فقال أبو موسى : هذا أمر لم يقع بعد النبي صلىلله عليه وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما . والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في { منكم } لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين ، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضاً بالاتفاق ، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه ألبته ، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة ، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلماً ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة . وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب ، وبأن التحليف مشروط بالريبة وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما ، وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة . وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد ، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالباً . ومما يصلح أن يكون مؤكداً لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخاً لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولاً قوله تعالى { وأشهدوا ذوى عدل منكم } [ الطلاق : 2 ] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد ، ولا كذب أعظم من الفريه على الله تعالى وعلى رسله .
وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاماً لكلمة الإسلام . وموقع { تحبسونهما } أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل : فكيف نعمل إن ارتبنا؟ فقيل { تحبسونهما من بعد الصلاة } قال ابن عباس : من بعد صلاة دينهما . وقال عامة المفسرين : من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفاً عندهم بالتحليف بعده ، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر ، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب ، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها . وقال الحسن : المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وقيل : بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان ، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد . وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات ، وقال أبو حنيفة : يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان . ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية . والمقسم عليه قوله { لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى } وقوله { إن ارتبتم } اعتراض ، والضمير في { به } ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من الدنيا ولو كان من يقسم له قريباً منا ، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً كقوله { شهداء لله ولو على أنفسكم } وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل { ولا نكتم شهادة الله } [ النساء : 135 ] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها { إنا إذاً لمن الآثمين } أي إذا كتمناها كنا من الآثمين . ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عز وجل { شهادة } ثم ابتدأ { الله } بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه . وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول : الله لقد كان كذا والمعنى بالله { فإن عثر } قال الليث : عثر الرجل يعثر عثوراً إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وقريب منه العثار لأن العاثر لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه . والمعنى فإن حصل الإطلاع على أنهما استحقا إثماً - وهو كناية عن الخيانة والحنث في الحلف - { فآخران } خبر مبتدأ محذوف ، أو فاعل فعل محذوف ، أو صفة مبتدأ محذوف أي فالشاهدان أو فليشهد أو فشاهدان آخران { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم } قال في الكشاف : أي الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته .
وفي التفسير الكبير أنه المال . وإنما وصف موالي الميت بذلك لأنه أخذ مالهم وكل من أخذ ماله غيره فقد حاول ذلك الغير أن يكون تعلقه بذلك المال مستعلياً على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال . وارتفع { الأوليان } على أنهما خبر مبتدأ محذوف فكأنه قيل : ومن الآخران؟ فقيل : هما الأوليان ، ويجوز أن يكون بدلاً من الضمير في { يقومان } أو من { آخران } ويجوز أن يرتفع ب { استحق } أي من الذين استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال - قاله في الكشاف - ومعنى الأوليان الأقربان إلى الميت أو الأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما ، أو الأحقان باليمين إما على تقدير الرد وذلك عند الشافعي وكل من يرى رد اليمين على المدعي ، وإما لانقلاب القضية عند من لا يرى ذلك كأبي حنيفة وأصحابه ، فإن من أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادّعى الدين أوّلاً لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه . وفي هذه القصة ادعى الوصيان أن الميت باع منهما الإناء ، والورثة أنكروا فكان اليمين حقاً لهم . ومن قرأ { الأوّلين } على الجمع فعلى أنه نعت ل { الذين استحق عليهم } أو منصوب على المدح . ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة أو التقدم في الذكر في قوله { يا أيها الذين آمنوا } وكذلك { اثنان ذوا عدل منكم } ذكرا قبل قوله قرأ { أو آخران من غيركم } ومن قرأ { استحق } على البناء للفاعل { عليهم الأوليان } فقد قال في الكشاف : معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين . وفي التفسير الكبير أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصية ، ولما خانا في مال الوصية صح أن يقال : إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان . روي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو إنه لم يجد منا خيانة في هذا المال فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة ، ثم باعاه فوجد بمكة . وقيل : لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك ورثته فطلبوه منهما فقالا : كنا قد اشتريناه . فقالوا : ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئاً فقلتم لا؟ فقالا : لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر وكتمنا . فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى { فإن عثر على أنهما استحقا } الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة فحلفا بالله بعد العصر { لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا } في طلب هذا المال وفي نسبتهم الى الكذب والخيانة ، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء اليهما وإلى أولياء الميت .
وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه : صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب الى الله تعالى . وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فقال : حلفت كذباً وقد بعت الإناء أنا وصاحبي بألف وقسمنا الثمن ، ثم دفع خمسمائة من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى ودفع الألف إلى أولياء الميت { ذلك } الحكم الذي شرعناه والطريق الذي نهجناه أقرب إلى { أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي كما هو في الواقع { أو يخافوا أن تردّ } في مثل هذه القضية { أيمان } على الورثة { بعد أيمانهم } وهذا تفسير من يرى ردّ اليمين ، وأما من لا يرى ذلك فالمعنى عنده أن تكرّ أيمان شهود آخرين لانقلاب المدعى عليه مدعياً وعلى التقديرين يظهر كذبهم . والحاصل أن هذا الحكم يصير باعثاً للشهود على أداء حق الشهادة للداعي أو الصارف { واتقوا الله } في الأيمان { واسمعوا } مواعظه سماع قبول { والله لا يهدي القوم الفاسقين } الخارجين عن مناهج شرائعه وأحكامه وفيه من الوعيد ما فيه . قال المفسرون : هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً . وروى الواحدي في البسيط عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام ، ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الحكم هذه الآية منسوخ .
ثم إنه سبحانه ختم الأحكام بوصف أحوال القيامة وذكر بعض ما سيجري هناك من الخطاب والعتاب جرياً على عادته في هذا الكتاب من خلط التكاليف بالإلهيات والنبوّات وأحوال المعاد فقال { يوم يجمع الله الرسل } قال الزجاج : تقديره واتقوا الله يوم كذا لا على أنه ظرف لأنهم غير مأمورين بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على أنه بدل أشتمال من اسم الله ، ويجوز أن يكون ظرفاً لقوله { لا يهدي } أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذٍ ، أو منصوباً بإضمار « اذكر » ، أو ظرفاً لما يجيء بعده وهو { قالوا } وعلى هذين الوجهين تكون الآية منقطعة عما قبلها . و « ماذا » منصوب ب « أجبتم » ولكن انتصاب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم ، ولو أريد الجواب لقيل : بماذا أجبتم . وفائدة السؤال توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤدة توبيخاً للوائد . ثم ظاهر قوله { لا علم لنا } يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم ، فالجمع بين هذا وبين قوله { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] الآية مشكل . فقال جمع من المفسرين : إن القيامة زلازل وأهوالاً تزيل العقول؛ فالأنبياء عندها ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون : لا علم لنا ، فإذا عادت إليهم عقولهم شهدوا للأمم .
ولا يرد عليه قوله { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 31 ] { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] لأن مواقف القيامة مختلفة ، ولأن عدم الخوف من العاقبة لا ينافي الحيرة والدهشة أوّلاً . وقال آخرون المراد منه المبالغة في توبيخ الكفرة فإن ذلك هو المقصود من السؤال كما يقول الواحد لغيره : ما تقول في فلان؟ فيقول : أنت أعلم به مني فكأنك قلت : لا يحتاج فيه الى شهادة لظهوره . وفيه مع التوبيخ إظهار لتشكي الأنبياء ممن كذبوهم وعادوهم . وقال ابن عباس : نفوا العلم عن أنفسهم عند علام الغيوب ليعلم أن علمهم هناك كلا علم . وقيل : المراد نفي العلم بخاتمة أحوالهم وما كان منهم بعد وفاتهم وإنما الأمور بخواتيمها . وقال في التفسير الكبير : إن الذي عرفوه منهم في الدنيا كان مبنياً على ظاهر أحوالهم كما قال : نحن نحكم بالظاهر وكان ظناً غالباً والأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأمور وبواطنها فلهذا نفوا العلم فإن الظن لا عبرة به في القيامة من أن السكوت وتفويض الأمر إلى الأعلم الأعدل أقرب إلى الأدب .
وقرىء { علام الغيوب } بالنصب على أن الكلام قد تم عند قوله { أنت } أي أنت الموصوف بالجلال والكبرياء ، ثم نصب { علام الغيوب } على الاختصاص أو على النداء . ثم عدّد أنواع نعمه على عيسى عليه السلام واحدة فواحدة تنبيهاً على أنه عبد وليس بإله وتوبيخاً للمتمردين من الأمم ، وأولى الأمم بذلك النصارى الطاعنون في ذات الله ، سبحانه باتخاذ الصاحبة والولد . وموضع { إذ قال } رفع بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله أو نصب بإضمار « اذكر » ، أو هو بدل من { يوم يجمع } وإنما ذكر القول بلفظ الماضي دلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت كما يقال : الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم ، أو ورد على الحكاية كقول الرجل لصاحبه : كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا كذا . ومحل { يا عيسى } مضموم على أنه منادى مفرد معرفة ، أو مفتوح لأنه وصف بابن مضاف إلى علم وهو المختار للتخفيف وكثرة الاستعمال { نعمتي عليك } أراد الجمع ووحدت لأنه مضاف يصلح للجنس . وإنما قال : { وعلى والدتك } لأن النعمة على الولد نعمة على أبويه ، ولأن مكارم الأخلاق دليل على طيب الأعراق . { إذ أيدتك } بدل { من نعمتي } أي قوّيتك { بروح القدس } أي بجبريل والقدس هو الله كأنه أضافه إلى نفسه تعظيماً له ، أو بالروح الطاهرة المقدسة وقد تقدم في البقرة { تكلم الناس } حكاية حال ماضية { في المهد وكهلاً } في هاتين الحالتين من غير تفاوت { وإذ علمتك الكتاب } الخط أو جنس الكتب { والحكمة } النظرية والعلمية { والتوراة والإنجيل } يعني الإحاطة بالأسرار الإلهية بعد العلوم المتداولة { فتنفخ فيها } الضمير للكاف لا للهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء ، وكذلك الضمير في { فتكون } والكاف مؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي كهيئة الطير ومذكر في الظاهر فلهذا عاد الضمير إليه مذكراً تارة كما في آل عمران ، ومؤنثاً أخرى كما في هذه السورة .
وكرر { بإذني } أي بتسهيلي ليعلم أن الكل بأقدار الله تعالى وتمكينه وإظهاره الخوارق على يديه وإلا فهو عبد كسائر عبيده . { وإذ كففت } يروى أنه لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى برفعه إلى السماء . { إن هذا إلا سحر مبين } من قرأ بغير ألف أشار إلى ما جاء به أو أراد أنه ذو سحر فأطلق عليه الحدث مبالغة ، ومن قرأ بالألف أشار الى الرجل . واللام في { البينات } يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن يراد بها المعجزات المذكورة . وذكر قول الكفار في حقه { إن هذا إلا سحر مبين } يحتمل ان يكون من تمام القصة استطراداً ، ويمكن أن يراد بذلك تعداد النعم أيضا لأن كل ذي نعمة محسود ، فطعن الكفار فيه يدل على علو شأنه وسموّ مكانه .
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ولابتهاجه بهذه النعم الجسام والمنن العظام كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئاً لغد يقول مع كل يوم رزقه ، لم يكن له بيت فيخرب ، ولا ولد فيموت ، أينما أمسى بات .
{ وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا } إن كانوا أنبياء فظاهر وإلا فالوحي بمعنى الإلهام كقوله { وأوحى ربك إلى النحل } [ النحل : 68 ] { وأوحينا إلى أم موسى } [ القصص : 7 ] وهذا أيضاً من جملة النعم لأن كون الإنسان مقبول القول عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى . وقدم الإيمان على الإسلام ليعلم أنهم آمنوا بقلوبهم . وانقادوا بظواهرهم { هل يستطيع ربك } من قرأ بالتاء وبالنصب فظاهر والمراد هل تستطيع سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله؟ ومن قرأ بالياء وبالرفع فمشكل لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا آمنا فكيف يتصوّر مع الإيمان شك في اقتدار الله تعالى؟ وأجيب بوجوه منها : أن حكاية الإيمان عنهم لا يوجب كمالهم وإخلاصهم في ذلك ولهذا قال لهم عيسى { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ومنها أنهم طلبوا مزيد الإيقان والطمأنينة ولهذا قالوا { وتطمئن قلوبنا } ومنها أنهم أرادوا هل هو جائز في الحكمة أم لا ، وهذا على أصول المعتزلة من وجوب رعاية الأصلح ، أو أرادوا هل قضي بذلك وعلم وقوعه أم لا ، فإن خلاف معلومه غير مقدور وهذا عند الأشاعرة . ومنها قول السدّي إن السين زائدة وكذا التاء أي هل يطيع ربك؟ ومنها لعل المراد بالرب جبريل لأنه كان يربيه . ومنها أن المراد بالاستفهام التقرير كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول : هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ يريد أن ذلك أمر جلي لا يجوز للعاقل أن يشك فيه .
قال الزجاج : المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها . وذلك أنها لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام فإذا لم يكن عليها طعام فهي خوان . وقال ابن الأنباري : هي من مادة إذا أعطاه كأنها تعطي من تقدم إليه . وقال أبو عبيدة : هي بمعنى « مفعولة » مثل { عشية راضية } [ الحاقة : 21 ] أي مرضية كأن صاحبها أعطاها الحاضرين . قال عيسى { اتقوا الله } في تعيين المعجزة فإنه كالتحكم . وأيضاً اقتراح معجزة بعد ظهور معجزات كثيرة تعنت ، أو أمرهم بالتقوى ليتوسلوا بها إلى المطلوب { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 3 ، 2 ] فأجاب الحواريون بأنا لا نطلب هذه المعجزة بمجردها ولكنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا ولا نجد طعاماً آخر - يروى أنهم سألوها في مفازة على غير ماء ولا طعام - وأن نزداد يقيناً وعرفاناً وطمأنينة فإن التي شاهدناها منك معجزات أرضية وهذه سماوية فتكون أعجب وأغرب ، وأن نعلم صدقك في دعوى النبوّة أو فيما وعدتنا وذلك أنه كان قال لهم : صوموا ثلاثين يوماً ، وإذا تم صومكم فكل ما سألتموه الله تعالى فإنه يعطيكم . وإذا شاهدنا المعجزة كنا عليها من الشاهدين للذين لم يحضروها من بني إسرائيل ، أو نكون من الشاهدين لله تعالى بالقدرة ولك بالنبوة { تكون لنا عيداً } صفة للمائدة أو استئناف . وقرىء بالجزم جواباً للأمر . كان نزولها يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيداً . والعيد ما يعود إليك في وقت معلوم ومنه العيد لأنه يعود كل سنة بفرح جديد { لأولنا وآخرنا } بدل من لنا بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا ، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم ، أو للمقدّمين منا والأتباع . وقرىء { لأولانا وأخرانا } بمعنى الأمة أو الجماعة . فقول عيسى { ربنا } ابتداء بذكر الحق { وأنزل علينا } انتقال من الذات إلى الصفات ، وقوله { تكون لنا عيداً } إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها بل من حيث إنها صادرة عن المنعم . وقوله { وآية منك } إشارة إلى كون المائدة دليلاً لأصحاب النظر والاستدلال وقوله { وارزقنا } إشارة إلى حصة النفس فالحواريون قدّموا غرض النفس وأخروا الأغراض الدينية ، وأن عيسى بدأ بالأشراف حتى انتهى إلى الأخس ثم قال { وأنت خير الرازقين } وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق ، وعند هذا يظهر التفاوت بين النفوس الكاملة والناقصة والمشرقة والمظلمة . اللهم اجعلنا من أهل الكمال والإشراق بعميم فضلك وجسيم طولك { منزلها } بالتخفيف والتشديد بمعنى . وقيل : بالتشديد للتكثير وبالتخفيف مرة واحدة { عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين } قال ابن عباس : يريد مسخهم خنازير . وقيل : قردة . وقيل جنساً من العذاب لا يكون مؤخراً إلى الآخرة . { وعذاباً } نصب على المصدر أي تعذيباً والضمير في { لا أعذبه } للمصدر ، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء في الموضعين ، فقيل : أعذبه بعذاب لا أعذب به أحداً ، وأراد بالعالمين عالمي زمانهم .
واختلف في أن عيسى عليه السلام سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل . أما نزولها فقد قال مجاهد والحسن : إن المائدة ما نزلت بل القوم لما سمعوا العذاب استغفروا وقالوا : لا نريدها وأكدوا هذا القول بأنه وصف المائدة بكونها عيداً لأولهم وآخرهم ، فلو نزلت لبقي العيد إلى يوم القيامة . وقال جمهور المفسرين : إنها نزلت لأنه سبحانه وعد إنزالها بقوله { إني منزلها عليكم } ثم إن يوم نزولها كان عيداً لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم . روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس الصوف ثم قال : اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين ، غمامة فوقها وأخرى تحتها ، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال : اللهم اجعلني من الشاكرين ، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة . ثم قال لهم : ليقم أحسنكم عملاً يكشف عنها ويذكر اسم الله ويأكل منها ، فقال شمعون رأس الحواريين : أنت أولى بذلك . فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال : بسم الله خير الرازقين . فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسماً ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث ، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد . فقال شمعون : يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال : ليس منهما ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية ، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله . فقال الحواريون : يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال : يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها : عودي كما كنت فعادت مشوية . ثم طارت المائدة ثم عصوا الله بعدها فمسخوا قردة وخنازير . وقيل إن عيسى عليه السلام كان شرط عليهم أن لا يسرفوا في الأكل ولا يدخروا فعصوا وادخروا فمسخوا ، { وإذ قال الله } معطوف على مثله . والصحيح أن هذا القول أيضاً يوم القيامة لقوله عقيب ذلك { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } وقيل : هذا عند رفع عيسى عليه السلام نظراً إلى أن « إذ » للماضي وقد مر توجيه ذلك . { أأنت قلت } استفهام بطريق الإنكار والغرض منه توبيخ النصارى . قال بعض المشككين : إن أحداً من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى عليه السلام وأمه مع القول بنفي إلهية الله تعالى . وأجيب بأن الإله هو الخالق وأنهم يعتقدون أن خالق المعجزات والكرامات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى ومريم وليس لقدرة الله سبحانه في ذلك مدخل ، فبهذا التأويل صح ما حكي عنهم .
وأقول : يشبه أن يكون المراد بقوله { من دون الله } أي بعد الله فيكون التوبيخ على التثليث . أو المراد أنه لما دل البرهان على نفي تعدد الإله فمن قال بإلهية عيسى أو أمه لزمه القول بنفي المعبود الحق تعالى عن ذلك ولهذا قال عيسى { سبحانك } أي أنزهك تنزيهاً من أن يكون لك شريك . ثم لم يجب بأني قلت أو ما قلت لأن ذلك يجري مجرى الطهارة والتبرئة بل أجاب بقوله { ما يكون } أي ما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله إظهاراً لغاية الخضوع والاستكانة . ثم فوّض الأمر إلى علمه المحيط بالكل فقال { أن كنت قلته فقد علمته } ثم علل ذلك بقوله { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك . وذكر النفس ثانياً لأجل المشاكلة وهو من فصيح الكلام ، أو تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي ، أو تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك ، أو تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل - عبارات للمفسرين - ثم أكد ما ذكر بقوله { إنك أنت علام الغيوب } « أن » في قوله { أن اعبدوا الله } إن جعلتها مفسرة فالمفسر إما فعل القول أو فعل الأمر ولا وجه لكليهما . أما فعل القول فيحكى بعده الكلام بلا « أن » فيقال : مما قلت لهم إلا اعبدوا الله اللهم إلا أن يقال : إن المضاف محذوف والتقدير ما أمرتني بقوله ، فيكون التفسير الصريح القول المقدر ، وصريح القول المقدّر كالفعل المؤوّل بالقول في عدم الظهور حتى يجوز توسيط « أن » . وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله ، فلو فسرته ب { اعبدوا الله } لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم ، وإن جعلتها مصدرية عند من يجوّز دخولها على الطلبية ، فإن كان بدلاً من { ما أمرتني } والمبدل في حكم السقوط كان المعنى ما قلت لهم إلا عبادته ولا يستقيم ، لأن العبادة لا تقال ، وإن جعلته بدلاً من الهاء في { به } لم يصح أيضاً لأنه يؤل المعنى بعد طرح المبدل إلى قولك إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله فيبقى الموصول بلا عائد . فإذن الوجه أن يحمل فعل القول على معناه فيكون أصل المعنى ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم إلا أنه وضع القول موضع الأمر رعاية للأدب كيلا يجعل نفسه وربه آمرين ودل على الأصل بذكر « أن » المفسرة . قال في الكشاف : ويجوز أن تكون « أن » مصدرية عطف بيان للهاء لا بدلاً ، وحينئذ يبقى العائد بحاله { وكنت عليهم شهيداً } كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من التدين بما يوجب التفكير { ما دمت فيهم } مدة دوامي فيما بينهم { فلما توفيتني } بالرفع إلى السماء { كنت أنت الرقيب } الحافظ { عليهم } المراقب لأحوالهم { وأنت على كل شيء شهيد } من الشهادة أو من الشهود بمعنى الحضور .
