كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
القراآت : « مالك » : بالألف سهل ويعقوب وعاصم وعلي وخلف ، والباقون ملك : { الرحيم مالك } مدغماً : أبو عمرو ، كذلك يدغم كل حرفين التقيا من كلمتين إذا كانا من جنس واحد مثل { قال لهم } [ البقرة : 249 ] أو مخرج واحد مثل { ولتأت طائفة } [ النساء : 102 ] أو قريبي المخرج مثل { خلقكم } [ لقمان : 28 ] و { لقد جاءكم } [ البقرة : 92 ] سواء كان الحرف المدغم ساكناً مثل { أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] ويسمى بالإدغام الصغير ، أو متحركاً فأسكن للإدغام مثل { قيل لهم } [ البقرة : 11 ] و { لذهب بسمعهم } [ البقرة : 20 ] ويسمى بالإدغام الكبير إلا أن يكون مضاعفاً نحو { أحل لكم } [ البقرة : 187 ] و { مس سقر } [ القمر : 48 ] أو منقوصاً مثل { وما كنت ترجو } [ القصص : 86 ] و { كنت تراباً } [ النبأ : 40 ] ونعني بالمنقوص الأجوف المحذوف العين أو مفتوحاً قبله ساكن مثل { البحر لتأكلوا } [ النحل : 14 ] و { الحمير لتركبوها } [ النحل : 8 ] إلا في مواضع أربعة { كاد تزيغ } [ التوبة : 117 ] و { قال رب } [ المؤمنون : 26 ] في كل القرآن و { الصلاة طرفي النهار } [ هود : 114 ] و { بعد توكيدها } [ النحل : 91 ] أو يكون الإظهار أخف من الإدغام نحو { أفأنت تهدي } [ يونس : 43 ] { أفأنت تسمع } [ الزخرف : 40 ] وعن يعقوب إدغام الجنسين في جميع القرآن إذا التقيا من كلمتين . « الصراط » بإشمام الراء ههنا وفي جميع القرآن : حمزة . وعن يعقوب بالسين في كل القرآن ، وعن الكسائي بإشمام السين كل القرآن ، والباقون بالصاد . « عليهم » : وإليهم ولديهم بضم الهاآت كل القرآن : حمزة وسهل ويعقوب . ضم كل ميم جمع يزيد وابن كثير غير ورش ، بضم الميم عند ألف القطع فقط نحو { أأنذرتهم أم } [ يس : 10 ] .
الوقوف : العالمين ( لا ) لاتصال الصفة بالموصوف . الرحيم ( لا ) لذلك . الدين ( ط ) للعدول عن الغائب إلى المخاطب . نستعين ( ط ) لابتداء الدعاء . المستقيم ( لا ) لاتصال البدل بالمبدل . أنعمت عليهم ( لا ) لاتصال البدل أو الصفة . الضالين ( 5 ) .
التفسير : روي عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ » وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار » فذكر العلماء أن النهي عن تفسير القرآن بالرأي لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط ، أو المراد به أمر آخر ، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في تفسير القرآن إلا بما سمعه فإن الصحابة رضي الله عنهم قد فسروا القرآن واختلفوا في تفسيره على وجوه . وليس كل ما قالوه سمعوه ، كيف وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل فما فائدة تخصيصه بذلك؟! وإنما النهي يحمل على وجهين :
أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأوّل القرآن على وفق هواه ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى .
وهذا قد يكون مع العلم بأن المراد من الآية ليس ذلك ، ولكن يلبس على خصمه . وقد يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويترجح ذلك الجانب برأيه وهواه ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه . وقد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه بما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول : المراد بفرعون في قوله تعالى { اذهب إلى فرعون إنه طغى } [ النازعات : 17 ] هو النفس .
الوجه الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغريب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير . فالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أوّلاً ليتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع للتفهم والاستنباط . والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة كقوله تعالى { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } [ الإسراء : 59 ] معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها . فالناظر إلى ظاهر العربية يظن المراد أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء ، وما يدري بما ظلموا وإنهم ظلموا غيرهم أو أنفسهم . وما عدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي إليه ما دام على قوانين العلوم العربية والقواعد الأصلية والفرعية . واعلم أن مقتضى الديانة أن لا يؤوّل المسلم شيئاً من القرآن والحديث بالمعاني بحيث تبطل الأعيان التي فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ، والسلف الصالح مثل : الجنة والنار والصراط والميزان والحور والقصور والأنهار والأشجار والثمار وغيرها ، ولكنه يجب أن يثبت تلك الأعيان كما جاءت . ثم إن فهم منها حقائق أخرى ورموزاً ولطائف بحسب ما كوشف فلا بأس ، فإن الله تعالى ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى ، وما خلق شيئاً في عالم المعنى وهو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق وهو غيب الغيب ، وما خلق في العالمين شيئاً إلا وله أنموذج في عالم الإنسان والله تعالى أعلم .
والتفسير أصله الكشف والإظهار وكذلك سائر تقاليبه . من ذلك : سفرت المرأة كشفت عن وجهها ، والسفر لأنه يكشف به عن وجوه الحوائج ، ومنه السرف لأنه يكشف به عن ماله حينئذ . والرفس لأنه يكشف عن عضوه وانكشاف حال المقيد في رسفانه واضح . فمن التفسير ما يتعلق باللغة ومنه ما يتعلق بالصرف أو النحو أو المعاني أو البيان إلى غير ذلك من العلوم كما أشرنا إلى ذلك في آخر المقدمة العاشرة ، ومنه أسباب النزول وذكر القصص والأخبار وغير ذلك . ونحن على أن نورد بعد القرآن مع الترجمة القراءة ثم الوقوف ثم أسباب النزول ثم التفسير الشامل لجميع ذلك ، ثم التأويل إن كان ، ولم نذكره في التفسير ونذكر منه ما هو أقرب إلى الإمكان والله المستعان .
فلنشتغل بتفسير الفاتحة فنقول : في البسملة مسائل :
الأولى : الجار والمجرور لا بد له من متعلق وليس بمذكور فيكون مقدراً وأنه يكون فعلاً أو اسماً فيه رائحة الفعل . وعلى التقديرين فإما أن يقدر مقدماً أو مؤخراً نحو : ابدأ بسم الله ، أو ابتدائي بسم الله ، أو بسم الله أبتدئ ، أو بسم الله ابتدائي أو الابتداء ، وتقدير الفعل أولى من تقدير الاسم لأن كل فاعل يبدأ في فعله ببسم الله يكون مضمراً ما جعل التسمية مبدأ له ، فيكون المراد أن إنشاء ذلك الفعل إنما هو على اسم الله فيقدر ههنا بسم الله أقرأ أو أتلو أو أبدأ ، لأن الذي يتلو التسمية مقروء ومبدوء به كما أن المسافر إذا حل وارتحل فقال : بسم الله متبركاً ، كان المعنى بسم الله أحل أو ارتحل وكذلك الذابح . ونظيره في حذف متعلق الجار قولهم في الدعاء للمعرس : بالرفاء والبنين ، أي بالرفاء أعرست ، وتقدير المحذوف متأخر أولي على نحو قوله تعالى { بسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] لأن تقديم ذكر الله أدخل في التعظيم ، ولأن ما هو السابق في الوجود يستحق السبق في الذكر ، ولهذا قال المحققون : ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله تعالى قبله . ولأنهم كانوا يبدأون بأسماء آلهتهم فيقول : باسم اللات باسم العزى ، فوجب أن يقصد الموحد معنى اختصاص اسم الله عز وجل بالابتداء وذلك بتقديمه وتأخير الفعل كما في { إياك نعبد } صرح بتقديم الاسم إرادة الاختصاص . قال في الكشاف : وإنما قدم الفعل في { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] لأن تقديم الفعل هناك أوقع لأنهما أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم . وقال صاحب المفتاح : الصواب أن يقال : معنى إقرأ أوجد القراءة ، ثم يكون باسم ربك متعلقاً باقرأ الثاني . وذكر في معنى تعلق اسم الله بالقراءة وجهان : إما تعلق القلم بالكتبة في قولك « كتبت بالقلم » كان فعله لا يجيء معتداً به شرعاً إلا بعد تصديره بذكر الله قال صلى الله عليه وسلم : « كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر » وإما تعلق الدهن بالإنبات في قوله تعالى { تنبت بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي متبركاً باسم الله أقرأ كما في قوله « بالرفاء والبنين » أي أعرست متلبساً بالرفاء وهذا أعرب وأحسن . أما كونه أدخل في العربية فلأنه لا يعرفه إلا من له دربة بفنون الاستعمالات بخلاف الأول فإنه مبتذل . وأما كونه أحسن فلأن جعل اسم الله كالآلة خروج عن الأدب ، لأن الآلة من حيث إنها آلة غير مقصود بالذات ، واسم الله تعالى عند الموحد أهم شيء وأنه مقول على ألسنة العباد تعليماً لهم كيف يتبركون باسمه وكيف يعظمونه ، وكذلك الحمد لله رب العالمين إلى آخره .
الثانية : أنهم استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من لفظ « الله » بعد الفتحة والضمة دون الكسرة أما الأول فللفرق بينه وبين لفظ اللات في الذكر ، ولأن التفخيم مشعر بالتعظيم ، ولأن اللام الرقيقة تذكر بطرف اللسان والغليظة تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر ، فيكون أدخل في الثواب وهذا كما جاء في التوراة : أحبب ربك بكل قلبك . وأما الثاني فلأن النقل من الكسرة إلى اللام الغليظة ثقيل على اللسان لكونه كالصعود بعد الانحدار . وإنما لم يعدّوا اللام الغليظة حرفاً والرقيقة حرفاً آخر كما عدوا الدال حرفاً والطاء حرفاً آخر مع أن نسبة الرقيقة إلى الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء ، فإن الدال بطرف اللسان والطاء بكل اللسان ، لإطراد استعمال الغليظة مكان كل دقيقة ما لم يعق عائق الكسرة وعدم إطراد الطاء مكان كل دال .
الثالثة : طولوا الباء من بسم الله إما للدلالة على همزة الوصل المحذوفة ، وإما لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم . وكان يقول عمر بن عبد العزيز لكتابه : طولوا الباء وأظهروا السين ودوّروا الميم تعظيماً لكتاب الله . وقال أهل الإشارة : الباء حرف منخفض في الصورة ، فلما اتصل بكتابة لفظ « الله » ارتفعت واستعملت . فلا يبعد أن القلب إذا اتصل بحضرة الله يرتفع حاله ويعلو شأنه .
الرابعة : إبقاء لام التعريف في الخط على أصله في لفظ الله كما في سائر الأسماء المعرفة ، وأما حذف الألف قبل الهاء فلكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة في الصورة عند الكتابة ولأنه يشبه اللات في الكتابة . قال أهل الإشارة : الأصل في قولنا « الله » الإله وهو ستة أحرف ويبقى بعد التصرف أربعة في اللفظ : ألف ولامان وهاء ، فالهمزة من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان ، والهاء من أقصى الحلق ، وهذه حال العبد يبتدئ من النكرة والجهالة ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار ، أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد كما قيل : النهاية رجوع إلى البداية . وأما حذف الألف قبل النون من لفظ « الرحمن » فهو جائز في الخط ولو كتب كان أحسن .
الخامسة : الاسم أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون ، وهو عند البصريين في الأصل سمو بدليل تكسيره على أسماء وتصغيره على سميّ وتصريفه على سميت ونحوه ، فاشتقاقه من السمو وهو العلو مناسب لأن التسمية تنويه بالمسمى وإشادة بذكره . وقيل : لأن اللفظ معرف للمعنى ، والمعرف متقدم على المعرف في المعلومية فهو عالٍ عليه حذفوا عجزه كما في « يد » و « دم » فبقي حرفان أولهما متحرك والثاني ساكن ، فلما حرك الساكن للإعراب أسكن المتحرك للاعتدال فاحتيج إلى همزة الوصل إذ كان دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك ويقفوا على الساكن حذراً من اللكنة والبشاعة .
ومنهم من لم يزد الهمزة وأبقى السين بحاله فيقول : سم كما قال : باسم الذي في كل سورة سمه . وقد يضم السين فيقال : « سم » كأن الأصل عنده « سمو » . وعند الكوفيين اشتقاق الاسم من الوسم والسمة ، لأن الاسم كالعلامة المعرّفة . وزيف بأنه لو كان كذلك لكان تصغيره وسيماً وحجمه أوساماً .
السادسة : قال بعض المتكلمين ومنهم الأشعري : إن الاسم غير المسمى وغير التسمية وهو حق ، لأن الاسم قد يكون موجوداً والمسمى معدوماً كلفظ المعدوم والمنفي ونحو ذلك ، وقد يكون بالعكس كالحقائق التي لم توضع لها أسماء ، ولأنّ الأسماء قد تكون كثيرة مع كون المسمى واحداً كالأسماء المترادفة وكأسماء الله التسعة والتسعين ، أو بالعكس كالأسماء المشتركة ، ولأن كون الاسم اسماً للمسمى وكونه المسمى مسمى له من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية ، والمضافان متغايران لا محالة . ولا يشكل ذلك بكون الشخص عالماً بنفسه لأنهما متغايران اعتباراً ، ولأن الاسم أصوات وحروف هي أعراض غير باقية والمسمى قد يكون باقياً بل واجب الوجود لذاته ، ولأنه لا يلزم من التلفظ بالعسل وجود الحلاوة في اللسان ، ومن التلفظ بالنار وجود الحرارة . وقال المعتزلة : الاسم نفس المسمى لقوله تعالى { تبارك اسم ربك } [ الرحمن : 78 ] مكان « تبارك ربك » : والجواب أنه كما يجب علينا تنزيه ذات الله تعالى من النقائص يجب تنزيه اسمه مما لا ينبغي . وأيضاً قد يزاد لفظ الاسم مجازاً كقوله : إلى الحول ثم اسم السلام عليكما . قالوا : إذا قال الرجل : زينب طالق . وكان له زوجة مسماة بزينب طلقت شرعاً . قلنا : المراد الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق فلهذا وقع الطلاق عليها ، والتسمية أيضاً مغايرة للمسمى وللاسم لأنها عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة ، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته ، والاسم عبارة عن ذلك اللفظ المعين فافترقا .
السابعة : وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف ، لأن الحروف رابطة بينهما . والظاهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال لأن الاسم لفظ دال على الماهية والفعل لفظ دال على حصول الماهية لشيء من الأشياء في زمان معين ، فكأن الاسم مفرد والفعل مركب والمفرد سابق على المركب طبعاً فيكون سابقاً عليه وضعاً . وأيضاً الفعل مفتقر إلى الفاعل ، والفاعل لا يفتقر إلى الفعل . وأيضاً الاسم مستغن في الإفادة عن الفعل دون العكس ، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على الأسماء المشتقات ، لأن الأولى مفردة والثانية مركبة ، ويشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها لأنا لا نعرف الذوات إلا بتوسط الصفات القائمة بها والمعروف معلوم قبل المعرّف فيناسب السبق في الذكر .
الثامنة : أقسام الأسماء الواقعة على المسميات تسعة : أولها : لاسم الواقع على الذات . ثانيها : الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزائه كاليحوان على الإنسان ثالثها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كالأسود والحارّ . رابعها : الوقع عليه بحسب صفة إضافية كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومالك ومملوك . خامسها : الواقع عليه بحسب صفة سلبية كالأعمى والفقير . سادسها : الواقع عليه بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كالعالم والقادر عند القائل بأن العلم صفة حقيقية ، ولها إضافة إلى المعلومات وكذا القدرة . سابعها : صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً . ثامنها : صفة إضافية مع صفة سلبية كالأول ، فإن معناه سابق غير مسبوق . تاسعها صفة حقيقية مع صفة إضافية وصفة سلبية ، فهذه أقسام الأسماء لا تكاد تجد اسماً خارجاً عنها ، سواء كان لله تعالى أو لمخلوقاته .
التاسعة : هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ ذكر بعضهم أن حقيقته تعالى لما كانت غير مدركة للبشر فكيف يوضع له اسم مخصوص بذاته؟ وما الفائدة في ذلك؟ أقول : لا ريب أن الإدراك التام عبارة عن الإحاطة التامة ، والمحاط لا يمكن أن يحيط بمحيطه أبداً ، وأنه تعالى بكل شيء محيط فلا يدركه شيء مما دونه كما ينبغي ، إلا أن وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي ، وإنما ينافي عدم إدراكه مطلقاً . فيجوز أن يقال الشيء الذي تدرك منه هذه الآثار واللوازم مسمى بهذا اللفظ ، وأيضاً إذا كان الواضع هو الله تعالى وأنه يدرك ذاته لا محالة على ما هو عليه ، فله أن يضع لذاته اسماً مخصوصاً لا يشاركه فيه غيره حقيقة ، وإذا كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً فينبغي أن يكون ذلك الاسم أعظم الأسماء وذلك الذكر أشرف الأذكار ، لأن شرف العلم والذكر بشرف المعلوم والمذكور . فلو اتفق لعبد من عبيده المقربين الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه ، لم يبعد أن تنقاد له عوالم الجسمانيات والروحانيات . ثم القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه . منهم من قال : هو ذو الجلال والإكرام ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » ورد بأن الجلال من الصفات السلبية والإكرام من الإضافية ، ومن البين أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات . ومنهم من يقول : إنه الحي القيوم لقوله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب حين قال له : ما أعظم آية في كتاب الله؟ فقال : الله لا إله إلا هو الحي القيوم . فقال صلى الله عليه وسلم : « ليهنك العلم يا أبا المنذر » . وزيف بأن الحي هو الدرّاك الفعال وهذا ليس فيه عظمة ولأنه صفة ، وأما القيوم فمعناه كونه قائماً بنفسه مقوّماً لغيره ، والأول مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره ، والثاني إضافي .
ومنهم من قال : إن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا ينبغي أن يفاوت بينها ، ورد بما مرّ من أن اسم الذات أشرف من اسم الصفة ، ومنهم من قال : إن الإسم الأعظم هو الله وهذا أقرب ، لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه ، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة ، ويؤيد ذلك ما روت أسماء بنت زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] وفاتحه سورة آل عمران { ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ آل عمران : 1 - 2 ] » وعن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . فقال : « » والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي بهن أجاب وإذا سئل به أعطى . « ولا شك أن اسم الله في الآية والحديث أصل والصفات مرتبة عليه هذا ، وأما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزائه فمحال في حق الله تعالى ، لأن ذاته تعالى مبرأ عن شائبة التركيب بوجه من الوجوه . وأما الاسم الدال بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة ، فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود ، وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود ، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود ، فهذه ثلاثة أقسام : القسم الأول : الأسماء الدالة على الوجود منها الشيء ويجوز إطلاقه على الله تعالى عند الأكثرين لقوله تعالى { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } [ الأنعام : 19 ] { كل شيء هالك إلا وجهه } أي ذاته . وفي الخبر » كان الله ولم يكن شيء غيره « ولأن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه وذاته تعالى كذلك . حجة المخالف قوله تعالى { الله خالق كل شيء } [ الرعد : 16 ] فلو كان الله تعالى شيئاً لزم أن يكون خالق نفسه . ومثله { وهو على كل شيء قدير } [ التغابن : 1 ] قلنا : خص بالدليل العقلي . قالوا : ليس من صفات المدح . قلنا : نعم هو خير من لا شيء ، وإن كان سائر الأشياء مشتركة معه في ذلك كالموجود والكريم والحليم ، فإن كلاً منها مدح بالنسبة إلى من لا وجود له ولا كرم ولا حلم ، بل الشيء بالحقيقة هو وباقي الأشياء شيئيتها مستعارة كوجودها ومنها الموجود . وأطبق المسلمون على جواز إطلاقه عليه تعالى وكيف لا؟ ومعنى قول الموحد لا إله إلا الله أي لا إله في الوجود إلا الله .
ومنها الذات ولا شك في جواز إطلاقه عليه إذ يصدق على كل حقيقة أنها ذات الصفات أي صاحبة الصفات القائمة بها ، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن إبراهيم لم يكذّب إلا في ثلاث : ثنتين في ذات الله » - أي في طلب مرضاته ومنها النفس قال تعالى : { تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك } [ المائدة : 116 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « أنت كما أثنيت على نفسك » أي على ذاتك وحقيقتك . ومنها الشخص قال : « لا شخص أغير من الله تعالى ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » « ولا شخص أحب إليه العذْر من الله ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين » « ولا شخص أحب إليه المدحة من الله » والمراد بالشخص الحقيقة المتعينة الممتازة عما عداها . ومنها النور قال عز من قائل : { الله نور السماوات والأرض } [ النور : 35 ] وليس المراد به ما يشبه الكيفية المبصرة وإنما المراد أنه الظاهر في نفسه المظهر لغيره . وإذ لا ظهور ولا إظهار فوق ظهوره وإظهاره فإنه واجب الوجود لذاته أزلاً وأبداً ، ومخرج جميع الممكنات من العدم إلى الوجود . فإذن هو نور الأنوار تعالى وتقدس ، وسوف يأتيك تمام التحقيق إذا وصلنا إلى سورة النور وهو أعلم بحقائق الأمور . ومنها الصورة وقد ورد في الخبر « أن الله خلق آدم على صورته » فقيل : معناه خلق آدم على صورته التي كان عليها يعني ما تولد من نطفة ودم وما كان جنيناً ، ورضيعاً بل خلقه الله تعالى رجلاً كاملاً دفعة واحدة . وقيل في حديث آخر « لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن » المراد من الصورة الصفة كما يقال : صورة هذه المسألة كذا أي خلقه على صفته في كونه خليفة في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم . ويمكن أن يقال : الصورة إشارة إلى وجه المناسبة التي ينبغي أن تكون بين كل علة ومعلولها ، فإن الظلمة لا تصدر عن النور وبالعكس ، وكنا قد كتبنا في هذا رسالة . ومنها الجوهر وأنه لا يطلق عليه بمعنى موجود لا في موضوع ، أي إذا وجد كان وجودهن بحيث لا يحتاج إلى محل يقوم به ويستغني المحل عنه ، لأن ذلك ينبئ عن كون وجوده زائداً على ماهيته . وإنما يمكن أن يطلق عليه بمعنى آخر وهو كونه قائماً بذاته غير مفتقر إلى شيء في شيء أصلاً لكن الإذن الشرعي حيث لم يرد بذلك وجب الامتناع عنه . ومنها الجسم ولا يطلقه عليه إلا المجسمة ، فإن أرادوا الجوهر القابل للأبعاد الثلاثة فمحال للزوم التركيب والتجزي ، وإن أرادوا معنى يليق بذاته من كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل فالإذن الشرعي لم يرد به فلزم الامتناع .
ومنها الماهية والآنية أي الحقيقة التي يسأل عنها بما هي وثبوته الدال عليه لفظ « ان » ، ولا بأس بإطلاقهما عليه إذا أريد بهما الحقيقة والذات المخصوصة إلا من حيث الشرع . ومنها الحق فإنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، إما بحسب ذاته فلأنه الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله ، والحق يقال بإزاء الباطل والباطل يقال للمعدوم قال لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل . وإما بحسب ما يقال إن هذا الخبر حق وصدق فهذا الخبر أحق وأصدق ، وإما بحسب ما يقال إن هذا الاعتقاد حق فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه أصوب الاعتقادات المطابقة .
القسم الثاني في الأسماء الدالة على كيفية الوجود منها القديم وهو في اللغة يفيد طول المدة ، وفي الشرع يرادفه الأزلي ، ويراد بهما ما لا أول له في الطرف الماضي كالأبدي في الطرف المستقبل . وكذا السرمدي واشتقاقه من السرد التوالي والتعاقب ، زيدت الميم للمبالغة . ونعني بالنسبة في هذه الألفاظ أنه تعالى منسوب إلى عدم البداية والنهاية في كلا طرفي الامتداد الوهمي المسمى بالزمان . ومنها الممتد والمستمر ونعني بهما تلاحق الأجزاء وتعاقب الأبعاض ، ولا يخفى أن أمثال هذه الألفاظ إنما يصح إطلاقها بالحقيقة على الزمان والزمانيات ، وأما في حق الله جل ذكره فلا يصح إلا بالمجاز بعد التوقيف . ومنها الباقي قال تعالى : { كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 26 ، 27 ] وأنه تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم . ومنها الدائم وهو كالباقي . ومنها واجب الوجود لذاته أي ذاته اقتضى وجوده ، وما بالذات لا ينفك عنه أبداً فهو ممتنع الفناء والعدم أزلاً وأبداً ولهذا قيل : خداي معناه خوداي أي أنه جاء بنفسه . ومنها الكائن قال تعالى : { وكان الله عليماً حكيماً } [ الفتح : 4 ] وفي بعض الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم « يا كائناً قبل كل كون ، ويا حاضراً مع كل كون ، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون » واعلم : أن لفظة « كان » تفيد الحصول والثبوت والوجود ، إلا أن هذا قسمان : منه ما يفيد حصول الشيء في نفسه ، ومنه ما يفيد حصول موصوفية شيء بشيء . والأول يتم باستناده إلى ذلك الشيء وهي التامة ، والثاني لا يتم إلا بذكر شيئين وهي الناقصة نحو : كان زيد عالماً أي حصل موصوفية زيد بالعلم وكلا القسمين يجوز إطلاقه عليه تعالى .
القسم الثالث في الصفات الحقيقية المغايرة للوجود ولكيفيات الوجود . الفلاسفة والمعتزلة أنكروا قيام مثل هذه الصفات بذات الله تعالى أشد إنكار لأن واجب الوجود لذاته يجب أن يكون واحداً من جميع جهاته ، ولأن تلك الصفة لو كانت واجبة الوجود لزم شريك للباري مع أن الجمع بين الوجود الذاتي وبين كونه صفة للغير ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف محال ، وإن كانت ممكنة الوجود فلها علة موجدة ، ومحال أن يكون هو الله تعالى لأنه قابل لها فلا يكون فاعلاً لها ، ولأن ذاته لو كانت كافية في تحصيل تلك الصفة فتكون ذاته بدون تلك الصفة كاملة في العلية وهو المطلوب ، وإن لم تكن كافية لزم النقص المنافي لوجوب الوجود .
حجة المثبتين أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً ، ثم إنا ندرك التفرقة بين قولنا : « ذات الله تعالى ذات » وبين قولنا : « ذاته عالم قادر » وذلك يدل على المغايرة بين الذات وهذه الصفات . وإذا قلنا بإثبات الصفة الحقيقية فنقول : العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم ، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور . والصفة الحقيقية العارية عن النسب والإضافات في حقه تعالى ليست إلا صفة الحياة إن لم نقل إنها عبارة عن الدرّاكية والفعالية ، بل يقال : إنها صفة باعتبارها يصح أن عالماً وقادراً ، والتحقيق أن الحياة عبارة عن كون الشيء بحيث يصدر عنه ما من شأنه أن يصدر عنه كما ينبغي أن يصدر عنه ، ولا ريب أن واجب الوجود تعالى أحق الأشياء بهذا الاسم ، لأن وجوب الوجود يقتضي اتصافه بجميع الصفات الكمالية وصدور الأشياء الممكنة عنه على النحو الأفضل ، ولهذا مدح الله تعالى به نفسه قائلاً { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] { وعنت الوجوه للحي القيوم } [ طه : 111 ] وأما الأسماء الدالة على الصفات الإضافية ، فمنها التكوين وهو عند المعتزلة والأشعري نفس المكوّن . وقال غيرهم : إنه غيره . حجة الأولين أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة وهي القدرة لا غير ، أو على سبيل الوجوب . ويلزم كونه موجباً بالذات لا فاعلاً بالاختيار . وأيضاً إن كانت قديمة لزم قدم الآثار ، وإن كانت حادثة افتقرت إلى تكوين آخر وتسلسل الآخرون . قالوا : كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط ، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية ، لأن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً ، فإن القادر على الفعل قد يوجد وقد لا يوجد . ومنها كونه تعالى معلوماً ومذكوراً مسبحاً ممجداً فيقال : يا أيها المسبح بكل لسان ، ويا أيها الممدوح عند كل إنسان ، ويا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان . ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناه كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية . ومنها ألفاظ متقاربة تدل على مجرد كونه موجداً مثل الموجد ومعناه المؤثر في الموجود ، والمحدث وهو أخص لأنه الذي جعله موجوداً بعد العدم ، والمكوّن وهو كالموجد والمنشئ ومعناه ينشئ على التدريج والمبدع والمخترع ويفهم منهما الإيجاد الدفعي ، وكذا الفاطر مثل الصانع ويفهم منه تكلف ، وأما الخلق فهو التقدير وأنه في حق الله تعالى يرجع إلى العلم ، وأما الباري فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة .
يقال : برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين . ومنها ألفاظ تدل على إيجاد شيء بعينه وأنها تكاد تكون غير متناهية . ومنها ألفاظ تدل على إيجاد النوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية ، فإذا خلق المنافع سمي نافعاً ، وإذا خلق الألم سمي ضاراً ، وإذا خلق الحياة سمي محيياً ، وإذا خلق الموت سمي مميتاً ، وإذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً ، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً ، وإذا أقلّ العطاء سمي قابضاً ، وإذا أكثر سمي باسطاً ، وإذا جازى الذنوب بالعقاب سمي منتقماً ، وإذا ترك ذلك الجزاء سمي عفوّاً غفوراً رحماناً رحيماً ، وإذا حصل المنع والإعطاء في المال سمي قابضاً باسطاً ، وإذا حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً .
وأما الصفات السلبية فمنها ما يعود إلى الذات كقولنا إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا مكانياً ولا زمانياً ولا حالاً ولا محلاً ولا مفتقراً إلى شيء غيره ، تعالى في ذاته وفي صفاته ، وإنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . ومنها ما يعود إلى الصفات ، ولا يخفى أن كل صفة من صفات النقص يجب تنزيه الله عنها ، وذلك إما راجع إلى أضداد العلم كنفي النوم { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] وكنفي النسيان { وما كان ربك نسياً } [ مريم : 64 ] وكنفي الجهل { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } [ سبأ : 3 ] وكأن لا يمنعه العلم ببعض المعلومات عن العلم بغيره لا يشغله شأن عن شأن . وإما راجع إلى أضداد القدرة ككونه منزهاً في أفعاله عن التعب والنصب { وما مسنا من لغوب } [ ق : 38 ] وإنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات وتقديم المادة والمدّة { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] وأنه لا يتفاوت في قدرته القليل والكثير { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } [ النحل : 77 ] وأنه لا تنتهي قدرته { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } [ إبراهيم : 19 ] وإما راجع إلى صفة الوحدة كنفي الأنداد والأضداد { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله } [ المؤمنون : 91 ] أو إلى صفة الاستغناء { وهو يطعم ولا يُطْعَم وهو يجير ولا يجار عليه } [ الأنعام : 14 ] ومنها ما يعود إلا الأفعال لا يخلق الباطل { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً } [ ص : 27 ] لا يخلق اللعب { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين } [ الأنبياء : 17 ] لا يخلق العبث { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] لا يرضى بالكفر ، لا يريد الظلم ، لا يحب الفساد لا يؤذي من غير سابقة جرم { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم } [ النساء : 146 ] لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين
{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } [ الإسراء : 7 ] ليس لأحد أن يعترض عليه في أفعاله وأحكامه { لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون } [ الأنبياء : 23 ] { لا يخلف الميعاد } [ آل عمران : 9 ] ومن أسماء السلوب القدوس والسلام لأنه منزه وسالم من نقائص الإمكان . ومنها العزيز وهو الذي لا يوجد له نظير أو لا يغلبه شيء ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة ولا يمنع من إيصال الرحمة ، والصبور الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه ، وربما يفرق بينهما بأن المكلف يأمن العقوبة في صفة الحليم دون صفة الصبور . وأما الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية فمنها : القادر والقدير والمقتدر والمالك والملك ومالك الملك والمليك والقوي وذو القوة ومعانيها ترجع إلى القدرة ومنها ما يرجع إلى العلم { ولا يحيطون بشيء من علمه } [ البقرة : 255 ] { عالم الغيب والشهادة } [ التغابن : 18 ] { وهو بكل شيء عليم } [ البقرة : 29 ] { علام الغيوب } [ المائدة : 109 ] { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] { علم الله أنكم كنتم تختانون } [ البقرة : 187 ] { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } [ النحل : 19 ] { وعلم آدم الأسماء } [ البقرة : 31 ] ولم يرد علامة وإن كان يفيد المبالغة لأن ذلك بتأويل أمة أو جماعة . والخبير يقرب من العليم وكذا الشهيد إذا فسر بكونه مشاهداً لها ، وإذ أخذ من الشهادة كان من وصف الكلام . والحكمة تشارك العلم من حيث إنه إدراك حقائق الأشياء كما هي وتباينه بأنها أيضاً صدور الأشياء عنه كما ينبغي . واللطيف قد يراد به إيصال المنافع إلى الغير بطرق خفية عجيبة ، والتحقيق أنه الذي ينفذ تصرفه في جميع الأشياء . ومنها ما يرجع إلى الكلام { وكلم الله موسى تكليماً } [ النساء : 164 ] { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً } [ الشورى : 51 ] { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] { ما يبدل القول لديَّ } [ ق : 30 ] { ومن أصدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] { إنما أمره } [ يس : 81 ] { إن الله يأمركم } [ النساء : 58 ] { وعد الله حقاً } [ النساء : 122 ] { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 9 ] { وكان الله شاكراً عليماً } [ النساء : 147 ] { كان سعيكم مشكوراً } [ الدهر : 22 ] وذلك أنه أثنى على عبده بمثل قوله { كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون } [ الذاريات : 18 ، 19 ] وهذا صورة الشكر . ومنها ما يرجع إلى الإرادات { يريد الله بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] رضي الله عنهم أي صار مريداً لأفعالهم { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] { والله يحب المطهرين } [ التوبة : 108 ] يريد إيصال الخير إليهم { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } [ الإسراء : 38 ] . الأشعرية : الكراهية عبارة عن إرادة عدم الفعل . المعتزلة : له صفة أخرى غير الإرادة . ومنها ما يرجع إلى السمع والبصر { إنني معكما أسمع وأرى } [ طه : 46 ] { إنه هو السميع البصير } [ الإسراء : 1 ] { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103 ] وأما الصفات الإضافية مع السلبية فكالأول لأنه مركب من معنيين : أحدهما أنه سابق على غيره ، والثاني لا يسبق عليه غيرهن وكالآخر فإنه الذي يبقى بعد غيره ولا يبقى بعد غيرهن ، وكالقيوم فإنه الذي يفتقر إليه غيره ولا يفتقر إلى غيره ، والظاهر إضافة محضة وكذا الباطن ، أي أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب الماهية .
وأما الاسم الدال على مجموع الذات والصفات الحقيقية والإضافية والسلبية فالإله ، ولا يجوز إطلاق هذا اللفظ في الإسلام على غير الله وأما الله ، فسيأتي أنه اسم علم . وقد بقي ههنا أسماء يطلقها عليه تعالى أهل التشبيه ككونه متحيزاً أو حالاً في المتحيز استبعاداً منهم أنه كيف يكون موجود خالياً عن كلا الوصفين وهو عند أهل التقديس محال للزوم الافتقار ، اللهم إلا أن يقال استصحاب المكان لا يستلزم الافتقار إلى المكان ومنها العظيم والكبير وهما متقاربان لقوله تعالى في موضع { وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] وفي آخر { وهو العلي الكبير } [ سبأ : 23 ] وقد يفرق بينهما بأنه ورد « الكبرياء ردائي و العظمة إزاري » والرداء أرفع من الإزار . وأيضاً اختص تحريم الصلاة بالله أكبر دون الله أعظم . ولا ريب أن إطلاق العظمة والكبر على الله تعالى بحسب الحجمية والمقدار كما للأجسام محال للزوم التبعيض والتجزئة . ومنها العلي والمتعالي ، فإن العلو بالمعنى المستلزم للتمكن محال على الله فإما أن يراد بمثل هذه الألفاظ مزيد الرتبة والشرف على الممكنات ، وإما أن يقال : إنا نطلق هذه الأسماء للإذن الشرعي فنكل معانيها إلى مراد الله تعالى ، وإما أن نستمد في إدراكها بضرب من الكشف والعيان . ( العاشر في الأسماء المضمرة ) قال عز من قائل : { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } [ طه : 14 ] ولا يصح لغيره هذا الذكر إلا حكاية . وما جاء من قول بعض أهل الكمال : أنا من أهوى ومن أهوى أنا . إشارة إلى كمال المحبة وغاية إرادة الاتصاف بصفة المحبوب وفناء إرادته في إرادته ، وقال : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ولا يصح هذا إلا من العبد بشرط الحضور والمشاهدة . وقال { لا إله إلا هو } [ البقرة : 255 ] وإنما يصح هذا من الغائبين . واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد وكمال التجلي ونقصانه ، فكل حاضر غائب بالنسبة إلى ما فوق تلك الدرجة ، ورب غائب حاضر كما قيل :
أيا غائباً حاضراً في الفؤاد ... سلام على الغائب الحاضر
وفي لفظة « هو » أسرار عجيبة منها : أن العبد إذا قال : يا هو فكأنه يقول : ما للتراب ورب الأرباب؟ وما المناسبة بين المتولد من النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فلهذا ينادي نداء الغائبين ويقول : يا هو . ومنها أنه إذا قال : يا هو فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه نفي محض ، لأنه لو حصل في الوجود شيئان لكان قوله « هو » صالحاً لهما جميعاً فلا يتعين النداء . ومنها إذا قال : يا رحمن فكأنه يتذكر رحمته أو يطلب رحمته ، وكذا إذا قال : يا كريم وغيره من الصفات .
فأما إذا قال : « يا هو » فكأنه استغرق في بحر العرفان وفني عما سوى الذات . ومنها إذا قال : « يا هو » فكأنه يقول : أجلّ حضرتك أن أمدحك ، وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك وهي صفات الجلال نحو : لا جسم ولا جوهر ولا عرض ولا في المحل ، أو بإسناد كمالات الممكنات إليك وهي صفات الإكرام ككونه مرتباً للموجودات على النحو الأكمل ، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي . ومنها أن هذا الذكر يفيد أن المنادي بسيط محض لا طريق إلى تصوره إلا بالإشارة العقلية . ومنها أن العبد كأنه دهش حتى ذهل عن كل ما يوصف به مالكه إلا عن هذه الإشارة . ولاختصاص هذا الذكر بهذه الأسرار ذكر الغزالي لا إله إلا الله توحيد العوام ، ولا إله إلا هو توحيد الخواص . وذلك أن قوله « لا هو » معناه كل شيء هالك ، وقوله « إلا هو » معناه إلا وجهه . ومن جملة الأذكار الشريفة : يا هو يا من لا هو إلا هو ، يا أزل يا أبد يا دهر يا ديهور يا من هو الحي الذي لا يموت . ولقد لقنني بعض المشايخ من الذكر : يا هو يا من هو هو يا من لا هو إلا هو يا من لا هو بلا هو إلا هو . فالأول فناء عما سوى الله ، والثاني فناء في الله ، والثالث فناء عما سوى الذات ، والرابع فناء عن الفناء عما سوى الذات .
الحادي عشر في بقية مباحث الأسماء
اختلفوا في أسماء الله تعالى توقيفية أم لا . فمال بعضهم إلى التوقيف لأنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً وفقيهاً ومستيقناً ، فلولا أن أسماءه توقيفية لوصف بمثلها وإن كان على سبيل التجوز . القائلون بعدم التوقيف احتجوا بأن أسماء الله تعالى وصفاته مذكورة بالفارسية والتركية وأن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار ، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها . والجواب أن عدم التوقيف في غير اللغة العربية لا يوجب عدمه في العربية ، وبأن الله تعالى قال : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180 ] وكل اسم دل على صفات الكمال ونعوت الجلال كان حسناً ويجوز إطلاقه . والجواب أنه يجوز ولكن بعد التوقيف لم قلتم إنه ليس كذلك؟ والغزالي فرق بين اسم الذات وبين أسماء الصفات فمنع الأول وجوّز الثاني . واعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على معانٍ لا يمكن إثباتها بالحقيقة في حق الله تعالى منها : الاستهزاء { الله يستهزئ بهم } [ البقرة : 15 ] والاستهزاء مذموم لكونه جهلاً { قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] . ومنها المكر { ومكروا ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] ومنها الغضب { وغضب الله عليهم } [ الفتح : 6 ] ومنها التعجب { بل عجبت ويسخرون }
[ الصافات : 12 ] فيمن قرأ بضم التاء . والتعجب حالة للقلب تعرض عند الجهل بسبب الشيء ومنها التكبر { الجبار المتكبر } [ الحشر : 23 ] ومنها الحياء { إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً } [ البقرة : 26 ] والحياء تغير يعرض للقلب والوجه عند فعل شيء قبيح . والقانون في تصحيح هذه الألفاظ أن يقال لكل واحدة من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية وآثار تصدر منها في النهاية مثاله : الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دمه وسخونة مزاجه ، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه . فالغضب في حقه تعالى محمول على الأثر الحاصل في النهاية لا الأمر الكائن في البداية ، وقس على هذا . قيل : إن لله تعالى أربعة آلاف اسم ، ألف منها في القرآن والأخبار ، وألف في التوراة ، وألف في الإنجيل ، وألف في الزبور . وقد يقال : ألف آخر في اللوح المحفوظ ولم يصل ذلك إلى البشر وهذا غير مستبعد ، فإن أقسام صفات الله تعالى بحسب السلوب والإضافات لا تكاد تنحصر ، وكل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم العلوي والعالم السفلي أكثر كان اطلاعه على أسماء الله أكثر . وإن قلنا : إن له بكل مخلوق اسماً وكذا بكل خاصية ومنفعة فيه كمنافع الأعضاء والحيوان والنبات والأحجار ، خرجت الأسماء عن حيز العد والإحصاء كما قال عز من قائل : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] فإن قلت : إنا نرى في كتب العزائم أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وقد تكون كتابتها أيضاً غير معلومة ، فما بال تلك الأذكار والرقى؟ قلت : لا نشك أن تلك الكلمات إن لم تدل على شيء أصلاً لم تفد ، وإن دلت فأحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون شيئاً من هذه الأدعية . ولا ريب أن الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات ، إلا أن أكثر الناس إذا قرأوا هذه الأذكار المعلومة ولم يكن لهم نفوس مشرقة تجذب بهم إلى عالم القدس ويلوح عليهم أثر الإلهيات ، لم يكد يظهر عليهم شروق أنوارها ولهذا قد ورد « رب تال للقرآن والقرآن يلعنه » نعوذ بالله من هذه الحالة . أما إذا قرأوا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية ، استولى الفزع والرعب على قلوبهم فيحصل لهم بهذا السبب نوع تجرد عن الجسمانيات وتوجه إلى الروحانيات فتتأثر نفوسهم وتؤثر ، وهذا وجه مناسب في قراءة الرقى المجهولة . واعلم أن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة ، والنفوس مختلفة والجنسية علة الضم ، فكل اسم يغلب معناه على بعض النفوس فإذا واظب صاحبه على ذلك الاسم كان انتفاعه به أسرع والله الموفق . حكي أن الشيخ أبا النجيب البغدادي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يرى مصلحته فيه ، ثم يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين .
وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له : اخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق ، وإن رآه تأثر مزيد تأثر عند سماع اسم خاص أمره بالمواظبة على ذلك الذكر وقال : إن أبواب المكاشفات تنفتح عليك من هذا الطريق . وذلك أن الرياضة والمجاهدة لا تغلب النفوس عن أحوالها الفطرية ، ولكنها تضعف بحيث لا تستولي على الإنسان ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » « الأرواح جنود مجندة » « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » فهذا تمام البحث عن مطلق الأسماء . ( الثاني عشر في الأبحاث المختصة باسم الله ) المختار عند الخليل ومتابعيه وعند أكثر الأصوليين والفقهاء أن هذا اللفظ ليس بمشتق ألبتة ، وأنه اسم علم له سبحانه وتعالى . لأنه لو كان مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه ، وحينئذ لا يكون قولنا « إلا الله » موجباً للتوحيد المحض . فلا يدخل الكافر بقوله : « أشهد أن لا إله إلا الله » في الإسلام كما لو قال : « أشهد أن لا إله إلا الرحمن » أو « إلا الملك » لا يدخل بذلك في الإسلام بالاتفاق . وأيضاً الترتيب العقلي ذكر الذات ثم تعقيبه بالصفات نحو : زيد الفقيه الأصولي النحوي . ثم إنا نقول : الله الرحمن الرحيم العالم القادر ولا نقول بالعكس ، فدل ذلك على أن « الله » اسم علم . وقراءة من قرأ { إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات وما في الأرض } [ إبراهيم : 1 ، 2 ] بخفض اسم الله ليست لأجل أن جعله وصفاً وإنما هو للبيان ، فوازنه وزان قولك : « مررت بالعالم الفاضل الكامل زيد » . وأيضاً قال تعالى : { هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] وليس المراد به الصفة والإلزام خلاف الواقع ، فوجب أن يكون المراد اسم العلم وليس ذلك إلا الله . حجة القائلين باشتقاقه قوله عز من قائل { وهو الله في السموات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد . قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى قولك « هو زيد الذي لا نظير له في البلد »؟ قالوا : لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى ، كان اسم العلم له ممتنعاً . وأيضاً العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز . قلنا : وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية ، ولا يتوقف على حصول الشركة ، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي ، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة ، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام القحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه .
وأما « الله » بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره . وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبوداً كونه مستحقاً ومستأهلاً لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد ، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات . ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلاً وأبداً ، فيكون إلهاً أزلاً وأبداً وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله ، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } [ الإسراء : 44 ] { إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبدا } [ مريم : 93 ] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب ، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابداً ، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضاً .
وقيل : اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه . فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى ، والعقول لا تقف إلا لديه ، لأن الكمال محبوب لذاته { ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا } [ الرعد : 28-29 ] وقيل : من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان . وقيل : من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكانات ومناسبة المحدثات .
وقيل : من أله في الشيء إذا تحير فيه ، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظراً إلى وجود مصنوعاته ، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه ، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال ، وههنا العجز عن درك الإدراك إدراك .
وقيل : من لاه يلوه إذا احتجب ، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول . فإنا إنما نستدلّ على كون الشعاع مستفاداً من الشمس بدورانه معها وجوداً وعدماً وشروقاً وأفولاً ، ولو كانت الشمس ثابتة في كبد السماء لما حصل اطمئنان يكون الشعاع مستفاداً منها ، ولما كان ذاته تعالى باقياً على حاله وكذا الممكنات التابعة له ، فربما يخطر ببال الضعفاء أن هذه الأشياء موجودة بذواتها فلا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال ظهوره ، فالحق محتجب والخلق محجوب .
وقيل : من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، لأن العباد مولعون بالتضرع إليه في البليات { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } [ الروم : 33 ] هذا شأن الناقصين ، وأما الكاملون فهو جليسهم وأنيسهم أبداً . شكا بعض المريدين كثرة الوسواس فقال الشيخ : كنت حدّاداً عشر سنين وقصاراً عشراً وبواباً عشراً .
فقيل : وكيف وما رأينا منك؟ قال : القلب كالحديد ألينه بنار الخوف عشراً ، ثم شرعت في غسله عن الأوضار والأوزار عشراً ، ثم وقفت على باب القلب عشراً أسل سيف « لا إله إلا الله » فلم أترك حتى يخرج منه حب غير الله ويدخل فيه حب الله ، فلما خلت عرصة القلب من غيره وقويت فيه محبته سقطت من بحر عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب فبقي في تلك القطرة وفني عن الكل ولم يبق فيه إلا محض سر « لا إله إلا الله » .
وقيل : من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره . والمجير للخلائق من كره المضارّ هو الله { وهو يجير ولا يجار عليه } [ المؤمنون : 88 ] ومن لطائف اسم الله أنك إذا لم تتلفظ بالهمزة بقي « الله » { ولله جنود السموات والأرض } [ الفتح : 4 ] فإن تركت من هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة « له » { له ما في السموات وما في الأرض } [ البقرة : 255 ] وإن تركت اللام الباقية أيضاً بقي الهاء المضمومة من « هو » { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع هما هم . هذا بحسب اللفظ ، وأما بحسب المعنى فإذا دعوت الله به فكأنك دعوته بجميع الصفات بخلاف سائر الأسماء ولهذا صحت كلمة الشهادة به فقط والله تعالى أعلم .
( الثالث عشر فيما يتعلق بالرحمن الرحيم ) الرحمن فعلان من رحم ، والرحيم فعيل منه واشتقاقه من الرحمة وهي ترك عقوبة من يستحقها أو إرادة الخير لأهله . وأصله الرقة والتعطف ومنه الرحم لرقتها وانعطافها على ما فيها . واختلف في منع صرف رحمن إذ ليس له مؤنث على فعلى كعطشى ، ولا على فعلانة كندمانة ، فمن شرط في منع صرف فعلان صفة وجود فعلي صرفه ، ومن شرط فيه انتفاء فعلانة لم يصرفه ، وإذا تساقط الدليلان للتعارض فللصرف وجه ، وهو أن الأصل في الأسماء الصرف ولمنع الصرف وجه وهو القياس على أخوته من بابه نحو : عطشان وغرثان . وزعم قوم أنهما بمعنى واحد كندمان ونديم ، وجمع بينهما للتأكيد والاتساع كقولهم جاد مجدّ قال طرفة .
متى أدن منه ينأ عني ويبعد ... وقال قوم : الرحمن أشد مبالغة استدلالاً بالزيادة في اللفظ على الزيادة في المعنى . قالوا : ولهذا جاء رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا ، وربما يقال رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ، لأن رحمته في الدنيا عمت المؤمن والكافر والبر والفاجر ، وفي الآخرة اختصت بالمؤمنين . فالرحمن خاص اللفظ عام المعنى والرحيم بالعكس . أما خصوص الرحمن فمن حيث لا يسمى به إلا الله تعالى لأنه من الصفات الغالبة كالدبران والعيوق ، وأما عمومه فمن حيث إنه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع . وأما عموم الرحيم فاشتراك تسمية الخلق به ، وأما خصوصه فرجوعه إلى اللطف بالمؤمنين والتوفيق .
الضحاك : الرحمن بأهل السماء حيث أسكنهم السموات وطوقهم الطاعات وأنطق ألسنتهم بأنواع التسبيحات وجنبهم الآفات وقطع عنهم المطامع واللذات ، والرحيم بأهل الأرض حيث أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب . فقال عكرمة : الرحمن برحمة واحدة والرحيم بمائة رحمة كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى مائة رحمة وإنه أنزل منها رحمة واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فيها يتعاطفون وبها يتراحمون وأخر تسعاً وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة » قال ابن المبارك : الرحمن الذي إذا سئل أعطى ، والرحيم الذي إذا لم يسأل غضب . قال صلى الله عليه وسلم : « من لم يسأل الله يغضب عليه » الرحمن بالنعماء وهي ما أعطى وحبا ، والرحيم باللأواء وهي ما صرف وزوى . الرحمن بالإنقاذ من النار { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] والرحيم بإدخالهم الجنان { ادخلوها بسلام آمنين } [ الحجر : 46 ] الرحمن الراحم القادر على كشف الضر ، والرحيم الراحم وإن لم يقدر على كشف الضر . وتسمية مسيلمة الكذاب بالرحمن تعنت منهم واقتطاع من أسماء الله تعالى . قال عطاء : ولذلك قرنه الله تعالى بالرحيم لأن هذا المجموع لم يسم غيره . وإنما قدم الرحمن وهو الأعلى على الرحيم ، والعادة التدرج من الأدنى إلى الأعلى ، لأن الرحمن يتناول عظائم النعم وأصولها ، فإردافه بالرحيم كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف . واعلم أن الأشياء التي أنعم الله تعالى بها على الخلق أربعة أقسام :
الأول : ما يكون نافعاً وضرورياً معاً وذلك في الدنيا التنفس ، فإنه لو انقطع لحظة واحدة مات ، وفي الآخرة معرفة الله فإنها إذا زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب واستوجب عذاب الأبد .
الثاني : أن يكون نافعاً لا ضرورياً كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة .
الثالث : أن يكون ضرورياً لا نافعاً كالآفات والعلل ولا نظير لهذا القسم في الآخرة
الرابع : أن لا يكون نافعاً ولا ضرورياً كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة . وبالجملة فكل نعمة أو نقمة دنيوية أو أخروية فإنما تصل إلى العبد أو تندفع عنه برحمة الله تعالى وفضله من غير شائبة غرض ولا ضميمة علة ، لأنه الجواد المطلق والغني الذي لا يفتقر ، فينبغي أن لا يرجى إلا رحمته ولا يخشى إلا عقابه . ( الرابع عشر في نكت شريفة ) . الأولى : كل العلوم تندرج في الكتب الأربعة ، وعلومها في القرآن ، وعلوم القرآن في الفاتحة ، وعلوم الفاتحة في « بسم الله الرحمن الرحيم » ، وعلومها في الباء ، من بسم الله ، وذلك أن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب ، وهذه الباء للإلصاق ، فهو يوصل العبد إلى الرب وهو نهاية المطلب وأقصى الأمد . وقيل : إنما وقع ابتداء كتاب الله تعالى بالباء دون الألف ، لأن الألف تطاول وترفع والباء انكسر وتساقط ومن تواضع لله رفعه الله .
الثانية : مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه ، فشكا إلى الله فدله على عشب في المفازة فأكله فعوفي بإذن الله ، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه ، فقال : يا رب أكلته أوّلاً فاشتفيت به وأكلته ثانياً فضرني . فقال : لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء . وفي الثانية : ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض . أما علمت أن الدنيا كلها سم وترياقها اسمي .
الثالثة : باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة ، فلما انفجر الصبح نامت فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها ، وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب فوضعها فوجد الباب ، وفعل ذلك ثلاث مرات فنودي من زاوية البيت : ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان .
الرابعة : كان بعض العارفين يرعى غنماً فحضر في غنمه الذئب ولا يضر أغنامه ، فمر عليه رجل وناداه متى اصطلح الغنم والذئب؟ قال الراعي : من حين اصطلح الراعي مع الله .
الخامسة : روي أن فرعون قبل أن ادعى الإلهية قصد أو أمر أن يكتب باسم الله على بابه الخارج ، فلما ادعى الإلهية وأرسل الله إليه موسى ودعا فلم ير به أثر الرشد قال : إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً ، فقال تعالى : يا موسى لعلك تريد إهلاكه ، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه . والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً ، فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله!؟
السادسة : سمى نفسه رحماناً ورحيماً فكيف لا يرحم؟ روي أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً فجاء بفأس وأخذ يخرب الباب ، فقيل له : لم تفعل؟ قال : إما أن تجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب . إلهي كما أثبت في أول كتابك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين من فضلك .
السابعة : إذا اشترى العبيد شيئاً من الدواب أو المتاع وضعوا عليه سمة الملك لئلا يطمع فيه العدوّ ، فالله تعالى يقول : عبدي عدوّك الشيطان فإذا شرعت في عمل وطاعة فاجعل عليها سمتي وقل : { بسم الله الرحمن الرحيم } .
الثامنة : اجعل ذكر الله قرينك حتى لا تبعد عنه في أحوالك . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع خاتماً إلى أبي بكر وقال : اكتب فيه « لا إله إلا الله » فدفعه إلى النقاش وقال : اكتب فيه « لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » فكتب النقاش ذلك ، فأتى أبو بكر بذلك الخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه « لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق » فقال : يا أبا بكر ما هذه الزوائد؟ فقال : يا رسول الله ما رضيت أن أفرق اسمك من اسم الله فما رضي الله أن يفرق اسمي عن اسمك .
التاسعة : أن نوحاً صلى الله عليه وسلم لما ركب السفينة قال : { بسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] فنجا بنصف هذه الكلمة ، فما ظنك بمن واظب على الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة؟ العاشرة : الناس ثلاثة : سابق بالخيرات ومقتصد وظالم لنفسه . فقال : الله للسابقين ، الرحمن للمقتصدين ، الرحيم للظالمين . الله معطي العطاء ، الرحمن المتجاوز عن زلات الأولياء ، الرحيم الساتر لعيوب الأغنياء . يعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك ، ولو علمت المرأة لجفتك ، ولو علمت الأمة لأقدمت على الفرار ، ولو علم الجار لسعى في تخريب الدار . الله يوجب ولايته { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] الرحمن يستدعي محبته { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا } [ مريم : 96 ] الرحيم يفيض رحمته { وكان بالمؤمنين رحيماً } [ الأحزاب : 43 ] هو رحيم بهم في ستة مواضع : في القبر وحسراته ، والقيامة وظلماته ، وقراءة الكتب وفزعاته ، والصراط ومخافاته ، والنار ودركاته والجنة ودرجاته .
الحادية عشرة : مر عيسى عليه السلام بقبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً ، فلما انصرف من حاجته مر بالقبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور . فتعجب من ذلك فصلى ودعا الله فأوحى الله تعالى إليه : يا عيسى ، كان هذا العبد عاصياً وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت وربت ولده حتى كبر فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم « بسم الله الرحمن الرحيم » فاستحييت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على ظهر الأرض .
الثانية عشرة : كتب عارف « بسم الله الرحمن الرحيم » وأوصى أن تجعل في كفنه . فقيل له في ذلك؟ فقال : أقول يوم القيامة : إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه « بسم الله الرحمن الرحيم » فعاملني بعنوان كتابك .
الثالثة عشرة : « بسم الله الرحمن الرحيم » تسعة عشر حرفاً والزبانية تسعة عشر ، فالله تعالى يدفع بليتهم بهذه الحروف التسعة عشر .
الرابعة عشرة : اليوم بليلته أربع وعشرون ساعة ، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فبقي التسعة عشرة ساعة لا تستغرق بذكر الله تعالى ، وهذه التسعة عشر حرفاً تقع كفارات للذنوب الواقعة في تلك التسع عشرة .
الخامسة عشرة : لما كانت سورة التوبة مشتملة على القتال والبراءة لم يكتب في أولها « بسم الله الرحمن الرحيم » وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح : « بسم الله والله أكبر » ولا يقال : « بسم الله الرحمن الرحيم » فلما وفقك الله لذكر هذه الكلمات كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب وإنما خلقك للرحمة والثواب .
السادسة عشرة : قال صلى الله عليه وسلم : « من رفع قرطاساً من الأرض فيه بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً لله تعالى كتب عند الله من الصدّيقين وخفف عن والديه وإن كانا من المشركين » وعن علي رضي الله عنه قال : لما نزلت « بسم الله الرحمن الرحيم » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول ما نزلت هذه الآية على آدم قال : أمن ذريتي من العذاب ما داموا على قراءتها ، ثم رفعت فأنزلت على إبراهيم عليه السلام فتلاها وهو في كفة المنجنيق فجعل الله عليه النار برداً وسلاماً ، ثم رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان وعندها قالت الملائكة : الآن تم والله ملكك ، ثم رفعت فأنزلها الله تعالى عليّ ، ثم يأتي أمتي يوم القيامة وهم يقولون : « بسم الله الرحمن الرحيم » فإذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجحت حسناتهم . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « يا أبا هريرة إذا توضأت فقل : » بسم الله الرحمن الرحيم « فإن حفظتك لا يستريحون أن يكتبوا لك الحسنات حتى تفرغ ، وإذا غشيت أهلك فقل : » بسم الله الرحمن الرحيم « فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة ، فإن حصل من تلك المواقعة ولد كتبت له من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب حتى لا يبقى منهم أحد . يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل : » باسم الله والحمد لله « يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة ، وإذا ركبت سفينة فقال : » باسم الله والحمد لله « يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها » وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا بسم الله الرحمن الرحيم » والإشارة فيه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى؟
كانت لنفسي أهواء مفرّقة ... فاستجمعت إذ رأتك النفس أهوائي
فصار يحسدني من كنت أحسده ... وصرت مولى الورى مذ صرت مولاي
تركت للناس دنياهم ودينهم ... شغلاً بذكرك يا ديني ودنيائي
هذا تمام الكلام في تفسير البسملة .
وأما تفسير الفاتحة ففيه أيضاً مسائل : الأولى : في أسماء هذه السورة وهي كثيرة ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى .
فالأول : فاتحة الكتاب سميت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف وفي التعليم وفي القراءة في الصلاة ، ولأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن . وقيل : لأنها أول سورة نزلت من السماء .
الثاني : سورة الحمد لأن أولها الحمد .
الثالث : أم الكتاب وأم القرآن لأنها أصل القرآن وأصل كل كتاب منزل لاشتمالها على الإلهيات والمعاد وإثبات القضاء والقدر والنبوات ، أو لأن فيها حاصل جميع الكتب السماوية وذلك هو الثناء على الله والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات ، أو لأن المقصود من جميع العلوم معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية ، أو لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة وهي أم القرى أشرف البلدان ، أو أصل لجميع البلدان حيث دحيت من تحتها ، وكما أن الحمى سميت أم ملدم لأنهم جعلوها معظم الأوجاع واللدم الضرب .