{ وإن تغفر لهم } فيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى هذا القول والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب أن قوله لعيسى عليه السلام { أأنت قلت الناس } مبني على أن قوماً من النصارى حكوا عنه هذا الكلام ، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافراً بل يكون مذنباً فقط ، ولو سلم أنه أشرك فغفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لأن العقاب حق الله على المذنب وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة ، بل كلما كان الجرم أعظم كان العفو أحسن ، إلا أن الدليل السمعي في شرعنا دل على أنه لا يكون فلعل هذا الدليل السمعي لم يكن موجوداً في شرع عيسى عليه السلام ، أو لعل عيسى جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه . أما من زعم أن هذه المناظرة والمحاورة إنما كانت عند رفعه إلى السماء فلا إشكال أصلاً لأن المراد إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك ، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم { فإنك أنت العزيز } القادر على ما تريد { الحكيم } في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك ، وفي مصحف عبد الله { فإنك أنت الغفور الرحيم } وضعفه العلماء لأن ذلك يشعر بكونه شفيعاً لهم لا على تفويض الأمر بالكلية إلى حكمه تعالى ، والمقام هذا لا ذاك ، وعن بعضهم أن ذكر الغفور والرحيم يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة ، وأما العزة والحكمة فلا يوجبان إلا التعالي عن جميع جهات الاستحقاق ، فحصول المغفرة بعد ثبوت هذا الاستغناء والعزة يكون أدل على كمال العفو والرحمة فإن العفو عند المقدرة . قال بعض العلماء : في الآية نوع شفاعة من عيسى عليه السلام لفساق أمته ، فلأن يثبت ذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لفساق أمته أولى { هذا يوم ينفع } من قرأ بالرفع فظاهر وأنه في تقدير الإضافة أي هذا يوم منفعة الصادقين ، ومن قرأ بالنصب فإما على أنه ظرف ل { قال } ، وإما على أن هذا مبتدأ والظرف خبر أي هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع في هذا اليوم كقولك : القتال يوم السبت . وقال الفراء : يوم أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في « يومئذ » وخطأه البصريون وقالوا : إنما يبنى الظرف إذا أضيف إلى المبنى كالماضي في قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا ...
أو مثل « لا » في قوله تعالى { يوم لا تملك } [ الانفطار : 19 ] وأجمعوا على أن هذا اليوم يوم القيامة . والمراد أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة كما قال قتادة : متكلمان تكلما يوم القيامة : أما إبليس فقال { إن الله وعدكم الحق } [ إبراهيم : 22 ] فصدق وكان قبل ذلك كاذباً فلم ينفعه ، وأما عيسى فكان صادقاً في الدنيا وفي الآخرة فنفعه صدقه . وفي هذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } { رضي الله عنهم ورضوا عنه } هما متلازمان لأن رضا الله عن العبد في رعاية وظائف العبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] وإذا صحح الإنسان نسبة العبودية علم أن العبد لا يكون له إرادة واختيار فتكون إرادته مغمورة في إرادة ربه . { ذلك الفوز العظيم } إشارة إلى جميع المذكورات أو إلى الجزء الأشرف الأقرب وهو الرضوان { ما فيهن } لم يقل « ومن فيهن » ليكون أدل على العموم ، ولينبه على أن عقول ذوي العقول وعلوم أرباب العلوم بالنسبة إلى علمه كلا علم ، وإنما هم وغيرهم تحت قهره وتسخيره سواء . واعلم أنه سبحانه افتتح السورة بقوله { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] وهو الشريعة والبداية وختم السورة بهذه الآية الدالة على فناء الكل في جنب جلاله وكبريائه وهو الحقيقة والنهاية ، فما أحسن هذا النسق! وأيضاً في السورة بيان الشرائع والأحكام الكثيرة والمناظرة مع اليهود والنصارى ، فهذا الاختتام ذكر فيه أن سبحانه مالك لجميع الممكنات والكائنات موجد لجميع الأرواح والأجساد ليصح التكليف على أيّ وجه أراد ، وليكون رداً على اليهود بحكم المالكية في نسخ شريعة موسى ووضع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وليكون رداً على النصارى في أن عيسى ومريم عليهما السلام داخلان في المخلوقات موجودان بإيجاد الله ولا معنى للعبودية إلا هذا . وأيضاً لما أخبر عن فناء وجودهم المجازي لم يبق هناك مجيب فأجاب بنفسه { لله ملك السموات والأرض } كقوله { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ولعل في هذه الخاتمة من الأسرار أضعاف ما عثرنا عليه والله تعالى أعلم بأسرار كتابه .
التأويل : أخبر عن كثرة السؤال أنها تورث الملال وذلك أن علوم القال غير علوم الحال ، والصنف الأول يحمد فيه السؤال والثاني يذم فيه ذلك إذ يحصل بالعيان لا بالبرهان كما كان حال الأنبياء عليهم السلام مع الله { وكذلك نرى إبراهيم } [ الأنعام : 75 ] { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 18 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « أرنا الأشياء كما هي » وقال الخضر لموسى عليه السلام { فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء } [ الكهف : 70 ] وقال موسى في الثالثة { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } [ الكهف : 76 ] فإن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم . وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } أي إن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق فاسألوا عنها بعد نزول القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم .
{ والله غفور } لمن تاب من طلب علوم الحقائق بالقال { حليم } لمن يطلب بالحال فيصدر عنه في أثناء الطلب سؤال { قد سألها قوم من قبلكم } كقدماء الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال ، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال { ما جعل الله من بحيرة } قال الشيخ المحقق نجم الدين : المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق حديد ويحلقون لحيتهم { ولا سائبة } هم الذين يضربون في الأرض خليعي العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة { ولا وصيلة } هم أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد { ولا حام } وهو المغرور بالله يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفات الشريعة . { وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله } من الأحكام { وإلى الرسول } لمتابعته { قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا } أي مشايخنا وأهل صحبتنا { أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً } من الشريعة والطريقة { ولا يهتدون } إلى الحقيقة . { عليكم أنفسكم } أي اشتغلوا أوّلاً بتزكية نفوسكم ثم بإرشاد الغير فإن الفريق الذي لم يتعلم السباحة إذا تشبث به مثله هلكا معاً { إلى الله مرجعكم جميعاً } فللطالبين بجذبات العناية وللمضلين بسلاسل القهر والنكاية { إذا حضر أحدكم الموت } أي النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضة والمجاهدة فتوصي بصفاتها لورثتها وهم القلب وأوصافه والوصيان { اثنان ذوا عدل منكم } هما العقل والسر من الروحانيات ، { أو آخران } من غير الروحانيات هما الوهم والخيال من النفسانيات . فالعقل والسر يشهدان الحق وإن كان على ذي قرابة الروحانيات ، والوهم والخيال شهادتهما الصدق والكذب . { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي سافرتم في السفليات { فأصابتكم مصيبة الموت } أي فتصيب النفس جذبة الحق فتموت { تحبسونهما } إن كنتم في بعد من الروحانيات { من بعد الصلاة } من بعد حضورهما مع الله وتوجيههما إلى الحق ومراقبة تامة ، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق ويدفعا تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته ، ولا يصرفانها في شيء من السفليات فإن كل خلق إذا استعملته النفس كان صفة ذميمة ، فإذا استعمله القلب صار وصفاً محموداً كالحرص إذا استعملته النفس في طلب الدنيا ولذتها كان وصفاً مذموماً ، وإذا استعمله القلب في طلب العلوم والكمالات صار ممدوحاً . { فإن عثر على أنهما استحقا إثماً } بأن مالا إلى حظ من الحظوظ السفلية { فآخران } من صفات القلب هما : التذكر والفكر الصائب ينظران في عواقب الأمور ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا والباقي خير من الفاني { لشهادتنا أحق من شهادتهما } لأن الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ بكتمان الحقوق ، والتذكر والتفكر مالا إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ .
{ أن يأتوا بالشهادة على وجهها } أي العقل والسر يأتيان في بدو الأمر باستعمال صفات النفس في السعادات الأخروية ، أو يخافان عواقب الأمور بأن يشددوا على أنفسهم بالاستمهال وتضييع الأعمال وإفساد الاستعداد ، ثم بالتفكر والتذكر يردّ الأمر إلى وجوب رعاية الحقوق فيحتاجان إلى كثرة الرياضة . { ماذا أجبتم قالوا } وهم مستغرقون في بحر الشهود . { لا علم لنا } اي ببواطن الأمور وحقائقها . { وإذ أوحيت إلى الحواريين } أي في عالم الأرواح يوم الميثاق قالوا بسبب ذلك التعارف في عالم الأشباح آمنا . إن بعض الحواريين المقلدين في الإيمان قالوا { يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } فما راعوا الأدب مع نبيهم حيث لم يقوموا يا رسول الله أو يا روح الله ، ولا مع ربهم حيث تشككوا في كمال قدرته . ثم أظهروا دناءة همتهم حيث طلبوا بواسطة مثل عيسى من واهب المواهب مائدة جسمانية لا فائدة روحانية فقال عيسى { اللهم ربنا أنزل علينا مائدة } الأسرار والحقائق من سماء العناية عليها أطعمة الهداية { تكون لنا } أي لأهل الحق والصدق { عيداً } نفرح بها { لأولنا وآخرنا } أي لأول أنفاسنا وآخرها فإن أهل الحق يراقبون الأنفاس لتصعد مع الله وتهوي مع الله { وأنت خير الرازقين } لأن الذي ترزق رزق منك والذي يرزق ظاهراً من غيرك فهو أيضاً منك بالواسطة ، وما بالذات خير مما بالواسطة . { فمن يكفر بعد منكم } بأن لا يقوم بحقها ويجعلها شبكة يصطاد بها الدنيا فأني أرده من المراتب الروحانية إلى المهالك الحيوانية وهو المسخ الحقيقي ، ويوم القيامة أيضاً بحيث يحشرون على صفاتهم التي ماتوا عليها كما قال صلى الله عليه وسلم « يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه » { أأنت قلت للناس } الخطاب مع الأمة إلا أن من سنته سبحانه أن لا يكلم الكفار فكلم عيسى بدلاً منهم ، أو المراد بالقول أمر التكوين فالمعنى أأنت خلقت فيهم اتخاذك وأمك الهين أم أنا خلقت ذلك فيهم خذلاناً لهم؟ { إنك أنت علام الغيوب } الغيب ما غاب عن الخلق . ويحتمل أن سيعلمه الخلق ، وغيب الغيب ما غاب عنهم ولا يمكنهم أن يعلموه ، والله حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
القراآت : { وأنشأنا } بغير همز حيث كان : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف . { ولقد استهزىء } وبابه بالهمز : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم ، وقرأ يزيد والشموني وحمزة في الوقف بغير همز الباقون بغير همز مطلقاً { فحاق } بالإمالة حيث كان حمزة .
الوقوف : { والنور } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { يعدلون } ه { أجلاً } ط { تمترون } ه { وفي الأرض } ج وقيل : لا وقف ليصير التقدير وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وفيه بعد ، بل المعنى وهو المستحق للعبودية في أهل السموات وأهل الأرض . { تكسبون } ه { معرضين } ه { لما جاءهم } ط للابتداء بالتهديد { يستهزؤن } ه { مدراراً } ص لعطف المتفقين { آخرين } ه { سحر مبين } ه { عليه ملك } ط { لا ينظرون } ه { يلبسون } ه { يستهزؤن } ه { المكذبين } ه .
التفسير : عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت ، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملؤا ما بين الأخشبين » فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكاً أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزاً لا يذلنا بعدها أبداً فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه » ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل .
وأعلم أن قوله { الحمد لله } مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة ، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 1 ] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة . أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق ، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه . والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله . فلا ينبغي أن يمدح إلا هو ، ولا أن يثنى إلا عليه ، ولا أن يشكر ويحمد إلا له .
ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف .
أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها
وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم ، فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي . قال بعض العلماء : السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق لأرض مقدم على خلق السماء . وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض ، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله { ومن الأرض مثلهن } [ الطلاق : 12 ] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين ، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية ، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله . وأيضاً إن لحركة كل فلك أوّلاً لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير ، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال . وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلاً فاختصاص ابتداء حدوثة بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية . وأيضاً إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام ، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء . هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام ، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي - الآباء - في العنصريات - وهي الأمهات - لتحصيل المواليد الثلاثة : المعادن والنباتات والحيوانات ، ارتقينا من ذلك أيضاً إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات . أما قوله { وجعل الظلمات والنور } فمعناه أحدث وأنشأ ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد ، ولو كان بمعنى « صير » اقتضى مفعولين . وإنما لم يقل « وخلق » لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله { وجعل منها زوجها } [ النساء : 1 ] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر . وقيل : لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار ، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة . ووحد النور لأن النار واحد وهو منها ، والظلمة والنور ههنا هما الأمران المحسوسان بالبصر ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض . وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق ، والنور نور الإسلام واليقين ، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلاً وتلك المراتب كثيرة ، أو لأنه قصد بالنور الجنس .
وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى . وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق على وجودها ، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور . وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره . وقوله : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معطوف على قوله : { الحمد لله } والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم ، أو على { خلق السموات } معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك . فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول ، وعلى الثاني هو من العدل . ومعنى « ثم » ههنا وفي قوله { ثم أنتم تمترون } تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر . ثم ذكر دليلاً آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال { هو الذي خلقكم من طين } أي من آدم لأنه مخلوق من الطين ، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر ، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء ، ثم توليد النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة ، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصور واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم . ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادراً على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد . أما قوله { ثم قضى أجلاً } فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] وبمعنى الخبر والإعلام { وقضينا إلى بني إسرائيل } [ الإسراء : 4 ] وبمعنى صفة الفعل إذا تم { فقضاهن سبع سموات } [ فصلت : 12 ] ومنه قولك : قضى فلان حاجة فلان . والأنسب ههنا هو الأول . والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد . وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل . ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان . فقال أبو مسلم : الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة ، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى . وقيل : الأول أجل الموت ، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى . وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ . وقيل : الأول النوم ، والثاني الموت .
وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمل كل أحد ، والثاني ما بقي من عمره . وقال حكماء الإسلام : الأول الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصوناً عن الآفات الخارجية ، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة . ومعنى { مسمى } أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ . ومعنى { عنده } أي في حكمه وعلمه كما تقول : هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا . وارتفع { أجل } بالابتداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة . وإنما لم يقل « وعنده أجل مسمى » تعظيماً لشأن هذا الأجل فكأنه قيل : وأي أجل مسمى عنده؟ والمرية والامتراء الشك . ومعنى « ثم » تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد ، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّاً على من زعم أنه غير عالم بالجزيئات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال { وهو الله في السموات وفي الأرض } وزعمت المجسمة بهذا وبنحو قوله { أم أمنتم من في السماء } [ الملك : 17 ] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا : ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله { وفي الأرض يعلم سركم } أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض . ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجوداً في الأرض ، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من دليل . ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع { لله ما في السموات } [ البقرة : 284 ] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكاً لنفسه ، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله { إن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 20 ] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر ، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول المتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال . والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له ، وبأنه لو كان موجوداً في السموات لكان محدوداً متناهياً فيكون قابلاً للزيادة والنقصان ، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثاً . ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه ، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه ، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم ، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد ، وقال غير المجسمة : المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه .
وعلى هذا يكون { في السموات } خبراً بعد خبر ، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن ، أو المراد وهو المعبود فيهما ، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها ، أو هو الذي يقال له الله فيهما لا شريك له في هذا الإسم . والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف ، والجهر من أعمال الجوارح ، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعاً فلا جرم قدم عليه وضعاً . والجملة أعني قوله { يعلم سركم وجهركم } مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ . { ويعلم ما تكسبون } الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب . وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد ، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه . والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب .
ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب : الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } « من » الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض . والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم . الثانية : كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فقد أعرض وزاد . قال علماء المعاني : ههنا حذف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق . قال أنس : هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة . وقيل : هو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل شرعه . وقيل : وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره . والأولى الحمل على الكل . المرتبة الثالثة : كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا } أي أخبار الشيء الذي كانوا { به يستهزؤن } وهو القرآن وغيره من المعجزات . وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله { ولتعلمن نبأه بعد حين } [ ص : 88 ] والحكيم إذا توعد فربما قال : ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره . وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة . ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنيا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة . ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية .
والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة . وقيل : سبعون . وقيل : ثمانون . والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان ، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن . وليس المراد أن يصدّق الكفار محمداً في هذه الأخبار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضاً ، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار . ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف : الأول : تمكينهم في الأرض . مكن له في الأرض جعل له مكاناً ، ومكنه فيها أثبته ، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في الآية . والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عاداً وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا . الثاني : إرسال السماء عليهم مدراراً يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء ، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّدرّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير . ومدراراً نعت المطر ويقال أيضاً سحاب مدراراً إذا تتابع أمطاره . ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث . الثالث { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات . فإن قيل : الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضاً ، قلنا : لدفع هذا الإشكال كرر فقال { فأهلكناهم بذنوبهم } فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام . ثم نبه بقوله { وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ فاطر : 16 ] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد . ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة . منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية ، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باقٍ ، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية . ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله { ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس } والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عياناً لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر . وههنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن باب المعجزات لم يكن إنكاره منكراً ، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة ، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين ، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فلا يكون دليلاً على الصدق .
وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز ، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور . ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا ، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة . قال القاضي : في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيَّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة ، وزيف بأن المفهوم ليس بحجة ، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه . ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات . قال الكلبي : إن مشركي مكة قالوا : يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله { وقالوا لولا أنزل عليه ملك } فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله { ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون } ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر . وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشرية آية باهرة وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم . ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه؟ وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشرة كأضياف إبراهيم ولوط ، وكالذين تسوّروا المحراب ، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشراً سوياً؟ وفائدة ثمَّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجاة الشدة أفظع من نفس الشدة . ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } [ الفرقان : 7 ] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل ، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { ولو جعلناه } أي الرسول { ملكاً لجعلناه رجلاً } لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك منافٍ لغرض التكليف ، ولأن الجنس إلى الجنس أميل ، ولأن البشر لا يطيق رؤية الملك ، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم ، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وجه آخر وذلك أن أيّ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت .
ثم قال { وللبسنا عليهم ما يلبسون } لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر . والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيراً لفعلهم في التلبيس ، وإنما كان ذلك لبساً لأن الناس يظنونه ملكاً مع أنه ليس بملك ، أو يظنونه بشراً مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبساً لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبداً ويبقى الأمر في حيز الاشتباه . وعلى هذا التفسير يكون قوله { ما يلبسون } مفعولاً مطلقاً . ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولاً به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم ، وإذ كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوباً إلينا .
ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه بقوله { ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق } أي نزل . وقال الفراء : عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه الحوق بالضم ما استدار بالكمرة { ما كانوا } أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به . ويحتمل أن يراد بلفظة « ما » العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك ، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم : لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار . واعلم أنه سبحانه قال ههنا { ثم انظروا } وفي موضع آخر { فانظروا } [ آل عمران : 137 ] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير . وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب . وأيضاً شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم .
التأويل : حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات . أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية ، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة ، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال { إني خالق بشراً من طين } [ ص : 71 ] وحيث أراد معناه قال { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلاً لربهم { ثم قضى أجلاً } للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه { وأجل مسمى عنده } وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ثم أنتم تمترون } يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال { وهو الله } في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم { وجهركم } الذي يظهر عنكم { ويعلم ما تكسبون } باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر { من آية من آيات ربهم } في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات .
وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدراراً متوالياً ، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين { لجعلناه رجلاً } ليفهموا خطابه ويكون واقفاً على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم } [ إبراهيم : 4 ] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة .
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
القراآت { إني أمرت } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع { إني أخاف } بفتح الياء : هما وابن كثير وأبو عمرو . الباقون : بالسكون . { من يصرف } مبنياً للفاعل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل . الباقون : مبنياً للمفعول { أئنكم } بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة { أينكم } بالياء بعد الهمزة : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد { آينكم } بالمد والياء : أبو عمرو ويزيد . وقالون { بريء } بغير همز حيث كان : يزيد وحمزة في الوقف { يحشرهم ثم يقول } بياء الغيبة فيهما : يعقوب . الباقون : بالنون { ثم لم تكن } بتاء التأنيث : حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون : بالياء { فتنتهم } بالرفع : ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل . الباقون : بالنصب { والله ربنا } بالنصب على النداء : حمزة وعلي وخلف والمفضل . الباقون : بالجر على البدل أو البيان .
الوقوف : { والأرض } ط { قل لله } ط { الرحمة } ط لأن قوله { ليجمعنكم } جواب قسم محذوف . وقيل : لا وقف و { ليجمعنكم } جواب معنى القسم في { كتب } وفيه نظر لأن { كتب } وعد ناجز و { ليجمعنكم } وعد منتظر . { لا ريب فيه } ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط { لا يؤمنون } ه { والنهار } ط { العليم } ه { ولا يطعم } ط { من المشركين } ه { عظيم } ه { رحمه } ط { المبين } ه { إلا هو } ط { قدير } ه { عباده } ط { الخبير } ه { شهادة } ط { ومن بلغ } ط { أخرى } ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار . { قل لا أشهد } ج لاتساق الكلام بلا عطف { يشركون } ه { أبناءهم } م لئلا يوهم أن ما بعده وصف { لا يؤمنون } ه { بآياته } ط { الظالمون } ه { يزعمون } ه { مشركين } ه { يفترون } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد ، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين ، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف ، وذلك أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفحات السمويات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره ، فكان في السؤال تبكيت وإفحام ، وفي الجواب تقرير وإلزام ، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادراً على الإعادة كما هو قادر على الإبداء ، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين ، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال { كتب على نفسه الرحمة } أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم . وقيل : هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال ، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم ، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لولا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل : لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى ، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لا يهمل أمور عبيده ، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي .
ومعنى { ليجمعنكم } ليضمنكم . وقيل : فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان . وقيل : ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرناً بعد قرن إلى يوم القيامة . قال الأخفش : { الذين خسروا } بدل من ضمير المخاطبين في { ليجمعنكم } . وقال الزجاج : إنه مبتأ خبره { فهم لا يؤمنون } وذلك لتضمنه معنى الشرط فكأنه قيل : ما للمشركين مع وضوح الدلائل الباهرة لا يؤمنون؟ فأجيب { الذين خسروا أنفسهم } أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد ، فكان امتناعهم الآن عن الإيمان مسبباً عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان . وقال في الكشاف { الذين خسروا } نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين ، أو أنتم الذين . ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال { وله ما سكن في الليل والنهار } عن ابن عباس أن كفار مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً من أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلاً وترجع عما أنت عليه فنزل { وله ما سكن } الآية . قيل : اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة . والأصوب أن يقال : اشتقاقه من السكنى كما يقال : فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه . والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركاً أو ساكناً ، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له من محدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان { وهو السميع العليم } الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويستعدّ له .
ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكناً في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال { قل أغير الله أتخذ } منكر الاتخاذ غير الله { ولياً } ولذلك قدم المفعول لكونه أهم ، ولو كان حرف الاستفهام داخلاً على الفعل توجه الإنكار أوّلاً إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم { فاطر السموات } عطف بيان من { الله } أو بدل . وقرىء بالرفع على إضمار هو ، وبالنصب على المدح . وعن ابن عباس : ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها .
وقال ابن الأنباري : أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله { فاطر السموات والأرض } [ فاطر : 1 ] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض . وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى { هل ترى من فطور } [ الملك : 3 ] { إذا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] { وهو يطعم ولا يطعم } أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد . والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [ الذاريات : 57 ] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر . وقرىء { وهو يطعم } مبنياً للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء { وهو يطعم ولا يطعم } كلاهما للفاعل . والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله { وإنه يقبض ويبسط } [ البقرة : 245 ] أو الثاني بمعنى لا يستطعم . وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوضٍ ولا انتفاع . ثم بيّن أن النبي أيضاً داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدماً في ذلك فقال { قل إني أمرت أن أكون أوّل من أسلم } وقيل لي { ولا تكونن من المشركين } وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلاً بما يقوله ، فالمريض لا يتصور منه العلاج . ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره بصدد المؤاخذه على تقدير المخالفة فقال { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك : إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين . من قرأ { من يصرف } مبنياً للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوماً أو مذكوراً قبله . قال في الكشاف : ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به ل { يصرف } أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له ، ومن قرأ على بناء المعفول فهو مسند إلى ضمير العذاب ، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به { فقد رحمه } أي الله الرحمة العظمى كقولك : إن أطعمت زيداً من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان . أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلاً أو استيجاباً . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة ههنا ، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيداً فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه؟ { وذلك } أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب { الفوز المبين } لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف .
ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله { وإن يمسسك الله بضر } من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات { فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير } من غنى أو صحة { فهو على كل شيء قدير } عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته ، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاده وتكوينه ، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته ، ورأس المضارّ هو الكفر ، وسنام الخيرات هو الإيمان ، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى . وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر ، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه . ثم زاد لهذا المعنى بياناً فقال { وهو القاهر فوق عباده } وهو إشارة إلى كمال القدرة { وهو الحكيم الخبير } وإنه إشارة إلى كمال العلم . فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم ، وكونه خبيراً أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها ، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته ، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها : أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلاً فذلك لا يقوله عاقل ، وإن كان ذاهباً في الأقطار كلها كان متجزئاً . والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نوراً قائماً بذاته غير متناه لا متجزئاً ولا متبعضاً قاهراً لجميع الأنوار غالباً على جميع الأشياء . فلا غاية لجوده ولا نهاية لوجوده . وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى النور { ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور } [ النور : 40 ] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات . والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان . ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه ، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص ، فيكون الواجب مفتقراً فيكون محدثاً هذا خلف . والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض . ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة ، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجوداً فيها وإلا لزم التغير في ذاته . والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار .
ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكاً محيطاً بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم . والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول ، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز ، والفوق ما يلي السماء . أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكاً كسائر الأفلاك ، وأما التحقيق فقد مر . ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده ، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية . فالمناسب أن يراد بالفوق أيضاً فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل . والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس ، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية ، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره ، ومنها أن الآية سيقت رداً على من اتخذ غير الله ولياً وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة . والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره . وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزية عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلاً لها « وكل ميسر لما خلق له » قال الكلبي : إن رؤساء مكة قالوا : يا محمد ما نرى أحداً يصدقك بما تقول من أمر الرسالة . ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت { قل أي شيء أكبر شهادة } الآية . قال العلماء : إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله . ثم بيَّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل : إنها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من سبب النزول . والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى ، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزاً هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته . وقيل : إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى { قل الله شهيد بيني وبينكم } في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه { وأوحى إليَّ هذا القرآن لأنذركم به } وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود .
واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجاً بقوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الأنعام : 102 ] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه ، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيهاً على أن البقية جارية مجرى العدم . فلو كان الباري تعالى شيئاً لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب . وأيضاً احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله } [ الكهف : 23 ] والشيء الذي سيفعله غداً معدوم في الحال ، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه . والجواب عن الأول أن إخراج الأكثر من العموم جائز عندنا . ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء ، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عدداً من الباقي . وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ ، ومتى صدق الخاص كالذات ، والحقيقة صدق العلم بالضرورة . قال جهم { قل الله شهيد } جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم . قلنا { قل أي شيء } سؤال ولا بد له من جواب . وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدىء فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم ، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم . وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن الله شهيد علم جزماً أن أكبر الأشياء شهادة هو الله أما قوله { ومن بلغ } فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم . وقيل : من الثقلين . وقيل : من بلغه إلى يوم القيامة . وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقيل : ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف ، وعلى هذا فلا حاجة إلى إضمار العائد .
ثم استفهم مبكتاً فقال { أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى } وصف الجمع بصفة الواحدة كما يقال : الرجال فعلت . ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل : أولاها { قل لا أشهد } أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء ، وثانيتها { قل إنما هو إله واحد } وكلمة « إنما » تفيد الحصر . وثالثتها { وإنني بريء مما تشركون } ومن هنا قالت العلماء : المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام . ولما زعم مشركو مكة أنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى الله عليه وآله فقالوا : ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه } أي يعرفون رسول الله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين { كما يعرفون أبناءهم } بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم .
{ الذين خسروا أنفسهم } إما بدل أو بيان من « الذين » الأولى ، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين . وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين . والمراد بخسران النفس الهلاك الذي يحصل لهم بسبب الكفر . وقيل : ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره . ثم بيَّن سبب خسرانهم مستفهماً على سبيل الإنكار فقال { ومن أظلم } وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين : إثبات الباطل وهو الافتراء على الله ، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله ، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك ، وكانوا يقولون : الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله ، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ . وأنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم . ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { إنه لا يفلح الظالمون } الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل . ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال { ويوم نحشرهم } وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد . ويحتمل أن يكون مفعول « واذكر » أو معطوفاً على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر . { أين شركاؤكم } آلهتكم التي جعلتموهم شركاء { الذين كنتم تزعمون } هم شركاء فحذف المفعولان . والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت ، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم ، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم ، ويحتمل أن يقال : أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر في نفوسهم أن الذي يظنونه مأيوس منه فيصير ذلك تنبيهاً لهم في الدنيا على فساد هذه الطريقة { ثم لم تكن فتنتهم } من قرأ بالرفع على أنه اسم كان فالخبر { إلا أن قالوا } والتقدير شيئاً إلا أن قالوا ومن قرأ بالنصب مع تذكير يكن فبعكس ما قلنا . والتقدير شيء إلا أن قالوا . وأما مع تأنيث يكن فلوقوع الخبر مؤنثاً كقولهم : من كانت أمك . أو بتأويل مقالتهم . قال الواحدي : الاختيار قراءة من قرأ بالنصب لأن « أن » إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر . وكما أن المضمر والمظهر إذا اجتمعا كقولك : إن كنت القائم . كان جعل المضمر اسماً أولى من جعله خبراً فكذلك ههنا . قال الزجاج : تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب ، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه ، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به .
ومثاله أن ترى إنساناً يحب شخصاً مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له : ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته . فعلى هذا فتنتهم في شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس . ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة ، ويجوز أن يراد : ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا : فسمي فتنة لأنه كذب ، قال القاضيان : الجبائي وأبو بكر : إن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيكونون ملجئين إلى ترك القبيح وكيف لا وإنهم يعلمون أن ذلك لا يروج منهم حينئذ ولا يستفيدون بذلك إلا زيادة المقت والغضب من الله تعالى عليهم؟ ولا يجوز أن يقال : إنهم لما عاينوا القيامة اختلت عقولهم واضطربت فلهذا قالوا الكذب ، أو أنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا لأنه لا يليق بحكمته تعالى أن يوبخهم ثم يحكى عنهم ما يجري مجرى الاعتذار عند اختلال عقولهم . ولأن تجويز نسيان أمر كان عليه الشخص مدة عمره نوع من السفسطة . وأيضاً إنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح فإن عوقبوا على ذلك صارت الآخرة دار التكليف وإن لم يعاقبوا كان إذناً من الله تعالى في ارتكاب الذنوب وكلاهما محال . فإذا الوجه في الآية أن يقال : إن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم وظنونهم أنهم موحدون فأجابوا بقولهم { والله ربنا ما كنا مشركين } أي في اعتقادنا وظنوننا ، وعلى هذا فيكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم كانوا غير مشركين عند أنفسهم فيجيب تأويل قوله تعالى { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } بأن المراد كذبهم في دار الدنيا كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك وإن آلهتهم شفعاؤهم عند الله فلهذا قال { وضل عنهم } أي وانظر كيف غاب عنهم في الآخرة { ما كانوا يفترون } أي يفتعلون إلهيته وشفاعته . والحاصل أن الآية سيقت لبيان تضاد حاليهم في الدنيا وفي الآخرة بالكذب وبالصدق ولكن حيث لا ينفعهم الصدق لأن الصدق في الآخرة إنما يعتبر إذا كان مقروناً بالصدق في الدنيا ، هذا جملة كلام القاضيين . قال جمهور المفسرين : إن قول القائل المراد ما كنا مشركين في اعتقادنا ، وكيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا مخالفة الظاهر وإن الكفار قد يكذبون في القيامة لقوله تعالى { يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون } [ المجادلة : 18 ] إلى قوله { ألا إنهم هم الكاذبون }
[ المجادلة : 18 ] ولو سلم أنهم لا يكذبون تعمداً إلا أن الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه حيرة ودهشاً ، ألا تراهم يقولون { ربنا أخرجنا منها } [ المؤمنون : 107 ] وقد أيقنوا بالخلود؟ { وقالوا يا مالك ليقض علينا ربك } [ الزخرف : 77 ] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم . واختلال عقولهم حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع كمال عقلهم في سائر الأوقات .
التأويل : ما في الكون سوى الله ، لا داع ولا مجيب فلهذا يسأل ويجيب { قل لمن ما في السموات والأرض قل لله } وله ما سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية ، وفي نهار الروحانية إلى المواهب الربانية ، { وهو السميع } أنين من سكن إليه { العليم } بحنين من اشتاق إليه { قل أغير الله أتخذ } اليوم { ولياً } وقد اتخذني الله في الأزل حبيباً { فاطر } سموات القلوب على محبته وفاطر أرض النفوس على عبوديته { وهو يطعم } أرواح العارفين طعام المشاهدات ويسقيهم كؤوس المكاشفات { ولا يطعم } لأنه لا يحتاج إلى قبول الفيض من غيره فالأنوار عنده كالذرّات { أول من أسلم } لأني خلصت من حبس الوجود بالكلية وحدي ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وأقول : أمتي أمتي { إن عصيت ربي } برؤية الغير يوم قدّر الشرك لاقوام والتوحيد لاقوام { وإن يمسسك الله بضر } إن دائرة أزليته متصلة بدائرة أبديته ، وكل نقطة من الدائرة تصلح للبداية والنهاية ، فكل ما صدر منه فلن ينتهي إلا به { وهو القاهر فوق عباده } قهر الكفار بموت القلوب فضلوا في ظلمات الطبيعة ، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فخرجوا من ظلمات الطبيعة ، وقهر قلوب المحبين بلذعات الأشواق إلى يوم التلاق ، وقهر أرواح الصديقين بسطوات الجلال في أوقات الوصال . { وهو الحكيم } فيما يقهره فلا يخلو من حكمة { الخبير } بمن يتسأهل كل صنف من قهره فيقهره به { الله أكبر شهادة } لأنه محيط بحقائق الأشياء ولا يحيط به شيء من الأشياء { ومن بلغ } القرآن ووقف على حقائقه . ويقول للمشركين { أئنكم لتشهدون } { الذين آتيناهم الكتاب } يعني العلماء بالقرآن يعرفون الله أو النبي . وفيه إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء ، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله مصدر جميع الأشياء { الذين خسروا أنفسهم } بإفساد الاستعداد الفطري { ويوم يحشرهم جميعا } يعني أهل المعرفة والنكرة { أين شركاؤكم } من الهوى والدنيا { كذبوا على أنفسهم } في القيامة لأنهم كذبوا في الدنيا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
القراآت : { ولا نكذب ونكون } بالنصب فيهما : حمزة وحفص ويعقوب وافق ابن عامر في { ونكون } الباقون : بالرفع { ولدار الآخرة } بالإضافة : ابن عامر بتأويل الساعة الآخرة ، الباقون : بتعريف الدار ورفع الآخرة على الوصفية . { تعقلون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص وكذلك في الأعراف { يكذبونك } بالتخفيف من أكذبه إذا وجده كاذباً : علي ونافع والأعشى في اختياره . الباقون : بالتشديد من كذبه إذا نسبه إلى الكذب . { أن ينزل } بالتخفيف : ابن كثير .
الوقوف : { وقرأ } ط { بها } ط { الأولين } ه { وينأون عنه } ج لابتداء النفي مع واو العطف { وما يشعرون } ه { من المؤمنين } ه { من قبل } ط { لكاذبون } ه { بمبعوثين } ه { ربهم } ط { بالحق } ط { وربنا } ط { تكفرون } ه { بلقاء الله } ط لأن « حتى » للابتداء فيها لا لأن الواو للحال { على ظهورهم } ط { يزرون } ه { ولهو } ط { يتقون } ه { تعقلون } ه { يجحدون } ه { نصرنا } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقصود لكلمات الله كذلك . { المرسلين } ه { بآية } ط { من الجاهلين } ه { يسمعون } ه { يرجعون } ه { من ربه } ط { لا يعلمون } ه .
التفسير : لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال { ومنهم من يستمع إليك } قال ابن عباس : حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر : ما تقول في محمد؟ فقال : ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك . شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية . وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى ، وكان يحدث قريشاً فيستملحون حديثه فنزلت الآية . والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئاً وستره من الأغطية والقفل ، ومنه أكننت وكننت . وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم . والوقر الثقل في الآذان . والتركيب يدور على الثقل ومنه الوِقر بالكسر الحمل ، والوقار الحلم . وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه . وقالت المعتزلة : لا يمكن أجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار ، ولأنه يكون تكليفاً للعاجز . ولم يتوجه ذمهم في قولهم { وقالوا قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] فلا بد من التأويل وذلك من وجوه الأول : قال الجبائي : إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراءته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه ، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة ، وعلى آذانهم الثقل . وزيف بأن المراد لوكان ذلك لقيل « أن يسمعوه » بدل « أن يفقوه » .
وبأن قوله { وأن يروا كل آية } أي كل دليل وحجة { لا يؤمنوا بها } لا يناسبه . الثاني : أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان . الثالث : يقال : إنه جبل على كذا إذا كان مصّراً عليه وذلك على جهة التمثيل . الرابع : لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه . الخامس : أن هذا حكاية قولهم { في اذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي ، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال ، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان . وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] والإفراد في { يستمع } والجمع في { قلوبهم } اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى { حتى إذا جاؤك } هي حتى المبتدأة التي يقع بعدها الجمل كقوله : حتى ماء دجلة أشكل .
والجملة ههنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله { إذا جاؤك } يقول : { ويجادلونك } في موضع الحال . ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم { ويجادلونك } حال بحاله { ويقول } تفسير له . والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة . ثم فسر الجدل بأنهم يقولون { إن هذا إلا أساطير الأولين } وأصل السطر هو أن يجعل شيئاً ممتداً مؤلفاً في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أسطار وجمع الجمع أساطير . وقال الزجاج : واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة . وقال أبو زيد : لا واحد له كعباديد . قال ابن عباس : معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها . ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر . إلى أن الإغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير . ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزاً كما الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة ، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزوا عن آخرهم دون تلك فظهر الفرق . ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله { وهم ينهون عنه } قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك : عن القرآن وتدبره والاستماع له { وينأون عنه } والنأي البعد . نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في « نأى » وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي . وقيل : الضمير للرسول والمراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته ، جمعوا بين قبيحين : النأي والنهي فضلوا وأضلوا . وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به .
روي أن قريشاً اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر وقر بذلك منك عيونا
وعرضت ديناً لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
وضعفت هذه الرواية بقوله { إن يهلكون إلا أنفسهم } يعني بما تقدم ذكره ، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك . ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط .
ثم بيَّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال { ولو ترى إذ وقفوا على النار } وجواب « لو » محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك . وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك : والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب . ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت : لأضربنك . ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال { وقفوا } بلفظ الماضي مع « إذا » الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها ، أو وقفوا عليها وهي تحتهم ، أو هو من قولهم : وقفت على المسألة الفلانية وقوفاً أي عرفوا حقيقتها تعريفاً أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون « على » بمعنى « في » وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء { يا ليتنا نردّ } هو داخل في حكم التمني . أما قوله { ولا نكذب ونكون } فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار « أن » على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين . ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان : أحدهما أن التمني يتم عند قوله { نرد } ثم ابتدؤا { ولا نكذب ونكون } أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل . وشبهه سيبويه بقولهم : دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني . وثانيهما أن يكونا معطوفين على { نرد } أو حالين على معنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيدخل المجموع تحت حكم التمني . وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذباً وقد قال تعالى { وإنهم لكاذبون } وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل : ليت الله يرزقني مالاً فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالاً ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال : إن رزقني الله مالاً أحسنت إليك .
وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا . قال أكثر المفسرين : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى { بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وقال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها ، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهراً لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة . وقال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } وهذا قول الحسن . وقيل : إنها في المنافقين كانوا يسرون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وقيل : هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنهتك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم . ثم قال { ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه } قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال؟ وأجاب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف . وعلى هذا التقدير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم . وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر . وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الأن فإذن لا تنحل العقدة إلا بأن يقال : المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم { وإنهم لكاذبون } فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا { إن هي إلا حياتنا الدنيا } « إن » نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة التي هي أقرب إلينا { وما نحن بمبعوثين } بعدها . وقيل : إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا : إن هي إلا حياتنا الدنيا .
ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى ، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الأية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب ، أو لمضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين ، أوهو من قولك : وقفته على كذا أي أطلعته عليه .