الرابع : السبع المثاني لأنها سبع آيات ولأنها تثنى في كل صلاة ، أو لأن نصفها ثناء العبد للرب والنصف الآخر إعطاء الرب العبد ، أو لأنها مستثناة لهذه الأمة قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ما أنزلت في التوراة والإنجيل ولا في الزبور مثل هذه السورة وإنها السبع المثاني والقرآن العظيم » أو لأنها نزلت مرتين ، أو لأنها أثنية ومدائح لله تعالى .
الخامس : الوافية لأنها تجب قراءة كلها ولا يجزئ بعضها في الصلاة .
السادس : الكافية قال صلى الله عليه وسلم : « أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً عنها »
السابع : الشفاء والشافية لقوله صلى الله عليه وسلم « فاتحة الكتاب شفاء من كل سقم »
الثامن : الأساس لأنها أول سورة القرآن فهي كالأساس ، أو لأنها تشتمل على أساس العبادات والمطالب . قال الشعبي : سمعت عبد الله بن عباس يقول : أساس الكتب القرآن ، وأساس القرآن فاتحة الكتاب ، وأساس الفاتحة « بسم الله الرحمن الرحيم » فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالأساس تشف بإذن الله تعالى .
التاسع : الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى : « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » يعني الفاتحة وهو من باب تسمية الشيء بمعظم أركانه . ومنه يعلم وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة .
العاشر : سورة تعليم المسألة لأن الله تعالى علم عباده فيها آداب السؤال فبدأ بالثناء ثم بالإخلاص ثم بالدعاء .
الحادي عشر : سورة الكنز لما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش ولهذا قال أكثر العلماء : إنها مكية وخطؤا مجاهداً في قوله : إنها مدنية ، وكيف لا؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب أنها من أول ما نزل من القرآن وأنها السبع المثاني ، وسورة الحجر مكية بلا خلاف وفيها قوله تعالى : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة بلا فاتحة الكتاب . وقد جمع طائفة من العلماء بين القولين فقالوا إنها نزلت بمكة مرة وبالمدينة أخرى ، وعلى هذا فإنها لم تثبت في المصحف مرتين لأنه لم يقع التواتر على نزولها مرتين .
ومن فضائل هذه السورة أنه لم يوجد فيها الثاء وهو الثبور { لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] والجيم وهو جهنم { وإن جهنم لموعدهم أجمعين } [ الحجر : 43 ] والخاء وهو الخزي { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [ التحريم : 8 ] والزاء وهو الزفير والزقوم . والشين وهو الشهيق { لهم فيها زفير وشهيق } [ هود : 106 ] والظاء وهو لظى { كلا إنها لظى } [ المعارج : 15 ] والفاء وهو الفراق { ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } [ الروم : 14 ] فلما أسقط الله تعالى من الفاتحة هذه الحروف الدالة على العذاب وهي بعدد أبواب جهنم لقوله تعالى : { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 44 ] غلب على الظن أن من قرأ الفاتحة نجا من جهنم ودخول أبوابها وتخلص من دركات النار وعذابها .
الثانية : في المباحث اللفظية .
الحمد مبتدأ والله خبره أي الحمد ثابت لله . وأصله النصب الذي هو قراءة بعضهم بإضمار فعله كقولهم شكراً وعجباً وسبحانك ومعاذ الله ، فعدل إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره نحو قوله تعالى { قالوا سلاماً قال سلام } [ الذاريات : 25 ] ولهذا كان تحية إبراهيم عليه السلام أحسن من تحيتهم كما جاء { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } [ النساء : 86 ] ومما يدل على أن أصله النصب أن قوله { إياك نعبد وإياك نستعين } بيان لحمدهم فكأنه قيل : كيف يحمدون؟ فقيل : إياك نعبد . والأصل توافق الجملتين . واللام في « الحمد » لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والاستغراق وهم لأنه لو سلم كونه اللام للاستغراق فحمد أبويه مثلاً لا يدخل فيه . وأيضاً نحو نحمد الله لا يفهم منه إلا حقيقة الحمد من حيث هي فكذا ما ناب منابه وهو الحمد لله . وقرأ بعضهم بكسر الدال إتباعاً ، وبعضهم بضم اللام .
الرب المالك ، ربه يربه فهو رب ، أو مصدر وصف به للمبالغة كالعدل . وهو مطلقاً مختص بالله تعالى ، ومضافاً يجوز إطلاقه على غيره نحو : رب الدار { ارجع إلى ربك } [ يوسف : 50 ] وقرئ بالنصب على المدح أو بتقدير نحمد . والعالم اسم موضوع للجمع كالأنام والرهط ، وهو ما يعقل من الملائكة والثقلين قاله ابن عباس والأكثرون . وقيل : كل ما علم به الخالق من الجواهر والأعراض كقوله تعالى { قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات والأرض وما بينهما } [ الشعراء : 23 ، 24 ] فعلى الأول مشتق من العلم وخصوا بالذكر للتغليب ، وعلى الثاني من العلامة وجمع ليشمل كل جنس مما سمي به ، وجمع بالواو والنون تغليباً لما فيه من صفات العقلاء . { مالك يوم الدين } صفة أخرى . واليوم هو المدة من طلوع نصف جرم الشمس إلى غروب نصف جرمها ، أو من ابتداء طلوعها إلى غروب كلها ، أو من طلوع الفجر الثاني إلى غروبها ، وهذا في عرف الشرع . ويراد به في الآية الوقت لعدم الشمس ثمة .
والدين الجزاء بالخير والشر « كما تدين تدان » وإضافة اسم الفاعل إلى الظرف اتساع وإجراء للظرف مجرى المفعول به مثل : يا سارق الليلة أهل الدار . وإنما أفادت التعريف حتى جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه إما بمعنى الماضي نحو { ونادى أصحاب الأعراف } [ الأعراف : 48 ] { وسيق الذين اتقوا ربهم } [ الزمر : 73 ] أو بمعنى الاستمرار نحو : زيد مالك العبيد . فيكون بمعنى من يملك المفيد للاستمرار نحو : فلان يعطي ويمنع . وحينئذ لا تعمل ، فتكون الإضافة حقيقية ، وقرئ بنصب الكاف ورفعها مدحاً ، وبسكون اللام مخفف ملك مكسور اللام وبجعله فعلاً ماضياً ونصب يوم و مليك رفعاً ونصباً وجراً . « إيا » ضمير منصوب منفصل ولا محل لكاف الخطاب نحو « أرأيتك » وهو مذهب الأخفش والمحققين وحكاية الخليل « إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب » شاذ . والأصل نعبدك ونستعينك ، فلما قدم الضمير المتصل للاختصاص صار منفصلاً . وقرئ إياك بتخفيف الياء ، وأياك بفتح الهمزة والتشديد ، وهياك بقلب الهمزة هاء ، قال طفيل :
فهياك والأمر الذي إن تراحبت ... موارده ضاقت عليك مصادره
فإن قيل : لم عدل عن الغيبة إلى الخطاب؟ قلنا : هذا يسمى الالتفات في علم البيان وذلك على عادة افتنانهم في الكلام والتنقل من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع . وقد يختص مواقعه بفوائد وسننظم لك في سلك التقرير فائدته في هذا الموضع . والعبادة أقصى غاية الخضوع . طريق معبد أي مذلل ، وثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة وقوة النسج هدى يتعدى باللام أو بإلى { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] فعومل معاملة اختار في قوله تعالى { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] والأصل فيه الإمالة ومنه { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي ملنا والهدية لأنها تمال من ملك إلى ملك والهدي للذي يساق إلى الحرم أي أمل قلوبنا إلى الحق . والصراط الجادة ، وأصله السين من سرط الشيء ابتلعه لأنه يسرط السابلة إذا سلكوه كما سمي لقماً لأنه يلتقمهم ، ومثله مسيطر ومصيطر . والصراط يذكر ويؤنث كالطريق والسبيل و { صراط الذين أنعمت عليهم } بدل الكل من { الصراط المستقيم } وفائدته التوكيد كقولك : هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان؟ ويكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم والفضل من قولك : هل أدلك على فلان الأكرم الأفضل ، لأنك بينت ذكره مجملاً أوّلاً ومفصلاً ثانياً . وقراءة ابن مسعود { صراط من أنعمت عليهم وغير المغضوب } بدل من « الذين » أو صفة . وإنما جاز وقوعه صفة للمعرفة لأنه تعريف الذين كلاً تعريف كقوله : « ولقد أمر على اللئيم يسبني » . أو لأن المغضوب عليهم والضالين خلاف المنعم عليهم فهو كقولك : عليك بالحركة غير السكون ويجوز أن يكون بدلاً وإن كان نكرة من معرفة ولا نعت للإفادة . والفرق بين عليهم الأولى والثانية ، أن الأولى محلها النصب على المفعولية ، والثانية محلها الرفع على أنها مفعول أقيم مقام الفاعل .
وأصل النعمة المبالغة والزيادة يقال : دققت الدواء فأنعمت دقه أي بالغت في دقه . وكل ما في القرآن من ذكر النعمة بكسر النون فهي المنة والعطية . والنعمة بفتح النون التنعم وسعة العيش { ونعمة كانوا فيها فاكهين } [ الدخان : 27 ] والغضب في اللغة الشدة وقد عرفت معناه بحسب إطلاقه على الخلق وعلى الخالق . وأصل الضلال الغيبوبة ضل الماء في اللبن إذا غاب فيه ، وضل الكافر غاب عن الحق . قال تعالى : { أئذا ضللنا في الأرض } [ السجدة : 10 ] و « غير » ههنا بمعنى « لا » و « لا » بمعنى « غير » ولذلك جاز عطف أحدهما على الآخر . تقول : أنا زيداً غير ضارب كما تقول : أنا زيداً لا ضارب . ويعضده ما قرئ وغير الضالين وقرأ أيوب السختياني ولا الضألين بالهمزة كما قرأ عمرو بن عبيد { ولا جأنّ } وآمين مداً وقصراً معناه استجب ، كما أن رويد معناه أمهل . وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معناه إفعل .
( الثالث في المباحث الفقهية ) . البحث الأول : أجمع الأكثرون ومنهم الشافعي على أن قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة وإن ترك منها حرفا واحداً وهو يحسنها لم تصح صلاته . وعند أبي حنيفة قراءتها غير واجبة لنا أنه صلى الله عليه وسلم واظب طول عمره على قراءتها في الصلاة فتجب علينا لقوله تعالى { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وأيضاً أقيموا الصلاة معناه الصلاة التي أتى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكنه كان يقرأ الفاتحة فيها فتجب . وأيضاً روي في ذلك أخبار كثيرة مثل « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » « كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج » وروى رفاعة بن مالك أن رجلاً دخل المسجد وصلى ، فلما فرغ من صلاته وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : « إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب » وظاهر الأمر للوجوب ولا سيما في معرض التعليم . وأيضاً الخلفاء الراشدون واظبوا على قراءتها طول العمر وقال صلى الله عليه وسلم : « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين » وأيضاً المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور وذلك غير جائز إن لم تكن واجبة فثبت أنها واجبة . حجة أبي حنيفة { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] قلنا : الفاتحة هي المتيسرة المحفوظة على جميع الألسنة . ثم قال : إذا قرأ آية واحدة كفت مثل { الم } أو { حم } [ الدخان : 1 ] { والطور } [ الطور : 1 ] و { مدهامتان } [ الرحمن : 64 ] . أبو يوسف ومحمد : لا بد من قراءة ثلاث آيات أو آية واحدة طويلة مثل آية الدين .
البحث الثاني : قراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، وإنما كتبت للفصل والتبرك وهو مذهب أبي حنيفة ومن تابعه ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة .
وقراء مكة والكوفة وفقهاؤهما على أنها آية من كل سورة وعليه الشافعي وأصحابه لما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد { بسم الله الرحمن الرحيم } آية ، { الحمد لله رب العالمين } آية ، { الرحمن الرحيم } آية ، { مالك يوم الدين } آية ، { إياك نعبد وإياك نستعين } آية ، { اهدنا الصراط المستقيم } آية { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } آية . وعن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن » بسم الله الرحمن الرحيم « وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت : بلى فقال : بأي شيء تفتتح القرآن إذ افتتحت الصلاة؟ قلت : ببسم الله الرحمن الرحيم . قال : هي هي . وبإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال : أقول » الحمد لله « قال : قل » بسم الله الرحمن الرحيم « وبإسناده عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ » بسم الله الرحمن الرحيم « وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص في صلاته وبإسناده عن ابن عباس في قوله { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } [ الحجر : 87 ] قال : فاتحة الكتاب . فقيل لابن عباس : فأين السابع؟ فقال : » بسم الله الرحمن الرحيم « . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله سبحانه » قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فإذا قال العبد « بسم الله الرحمن الرحيم » قال الله : مجدني عبدي وإذا قال : « الحمد لله رب العالمين » قال الله : حمدني عبدي وإذا قال : « الرحمن الرحيم » قال الله : أثنى عليّ عبدي وإذا قال : « مالك يوم الدين » قال الله : فوّض إلي عبدي وإذا قال : « إياك نعبد وإياك نستعين » قال الله : هذا بيني وبين عبدي وإذا قال : « اهدنا الصراط المستقيم » قال الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل « إلى غير ذلك من الأخبار . وأيضاً التسمية مكتوبة بخط القرآن في مصاحف السلف مع توصيتهم بتجريد القرآن عما ليس منه ولذلك لم يثبتوا » آمين « . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : ما أعظم آية في كتاب الله؟ قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، فصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومعلوم أنها ليست آية تامة في قوله { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } [ النمل : 30 ] فتكون آية في غير هذا الموضع . وأيضاً إن أكثر الأنبياء أوجبوا على أنفسهم الابتداء بذكر الله قال نوح عند ركوب السفينة : { باسم الله مجريها ومرساها } [ هود : 41 ] وكتب سليمان إلى بلقيس « بسم الله الرحمن الرحيم » وقوله { إنه من سليمان } من قول بلقيس قبل فتح الكتاب ، فلما فتحت الكتاب قرأت التسمية فقالت : وإنه { بسم الله الرحمن الرحيم } ولما ثبت الابتداء بالتسمية في حقهم ثبت في حق نبينا أيضاً { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل « بسم الله الرحمن الرحيم » . وعن ابن عمر قال : نزلت « بسم الله الرحمن الرحيم » في كل سورة . وأيضاً البسملة من القرآن في النمل ثم إنا نراه مكرراً بخط القرآن فوجب أن نعتقد كونه من القرآن مثل { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] { ويل يومئذ للمكذبين } [ المرسلات : 15 ] حجة المخالف خبر أبي هريرة أيضاً في رواية أخرى قال : « يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد » الحمد لله رب العالمين « يقول الله حمدني عبدي » إلى آخره . قال : لم يذكر التسمية ، ولو كانت آية من الفاتحة لذكرها . قلنا : إذا تعارضت الروايتان فالترجيح للمثبت لا للنافي . قالوا : التنصيف إنما يحصل إذا لم تعد التسمية آية حتى يحصل للرب ثلاث آيات ونصف وللعبد ثلاث ونصف من « إياك نستعين » إلى آخر السورة . أما إذا قلنا التسمية آية صار القسم الأول أربع آيات ونصفاً فينخرم التنصيف . قلنا : نحن نعد التسمية آية ولا نعد « أنعمت عليهم » وهذا أولى رعاية لتشابه المقاطع ، ولأن غير صفة أو بدل ويختل الكلام بجعله منقطعاً عما قبله لأن طلب الاهتداء بصراط المنعم عليهم لا يجوز إلا بشرط كون المنعم عليه غير مغضوب عليه ولا ضالاً بدليل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً } [ إبراهيم : 28 ] فهذا المجموع كلام واحد ، وهذا بخلاف { الرحمن الرحيم } فإنا لو قطعنا النظر عن الصفة كان الكلام مع الموصوف غير مختل النظام . قالوا : روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله رب العالمين . قلنا : قال الشافعي : لعل عائشة جعلت { الحمد لله رب العالمين } اسماً لهذه السورة كما يقال قرأ فلان « الحمد لله الذي خلق السموات والأرض » . قالوا : لو كانت من الفاتحة لزم التكرار في { الرحمن الرحيم } قلنا : التكرار للتأكيد غير عزيز في القرآن .
فإن قيل : إذا عد التسمية آية من كل سورة على ما يروى عن ابن عباس ، فمن تركها فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله . فما وجه ما روي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سورة الملك : إنها ثلاثون آية وفي الكوثر إنها ثلاث آيات مع أن العدد حاصل بدون التسمية؟ قلنا : إما أن تعد التسمية مع ما بعدها آية وذلك غير بعيد ، ألا ترى أن قوله « الحمد لله رب العالمين » آية تامة ، وفي قوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] بعض آية؟ وإما أن يراد ما هو خاصة الكوثر ثلاث آيات ، فإن التسمية كالشيء المشترك فيه بين السور .
البحث الثالث : عن أحمد بن حنبل أن التسمية آية من الفاتحة ، ويسرّ بها في كل ركعة . أبو حنيفة : ليست بآية ويسر بها . مالك : لا ينبغي أن يقرأها في المكتوبة لا سراً ولا جهراً . الشافعي : آية ويجهر بها لأنها بعد ما ثبت كونها من الفاتحة والقرآن لا يعقل فرق بينها وبين باقي الفاتحة حتى يسر بهذه ويجهر بذلك . وأيضاً إنه ثناء على الله وذكر له فوجب أن يكون الإعلان به مشروعاً لقوله عز من قائل { فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً } [ البقرة : 200 ] وأيضاً الإخفاء والسر إنما يليق بما فيه نقيصة ومثلبة لا بما فيه مفخرة وفضيلة . قال صلى الله عليه وسلم : « طوبى لمن مات ولسانه رطب من ذكر الله » وكان علي بن أبي طالب يقول : يا من ذكره شرف للذاكرين . وكان مذهبه الجهر بها في جميع الصلوات ، وقد ثبت هذا منه تواتراً ومن اقتدى به لن يضل . قال صلى الله عليه وسلم : « اللهم أدر الحق معه حيث دار » وروى البيهقي في السنن الكبرى عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم . وروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير مثل ذلك ، وروى الشافعي بإسناده أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود ، فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار : يا معاوية سرقت من الصلاة أين « بسم الله الرحمن الرحيم » أين التكبير عند الركوع والسجود؟ ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير . قال : وكان معاوية شديد الشكيمة ذا شوكة ، فلولا أن الجهر بالتسمية كان مقرراً عند كل الصحابة لم يجسروا على ذلك حجة المخالف ما روى البخاري في صحيحه عن أنس قال : صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين . وفي رواية ولم أسمع أحداً منهم قال : { بسم الله الرحمن الرحيم } وفي رواية ولم يجهر أحد منهم ببسم الله الرحمن الرحيم .
وعن عبد الله بن المغفل أنه قال : سمعني أبي وأنا أقول { بسم الله الرحمن الرحيم } فقال : أي بني ، إياك والحدث في الإسلام! وقد صليت خلف أبي بكر فقال : { الحمد لله رب العالمين } وصليت خلف عمر فقال : { الحمد لله رب العالمين } وصليت خلف عثمان فقال : { الحمد لله رب العالمين } فإذا صليت فقل « { الحمد لله رب العالمين } . والجواب أن حديث أنس معارض بما يروى عنه أيضاً أن معاوية لما ترك التسمية في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار . وروى أيضاً أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم . ويروى أيضاً أنه سئل عن الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم والإسرار به فقال : لا أدري هذه المسألة ، وإذا اضطربت الروايات عنه وجب الرجوع إلى سائر الدلائل . وأيضاً ففيها تهمة أخرى وهي أن علياً رضي الله عنه كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلما كان زمن بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي بن أبي طالب ، فلعل أنساً خاف منهم فلهذا اضطربت أقواله . وأيضاً من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم أولى الأحلام والنهي والأكابر والعلماء على غيرهم ، ولا شك أن علياً وابن عباس وابن عمر كانوا أعلى حالاً من أنس وابن المغفل وأقرب موقفاً ، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يبالغ في الجهر لقوله تعالى { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلاً } [ الإسراء : 110 ] فلهذا لم يسمعا . ورواية المثبت أولى من رواية النافي ، والدلائل العقلية معنا ويؤيدها عمل علي بن أبي طالب كما مر .
البحث الرابع : تقديم التسمية على الوضوء سنة عند عامة العلماء وليست بواجبة خلافاً لبعض أهل الظاهر حيث قالوا : لو تركها عمداً أو سهواً لم تصح صلاته لنا قوله صلى الله عليه وسلم » توضأ كما أمرك الله « والتسمية غير مذكورة في آية الوضوء . والصحيح عندنا أن الجنب والحائض لا يقولها بقصد القراءة ، والتسمية عند الذبح وعند الرمي إلى الصيد وعند إرسال الكلب مستحبة ، فلو تركها عامداً أو ناسياً ، لم تحرم الذبيحة عند الشافعي ولكن تركها عمداً مكروه ، وعند أبي حنيفة إن ترك التسمية عمداً لم يحل ، وإن نسي حل . والعلماء أجمعوا على أنه يستحب أن لا يشرع في عمل من الأعمال إلا أن يقول : باسم الله ، فإذا نام قال باسم الله ، وإذا انتبه قال : باسم الله ، وإذا قام من المقام قال : باسم الله ، وإذا أكل أو شرب قال : باسم الله ، وإذا أعطى أو أخذ قال : باسم الله ، ويستحب للقابلة إذا أخذت الولد من الأم أن تقول باسم الله وهذا أول أحواله من الدنيا وإذا مات وأدخل القبر قيل باسم الله وهذا آخر أحواله من الدنيا ، وإذا قام من القبر قال : باسم الله ، وإذا حضر الموقف قال : باسم الله ، فلا جرم يدخل الجنة ببركة اسم الله .
البحث الخامس : قال الشافعي : ترجمة القرآن لا تكفي في صحة الصلاة لا في حق من يحسن القراءة ولا في حق من لا يحسنها . وقال أبو حنيفة : إنها كافية في حق القادر والعاجز . وقال أبو يوسف ومحمد : كافية في حق العاجز لا القادر لنا أنه صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده وجميع الصحابة ما قرأوا في الصلاة إلا هذا القرآن العربي فوجب علينا اتباعهم ، وكيف يجوّز عاقل قيام الترجمة بأي لغة كانت وهي كلام البشر مقام كلام خالق القوى والقدر؟ وقالوا : وروي عن عبدالله بن مسعود أنه كان يعلم رجلاً أن شجرة الزقوم طعام الأثيم والرجل لا يحسنه . فقال : قل طعام الفاجر ، ثم قال عبدالله : ليس الخطأ في القرآن أن تقرأ مكان العليم الحكيم إنما الخطأ بأن تضع آية الرحمة مكان آية العذاب . قلنا : الظن بابن مسعود غير ذلك . قالوا { وإنه لفي زبر الأولين } [ الشعراء : 196 ] { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 ، 19 ] ولا ريب أن القرآن بهذا اللفظ ما كان في زبر الأولين لكن بالعبرية والسريانية . قلنا إن القصص والمواعظ موجودة لا باللفظ بل بالمعنى ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الموجود فيها قرآناً ، فإن النظم المعجز جزء من ماهية القرآن والكل بدون الجزء مستحيل .
البحث السادس : الشافعي في القول الجديد قال : تجب قراءة الفاتحة على المقتدي سواء أسر الإمام بالقراءة أو جهر بها . وفي القديم : تجب إذا أسر الإمام ولا تجب إذا جهر وهو قول مالك وأحمد أبو حنيفة : تكره القراءة خلف الإمام بكل حال لنا قوله تعالى { فاقرءوا ما تيسر من القرآن } [ المزمل : 20 ] وقوله : « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » يشمل المنفرد والمقتدي ، وأيضاً روى الترمذي في جامعه بإسناده عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال : إني أراكم تقرأون خلف إمامكم قلنا : أي والله ، قال : لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها . قال : وهذا حديث حسن . وأيضاً قراءتها لا تبطل الصلاة عندهم ولكن يجوّزون تركها ويبطلها عدم القراءة عندنا ، فالأحوط قراءتها . احتج المخالف بقوله تعالى { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا } [ الأعراف : 204 ] وبأخبار بين ضعفها البيهقي في كتابه ، ونحن نقول : أما القرآن فمخصوص بغير الفاتحة لما مر ، وأما الأخبار فهب أنها صحيحة إلا أن الترجيح معنا لأن الاشتغال بقراءة القرآن من أعظم الطاعات ولأنه أحوط .
البحث السابع : مذهب الشافعي أن الفاتحة واجبة في كل ركعة فإن تركها في ركعة بطت صلاته ، وبه قال أبو بكر وعمر وعلي عليهم السلام وابن مسعود ومعظم الصحابة ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأوها في كل ركعة ، ولأنه قال للأعرابي الذي علمه الصلاة وكذلك فأفعل في كل ركعة . وعن أبي سعيد الخدري أنه قال : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة فريضة كانت أو نافلة . وأيضاً القراءة في كل ركعة أحوط فيجب المصير إليها . وقيل : غير واجبة أصلاً ، وقيل : تجب في كل صلاة في ركعة واحدة فقط وبه يحصل امتثال قوله « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب » وعند أبي حنيفة القراءة تجب في الركعتين الأوليين لقول عائشة : فرضت الصلاة في الأصل ركعتين فأقرّت في السفر وزيدت في الحضر . فهما أصل والزائد تبع . قلنا : ما ذكرنا أحوط ، وقيل : تجب الفاتحة في الأوليين وتكره في الآخرتين . وعند مالك تجب في أكثر الركعات ، ففي الثنائية فيهما وفي الثلاثية في اثنتين وفي الرباعية في ثلاث .
البحث الثامن : إذا ثبت أن القراءة شرط في الصلاة فلو تركها أو حرفاً من حروفها عمداً بطلت صلاته وكذا سهواً على الجديد . وما روي أن عمر بن الخطاب صلى المغرب فترك القراءة فقيل له : تركت القراءة . قال : كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا : حسناً . قال : فلا بأس ، معارض بما روى الشعبي عنه أنه أعاد الصلاة . وأيضاً لعله ترك الجهر بالقراءة لا نفس القراءة .
البحث التاسع : يجب رعاية الترتيب في أجزاء الفاتحة وما وقع غير مرتب فغير محسوب .
البحث العاشر : إن لم يحفظ شيئاً من الفاتحة قرأ بقدرها من غيرها من القرآن ، ثم من ذكر من الأذكار ، ثم عليه مثل وقفة بقدرها فإن تعلم قرأ ما لم يفرغ منه .
البحث الحادي عشر : نقل عن ابن مسعود أنه كان ينكر أن تكون الفاتحة والمعوذتان من جملة القرآن والظن به أن هذا النقل عنه كذب وإلا فجحد المتواتر كيف يليق بحاله؟ الرابع فيما يختص بتفسير الحمد لله من الفوائد . الفائدة الأولى في الفرق بين الحمد والمدح والشكر . المدح للحي ولغير الحي كاللؤلؤة والياقوتة الثمينة ، والحمد للحي فقط . والمدح قد يكون قبل الإحسان وقد يكون بعده ، والحمد إنما يكون بعد الإحسان . والمدح قد يكون منهياً عنه قال صلى الله عليه وسلم : « احثوا التراب في وجوه المداحين » والحمد مأمور به مطلقاً قال صلى الله عليه وسلم : « من لم يحمد الناس لم يحمد الله » والمدح عبارة عن القول الدال على أنه مختص بنوع من أنواع الفضائل باختياره وبغير اختياره ، والحمد قول دال على أنه مختص بفضيلة اختيارية معينة وهي فضيلة الإنعام إليك وإلى غيرك ، ولا بد أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكم والاستهزاء ، والشكر على النعمة الواصلة إليك خاصة وهو باللسان ، وقد يكون بالقلب والجوارح قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
والحمد باللسان وحده فهو إحدى شعب الشكر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده » وإنما جعله رأس الشكر لأن ذكر النعمة باللسان والثناء على موليها أشيع لها وأدل على مكانها من الاعتقاد وأداء الجوارح لخفاء عمل القلب ، وما في عمل الجوارح من الاحتمال بخلاف عمل اللسان وهو النطق الذي يفصح عن كل خفي . والحمد نقيضه الذم ولهذا قيل : الشعير يؤكل ويذم . والمدح نقيضه الهجاء ، والشكر نقيضه الكفران ، إذا عرفت ذلك فنقول : إذا قال المدح لله لم يدل ذلك على كونه تعالى فاعلاً مختاراً لما مر أن المدح قد يكون لغير المختار . ولو قال : الشكر لله كان ثناء بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل . وإذا قال : الحمد لله فكأنه يقول سواء أعطيتني أو لم تعطني فإنعامك واصل إلى كل العالمين وأنت مستحق للحمد العظيم ، ولا ريب أن هذا أولى . وقيل : الحمد لله على ما دفع من البلاء ، فكأنه يقول : أنا شاكر لأدنى النعمتين فكيف بأعلاهما؟ ويمكن أن يقال : إن المنع غير متناه والإعطاء متناه ، والابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له أولى ، وأيضاً دفع الضرر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى .
الثانية : لو قال : أحمد الله أفاد كون ذلك القائل على حمده ، وإذا قال : الحمد لله أفاد أنه كان محموداً قبل حمد الحامدين وقبل شكر الشاكرين . وأيضاً الحمد لله معناه أن مطلق الحمد والثناء حق لله وملكه كما ينبئ عنه اللام الجنسية واللام الجارة وذلك بسبب كثرة إيلائه أنواع آلائه على عبيده وإمائه . ولا يخفى أن هذا أولى من أن يحمده شخص واحد فقط ، ولهذا لو سئلت هل حصل لفلان عليك نعمة؟ فإن قلت نعم فقد حمدته ولكن حمداً ضعيفاً ، ولو قلت في الجواب بل نعمه على كل الخلائق كان أكمل . فإن قيل : أليس أن المنعم يستحق الحمد من المنعم عليه؟ فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من لم يحمد الناس لم يحمد الله » قلنا : المنعم في الحقيقة هو الله لأنه خلق تلك الداعية في ذلك المنعم بعد أن خلق تلك النعمة وسلط المنعم عليها ومكن المنعم عليه من الانتفاع وأمنه من فوات الانقطاع ، ولهذا قال عز من قائل { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] وأيضاً كل مخلوق ينعم على غيره فإنه يطلب بذلك الإنعام عوضاً إما ثواباً أو ثناء ، أو تحصيل خلق أو تخلصاً من رذيلة البخل .
وطالب العوض لا يكون منعماً ولا مستحقاً للحمد في الحقيقة ، أما الله سبحانه فإنه كامل لذاته والكامل لذاته لا يطلب الكمال ، لأن تحصيل الحاصل محال فكان عطاؤه جوداً محضاً ، فثبت أن لا مستحق للحمد إلا الله تعالى .