ثم كان لسائل أن يقول : ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فأجيب { قال أليس هذا } الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء { بالحق } الذي حدثتموه؟ { قالوا بلى وربنا } وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار ، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار؟ فأجيب { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع ، وذلك أن جوهر النفس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت . فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال ولا ربح وذلك قوله { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله } أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها . عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم لأحد هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفاً واختياراً وملكاً وملكاً . وحمل اللقاء على الرؤية أيضاً غير بعيد عند أهل السنة . و « حتى » غاية ل { كذبوا } لا ل { خسر } لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم ، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلوح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم « من مات فقد قامت قيامته » وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل : ما هو إلا ساعة الحساب ، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال { بغتة } أي فجأة . وانتصابها على الحال أي باغتة من بغته إذا فاجأه ، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء { قالوا } عامل « إذ » { يا حسرتنا } مثل { يا ويلتي } [ الفرقان : 28 ] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك { على ما فرّطنا } أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك . وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء ، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم . أما الضمير في { فيها } فقال ابن عباس : أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا .
وقال الحسن : أي في وقت الساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها وإعداد الزاد وتحصيل الأهبة لها . وقال محمد بن جرير الطبري : يعود إلى الصفقة والمبايعة بدلالة ذكر الخسران . وقيل : إلى ما فيما فرطنا أي يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي تركناها وقصرنا فيها . ثم بين تضاعف خسرانهم بأنهم لم يحصلوا لأنفسهم مواجب الثواب ولكن حصلوا مواجب العقاب فقال { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } هي الآثام والخطايا . وأصل الوزر الثقل ومنه الوزير لأنه يحمل ثقل صاحبه . والوزر الملجأ لأنه يدفع عنه ما أصابه فكأنه حمله . أما كيفية حملهم الأوزار فقال في الكشاف : إنه مجاز عن حصولها لهم كقوله { فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي . وقال الزجاج : الثقل قد يذكر في الحال والصفة . ثقل عليّ خطاب فلان أي كرهته ، فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم . وقيل : هو كقولك : شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي . وقال جمع من المفسرين : إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحاً فيقول : أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً } [ مريم : 85 ] قالوا ركباناً وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحاً فيقول : أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم قاله قتادة السدي . { ألا ساء ما يزرون } بئس شيئاً يزرون وزرهم .
ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً . وقال آخرون : هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال ، ومدة هذه الحياة كذلك . وأيضاً اللعب واللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك ، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون . { وللدار الآخرة } قال ابن عباس : هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي . وقال الأصم : التمسك بعمل الآخرة خير . وقال الآخرون : نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات ، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض { للذين يتقون } فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي ، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما قال صلى الله عليه وسلم : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » { أفلا تعقلون } قال الواحدي : من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون ، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات ، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل ، فالجمل أكثر أكلاً ، والديك والعصفور أكثر وقاعاً ، والذئب والنمر والحيات أقوى غضباً وقهراً ، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر ، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول ، وذلك دليل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية .
وهب أن النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعاً والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية ، وكم من متمول متغلب أصبح أميراً كبيراً ثم أمسى فقيراً حقيراً . وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوماً آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب ، ولو انتفع فقلما يخلص من شوائب المكاره والآفات كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق . قيل : وما هو يا رسول الله؟ قال : سرور يوم بتمامه » وهب أن الدست له قد تم ، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض؟ وكفى بذلك نقصاً وكدراً كما قال :
كمال الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال { قد نعلم } والمراد كثرة العلم والمبالغة كما مر في قوله { قد نرى تقلب وجهك } [ البقرة : 144 ] والهاء في { أنه } ضمير الشأن وكسرت بعد العلم لمكان لام الابتداء في { ليحزنك } وما ذلك المحزن؟ قال الحسن : هو قولهم ساحر شاعر كاهن مجنون : وقيل : تصريحهم بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه . وقيل : نسبتهم إياه إلى الكذب { فإنهم لا يكذبونك } قال أبو علي وثعب : أكذبه وكذبه بمعنى . وقيل : أكذبت الرجل ألفيته كاذباً ، وكذبته إذا قلت له كذبت . وقال الكسائي : أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب . وقال الزجاج : معنى كذبته قلت له كذبت ، ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد . فمن قرأ بالتخفيف نظر إلى أن القوم كانوا يعتقدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة ذلك وأنه نبي إلا أن تخيله باطل . ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله ، وفي الجمع بين الأمرين وجوه : الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن ونبوته ويؤكده رواية السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا فقال الأخنس لأبي جهل : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري .
فقال أبو جهل : والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت . وقال أبو ميسرة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا يا محمد إنا والله ما نكذبك إنك عندنا لصادق ولكن نكذب ما جئت به فنزلت . وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية ، فإذا خلا مع أهل بيته قال : ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقاً فإذن هذه الآية نظير قوله تعالى في قصة موسى { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [ النمل : 14 ] فانظر . الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل وما وجدوا منك كذباً وسموك الصادق الأمين فلا يقولون بعد إنك كاذب ، ولكن حجدوا صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمداً عرض له نوع خبل ونقصان فلأجل ذلك تخيل أنه رسول لا أنه كذب في نفسه ، أو لأنهم زعموا أنه أمين في كل الأمور إلا في هذا الواحد . الثالث أنه لما ظهرت المعجزات على يده ثم إن القوم أصروا على التكذيب فقال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني ، ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس : إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني ومثله قوله سبحانه { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] فكأنه قيل له : إله عن حزنك لنفسك وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه . الرابع : قيل في التفسير الكبير : أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً ويكذبون جميع الأنبياء والرسل . وقوله { ولكنّ الظالمين } من إقامة المظهر مقام المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم في جحودهم ، لأن من وضع التكذيب مقام التصديق فقد ظلم . ثم صبر رسوله على أذية القوم فقال { ولقد كذبت رسل } وأيّ رسل { من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا } فأنت أولى بهذه السيرة لأنك مبعوث إلى كافة الخلائق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا . { ولا مبدّل لكلمات الله } أي لمواعيده في نحو قوله { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] وقوله { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون } [ الصافات : 171 ] { ولقد جاءك من نبأ المرسلين } قال الأخفش « من » زائدة والأصح أنها للتبعيض لقلة مجيء زيادة « من » في الإثبات ، ولأن الواصل إليه بعض قصص الأنبياء لقوله
{ منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } [ غافر : 78 ] فالتقدير : ولقد جاءك بعض أنبائهم . وكان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزلت { وإن كان كبر } أي شق { عليك إعراضهم } عن الإيمان وصحة القرآن { وإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية } فافعل . يعني أنك لا تستطيع ذلك والجواب محذوف وحسن للعلم به . والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه اشتقاق المنافق . والسلم واحد السلاليم التي يرتقي عليها وأصله من السلامة كأنه يسلمك إلى مصعدك . والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها وبكل ما اقترحوه رجاء إيمانهم ، ويجوز أن يكون ابتغاء النفق أو السلم هو الآية كأنه قيل : لو استطعت ذلك لفعلت كل ذلك ليكون لك آية يؤمنون عندها ، ثم قال { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } قال أهل السنة : فهو دليل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر . وقالت المعتزلة : المراد مشيئة الإلجاء المنافي للتكليف . والإلجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه فيضطرون إلى الإيمان . مثاله : أن يحصل شخص بحضرة السلطان وهناك خدمه وحشمه فيعلم أنه لو هم بقتل ذلك السلطان لقتلوه في الحال فيصير هذا العلم مانعاً له من القتل . وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . أما قوله { فلا تكونن من الجاهلين } أي من الذين يرومون خلاف مأمور الله . فهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة ولكنه يفيد التغليظ وتأكيد الامتناع عن الجزع والإضراب عن الحزن والأسف على إيمان من لم يشأ الله إيمانه .
ثم بيَّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان فقال { إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله } مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة . والمراد أنه تعالى هو الذي يقدر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر على ذلك ، يعني أن الذين تحرص على حصول إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون كقوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] أو المعنى أن هؤلاء الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون ، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم . أما وجه تشبيه الكفرة بالموتى فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الصانع كما أن حياة الجسد بالروح . ثم ذكر شبهة أخرى للطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أنه ما جاء بآية قاهرة ومعجزة باهرة فكأنهم طعنوا في كون هذا القرآن معجزاً على سبيل العناد أو قياساً على سائر الكتب السماوية ، أو طلبوا معجزات تقرب من حد الإلجاء كشق الجبل وفلق البحر ، فإن معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من تسبيح الحصا وانشقاق القمر وغير ذلك ليست بأقل منها .
أو اقترحوا مزيد الآيات بطريقة التعنت واللجاج كقولهم { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] فأجابهم الله تعالى بقوله { قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن فاعليته ليست إلا بحسب محض المشيئة عند أهل السنة ، أو على وفق المصلحة عند المعتزلة ، لا على موجب اقتراحات الناس ومطالباتهم . أو أنه لما ظهرت المعجزة الباهرة والدلالة الكافية من القرآن وغيره لم يبق لهم عذر ولا علة ، فلو أجابهم إلى مقترحهم فلعلهم يقترحون اقتراحاً ثانياً وثالثاً وهلم جر أو ذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة وهذا خلاف المقصود ، أو لا يعلمون أنه لو أعطاهم سؤلهم ثم لم يؤمنوا لاستوجبوا الاستئصال ، أو لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل العناد لا لأجل الفائدة - وقد علم الله ذلك - لم يعطهم مطلوبهم ولو كان غرضهم طلب الحق ونيله لأعطاهم مطلوبهم على أكمل الوجوه .
التأويل : { ومنهم من يستمع إليك } إنكاراً واختباراً { وجعلنا على قلوبهم } من شؤم إنكارهم حجباً من غير الإنكار { وفي آذانهم وقراً } من فساد الاستعداد الفطري . { وإن يروا كل آية } بعين الظاهر { لا يؤمنوا بها } من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها { وهم ينهون } الطلاب عن الحق . { وإن يهلكون } بتنفير الخلق عن الحق { إلا أنفسهم } لأن التباعد من أهل الحق هو البعد عن الحق وهذا هو الهلاك الحقيقي . { ولو ترى إذ وقفوا على النار } أي أرواح الأشقياء بعد الخلاص عن حبس الطبيعة عرفوا ألم عذاب القطيعة { فقالوا يا ليتنا نرد } إلى عالم الصورة وإلى الاستعداد الفطري { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } أين يظهر عليهم آثار الشقاوة التي كتبت لهم وكانوا يتكلفون سترها في عالم الصورة بلباس البشرية { ولو ردوا } إلى عالم الصورة { لعادوا لما نهوا عنه } من اتباع الهوى فيفسدون استعدادهم مرة أخرى { وإنهم لكاذبون } فيما يدعون لأنهم خلقوا لأجل التكذيب لا لأجل التصديق ، ولهذا نسوا ما شاهدوا يوم الميثاق من الألطاف والإعطاف ، وقولهم « بلى » في جواب خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] { إذ وقفوا على ربهم } عرفوا ربوبية ربهم ولو عرفوها في الدنيا لم يذوقوا عذاب البعد في العقبى { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } هي الساعة التي يجتذب العبد فيها عن أوصاف البشرية بجذبات المحبة فجأة وهي قيامة أخرى لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق فيتأسف عليها ويقول : أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات ، فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات { وهم يحملون } أثقال التعلقات الزائدة على ظهور وجودهم ، فإن الوجود على السالك ثقيل مانع عن السلوك فكيف ما زيد عليه؟ { إلا لعب ولهو } كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان { وللدار الآخرة } هي السير من البشرية إلى الروحانية والإقبال على الله والإعراض عما سواه { خير للذين يتقون } غير الله { أفلا تعقلون } أن الإنسان خلق لهذا الشأن لا لغيره كقوله
{ واصطنعتك لنفسي } [ طه : 41 ] { قد نعلم إنه ليحزنك } من ضيق نطاق البشرية أثر في حبيب الله مقالة الجهلة ولا مبدل لكلمات الله لمقدّراته التي قدّرها ودبرها من الأزل إلى الأبد بكلمة « كن » { ولو شاء الله لجمعهم } في عالم الأرواح عند رشاش النور على الهدى { فلا تكونن من الجاهلين } الذين لا يعلمون الحكمة في جعل البعض في مظاهر اللطف والبعض بمظاهر القهر . والنهي في حقه صلى الله عليه وسلم هو نهي الامتناع عن الكينونة أي خلق في الأزل ممتنعاً عن الجهل بواسطة كلمة لا تكن كما أنه خلق مستعداً للكمال بكلمة « كن » { قل إن الله قادر على أن ينزل آية } في كل لحظة ولمحة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } دلالة الكائنات على المكوّن والممكنات على الواجب والمصنوعات على الصانع { وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون } [ يوسف : 105 ] .
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
القراآت : { أرأيتكم } وبابه بتليين الهمزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف { أريتكم } وبابه بغير همز : عليّ : الباقون : { أرأيتكم } بالتحقيق { فتحنا } بالتشديد : يزيد وابن عامر { به انظر } بضم الهاء روى الأصفهاني عن ورش .
الوقوف : { أمثالكم } ط { يحشرون } ه { في الظلمات } ط { يضلله } ط لابتداء شرط آخر { مستقيم } ه { تدعون } ج لأن جواب « إن » منتظر محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأجيبوا مع اتحاد الكلام { صادقين } ه { تشركون } ه { يتضرعون } ه { يعملون } ه { كل شيء } ط { مبلسون } ه { ظلموا } ط { العالمين } ه { يأتيكم به } ط { يصدفون } ه { الظالمون } ه { ومنذرين } ج { يحزنون } ه { يفسقون } ه { إني ملك } ج للابتداء بالنفي مع اتحاد القائل والمقول { إلى } ط { يتفكرون } ه .
التفسير : لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك ، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات ، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك ألبتة ، وفيه أيضاً مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلاً عن الإنسان . فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير . وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء ، لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف ، ويمكن أن يقال : إن الماء أيضاً من جملة الأرض لأنهما جميعاً ككرة واحدة . قال علماء المعاني : إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين ، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فتخصصا ، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده { إلا أمم أمثالكم } وقد يقول الرجل لعبده طِرْ في حاجتي والمراد الإسراع . قال الحماسي :
طاروا إليه زرافات ووحدانا ... وقيل : ذكر { يطير بجناحيه } ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة ، فإن المراد ذكر من هو أدون حالاً . وقيل : إن الوصف للتأكيد كقولهم : نعجة أنثى . وكما يقال : مشيت إليه برجلي . وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر ، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع . قال الفراء : كل صنف من البهائم أمة . وفي الحديث « لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها » ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال : يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [ الإسراء : 44 ] { كل قد علم صلاته وتسبيحه } [ النور : 41 ] وعن أبي الدرداء : أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق . ومعرفة الذكر والأنثى . وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين . وقيل : وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضاً ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض .
وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه . وقيل : هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة . دليله قوله عقيبه { ما فرطنا في الكتاب من شيء } . وقيل : هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها وقد جاء في الحديث « يقتص للجماء من القرناء » ولكن قوله بعد ذلك { ثم إلى ربهم يحشرون } يصير كالمكرر . وعن سفيان بن عيينة : ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم . فمنهم من يقدم إقدام الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه ، وكذلك نجد من الأدميين من يسمع خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها ، ولم يجلس مجلساً إلا زاد فيه . واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز . وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك ، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة . وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات ، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعباً وعناء . قالوا : وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية . ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولاً من جنسها لقوله { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك . وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال . { ما فرطنا في الكتاب من شيء } « من » مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئاً قط . وقيل : للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته . والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل . وقيل : القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان ، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع . وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل ، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى . وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } [ الأعراف : 31 ] للطب . وقوله { وهو أسرع الحاسبين } [ الأنعام : 62 ] للحساب . وكقوله { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }
[ الأعرف : 199 ] للأخلاق . وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] وكقوله { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] وكقوله : { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] وقيل : إن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل ، وكل حكم لم يكن مذكوراً في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفاً أو يكون باقياً على أصل الإباحة والله تعالى أعلم . أما قوله { ثم إلى ربهم يحشرون } فللعقلاء فيه قولان : الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية . الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال الأعواض إليها ، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض . وفرع القاضي على ذلك فقال : كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض ، والذي لا يكون كذلك لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلاً إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك . فرع آخر : كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى ، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذياً أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الاثقال ، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم ، وكذا إذا ظلم بعضها بعضاً ، ولو ذبح المأكول لغير مأكله . فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهى عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به . فرع آخر : مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير تراباً وحينئذ { يقول الكافر يا ليتني كنت تراباً } [ النبأ : 40 ] وقال أبو القاسم البلخي : يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة ، وإماتتها توجب الألم ، وذلك الألم يوجب عوضاً آخر وهلم جراً إلى ما لا نهاية له . وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام . فرع آخر : البهيمة إذا استحقت عوضاً على بهيمة أخرى : فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضاً على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض ، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم . ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما ينادي على عظمته ويشهد لربوبيته وينبه على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال { والذين كذبوا بآياتنا صم } لا يسمعون كلام الله البتة { وبكم } لا ينطقون بالحق خابطون { في الظلمات } ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة .
ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال { من يشأ الله يضلله ومن يِشأ يجعله على صراط مستقيم } والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً } [ الإسراء : 97 ] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا ، أو هو محمول على الشتم والإهانة ، وأما قوله { من يشأ الله يضلله } أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين . أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها . ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحودهم يفزعون إلى الله في البليات فقال { قل أرأيتكم } هو منقول من رأيت بمعنى أبصرت أو عرفت كأنه قيل : أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء . فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان . أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل ، والكاف للخطاب . فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث . وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو : أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن . والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسماً وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار ، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضاً لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان ، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه : أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيداً ما شأنه . فلو جعلت الكاف مفعولاً لكان ثالثاً . وثانيها لو كان مفعولاً لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت : أرأيتك زيداً ، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه . وثالثها لو كان منصوباً على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو : أرأيتماكما وأرأيتموكم وأرأيتموكن . وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء . فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل : هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟ ودل عليه قوله { أغير الله تدعون } وقيل : لا يحتاج ههنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله { أغير الله } تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة ، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها { بل إياه تدعون } بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين .
وعلى هذا يكون قوله { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] باقياً على إطلاقه لكن في الدنيا ، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله { ادعوني أستجب } [ غافر : 60 ] أيضاً مقيداً بالمشيئة { وتنسون ما تشركون } قال ابن عباس : تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع ، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده ، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل : إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد .
ثم سلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد . ويحتمل أن يقال : إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع واللجأ إلى الله إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر . وفي الآية محذوف تقديره : { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً } فخالفوهم { فأخذناهم بالبأساء والضراء } وحسن الحذف لكونه مفهوماً . والبأساء والضراء البؤس والضر . أو البأساء القحط والجوع ، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا { لعلهم يتضرعون } يتذللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد . ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف . احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا ، فهو يريد الإيمان والطاعة من الكل . وأجيب بأن الترجي في حقه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة ، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي . فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لا بد أن ينتهي إلى خلق الله وتكوينه . أما قوله { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } فمعناه نفي التضرع كأنه قيل : فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا . ولكنه جاء بلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب ، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده ، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى . ومعنى { كل شيء } أي كل شيء كان مغلقاً عنهم من الخير { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطراً وترفهاً { أخذناهم بغتة } قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة . وقال صلى الله عليه وسلم « إذا رأيت الله يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى » قال العلماء : وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء { فإذا هم مبلسون } آيسون من كل خير .
وقال الفراء : المبلس الذي انقطع رجاؤه . ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس . وقال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة الحزين . « وإذا » ههنا للمفاجأة وهي ظرف مكان « وهم » مبتدأ و { مبلسون } خبره وهو العامل في « إذا » { فقطع دابر القوم } الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد . دبر فلان القوم يدبرهم دبوراً ودبراً إذا كان أخرهم . أبو عبيدة : دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم . الاصمعي : منهم أحداً واستأصلهم لأن ذلك جارٍ مجرى النعمة على أولئك الرسل ، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفراً وعناداً فيزدادوا عذاباً وعقاباً ، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء . والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكاً في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم . وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه ، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال { قل أرأيتم إن أخذ الله } وتقرير ذلك أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب ، ولا ريب أن القادر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده ، ومعنى أخذ السمع والبصر تعطيل منافعهما ، ومعنى الختم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين . قال ابن عباس : إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح { يأتيكم به } أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب ، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضاً . والأحسن أن يقال : إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثاً إذ لا ترجيح ، وحيث لم يكن الضمير مؤنثاً علم أنه أراد المذكور مطلقاً فتعين أم يشار إليه بذلك . ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب { انظر } يا محمداً وكل من له أهلية النظر { كيف نصرف الآيات } نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب . ومعنى « ثم » التفاوت بين الحالين و { يصدفون } أي يعرضون . ويقال : امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض . والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي . وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه ، قال الكعبي : لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم . وقالت الأشاعرة : لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار .
ثم عمم الدليل بقوله { قل أرأيتكم إن أتاكم } والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحان فوجب أن لا يكون معبوداً إلا هو . ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل ، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن : معناه ليلاً أو نهاراً . أما قوله { هل يهلك إلا القوم الظالمون } أي لا يهلك مع قوله { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثواباً جزيلاً ، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم « إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له وإن أصابته سراء فشكر كان خيراً له » واعلم أنه ذكر ههنا { أرأيتكم } مرتين فزاد خطاباً واحداً ، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد ، وفيما بينهما قال { أرأيتم } حيث لم يكن كذلك ، وكذلك في يونس ، ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات . وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله { وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه } وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } بالثواب على الطاعات { ومنذرين } بالعقاب على المعاصي . فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن { فلا خوف عليهم والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل . قال في الكشاف : جعل العذبا ماساً كأنه حي يفعل بهم ما يرد من الآلام وفيه نظر ، لأن المس ليس من خواص الأحياء ، نعم إنه من خواص الأجسام ، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيداً . قال القاضي : إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافراً . وأقول : هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس ، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس .
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه أموراً ثلاثة فقال { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي { ولا أعلم الغيب } قال في الكشاف : محله النصل عطفاً على محل قوله { عندي خزائن الله } لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا . قلت : ويحتمل أن يكون عطفاً على { لا أقول } أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها .
واختلف المفسرون في فائدة نفي هذ الأمور فقيل : المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام . وقيل : المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } إلى قوله { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] وقيل : أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد ههنا { لكم } بخلاف سورة هود حيث قال { ولا أقول إني ملك } [ الآية : 31 ] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله { إني لكم نذير } [ هود : 25 ] فاكتفى بذلك . قال الجبائي : في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ المراد لا أدّعي فوق منزلتي . قال القاضي : إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل ، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة . { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } قيل : هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام ، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] فلا يجوز العمل بالقياس ، وأكد هذا الحكم بقوله { قل هل يستوي الأعمى والبصير } وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى ، والعمل بمقتضى الوحي يقوم عمل البصير . ثم قال { أفلا تتفكرون } تنبيهاً على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين . وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة ، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية { أفلا تتفكرون } فلا تكونوا ضالين كالعميان ، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم .
التأويل : { وما من دابة } تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها { إلا أمم أمثالكم } في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا } [ الإسراء : 36 ] { ما فرطنا } ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه ، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب . { ثم إلى ربهم يحشرون } ههنا بالسير وجذبات العناية ، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال { والذين كذبوا بآياتنا } بدلائلنا الموصلة إلينا { صم } آذان قلوبهم عن استماع الحق { بكم } ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة { بل إياه تدعون } لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته .
{ ولقد أرسلنا إلى أمم } أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا ، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا { فأخذناهم بالبأساء والضراء } التي هي موجبة للإلجاء . { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا ، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا ، فاستقبلوها بصدق الإلتجاء وحسن التضرع في الدعاء . { فلما نسوا } بسبب القساوة { ما ذكروا به } من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من الماء والجاه والقبول وأمثالها ، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات الغيب وأشباهها { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم { أخذناهم بغتة } بفقد الأحوال والاشتغال بالقال { فإذا هم مبلسون } متحيرون في تيه الغرور . والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال { قل أرأيتم } الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبودية المولى في عبادة الهوى . فأما من ابتلي بعذاب الله من الآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة { قل لا أقول لكم } لم يقل ليس { عندي خزائن الله } ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بحقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] وباستجابة دعائه في قوله « أرنا الأشياء كما هي » ولكنه يكلم الناس على قدر عقولهم . { ولا أعلم الغيب } أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في قصة ليلة المعراج « نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون » { ولا أقول لكم إني ملك } وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل : تقدم فقال : لو دنوت أنملة لاحترقت { إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ } أن أخبرهم وقل معهم { قل هل يستوي الأعمى والبصير } فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير .
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
القراآت : { بالغدوة } مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف : ابن عامر الباقون : بفتح الغين والدال وبالألف { أنه } بالفتح { فإنه } بالكسر : أبو جعفر ونافع . وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعاً بالفتح . الباقون : بالكسر فيهما { وليستبين } بياء الغيبة : زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل . الباقون : بالتاء الفوقانية { سبيل } بالنصب : أبو جعفر ونافع وزيد . الباقون : بالرفع { يقص } ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم . الباقون { يقضي الحق } .
الوقوف : { يتقون } ه { وجهه } ط { الظالمين } ه { من بيننا } ط { الشاكرين } ه { الرحمة } ط لمن قرأ { أنه } بكس الألف { رحيم } ه { المجرمين } ه { من دون الله } ط { أهواءكم } لا لتعيين « إذا » بما قبله أي قد ضللت « إذا » اتبعت { المهتدين } ه { وكذبتم به } ط { تستعجلون به } ط { لله } ط { الفاصلين } ه { وبينكم } ط { بالظالمين } ه { إلا هو } ط { والبحر } ط { مبين } ه { مسمى } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع اتحاد المقصود . { تعملون } ه .
التفسير : لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له { وأنذر به } قال ابن عباس والزجاج : أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله { إن أتبع إلا ما يوحى إليّ } [ الأنعام : 50 ] وقال الضحاك : أي بالله . قيل : والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر ، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولاً لقوله { وأنذرهم يوم الآزفة } [ غافر : 18 ] { فأنذرتكم ناراً تلظى } [ الليل : 14 ] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا : فقدر مثله ههنا ، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبىء عن شدة سخط الله وعقوبته . أما { الذين يخافون أن يحشروا } فقيل : إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم ، فلعل ناساً من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقاً فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم . ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون ، والعلم خلاف الخوف والظن . وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف الحشر سواء كان جازماً به أو شاكاً فيه . وأيضاً إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص . وقيل : إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين . وقيل : هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالعبث . ومعنى { إلى ربهم } إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة .
أما قوله { ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } فقال الزجاج : إن الجملة في موضع الحال من ضمير { يحشروا } أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعاً لهم . فإن كان الضمير للكفار فظاهر ، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع ، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقاً ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصراً وشفيعاً لزم أن لا يكون ناصراً أصلاً . { لعلهم يتقون } قال ابن عباس : لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي . قالت المعتزلة : فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة . وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد . ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم . « روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين - فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك . فقال صلى الله عليه وسلم : ما أنا بطارد المؤمنين . فقالوا : فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت . فقال : نعم طمعاً في إيمانهم » وروي أن عمر قال له : لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون . ثم إنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم : اكتب بذلك كتاباً ، فدعا الصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت { ولا تطرد } الآية . فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته . قال سلمان وخباب : فينا نزلت . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته ، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } [ الكهف : 28 ] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه . وقال : الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات ، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي . قال ابن عباس والحسن ومجاهد : أي يصلون صلاة الصبح والعصر . وقيل : أي يذكرون ربهم طرفي النهار ، والمراد بالغداة والعشي الدوام . والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس ، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب . قال الجوهري : غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر . ومحل { يريدون وجهه } نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل : ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب بقوله { يريدون وجهه } ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم ، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال : هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل .
وأيضاً المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا . ثم علل النهي بقوله { ما عليك من حسابهم من شيء } قيل : الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين ، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله { فتطردهم } كما في قصة نوح { إن حسابهم إلا على ربي } [ الشعراء : 113 ] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم كان الأمر على ما زعموا فيما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم ، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] كأنه قيل : لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه . وقيل : ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء . وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك ، أما قوله { فتطردهم } فهو جواب النفي في { ما عليك } وفي انتصاب { فتكون } وجهان : أحدهما أنه جواب النهي ، والثاني أنه عطف على { فتطردهم } على وجه التسبب ، لأن كونه ظالماً معلوم من طردهم ومسبب عنه ، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحباً بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه . والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلساً تألفاً لقلوب المشركين وتكثيراً لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين ، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل ، { وكذلك } أي مثل ذلك الفتن العظيم { فتنا } ابتلينا بعض الناس ببعض ، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدماً عليه في المناصب الدينية فيقول { أهؤلاء } المسترذلون { منّ الله عليهم من بيننا } كقوله : { أألقي الذكر عليه من بيننا } [ القمر : 25 ] والفريق الآخر يرى الأول مقدماً عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول : أهذا هو الذي فضله الله علينا . وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب ، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح . وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد ألبتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها . فكل إنسان يحسد صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال ، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشاً طيباً في الدنيا والآخرة . قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان ، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزيئات إلا عن حدوثها .
والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مراراً . وقالت الأشاعرة : في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر . فهو تعالى خالق للكفر . وأيضاً منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول ، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه . أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا : فتكون اللام لام العاقبة ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى { أليس الله بأعلم بالشاكرين } بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى . وقال في الكشاف : أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان ، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق .
{ وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } قال عكرمة : نزلت في الذين نهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام ، وقال : « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام » وقال ماهان الحنفي : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا أصبنا ذنوباً عظاماً ، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء . فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية . قال في التفسير الكبير : الأقرب أن تحمل الآية على عمومها ، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أبدى إشكالاً وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة ، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت : لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها ، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله ، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائماً مترقياً في معارجها مترقباً أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة { سلام عليكم } ويستأهل لكرامة { كتب ربكم على نفسه الرحمة } { فقل سلام عليكم } إما أن يكون أمراً بتبليغ سلام الله إليهم ، وإما أن يكون أمراً بأن يبدأهم بالسلام إكراماً لهم . قال الزجاج : { سلام } إما مصدر « سلمت سلاماً وتسليماً » مثل : كلمت كلاماً وتكليماً . ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه ودينه ، وإما أن يكون جمع سلامة . وقيل : السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر .
{ كتب ربكم } من جملة المقول لهم تبشيراً بسعة رحمة الله وقبوله التوبة . ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجاباً يستحق بتركه الذم . وقالت المعتزلة : كونه عالماً بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلماً ، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان ، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه . { أنه من عمل } من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة ، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل : إنه من عمل { منكم سوءاً بجهالة } وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل . والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير ، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله . { ثم تاب من بعده } بأن يندم على ما فعله { وأصلح } العمل في المستقبل { فأنه غفور } يزيل العقاب عنه { رحيم } يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى : أن الجملة جزاء للشرط ، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور . قيل : إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة . { وكذلك } أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر { نفصل الآيات } ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل { وليستبين } معطوف على محذوف كأنه قيل : ليظهر الحق وليستبين ، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين . من رفع « السبيل » قرأ { ليستبين } بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث ، ومن نصب السبيل قرأ { لتستبين } بتاء الخطاب مع الرسول يقال : استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين ، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] ولم يذكر البرد . وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم ، فمنهم من هو مطبوع على قلبه ، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام ، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلاً منهم بما يجب ، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله { قل إني نهيت } أي صرفت بدلائل العقلية والسمعية { أن أعبد الذين تدعون } تعبدون { من دون الله قل لا أتبع أهواءكم } لأن عبادة المصنوع والمخلوف محض التقليد وعين الهواى { قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين } أثبت الضلال إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد ، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك .
ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله { قل إني على بينة من ربي } على حجة واضحة من مغفرة ربي وأنه لا معبود سواه { وكذبتم } أنتم به حيث أشركتم به غيره . يقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتاً عنده بدليل . وقيل : أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن { وكذبتم به } أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان . { ما عندي ما تستعجلون به } يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم { إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } [ الأنفال : 32 ] قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم . { إن الحكم إلا لله } مطلق يتناول الكل . فقال الأشاعرة : لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله ، واحتجت المعتزلة بقوله { يقضي الحق } أي كل ما قضى به فهو الحق ، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق . ويمكن أن يقال : إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية . وانتصاب { الحق } على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق ، أو مفعول به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره . ومثله من قرأ { يقصر الحق } كقوله { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 2 ] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره { وهو خير الفاصلين } أي القاضي ، وإنما كتب { يقض } في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وليوافق قراءة { يقص } { قل لو أن عندي } أي في قدرتي وإمكاني { ما تستعجلون } من العذاب { لقضي الأمر } أمر الإهلاك { بيني وبينكم } عاجلاً غضباً لربي { والله أعلم بالظالمين } فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره . فإن قلت : أما يناقض هذا قوله { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا } [ الكهف : 6 ] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان ، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعاً في إيمانه . قلت : لا ، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله { وكان الإنسان عجولا } [ الإسراء : 11 ] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة { وعنده مفاتح الغيب } أراد أن المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع ، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن ، قال الحكيم في بيانه : إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط ، فعلمه بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر - كليات كانت أو جزيئات - وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح ان يقال : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .
وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضاً عنده فيبطل هذا الحصر ، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب ، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده . ثم إن قوله { وعنده مفاتح الغيب } قضية معقولة مجردة ، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالاً لها ليعين الحس العقل فقال { ويعلم ما في البر والبحر } لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول ، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان ، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضاً . ثم أفرد من هذه المحسوسات قسماً فقال { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها . ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال { ولا حبة في ظلمات الأرض } وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى . ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } قال في الكشاف : ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل : وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه . وقوله { إلا في كتاب مبين } كالتكرير لقوله { إلا يعلمها } ومعنى { إلا في كتاب مبين } واحد . والكتاب المبين علم الله أو اللوح . قال علماء التفسير : يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء ، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقاً له . أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سبباً تاماً في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم .
ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله { وهو الذي يتوفاكم } أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز . وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن فتتعطل الحواس عن بعض الاعمال ، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه { ويعلم ما جرحتم } أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع { ثم يبعثكم فيه } أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار { ليقضي أجل مسمى } أي أعماركم المكتوبة . وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت . ثم لما ذكر أنه يميتهم أولاً ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جارياً مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال { ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون } في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم . واعلم أن في هذه الآية إشكالاً لأن قوله { ويعلم ما جرحتم بالنهار } كان ينبغي أن يكون بعد قوله { ثم يبعثكم فيه } فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب . ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله { جرحتم } دون « تجرحون » ثم يبعثكم في النهار الآتي . والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل . ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف . والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء { ويعلم ما جرحتم بالنهار } ما كسبتم من الآثام فيه { ثم يبعثكم } من القبور { فيه } أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك : فيم دغوتني؟ فيقول : في أمر كذا { ليقضي أجل مسمى } وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم { ثم إليه مرجعكم } وهو المرجع إلى موقف الحساب . والأصوب عندي أن يقال : الخطاب عام ، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام . أما الضمير في { فيه } فيكون جارياً مجرى اسم الإشارة إلى الكسب . والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله علم . التأويل : { وأنذر به } أي بهذه الحقائق والمعاني { الذين يخافون } أي يرجون { أن يحشروا إلى ربهم } بجذبات العناية ويتحقق لهم أن { ليس لهم } في الوصول إلى الله { من دونه ولي } من الأولياء { ولا شفيع } يعني من الأنبياء ، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق . { ولا تطرد الذين يدعون } أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما قال « أنا جليس من ذكرني »
فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه .
وكل له سؤل ودين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني رضاكم
قال المحققون : الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله . فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلاً ولا نهاراً ، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكوناً ولا قراراً { ما عليك من حسابهم من شيء } يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلاً { وما من حسابك عليهم من شيء } أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم { فتطردهم } فتكسر قلوبهم بالطرد { فتكون من الظالمين } بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله { واخفض جناحك للمؤمنين } [ الحجر : 88 ] { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل : لسليمان ولأيوب كليهما : نعم العبد . مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها . ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره ، ومنع حقه عنه في فضله ، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه ، فإن المعطي والمانع هو الله . ومنه أن لا يرى الفاضل مستحقاً للفضل ليقولوا { أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا } { فقل سلام عليكم } إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : « كن مبتدئاً بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة » { سلام عليكم طبتم } [ الزمر : 73 ] بل سلم بذاته عليهم { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال { كتب ربكم على نفسه الرحمة } أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله { وآتيناه رحمة من عندنا } [ الكهف : 65 ] والرحمة العامة كما في الحديث الرباني للجنة « إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي » { أنه من عمل منكم } أي من المؤمنين { سوءاً بجهالة } أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها { ثم تاب من بعده } أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض . { قل إني نهيت } في الأزل بإصابة النور المرشش . { ما عندي ما تستعجلون به } من عبادة الهوى { لقضي الأمر } يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه { وعنده مفاتح الغيب } يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج .
وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين { ويعلم ما في البر } وهو عالم الشهادة { والبحر } وهو عالم الغيب { و } بهذا العلم { ما تسقط من ورقة } عن شجرة الوجود { إلا يعلمها } لأنه مكونها ومسقطها { ولا حبة } هي حبة الروح { في ظلمات } صفات أرض النفس ، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب { ولا رطب ولا يابس } الرطب المؤمن ، واليابس ما سيصير موجوداً وما قد صار . أو الرطب الروحانيات . واليابس الجمادات . أو الرطب المؤمن ، واليابس الكافر . أو الرطب العالم ، واليابس الجاهل . أو الرطب العارف ، واليابس الزاهد . أو الرطب أهل المحبة ، واليابس أهل السلوة . أو الرطب صاحب الشهود ، اليابس صاحب الوجود . أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه { وهو الذي يتوفاكم بالليل } ليل القضاء { ويعلم ما جرحتم بالنهار } نهار القدر أو الليل ، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة .
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
القراآت : { توفته } و { استهوته } ممالة : حمزة الباقون : بتاء التأنيث { قل من ينجيكم } من الإنجاء : سهل ويعقوب وعباس . الباقون : بالتشديد { وخفية } بالكسر حيث كان : أبو بكر وحماد . الباقون : بالضم { أنجانا } ممالة : حمزة وعلي وخلف { أنجانا } بدون الإمالة : عاصم . الباقون { أنجيتنا } { قل الله ينجيكم } بالتشديد : يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام . الباقون : بالتخفيف { بعضٍ انظر } وأشباه ذلك بكسر التنوين : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة ، وابن ذكوان { ينسينك } بالتشديد : ابن عامر .
الوقوف : { حفظة } ط { لا يفرطون } ه { الحق } ط { الحاسبين } ه { وخفية } ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا ، وتعلق « لئن » بمعنى القول في { تدعونه } أصح { الشاكرين } ه { تشركون } ه { بأس بعض } ط { يفقهون } ه { وهو الحق } ط { بوكيل } ه { مستقر } ط للإبتداء ب « سوف » على التهديد مع شدة اتصال المعنى { يعلمون } ه { غيره } ج { الظالمين } ه { يتقون } ه { ولا شفيع } ط للشرط مع العطف { بما كسبوا } لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى ، أو لاحتمال أن يكون { الذين } صفة { أولئك } وقوله { لهم شراب } خبر { الهدى ائتنا } ج { هو الهدى } ط { العالمين } لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة { واتقوه } ط { تحشرون } ه { بالحق } ط { فيكون } ط { في الصور } ط { والشهادة } ط { الخبير } ه .
التفسير : من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله { وهو القاهر فوق عباده } والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال : أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه ، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس ، ويتصرف فيها كيف يشاء ، علويات كن أو سفليات ، ذوات أو صفات ، نفوساً أو أبداناً ، أخلاطاً وأركاناً . ومن جملة قهره إرسال الحفظة - وهي جمع حافظ - على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 18 ] وعلى أفعالهم بقوله { يعلمون ما تفعلون } [ الانفطار : 12 ] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها . وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين ، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار : انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه . قالت العلماء : من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجراً له عن القبائح . ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن .
ومنها التعبد فعلى الملكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك . وقال بعض الحكماء : الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها . وقال بعض القدماء : منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها ، فبعضها خيرة وبعضها شريرة ، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة ، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة ، وعلى سبيل الإلهامات أخرى . فالأرواح الخيرة لها مبادٍ من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادىء في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته ، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير . وقيل : إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها { حتى إذا جاء أحدكم الموت } أي وقته أو أماراته { توفته رسلنا } أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله { يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] . وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله { يتوفاكم ملك الموت } [ السجدة : 11 ] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان : أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون . وعن مجاهد : جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله ، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين . { وهم لا يفرطون } لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة { ثم ردوا إلى الله } أي إلى حكمه وجزائه { مولاهم الحق } صفتان والضمير في { ردوا } إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة ، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب ، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق . وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتاً والإنسان مردود إليه تعالى . وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجوداً قبل البدن وقد تعلق به زماناً ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { ألا له الحكم } كقوله : { إن الحكم إلا لله } [ الأنعام : 57 ] { وهو أسرع الحاسبين } حساباً قيل : إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام . وقيل : يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله
{ ولا يكلمهم الله } [ البقرة : 174 ] وقال الحكيم : معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق ، قليلة كانت أو كثيرة ، حميدة أو ذميمة ، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده . وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال . قال الجبائي - ههنا : لو كان كلامه قديماً لوجب أن يكون متكلماً بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم . وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالماً بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم . ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله { قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } مجازاً عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة : يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص ، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة . وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب ، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء . { تدعونه } في موضع الحال { تضرعاً وخفية } مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص . والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور : أحدها الدعاء . الثاني التضرع . والثالث : الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله { وخفية } ورابعها : التزام الشكر هو المراد من قوله { لئن أنجيتنا من هذه } الظلم والشدة { لنكونن من الشاكرين } فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات . ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب ، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى . وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا . ثم ذكر نوعاً آخر من دلائل التوحيد مقروناً بنوع من التخويف فقال { قل هو القادر } واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر ، وهو الكامل القدرة { على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون وخسف بقارون . وقيل : من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم . وقيل : هو حبس المطر والنبات { أو يلبسكم شيعاً } هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى ، كل فرقة منكم مشايعة لإمام . ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « » سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني « » وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف «
قالت الأشاعرة : في قوله { أو يلبسكم شيعاً } دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله { ويذيق بعضكم بأس بعض } إشارة إلى أن أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة : الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به ، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة { انظر كيف نصرف الآيات } نقرر الدلائل الواضحات . وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير : انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها { لعلهم يفقهون } { وكذب به } أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة { قومك } يعني قريشاً ومن دان بدينهم { وهو الحق } أي لا بد أن ينزل بهم . وقيل : أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله . وقيل : أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات . { قل لست عليكم بوكيل } أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر . { لكل نبأ لكل } خبره يخبره الله تعالى { مستقر } أي استقرار أو موضع استقرار . والمراد بالنبأ المنبأ به لأن النبأ قد حصل ، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتاً ومكاناً يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير { وسوف تعلمون } فيه من التهديد ما فيه .