الثالثة : إنما لم يقل « احمدوا الله » لأن الإنسان عاجز عن الإتيان بحمد الله وشكره فلم يحسن أن يكلف فوق ما يستطيعه ، وذلك أن نعم الله على العباد غير محصورة { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وإذا امتنع الوقوف عليها امتنع اقتداره على الشكر والثناء اللائق بها . وأيضاً إنما يمكنه القيام بحمد الله وشكره إذا أقدره الله على ذلك الحمد والشكر وخلق في قلبه داعية ذلك وأزال عنه العوائق والصوارف ، وكل ذلك إنعام من الله فيتسلسل . وأيضاً الاشتغال بالحمد والشكر معناه أن المنعم عليه يقابل إنعام المنعم بشكر نفسه ، ومن اعتقد أن حمده وشكره يساوي نعمة الله فقد أشرك ، وهذا معنى قول الواسطي « الشكر شرك » أما إذا قال : « الحمد لله » فالمعنى أن كمال الحمد حقه وملكه سواء قدر الخلق على الإتيان به أو لم يقدروا . ونقل أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك لا يتم إلا بإنعامك علي وهو أن توفقني لذلك الشكر؟ فقال : يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني بحسب قدرتك وطاقتك .
الرابعة : عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا أنعم الله على عبد فقال : » الحمد لله « يقول الله تعالى : انظروا إلى عبدي أعطيته ما لا قدر له فأعطاني ما لا قيمة له » ومعناه أن ما أنعم الله على العبد شيء واحد ، وإذا قال : الحمد لك فمعناه المحامد التي أتى بها الأولون والآخرون من الملائكة والثقلين لله تعالى ، وكذا المحامد التي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى { دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيّتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وإلى أبد الآبدين ودهر الداهرين فالمنعم به متناه والحمد غير متناه ، وإذا أسقط المتناهي من غير المتناهي بقي غير المتناهي . فالذي بقي للعبد طاعات غير متناهية فلا بد من مقابلتها بنعم غير متناهية ، فلهذا يستحق العبد الثواب الأبدي والخير السرمدي .
الخامسة : لا شك أن الوجود خير من العدم ، وأن وجود كل ما سوى الله فإنه حصل بإيجاد الله وجوده ، فإنعام الله تعالى واصل إلى كل من سواه ، فإذا قال العبد : « الحمد لله » فكأنه قال : الحمد لله على كل مخلوق خلقه ، وعلى كل محدث أحدثه من نور وظلمة وسكون وحركة وعرش وكرسي وجني وإنسي وذات وصفة وجسم وعرض من أزل الآزال إلى أبد الآباد ، وأنا أشهد أنها بأسرها لك لا شركة لأحد فيها معك .
السادسة : التسبيح مقدم على التحميد لأنه يقال : سبحان الله والحمد لله . فما السبب في وقع البداءة بالتحميد؟ والجواب أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس ، فإن التسبيح يدل على كونه مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص ، والتحميد يدل على كونه محسناً إلى العباد ، ولا يكون محسناً إليهم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات ليعلم مواقع الحاجات وإلا إذا كان قادراً على المقدورات ليقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ، وإلا إذا كان غنياً في نفسه وإلا شغله حاجة نفسه عن حاجة غيره ، فثبت أن كونه محسناً لا يتم إلا بعد كونه منزهاً عن النقائص والآفات .
السابعة : الحمد له تعلق بالماضي وهو وقوعه شكراً على النعم السابقة ، وتعلق بالمستقبل وهو اقتضاء تجدد النعم لقوله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] فبالأول يغلق عنك أبواب النيران ، وبالثاني يفتح لك أبواب الجنان ، فإن الحمد لله ثمانية أحرف بعدد أبواب الجنة .
الثامنة : الحمد لله كلمة جليلة لكنه يجب أن تذكر في موضعها ليحصل المقصود . قال السري : منذ ثلاثين سنة أستغفر الله لقولي مرة واحدة الحمد لله . وذلك أنه وقع الحريق في بغداد وأحرقت دكاكين الناس فأخبروني واحد أن دكاني لم يحترق فقلت : الحمد لله . وكان من حق الدين والمروءة أن لا أفرح بذلك ، فأنا في الاستغفار منذ ثلاثين سنة . فالحمد على نعم الدين أفضل من الحمد على نعم الدنيا ، والحمد على أعمال القلوب أولى من الحمد على أعمال الجوارح ، والحمد على النعم من حيث إنها عطية المنعم أولى من الحمد عليها من حيث هي نعم ، فهذه مقامات يجب اعتبارها حتى يقع الحمد في موضعه اللائق به .
التاسعة : أول ما بلغ الروح إلى سرة آدم عطس فقال : { الحمد لله رب العالمين } وآخر دعوى أهل الجنة { الحمد لله رب العالمين } . ففاتحة العالم مبنية على الحمد وخاتمته مبنية على الحمد ، فاجتهد أن يكون أول أعمالك وآخرك مقروناً بكلمة الحمد .
العاشرة : لا يحسن عندنا أن يقدّر قولوا : « الحمد لله » لأن الإضمار خلاف القياس ، ولأن الولد إذا قال لولده : أعمل كذا وكذا فلم يمتثل كان عاقاً ، فالأولى أن يقول الأمر الفلاني ينبغي أن يفعل . ثم إن كان الولد باراً فإنه يجيبه ويطيعه وإن كان عاقاً كان إثمه أقل ، فكذلك إذا قال : الحمد لله فمن كان مطيعاً حمده ومن كان عاصياً كان إثمه أقل ، بخلاف ما لو قدر « قولوا الحمد لله » .
الحادية عشرة : شنعت الجبرية على المعتزلة ومن يجري مجراهم بأنكم تثبتون للعبد فعلاً واختياراً ، واستحقاق الحمد إنما يكون على أشرف النعم وهو الإيمان ، فلو كان الإيمان بفعل العبد لكان المستحق للحمد هو العبد . والجواب أن الإيمان باختيار العبد لكن الاختيار أيضاً مستند إلى الله تعالى فاستحق الحمد لذلك .
وشنعت المعتزلة على الجبرية بأن قوله « الحمد لله » لا يتم إلا على مذهبنا لأن المستحق للحمد على الإطلاق هو الذي لا قبح في فعله ولا جور في قضيته ، وعندكم لا قبح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو حكمه . والجواب أن القبح والجور إنما يثبتان لو أمكن تصور الفعل المخصوص في القابل المخصوص أحسن وأتم مما صدر لكنه محال ، فإنه تعالى حكيم وكل ما يصدر عن الحكيم كان على أفضل ما يمكن بالنسبة إلى المحل المخصوص .
الثانية عشرة : اختلفوا في أن شكر المنعم واجب عقلاً أو شرعاً . فمنهم من قال عقلاً ومن جملة أدلتهم قوله « الحمد لله » فإنه يدل على ثبوت الاستحقاق على الإطلاق . وأيضاً عقبه بقوله « رب العالمين » وترتيب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللاً بذلك الوصف ، فدل ذلك على أن استحقاقه للحمد ثابت بكونه رباً للعالمين قبل مجيء الشرع وبعده . والجواب أن استحقاقه لمثل هذا الحمد عرفناه من قبل الشرع . واعلم أن الحمد سبيله سبيل سائر الأذكار والعبادات في أنها إنما يؤتى بها لا لأن الله تعالى مستكمل بها ولا لأنه تعالى مجازي بها ، ولكنها لتحقيق نسبة العبودية وإضافة الإمكان الله حسبي
الخامس في فوائد قوله رب العالمين .
الأولى : الموجود إما واجب لذاته وهو الله سبحانه وتعالى فقط ، وإما ممكن لذاته وهو كل ما سواه ويسمى العالم كما مر ، وذلك إما متحيز أو صفة للمتحيز أو لا هذا ولا ذاك .
القسم الأوّل : إن كان قابلاً للقسمة فهو الجسم وإلا فالجوهر الفرد . فالجسم إما علوي أو سفلي ، والعلوي كالسماويات ويندرج فيها العرش والكرسي وسدرة المنتهى واللوح والقلم والجنة والكواكب ، والسفلي إما بسيط وهو العناصر الأربعة : الأرض بما عليها وفيها والماء وهو البحر المحيط وما يتشعب منه في القدر المكشوف من الأرض ، والهواء ومنه كرة البخار وكرة النسيم ومنه الهواء الصافي والنار . وإما مركب وهو المعادن والنبات والحيوان على تباين أنواعها وأصنافها . القسم الثاني : الأعراض بأجناسها وأنواعها . القسم الثالث : الأرواح وهي إما سفلية خيرة كالجن ، أو شريرة كالشياطين . وإما علوية متعلقة بالأجسام كملائكة السموات قال صلى الله عليه وسلم : « ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد » أو غير متعلقة وهي الملائكة المقربون { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [ المدثر : 31 ] ولأن كل موجود سوى الواجب يحتاج إلى الواجب في الوجود . وفي البقاء أيضاً فهو إله العالمين من حيث إنه أخرجها من العدم إلى الوجود ، ورب العالمين من حيث إنه يبقيها حال استقرارها . فكل من كان أكثر إحاطة بأحوال الموجودات وتفاصيلها كان أكثر وقوفاً على تفسير قوله { رب العالمين } .
الثانية : المربي قسمان : أحدهما أن يربي ليربح عليهم ، والثاني أن يربي ليربحوا عليه . والأول شأن المخلوقين الذين غرضهم من التربية إما ثواب أو ثناء أو تعصب أو غير ذلك ، والثاني دأب الحق سبحانه وتعالى كما قال : « خلقتكم لتربحوا عليّ لا لأربح عليكم » وكيف لا يربحون عليه وأنه متعال عن الاستكمال منزه عن أن يحدث في خزائنه بسبب التربية والإفادة والإفاضة اختلال يحب الملحين في الدعاء { ويزيد في الخلق ما يشاء } [ فاطر : 1 ] يكفي علمه من المقال ويغني كرمه عن السؤال { وسع كل شيء علماً } [ طه : 98 ] ويربي كل حي كرماً وحلماً { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12 ، 13 ، 14 ] { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأباً متاعاً لكم ولأنعامكم } [ عبس : 24 - 32 ] { ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجناتٍ ألفافاً } [ النبأ : 6-16 ] .
الثالثة : لما كان الله أحسن الأسماء عقبه بأكمل الصفات وهو { رب العالمين } إذ معناه أن وجود ما سواه فائض عن تربيته ، وإحسانه وجوده وامتنانه ، فالأول يدل على التمام والثاني على أنه فوق التمام .
الرابعة : رب العالمين ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك وهو الله الواحد الأحد الصمد ، وأنت تخدمه كأنّ لك أرباباً غيره فما إنصافك أيها الإنسان؟ { قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن } [ الأنبياء : 42 ] خلقت لعبادة الرب فلا تهدم حقيقتك بمعصية الرب ، الآدمي بنيان الرب ملعون من هدم بنيان الرب .
السادس : في فوائد قوله { الرحمن الرحيم } .
الأولى : الرحمن بما لا يتصور صدوره من العباد ، والرحيم بما يقدر عليه العباد . أنا الرحمن لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة ، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .
الثانية : ذهب بعضهم إلى ملك فقال : جئتك لمهم يسير . فقال : أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير . فكأن الله تعالى يقول : لو اقتصرت على الرحمن لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة ، فأنا الرحمن لتطلب مني الأمور العظيمة ، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك .
الثالثة : الولد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب . من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان ، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها ، أو يضرب لتعليم حرفة ، أو لتأدب بخصلة شريفة . فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة
{ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه ، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير .
الرابعة : أعطى مريم عليها السلام رحمة { ولنجعله آية للناس ورحمة منه } [ مريم : 21 ] فصارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار ، وأعطانا رحمة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار .
الخامسة : وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعملون ، وأنه يوم القيامة يقول : أمتي أمتي . فلما وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً أيضاً فكأنه يقول : الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي فإني أنا الرحمن الرحيم ، رحمتي غير متناهية ومعصيتهم متناهية والمتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] .
السادسة : حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كنت ضيفاً لبعض القوم ، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفاً فاتبعته تعجباً ، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين ، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه . وعن ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت ، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقرباً قوياً يعدو ، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر ، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح ، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو ، فتبعته فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة وعنده أفعى يقصده ، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضاً لدغتها وماتتا معاً . وفي أدعية العرب : يا رازق النعاب في عشه . وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفراً منه ، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه ، فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذباباً يغتذي به . وروي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه ، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال صلى الله عليه وسلم : أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم؟ فقالوا : بلى . فقال : فهل عق والدته؟ قالوا : نعم . فقال : هاتوا أمه . فأتي بعجوز عوراء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا عفوت عنه؟ فقالت : لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني . فقال صلى الله عليه وسلم : هاتوا بالحطب والنار فقالت : وما تصنع بالنار؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل .
فقالت : عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر « أشهد أن لا إله إلا الله » والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق ، فالرحمن الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمن الرحيم سبعين سنة؟ قال صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة » ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية .
السابع : في فوائد قوله { مالك يوم الدين } .
الأولى : من قضية العدالة الفرق بين المحسن والمسيء ، والمطبع والعاصي ، والموافق والمخالف ، ولا يظهر ذلك إلا في يوم الجزاء { إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى } [ طه : 15 ] { يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 6-8 ] روي أنه يجاء برجل يوم القيامة وينظر في أحوال نفسه فلا يرى لنفسه حسنة ألبتة ، فأتيه النداء يا فلان ادخل الجنة بعملك . فيقول : إلهي ماذا عملت؟ فيقول الله : ألست لما كنت نائماً تقلب من جنب إلى جنب ليلة كذا فقلت في خلال ذلك « الله » ، ثم غلبك النوم ف يالحال فنسيت؟ أما أنا فلا تأخذني سنة ولا نوم ، فما نسيت ذلك . ويجاء برجل وتوزن حسناته بسيئاته فتخف حسناته فتأتيه بطاقة فتثقل ميزانه فإذا فيها شهادة « أن لا إله إلا الله » فلا يثقل مع ذكر الله غيره . واعلم أن حقوق الله تعالى على المسامحة لأنه غني عن العالمين ، وأما حقوق العباد فهي أولى بالاحتراز عنها . روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتدرون ما المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع قال : إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار »
الثانية : من قرأ « مالك » احتج بوجوه : الأول أن فيه حرفاً زائداً فيكون ثوابه أكثر . الثاني : في القيامة ملوك ولا مالك إلا الله . الثالث : المالكية سبب لإطلاق التصرف والملكية ليست كذلك . الرابع : العبد أدون حالاً من الرعية فيكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية . الخامس : الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك .
السادس : الملك يجب عليه رعاية حال الرعية « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » ولا يجب على الرعية خدمة الملك ، أما المملوك فيجب عليه خدمة مالكه وأن لا يستقل في الأمر إلا بإذنه حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة ، ويصير مسافراً إذا نوى مولاه السفر ، ومقيماً إذا نوى الإقامة . حجة من قرأ « ملك » أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً ، والملك لا يكون إلا أعلاهم شأناً . وأيضاً { قل أعوذ برب الناس ملك الناس } [ الناس : 1 ، 2 ] لم يقرأ فيه غير « ملك » فتعين . وأيضاً الملك أقصر ومالك يلزم منه تطويل الأمل فإنه يمكن أن يدركه الموت قبل تمام التلفظ به . وأجيب بأن العزم يقوم مقام الفعل لو مات قبل الإتمام ، كما لو نوى بعد غروب الشمس صوم يوم يجب صومه بخلاف ما لو نوى في النهار عن الغد . ثم يتفرع على كل من القراءتين أحكام ، أما المتفرعة على الأول فقراءة « مالك » أرجى من قراءة « ملك » لأن أقصى ما يرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأساً برأس ، والمالك يطلب العبد منه الكسوة والطعام والتربية والإنعام « يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم . يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم » والملك يطمع فيك والمالك أنت تطمع فيه ، والملك لا يختار من العسكر إلا كل قوي سويّ ويترك من كان مريضاً عاجزاً ، والمالك إن مرض عبده عالجه ، وإن ضعف أعانه . الملك له هيبة وسياسة ، والمالك له رأفة ورحمة واحتياجنا إلى الرأفة والرحمة أشد من احتياجنا إلى الهيبة والسياسة . وأما المتفرعة على الثانية فإنه في الدنيا ملك الملوك { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران : 26 ] وفي الآخرة لا ملك إلا هو { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وملكه لا يشبه ملك المخلوقين لأنهم إذ بذلوا قلَّت خزائنهم ونفدت ذخائرهم ، وأنه سبحانه كلما كان أكثر عطاء كان أوسع ملكاً . فإن أعطاك عشرة أولاد زاد في ملكه عشرة أعبد . ومن لوازم ملكه كمال الرحمة فلهذا قرن بقوله « ملك يوم الدين » قوله « رب العالمين الرحمن الرحيم » ومثله { الملك يومئذ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] { قل أعوذ برب الناس ملك الناس } [ الناس : 1 ، 2 ] فمن اتصف بهذه الصفة من ملوك الدنيا صدق عليه أنه ظل الله في الأرض . الكفر سبب لخراب العالم { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا . أن دعوا للرحمن ولداً } [ مريم : 90-91 ] والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }
[ النحل : 97 ] فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم ، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه « ملك يوم الدين » أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة { وما ربك بظلام للعبيد } [ ق : 29 ] وبثبوت العدل أخرى { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47 ] فلا خلة للملك أعم نفعاً وأتم وقعاً من أن يكون عادلاً . ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلاً أو جائراً . يحكى أن أنوشروان خرج يوماً إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش ، فرأى بستاناً فيه رمان . فلما دخله قال لصبي فيه : أعطني رمانة ، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيراً ، فشربه وأعجبه ذلك ، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه . ثم قال لذلك الصبي : أعطني رمانة أخرى ، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً . فقال : أيها الصبي ، لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي : فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا ، فتاب أنوشروان في قلبه وأناب ، وقال للصبي : أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي : لم بدلت هذه الحالة؟ فقال : لعل الملك تاب عن ظلمه . فلما وجد أنوشروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية ، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى الله عليه وسلم « ولدت في زمن الملك العادل » .
الثالثة : كونه مالكاً وملكاً معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها ، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع . وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضاً ، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره ، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات ، فلا مالك ليوم الدين إلا الله . فإن قيل : لا يكون مالكاً إلا إذا كان المملوك موجوداً لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال « مالك يوم الدين » بالتنوين بدليل أنه لو قال : أنا قاتل زيد كان إقراراً ، ولو قال : أنا قاتل زيداً كان تهديداً . قلنا : لما كان قيام القيامة أمراً حقاً لا يجوز الإخلال به في الحكمة ، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال . ولو قيل : من مات فقد قامت قيامته زال السؤال .
الرابعة : قالت القدرية : إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم ، فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين . قلنا : خلق الجنة وخلق اهلاً لها ، وخلق النار وخلق أهلاً لها ، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك .
فخلق لكل صفة مظهراً ولا يسأل عما يفعل ، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل .
الخامسة : في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة : الله ، الرب ، الرحمن ، الرحيم ، المالك . كأنه يقول : خلقتك أولاً فأنا الله ، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب ، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن ، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم ، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف ، ومع ذلك عقبها بقوله « مالك يوم الدين » كيلا يغتروا بها . ونظيره { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [ غافر : 3 ] .
السادسة : الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملاً في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك ، وإما لكونه محسناً إليك ، وإما رجاء وطمعاً في المستقبل ، وإما خوفاً ورهبة ، فكأنه سبحانه يقول : إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله ، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين ، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم ، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين .
الثامن : في فوائد قوله « إياك نعبد » .
الأولى : لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحداً سواك والحاكم فيه الذوق السليم . واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر ، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى . وذلك أن للعبد أحوالاً ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل . أما الماضي فقد كان معدوماً فأوجده { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً } [ مريم : 9 ] { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] وكان جاهلاً فعلمه { أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } [ النحل : 78 ] ثم أسمعه وأبصره وأعقله { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } [ الملك : 23 ] فهو إله بهذه المعاني . وأما الحاضر فحاجاته كثيرة ، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة ، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه . وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية ، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه ، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو . وأيضاً ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالماً قادراً جواداً غنياً حكيماً إلى غير ذلك من الصفات الكمالية ، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين ، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه ، وأيضاً العبودية ذلة ومهانة ، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ . ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى ، فعبوديته أولى ، وأيضاً كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير ، والفقير مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه إفادة غيره .
فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [ الإسراء : 23 ] .
الثانية : تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يميناً وشمالاً بخلاف العكس . ( يحكى ) أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه ، فصرع الأستاذ مراراً فقيل له : فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه . وأيضاً ذكره تعالى أوّلاً مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه ، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك ، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه . وأيضاً { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق « إياك نعبد » فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية . وأيضاً إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس ، أما إذا غير هذا الترتيب وقال : « إياك نعبد » كان بعيداً عن احتمال الشرك . وأيضاً الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدماً في الذكر . وأيضاً المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة ، وعلى المنعم لا على النعمة ، ولهذا قيل لبني إسرائيل { اذكروا نعمتي } [ البقرة : 40 ] ولأمة محمد { اذكروني } [ البقرة : 152 ] فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة .
الثالثة : النون في قوله « نعبد » فيه وجوه من الحكمة منها : أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظاً ينبئ عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه { نحن نقص عليك أحسن القصص } [ يوسف : 2 ] كأنه قال : لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبداً ليّ جعلناك أمة { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] ومنها أنه لو قال : إياك أعبد كان إخباراً عن كونه عبداً فقط ، ولما قال : « إياك نعبد » صار معناه إني واحد من عبيدك ، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع . ومنها أن يكون تنبيهاً على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى الله عليه وسلم : « التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها » وههنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره ، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين .
ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال : لما أثنيت عليّ بقولك { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } ارتفعت منزلتك عندنا ، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل : { إياك نعبد وإياك نستعين } . ومنها أن العبد يقول : إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين ، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات ، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين . وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد ، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة .
الرابعة : من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه ، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد « من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار » وأيضاً التكاليف أمانة { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان } [ الأحزاب : 72 ] وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر . قال بعض الصحابة : أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا ، فلما خرج لم يجد الناقة فقال : إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الرواي : فزدنا تعجباً ، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه . وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس : « يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات » وأيضاً الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور ، وركون من الخلق إلى حضرة الحق ، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة . ( يحكى ) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر به . ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزاً كأزيز المرجل . ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى { فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن } [ يوسف : 31 ] فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات ، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أشرف منها وأدوم ، وهذه مرتية نازلة عند المحققين .
وإما أن يعبد الله تشرفاً بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه ، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية . وإما أن يعبد الله لكونه إلهاً ولكونه عبداً له ، والإلهية توجب العزة والهيبة ، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة ، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي : أصلي لله فإنه لو قال : أصلي لثواب الله أو هرباً من عقابه فسدت صلاته . ( يحكى ) أن عابداً في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة ، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال : إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد ، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود . فرجع الملك فقال الله : بم أجاب العابد؟ فقال : أنت أعلم يا رب ، إنه قال كذا وكذا . فقال الله تعالى : ارجع إليه وقل له : قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك . والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين . وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين . قال عز من قائل { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون . فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 97-99 ] ولأن العبودية أشرف المقامات . مدح الله تعالى نبيه في قوله { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال : { إني عبد الله } [ مريم : 30 ] وكان عليّ يقول : كفاني فخراً أن أكون لك عبداً وكفاني شرفاً أن تكون لي رباً . اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت ، فاجعلني عبداً كما أردت . ومنهم من قال : العبودية أشرف من الرسالة ، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق ، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق ، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات ، وبالرسالة يقبل على التصرفات ، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » { لن يستنكف المسيح أن يكون عبد الله ولا الملائكة المقربون } [ النساء : 172 ] .
التاسع : في فوائد قوله { وإياك نستعين } .
الأولى : لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك ، وإنما يحصل الرجحان بمرجح . ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم ، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى . وأيضاً كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب ، ولا يفوز به إلا بعضهم ، فليس ذلك إلا بإعانة الحق . وأيضاً قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته ، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله ، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله .
وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه ، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم . الثانية : لقائل أن يقول : الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده ، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول : شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف ، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن . وأيضاً إن قيل : الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب .
الثالثة : لا أريد بالإعانة غيرك إقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال : هل لك حاجة؟ فقال له : أما إليك فلا . قال : فاسأل الله . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي ، ويداه عن البطش ، ولسانه إلا عن القراءة والذكر ، فكما أن الله قال { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } [ الأنبياء : 69 ] فكذلك تقول له نار جهنم : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي .
الرابعة : لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته ، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك .
الخامسة : « إياك نعبد » تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله « وإياك نستعين » لإزالة ذلك .
السادسة : ههنا مقامان : معرفة الربوبية ومعرفة العبودية ، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله { أوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً ، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً ، وأحوال معادة تدل على أنه مالك يوم الدين ، وأما معرفة العبودية فمبدؤها « إياك نعبد » وكمالها « إياك نستعين » في جميع المطالب ، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله : « اهدنا » إلى آخره . وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه .
السابعة : في الالتفات الوارد في السورة وجوه : منها أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة ، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله : { مالك يوم الدين } . ثم الله تعالى كأنه يقول : حمدتني وأقررت بأني إله ، رب العالمين ، رحمن رحيم ، مالك يوم الدين ، فنعم العبد أنت يا عبد . رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل « إياك نعبد » . ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه رباً لا يخرج شيء من ملكوته منعماً على الخلق بأنواع النعم - جلائلها ودقائقها - مالكاً للأمر كله في العاقبة ، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام ، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل « إياك » يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به .
ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى ، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] { رب هب لي حكماً } [ الشعراء : 83 ] { رب زدني علماً } [ طه : 114 ] { ربي أرني } [ الأعراف : 143 ] { رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين } [ الأنبياء : 89 ] ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله ، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة .
الثامنة : اعلم أن المشركين طوائف ، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس ، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين ، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير ، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة ، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس ، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب . ومنهم من قال : مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية ، ومنهم من قال : الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم ، فيتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة . ومنهم من قال : للعالم إلهان ، أحدهما خير وهو الله ، والآخر شرير وهو إبليس . إذا عرفت ذلك فنقول : قد مر أن « الحمد لله » يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع « الحمد لله » « وإياك نعبد » يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله ، وأن الله أكبر من جميع المعبودين ، فيقوم مقام قوله « لا إله إلا الله والله أكبر » « وإياك نستعين » يدل على قوله « لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » .
العاشر في فوائد قوله { اهدنا الصراط المستقيم } .
الأولى : سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل . وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق ، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى . يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون . أيضاً إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان ، والحق هو الوسط والصواب .
فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً ، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين . ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان ، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة ، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود ، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود . وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء ، ومن توابع السخاء الكرم والإيثاء والعفو والمروءة والمسامحة ، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة ، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر ، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم . والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها ، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان ، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلقِ البدني ، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها . وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي غلى تحصيل سعادة الدارين . وأيضاً العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات ، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة ، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته ، وجوده ورحمته وحكمته . وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل فكأنه يقول : عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك . وأيضاً قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء ، وهو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله ، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل ، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل ، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس ، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر . وعن خباب قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه . وأيضاً كأن العبد يقول : الأحباب يدعونني إلى طريق ، والأعداء إلى طريق ثانٍ ، والشيطان إلى ثالث .
وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء ، والعقل ضعيف ، والعمر قصير ، والقضاء عسير ، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به . حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله ، فإذا أعرابي على ناقة له . فقال : يا شيخ إلى أين؟ فقال : إلى بيت الله . قال : كأنك مجنون ، لا أرى لك مركباً ولا زاداً والسفر طويل! فقال إبراهيم : إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها . قال : وما هي؟ قال : إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر ، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر ، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا ، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى . فقال الأعرابي : سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل . وقيل : الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء ، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين ، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام ، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال { فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] . وعن علي كرم الله وجهه : ثبتنا على الهداية كقوله { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] فكم من عالم يزل ومهتد يضل . وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل ، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم ، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده .
الثانية : إنما قبل « اهدنا » بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب ، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه : إذا قلت قبل القراءة « رضي الله عنك ، وعن جماعة المسلمين » فإياك وأن تنساني في قولك « وعن جماعة المسلمين » فإن ذلك أوقع عندي من قولك « رضي الله عنك » ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل ، وأما قولك « وعن المسلمين » فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة ، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي . ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى الله علبه وسلم قبل كل دعاء وبعده ، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب ألبتة لأنه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة . وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم : « ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها » . قالوا : يا رسول الله ، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال : « يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك » وأيضاً « الحمد لله » شامل لحمد جميع الحامدين ، و « إياك نعبد » لعبادة الجميع ، « وإياك نستعين » لاستعانة الكل ، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعاً في قوله : { صراط الذين أنعمت عليهم } والفرار من الطالحين جميعاً في قوله : { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
وإذاكان كذلك في الدنيا يرجى أن يكون كذلك في الآخرة { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحَسُنَ أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] .
الثالثة : الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين ، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم . وأيضاً المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضاً في الاعوجاج ، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص . وأيضاً ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم .
الحادي عشر في فوائد قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } .
الأولى : حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير ، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولاً على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر . ثم نقول : كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53 ] ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضاً لأنه الخالق لتلك النعمة ، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه . والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضاً من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار . وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى : { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] ثم عقب ذلك بقوله { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] .
الثانية : هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها : قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى . والجواب أن قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يدفع ذلك ، ومنها قوله { ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيراً ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة ، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها ، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك . على أن نفس الإملاء أيضاً تمتيع حالي { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار } [ البقرة : 126 ] وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن ، وإنما هو كمن ناول شخصاً حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضاً وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « نعم المال الصالح للرجل الصالح »
وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء } [ البقرة : 21 ، 22 ] وقال : { وكنتم أمواتاً فأحياكم } [ البقرة : 28 ] كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم . وقال : { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { ولا تجد أكثرهم شاكرين } [ الأعراف : 17 ] والشكر لا يكون إلا بعد النعمة .
الثالثة : ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله « أنعمت عليهم »؟ قلنا : يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية . ثم إنه يخرج بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين . وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع ، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات . وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] { وما أنت بمسمع من في القبور } [ فاطر : 22 ] وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه . وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب . والمؤمن لا يبقى مخلداً في النار ، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام ، فما الإنعام إلا بالإتمام . قيل : لو كان رعاية الأصلح على الله واجباً لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاماً . قلت : النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه ، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه .
الثاني عشر في فوائد قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } الأولى : من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت : المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود ، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى . وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد ، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك . وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال ، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } [ الأنعام : 71 ] فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم { يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] ولهذا قال عز من قائل { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا } [ الأحزاب : 69 ] والنصارى أفرطوا وقالوا { المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] { إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى »
وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود { وباءوا بغضب من الله } [ آل عمران : 112 ] وفي النصارى { وضلوا عن سواء السبيل } [ المائدة : 77 ] هذا شأن الفريقين . وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وخير الأمور أوسطها .
الثانية : الآية تدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالاً لقوله تعالى { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه .
الثالثة : ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت : الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلى الله عليه وسلم : « لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا » فقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } يدل على الرجاء ، وباقي الآية يدل على الخوف ، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه .
الثالث عشر : في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج :
المنهج الأول نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، ونسبة الأصل إلى الفرع ، والنور إلى الظلمة ، فكل شاهد . فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل ، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل ، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل { ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين } [ التكوير : 20 ، 21 ] والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات ، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر ، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر . ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة . وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة ، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرّق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية { وقالوا سمعنا وأطعنا } [ البقرة : 285 ] والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه { غفرانك ربنا } [ البقرة : 285 ] وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب { وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] فضد النسيان هو الذكر { واذكر ربك إذا نسيت } [ الكهف : 24 ] وهذا الذكر إنما يحصل بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } . وثانيها { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } [ البقرة : 286 ] ودفع الإصر والثقل يوجب { الحمد لله رب العالمين } . وثالثها : { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [ البقرة : 286 ] . ذلك إشارة إلى كمال رحمته « الرحمن الرحيم » ورابعها
{ واعف عنا } [ البقرة : 286 ] لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين { مالك يوم الدين } . وخامسها { واغفر لنا } [ البقرة : 286 ] لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك { إياك نعبد وإياك نستعين } . وسادسها { وارحمنا } [ البقرة : 286 ] لأنا طلبنا الهداية منك { اهدنا الصراط المستقيم } وسابعها { أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } . فهذه المراتب ذكرها محمد صلى الله عليه وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج ، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة ، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من المصدر إلى المظهر ، فلهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : « الصلاة معراج المؤمن » .
المنهج الثاني : المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة : الشهوة والغضب والهوى . الشهوة بهيمية ، والغضب سبعية ، والهوى شيطانية أرضية ، ولهذا قال : فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها ، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه . قال تعالى { وينهي عن الفحشاء } [ النحل : 9 ] أي الشهوة ، والمنكر الغضب ، والبغي الهوى ، فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه ، وبالغضب ظالماً لغيره ، وبالهوى لربه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « الظلم ثلاثة : فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه ، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله ، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً ، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه » ونتيجة الشهوة الحرص والبخل ، ونتيجة الغضب العجب والكبر ، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة . ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة ، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة ، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى : { ومن شر حاسد إذا حسد } [ الفلق : 5 ] كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله { يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس } [ الناس : 5 ، 6 ] روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون : من هذا؟ قال : إبليس ولو كنت إلهاً ما جهلت . فلما دخل قال فرعون : أتعرف في الأرض شراً مني ومنك؟ قال : نعم ، الحاسد ، وبالحسد وقعت فيما وقعت . ثم نقول : الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية ، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة ، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا هواك . ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن
{ الملك يومئذ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية . وأما الفاتحة فإذا قال « الحمد لله » فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته ، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد ، ومن عرف أنه { مالك يوم الدين } بعد أن عرف إنه { الرحمن الرحيم } زال غضبه ، ومن قال : { إياك نعبد وإياك نستعين } زال كبره بالأول وعجبه بالثاني ، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } اندفع عنه شيطان الهوى ، وإذا قال { صراط الذين أنعمت عليهم } زال عنه كفره ، وإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } اندفعت بدعته ، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد ، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة ، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة . وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها ، كأنه قال : إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس ، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس ، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس .
المنهج الثالث : في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد « الحمد لله » إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم . « رب العالمين » يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه ، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيراً { قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } [ البقرة : 285 ] { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] { ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] { اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق } [ العلق : 1 ، 2 ] وهذه الحالة كما أنها في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم ، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع ، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان . فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت . { مالك يوم الدين } يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم ، وههنا تمت معرفة الربوبية . ثم إن قوله « إياك نعبد » إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان : الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان : أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله « إياك نعبد » والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله « وإياك نستعين » .
وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره وفي قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية « هم القوم لا يشقى بهم جليسهم » { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] وفي قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب .
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
والجمر يوضع في الرماد فيخمد ... المنهج الرابع : قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد { بسم الله الرحمن الرحيم } يقول الله : ذكرني عبدي . وإذا قال : { الحمد لله رب العالمين } يقول الله : حمدني عبدي وإذا قال : « الرحمن الرحيم » يقول الله : عظمني عبدي . وإذا قال : { مالك يوم الدين } يقول الله : مجدني عبدي - وفي رواية فوض إلي عبدي - وإذا قال : « إياك نعبد » يقول الله : عبدني عبدي وإذا قال : « وإياك نستعين » يقول الله : توكّل عليّ عبدي - وفي رواية وإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم } يقول الله : هذا لعبدي ما سأل فقوله « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي » إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية ، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله « إذا قال العبد : بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي » مناسب لقوله تعالى { فاذكروني أذكركم } « أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » والذكر مقام عالٍ شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } [ الأحزاب : 41 ] { واذكر ربك في نفسك } [ الأعراف : 205 ] { تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } [ آل عمران : 191 ] ولهذا وقع الإبتداء به . وقوله « ذكرني عبدي » دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } وهذا يدل على أن الله اسم علم . وقوله « إذا قال : الله رب العالمين يقول الله : حمدني عبدي » يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أو كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة :
{ ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وآخر كلام في الجنة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن « تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله » وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر ، فقوله « حمدني عبدي » شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين ، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه . قوله « وإذا قال : الرحمن الرحيم » « يقول الله : عظمني عبدي » يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد ، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده . ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله . وقوله « وإذا قال : مالك يوم الدين يقول الله : مجدني عبدي » أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معاداً يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف .
أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوه بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا
وقوله « وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي » معناه أن « إياك نعبد » يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض ، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله « وإياك نستعين » وقوله « وإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم يقول الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل » تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها ، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر . فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة { سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] وقال إبراهيم عليه السلام { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } [ الأنعام : 77 ] وقال موسى { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } [ طه : 25 ، 26 ] .
المنهج الخامس : آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضاً سبعة : القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة . فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح ، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد ، فقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } بإزاء القيام ، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائماً مرتفعاً .
وأيضاً التسمية لبداية الأمور « كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر » والقيام أيضاً أول الأعمال . وقوله { الحمد لله رب العالمين } بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة ، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد ، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق ، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود ، وأيضاً ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله « الرحمن الرحيم » مناسب للانتصاب ، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « إذا قال العبد : سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة » وقوله { مالك يوم الدين } مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع . وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و « إياك نستعين » استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية ، وقوله { اهدنا الصراط المستقيم } سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع . وقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } إلخ . مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ « التحيات لله » كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن .
المنهج السادس : آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسومة سبعة كما تقدم ، ومراتب خلق الإنسان سبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 12-14 ] فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة ، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور ، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن « من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار » .
المنهج السابع : إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان : من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت . هذا في عالم الحس ، وأما في عالم الأرواح ، فمن الشهادة إلى الغيب ، ثم من الغيب إلى غيب الغيب ، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين ، فتخطاهما محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين . وقوله « أو أدنى » إشارة إلى فنائه في نفسه . والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات ، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية ، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش ، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته
{ لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 19 ، 20 ] وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه ، والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة : المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار . فليكن المصلي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً لأنه بالوادي المقدس طوى . وأيضاً عنده ملك وشيطان ، ودين ودنيا ، وعقل وهوى ، وخير وشر ، وصدق وكذب ، وحق وباطل ، وحلم وطيش ، وقناعة وحرص ، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية ، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة ، اختار الصديق صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة ، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } [ التوبة : 119 ] ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل « الله أكبر » أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه ، ثم ليقل « سبحانك اللهم وبحمدك » وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال ، ثم ليقل « تبارك اسمك » إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأزل في القدم وحقيقة الأبد في البقاء ، فيتجلى له نور الأزل والأبد ، ثم ليقل « وتعالى جدك » إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور ، ثم ليقل « ولا إله غيرك » إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو ، وههنا بكل اللسان وتدهش الألباب ، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل « وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض » فقولك « سبحانك اللهم وبحمدك » معراج الملائكة المقربين حيث قالوا { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } [ البقرة : 30 ] وهو أيضاً معراج محمد صلى الله عليه وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله « سبحانك اللهم وبحمدك » وقوله « وجهت وجهي » معراج الخليل صلى الله عليه وسلم ، وقولك « إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي » معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم . فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل « أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » لتدفع العجب عن نفسك ، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة ، وبقولك { بسم الله الرحمن الرحيم } يفتح باب الذكر ، وبقولك { الحمد لله رب العالمين } يفتح باب الشكر ، وبقولك « الرحمن الرحيم » يفتح باب الرجاء ، وبقولك { مالك يوم الدين } يفتح باب الخوف ، وبقولك { إياك نعبد وإياك نستعين } يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك { اهدنا الصراط المستقيم } يفتح باب الدعاء والتضرع
{ ادعوني اسبتجب لكم } [ غافر : 60 ] وبقولك : { صراط الذين أنعمت عليهم } الخ . يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم ، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية ، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة ، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف { إذا قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض } [ الكهف : 14 ] بل قيام أهل القيامة { يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 6 ] ثم اقرأ « سبحانك اللهم وبحمدك » ثم « وجهت وجهي » ثم « الفاتحة » وبعدها « ما تيسر لك من القرآن » واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها ، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشية عرضتها على نار خوف الجلال فلانت ، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى ، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك « فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى » فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل : « سبحان ربي الأعلى » فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة . . . ركوع واحد وسجدتان ، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات ، وبالسجود الأول من عقبة العضب الذي هو رئيس المؤذيات ، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات . فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات ، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات ، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات ، فقل عند ذلك « التحيات المباركات » باللسان ، و « الصلوات » بالأركان و « الطيبات » بالجنان وقوة الإيمان بالله ، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل « السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته » فعند ذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم « السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » فكأنه قيل لك : بم نلت هذه الكرامات؟ فقل : بقولي : « أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً رسول الله » فقيل : إن محمداً الذي هداك أي شيء هديتك له صلى الله عليه وسلم ؟ فقل « اللهم صل على محمد وآل محمد » ، فقيل لك : إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال
{ ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] فما جزاؤك له صلى الله عليه وسلم ؟ فقل « كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين » فيقال لك : هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله؟ فقل : بل من الحميد المجيد « إنك حميد مجيد » . ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة « إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه » فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى : إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين ، فقل عن اليمين وعن الشمال « السلام عليكم ورحمة الله وبركاته » فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار .
المنهج الثامن : أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان ، فالمكان فضاء لا نهاية له ، وخلاء لا غاية له ، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد ، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل . فالأول والآخر صفة الزمان ، والظاهر والباطن صفة المكان ، وكمال هذه الأربعة « الرحمن الرحيم » فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً ، ووسع الزمان أولاً وآخراً ، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان ، فإنه كان ولا مكان ولا زمان ، فعقد المكان بالكرسي { وسع كرسيه السموات والأرض } [ البقرة : 255 ] وعقد الزمان بالعرش { وكان عرشه على الماء } [ هود : 7 ] لأن جري الزمان يشبه جري الماء ، فالعلو صفة الكرسي { وسع كرسيه } [ البقرة : 255 ] والعظمة صفة العرش { رب العرش العظيم } [ التوبة : 129 ] وكمال العلو والعظمة لله { ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري » ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام » وفي التنزيل { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27 ] فالمصلي يبتغي وجه الله ، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس ، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب { توبوا إلى الله توبة نصوحاً } [ التحريم : 8 ] ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد ، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة ، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص ، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين ، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين ، ثم قم قائماً
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً } [ الروم : 30 ] واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل « الله أكبر » أي من الكل كما مر ، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت « الله أكبر » فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل « سبحانك اللهم وبحمدك » ثم قل « وجهت وجهي » ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة ، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلىلحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين ، فإذا قلت { بسم الله الرحمن الرحيم } أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون ، وإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وإذا قلت { الرحمن الرحيم } أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال ، وإذا قلت { مالك يوم الدين } أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال ، وإذا قلت « إياك نعبد » أبصرت به عالم الشريعة ، وإذا قلت « وإياك نستعين » أبصرت به عالم الطريقة ، وإذا قلت { اهدنا الصراط المستقيم } أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت { صراط الذين أنعمت عليهم } أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات ، وإذا قلت { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل « الله أكبر » ثم انزل من صفة الكبرياء غلى العظمة وقل « سبحان ربي العظيم » ثم انتصب ثانياً وادع لمن وقف موفقك وحمد حمدك وقل « سمع الله لمن حمده » فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم . ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة ، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل « سبحان ربي الأعلى » لأن السجود أكثر تواضعاً . روي أن لله ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل . فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة ، ثم ثلاثين ألف سنة ، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش .
فقال الملك عند ذلك : سبحان ربي الأعلى . أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد ، والقعدة بينهما هي الدنيا ، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له ، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانياً . وأيضاً الأولى فناء الدنيا في الآخرة ، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى ، وأيضاً الأولى فناء الكل في أنفسها ، والثانية بقاؤها ببقائه ، وأيضاً الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته ، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] وأيضاً الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته ، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه . وأيضاً صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد ، وأيضاً ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة ، وأيضاً ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة غلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية ، وأيضاً الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات . ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة ، وفي السجود بمرتبتين ، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا .
المنهج التاسع في اللطائف : عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال : ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى : الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته . فقال أهل التحقيق : من ههنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون ، ثم قال له : تكلم فقال : الحمد لله فقال الرب : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك . ونقل عن آدم عليه السلام لما عطس قال : الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد ، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد ، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه . وأيضاً أول كلام الله « الحمد لله » وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأول والآخر مناسبة ، فجعل « الحمد لله » أول آية من كتاب محمد رسول الله ، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان : محمد وأحمد . وعند هذا قال صلى الله عليه وسلم « أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد » فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم ، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] ورسول الله محمدهم .
أخرى : الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة ، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال « سبقت رحمتي غضبي » .
أخرى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين .
أخرى : إن من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات ، وكلها تدل على الرحمة ، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } [ الحجر : 49 ] فقوله « نبئ » إشارة إلى محمد وهو مذكور قل العباد ، والياء في قوله « عبادي » ضمير الله سبحانه . وكذا في « أني » و « أنا » و « الغفور » و « الرحيم » صفتان لله ، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة ، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة ، ورحمة الرسول كثيرة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ورحمة الله تعالى غير متناهية { ورحمتي وسعت كل شيء } [ الأعراف : 156 ] فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟! .
أخرى : في الفاتحة عشرة أشياء ، خمسة من صفات الربوبية : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، وخمسة من صفات العبودية : العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله « أنعمت عليهم » وكأنه قيل « إياك نعبد » لأنك أنت الله « وإياك نستعين » يا رب اهدنا يا رحمن ، وارزقنا الاستقامة يا رحيم ، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك .
أخرى : الإنسان مركب من خمسة أشياء : بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي . فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان { رب أعوذ بك من همزات الشياطين } [ المؤمنون : 97 ] وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف { الملك يومئذ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] فترك الخصومة والعدوان . وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم { أحل لكم الطيبات } [ المائدة : 4 ] فترك العصيان ، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] فدان . فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء ، فلطاعة الأبدان قال : « إياك نعبد » ولطاعة النفس البهيمية قال : « وإياك نستعين » على ترك اللذات وارتكاب المنكرات ، ولطاعة النفس السبعية قال : « اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا » ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال : لآ { اهدنا الصراط المستقيم } ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال : { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } .
أخرى : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله ، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية ، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة ، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء ، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم ( يحكى ) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال : أخاف أن أشبع فأنسى الجياع .
وأيضاً الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات ، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها . ووجوب الحج من تجلي اسم « مالك يوم الدين » لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة . وأيضاً الحاج يكون عارياً حافياً حاسراً وهو يشبه أحوال القيامة .
أخرى : الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] وأدب السمع { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } [ الزمر : 18 ] وأدب الذوق { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } [ المؤمنون : 51 ] وأدب الشم { وإني لأجد ريح يوسف } [ يوسف : 94 ] وأدب المس { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [ المؤمنون : 6 ] فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة : الله الرب الرحمن الرحيم المالك ، على تأديب هذه الحواس الخمس .
أخرى : الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار ، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته ، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير ، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة ، فهذه أربعة ، وههنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة ، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئاً سوى الله ، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة ، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا ، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة ، وإن طالعت نور « مالك يوم الدين » طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها .
أخرى : للتجلي ثلاث مراتب : تجلي الذات { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } [ الأنعام : 91 ] وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله ، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب { الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً } [ آل عمران : 191 ] ويدل عليه اسم الرحمن . وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد { الذي جعل لكم الأرض مهداً وسلك لكم فيها سبلاً وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهي }
[ طه : 53-54 ] ويدل علي لفظ الرحيم { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً } [ غافر : 7 ] .
أخرى : في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله « بسم الله » و « الحمد لله » بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور ، « بسم الله » ذكر « والحمد لله » شكر بسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا ، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة . كلمتان أضيف إليهما اسمان لله « رب العالمين » « مالك يوم الدين » فالربوبية لبداية حالهم { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] والملك لنهاية حالهم { لمن الملك لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم « الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » .
المنهج العاشر : للخلق خمس أحوال : أولها : الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله . وثانيها : التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب . وثالثها : التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن . ورابعها : في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي . وخامسها : نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم « مالك يوم الدين » ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال : « إياك نعبد » لأنك أنت الله الخالق « وإياك نستعين » لأنك أنت الرب الرازق « إياك نعبد » لأنك الرحمن « وإياك نستعين » لأنك الرحيم « إياك نعبد » لأنك الملك « وإياك نستعين » لأنك المالك ، « إياك نعبد » لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة ، « وإياك نستعين » لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل . ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة ، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق { اهدنا الصراط المستقيم } . ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل { صراط الذين أنعمت عليهم } فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان : نارية وهي الدنيا بما فيها ، ونورية وهي ما سواها . اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين .
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
القراآت : « لا ريب » بالمد خلف والعجلي عن حمزة وخلف لنفسه ، وكذلك قوله تعالى { لا خير } و { لا جرم } وذلك لاجتماع الفتحة مع الألف أو لتأكيد معنى النفي للجنس « فيهى » ابن كثير ، وكذلك يشبع كل هاء كناية في جميع القرآن . « هدى للمتقين » مدغماً من غير غنة : حمزة وعلي وخلف ويزيد وورش من طريق النجاري ، والهاشمي عن ابن كثير . وكذلك يدغمون النون الساكنة والتنوين في الراء حيث وقعت . أبو عمرو بالوجهين : إدغام الغنة وإظهارها ، والباقون بإظهار الغنة . ولا خلاف بين القراء في إدغام أصل النون والتنوين في اللام والواو والراء والياء والميم ، وإنما الخلاف بينهم في إظهار الغنة وإسقاطها وهي صوت الخيشوم « يؤمنون » غير مهموز : أبو عمرو ويزيد وورش والأعشى وحمزة في الوقف ، وكذلك ما أشبههما من الأفعال إلا في أحرف يسيرة تذكر في مواضعها . الباقون : بالهمز . ( باب في المد ) ( بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) بالمد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان ، فلا يفرقون بين مدّ الكلمة والكلمتين . وكذلك روى ورش عن نافع . والباقون يفرقون فيمدون الكلمة ولا يمدون بين الكلمتين . فأطول الناس مداً ورش عن نافع ، وحمزة وخلف في اختياره والأعشى ، ومدهم بمنزلة أربع ألفات . وأوسطهم مداً علي وابن ذكوان وعاصم غير الأعشى ، وأقصرهم مداً ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير ورش وأبو عمرو وسهل ويعقوب وهشام . وأصل المد ألف ساكنة على قدر فتحة فيك فتحاً تاماً ، وبالآخرة بترك الهمزة ونقلها إلى الساكن الذي قبلها حيث كان ورش ، وكذلك حمزة في الوقف فإن مذهبه أن يقف على كل كلمة مهموزة بغير همزة ( باب السكتة ) روي عن حمزة وحماد والشموني أنهم يسكتون على كل حرف ساكن بعده همزة سكتة لطيفة نحو : الأرض ، والأنهار ، وقالوا : آمنا ، وأشباه ذلك . والسبب فيه التمكين والمبالغة في تحقيقها ، لأن الهمزة بعد السكتة كالمبتدأ بها . والاختيار في الكلمة الواحدة أن لا تسكت على ساكن غير لام التعريف احترازاً عن قطع الكلمة .
الوقوف : « ألّم » ( ج ) للاختلاف « لا ريب » ج على حذف خبر « لا تقديره لا ريب فيه ، ثم يستأنف » فيه هدى « ومن وصل جعل فيه خبر » لا « أو وصف ريب وحذف خبر » لا « تقديره » لا ريب فيه عند المؤمنين « . والوقف على التقديرين على » فيه « و » هدى « خبر مبتدأ محذوف أي هو هدى ، ومن جعل » هدى « حالاً للكتاب بإعمال معنى الإشارة في » ذلك على تقدير : أشير إلى الكتاب هادياً لم يقف قبل « هدى للمتقين » ( لا ) لأن الذين صفتهم « ينفقون » لا للعطف ، ليدخل عبد الله بن سلام وأصحابه في المتقين ، فإن القرآن لهم هدى ، وليدخل الصحابة المؤمنون بالغيب في ثناء الهدى ووعد الفلاح .
ولو ابتدأ « والذين » كان « أولئك على هدى » خبرهم مختصاً بهم . واختص هدى القرآن واسم التقوى بالذين يؤمنون بالغيب . « من قبلك » ج لاختلاف النظم بتقديم المفعول . « يوقنون » ( ط ) لأن أولئك مبتدأ وليس بخبر عما قبله ، وكذلك على كل آية وقف بها إلا ما أعلم بعلامة ( لا ) المفلحون .
التفسير وفيه أبحاث : البحث الأول في « ألم » اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها في قولهم ( ألف ، با ، تا ، ثا ) أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم ، لأن الضاد مثلاً لفظ مفرد دال بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه غير مقترن بأحد الأزمنة ، وذلك المعنى هو الحرف الأول من ضرب مثلاً ، فيكون لفظ الضاد اسماً ، ولهذا قد يتصرف في بعضها بالإمالة نحو ( با ، تا ) وبالتفخيم نحو ( با ، تا ) وبالتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد إليه والإضافة . وقولهم ( با ، تا ، ثا ) متهجاة ومقصورة نحو ( لا ) ثم قولهم كتبت باء بالمد نحو كتبت ( لا ) لا يدل على أنها حروف مثل ( لا ) : فإنهم إنما قالوا كذلك في التهجي لكثرة الاستعمال واستدعائها التخفيف ، والذي رواه ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف بل ألف حرف ولام حرف وميم حرف » وأيضاً ما وقع في عبارات المتقدمين أنها حروف التهجي خليق بأن يصرف إلى التسامح والتجوز لأنه اسم للحرف وهما متلازمان ، أو لأن الحرف قد يطلق على الكلمة تسمية للجنس باسم النوع . ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه : كيف تنطقون بالباء التي في ضرب ، والكاف التي في ذلك؟ فقالوا : نقول باء ، كاف . فقال : إنما جئتم بالاسم لا الحرف . وقال : أقول : ب ، ك . ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة ، وهي أنهم جعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها ، لأنه لا يكون إلا ساكناً . ومما يضاهيها في إبداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحيعلة والتهليل ونحوها . وحكم هذه الأسماء سكون الإعجاز ما لم تلها العوامل فيقال : ألف ، لام ، ميم موقوفاً عليها لفقد مقتضى الإعراب نحو . واحد ، اثنان ، ثلاثة ، دار ، ثوب ، جارية . فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب نحو : هذه ألف ، وكتبت ألفاً ، ونظرت إلى ألف . والدليل على أن سكونها وقف وليس ببناء أنها لو بنيت لحذي بها حذر « كيف » و « أين » و « هؤلاء » ولم يقل صاد ، قاف ، نون .
مجموعاً فيها بين الساكنين .
وللناس في « الم » وما يجري مجراه من فواتح السور قولان : أحدهما أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله به ، والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن المحاب ، فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب :
بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه
عن أبي بكر ، في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور . وعن علي كرم الله وجهه : إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي ، وقال بعض العارفين : العلم كبحر أجري منه واد ، ثم أجري من الوادي نهر ، ثم أجري من النهر جدول ، ثم أجري من الجدول ساقية . فالوادي لا يحتمل البحر ، والنهر لا يحتمل الوادي ، ولهذا قال عز من قائل : { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } [ الرعد : 17 ] فبحور العلم عند الله تعالى فأعطى الرسل منها أودية ، ثم أعطى الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء ، ثم أعطى العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم ، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم ، وهذا مأخوذ مما ورد في الخبر « للعلماء سر وللخلفاء سر وللأنبياء سر وللملائكة سر ولله من بعد ذلك كله سر . فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم ، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم ، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم ، ولو اطلع الأنبياء على سر الملائكة لاتهموهم ، ولو اطلع الملائكة على سر الله لطاحوا حائرين وبادوا بائدين » والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش . وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال : سر الله فلا تطلبوه . وعن ابن عباس أنه قال : عجزت العلماء عن إدراكها . وقيل : هو من المتشابه . وزيف هذا القول بنحو قوله تعالى { أفلا يتدبرون القرآن } [ النساء : 82 ] { تبياناً لكل شيء } [ النحل : 89 ] { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وإنما يمكن التدبر ويكون تبياناً وهدى إذا كان مفهوماً ، وبقول صلى الله عليه وسلم : « إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي » فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وأيضاً لا يخاطب المكلف بما لا يفهم كما لا يخاطب العربي بالعجمي ، ولا يجوز التحدي بما لا يكون معلوماً ، وعورض بقوله تعالى { وما يعلم تأويله إلا الله } [ آل عمران : 7 ] والوقف هنا لأن الراسخين لو كانوا عالمين بتأويله كان الإيمان به كالإيمان بالمحكم ، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح ، ولا يكون في قوله { كل من عند ربنا } [ آل عمران : 7 ] فائدة على ما لا يخفى ، وبقوله صلى الله عليه وسلم « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديم » وقد روينا عن أكابر الصحابة ما روينا . وأيضاً الأفعال التي كلفنا بها منها ما يظهر وجه الحكمة فيه كالصلاة فإن فيها تواضعاً للمعبود والصوم ففيه كسر الشهوة والزكاة ففيها سد خلة المساكين ، ومنها ما لا يظهر فيه الحكمة ككثير من أفعال الحج ، ويحسن من الله تعالى الأمر بالنوعين لظهور الامتثال بهما ، بل كمال الانقياد في النوع الثاني أظهر وأكثر لأنه تعبد محض .
فلم لا يجوز أن يكون في الأقوال أيضاً مثل ذلك ، مع أن فيه فائدة أخرى هي اشتغال السر بذكر الله والتفكير في كلامه؟
القول الثاني : إن المراد من هذه الفواتح معلوم ، ثم اختلفوا على وجوه : الأول : أنها أسماء وهو قول أكثر المتكلمين واختاره الخليل وسيبويه ، كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي ، وكقولهم للنحاس صاد ، وللسحاب عين ، وللجبل قاف ، وللحوت نون ، وسعود تمام الكلام في هذا القول . الثاني : أنها أسماء الله تعالى . روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول : يا كَهيعَصَ ، يا حمَ عَسَقَ ، ويقرب منه ما روي عن سعيد بن جبير أنها أبعاض أسماء الله تعالى ، فإن « الر ، حم ، ن » مجموعها اسم « الرحمن » لكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في الجميع . الثالث : أنها أسماء القرآن وهو قول الكلبي والسدي وقتادة . الرابع : كل واحد من الحروف دال على اسم من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته ، فالألف إشارة إلى أنه أحد أول آخر أزلي أبدي ، واللام إشارة إلى أنه لطيف ، والميم إلى أنه مجيد ملك منان ، وفي « كَهيعَصَ » الكاف كاف لعباده ، والهاء هاد ، والياء من الحكيم والعين عالم ، والصاد صادق . أو الكاف محمول على الكبير والكريم . والياء على أنه مجير ، والعين على العزيز والعدل ، ويروى هذا عن ابن عباس . وعنه أيضاً في « ألم » أنا الله أعلم ، وفي « المص » أنا الله أعلم وأفصل ، وفي « المر » أنا الله أرى . الخامس : أنها صفات الأفعال . الألف آلاؤه ، واللام لطفه ، والميم مجده ، قاله محمد بن كعب القرظي . السادس : الألف من الله ، واللام من جبرائيل ، والميم من محمد صلى الله عليه وسلم . أي أنزل الله الكتاب بواسطة جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم . السابع : الألف أنا ، واللام لي ، والميم مني قاله بعض الصوفية . الثامن : أن ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد ليكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن ، أي إن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ، فلولا أنه كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الإتيان بمثل الكوثر قاله المبرد وجم غفير . والتاسع : كأنه تعالى يقول اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك ، وهذا على طريقة تعليم الصبيان قاله عبد العزيز بن يحيى . العاشر : إن الكفار لما قالوا { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه }
[ فصلت : 26 ] أنزل الله تعالى هذه الأحرف رغبة في إصغائهم ليهجم عليهم القرآن من حيث لا يشعرون قاله أبو روق وقطرب . الحادي عشر : قول أبي العالية إنه حساب على ما روى ابن عباس أنه مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو سورة البقرة « الم ذلك الكتاب » ثم أتى أخوة حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن الم وقالوا : ننشدك الله الذي لا إله إلا هو ، أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال صلى الله عليه وسلم : نعم ، كذلك نزلت فقال حيي : إن كنت صادقاً إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين ، ثم قال : كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى مدته إحدى وسبعون سنة؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال حيي : فهل غير ذلك؟ فقال : نعم { المص } فقال حيي : مائة وإحدى وستون فهل غير هذه؟ فقال : نعم { الر } قال حيي : نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة فهل غير هذا؟ قال : نعم { المر } قال حيي : ندري بأي أقوالك نأخذ! فقال أبو ياسر : أما أنا فأشهد أن أنبياءنا قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون ، فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً فيما يقوله إني لأراه يستجمع له هذا كله ، فقام اليهود وقالوا : اشتبه علينا أمرك فأنزل الله تعالى { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] . الثاني عشر : تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر . الثالث عشر : قول الأخفش إن الله تعالى أقسم بهذه الجروف المعجمة لشرفها من حيث إنها أصول اللغات ، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ، واقتصر على البعض والمراد الكل كما تقول : قرأت الحمد وتريد السورة كلها ، أقسم الله بها أن هذا الكتاب هو المثبت في اللوح المحفوظ . الرابع عشر : أن النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام ، الأميون وأهل الخط ، والكتاب بخلاف النطق بأسامي الحروف فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ ، فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بها من غير تعلم خط وقراءة كان ذلك دليلاً على أنه استفاد ذلك من قبل الوحي . الخامس عشر : قال القاضي الماوردي : معناه ألم بكم ذلك الكتاب أي نزل ، وهذا لا يتأتى في كل فاتحة . السادس عشر : الألف إشارة إلى ما لا بد منه من الاستقامة على الشريعة في أول الأمر { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 30 ] واللام إشارة إلى الحاصل عند المجاهدات وهو رعاية الطريقة { والذين جاهدوا فينا } [ العنكبوت : 69 ] والميم إشارة إلى صيرورة العبد في مقام المحبة كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله بالكلية وهو الحقيقة
{ قل الله ثم ذرهم } [ الأنعام : 91 ] . السابع عشر : الألف من أقصى الحلق ، واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج ، والميم من الشفة وهو آخر المخارج ، أي أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله . الثامن عشر : سمعت بعض الشيعة يقول : هذه الفواتح إذا حذف منها المكررات يبقى ما يمكن أن تركب منه على صراط حق نمسكه ، وهذا غريب مع أنه متكلف فلهذا أوردته . واعلم أن الباقي من الفواتح بعد حذف المكرر أربعة عشر ، نصف عدد حروف المعجم بعد الكسر . وقد أورد الله الفواتح في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الباقية تشتمل على أصناف أجناس الحروف . من المهموسة نصفها ، الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديد نصفها ا ك ط ق ، ومن الرخوة نصفها لمر صعهسحين ، ومن المطبقة نصفها ص ط ، ومن المنفتحة نصفها الر كهوس ج ق ي ن ، ومن المستعلية نصفها ق ص ط . ومن المنخفضة نصفها الم ر ك ه ي ع س ح ن ، ومن حروف القلقة نصفها ق ط . وأكثر ألفاظ القرآن من هذه الحروف ، وهذا دليل على أن الله تعالى عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم تبكيتاً لهم وإظهاراً لعجزهم كما مر في الوجه الثامن ، ويؤيد ذلك أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين والله أعلم . التاسع عشر : قيل : معناه ألست بربكم . الألف واللام من أوله والميم من آخره أي أخذت منكم كتاب العهد في يوم الميثاق . والمختار من هذه الأقوال عند الأكثرين القول بأنها أسماء السور ، ثم إنه عورض بوجوه : الأول : أنا نجد سوراً كثيرة اتفقت في التسمية بالم وحم والمقصود من العلم رفع الاشتباه . الثاني : لو كانت أسماء لاشتهرت وتواترت . الثالث : العرب لم يتجاوزوا بما سموا به مجموع اسمين نحو : معد يكرب وبعلبك ، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة ، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم . الرابع : لو كانت أسماء لاشتهرت السور بها ، لكنها اشتهرت بغيرها نحو سورة البقرة وآل عمران . الخامس : هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة ، واسم الشيء متأخر عن الشيء ، فلزم أن يكون متقدماً متأخراً معاً وهو محال . وليس هذا لتسميتهم صاد للحرف الأول منه ، فإن هذا كتسمية المفرد بالمؤلف فلا يلزم إلا تأخر المركب عن المفرد بوجهين ، وهذا تسمية المؤلف بالمفرد ويلزم المحال المذكور . وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد ، مع أنه لا يبعد أن تجعل مشتركاً حتى يتميز كل واحد من الآخر بعلامة أخرى لحكمة خفية . و عن الثاني بأن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام التي تتوفر الدواعي على نقلها .
وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب ، ولكن إذا جعلت اسماً واحداً فأما منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية نحو برق نحره ، وكما لو سمي ببيت شعر أو بطائفة من أسماء حروف المعجم . وعن الرابع أنه لا يبعد أن يصير اللقب أشهر من الاسم . وعن الخامس أن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل ، وفي لسان الصوفية أن هيئة الصلاة ثلاث : القيام والركوع والسجود . فالألف إشارة إلى القيام ، واللام إلى الركوع ، والميم إلى السجود أي من قرأ فاتحة الكتاب في الصلاة التي هي معراج المؤمن شرفه الله بالهداية في قوله { هدى للمتقين } وعلى هذا فيكون ذلك الكتاب إشارة إلى الفاتحة لأنها أم الكتاب . ثم إن هذه الأسماء ضربان : أحدهما ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو { كَهيعَصَ } { المر } وثانيهما ما يتأتى فيه الإعراب لكونه اسماً فرداً كصاد وقاف ونون ، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحمَ وطسَ ويسَ فإنها موازنة لقابيل وهابيل ، وكقولك طسم إذا فتح نونها صار كدرابجرد . فالنوع الأول محكي ليس إلا ، والثاني فيه أمران الإعراب والحكاية ، فإذا أعرب منع الصرف للعملية والتأنيث قال الشاعر :
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم؟
والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته نحو قولك « بدأت بالحمد لله » قال ذو الرمة :
سمعت الناس ينتجعون غيثاً ... فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
وأما من قرأ صاد وقاف ونون مفتوحات فبفعل مضمر نحو « اذكر » أو حركت لالتقاء الساكنين . واستكره جعلها مقسماً بها على طريق قولهم « نعم الله لأفعلن » على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم ، لأن القرآن والقلم بعدها محلوف بهما . واستكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم عليه واحد ولهذا قال الخليل : الواو الثانية في قوله عز من قائل { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى } [ الليل : 1 ، 2 ] واو العطف لا القسم نحو « وحياتي ثم حياتك لأفعلن » ولو كان انقضى قسمه بالأول على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر نحو « بالله لأفعلن تالله لأخرجن » ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى جعل « الواو » للعطف لمخالفة الثاني الأول في الإعراب ، اللهم إلا أن تقدر مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها فقد جاء عنهم « الله لأفعلن » مجروراً غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة ، وأما من قرأ صاد وقاف بالكسر فلالتقاء الساكنين . وهذه الفواتح جاءت في المصحف مكتوبة على صور الحروف أنفسها لا على صور أساميها ، لأن المألوف أنه إذا قيل للكاتب اكتب « صاد » مثلاً فإنه يكتب مسماها ص .
وأيضاً اشتهار أمرها بأن المراد بها هنا الأسامي لا المسميات أمن وقوع اللبس فيها ، وأيضاً خطان لا يقاسان ، خط المصحف لأنه سنة ، وخط العروض لأن المعتبر هناك الملفوظ . ومن لم يجعل هذه الفواتح أسماء السور فلا محل لها عنده كما لا محل للجمل المبتدأة والمفردات المعدودة ، ومن جعلها أسماء للسور فسنخبرك عن تأليفها مع ما بعدها الله حسبي .
البحث الثاني في قوله . « ذلك الكتاب » وفيه مسائل : الأولى : إنما صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد لأنه وقعت الإشارة بذلك إلى « الم » بعد ما سبق التكلم به ، والمنقضي في حكم المتباعد ولهذا يحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا ، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه وقع في حد البعد كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً : احتفظ بذلك ، أو لأنه وإن كان حاضراً نظراً إلى ألفاظه لكنه غائب نظراً إلى أسراره وحقائقه ، أو لأنه على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي ، أو لأنه إشارة إلى ما نزل بمكة قبل سورة البقرة . وقد يسمى بعض القرآن قرآناً ، أو لأنه إشارة إلى ما وعد به الرسول عند مبعثه { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] أو لأنه إشارة إلى ما أخبر به الأنبياء أن الله سينزله على النبي المبعوث من ولد إسماعيل ، أو المراد أن هذا المنزل هو ذلك المثبت في اللوح المحفوظ كقوله { وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم } [ الزخرف : 4 ] . الثانية : إنما ذكر اسم الإشارة والمشار إليه مؤنث وهو السورة في بعض الوجوه نظراً إلى صفته وهو الكتاب كقولك « هند ذلك الإنسان » قال الذبياني :
نبئت نعمي على الهجران عاتبة ... سقياً ورعياً لذاك العاتب الزاري
وإن جعلت الكتاب خبراً فنظراً إلى أن ذلك في معناه ومسماه فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير كما أجري عليه في التأنيث في قولهم : « من كان أمك » . الثالثة : للقرآن أسماء كثيرة منها : الكتاب - وقد تقدم- ومنها الفرقان { تبارك الذي نزل الفرقان } [ الفرقان : 1 ] لأنه نزل متفرقاً في نيف وعشرين سنة ، أو لأنه يفرق بين الحق والباطل . ومنها التذكرة والذكرى والذكر { وإنه لتذكرة للمتقين } [ الحاقة : 48 ] { وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } [ الذاريات : 55 ] { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] أي ذكر من الله تعالى به ذكر به عباده فعرفهم تكاليفه أو شرف وفخر . ومنها التنزيل { وإنه لتنزيل رب العالمين } [ الشعراء : 192 ] ومنها الحديث { الله نزل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ] شبهه بما يتحدث به فإن الله تعالى خاطب به المكلفين . ومنها الموعظة { قد جاءتكم موعظة من ربكم } [ يونس : 57 ] ومنها الحكم والحكمة والحكيم والمحكم { وكذلك أنزلناه حكماً عربياً } [ الرعد : 37 ] { حكمة بالغة } [ القمر : 5 ] { يسَ والقرآن الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] { كتاب أحكمت أياته } [ فصلت : 2 ] ومنها الشفاء والرحمة { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين }
[ الإسراء : 82 ] ومنها الهدى والهادي { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } [ الإسراء : 9 ] ومنها الصراط المستقيم { وأن هذا صراطي مستقيماً } [ الأنعام : 153 ] ومنها حبل الله { واعتصموا بحبل الله جميعاً } [ آل عمران : 103 ] ومنها الروح { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] لأنه سبب لحياة الأرواح . ومنها القصص { إن هذا لهو القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ومنها البيان والتبيان والمبين { هذا بيان للناس } [ آل عمران : 138 ] { تبياناً لكل شيء } [ النحل : 89 ] { تلك آيات الكتاب المبين } [ يوسف : 1 ] ومنها البصائر { هذا بصائر من ربكم } [ الأعراف : 203 ] ومنها الفصل { إنه لقول فصل } [ الطارق : 13 ] ومنها النجوم { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] لأنه نزل نجماً نجماً . ومنها المثاني { مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } [ الزمر : 23 ] لأنه يثنى فيه القصص والأخبار . ومنها النعمة { وأما بنعمة ربك فحدث } [ الضحى : 11 ] قال ابن عباس : أي القرآن . ومنها البرهان { قد جاءكم برهان من ربكم } [ النساء : 174 ] ومنها البشير والنذير { قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً } [ فصلت : 3 ، 4 ] ومنها القيم { قيماً لينذر بأساً شديداً } [ الكهف : 2 ] ومنها المهيمن { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [ المائدة : 48 ] ومنها النور { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [ الأعراف : 157 ] ومنها الحق { وإنه لحق اليقين } [ الحاقة : 51 ] ومنها العزيز { وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] ومنها الكريم { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] ومنها العظيم { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } [ الحجر : 87 ] ومنها المبارك { كتاب أنزلناه إليك مبارك } [ ص : 29 ] فهذه جملة الأسماء وسيجيء تفاسيرها في مواضعها . الرابعة : في تأليف ذلك الكتاب مع « الم » اسماً للسورة ففي التأليف وجوه : أن يكون « الم » مبتدأ أو « ذلك » مبتدأ ثانياً « والكتاب » خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأول أي هو الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتاباً كما تقول : هو الرجل أي الكامل في الرجولية وكقوله : هم القوم كل القوم يا أم خالد . وأن يكون الكتاب صفة ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون « الم » خبر مبتدأ محذوف أي هذه « الم » ، ويكون « ذلك » خبراً ثانياً أو بدلاً على أن الكتاب صفة ، وأن يكون هذه « الم » جملة ، « ذلك الكتاب » جملة أخرى ، وفقد العاطف لأن الثانية بيان للأولى . وإن جعلت « الم » بمنزلة الصوت كان « ذلك » مبتدأ خبره « الكتاب » أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل ، أو « الكتاب » صفة والخبر ما بعده ، أو قدر مبتدأ محذوف أي هو يعني المؤلف من هذه الحروف « ذلك الكتاب » . وفي قراءة عبد الله بن مسعود « الم تنزيل الكتاب » . البحث الثالث في قوله « لا ريب فيه » الريب مصدر رابني وحقيقته قلق النفس . روى الحسن بن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ، وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له .
ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف أي معوج مضطجع وهم محرومون فقال : لا يريبه أحد بشيء أي لا يزعجه . والحاصل أن الريب شك وزيادة ظن سوء ، فإن قلت : كيف نفي الريب على سبيل الاستغراق ، وكم من شقي مرتاب فيه؟ قلت : ما نفي أن أحداً لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه ومثله { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } [ البقرة : 23 ] لم يقل « وإذا كنتم » مع وقوع الشك منهم في الواقع دلالة على أن الشك فيه مما لا ينبغي أن يوجد إلا على سبيل الفرض والتقدير ، ولو فرض فوجه إزالته أن يجردوا أنفسهم ويبرزوا قواهم في البلاغة هل تتم للمعارضة أن تتضاءل دونها . فإن قلت : فهلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله تعالى { لا فيها غَوْل } [ الصافات : 47 ] قلنا : لأن المقصود منها ليس إلا نفي الريب عنه وإثبات أنه حق وصدق ، ولو عكس لأفاد ذلك مع ما ليس بمراد ولا هو بصادق في نفس الأمر وهو التعريض بأن ريباً في غيره من الكتب كما أن في قوله : { لا فيها غول } [ الصافات : 47 ] تعريضاً بأن خمور الدنيا تغتال العقول . وقرأ أبو الشعثاء « لا ريب » فيه بالرفع . قيل : والفرق بينها وبين المشهورة ، أن المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوزه . ويمكن أن يقال : كلاهما يوجب الاستغراق إلا أن الأول بطريق نفي الماهية ، والثاني لأن قوله « لا ريب » جواب قول القائل هل ريب فيه ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحد فنقيضه يكون سلب جميع الأفراد .
البحث الرابع في قوله « هدى للمتقين » وفيه مسائل :
الأولى : في حقيقة الهدى هو مصدر على فعل كالسرى وهو على الأصح عبارة عن الدلالة . وقيل : بشرط كونها موصلة إلى البغية بدليل وقوعه في مقابل الضلالة { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ولأنه يقال مهدي في معرض المدح . فلو احتمل أن يقال هدى فلم يهتد لم يكن مدحاً ، ولأن مطاوعه « اهتدى » فيلزمه . وأجيب بأن مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى . وبأن قولنا « مهدي » إنما أفاد المدح لأنه من المعلوم أن الوسيلة إذا لم تفض إلى المقصود كانت كالعدم ، وبالمنع من أن اهتدى لازم هدى لزوماً كلياً إذ يصح في العرف أن يقال : هديته فلم يهتد ، قال عز من قائل : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] وقال بعضهم : الهدى الاهتداء ، فإن زعم مطلقاً فخطأ لوقوع صفة للقرآن ، وإن زعم حيناً فصحيح لوقوعه في مقابلة الضلالة .
الثانية : المتقي اسم فاعل من وقاه فاتقى . والوقاية فرط الصيانة ، وهذه الدابة تقي من وجئها إذا أصابها طلع من غلظ الأرض ورقة الحافر فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء . وهو في الشرع المؤتمر للمأمورات المجتنب عن المحظورات . واختلف في الصغائر أنه إذا لم يتقها فهل يستحق هذا الاسم؟ روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس » فحقيقة التقوى الخشية { يا أيها الناس اتقوا ربكم } [ لقمان : 33 ] وقد يراد بها الإيمان { وألزمهم كلمة التقوى } [ الفتح : 26 ] أي التوحيد . وقد يراد التوبة { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } [ الأعراف : 96 ] أي تابوا . وقد يراد الطاعة { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون } [ النحل : 2 ] وقد يراد ترك المعصية { وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله } [ البقرة : 189 ] وقد يراد الإخلاص { فإنها من تقوى القلوب } [ الحج : 32 ] أي من إخلاصها والتقوى مقام شريف { إن الله مع الذين اتقوا } [ النحل : 128 ] { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } [ البقرة : 197 ] { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [ الحجرات : 13 ] وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده » وقال علي عليه السلام : التقوى ترك الإصرار على المعصية ، وترك الاغترار بالطاعة . وعن إبراهيم بن أدهم : أن لا يجد الخلق في لسانك عيباً ، ولا الملائكة المقربون في أفعالك عيباً ، ولا ملك العرش في سرك عيباً . الواقدي : أن تزين سرك للحق كما زينت ظهرك للخلق . ويقال : التقوى أن لا يراك مولاك حيث نهاك . ولله در القائل : خل الذنوب صغيرها . وكبيرها فهو التقي .
كن مثل ماش في طري ... ق الشوق يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى
وفي قوله « هدى للمتقين » ثم في موضع آخر { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس } [ البقرة : 185 ] دليل على أن الناس محصورون في المتقين ، والباقون { كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] .
الثالثة : لم اختص كون القرآن هدى للمتقين ، وأيضاً المتقي مهتد فكيف يهتدي ثانياً؟ والجواب أن المتقين لما كانوا هم المنتفعين بالهداية خصوا بالذكر مدحاً لهم كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] { إنما تنذر من اتبع الذكر } [ يس : 11 ] مع أنه صلى الله عليه وسلم منذر كل الناس . وأيضاً قوله « هدى للمتقين » كقولك للعزيز المكرم « أعزك الله وأكرمك » تريد طلب الزيادة واستدامة ما هو ثابت فيه . وبوجه آخر سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين نحو « من قتل قتيلاً فله سلبه » فهذا مجاز من باب تسمية الشيء بما هو آيل إليه واللطف فيه أنه لو قال هدى للصائرين إلى التقوى بعد الضلال كان إطناباً في غير موضعه ، فإن تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده هو اللائق بالمقام ، فاختص الكلام فإجرائه على الطريقة التي ذكرنا .
فإن قلت : كيف وصفت القرآن بأنه كله هدى وفيه مجمل ومتشابه لا يهتدي فيه إلى المقصود إلا بحكم العقل ، فيكون الهدى في ذلك للعقل لا للقرآن؟ ومما يؤكد ما قلنا ، ما نقل عن علي عليه السلام أنه قال لابن عباس حين بعثه رسولاً إلى الخوارج : لا تحتج عليهم بالقرآن فإنه خصم ذو وجهين . ولهذا كان فرق الإسلام المحق منهم والمبطل يحتجون به ، قلنا : المتشابه لما لم ينفك عما يبين المراد معه على التعيين عقلاً كان أو سمعاً صار كله هدى . فإن قيل : كل ما يتوقف صحة كون القرآن هدى على صحته كمعرفة الله تعالى وصفاته وكمعرفة النبوة ، فالقرآن ليس هدى فيه فكيف جعل هدى على الإطلاق؟ قلنا : المراد كونه هدى في تعريف الشرائع والمطلق لا يقتضي العموم ، أو كونه هدى في تأكيد ما في العقول أيضاً فيعم .
الرابعة : محل « هدى للمتقين » الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع « لا ريب فيه » لذلك أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدم خبراً عنه ، ويجوز أن ينتصب على الحال والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أنه يقال : « الم » جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و « ذلك الكتاب » جملة ثانية ، و « لا ريب فيه » ثالثة ، و « هدى للمتقين » رابعة . وفقد العاطف بينها لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بحجرة بعض ، لأنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال فكان تقريراً لجهة التحدي ، ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب فكان تسجيلاً بكماله ، فلا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، ثم في كل من الجمل نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه كما مر في الوجه الثامن ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة أي الكتاب الذي يستأهل أن يقال له الكتاب ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر الذي هو هدى موضع هاد وإيراده منكراً والإيجاز في ذكر المتقين .
البحث الخامس في قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } . الآية وفيه مسائل :
الأولى : « الذين يؤمنون » إما موصول بالمتقين صفة ، أو نصب على المدح ، أو رفع كذلك بتقدير أعني الذين ، أو هم الذين ، أو مرفوع بالابتداء مخبر عنه « بأولئك على هدى » .
الثانية : « الذين يؤمنون » على تقدير كونه صفة يكون إما وارداً بياناً وكشفاً وذلك إذا فسر المتقي بأنه الذي يفعل الحسنات ويجتنب السيئات ، لأن الإيمان أساس الحسنات والصلاة أم العبادات البدنية قال صلى الله عليه وسلم : « الصلاة عمادة الدين » « وبين العبد وبين الكفر ترك الصلاة » والزكاة أفضل العبادات المالية قال صلى الله عليه وسلم : « الزكاة قنطرة الإسلام » فاختصر الكلام اختصاراً بذكر ما هو كالعنوان لسائر الطاعات وكالأصول لبواقي الحسنات ويندرج فيها اجتناب الفواحش والمنكرات لقوله عز من قائل { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وإما مسرودة مع المتقين مفيدة غير فائدتها وذلك إذا فسر المتقي بالمجتنب عن المعاصي فقط . ثم إنه يكون قد وصف بالإيمان وهو فعل القلب وبأداء الصلاة والزكاة وهما من أفعال الجوارح ، وهذا ترتيب مناسب لأن لوح القلب يجب تخليته عن النقوش الفاسدة أولاً ، ثم تحليته بالعقائد الحقة والأخلاق الحميدة ، وإما معدودة عداً على سبيل المدح والثناء وذلك إذا فرض المتقي موسوماً بهذه السمات ، مشهوراً بهذه الصفات ، غير محتاج لذلك إلى البيان والإيضاح كصفات الله الجارية عليه تعالى تمجيداً وتعظيماً .
الثالثة : الأيمان إفعال من الأمن . يقال : أمنته وآمنته غيري . ثم يقال : أمنه إذا صدقه . وحقيقته أمنه التكذيب . والمخالفة والتعدية بالباء لتضمينه معنى أقر واعتبر ووثق به . قال في التفسير الكبير : اختلف أهل القبلة في مسمى الإيمان على أربعة أقوال : الأول : قول المعتزلة والخوارج والزيدية وأهل الحديث أنه اسم لأفعال القلوب واللسان والجوارح ، لكن المعتزلة قالوا : الإيمان إذا عدي بالباء فمعناه التصديق على تضمين الإقرار أو الوثوق كما مر من حيث اللغة وأما إذا ذكر مطلقاً فمنقول إلى معنى آخر وهو أن يعتقد الحق ويعرب عنه بلسانه ويصدقه بعمله . فمن أخل بالاعتقاد وإن شهد وعمل فهو منافق ، ومن أخل بالشهادة فهو كافر ، ومن أخل بالعمل فهو فاسق . ثم اختلفوا فبعضهم - كواصل بن عطاء والقاضي عبد الجبار - قالوا : الإيمان عبارة عن فعل كل الطاعات سواء كانت واجبة أو مندوبة ، أو من باب الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات . وبعضهم - كأبي علي وأبي هاشم - إنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافل ، وبعضهم - كالنظام - إنه عبارة عن اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد . ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد ، فالمؤمن عند الله من اجتنب كل الكبائر ، والمؤمن عندنا من اجتنب كل ما ورد فيه الوعيد . والخوارج قالوا : الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله وبكل ما وضع الله عليه دليلاً عقلياً أو نقلياً من الكتاب والسنة ، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً .
فمجموع هذه الأشياء هو الإيمان وترك خصلة من هذه الخصال كفر ، وأهل الحديث ذكروا وجهين : الأول : أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حدة . وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة . وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر ، ثم كل معصية بعده كفر على حدة ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار ، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجحود والإنكار . الثاني : أن الإيمان اسم للطاعات كلها فريضة أو نافلة إلا أنه إذا ترك فريضة انتقض إيمانه ، وإن ترك نافلة لم ينتقض . ومنهم من قال : الإيمان اسم للفرائض دون النوافل . ( القول الثاني ) : قول من قال الإيمان بالقلب واللسان معاً . ثم اختلفوا على مذاهب : الأول : أن الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالجنان وهو مذهب أبي حنيفة وعامة الفقهاء ، ثم اختلفوا في موضعين : أحدهما في حقيقة هذه المعرفة ، فمنهم من قال : هي الاعتقاد الجازم سواء كان اعتقاداً تقليدياً أو علماً صادراً عن الدليل وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلد مسلم ، ومنهم من فسرها بالعلم الصادر عن الاستدلال . وثانيهما في أن العلم المعتبر في تحقق الإيمان علم بماذا؟ قال بعض المتكلمين : هو العلم بالله وبصفاته على سبيل التمام والكمال ، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى فلا جرم أقدم كل طائفة على تكفير من عداها من الطوائف ، والإنصاف أن المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلى هذا العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم أو بذاته أو مرئياً وغير مرئي لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان . والمذهب الثاني : أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً وهو مذهب أبي الحسن الأشعري وبشر المريسي ، والمراد من التصديق الكلام القائم بالنفس . المذهب الثالث : كلام بعض الصوفية الإيمان إقرار باللسان وإخلاص بالقلب . ( القول الثالث ) : قول من قال الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط ، فمن هؤلاء من قال : الإيمان معرفة الله بالقلب حتى إن من عرف الله بقلبه ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يقر به فهو مؤمن كامل الإيمان وهو قول جهم بن صفوان ، وزعم أن معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر غير داخلة في حقيقة الإيمان . وحكى الكعبي عنه أن الإيمان معرفة الله مع معرفة كل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم . ومنهم من قال : الإيمان مجرد التصديق بالقلب . ( القول الرابع ) . قول من قال الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ، ثم منهم من قال : شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب . ومنهم من قال : لا حاجة بنا إلى هذا الشرط أيضاً بل المنافق مؤمن الظاهر كافر السريرة يثبت له حكم المؤمنين في الدنيا وحكم الكافرين في الآخرة وهذا قول الكرامية ، ثم قال الإمام رحمه الله تعالى : عندي أن الإيمان عبارة عن التصديق بكل ما عرف بالضرورة كونه من دين محمد صلى الله عليه وسلم مع الاعتقاد فههنا قيود : الأول أن الإيمان عبارة عن التصديق ، وذلك أن الإيمان أكثر الألفاظ دوراناً على ألسنة المسلمين ، فلو صار منقولاً إلى غير مسماه الأصلي لتوفرت الدواعي على نقل هذا النقل وتواتر وليس كذلك .
وأيضاً الإيمان المعدّى بالباء على أصله اتفاقاً ، فغير المعدى أيضاً يكون كذلك كلما ذكر الله تعالى الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب { وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] { كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] وأيضاً قرن الإيمان بالعمل الصالح ، ولو كان العمل داخلاً في الإيمان لزم التكرار . وأيضاً قرن الإيمان بالمعاصي { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } [ الأنعام : 83 ] { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] { والذين آمنوا ولم يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] ومع عظيم الوعيد في ترك الهجرة . قال ابن عباس في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] إنما يجب القصاص على القاتل المتعمد ، ومع ذلك يدخل في الخطاب . ثم قال : { فمن عفى له من أخيه شيء } [ البقرة : 178 ] وهذه الأخوة ليست إلا أخوة الإيمان { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] ثم قال : { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } [ البقرة : 178 ] وهذا لا يليق إلا بالمؤمن . القيد الثاني : أن الإيمان ليس عبارة عن تصديق اللسان لقوله تعالى { ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين } [ البقرة : 108 ] . القيد الثالث : ليس عبارة عن مطلق التصديق لأن من صدق بالجبت والطاغوت لا يسمى مؤمناً . القيد الرابع : لا يشترط التصديق بجميع صفات الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم « اعتقها فإنها مؤمنة » بعد قوله عليه الصلاة والسلام لها أين الله؟ قالت : في السماء . ويعلم مما ذكرنا أن من عرف الله بالدليل ، ولما تم العرفان مات ووجد من الوقت ما أمكنه التلفظ بكلمة الشهادة لكنه لم يتلفظ بها كان مؤمناً ، وكان الامتناع عن النطق جارياً مجرى المعاصي التي يؤتى بها مع الإيمان ، وبهذا حكم الغزالي رضي الله عنه قلت : - وبالله التوفيق - : التحقيق في المقام أن للإيمان وجوداً في الأعيان ووجوداً في الأذهان ووجوداً في العبارة . ولا ريب أن الوجود العيني لكل شيء هو الأصل ، وباقي الوجودات فرع وتابع . فالوجود العيني للإيمان هو النور الحاصل للقلب بسبب ارتفاع الحجاب بينه وبين الحق جل ذكره { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] وهذا النور قابل للقوة والضعف والاشتداد والنقص كسائر الأنوار { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] كلما ارتفع حجاب ازداد نوراً فيتقوى الإيمان ويتكامل إلى أن ينبسط نوره فينشرح الصدر ويطلع على حقائق الأشياء وتتجلى له الغيوب وغيوب الغيوب فيعرف كل شيء في موضعه ، فيظهر له صدق الأنبياء عليهم السلام ولا سيما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين في جميع ما أخبروا عنه إجمالاً أو تفصيلاً على حسب نوره ، وبمقدار انشراح صدره ، وينبعث من قلبه داعية العمل بكل مأمور والاجتناب عن كل محظور ، فينضاف إلى نور معرفته أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات الحميدة
{ نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } [ التحريم : 8 ] { نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] وأما الوجود الذهني فبملاحظة المؤمن لهذا النور ومطالعته له ولمواقعه ، وأما الوجود اللفظي فخلاصته ما اصطلح عليه الشارع بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولا يخفى أن مجرد التلفظ بقولنا « لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم » من غير النور المذكور لا يفيد إلا كما يفيد للعطشان التلفظ بالماء الزلال دون التروي به ، إلا أن التعبير عما في الضمير لما لم يتيسر إلا بواسطة النطق المفصح عن كل خفي والمعرب عن كل مشتبه ، كان للتلفظ بكلمة الشهادة ولعدم التلفظ بها مدخل عظيم في الحكم بإيمان المرء وكفره ، فصح جعل ذلك وما ينخرط في سلكه من العلامات ، كعدم لبس الغيار وشد الزنار دليلاً عليهما ، وتفويض أمر الباطن إلى عالم الخفيات المطلع على السرائر والنيات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله » . الرابعة : يجوز أن يكون بالغيب صلة للإيمان أي يعترفون أو يثقون به ، وعلى هذا يكون الغيب بمعنى الغائب ما تسمية بالمصدر كما سمى الشاهد بالشهادة قال الله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } [ الرعد : 9؛ المؤمنون : 92؛ التغابن : 18 ] والعرب تسمي المطئمن من الأرض غيباً ، وإما أن يكون مخفف فيعل والمراد به الخفي الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم اللطيف الخبير ، وإنما نعلم منه نحن ما أعلمناه أو نصب لنا دليل عليه ، ولهذا لا يجوز أن يطلق فيقال : فلان يعلم الغيب ، وذلك نحو الصانع وصفاته والنبوات وما يتعلق بها والبعث والنشور والحساب والوعد والوعيد وغير ذلك . ويجوز أن يكون بالغيب حالاً ، والغيب بمعنى الغيبة والخفاء أي يؤمنون غائبين عن المؤمن به وحقيقته متلبسين بالغيب نحو { الذين يخشون ربهم بالغيب } [ الأنبياء : 49 ] { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } [ يوسف : 52 ] وفيه تعريض بالمنافقين حيث إن باطنهم يخالف ظاهرهم وغيبتهم تباين حضورهم { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } [ البقرة : 14 ] وقال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهدي المنتظر الذي وعد الله في القرآن . وورد في الخبر { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض }
[ النور : 55 ] « لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أمتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً » الخامسة : معنى إقامة الصلاة أحد ثلاثة اشياء : إما تعديل أركانها وحفظها من أن يقع زيغ في فرائضها وسننها وآدابها من أقام العود إذا قومه ، وإما الدوام عليها والمحافظة { والذين هم على صلاتهم دائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون } [ المعارج : 23 ، 24 ] من قامت السوق إذا نفقت وأقامها . قال الأسدي : أقامت غزالة سوق الضراب . لأهل العراقين حولاً قميطاً . غزالة اسم امرأة شبيب الخارجي ، قتله الحجاج فحاربته سنة تامة . والضراب القتال ، والعراقان الكوفة والبصرة ، وقميطاً أي كاملاً لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجه إليه الرغبات ، وإما التجلد والتشمر لأدائها وأن لا يكون في مؤديها فتور عنها ولا توان من قولهم : قام في الأمر خلاف تقاعد عنه ، فعبر عن الأداء بالإقامة لأن القيام بعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام - وبالركوع والسجود والتسبيح { يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي } [ آل عمران : 43 ] { فلولا أنه كان من المسبحين } [ الصافات : 143 ] ولا يخفى أن إقامة الصلاة بجميع هذه المعاني تستحق المدح والثناء . السادسة : الصلاة في عرف الشرع عبارة عن إلهيات والأقوال المخصوصة التي مفتتحها التحريم ومختتمها التسليم فرضاً كانت أو نفلاً ، إلا أنه يحتمل أن يقال المراد بها في الآية الفرض لأن الفلاح قد نيط بها في قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي أفلح والله إن صدق بعد قول الأعرابي « والله لا أزيد على هذه ولا أنقص » أي على الصلوات المفروضة . واشتقاقها لغة إما من الصلاة بمعنى الدعاء قال الأعشى :
وقابلها الريح في دنها ... وصلى على دنها وارتسم
أي وضع عليها الرسم وهو الخاتم وإما من قولهم « صليت العصا بالنار » إذا لينتها وقومتها قال :
فلا تعجل بأمرك واستدمه ... فما صلي عصاك كمستديم
والمصلي يسعى في تعديل ظاهره وتقويم باطنه كالخشب الذي يعرض على النار . وإما من قولهم « صلى الفرس » إذا جاء مصلياً أي ملازماً للسابق ، لأن رأسه عند صلاة ، والصلا ما عن يمين الذنب وشماله ، والمصلي ملازم لفعله من حين شروعه إلى أوان فراغه . والصلاة اسم وضع موضع المصدر يقال : صليت صلاة ولا يقال تصلية . قال في الكشاف : الصلاة فعلة من صلى كالزكاة من زكى . وكتبها بالواو على لفظ المفخم . وحقيقة صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده ، ولا يخفى ما فيه من التعسف . السابعة : الرزق لغة هو ما ينتفع به ، فيشمل الحلال والحرام والمأكول وغيره والمملوك وغيره ، والمعتزلة ومن يجري مجراهم زادوا قيداً آخر وهو أن لا يكون ممنوعاً عن الانتفاع به ، وعلى هذا لا يكون الحرام عندهم رزقاً .
قال في الكشاف : إسناد الرزق إلى نفسه للإعلام بأنهم ينفقون الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إلى الله تعالى ويسمى رزقاً منه . وأدخل « من » التبعيضية صيانة لهم وكفاً عن الإسراف والتبذير المنهي عنه ، وقدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهم كأنه قال : ويخصون بعض المال الحلال بالتصدق به ، والحق أن التمكين من الانتفاع بالمرزوق مسند إلى الله تعالى على الإطلاق ، إذ كل بقدرته إلا أن مذهب المعتزلة إلى الأدب أقرب ، ولا سيما في هذا المقام ليستحقوا المدح بالإنفاق منه . الثامنة : أنفق الشيء وأنفده أخوان ، وكل ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على معنى الخروج والذهاب ، وما يقرب منه ويدخل في هذا الإنفاق الواجب من الزكاة التي هي أخت الصلاة وشقيقتها ، ومن الإنفاق على النفس وعلى من تجب نفقته ، ومن الإنفاق في الجهاد . ويمكن أن يتناول كل منفق في سبيل الخير للإطلاق قال تعالى { وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت } [ المنافقون : 10 ] والمراد به الصدقة لقوله { فأصدّق وأكن من الصالحين } [ المنافقون : 10 ] .
البحث السادس : في قوله تعالى و « الذين يؤمنون » الآية . وفيه مسائل :
الأولى : يحتمل أن يراد بهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند الله ، سالف أو مترقب سبيله سبيل السالف لكونه معقوداً بعضه ببعض ومربوطاً آتيه بماضيه ، وأيقنوا بالآخرة إيقاناً زال معه ما كانوا عليه من أنه لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات ، وأن أهل الجنة لا يتلذذون إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيذ ونحو ذلك . فيكون المعطوف غير المعطوف عليه إما مغايرة المباينة وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن ابتداء بمحمد صلى الله عليه وسلم من غير إيمان قبل ذلك بموسى وعيسى عليهما السلام ، وإما مغايرة الخاص للعام وذلك إذا أريد بالأولين كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما السلام أو لم يكن . ويكون السبب في ذكر هذا الخاص بعد العام إثبات شرف لهم وترغيباً لأمثالهم في الدين ، ويحتمل أن يراد بهؤلاء الأولون ، ووسط العاطف على معنى أنهم الجامعون بين تلك الصفات وهذه كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
يا لهف زيابة للحارث ال ... صابح فالغانم فالآئب
الثانية : قال في التفسير الكبير : المراد من إنزال الوحي أن جبريل سمع في السماء كلاماً لله تعالى فنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقال : نزلت رسالة الأمير من القصر . والرسالة لا تنزل لكن المستمع يستمع الرسالة في علو فينزل فيؤدي في سفل .
وقول الأمير لا يفارق ذاته ، ولكن السامع يسمع فينزل ويؤدي بلفظ نفسه . قال : فإن قيل : كيف سمع جبريل كلام الله وكلامه ليس حرفاً ولا صوتاً عندكم؟ قلنا : يحتمل أن يخلق الله له سمعاً لكلامه ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم . ويجوز أن يكون خلق الله في اللوح المحفوظ كتابه بهذا النظم المخصوص فقرأه جبرائيل فحفظه ، ويجوز أن يخلق أصواتاً مقطعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فيتلقفه جبرائيل ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدية لمعنى ذلك الكلام . وأقول : إنك إذا تأملت ما أشرت إليه في المقدمة العاشرة من مقدمات الكتاب انكشف لك الغطاء عن هذه المسالة .
الثالثة : الإيمان بجميع الكتب السماوية أعني التصديق بها واجب ، لأن الفلاح منوط بذلك . فيجب تحصيل العلم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التفصيل ليقوم بواجبه علماً وعملاً ، لكنه فرض كفاية لقوله تعالى { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } [ التوبة : 122 ] الآية . وأما المنزل على الأنبياء المتقدمين فالإيمان به واجب على الجملة لن الله تعالى ما تعبدنا الآن به حتى يلزمنا معرفتها مفصلة ، لكنها إن عرفنا شيئاً من تفاصيلها فهناك يجب علينا الإيمان بتلك التفاصيل .
الرابعة : الآخرة صفة الدار تلك الدار الآخرة وهي من الصفات الغالبة تأنيث الآخر نقيض الأول وكذلك الدنيا تأنيث الأدنى لأنها أقرب ، واليقين هو العلم بالشيء ضرورة أو استدلالاً بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه ، ولذلك لا يوصف الله تعالى بأنه متيقن ولا يقال تيقنت أن السماء فوقي أو أني موجود . وفي تقديم الآخرة وبناء « يوقنون » على « هم » تعريض بأهل الكتاب وبما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته ومن غير إيقان ، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل على محمد وعلى غيره من الأنبياء ، وهذا في معرض المدح ومعلوم أنه لا يمدح بتيقن وجود الآخرة فقط ، بل به وبما يتبعه من الحساب والسؤال وإدخال المؤمنين الجنة والكافرين النار . عن النبي صلى الله عليه وسلم « يا عجباً كل العجب من الشاك في الله وهو يرى خلقه ، وعجباً ممن يعرف النشأة الأولى ثم ينكر النشأة الآخرة ، وعجباً ممن ينكر البعث والنشور وهو كل يوم يموت ويحيا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنة وما فيها من النعيم ثم يسعى لدار الغرور ، وعجباً من المتكبر الفخور وهو يعلم أن أوله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة » .
البحث السابع : في قوله تعالى { أولئك على هدى من ربهم } الآية وفيه مسائل :
الأولى : في كيفية تعلق هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها نوى الابتداء « بالذين يؤمنون بالغيب » على سبيل الاستئناف و « أولئك على هدى » الجملة خبره ، كأنه لما قيل « هدى للمتقين » فخص المتقون بأن الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك؟ فأجيب بأن الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح .
وهذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث نحو : قد أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ، وتارة بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك . فيكون الاستئناف بإعادة صفته مثل : أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك . فيكون الاستئناف بإعادة الصفة كما في الآية أحسن وأبلغ لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه . وثانيها : أن يجعل « الذين » و « الذين » تابعاً للمتقين ، ويقع الاستئناف على « أولئك » كأنه قيل : ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى؟ فقيل : أولئك الموصوفون غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً وبالفلاح آجلاً . وثالثها : أن يجعل الموصول الأول صفة للمتقين ويرفع الثاني على الابتداء ، و « أولئك » خبره ، ويكون اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون في أنهم سيفلحون عند الله تعالى والفضل من هذه الوجوه لأولها لأن الكلام المبني على السؤال والجواب أكثر فائدة ، ولأن الاستئناف بإعادة الصفة أبلغ ولأن السؤال على الوجه الأخير كالضائع ، لأن موجبات اختصاصهم بالهدى قد علمت . وأيضاً إنه يجعل الموصولين تابعاً والوجه الأول يجعل الموصول الأول ركناً من الكلام .
الثانية : الاستعلاء في قوله « على هدى » مثل لتمكنهم من الهدى كقولهم « هو على الحق وفلان على الباطل » وقد يصرح بذلك فيقال : جعل الغواية مركباً ، وامتطى الحق ، واقتعد غارب الهوى . ومعنى « هدى من ربهم أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو إما اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير والترقي من الأفضل لأفضل ، وإما الإرشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه والدوام على ما عملوه . ونكر » هدى « ليفيد ضرباً من المبالغة أي هدى لا يبلغ كنهه . قال الهذلي :
فلا وأبي الطير المربة بالضحى ... على خالد لقد وقعت على لحم
أي لحم وأي لحم . وأربّ بالمكان إذا أقام به ، والأب مقحم للاستعظام إذ الكنى إنما تكون للأشراف كما أن الإقسام بالطير أيضاً لاستعظامهن لوقوعهن على لحم عظيم ، وعن بعضهم الهدى من الله كثير ولا يبصره إلا بصير ولا يعمل به إلا يسير ، ألا ترى أن نجوم السماء يبصرها البصراء ولا يهتدي بها إلا العلماء؟
الثالثة : في تكرير » أولئك « تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى ثبت لهم الاختصاص بالفلاح فتميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين .
ووسط العاطف بينهما لاختلاف خبريهما بخلاف قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } [ الأعراف : 179 ] فإن التسجيل عليهم بالغفلة وعدّهم من جملة الأنعام شيء واحد .
الرابعة : « هم » فصل وفائدته بعد الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة التوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره . ويحتمل أن يكون « هم » مبتدأ و « المفلحون » خبره ، والجملة خبر « أولئك » .
الخامسة : المفلح الفائز بالبغية ، والمفلج بالجيم مثله كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر . وكذلك أخواته في الفاء والعين تدل على معنى الشق والفتح نحو : فلق ، وفلذ ، ومنه سمي الزارع فلاحاً . ومعنى التعريف في « المفلحون » إما العهد أي المتقون هم الناس الذين بلغك أنهم المفلحون في الآخرة ، أو الجنس على معنى أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة كما تقول لصاحبك : هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام إن زيداً هو هو . فانظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة ، فإن في ذكره أيذاناً بأن ما يرد عقيبه . فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عددت لهم ، وتكرير اسم الإشارة وتعريف المفلحين وتوسيط الفصل ، اللهم زينا بلباس التقوى واحشرنا في زمرة من صدّرت بذكرهم أولى الزهراوين . قد ورد في الخبر « يحشر الناس يوم القيامة » ثم يقول الله عز وجل لهم : « طالما كنتم تتكلمون وأنا ساكت فاسكتوا اليوم حتى أتكلم ، إني رفعت نسباً وأبيتم إلا أنسابكم قلت : إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم أنتم فقلتم : لا بل فلان ابن فلان ، فرفعتم أنسابكم ووضعتم نسبي ، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم ، فسيعلم أهل الجمع من أصحاب الكرم أين المتقون » فليأخذ العاقل بحكمة الله تعالى وهو نوط الثواب وتعليق العقاب بالعمل الصالح والسيء إلا بما هو غير مضبوط من عفوه عن بعض المذنبين وردّة طاعة بعض المطيعين ، كما أن حكمته لما اقتضت ترتب الشبع والري على الأكل والشرب لم يعهد الاتكال على ما يمكن أن يقع بالنسبة إلى قدرته من إشباع شخص أو إروائه من غير تناول الطعام والشراب أو بالعكس ، وهذه نكتة شريفة ينتفع بها من وفق لها إن شاء الله .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
القراآت : « أأنذرتهم » بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن ذكوان . وروى الحلواني عن هشام « آءنذرتهم » بهمزتين بينهما مدة ، والباقون يهمزون الأولى ويلينون الثانية . والتليين جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركة الهمزة . « وعلى أبصارهم » ممالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وابن حمدون وحمدويه وحمزة ، وفي رواية ابن سعدان وأبي عمرو . كذلك قوله عز وجل { بقنطار } و { بالأسحار } و { كالفخار } و { الغار } و { من أنصار } و { أشعارها } وأشباه ذلك حيث كان يعني إذا كان قبل الألف حرف مانع وبعدها راء مكسورة في موضع اللام ، لأن الراء المكسورة تغلب الحروف المستعلية . « غشاوة » بالفصل . وقرأ حمزة في رواية خلف وابن سعدان وخلف لنفسه . وأبو إسحق إبراهيم بن أحمد عن أبي الحرث عن علي وورش من طريق البخاري مدغمة النون والتنوين في الواو في جميع القرآن . « عظيم » بالإشمام في الوقف ، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة : حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا .
الوقوف : « لا يؤمنون » ( 5 ) « على سمعهم » ( ط ) لأن الواو للاستئناف . « غشاوة » ( ز ) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظماً فالأولى بيان وصف موجود ، والثانية إثبات عذاب موعود . « عظيم » ( 5 ) التفسير : وفيه مسائل :
الأولى : فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو . وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم « عبد الله قائم » إخبار عن قيامه ، وقولهم : « إن عبد الله قائم » جواب عن سؤال سائل ، وقولهم : « إن عبد الله لقائم » جواب عن إنكار منكر لقيامه . وقد يضاف إليه القسم أيضاً نحو « والله إن عبد الله لقائم . قال أبو نواس :
عليك باليأس من الناس ... إن غنى نفسك في اليأس
حسن موقع » إن « لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن ، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك » إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء « وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت } [ آل عمران : 36 ] وكذلك قول نوح { رب إن قومي كذبون } [ الشعراء : 117 ] .
الثانية : لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها ، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه . وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم }
[ الانفطار : 13 ، 14 ] لتباين الجملتين ههنا في الغرض والأسلوب ، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين ، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت ، وذلك إذا جعلت « الذين يؤمنون » مبتدأ و « أولئك » خبره ، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال ، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعاً له في المعنى ، فحكمه حكم الأول . وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و « أولئك » خبره ، لأن الجملة برأسها من مستتبعات « هدى للمتقين » لارتباط بينهما من حيث المعنى . الثالثة : التعريف في « الذين » إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم ، وإما أن يراد به الجنس متناولاً كل من صمم على كفره تصميماً لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم .
الرابعة : الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان ، وقد تقدم . وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده ، والزارع كافر لأنه يستر الحب ، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء ، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه . قال في التفسير الكبير : « كفروا » إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدماً على ذلك الإخبار . فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث ، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير . قلت : التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين ، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي ، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو { لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب . ومن هذا يعلم أن قوله { سنلقي } ليس كونه مستقبلاً بالنظر إلى الأزل مقصوداً بالنسبة إلى المخاطبين ، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم .
الخامسة : « سواء » اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر { تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [ آل عمران : 64 ] { في أربعة أيام سواء للسائلين } [ فصلت : 10 ] يعني مستوية ، وارتفاعه على أنه خبر « إن » و « أأنذرتهم أم لم تنذرهم » في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو : إن زيداً مختصم أخوه وابن عمه . ويحتمل أن يكون أأنذرتهم أم لم تنذرهم « في موضع الابتداء ، و » سواء « خبر مقدم ، والجملة خبر » إن « . و إنما صح وقوع الفعل مخبراً عنه مع أنه أبداً خبر نظراً إلى المعنى كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن .
معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل ، فإن « أن » مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي ، وقد جردت الهمزة . و « أم » لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأساً . قال سيبويه : هذا مثل قولهم « اللهم اغفر لنا أيتها العصابة » يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام ، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء . ومعنى الاستواء في الداخل عليهما « الهمزة » و « أم » استواؤهما في علم المستفهم ، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين . والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان : أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم ، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب . وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه ، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجواً منهم الإيمان ، لا في علم الله تعالى بل في علمنا ، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير . أو نقول : فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغاً يصح أن يستفهم عنه لكونه خالياً عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه ، فإن قول القائل « الإنذار وعدمه مستويان عليهم » يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق ، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم . والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي ، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة ، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع . وقوله « لا يؤمنون » إما جملة مؤكدة للتي قبلها ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض .
السادسة : الختم والكتم أخوان ، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه . والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه ، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة . والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين ، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ ق : 37 ] . وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }
[ النحل : 40 ] . كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك { ألا له الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] . وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 7 ، 8 ] وبالروح { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطاً بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت ، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا . ولعل هذا في الشاهد فقط ، وأما البصر فقال ابن سينا : هي قوة مرتبة في العصبة ا لمجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية . وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار . وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعاً . والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة غلى القلب ، ولكل من العين والقلب نور . أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق ، فهو نور جزئي ومدركه جزئي ، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر ، وهو نور كلي ومدركه كلي . وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور ، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه . ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه ، أو يدركه أصغر مما هو عليه . ولا يلزم من قولنا « إن للبصر نوراً يقع في المرئي » أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياساً على أنوار الكواكب والسرج ، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات ، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم . وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كافٍ بحسب المقام . ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية ، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى { وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } [ الجاثية : 23 ] ولهذا يوقف على « سمعهم » دون « قلوبهم » . وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع ، وإنما وحد السمع لوجوه منها : أمن اللبس كما في قوله : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . فإن زمانكم زمن خميص . إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطناً ، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه . ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل ، ولهذا جمع الأذن في قوله { وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] .
ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم ، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل { عن اليمين والشمائل } [ النحل : 48 ] { يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] .
السابعة : من الناس من قال : السمع أفضل من البصر ، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة . فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى ، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم ، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر . ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر ، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق ، بخلاف فاقد البصر . ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور ، ومتعلق الأسماع الريح . والبصر يرى من بعيد دون السمع ، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع . وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في الرؤية وفي المثل « ليس وراء العيان بيان » . وفي العين جمال الوجه دون السمع . والحق أن من فقد حساً فقد فقد علماً وهو المتوقف على ذلك الحس . ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد ، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع . فكل من الحواس في موضعه ضروري ، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل ، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه .
الثامنة : الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون ، والإنذار وعدمه عليهم سيان . والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية ، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق ، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق ، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل . وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون : كيف ينشئ فيهم الكفر ثم يقول : لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته . فتأولوا الآية على انها جارية مجرى قولهم « فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه » يريدون أنه بليغ في الثبات عليه ، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئاً ولا تفقه كقولهم « سال به الوادي » إذا هلك ، و « طارت به العنقاء » إذا أطال الغيبة . وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته ، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي ، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء ، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر .
إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم « بنى الأمير المدينة » أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء ، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف ، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم . أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكماً بهم من قولهم { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال : لا ، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة . وسئل عن أهل الجبر فقال : لا ، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد . وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجئ إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع ، وإثبات الرسول يلجئ إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد على الفعل فأيّ فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول : لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح ، وهذا يقتضي الجبر . ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية ، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال . قلت - وبالله تعالى التوفيق - : عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لوحظت المبادئ ورتبت المقدمات ، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادراً على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل . فالهداية والضلالة ، والإيمان والكفر ، والخير والشر ، والنفع والضر ، وسائر المتقابلات ، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإردته . والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى { ولو شاء لهداكم أجمعين } [ النحل : 9 ] { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } [ السجدة : 13 ] { قل كل من عند الله } [ النساء : 78 ] كثيرة . وكذا الأحاديث « اعملوا فكل ميسر لما خلق له » « كل شيء بقدر حتى العحز والكيس » « احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى » الحديث . فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل ، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف . أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول : لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح ، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك . بل الوجه أن يقال : إن لله تعالى صفتي لطف وقهر ، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك . ولا سيما ملك الملوك ، كذلك ، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ، ومن منع ذلك كابر وعاند .
ولا بد لكل من الوصفين من مظهر ، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف ، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر ، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها ، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها . وههنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر ، فلولا القهر لم يتحقق اللطف ، ولولا النار لم تثبت الجنة ، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة ، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري . ولله در القائل : « وبضدها تتبين الأشياء » . فخلق الله تعالى للجنة خلقاً يعملون بعمل أهل الجنة ، وللنار خلقاً يعملون بعمل أهل النار . ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله . وههنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة { فمنهم شقي وسعيد } [ هود : 105 ] الآية : وقال صلى الله عليه وسلم : « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات ، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد » الحديث . وإذا تؤمل فيما قلت ، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى ، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح ، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين . وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيراً قريباً وبعضهم كناساً بعيداً لأن كلاً منهما من ضرورات المملكة ، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به ، مع أن كلاً منهم ضروري في مقامه؟! فهذا القائل بهدم بناء حكمته ، تعالى ، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح . وأما قوله « أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب » ففي غاية السخافة ، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فكيف يبقى للمعترض أن يقول : لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سبباً وواسطة للشيء الفلاني؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلاً لم جعل الشمس سبباً لإنارة الأرض؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأقول : فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سبباً وواسطة لاهتدائهم { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح . وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه
{ وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون } [ التوبة : 125 ] غاية ذلك إلزام الحجة وإقامة البنية عليهم ظاهراً { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً } [ القصص : 47 ] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء . وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضاً لغاية نقصانهم كما أن الأكمة ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه ، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار . وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلاً فأقول : لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي ، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى ، فكأنه لا اختيار له . والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية ، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل ، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذراً من التطويل . ومن لم يستضئ بمصباح لا يستفيد بإصباح { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ الأحزاب : 4 ] .
التاسعة : العذاب مثل النكال؛ بناء ومعنى ، لأنك تقول : أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول : نكل عنه . ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده . ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذاباً وإن لم يكن نكالاً أي عقاباً يرتدع به الجاني عن المعاودة . والفرق بين العظيم والكبير ، أن العظيم نقيض الحقير ، والكبير نقيض الصغير ، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعاً . تقول : رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره . ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعاً من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ، وهو غطاء التعامي عن آيات الله . ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه .
العاشرة : اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار . وقال بعضهم : لا يحسن ، وفسروا قوله « ولهم عذاب عظيم » وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك ، لكن كرمه يوجب عليه العفو . وذكروا أيضاً دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم : التعذيب ضرر خالٍ عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به ، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب ، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة . وكقولهم : علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان ، فتكليفه أمراً متى لم يفعل ترتب عليه العذاب ، وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع كان قبيحاً ، فلم يبق إلا أن يقال : لم يوجد هذا التكليف ، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب .
وكقولهم : إنه سبحانه هو الخالق لداعية المعصية ، فيقبح أن يعاقب عليها . وكقولهم : إن العبد لو واظب على الكفر طول عمره فإذا تاب ثم مات عفا الله عنه . أترى هذا الكرم العظيم ما بقي في الآخرة ، أو سلبت عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون عن معاصيهم ، وإذا تابوا فلم لا يقبل الله منهم توبتهم؟ ولم كان في الدنيا بحيث قال : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] وفي الآخرة بحيث لا يجيب دعاءهم إلا بقوله { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] وأجيب بأن تعذيبهم نقل إلينا بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا مصير إلى إنكاره ، والشبه التي تمسكتم بها تنهدم بانهدام قاعدة الحسن والقبح . وأقول : قد بينت بالبرهان النير في المسألة الثامنة أن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى ، وكل ما تقتضيه حكمته وكماله كان حسناً . ومن ظن أنه قبيح كان الخلل في عقله وقصور في فهمه ، فلا قبيح في النظر إلا وهو حسن من جهات أخرى لا يعلمها إلا منشئها وموجدها . وهل يستقبح أحد وقوع بعض الأحجار للملوك تيجاناً وبعضها للحشوش جدراناً ، أو وقوع بعض من الحديد سيفاً يتقلده الناس وبعضه نعلاً يطؤها الأفراس ، حيث يرى كلاً منهما في مصالح الوجود ضرورياً؟ ثم العذاب وهو بالحقيقة البعد من الله تعالى لازم للكفر والعصيان ، والملزوم لا ينفك من اللازم . وأما سبب عدم انتفاع الكافر والعاصي بالإيمان والتوبة بعد المفارقة ، فذلك أن محل الكسب هو الدنيا ، والتكليف بامتثال الأوامر والنواهي إنما وقع فيها . فليس لأحد أن يؤخر الامتثال إلى الآخرة . ألا ترى أنه لو قال طبيب حاذق لمريض : اشرب الدواء الفلاني في اليوم الفلاني فقصر وأخر حتى إذا مضى وقته وأشرف على الهلاك قال : إني أشرب الآن ، لم ينفعه ذلك الدواء ولا يسعه إلا الهلاك؟ وكذا لو قال ملك لواحد : افعل الأمر الفلاني في هذا الوقت ففعله في وقت آخر لم يعد ممتثلاً ولا ينفعه الائتمار به لأن غرض الامتثال قد فات ، ولا سيما إذا فعل بعد أن يرى أمارات الغضب وعلامات العذاب { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده ، وخسر هنالك الكافرون } [ غافر : 85 ] . صدق الله العظيم .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
القراآت : و « من الناس » ممالة . قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسوراً . « من يقول » مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت : حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري . « بمؤمنين » غير مهموز : أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء . « وما يخادعون » : أبو عمرو وابن كثير ونافع . « فزادهم الله » وبابه مما كان ماضياً بالإمالة : حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم ههنا بالإمالة فقط . « يكذبون » خفيفاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف . قيل { وغيض } { وجيء } بالإشمام : علي وهشام ورويس . « السفهاء ألا » بهمزتين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . « السفهاء ولا » بقلب الثانية واواً : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع . « السفهاء وألا » بقلب الأولى واواً . روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة : وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل { شهداء إذ } { وجاء إخوة } وأشباه ذلك . « مستهزءون » بترك الهمزة في الحالين : يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها ، وعن حمزة في الوقف وجهان : الحذف والتليين شبه الياء والواو . « طغيانهم » حيث كان بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو . « بالهدى » وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة : حمزة وعلي وخلف . وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة فيها وذلك طبعهم وعادتهم .
الوقوف : « بمؤمنين » ( م ) لما مر في المقدمة الثامنة : « آمنوا » ( ج ) لعطف الجملتين المتفقتين مع ابتداء النفي . « يشعرون » ( ط ) للآية وانقطاع النظم والمعنى ، فإن تعلق الجار بما بعده . « مرض » ( لا ) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيداً لما في قلوبهم . « مرضاً » ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين . « يكذبون » ( 5 ) في « الأرض » ( لا ) لأن « قالوا » جواب « إذا » وعامله . « مصلحون » ( 5 ) « لا يشعرون » ( 5 ) « كما آمن السفهاء » ( ط ) للابتداء بكلمة التنبيه ، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم « لا يعلمون » ( 5 ) « آمنا » ( ج ) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود « شياطينهم » ( لا ) لأن « قالوا » جواب « إذاً » « معكم » ( لا ) تحرزاً عن قول ما لا يقوله مسلم ، وإن جاز الابتداء بإنما . « مستهزءون » ( 5 ) « يعمهون » ( 5 ) « بالهدى » ( ص ) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم « مهتدين » التفسير : وفيه مباحث :
المبحث الأول : في قوله تعالى { ومن الناس من يقول } الآية .
وفيه مسائل :
الأولى : عن مجاهد قال : أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين . فأقول : أحوال القلب أربع : الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم ، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق ، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل ، وخلو القلب عن كل ذلك . وأحوال اللسان ثلاث : الإقرار والإنكار والسكوت . كل منها بالاختيار أو بالاضطرار ، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر . ( النوع الأول ) : العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق ، أو اضطراراً فهو منافق ، لأنه لولا الخوف لما أقرّ ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار . وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] أو اختياراً فهو كافر معاند . وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف ، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم « يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان » ( النوع الثاني ) الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا ، والأكثرون على إيمانه . أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول . وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره ، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد . وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد ، أو ا اختياراً فكافر معاند . ( النوع الثالث ) : الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق ، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر . ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان ، وكذا مع السكوت . ( النوع الرابع ) : القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً ، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا . وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر ، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً . والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق ، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب ، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق . فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره ، ومنه « النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها » فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج .
الثانية : زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق ، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان ، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان . وقال الآخرون : المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه . قال عز من قائل : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك . وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال ، والمنافق على طبيعة الخنائي . وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه ، والمنافق رضي بالكذب . وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي ، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى : { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [ النساء : 145 ] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية ، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة .
الثالثة : قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة « الذين كفروا » كما تعطف الجملة على الجملة . وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي . حذفت الهمزة تخفيفاً ، مع لام التعريف كاللازم . وقوله « إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا » قليل . ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان . سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم . ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن . وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء . « ومن » في « من يقول » موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله { من المؤمنين رجال } [ الأحزاب : 23 ] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت ، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف . وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس ، ولا يجوز أن تكون « من » موصولة حينئذ ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف ، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً . وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو { ومنهم الذين يؤذون النبي } [ التوبة : 61 ] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم ، ولا يجوز أن تكون « من » موصوفة إذ ذاك ، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً ، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين .
ومن البين أن مدلول قوله « وما هم بمؤمنين » معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً ، والضمير العائد إلى « من » يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [ الأنعام : 25 ] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل { ومنهم من يستمعون إليك } [ يونس : 42 ] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في « يقول » و « آمنا » . وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان ، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره . وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام . فإن قلت : إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر ، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت : إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم « عزير ابن الله » وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته . فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان . فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر . والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية ، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده . فإن قلت : كيف طابق قوله « وما هم بمؤمنين » قولهم « آمنا » والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل ، والثاني بالعكس؟ قلت : لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة ، جيء بالجملة الأسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين ، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال : إنهم لم يؤمنوا . ونظير الآية قوله تعالى { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } [ البقرة : 167 ] . ثم إن قوله « وما هم بمؤمنين » يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في « آمنا » . ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط ، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما .
البحث الثاني : في قوله { يخادعون الله } إلى { يكذبون } .
أعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء : أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء ، ومنه سميت الخزانة المخدع . والأخدعان عرفان في العنق خفيان . وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً . والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه ، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية .
فإن قيل : مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع ، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع ، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة :
تلك الفتاة التي علقتها عرضاً ... إن الحليم ذا الإسلام يختلب
لم يجز أن يخدعوا . قلنا : كانت صورة صنعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون - صورة صنع الخادعين ، وصورة صنع الله معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع ، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم - حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم . ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه ، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته ، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي ، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم . ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . ويحتمل أن يكون من قولهم « أعجبني زيد وكرمه » فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله ، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص . ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [ الأحزاب : 57 ] وقولهم « علمت زيداً فاضلاً » الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد ، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل : علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً . ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال : عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة « فاعلت » لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة ، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه . « ويخادعون » بيان ليقول ، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل : ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل : يخادعون . وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم . والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين ، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقراءة من قرأ { وما يخادعون إلا أنفسهم } [ البقرة : 9 ] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم ، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142 ] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب . وأن يراد « وما يخدعون » فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة . والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه . والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له . والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها ، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول : في جوفه مرض . ومجازاً بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي ، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلاً وحنقاً { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [ آل عمران : 119 ] وناهيك بما كان من ابن أبي ، وقول سعد بن عبادة لرسول له صلى الله عليه وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح ، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة - وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج - أي يجعلوه ملكاً ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك . أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تركد ، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع . فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبناً وخوراً . ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفراً إلى كفرهم ، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] وهذا كما قال الحكيم : البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شراً . وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً ازدادوا حسداً وبغضاً . ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع ، ويحتمل أن يقال : الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله :
اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قاتله
النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة . والأليم الوجيع . ووصف العذاب به على طريقة قولهم « جد جده » والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد . والمراد بكذبهم قولهم { آمنا بالله وباليوم الآخر } . وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته . وما يروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله
{ إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم « إنها أختي » وثالثها قوله { بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] فالمراد التعريض « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب » ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به . والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به ، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفاً للخبر ، والصدق نقيضه . وقراءة من قرأ « يكذبون » بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه ، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل « صدق » نحو : بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله :
قد بين الصبح لذي عينين ... أو بمعنى الكثرة نحو « موتت البهائم » ، أو من قولهم « كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه » لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك . وقال صلى الله عليه وسلم : « مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة » وما في قوله « بما كانوا » مصدرية أي بكذبهم ، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم .
البحث الثالث : في قوله تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض } إلى قوله } ولكن لا يشعرون } .
هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين . فقوله « وإذا قيل » إما معطوف على « كانوا يكذبون » أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا ، وإما على « يقول » أي ومن الناس من إذا قيل له . ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف ، وإسناد « قيل » إلى « لا تفسدوا » و « آمنوا » ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح ، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل . أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو : زعموا مطية الكذب . والقائل لهم إما النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح ، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم ، وإما بعض المؤمنين ، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين . والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به ، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة . عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى ، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد ، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه ، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها . وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه ، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب ، وحدثت المفاسد .
وقيل : هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون ، أوْهَمَ ذلك ضعف أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيصير سبباً لطمع الكفار في المؤمنين ، فتهيج الفتن والحروب . وقيل : كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين ، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم « إنما نحن مصلحون » كالمقابل له . فههنا احتمالات : أحدها : أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين ، فزعموا أنهم مصلحون . وثانيها : إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه { إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } [ النساء : 62 ] وثالثها : أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد ، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت ، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره . « وألا » مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى { أليس ذلك بقادر } [ القيامة : 40 ] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم . وأختها التي هي « أما » من مقدمات اليمين وطلائعها . قال :
أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر
رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف ، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم ، فرد الله عليهم . وكان وروده بدون الواو هو المطابق ، ومن جهة ما في « ألا » وفي « أن » من التأكيد ، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله « لا يشعرون » .
البحث الرابع : في قوله { وإذا قيل لهم آمنوا } الآية .
هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين ، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين : أحدهما : تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة ، والثاني : دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام . وبعبارة أخرى أمرهم أولاً بالتخلية عما لا ينبغي ، وثانياً بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين . وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم ، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل .
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وما في « كما » يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك : يكتب زيد كما يكتب عمرو ، أو زيد صديقي كما عمرو أخي . ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في { بما رحبت } [ التوبة : 25 ، 118 ] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتاً كما أن إيمان هؤلاء ثابت ، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء ، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم .
ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي ، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل . والاستفهام في « أنؤمن » في معنى الإنكار ، واللام في « السفهاء » مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك : إن زيداً قد سعى بك . فتقول : أوقد فعل السفيه؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم ، وأصله الخفة والحركة يقال : تسفهت الريح الشجر إذا مالت به ، قال ذو الرمة :
جرين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان ، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق ، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال وخباب ، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم كما قال قوم نوح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [ هود : 27 ] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتَّ في أعضائهم . عن أنس أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض مخترف ، فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي . فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى الله عليه وسلم : « أخبرني بهن جبريل آنفاً . أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت . وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد ، وإذا سبق ماء المرأة نزعت » . قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله ، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني . فجاءت اليهود فقال : أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا . قال : أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام . قالوا : أعاذه الله من ذلك . فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . فقالوا : شرنا وابن شرنا فانتقصوه . قال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله . ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقروناً بالمؤكدات التي بيناها في قوله « ألا إنهم هم المفسدون » وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه ، وكذا من باع آخرته بدنياه .
قال صلى الله عليه وسلم : « الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » وأيضاً من السفه معاداة المحمديين { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [ الصف : 8 ] .
كالطود يحقر نطحة الأوعال ... إنما فصلت هذه الآية « بلا يعلمون » والتي قبلها « بلا يشعرون » لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري ، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات ، وخصوصاً عند العرب في جاهليتهم . وما كان قائماً بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد ، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له .
البحث الخامس : في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } الآيات .
هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم ، والفرق بين هذه الآية وبين قوله « ومن الناس من يقول آمنا » أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم ، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم . عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه ، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبي : انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم . فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحباً بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ، الباذل نفسه وماله ، ثم أخذ بيد عمر فقال : مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال : مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله . ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه : كيف رأيتموني فعلت ، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت ، فأثنوا عليه خيراً . فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت . ويقال : لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه . وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه ، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى ، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك ، ومنه القرون الخالية ، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك « خلا فلان بعرض فلان » عبث به ، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول : أحمد إليك فلاناً أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي . وعن ابن عباس : إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود . وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم . وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون . إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم ، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين .
وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض ، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية ، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون ، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي ، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين « ربنا إننا آمنا » وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد ، وإنما فقد العاطف بين قوله « إنا معكم » وبين قوله « إنما نحن مستهزءون » الأوّل معناه الثبات على الكفر ، والثاني ردّ للإسلام . لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع ، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء . أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر ، أو لأنه استئناف كأنه قيل : ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا : إنما نحن مستهزءون . والاستهزاء السخرية والاستخفاف ، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع . ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء : أحدها قول الله « يستهزئ بهم » وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة ، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل : الله يستهزئ بهم . وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر ، أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة إلى ذلك كالعدم . وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزئ بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين ، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله . فإن قيل : الاستهزاء جهالة { قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] فما معنى استهزاء الله بهم؟ قلنا : معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزئ ، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها ، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس : إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار ، فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين ، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة - وأهل الجنة ينظرون إليهم - فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون } [ المطففين : 34 ] فهذا هو الاستهزاء ، وإنما لم يقل الله مستهزئ ليكون طبقاً لقوله « إنما نحن مستهزءُون » لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتاً بعد وقت ، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم
{ أو لايرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } [ التوبة : 26 ] { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } [ التوبة : 64 ] وثانيها قوله و « ويمدهم في طغيانهم » هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه ، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما . وإنما قلنا : إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر { وإخوانهم يمدونهم في الغي } [ الأعراف : 202 ] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف ، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله . والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير { ختم الله على قلوبهم } وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين ، فسمي ذلك التزايد مدداً . أو بأنه لم يقسرهم ، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره ، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف ، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب . ومن هذا القبيل ما قيل : إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم ، وأن الله بريء منه ، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضرورياً فكيف يتبرأ من ذلك؟ « ويعمهون » في موضع الحال . والعمه كالعمى ، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي ، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه . وثالثها : قوله { أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى } أي اختاروها عليه واستبدلوها به ، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم :
أخذت بالجمة رأساً أزعرا ... وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدراً ... كما اشترى الملم إذ تنصرا
وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل : تفقهون لغير الدين ، وتعلمون لغير العمل ، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة . جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم ، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء . وفي المثل « ضل دريص نفقة » أي جحره ، والدرص ولد الفأرة ونحوها ، يضرب لمن يعيا بأمره . فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين . والربح الفضل على رأس المال ، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسناداً مجازياً لملابسة التجارة بالمشترين . وقد يقال : ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازاً إذا دلت الحال .
ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله :
ولما رأيت النسر عز ابن دأية ... وعشش في وكريه جاش له صدري
لما شبه الشيب بالنسر ، والشعر الفاحم بالغراب ، أتبعه ذكر التعشيش والوكر . « وما كانوا مهتدين » لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان : سلامة رأس المال والربح . وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً ، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة ، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض ، فلا ربح ولا رأس المال . وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين ، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين ، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، وإذا أقبل الليل من ههنا أدبر النهار من ههنا نعوذ بالله من الغواية ، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية .
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
القراآت : « آذانهم » وبابه بالإمالة : نصير وأبو عمر . « بالكافرين » وما أشبهها مما كان في محل الخفض بالإمالة : أبو عمر وقتيبة ونصير وأبو عمرو ويعقوب غير روح . « شاء الله » حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان .
الوقوف : « ناراً » ( لا ) لأن جواب « لما » منتظر لما فيها من معنى الشرط مع دخول فاء التعقيب فيها . « لا يبصرون » ( 5 ) « لا يرجعون » ( 5 ) للعطف بأو وهو للتخيير ، ومعنى التخيير لا يبقى مع الفصل . ومن جعل « أو » بمعنى الواو جاز وقفه لعطفه الجملتين مع أنها رأس آية . وقد اعترضت بينهما آية على تقدير ومثلهم كصيب . « وبرق » ( ج ) لأن قوله « يجعلون » يحتمل أن يكون خبر المحذوف ، أي هم يجعلون ، أو حالاً عامله معنى التشبيه في الكاف ، وذو الحال محذوف أي كأصحاب صيب . « الموت » ( ط ) « بالكافرين » ( 5 ) « أبصارهم » ( ط ) لأن كلما استئناف . « فيه » ( لا ) لأن تمام المقصود بيان الحال المضاد للحال الأول « قاموا » ( ط ) و « أبصارهم » ( ط ) « قدير » ( 5 ) .
التفسير : لما جاء بحقيقة صفة المنافقين عقبها بضرب المثل تتميماً للبيان . ولضرب الأمثال شأن ليس بالخفي في رفع الأستار عن الحقائق حتى يبرز المتخيل في معرض اليقين ، والغائب كأنه شاهد ، وفيه تبكيت للخصم الألد . ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتبه أمثاله { وتلك الأمثال نضربها للناس } [ الحشر : 21 ] وفشت في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم « مثل الدنيا مثل ظلك إن طلبته تباعد وإن تركته تتابع » « مثل الجليس الصالح كمثل الداري » وأمثال العرب أكثر من أن تحصى ، حتى صنف فيها ككتب مشهورة . والمثل في أصل كلامهم بمعنى المثيل وهو النظير ، ثم قيل للقول السائر المشبه مضربه بمورده مثل . ولا يخلو من غرابة ، ومن ثم حوفظ عليه من التغيير . وأما ههنا فاستعير المثل للحال أو الصفة أو القصة التي فيها غرابة ولها شأن ، شبهت حالهم العجيبة الشأن من حيث إنهم أوتوا ضرباً من الهدى بحسب الفطرة ، ولما نطقت به ألسنتهم من كلمة الإسلام فحقنوا دماءهم وأموالهم عاجلاً ، ثم لم يتوصلوا بذلك إلى نعيم الأبد باستبطانهم الكفر فيؤل حالهم إلى أنواع الحسرات وأصناف العقوبات بحال الذي استوقد ناراً في توجه الطمع إلى تسني المطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة مع تعقب الحرمان والخيبة لانقلاب الأسباب . والمراد بالذي استوقد إما جمع كقوله { وخضتم كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وحذف النون لاستطالته بصلته ، أو قصد جنس المستوقدين ، أو أريد الجمع أو الفوج الذي استوقد ناراً ، ولولا عود الضمير إلى الذي مجموعاً في قوله « بنورهم وتركهم » لم يحتج إلى التكلفات المذكورة ، على أنه يمكن أن يشبه قصة جماعة بقصة شخص واحد نحو ،
{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار } [ الجمعة : 5 ] ووقود النار سطوعها وارتفاع لهبها ، وأوقدتها أنا واستوقدتها أيضاً . والنار جوهر لطيف مضيء حارّ محرق ، والنور ضوءها وضوء كل نير واشتقاقها من نار ينور إذا نفر ، لأن فيها حركة واضطراباً والإضاءة فرط الإنارة { جعل الشمس ضياء والقمر نوراً } [ يونس : 5 ] وهي في الآية متعدية ، ويحتمل أن تكون غير متعدية ، مسندة إلى ما حوله ، والتأنيث للحمل على المعنى ، لأن ما حول المستوقد أماكن وأشياء ، أو يستتر في الفعل اللازم ضمير النار ويجعل إشراق ضوء النار حوله بمنزلة إشراق النار نفسها على أن « ما » مزيدة أو موصولة في معنى الأمكنة ، و « حوله » نصب على الظرف ، وتأليفه للدوران والإطافة ، والعام حول لأنه يدور . وجواب « لما ذهب الله بنورهم » فالضمير يعود إلى الذي استوقد نظراً إلى المعنى ، كما أن الضمير في « حوله » راجع إليه من حيث اللفظ . وقيل : الأولى أن يقال : جوابه محذوف مثل { فلما ذهبوا به } لما فيه من الوجازة مع الإعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من الذكر في أداء المعنى ، كأنه قيل : فلما أضاءت ما حوله كان ما كان من حصولهم خابطين في ظلام متحيرين خائبين فيها بعد الكدح في إحياء النار . ثم إن سائلاً كأنه يسأل : ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد؟ فقيل له : ذهب الله بنورهم أي بنور المنافقين ، وعلى هذا يحتمل أن يكون الذي مفرداً ، ويمكن أن يكون بدلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان أي مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، وكمثل الذي ذهب الله بنورهم . ومعنى إسناد الفعل إلى الله أنه إذا أطفئت النار بسبب سماوي كريح أو مطر فقد أطفأها الله وذهب بنور المستوقد ، أو يكون المستوقد مستوقد نار لا يرضاها الله . ثم إما أن تكون ناراً مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام ، وتلك النار ، متقاصرة مدة اشتعالها وإضاءتها ، فمنافعها الدنيوية قليلة البقاء ، وللباطل صولة ، ثم تضمحل ، ولريح الضلالة عصفة ثم تخفت . ونار العرفج مثل لثروة كل طماح { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } [ المائدة : 64 ] وإما ناراً حقيقية أوقدها الغواة ليتوصلوا بالاستضاءة بها إلى بعض المعاصي ويهتدوا بها في طرق العيش فأطفأها الله وخيب أمانيهم . وإنما لم يقل ذهب الله بضوئهم على سياق « فلما أضاءت » لأن ذكر النور أبلغ في الغرض وهو إزالة النور عنهم رأساً وطمسه أصلاً ، فإن الضوء شدة النور وزيادته ، وذهاب الأصل يوجب زوال الزيادة عليه دون العكس .
والفرق بين « أذهبه » و « ذهب به » أن معنى « أذهبه » أزاله وجعله ذاهباً ، ويقال : ذهب به إذا استصحبه ومضى به معه . وذهب السلطان بماله أخذه وأمسكه . وما يمسك الله فلا مرسل له ، فهو أبلغ من الإذهاب ، وترك بمعنى طرح وخلى إذا علق بواحد ، وإذا علق بشيئين كان مضمناً معنى صير فيجري مجرى أفعال القلوب كقول عنترة :
« فتركته جزر السباع ينشنه » ... ومنه قوله تعالى { وتركهم في ظلمات } والظلمة عدم النور عما من شأنه أن يستنير ، وقيل : عرض ينافي النور واشتقاقها من قولهم « ما ظلمك أن تفعل كذا » أي ما منعك وشغلك لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية . وفي جمع الظلمة وتنكيرها وإتباعها ما يدل على أنها ظلمة لا يتراءى فيها شبحان ، وفي قوله « لا يبصرون » دلالة على أن الظلمة بلغت مبلغاً يبهت معها الواصفون . وكذا في إسقاط مفعول « لا يبصرون » وجعله من قبيل المتروك المطرح الذي لا يلتفت إلى إخطاره بالبال ، لا من قبيل المقدر المنوي كأن الفعل غير متعدٍ أصلاً . ومحل « لا يبصرون » إما جر صفة لظلمات أي لا يبصرون فيها شيئاً ، وإما نصب مفعولاً ثانياً ، أو حالاً من هم مثل { ويذرهم في طغيانهم يعمهون } [ الأعراف : 186 ] أي حال كونهم ليسوا من أهل الأبصار . عن سعيد بن جبير : نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب ، فلما خرج كفروا به . وكان انتظارهم له كإيقاد النار ، وكفرهم به بعد ظهوره كزوال ذلك النور ثم إنه كان من المعلوم من حالهم أنهم يسمعون وينطقون ويبصرون ، لكنهم شبهوا بمن إيفت مشاعرهم فقيل لهم : صم بكم عمي ، حيث سدوا عن الإصاغة إلى الحق مسامعهم ، وأبوا أن تنطق به ألسنتهم ، وأن ينظروا ويستبصروا بعيونهم . وإنما قلنا : إن ما في الآية تشبيه لا استعارة مع أن المشبه مطوي ذكره كما هو حق الاستعارة ، لأن ذلك في حكم المنطوق به وإلا بقي الخبر بلا مبتدأ . ومعنى « لا يرجعون » لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه ، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها تسجيلاً عليهم بالطبع ، أو أراد أنهم بمنزلة المتحيرين الذين لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون وإلى حيث ابتدؤا منه كيف يرجعون .
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
ومثله حال مريد طريقة الذي له بداية ولازم خلوته وصحبته حتى شرقت له من صفات القلب شوارق الشوق ، وبرقت له من أنوار الروح بوارق الذوق ، فطرقته الهواجس وأزعجته الوساوس فيرجع القهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة ، فغابت شمسه وأظلمت نفسه وفضل عن يومه أمسه . ثم إن الله تعالى ضرب للمنافقين مثلاً آخر ليكون كشفاً لحالهم بعد كشف ، وإيضاحاً غب إيضاح ، لأن المقام مقام تفصيل وإشباع .
فيكون تقدير الكلام « مثل المنافقين كمثل المستوقدين أو كمثل ذوي صيب » على معنى أن قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين فإنهما سواء في صحة التشبيه بهما ، فأنت مخير في التشبيه بأيتهما شئت أو بهما جميعاً نحو : جالس الحسن أو ابن سيرين . والتمثيلان جميعاً من جملة التمثيلات المركبة دون المفردة ، لا يتكلف لواحد واحد شيء يقدر شبهه به ، بل تراعى الكيفية المنتزعة من مجموع الكلام وهي أنهم في مقام الطمع في حصول المطالب . ونجح المآرب لا يحظون إلا بضد المطموع فيه من مجرد مقاساة الأهوال وشدائد الأحوال ، ولا يخفى أن التمثيل الثاني أبلغ لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ، ولذلك أخرج تدرجاً من الأهون إلى الأغلظ ، وإنما قدرنا المضاف المحذوف حيث قلنا : أو كمثل ذوي صيب مع أنه لا يلزم في التشبيه المركب أن يلي حرف التشبيه مفرد يتأتى التشبيه به . ألا ترى إلى قوله تعالى { إنما مثل الحياة الدنيا كماء } [ يونس : 24 ] كيف ولي الماء الكاف إذ التشبيه مركب ، لأن الضمير في « يجعلون » لا بد له من راجع هذا هو التحقيق . وقد يقال : شبه دين الإسلام بالصيب ، لأن القلوب تحيا به حياة الأرض بالمطر ، وما يحوم حوله من شبه الكفار بالظلمات وما فيه من الوعد والوعيد بالرعد والبرق ، وما يصيب الكفرة من الإفزاع والبلايا والفتن من جهة أهل الإسلام بالصواعق . وعلى هذا يكون تقدير المضاف ضرورياً ليصبح تشبيه المنافقين بهم ، ويكون المعنى « مثلهم كمثل قوم أخذتهم السماء على هذه الصفة ، فلقوا منها ما لقوا » ويكون ذكر المشبهات مطوياً على سنن الاستعارة . والصيب المطر الذي يصوب أي ينزل ويقع . ويقال للسحاب : صيب أيضاً . وتنكير صيب للدلالة على أنه نوع من المطر شديد هائل كما نكرت النار في التمثيل الأول . والسماء هذه المظلة ، والفائدة في ذكره ، والصيب لا يكون إلا من السماء ، أنه جاء بالسماء معرفة فنفى أن يتصوب من سماء أي من أفق واحد من بين سائر الآفاق ، ولكنه غمام مطبق آخذ بآفاق السماء . وكما جاء بصيب وفيه مبالغات من جهة التركيب من ص وب والبناء على « فيعل » والتنكير أمد ذلك بأن جعله مطبقاً ، واعلم أنه إذا وقعت القوى الفلكية على العناصر بإذن الله تعالى فحركتها وخالطتها ، حصل من اختلاطها موجودات شتى . فإذا هيج الفلك بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ، أو دخن من الأجسام الأرضية وأثار شيئاً بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية . أما الدخان فإنه قد يتعدى صعوده حيز الهواء إلى أن يوافي تخوم النار فيشتعل ، وربما سرى فيه الاشتعال فتراءى كأن كوكباً يقذف به ، وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرأيت العلامات الهائلة الحمرة والسواد .
وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جداً فيتراكم وتكثر مدته في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع ، فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً . ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً ، فينزل كما يوافيه برد الليل قبل أن يتراكم سحاباً وهذا هو الطل ، وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب ، فنزل وكان ثلجاً ، وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل ، فنزل وكان صقيعاً وهو ما يسقط بالليل من السماء شبيهاً بالثلج ، وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات ماء فكان برداً . وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب ، وفي الربيع وهو داخل السحاب ، وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة ، وربما تكاثف الهواء نفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً فاستحال مطراً . وأما الجواهر البخارية والدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة ، فمنها ما يتخلص من الأرض فتكون منها الرياح وإذا تصعدت فتميز البخار من الدخان انعقد البخار سحاباً فبرد فتغلغل فيه الدخان طلباً للنفوذ إلى العلو فحصل من تغلغله فيه ضرب من الرعد وهو صوت ريح عاصفة في سحاب كثيف ، وربما امتد ذلك التغلغل لكثرة وصول المواد ، ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد ، أو يكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فيندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة ناراً تبرق فتشق السحاب شعلة كجمر يطفأ فيسمع من ذلك ضرب من الرعد . وإن كان قوياً شديداً غليظ المادة كان صاعقة ، وربما وجد مندفعاً فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد واشتعال . فهذا القدر من الحقائق في هذا المقام لا ضير في معرفتها بعد أن يعتقد انتهاء أسبابها إلى مدبر الكل سبحانه وتعالى . ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : ارتفع « ظلمات » بالظرف على الاتفاق من سيبويه والأخفش لاعتماده على موصوف . والصيب إن كان سحاباً فظلماته سمجته وتطبيقه مضمومة إليهما ظلمة الليل ، وإن كان مطراً فظلماته تكاثفه وانتساجه بتتابع القطر وظلمة إظلال الغمام مع ظلمة الليل . ثم إن كان الصيب سحاباً فكونه مكاناً للرعد والبرق ظاهر ، وإن كان مطراً فكونهما متلبسين به في الجملة سوغ ذلك ، وإنما لم يجمع الرعد والبرق كما قال البحتري :
يا عارضاً متلفعاً ببروده ... يختال بين بروقه ورعوده
وكما قيل ظلمات لأنهما في الأصل مصدران فروعي حكم الأصل ، ويمكن أن يراد بهما الحدث كأنه قيل : وإرعاد وإبراق . ونكرت هذه الأشياء لأن المراد أنواع منها كأنه قيل في ظلمات داجية ورعد قاصف وبرق خاطف . وجاز رجوع الضمير في « يجعلون » إلى أصحاب الصيب لأنه في حكم المذكور . قال حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ذكر يصفق لأن المعنى ماء بردى وهي واد بدمشق . والبريص نهر من أنهارها . ويصفق أي يمزج والرحيق الخمر . ولا محل لقوله « يجعلون » لكونه مستأنفاً كأنه قيل : فكيف حالهم مع مثل ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم . ثم سئل : فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فاجيب « يكاد البرق يخطف أبصارهم » وإنما لم يقل أناملهم مع أنها هي التي تجعل في الآذان لأن في ذكر الأصابع من المبالغة ما ليس في ذكر الأنامل ، ولأن اسم الكل قد يطلق على البعض نحو { فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] والمراد إلى الرسغ . وليس بعض الأصابع - كالمسبحة مثلاً بجعلها في الأذن - أولى من بعض حتى يقال لم ذكر العام والمراد الخاص؟ وقوله « من الصواعق » أي من أجل الصواعق نحو : سقاه من العيمة . وقد تحصل مما ذكرنا أن الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقة من نار تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه ، وهي نار لطيفة حديدة لا تمر بشيء إلا أتت عليه ، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود . يحكى أنها سقطت على نخلة فأحرقت نحو النصف ، ثم طفئت . ويقال : صعقته الصاعقة إذا أهلكته . فصعق أي مات إما بشدة الصوت أو بالإحراق ، وبناؤها إما أن يكون صفة لقصفة الرعد ، أو للرعد والتاء للمبالغة كما في الرواية ، أو مصدراً كالعافية والكاذبة . « وحذر الموت » مفعول له كقوله :
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً
والموت فساد بنية الحيوان . وقيل : عرض معاقب للحياة لا يصح معه إحساس . وإحاطة الله بالكافرين مجاز أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به حقيقة ، والجملة معترضة لا محل لها . « يكاد » من أفعال المقاربة . كاد يفعل كذا يكاد كوداً ومكاداً ومكادة وضعت لمقاربة الشيء ، فعل أو لم يفعل . فمجرده ينبئ عن نفي الفعل ، ومقرونه بالجحد ينبئ عن وقوع الفعل . وخبر كاد فعل مضارع بغير « أن » وهو ههنا « يخطف » والبرق اسمه والخطف الأخذ بسرعة ، « كلما أضاء لهم » استئناف ثالث كأنه قيل : كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق وفتوره؟ وأضاء إما متعد بمعنى كلما نور لهم ممشى ومسلكاً أخذوه والمفعول محذوف ، وإما غير متعد بمعنى كلما لمع لهم مشوا في مطرح نوره . والمشي جنس الحركة المخصوصة وفوقها السعي وفوقه العدو . « وأظلم » إما لازم وهو الظاهر ، وإما متعد منقول من ظلم الليل أي أظلم البرق الطريق عليهم بأن فتر عن لمعانه ، ومعنى « قاموا » وقفوا وثبتوا في مكانهم من قام الماء جمد . وإنما قيل مع الإضاءة « كلما » ومع الإظلام « إذا » لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه ، وكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها فخطوا خطوات يسيرة ، وليس كذلك التوقف والتحبس ، ولو شاء الله لزاد في قصف الرعد فأصمهم ، وفي الضوء البرق فأعماهم .