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال { وإذا رأيت } أيها السامع { الذين يخوضون في آياتنا } والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث ، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك { فأعرض عنهم } بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك { فلا تقعد بعد الذكرى } وقيل : المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه ، هذا عند عدم الخوف ، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة . نعم كل ما أوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعله وجب عليه ، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها { وإما ينسينك الشيطان } أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم { فلا تقعد بعد الذكرى } بعد أن تذكر النهي { مع القوم الظالمين } أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم . قال الليث : الذكرى اسم للتذكرة .
وقال الفراء : هي الذكر . قال في الكشاف بناء على مذهبه : يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى ، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم . قال الجبائي : إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف ، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع ، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادراً على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان . قال ابن عباس : قال المسلمون : لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله { وما على الذين يتقون } أي الشرك والكبائر والفواحش { من حسابهم } من ذنوبهم التي يحاسبون عليها { من شيء ولكن ذكرى } أي ولكن يذكرونهم تذكيراً ، أو ولكن عليهم أن يذكروهم ، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى . ولا يجوز أن يكون عطفاً على محل { من شيء } كقول القائل : ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله { من حسابهم } يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين . ثم أكد الإعراض عنهم بقوله { وذر الذين } والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله { فأعرض عنهم وعظهم } [ النساء : 63 ] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم { اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } وفيه وجوه : اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعباً ولهواً حيث سخروا به واستهزؤا ، أو أتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها ديناً لهم ، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب ، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعباً ولهواً لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى . قال ابن عباس : أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه . ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله { وغرتهم الحياة الدنيا } كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا { وذكر به } أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة { أن تبسل نفس } قال الحسن ومجاهد : أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه . وقال قتادة : تحبس في جهنم . وعن ابن عباس : تفتضح { ليس لها } أي النفس { من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل } إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله { لا يؤخذ منها } قال في الكشاف : فاعل { يؤخذ } قوله { منها } لا ضمير العدل لأن العدل ههنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ .
وأما في قوله { ولا يؤخذ منها عدل } فبمعنى المفتدى به فصح إسناده . قلت : إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله { ويأخذ الصدقات } [ التوبة : 104 ] ارتفع الفرق . { أولئك } المتخذون { هم الذين أبسلوا بما كسبوا } ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله { لهم شراب من حميم } ثم رد على عبدة الأصنام بقوله { قل أندعوا من دون الله } النافع الضار { ما لا ينفعنا ولا يضرنا } أي لا يقدر على النفع والضر { ونرد } داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام ، فإن الردة عود إلى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [ النحل : 78 ] { كالذي استهوته } محله النصب على الحال من الضمير في { نرد } أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله : { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء } [ الحج : 31 ] وقيل : اشتقاقه من اتباع الهوى و { حيران } حال أخرى لكن من الضمير في { استهوته } وكذا الجملة بعده . ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه . ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء . { له } أي لهذا المستهوي { أصحاب } رفقة { يدعونه إلى الهدى } أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدراً . وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له { ائتنا } أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه ، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان ، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعاً للجن غير ملتفت اليهم . وقيل : إن لذلك الكافر أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى . وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان { قل إن هدى الله } وهو الإسلام { هو } الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال { وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا } قال الزجاج : لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير : وأمرنا لنسلم ولنقيم ، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا : قيل : والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر . وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك . والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح ، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله { لنسلم } ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله { وأن أقيموا } ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله { واتقوه } ثم قال { وهو الذي إليه تحشرون } ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر .
ثم دل على وجود الحاشر بقوله { وهو الذي خلق السموات والأرض } قائما أو ملتبساً { بالحق } بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة ، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثاراً تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق { يوم يقول كن فيكون قوله الحق } فقوله فاعل { يكون } و { يوم } مفعول { خلق } والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد ، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق « كن فيكون » وعلى هذا يجوز أن يكون قوله { الحق } مبتدأ وخبراً مستأنفاً ، أو قوله { الحق } مبتدأ و { يوم يقول } ظرف دال على الخبر مثل « يوم الجمعة القتال » أي القتال واقع يوم الجمعة . والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خالٍ عن الجور والعبث { ويوم ينفخ } ظرف لقوله { وله الملك } كقوله { لمن الملك اليوم } [ غافر : 16 ] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع . والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن { ونفخ في الصور فصعق } [ الزمر : 68 ] ففزع { فإذا نقر في الناقور } [ المدثر : 8 ] وقال أبو عبيدة : الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة . وخطأه الأئمة فقالوا : كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف ، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإسان على صور بالفتح كقوله { فأحسن صوركم } [ غافر : 64 ] ومن أسكن فقد أخطأ ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] { فنفخنا فيها من روحنا } [ الأنبياء : 91 ] { ثم أنشأناه خلقاً آخر } [ المؤمنون : 14 ] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله { عالم الغيب والشهادة } أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات { وهو الحكيم } المصيب في أقواله وأفعاله { الخبير } النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس ، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق .
التأويل : { وهو القاهر } بوصف الجلال للأولياء ، قهار بوصف الجبروت للأعداء . { ويرسل عليكم حفظة } من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد ، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة ، ولو أراد روحه استرواحاً من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة { حتى إذا جاء أحدكم الموت } يعني الفناء عن أوصاف الوجود { توفته } رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف { ثم ردوا } إلى البقاء بالله { قل الله ينجيكم من ظلمات } بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية .
{ تدعونه تضرعا } بالجسم { وخفية } بالروح { ومن كل كرب } آفة وفتنة { ثم أنتم تشركون } حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته ، فبعضكم يقول : أنا الحق وبعضكم يقول : سبحاني ما أعظم شأني { عذاباً من فوقكم } بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم { أو من تحت أرجلكم } حجاباً من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم { أو يلبسكم شيعاً } بجعل الخلق فيكم فرقاً . فمن قائل هم الصديقون ، ومن قائل هم الزنديقون { ويذيق بعضكم بأس بعض } بالقتل والصلب وقطع الأطراف { انظر كيف نصرف } آيات المصارف للسائرين إلى الله { لعلهم يفقهون } لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود { وكذب } بهذا المقام { قومك } المنكرون { وهو الحق قل لست عليكم بوكيل } لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال { لكل نبأ مستقر } أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد { وإذا رأيت الذين يخوضون } في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها { فأعرض عنهم } ولا تجالسهم { حتى يخوضوا في حديث } غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح . { وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً } لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق { أن تبسل نفس } أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية { بما كانوا يكفرون } بمقامات الرجال من الوصول والوصال { قل أندعوا من دون الله } أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار . والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه ، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه . { ونرد على أعقابنا } إلى مقام الإثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى { حيران } من إغوائهم . { وأمرنا لنسلم } بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلماً لصولجان القضاء { وأن أقيموا الصلاة } بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال : ألا من طلبني وجدني . { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق } أي لإظهار صفاته ، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبداً من عباده تلك الصفات يقول له : كن رائياً فيكون ، ولن يصير رائياً بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائياً هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية ، ينفخ الإراءة في صور القلب { وهو الحكيم } فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات { الخبير } بمن يخصه من بين الناس بالإراءة .
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
القراآت : { إني أراك } بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع { لأبيه آزر } بالضم على النداء : يعقوب { رأى كوكباً } بإمالة الهمزة : أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش . وكذلك { رآه } و { رآك } وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة . وافق ابن ذكوان في { رأى } فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم . وافق مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة « اقرأ باسم » { رأى القمر } و { رأى الشمس } ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة : حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز . وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة { أتحاجوني } بتخفيف النون : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان . الباقون : بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية { وقد هدان } بالإمالة : علي . وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين ، وافق أبو عمرو ويزيد واسماعيل في الوصل . { درجات } بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب .
الوقوف : { آلهة } ج للابتداء بأن مع اتحاد القول { مبين } ه { الموقنين } ه { رأى كوكباً } ج لأن جواب « لما » قوله « رأى » مع اتحاد الكلام بلا عطف { ربي } ج لأن جواب « لما » منتظر مع فاء التعقيب فيها . { الآفلين } ه { هذا ربي } ج لذلك { الضالين } ه { هذا أكبر } ج لذلك { يشركون } ه { المشركين } ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه . { قومه } ط { هدان } ط لانتهاء الاستفهام { شيئا } ط { علما } ط { تتذكرون } ه { سلطانا } ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام { بالأمن } ج لأن جواب « إن » منتظر محذوف التقدير : إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام { تعلمون } ه لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار ، ولو وصل اتصل بما قبله { يهتدون } ه { على قومه } ط { من نشاء } ط { عليم } ه .
التفسير : إنه سبحانه كثيراً ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف ، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان . ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر ، ومنهم من قال : اسمه تارح . قال الزجاج : لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح ، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب . والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين - مثل وهب وكعب - أو غيرهما . سلمنا أن اسمه كان « تارح » لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقباً والآخر اسماً أصلياً ، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول . وقيل : إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب .
وقيل : إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته ، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسماً للمحب قال تعالى { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } [ الإسراء : 71 ] وقال الشاعر :
أدعى بأسماء نبزاً في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي .
أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عماً له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله { نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق } [ البقرة : 133 ] ومعلوم أن إسماعيل كان عماً ليعقوب . ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصاً متهالكين على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار نقصه ، فلو كان النسب كذباً لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذبيه ، وحيث لم يكذبوه علمنا أن النسب صحيح ، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم : إن أحداً من آباء الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان كافراً وفسروا قوله { وتقلبك في الساجدين } [ الشعراء : 219 ] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات » وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والداً له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله : { إني أراك وقومك في ضلال مبين } وقد قال تعالى { ولا تقل لهما أف ولا تنهرهما } [ الإسراء : 23 ] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ « آزر » بالضم . والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني } [ الأعراف : 142 ] وأجيب بأن قوله { وتقلبك في الساجدين } [ الشعراء : 219 ] يحتمل وجوهاً أخرى سوف يجيء ذكرها ، وبأن قوله « لم أزل أنتقل » محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحاً . والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار أبيه على الكفر كما قال { فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه } [ التوبة : 114 ] لا لأجل السفه والجفاء لقوله { إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب } [ هود : 75 ] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكراً على آزر وقومه { أتتخذ أصناماً آلهة } أي معبودين . وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافياً فلما لم يكن الواحد كافياً دل ذلك على عجزها وإن كثرت ، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى ، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال ، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه { وكذلك } أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله { نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل « أريناه » بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل : كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه ، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين : معلومات الله غير متناهية ، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضاً غير متناهية .
فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل ، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل ، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى ، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته ، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل : السفر إلى الله تعالى له نهاية ، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية . والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة . قال بعضهم : إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين . قالوا : شق له تحت السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية ، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب . عن ابن عباس أنه قال : لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبداً على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك ، فقال الله تعالى له : كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث : إما أن أجعل منهم ذرية طيبة ، أو يتوبون فأغفر لهم ، أو النار من ورائهم . وقال الأكثرون : إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة ، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعاً . وأيضاً قوله { فلما جن عليه الليل } جارٍ مجرى الشرع والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم . ثم قال بالآخرة { وتلك حجتنا } والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه . وأيضاً الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الأخرة . وأيضاً اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقاً بالشك ، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين ، أو ليكون من الموقنين نريه ، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سبباً للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون { ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى } [ طه : 56 ] وأيضاً الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال ، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء ، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله .
أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها ، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله ، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله . وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي ، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في دعائه « أرني الأشياء كما هي » ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه ، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة ، ويكون جارياً مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نوراً وإشراقاً وانبساطاً إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله { فلما جن عليه الليل } قال في الكشاف : إنه معطوف على قوله { وإذ قال إبراهيم } وقوله { وكذلك نرى } جملة وقعت اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه . يقال : جن عليه الليل وأجنه الليل . والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين . وقيل : جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب « على » . وأما « أجنة » فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم . واعلم أن كثيراً من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه . فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس ، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في بجبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه ، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحياناً وترضعه . وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له رباً فسأل الأم فقال لها : من ربي؟ فقالت : أنا . فقال : من ربك؟ فقالت : أبوك . فقال لأبيه : من ربك؟ فقال : ملك البلد . فعرف إبراهيم جهلهما بربهما . فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال : هذا ربي إلى آخر القصة . ثم منهم من قال : كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف ، ومنهم من قال : كان هذا قبل البلوغ . وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها : أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق .
ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مراراً بقوله { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] الآيات . وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن ، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة . ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله { فلما جن } ومنها أنه تعالى وصفه بقوله { إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات : 84 ] ومدحه بقوله { ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل } [ الأنبياء : 5 ] أي من أول زمان الفطرة . ومنها قوله عقيب هذه القصة { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } ولم يقل « على نفسه » . ومنها أنه قال بعد القصة { يا قوم إني بريء مما تشركون } مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم . ومنها قوله { وحاجة قومه } وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال { لا أحب الآفلين } رداً وتنبيهاً على فساد قولهم ، ويؤكده قوله { كيف أخاف ما أشركتم } لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار ، وكان ينبغي أن يستدل أوّلاً بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم . والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم ، ثم امتدت المناظرة إلى أن طلعت الشمس . ثم ههنا احتمالان : الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله ، مثاله : أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم : الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركباً متغيراً . فقولك « الجسم قديم » إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه ، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم : الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده . قال تعالى { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي } [ القصص : 62 ] وقال { ذق إنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي عند نفسك . وكان صلى الله عليه وسلم يقول : « يا إله الآلهة في زعمهم » أو المراد منه لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام ، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا } [ البقرة : 127 ] أي يقولان ربنا { والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم } [ الزمر : 3 ] أي يقولون : ما نعبدهم { إلا ليقربونا } [ الزمر : 3 ] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء ، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم مع أن إبراهيم كان مطمئناً بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقاً سوى ذلك .
وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى . قالت العلماء : إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر . ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم . وإن من كان في الصلاة فرأى طفلاً أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } [ الصافات : 88 ] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئاً عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام قال المتكلمون : إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية ، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذباً لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا ههنا قوله { هذا ربي } لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزاً . الاحتمال الثاني : أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال { هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس { إني بريء مما تشركون } واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة ، لأن الإرهاص - وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى - جائز عندنا . ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول . قال في الكشاف : فإن قلت : لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب . وأنا أقول : الاحتجاج بالبزوغ في الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعاً لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال ، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغاً .
ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام ، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات . وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة ، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم . وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب ، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية ، أقصى ما في الباب أن يقال : إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى ، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات ، فيجب أن يكون قادراً على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال ، ويعلم من قوله { لا أحب الآفلين } أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائباً عنا فكان آفلاً ، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة . وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلى النظر والاستدلال . أما قوله { فلما رأى القمر بازغاً } يقال بزغ القمر أو الشمس إذا ابتدأ بالطلوع . وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقاً قاله الأزهري . وفي قوله { إن لم يهدني ربي } إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى . والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل ، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلاً فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } أراد هذا الطالع أو هذا المرئي ، أو ذكر بتأويل الضياء والنور ، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة { هذا أكبر } أي أكبر الكواكب جرماً ونوراً ، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلاً لكرة الأرض كلها . وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلاً مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب ، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير { يا قوم إني بريء مما تشركون } قيل : لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقاً . والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة ، فلما أثبت أنها ليست أرباباً ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق . ومعنى { وجهت وجهي للذي فطر } وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يوجه وجهه إليه ، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة . وأصل الفطر الشق يقال : تفطر الشجر بالورق والورد إذا أظهرهما ، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى .
قال أبو العالية : الذي يستقبل البيت في صلاته .
ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم { إنا وجدنا آباءنا على أمة } [ الزخرف : 22 ] وكقولهم للرسول صلى الله عليه وسلم { أجعل الآلهة إلها واحداً إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله { أتحاجوني في الله وقد هدان } أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ { ولا أخاف ما تشركون به } لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر { إلا أن يشاء } إلا وقت مشيئة { ربي } شيئاً يخاف . فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي ، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة ، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب ، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى ، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام { وسع ربي كل شيء علماً } فلا يفعل إلا الخير والصلاح { أفلا تتذكرون } أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجد حلول العقاب ونزول العذاب ، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد ، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } إذ لا سلطان فينزل . وقيل : إنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء ، ولكنه لم يؤمر به . والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال { فأي الفريقين } يعني فريقي المشركين والموحدين . ولم يقل « فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم » اجتناباً عن تزكية نفسه . والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله { الذين آمنوا } الآية ، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان ، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله { ولم يلبسوا } أي لم يخلطوا إيمانهم { بظلم } . قالت الأشاعرة : شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم ، ولو كان ترك الظلم داخلاً في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن . وقالت المعتزلة : شرط في حصول الأمن حصول الأمرين : الإيمان وعدم الظلم . فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبداً . وأجيب بأن الظلم ههنا الشرك لقوله { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد : الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكاً في المعبودية ، ويؤيده أن القصة وردت في نفس الأضداد والأنداد .
وأيضاً لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي . واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم ، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريراً لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله { فلما جن عليه الليل } إلى ههنا وإليها الإشارة بقوله { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم } أرشدناه إليها ووفقناه لها { نرفع درجات من نشاء } من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد ، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله { ورفع بعضهم درجات } [ البقرة : 253 ] وقد تقدم في البقرة ، واختلف في تلك الدرجات فقيل : أعماله في الآخرة ، وقيل : تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني ، وقيل : نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة ، وفي الآخرة بالجنة والثواب . أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم { إن ربك حكيم عليم } فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة .
التأويل : رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقناً عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه { فلما جن عليه } ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه ، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعاً من أفق سماء روحانيته فقال : { هذا ربي } أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل :
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فإن كذبت النفس فيما قالت للكواكب « هذا ربي » ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب . فقال { هذا ربي } فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره { لا أحب الآفلين } فلما تسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر { قال هذا ربي فلما أفل } عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن { لم يهدني ربي } برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة { لأكونن من القوم الضالين } عن الحق كآزر وقومه . فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية ، وأشرقت أرض القلب بنور ربها { قال هذا ربي فلما أفلت } شمس الهداية تعززاً وتعظماً ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية .
إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب .
تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال . فقال { يا قوم إني بريء مما تشركون } وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشهبة فنظر أولاً في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية ، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة ، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبقَ إلا الواجب الحق .
ومن الناس من حمل الكوكب على الحس ، والقمر على الخيال ، والشمس على الوهم والعقل ، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة ، ومدبر العالم قاهر لها مستولٍ عليها { وحاجة قومه } ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه ، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان { إلا أن يشاء ربي شيئاً } من الخذلان وهذا محال لأنه { وسع ربي كل شيء علماً } فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان { ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل : أما إليك فلا { وتلك } يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات { آتيناها إبراهيم } بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه { نرفع درجات من نشاء } بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي .
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
القراآت : { واليسع } بتشديد اللام : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالتخفيف ، { اقتده } بإشباع الهاء : ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة ، وبحذف الهاء في الوصل : سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بسكون هاء السكت على الأصل .
الوقوف : { ويعقوب } ط { كلاً هدينا } ج لأن { ونوحاً } مفعول ما بعده ، ولو وصل التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين { وهارون } ط { المحسنين } ه لا للعطف { وإلياس } ط { من الصالحين } ه لا للعطف { ولوطا } ط { العالمين } ه لا للعطف . { وإخوانهم } ج لبيان أن قوله { واجتبيناهم } يعود إلى قوله { كلاً هدينا } كقوله { وممن هدينا واجتبينا } [ مريم : 58 ] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيناهم وذكر هديناهم بعده { مستقيم } ه { من عباده } ط { يعملون } ه { والنبوّة } ج { بكافرين } ه { اقتده } ط { أجراً } ط { للعالمين } ه .
التفسير : لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال { ووهبنا له } باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بذلك على عظم العطية ، وذلك أنه جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه . قيل : وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضاً ابنه لصلبه ، لأن المقصود بالذكر ههنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب ، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لأنه أمر محمداً أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا ، ومن جملة ذلك أن آتاه أولاداً كانوا ملوكاً وأنبياء ، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض ، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق . أما قوله { ونوحاً هدينا من قبل } فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضاً مثل نوح وإدريس وشيث ، وأما الضمير في قوله { ومن ذريته } فقد قيل : إنه يعود إلى « نوح » لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطاً وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته ، بل كان من ذرية نوح ، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح ، ولأن يونس عليه السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم . وقيل : الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر هو هذا المقام . واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم : نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب . ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبياً : داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً .
فالمجموع ثمانية عشر . وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة ، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب . وقال في التفسير الكبير : إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة . فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيباً عظيماً ، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك ، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلاً ثم أوتي الملك ثانياً . الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين . السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخلق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط . وأما المراد بقوله { كلاً هدينا ونوحاً هدينا } قيل : المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله { وكذلك نجزي المحسنين } فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب . وقيل : لا يبعد أن يقال : المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] وقيل : إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك ، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل . واستدل بعضهم بقوله { وكلاً فضلنا على العالمين } على أن الأنبياء أفضل من الملائكة ، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء . وقيل : فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال . قال القاضي : ويمكن أن يقال : المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين . ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول . ثم قال { ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم } معطوف على { كلاً } أي فضلنا بعض آبائهم . فالآباء هم الأصول ، والذريات هم الفروع ، والإخوان فروع الأصول . وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة . ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله { من آبائهم } وكلمة « من » للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة ، وإن فسرنا الهداية بالنبوة لم يفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولاً ولا نبياً { واجتبيناهم } أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته في جمعته ، { ذلك هدى الله } إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله { ولو أشركوا لحبط } وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار .
وفيه تهديد عظيم كقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] والغرض من ذلك زجر الأمة . { أولئك } يعني الأنبياء الثمانية عشر . { الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة } ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة . ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف : الحكام على بواطن الناس وهم العلماء ، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين ، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء . فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة . ومعنى إيتاء الكتاب الفهم التام بما في هذا الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره . ولو قيل : المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتاباً على التعيين . { فإن يكفر بها } أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة { هؤلاء } يعني أهل مكة { فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه . ومن القوم؟ قيل : كل مؤمن وقيل : أهل المدينة وهم الأنصار . وقيل : هم المهاجرون . وقال الحسن : هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك { أولئك الذين هدى الله } وقال أبو رجاء : يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم . وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الأديان وقد وقع ما وعد وكان إخباراً بالغيب فصح إعجاز القرآن . وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوماً للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركاً بين الكل لم يصح هذا التخصيص . أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله ، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف . ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن ، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئاً { فبهداهم اقتده } من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل ، ومن أثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكره مخالفة الخط في الحالين . وأما قراءة ابن عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد : إنها غلط . وقال أبو علي الفارسي : ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل . والتقدير : فبهداهم اقتد الاقتداء . وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم . ولا خلاف في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء المذكورين . إنما الكلام في تفسير الهدى .
فمن الناس من قال : المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال . وقال آخرون : المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل ، وعلى هذا فيلزمنا شرع من قبلنا ، وقيل : اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلا ما خصه الدليل المفصل . وقال القاضي : هذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معاً ، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل ، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصاً بتلك الأوقات ، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع ، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه في الصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة ، وبأن المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سبباً لوجوب الفعل على الثاني ، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان ، والصبر في أيوب ، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى ، والصدق في إسماعيل ، والتضرع في يونس ، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون ، ولهذا قال « لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي » .
ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في ايصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له : { قل لا أسألكم } أيها الأمة { عليه } على البلاغ { أجراً إن هو } يعني القرآن { إلا ذكرى للعالمين } يريد كونه مشتملاً على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد . وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم .
التأويل : ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب . ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد صلى الله عليه وسلم وآله كيلا يقع ذكره تبعاً لموهبة إبراهيم ، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد صلى الله عليه وسلم وآله ، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد { واجتبيناهم } في الأزل لهذا الشأن { وهديناهم } إلى الأبد { ولو أشركوا } بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئاً من دوننا ونسبوا شيئاً من الحوادث إلى غير قدرتنا ، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا { لحبط عنهم ما كانوا يعملون } لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم { فبهداهم اقتده } لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له : آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى ، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى { قل لا أسألكم } أيها الأنبياء على الاقتداء { أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين } ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء ، أو { لا أسألكم } أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق { أجراً أن هو إلا ذكرى للعالمين } من الله وبه وإليه وهو المستعان .
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
القراآت : { يجعلونه } { يبدونها } و { يخفون } بياآت الغيبة : أبو عمرو وابن كثير ، الباقون : على الخطاب { ولينذر } بياء الغيبة : أبو بكر وحماد . الباقون : بتاء الخطاب { بينكم } بفتح النون : أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل . الباقون : بالرفع { وجعل الليل } على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون { وجاعل الليل } على لفظ اسم الفاعل وبالإضافة { وجنات } بالرفع : الأعشى والبرجمي الباقون : بالنصب { فمسستقر } بكسر القاف : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب . الباقون : بالفتح { ثمره } بضمتين : حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس . الباقون : بفتحتين { وخرقوا } بالتشديد : أبو جعفر ونافع . الباقون : بالتخفيف .
الوقوف : { من شيء } ط { كثيراً } ط لمن قرأ { يجعلونه } بياء الغيبة . ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم { آباؤكم } ط { قل الله } ط لأن قوله ذرهم } معطوف على { قل } { يلعبون } ه { ومن حولها } ط { يحافظون } ه { أنزل الله } ط { أيديهم } ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير حذف أي يقولون أخرجوا { أنفسكم } ط لأن المراد من اليوم يوم القيامة { تستكبرون } ه { ظهوركم } ج لاتحاد القول . والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم { شركاء } ط { تزعمون } ه { والنوى } ط { من الحي } ط { تؤفكون } ه { فالق الإصباح } ج لمن قرأ { وجعل } لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل ، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق { حسباناً } ط { العليم } ه { والبحر } ط { يعلمون } ه { ومستودع } ط { يفقهون } ه { ماء } ج للعدول مع اتحاد المقصود { متراكباً } ط ومن قرأ { وجنات } بالرفع فللعطف على { قنوان } لفظاً فيلزمه وقفه على { دانية } وإلا فليعطف ويفهم أن { جنات } من جملة النخل ، ومن خفض فوقفه على { متراكباً } جائز للعطف على قوله { خضراً } مع وقوع العارض { وغير متشابه } ط { وينعه } ط { يؤمنون } ه { بغير علم } ط { يصفون } ه .
التفسير : اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد . فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال { وما قدروا الله حق قدره } قال ابن عباس : أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة . وقال أيضاً في رواية : ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير . وقال أبو العالية : ما وصفوه حق صفته . وقال الأخفش : ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه . وقال الجوهري : قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدراً من التقدير أي حرره وعرف مقداره . ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله { إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى ، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحداً من الخلائق تكليفاً أصلاً وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها ، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضاً جهل .
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون العقل كافياً في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل ، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج . وأيضاً تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه ، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم ، فلعل الخير في نظرهم يكون شراً في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف بالبواطن كقوله { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقاً له ، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة . وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } على أن قوله { تجعلونه قراطيس } بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء ، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى . وأيضاً الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كانت مدنية ، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة؟ والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين بالهيود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جارياً مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى . وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاماً لهم في قولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلاً ولأهل الكتاب آخراً وأما إن كانوا أهل الكتاب - وهو المشهور عند الجمهور - فالوجه ما روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلاً سميناً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله :
« أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود » فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء . فقال له قومه : ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال : إنه أغضبني : ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف . فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه ما أنزل عليه من شيء البته فأمر بأن يقول في جوابه { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئاً غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز . والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى ، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض . وقيل : اللفظ وإن كان مطلقاً بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة ، فكأنه قال : ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين ، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج وقال : إن خرجت من الدار فأنت طالق ، فإن كثيراً من الفقهاء قالوا : التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق . ويرد على هذا التوجيه أن قوله { من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } لا يكون مبطلاً لكلام الخصم . أما قوله « إن السورة مكية والمناظرات مدينة » فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنه نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم .
ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله { وما قدروا الله حق قدره } يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته } [ الزمر : 67 ] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله { من أنزل } مبطلاً لقوله { ما أنزل الله على بشر من شيء } ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله { من أنزل } حجة . ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية ، فإن لليهود حينئذ أن تقول : معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك .
ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال : حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئاً ، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئاً فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال ، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم { ما أنزل الله على بشر من شيء } فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني ، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف . ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نوراً وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة . فالمراد بالنور ظهوره في نفسه . وبالهدى كونه سبباً لظهور غيره كقوله في وصف القرآن { ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] قال أبو علي الفارسي { يجعلونه قراطيس } أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها . فإن قيل : إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا : لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره { وعلمتم } أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ، وقيل : كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمداً ، فظهر أن المراد منها هو البشارة بمقدمه ، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش كقوله { لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] { قل الله } أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه . ونظره { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها ، فسواء أقر الخصم به أولم يقر فالغرض حاصل . { ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب و { يلعبون } حال من { ذرهم } أو من { خوضهم } ويحتمل أن يكون { في خوضهم } حالاً من { يلعبون } وأن يكون صلة له أو ل { ذرهم } . والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله { إن عليك إلا البلاغ } [ الشورى : 48 ] قيل : إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعاً لشيء من مدلولات هذه الآية .
ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال { وهذا كتاب أنزلناه } وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمداً مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة ، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام { مبارك } كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكرات لما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية . وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك . { مصدق الذي بين يديه } أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية . أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة . وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم . ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى وقت ظهوره ثم تصير منسوخة { ولتنذر } من قرأ بتاء الخطاب فظاهر ، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازاً لأنه سبب الإنذار { إنما أنذركم بالوحي } [ الأنبياء : 45 ] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل : أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار ، قال ابن عباس : سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها . وقال أبو بكر الأصم : لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعاً ، وأيضاً الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم . وقيل : لأن الكعبة أول بيت وضع للناس . وقيل : إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها . قيل : المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط . وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين . ويحتمل أن يقال : ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد { والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به } أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خالفها لم يزل به الخوف حتى يؤمن . وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر { وهم على صلاتهم يحافظون } يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات . وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها .
ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } قال المفسرون : نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي .
عن النبي صلى الله عليه وسلم « رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني . فأوحى الله إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي » { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } كان مسيلمة يقول : محمد صلى الله عليه وسلم وآله رسول الله في بني قريش ، وأنا رسول الله في بني حنيفة . واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلاً تحت هذا الوعيد { ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } قال المفسرون : هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] وروي أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا تلا عليه « سميعاً عليماً » كتب هو « عليماً حكيماً » وإذا قال « عليماً حكيماً » كتب « غفوراً رحيماً » فلما نزل { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم . فلما وصل إلى قوله { أنشأناه خلقاً آخر } عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبها فكذلك نزلت ، فشك عبد الله وقال : لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، وإن كان كاذباً لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة . فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة - فغيبه عنده حتى اطمأن أهل مكة ، ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له . ثم فصل ما أجمل من الوعيد فقال { ولو ترى } الآية . وجوابه محذوف أي لرأي يا إنسان أمراً عظيماً { إذ الظالمون } يعني الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة . فاللام للعهد ، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج هؤلاء فيه . وغمرات الموت شدائده وسكراته . وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة { والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم } قيل : إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الخطاب؟ وأجيب بوجوه منها : أن المراد ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة إذا ما دخلوا جهنم ، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات { والملائكة باسطوا أيديهم } بالعذاب يكلمونهم يقولون لهم { أخرجوا أنفسكم } من هذا العذاب الشديد إن قدرتم .
ومنها { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } عند نزول الموت بهم في الدنيا { والملائكة باسطوا أيديهم } لقبض أرواحهم يقولون لهم { أخرجوا أنفسكم } من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام ، ومنها هاتوا أرواحكم وأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال ، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول : أخرج إليّ مالي عليك ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك . ومنها أنه ليس بأمر وإنما هو وعيد وتقريع كقوله القائل : امض الآن لترى ما يحل بك ، والتحقيق أن نفس المؤمن حال النزع تنبسط في الخروج إلى لقاء ربه ، ونفس الكافر تكره ذلك ويشق عليها الخروج ، وقطع التعلق لأنها تصير إلى العذاب وإليه الإشارة في الحديث « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه » فهؤلاء الكفار يكرههم الملائكة على نزع الروح وعلى فراق المألوف . وفي الآية دلالة على أن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل المحسوس ، لأن المخرج يجب أن يكون مغايراً للمخرج منه { اليوم } يريد وقت الإماتة أو الوقت الممتد الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة { تجزون عذاب الهون } كقولك « رجل سوء » بالإضافة لأن العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة كما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم ، والتركيب يدور على قلة المبالاة بالشيء ومنه بالفتح السكينة والوقار ، وهان عليه الشيء أي حقر ، وأهانه استخف به ، والاسم الهون بالضم والهوان والمهانة . والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة { بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون } يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بمجموع الأمرين : الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها . قال الواحدي { وكنتم عن آياته تستكبرون } أي لا تصلون له لقوله صلى الله عليه وسلم « من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر » .
{ ولقد جئتمونا } يحتمل أن يكون معطوفاً على قول الملائكة { أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون } ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم ، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار { فرادى } جمع ينون ولا ينوّن واحده . قيل : فرد على غير قياس : فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة . وقيل : فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر { كما خلقناكم } أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو مجيئاً مثل خلقنا لكم . { أوّل مرة } والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين : أحدهما المال والجاه ، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة ، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة ، فإذا فارقت البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله { ولقد جئتمونا فرادى } أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد .
ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الرجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلها وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله { وتركتم ما خوّلناكم } أي أعطينا وتفضلنا به عليكم { وراء ظهوركم } يعني أنها كالشيء الذيي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه { وما نرى معكم شفعاءكم } أي ليسوا معكم حتى يروا ، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله { لقد تقطع بينكم } الآية . من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله { وتقطعت بهم الأسباب } [ البقرة : 166 ] يقال : جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره . وقيل : المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غداً فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غداً فأتني فأضمر لدلالة الحال ، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعاً كما تقول : قوتل خلفكم وأمامكم ، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه كقولهم : بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم . والمعنى لقد تقطع وصلكم . قلت : ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم : جد جده . فإذن العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله { ولقد جئتمونا فرادى } ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله { وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم } بل يكون من زمرة { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } [ المزمل : 20 ] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله . ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حال المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال { أن الله فالق الحب والنوى } أي بالنبات والشجر . وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة ، والفلق هو الشق . وعن ابن عباس والضحاك : الفلق هو الخلق . ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق ، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل . واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقاً ومن أسفلها شقاً ، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء ، وأما الساقل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة ، وههنا عجائب منها : أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس .
فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار . ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين ، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض ، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم . ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار ، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب ، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار . ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة ، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب ، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس ، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب . ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة ، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز ، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش ، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر ، وبعض الفواكه يكون كله مطلوباً كالتين . فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة . تتضمن حكماً وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها . ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطاً واحدا ًمستقيماً يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس ، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقائق أصغر من الأول ، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة . فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر ، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل ، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير .
ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله { يخرج الحي من الميت } لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت ، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال { يحيي الأرض بعد موتها } [ الحديد : 17 ] ثم عطف على قوله { فالق الحب } قوله { ومخرج الميت من الحي } قال ابن عباس : أخرج من النطفة بشراً حياً ثم يخرج من البشر الحي نطفة ، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضاً ، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم ، والكافر من المؤمن كنوح وابنه ، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع ، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم ، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل ، وقد يجعل الضار نافعاً وبالعكس .
يحكى أن إنساناً سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سبباً لدفع ضرر برد الأفيون . ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله { ومخرج الميت } معطوف على قوله { يخرج } وإنما حسن عطف الاسم على الفعل ههنا ، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال { هل من خالق غير الله يرزقكم } [ فاطر : 3 ] ليفيد أنه يرزقهم حالاً فحالاً وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت ، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس { ذلكم الله } المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت { فأنى تؤفكون } فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الاستدلال بما فوقها وهي الأحوال الفلكية فقال { فالق الإصباح } وهو مصدر سمي به الصبح ، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحراً مملوءاً من الظلمة . ثم إنه سبحانه شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى فيه جدولاً من النور . فالمعنى فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح ، وحسن الحذف للعلم به . أو المراد فالق الإصباح ببياض النهار وإسفاره ومنه قولهم « انشق عمود الفجر وانصدع الفجر » أو المراد مظهر الإصباح بواسطة فلق الظلمة ، فذكر السبب وأراد المسبب ، أو الفالق بمعنى الخالق كما مر وقد سلف لنا تقرير الصبح في البقرة في تفسير قوله عز من قائل { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] ثم إن كون الصبح بسبب وقوع ضوء الشمس على ضلع مخروط ظل الأرض في جانبه الشرقي لا ينافي كون الله سبحانه فالق الإصباح بالحقيقة ، كما أن وجود النهار بسبب طلوع جرم الشمس عن الأفق لا ينافي ذلك ، والإمام فخر الدين الرازي أراد أن يبين أن ذلك بقدرة الفاعل المختار فنفى كونه بسبب ضوء الشمس بحجج اخترعها من عنده وكلها خلاف المعقول والمنقول من علم الرياضة فلذلك أسقطناها عن درجة الاعتبار . النوع الثاني من الدلائل الفلكية الدالة على التوحيد قوله { وجاعل الليل سكناً } حجة من قرأ باسم الفاعل أن المعطوف عليه اسم فاعل ، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله بعد ذلك { والشمس والقمر } منصوبان ولا بد من عامل وما ذلك إلا أن يقدر « جاعل » بمعنى « جعل » .
والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار : سكن كما سموها المؤنسة لأنها يستأنس بها ، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه . ويحتمل أن يراد : وجعل الليل مسكوناً فيه كما قال { لتسكنوا فيه } [ يونس : 67 ] فالليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم ، فهما نعمتان من الله تعالى وآيتان على وحدته وقدرته . النوع الثالث قوله { والشمس والقمر حسباناً } أي سببي حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بسيرهما ودورهما . والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر . وقيل : إنه جمع حساب مثل « شهاب » وشهبان « . قال في الكشاف : الشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث . فالنصب على إضمار فعل دل عليه { جاعل الليل } أو يعطفان على محل الليل لأن اسم الفاعل أريد به ههنا الاستمرار كما تقول : الله عالم قادر . فلا تقصد زماناً دون زمان فتكون الإضافة غير حقيقة ويكون لليل محل . قلت : وهذا مناقض لما ذكره في { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] من أنه يجوز أن يراد به زمان مستمر حتى تكون الإضافة حقيقية ، ويصح وقوعه صفة للمعرفة . وأما وجه الجر فظاهر . ووجه الرفع كونهما مبتدأين محذوفي الخبر أي والشمس والقمر مجعولان أو محسوبان حسباناً { وذلك } الجعل { تقدير العزيز } الذي قهرهما { العليم } الذي دبرهما . وذلك أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة وأوضاعها المعينة لا يتم إلا بقدرة شاملة لجميع الممكنات وعلم نافذ في الكليات والجزيئات . النوع الرابع قوله { وهو الذي جعل لكم النجوم } عد ههنا من منافع النجوم كونها سبباً للاهتداء إلى الطرق والمسالك { في ظلمات البر والبحر } حيث لا يرون شمساً ولا قمراً . والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما . وقيل : المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاركها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر . وأيضاً اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياء مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال { قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون } فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .
ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال { وهو الذي أنشأكم } أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء { من نفس واحدة } هي آدم وحوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه ، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة » كن « أبو بالنفخ وهي من آدم { فمستقر } من قرأ بكسر القاف فالتقدير فمنكم مستقر { و } منكم { مستودع } الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول .
ومن قرأ بفتح القاف فالتقدير : فلكم مستقر ولكم مستودع . فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدراً . وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضاً بما يشاكله استحساناً . وعن ابن عباس : أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله { ونقر في الأرحام ما نشاء } [ الحج : 5 ] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة ، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان . وقيل : المستقر صلب الأب والمستودع الرحم ، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلاً واستقرت هناك ، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة ، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع . وعن الحسن : المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت ، لأن الكافر قد ينقلب مؤمناً والفاسق صالحاً والوديعة على شرف الزوال والذهاب . وقال الأصم : المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق . وعنه أيضاً المستقر من في قرار الدنيا ، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث . وعن قتادة بالعكس . وعن أبي مسلم الأصفهاني : المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه ، والمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة . وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال ، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير فاعل قدير مختار خبير . ولهذا قال { قد فصلنا الآيات } ميزنا بعضها عن بعض { لقوم يفقهون } لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاماً ، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه ، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلاً فضلاً عن العلم . ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال { وهو الذي أنزل من السماء ماء } قيل : أي من جانب السماء وقيل : أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت . وقال أكثر أهل الظاهر : أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد . ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم . قال ابن عباس : يريد بالماء ههنا المطر ، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك . والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها . { فأخرجنا به } أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه { نبات كل شيء } قال الفراء : أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك .
وفي الآية التفاتان : الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل « نحن الذين أنزلنا » والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة ، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك . ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله { إن الله فالق الحب والنوى } فقال { فأخرجنا منه } أي من النبات { خضراً } شيئاً أخضر طرياً وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة . { نخرج منه } أي من ذلك الخضر { حباً متراكباً } بعضه على بعض . قال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة ، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر . والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة . ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال { ومن النخل } وهو خبر وقوله { من طلعها } بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل { قنوان } أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه . والتقدير : ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو . والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب ، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة . قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها . وعنه أيضاً أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض . قال الزجاج : ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال { سرابيل تقيكم الحر } [ النحل : 81 ] ويحتمل أن يقال : ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم . وقيل : أراد بكونها دانية أنها سهلة المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول ، وأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها بالثمر لا تنتظر الطول { وجنات من أعناب } بالنصب عطفاً على { خضراً } أي وأخرجنا به جنات من أعناب . ومن قرأ بالرفع فعلى أنها مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب ، أو وجنات من أعناب مخرجة ، ولا يجوز أن يكون عطفاً على قنوان وإن جوّزه في الكشاف ، إذا يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب . أما قوله { والزيتون والرمان } بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين . قال الفراء : أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف . واعلم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه ، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولا سيما للعرب . ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم
« أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم » ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله . فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه ، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء ، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى ، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها . وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة . ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو ، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه ، وأما الرمان فحاله عجيبة جداً لأنه قشر وشحم وعجم وماء . والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة ، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة ، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه ، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفى بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيهاً على البواقي . وأما قوله { مشتبهاً وغير متشابه } ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة ، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس . الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابهاً في الطعم والخاصية ، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة ، ومنهم من يقول : الأشجار متشابهة والثمار مختلفة . ومنهم من قال : بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة ، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال : اشتبه الشيئان وتشابها كقولك : استويا وتساويا . وإنما قال { مشتبهاً } ولم يقل « مشتبهين » إما اكتفاء بوصف أحدهما ، أو على تقدير والزيتون مشتبهاً وغير متشابه والرمان كذلك كقوله :
رماني بأمر كنت ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني
{ انظروا إلى ثمره } من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل : بقر وبقرة ، وشجر وشجرة . ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضاً مثل : خشبة وخسب . قال تعالى { كأنهم خشب مسندة } [ المنافقون : 4 ] أو على أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر { إذا أثمر } إذا أخرج ثمره { وينعه } يقال : ينعت الثمرة ينعاً وينعاً بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت . أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة ، وربما كات أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضيئلاً ضعيفاً لا يكاد ينتفع به ، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل ، ولهذا ختم الآية بقوله { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } قال القاضي : المراد لمن يطلب بالإيمان بالله لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن ، ويحتمل أن يقال : خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم ، أو المراد أن هذه الدلالة على قوّتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به ألبتة ويكون من زمرة من قال في حقهم { وجعلوا الله شركاء الجن } قال الكلبي : عن ابن عباس نزلت في الزنادقة قالوا إن الله تعالى وإبليس أخوان ، فالله خالق الناس والدواب والأنعام ، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب .
قال في التفسير الكبير : هذا مذهب المجوس فإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله يسمى بالزند والمنسوب إليه زندي ، ثم عرّب فقيل زنديق ، ثم جمع فقيل زنادقة ، ثم إنهم قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان ، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا ، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة كقولهم إنه تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها ففعل نوعاً من العجب فتولد الشيطان من ذلك العجب ، وكقولهم شك في قدرة نفسه فتولد من شكه الشيطان . والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي والحاصل أنهم يقولون : عسكر الله تعالى هم الملائكة ، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة تلهم الأرواح البشرية الطاعات ، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة يلقون الوساوس إلى الأرواح البشرية ، والله تعالى مع عسكره يحاربون إبليس مع عسكره فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن بلفظ الجمع وإن كان شريكه عندهم بالحقيقة واحداً وهو أهرمن . وانتصاب { الجن } على أنه بدل أو بيان لشركاء أو على أنه مفعول أول ل { جعلوا } و { شركاء } ثانيه ويكون { لله } طرفاً لغواً . وفائدة تقديم المفعول الثاني على هذا القول استعظام أن يتخذ لله شريك كائناً من كان ، ملكاً أو جنياً أو إنسياً ، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء . وقرىء { الجن } بالرفع كأنه قيل : من هم؟ فقيل : الجن . وبالجر على الإضافة التي للتبيين . وقيل : إن الآية نزلت في الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله .
وحسن إطلاق الجن على الملائكة لاستتارهم عن العيون . ومعنى كونهم شركاء أنها مدبرة لأحوال هذا العالم ومعينة لله إعانة الولد للوالد . وعن الحسن وطائفة من المفسرين : أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشركة فأطاعوهم كما يطاع الله . أما قوله { وخلقهم } فإشارة إلى الدليل القاطع على إبطال الشريك . والضمير فيه إما أن يعود إلى الجن أو إلى الجاعلين فإن عاد إلى الجن فإن قلنا إن الآية نزلت في المجوس فتقريره أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس محدث ولو لم يعترفوا بذلك والبرهان العقلي قائم على أن ما سوى الحق الواحد ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فهو محدث ، فنقول حينئذ ، كل محدث مخلوق وله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه ، وحينئذ يلزمهم نقض قولهم لأنه ثبت أن إله الخير قد فعل أعظم الشرور وهو خلق إبليس الذي هو مادة كل شر . وإن قلنا . إنها نزلت في كفار العرب القائلين الملائكة بنات الله ، فظاهر لأنهم يسلمون أن الملائكة مخلوقون وأنهم تولدوا منه تولد الولد من الوالد . وإن عاد الضمير إلى الجاعلين فالمعنى . وعلموا أن الله خلقهم دون الجن كقوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] ولم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكاً للخالق . والجملة في موضع الحال أي وقد خلقهم . وقرىء { وخلقهم } بسكون اللام أي اختلاقهم للإفك يعني جعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم { والله أمرنا بها } [ الأعراف : 28 ] ثم حكي عن قوم آخرين نوعاً آخر من الإشراك فقال { وخرقوا له بنين وبنات } وذلك قول أهل الكتابين في المسيح وعزير ، وقول قريش في الملائكة ، ومن هنا يعلم ضعف قول من قال { وجعلوا لله شركاء الجن } نزل في كفار قريش لأنه لزم التكرار من غير فائدة ظاهرة ، يقال : خرق الإفك وخلقه واخترقه واختلقه بمعنى . قال الحسن : كلمة عربية كان الرجل ، إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم : قد خرقها والله أعلم . ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات . أما قوله { بغير علم } فكالتنبيه على إبطال قولهم ، فإن من عرف الإله حق معرفته استحال أن يثبت له ولداً لأن ذلك الولد إن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخرة تعلق الفرعية ، وإن كان ممكن الوجود لذاته كان موجوداً بإيجاد الواجب وكان عبداً له لا ولداً . وأيضاً الولد إنما يحتاج إليه ليقوم مقام الوالد بعد فنائه ومن تقدس عن الفناء لم يحتج إلى الولد . وأيضاً الولد جزء من أجزاء الوالد ومن لم يكن مركباً استحال أن ينفصل منه جزء يتولد منه الولد . ثم نزه نفسه عما لا يليق به فقال { سبحانه } وهذا على لسان المسبحين { وتعالى عما يصفون } وهذا له في نفسه سواء سبحه مسبح أم لا .
والمراد بالتعالي العو بالشرف والرفعة بدليل قوله عما يصفون .
التأويل : { وما قدروا الله حق قدره } حين أنكروا إنزال الكتب والبعثة على أنهم لو اعترفوا بذلك أيضاً لم يعرفوه حق معرفته لأن المحاط لا يحيط بالمحيط . نعم تزداد معرفته بازدياد معرفة أوصافه { تجعلونه قراطيس } أي في القراطيس ، وما يجعلونه في قلوبهم بالتخلق بأخلاقه { وعلمتم } بتعليم محمد صلى الله عليه وسلم { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } كقوله { ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ البقرة : 151 ] ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سراً بسر وإضماراً بإضمار ، والذي علم النبي هو الله وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم ، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه ، وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب { مصدق الذي بين يديه } لأنه يصدق حقائق جميع ما في الكتب { ولتنذر أم القرى } وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وقد دحيت جميع أرض القلب من تحتها { ومن حولها } من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوّروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه . { والذين يؤمنون بالآخرة } فيستعملون الأدوات والآلات في أمور الدنيا والآخرة لا في الدنيا الفانية وشهوات النفس وهواها { يؤمنون } بالقرآن { وهم على صلاتهم } بالترقي في صفاتهم إلى التخلق بأخلاق القرآن يداومون ، فإن الصلاة معراج المؤمن { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } بإظهار المواجد والحالات رياء ومراء من غير أن يكون له منها نصيب ، { أو قال أوحي إليّ } الإشارات ولم يلهم نفسه شيئاً منها ، ومن قال متشدّقاً متفيهقاً سأتكلم بمثل كلام الله من الحقائق والأسرار فتظهر مضرة ظلمة وافترائه عند سكرات الموت ، وانقطاع تعلق الروح عن البدن ، وإخراج النفس عن القالب كرهاً لتعلقها بالشهوات واللذات وطلب الرياسات ، ويكون شدة النزع والهوان بحسب التعلقات { ولقد جئتمونا فرادى } عن الدنيا وما يتعلق بها ، أو فرادى عن تعلقات الكونين { كما خلقناكم أوّل مرة } في أوّل خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب . { وتركتم } بالتجريد عن الدنيا وبالتفريد عن الدنيا والآخرة { ما خولناكم } من تعلق الكونين { وراء ظهوركم وما نرى معكم } الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله { لقد تقطع بينكم } وبينها عند انتهاء سيركم كما انتهى سير جبريل عند سدرة المنتهى ، وحينئذ لا يصل إلى الوحدة إلا بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] ولو لم تدركه الجذبة المسندة إلى العناية لانقطع عن السير في الله بالله ونفى السدرة وهو يقول { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] { إن الله فالق } حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة ، وفالق النوى ذكر لا إله إلا الله في أرض القلب عن شجرة الإيمان ، كلمة طيبة كشجرة طيبة يخرج نبات المحبة التي هي من صفات الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية ، ومخرج الأفعال الطبيعية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحق في الدارين .
وأيضاً يخرج نخل الإيمان الحق من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله ، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله { فالق الإصباح } فالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والرشاد ، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الفهم والإدراك ، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صحبة عالم الأفلاك ، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات . وبالجملة فالق أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية ، وجاعل ليل البشرية ستراً عن ضياء شمس الروح ليسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية { والشمس والقمر حسباناً } يعني تجلي شمس الروحانية وطلوع قمر القلب بالحساب لئلا يفسد أمر القلب والقالب . وأيضاً تجلى شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط ، فإن إفراط طلوع شموس المعارف والشهود آفة « أنا الحق وسبحاني » وفي تفريطه آفة أنا ربكم الأعلى وعبادة الهوى . { ذلك تقدير العزيز } الذي لا يهتدى إليه إلا به { العليم } بمن يستحق الاهتداء إليه { وهو الذي جعل لكم النجوم } نجوم أنوار الغيوب في سموات القلوب { لتهتدوا بها في ظلمات } بر البشرية وبحر الروحانية إلى عالم الربوبية . { وهو الذي أنشأ } أرواحكم من روح واحد هو روح محمد صلى الله عليه وسلم « أول ما خلق الله روحي كما خلق أجسادكم من جسد واحد هو جسد آدم أبي البشر » فمن الأرواح ما تعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد مستودع في عالم الأرواح . وأيضاً من الأرواح ما هو مستقر فيه نور صفة الإيمان وما هو مستودع فيه جذبات الحق ، ومنها ما هو مستقر في أنانيته مع علو رتبته بالبقاء وما هو مستودع أنانيته بالفناء ، وما هو مستقر ببقاء الحق باق وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء { قد فصلنا } دلالات الوصول في الوصال { لقوم يفقهون } إشارات القلوب { وهو الذي أنزل } من سماء العناية { ماء } الهداية { فأخرجنا به نبات كل شيء } من أنواع المعارف { فأخرجنا منه خضراً } طرياً من المعاني والأسرار { يخرج به } من الحقائق ما تركب بعضها بعضها فترتب بعضها على بعض { ومن النخل } يعني أصحاب الولايات من طلعها } من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين أي منهم من يكون مريئاً فينتفع بثمرات ولايته ، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المريدين . { وجنات } يريد أرباب الزهد والتقوى والفتوّة الذين لم يبلغوا رتبة الولاية من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع { مشتبهاً } أي متفقاً في الأصول والفروع { وغير متشابه } أي مختلفاً فيما بين العلماء { انظروا } إلى ثمر الولايات كيف ينتفع به الخواص والعوام { وينعه } أي الكامل منها . { إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون } بأحوالهم وينتفعون بأموالهم وأحوالهم . { وجعلوا لله } إشارة إلى أنه كما يخرج بماء اللطف من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات كذلك يخرج بماء القهر من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات .
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
القراآت : { ولم يكن } بياء الغيبة : قتيبة { درست } بتاء التأنيث : ابن عامر وسهل ويعقوب { دارست } بتاء الخطاب من المدارسة : ابن كثير وابو عمرو . والباقون بتاء الخطاب { درست } من الدرس . { عدوّاً } على فعول بالضم : يعقوب . الباقون { عدوا } على فعل . { إنها إذا جاءت } بالكسر : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد . الباقون : بالفتح . { لا تؤمنون } بتاء الخطاب : ابن عامر وحمزة . الباقون : على الغيبة .
الوقوف : { والأرض } ط { صاحبة } ط { كل شيء } ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف { عليهم } ط { ربكم } ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة { إلا هو } ط لأن قوله { خالق } بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف { فاعبدوه } ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف { وكيل } ه { لا تدركه الأبصار } ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود { يدرك الأبصار } ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفاً خبيراً . { الخبير } ه { من ربكم } ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { فلنفسه } ط كذلك مع الواو . { فعليها } ط { بحفيظ } ه { يعلمون } ه { من ربك } ط لاحتمال الجملة الحال والاستئناف على أنها جملة معترضة { إلا هو } ط للعطف مع العارض { المشركين } ه { ما أشركوا } ط { حفيظاً } ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى { بوكيل } ه { بغير علم } ط { يعلمون } ه { ليؤمنن بها } ط { وما يشعركم } ط لمن قرأ { إنها } بكسر الألف . { لا يؤمنون } ه { يعمهون } ه .
التفسير : لما نبه إجمالاً بغير علم على الدليل على إبطال قول من خرق له بنين وبنات ، فصل ذلك بقوله { بديع السموات والأرض } الآية . والمراد هو بديع السموات ، ويجوز أن يكون { بديع } مبتدأ والجملة بعده خبره . وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولداً له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غيره تقدم نطفة و لا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعاً لهما وهذا باطل بالاتفاق ، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضاً محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها ، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة ، وكل ذلك على الله محال وأشار إلى هذا بقوله { أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } وأيضاً الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة ، أما الذي إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل ، وإلى هذا أشار بقوله { خلق كل شيء } وأيضاً هذا الولد لا يكون أزلياً وإلا كان واجباً لذاته غنياً عن غيره فبقي أن يكون حادثاً فنقول : إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلاً وأبداً كما قال { وهو بكل شيء عليم } فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالاً أو نفعاً أو لذة لتعلقت إرادته بإيجاده في الأزل دفعاً لذلك الاحتياج والنقصان ، فيكون الولد أزلياً على تقدير كونه حادثاً هذا خلف ، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد ، فلهذا صرح بالنتيجة فقال { ذلكم الله } فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره .
وإنما قال ههنا { لا إله إلا هو خالق كل شيء } وفي « المؤمن » بالعكس لأنه وقع ههنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم ، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم . ثم قال { فاعبدوه } وهو مسبب عن مضمون الجملة المقتدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقاً بالعبادة { وهو } مع تلك الصفات { على كل شيء وكيل } يحفظه ويرزقه ويراقبه . قال في التفسير الكبير : إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق ، ثم زيف طريق من أثبت له شريكاً وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها : أن الدليل قد دل على وجود صانع ، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها ، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب . ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات ، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال ، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية . ومنها أنا لو فرضنا إلهاً ثانياً فكان إما أن يكون الثاني مشاركاً للأوّل في جميع صفات الكمال أولا . وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد ، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما ، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركاً للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل ، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم . قالت الأشاعرة : عموم قوله { خالق كل شيء } يدل على أنه خالق أفعال العباد . وقالت المعتزلة : إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . وأيضاً احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق .
أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم . وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له . وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقاً لنفسه وبحسب أفعال العباد ، فنحن أيضاً نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن . وأما الفرق بين قوله { وخلق كل شيء } وقوله { خالق كل شيء } فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي ، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار . ثم بين أن شيئاً من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلاً من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال { لا تدركه الأبصار } هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى . قالوا : الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل : أدركته ببصري وما رأيته متناقضان . ثم إن قوله { لا تدركه الأبصار } يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء . وأيضاً أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء ، وكل ما كان عدمه مدحاً ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصاً كقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] { لم يلد ولم يولد } [ الصمد : 3 ] فوجب كون الرؤية نقصاً في حقه تعالى . وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم . وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } [ الشعراء : 61 ] أي لملحقون وقوله تعالى { حتى إذا أدركه الغرق } [ يونس : 90 ] أي لحقه . وأدرك الغلام أي بلغ ، وأدركت الثمرة إذا نضجت . وإذ قد ثبت ذلك فنقول : الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة . ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام ، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية . سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله { لا تدركه الأبصار } لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا . وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضاً . فقوله { لا تدركه الأبصار } يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة ، أو نقول قول القائل : لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب ، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمداً ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس ، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي .
أو نقول : سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه ، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول : لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله { لا تدركه الأبصار } وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته . ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله . والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجباً للمدح والعلم به ضروري ، بل إذا كان النفي دليلاً على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل : إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] فإنه لا يفيد المدح نظراً إلى هذا النفي ، فإن الجماد أيضاً لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال . فقوله { لا تدركه الأبصار } يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادراً على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته . ثم نقول : إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان : قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه ، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته ، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقاً لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف . ثم إن القاضي استدل ههنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول . فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضراً وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة - وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلاً أو في حكم المقابل - فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها ، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول : القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع ، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته ، وهذان المعنيان حصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته ، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها . وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه . وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضاً لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى . وأجيب لأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئياً كان مقابلاً أو في حكم المقابل ، والله تعالى منزه عن ذلك .
وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصاً بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا . ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال ، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة . وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع .
( في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية ) : منها هذه الآية كما بينا . ومنها أن موسى عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها . ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز . ومنها قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية ، ومنها قوله { فمن كان يرجوا لقاء ربه } [ الكهف : 110 ] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء ، ومنها قوله { كانت لهم جنات الفروس نزلاً } [ الكهف : 107 ] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء . ومنها قوله { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى . ومنها قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ومنها قوله { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] فيكون المؤمنون غير محجوبين . ومنها قوله { فيها ما تشتهيه الأنفس } [ الزخرف : 71 ] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان . ومنها قوله { وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً } [ الدهر : 20 ] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام . وأما الأخبار فكثيرة منها : الحديث المشهور « إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته » والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي . ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضاً بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية . أما قوله تعالى { وهو يدرك الأبصار } ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات ، راء للمرئيات ، مطلع على ماهياتها ، عليم بعوارضها وذاتياتها . ثم قال { وهو اللطيف الخبير } وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام ، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها . أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم .